أفكار خاطئة للدكتور النجار حول عصمة الأنبياء
التعقيب الثالث
كتابات - نبيـل الكرخي
عند مناقشة موضوع مهم ودقيق مثل موضوع عصمة الأنبياء لن تجدي محاولات الخروج عن الموضوع الأصلي والتهرب من الحقائق بتفريع مواضيع ليست ذات قيمة حقيقية مثل عدد صفحات المقال ، فالتهرب من الإعتراف بالحقائق بذريعة وجود مقولة (خير الكلام ما قل ودل) هي وسيلة رخيصة للتهرب من الإجابة عن بعض الحقائق التي ذكرناها في مقالاتنا السابقة ، مع أن العبارة المذكورة رغم قيمتها المعنوية المهمة إلا أنها لا تحدد الكاتب بعدد معين من الصفحات إذ إنَّ لكل باحث الحرية في تناول الموضوع الذي يريده بالصورة التي يجدها كافية لإيصال فكرته للقاريء الكريم ، فما قل ودل من الكلام قد يكون صفحة وقد يكون عشرة صفحات وقد يكون كتاباً كاملاً كما هو معلوم. وإلا لما ألّف أحدٌ كتاباً قط ، فلماذا إذن ألّف الدكتور كامل النجار أكثر من كتاب ضد الإسلام ولم يكتف بمقالات متواضعة في عدد صفحاتها تحت ذريعة "خير الكلام ما قلّ ودل" !
يحاول الدكتور النجار أن يتقمص في مقاله الأخير دور "مسلم سني" فيرد على مذهب الشيعة بأدلة أهل السنة مع أنه لا يؤمن أصلا بصحة مذهب أهل السنة ، وهذا الأسلوب أشرنا إليه في أحد مقالاتنا السابقة حيث يحاولون ضرب كل مذهب بالمذهب الآخر ، ولو كان من يناقشه في هذه الصفحات سنياً لأتى الدكتور النجار بأدلة الشيعة ليثبت خطأه وهكذا ، فهذا الأسلوب لا يخدم القاريء الكريم لأنه لا يخدم الحقيقة.
فأما قول الدكتور النجار : [(وليس هناك ولا حديث واحد يمكن أن نجزم بأنه حديث نبوي أكيد)] ، فطبعاً لا يمكن للدكتور النجار أن يفعل ذلك لأن الأسس التي اعتمدها هي اسس خاطئة فمن الطبيعي ان تكون النتيجة خاطئة.
وقال الدكتور النجار : [(ولو أردنا أن نتبع طريقة البحث العلمي فلن نأخذ بأي حديث مروي عن النبي لأن كل هذه الأحاديث جُمعت بعد موت النبي بأكثر من مائة وخمسين عاماً)] ، فالدكتور كامل النجار هنا يعترف بانه لا يتبع البحث العلمي ، فما هي قيمة مقال تأريخي بدون بحث معتبر ، وما هي قيمة مقال ديني بدون بحث معتبر ، فإذا كانت نتيجة البحث العلمي توصلنا إلى أنه لا يمكن الإعتماد على أي حديث نبوي فعليه أن يلتزم بهذه النتيجة ، لأن الأصل هو فيما توصل إليه الإنسان من حقيقة لا أن يقوم بالتشويش على الأمور فيعتمد على أحاديث يعرف هو مقدماً عدم صحتها ، ويبني عليها أفكاره ويحاول إقناع القاري العزيز بها وبالأفكار المستنبطة منها مع أنه يعرف سلفاً أنها أحاديث غير صحيحة وما يبنى على الباطل باطل !
واما قوله بعدم صحة كل الأحاديث لأنها مروية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) بأكثر من مائة وخمسين عاماً ، فهو أستدلال غير صحيح لأن هناك منظومة قواعد وأسس وضعها العلماء لتمييز الصحيح عن غيره ، ونحن قد نعترض على بعض تلك القواعد ونستبدلها بقواعد أخرى ، ولكن عموم المنظومة معتبر.
وقال الدكتور النجار : [(وليس من شك هنا أن السيد الكرخي يحاول هنا شق الشعرة، فالخلاف بين السنة والشيعة خلاف لا يؤثر في الإدعاء الأصل، فكلاهما يدعي بأن النبي معصوم، سواء في الأفعال والقول أو في التبليغ. فالنقاش هنا في مسألة العصمة وهل تجوز عقلياً، وليس في نوعيتها أو مداها)] ، فمن غير الصحيح قوله أن الخلاف بين السنة والشيعة لا يؤثر في الإدعاء الأصل ، لأن كل الأدلة التي جاء بها الدكتور النجار من كتب أهل السنة قد تدل في ظاهرها على عدم وجود العصمة ولكن في غير التبليغ وبالتالي فالدكتور النجار لا يستطيع الإعتراض على أهل السنة بكتاباته هذه بأحاديث من مثل تأبير النخل أو عبس وتولى لأنها أحاديث لا تتعلق بالتبليغ ، فالمشكلة أعمق مما قد يتصورها الدكتور النجار بتناوله السطحي هذا. فقوله بأن النقاش [(هنا في مسألة العصمة وهل تجوز عقلياً، وليس في نوعيتها أو مداها)] هو مخالف للأدلة التي جاء بها ، فأولاً هو لم يتحدث عن أدلة عقلية وثانياً نجده قد عمد إلى أحاديث قد تدل في ظاهرها على عدم العصمة في غير التبليغ من أجل أن ينقض العصمة في التبليغ وهذا أسلوب لا حجية فيه.
ويصر الدكتور النجار أن يحوم حول نفس الموضوع الذي تطرقنا إليه في تعقيباتنا السابقة فيقول : [(فأنا قد حاولت نفي العصمة عن جميع الأنبياء لأنهم جميعهم بشر، ولا يقبل العقل أن يكون البشر معصوماً. وكنتيجة جانبية تسقط العصمة عن الأئمة إذا سقطت عن الأنبياء)] ، مع إننا قد بينا عدم جواز أن يستشهد بأحاديث من أهل السنة لينقض فكرة العصمة عند الشيعة وفكرة عصمة الأئمة أيضاً وهي من خصوصيات مذهب الشيعة لأن البحث بهذا الأسلوب هو بحث غير متزن.
ويتعمد الدكتور النجار خلط الأوراق فيقول : [(مرة أخرى يدعي السيد الكرخي، كما يدعي أهل السنة، امتلاك الحقيقة دون غيرهم، فما أخذوه من أهل البيت يكفي لإنقاذهم من الضلال. والنتيجة المنطقية لهذا الطرح هي أن أهل السنة وغيرهم من المذاهب في ضلال مبين. وبعد كل هذا يدعي كل فريق أن الإسلام دين يحض على التسامح وعلى التعددية المذهبية والدينية)] ، فمن المعلوم أنه لا علاقة بين معرفة الحقائق وبين التسامح ، فهل يجب على من يعرف حقائق الأمور أن يكون مستبداً وغير متسامحاً ؟! فأي منطق هذا !؟
ثم إنَّ كل شخص يمتلك فكراً معيناً يعتقد أنَّ فكره هذا هو الحقيقة دون فكر الآخرين ، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الدكتور النجار ، فإذا كان الدكتور النجار يعتقد أن فكره لا يمت إلى الحقيقة بصلة فلماذا يروِّج له بين الناس !! إنه يروِّج له لأنه يظن أن فكره هو الحقيقة دون أفكار الآخرين ، أليس كذلك ؟
وقال الدكتور النجار : [(ثم قال السيد الكرخي: " ولكن يبدو أن ليس كل إنسان يتعلم من أخطاءه ، فهل ياترى قد تعلم الدكتور النجار من أخطاءه ، فهل أمتنع عن الإستشهاد بالأحاديث والروايات الضعيفة ؟ " فكما قلنا سابقاً فليس هناك أي حديث ليس به شخصٌ لم يُضعّفه أحدٌ من مذهب مخالف، وبالتالي تكون كل الأحاديث ضعيفة، ويكاد أن يكون معظمها موضوعاً)] ، فهذا النص يدل على حدوث فجوة بين الدكتور النجار وبين معرفة علم الحديث ، وإنَّ مجرد نقله نصوصاً لا يدرك فحواها من بعض الكتب لا يغني المعرفة التفصيلية بهذا العلم الواسع. فدعوى عدم وجود أي حديث ليس به شخص لم يضعّفه أحد هي دعوى غير صحيحة.
فمجرد نقل الدكتور النجار عن كتاب الموضوعات لأبن الجوزي لا يعني انه قد توصل لحقيقة الأحاديث الضعيفة لأن معظم الأحاديث التي تناولها أبن الجوزي هي احاديث لم ترد في الكتب المعتبرة للمسلمين بنفس الأسانيد ، والحديث الذي ذكره الدكتور النجار بلفظ : (هو بابي الذي أوتى منه، وهو خليفتي من بعدي) على أنه مروي بطريقين في أحدهما عباد بن يعقوب وفي الآخر أبو الصلت الهروي ، فقد روي في كتب المسلمين السنة والشيعة بغير هذين الطريقين ـ أي بطريقين ليس فيهما عباد بن يعقوب ولا أبو الصلت الهروي ـ كما في الكامل لأبن عدي ج4 ص229 وتاريخ دمشق لأبن عساكر ج24 ص42 ، ومعاني الأخبار للشيخ الصدوق ص401 وغيرها ، ولسنا بصدد تحقيق صحة ما ورد في تلك الكتب بخصوص هذا الحديث وإنما ما نريد قوله هو أن معظم ما نقله أبن الجوزي هو أحاديث ضعيفة من وجهة نظره ولا يعني أن المسلمين يتفقون معه في ضعف ما ذكره.
وأما قول الدكتور النجار : [(وإذا أخذنا الذين ضعّفهم السيد الكرخي، مثلاً محمد بن إسحق، الذي قال عنه: " فإن سند هذه الرواية ضعيف لمكان محمد بن إسحاق حيث ضعفوه كما في ضعفاء العقيلي حيث قال عنه هشام بن عروة : كذاب ، وقال عبد الرحمن بن مهدي : كان يحيى بن سعيد القطان ومالك يجرحان محمد بن إسحاق ." لوجدنا أن ابن حجر العسقلاني يقول عنه في كتابه " تهذيب التهذيب " ما يلي: " قال عبيد بن يعيش ثنا يونس بن بكير، سمعت شعبة يقول ابن إسحق أمير المؤمنين لحفظه، وقال لي ابن علي بن عبد الله نظرت في كتب اين إسحق فما وجدت عليه إلا في حديثين ويمكن أن يكونا صحيحين......... وقال البخاري حدثني مصعب قال كانوا يطعنون على ابن إسحق بشئ غير الحديث. وقال أبو زرعة الدمشقي ابن إسحق رجل قد أجمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه. " أما اتهام هشام بن عروة لابن إسحق كان عن رواية ابن إسحق أحاديثاً عن زوجة هشام بن عروة، فأنكر هشام أن يكون ابن إسحق قد رأى زوجته ليروي عنها. لكن أهل المدينة، كما يقول ابن حجر العسقلاني، كانوا يرون ذلك ممكناً إما عن طريق أنه كتب إليها يسألها أو أنه تحدث إليها من وراء حجاب. وعليه يكون الحديث الذي أوردناه عن النبي وتلقيح النخيل حديثاً موّثقاً بالنسبة لأهل السنة، وبالتالي يكون النبي قد أخطأ، فإذاً هو ليس معصوماً)] ، وقد توهم الدكتور النجار فإن الحديث الذي ذكره في مقاله والذي في سنده محمد بن إسحاق هو حديث بخصوص إرسال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي عليه السلام لقتل أحد الموالي ، وليس بخصوص تلقيح النخل ، على أي حال فهناك قاعدة في علم الجرح والتعديل تقول إنَّ الجرح مقدم على التعديل لأن الجارح قد أطلع على ما لم يطلع عليه المعدِّل ، فنحن قلنا بضعف محمد بن إسحاق ونحن نعلم أن هناك من مدحه ولكن هذه القاعدة هي التي تجعلنا نقول بضعفه وهي قاعدة معتبرة عند علماء الجرح والتعديل.
وأما أبن حجر العسقلاني فقد قال عن محمد بن إسحاق في كتابه (طبقات المدلسين) ص51 : (صدوق مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم وصفه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما) ! وقال أبن حجر العسقلاني نقلاً عن مالك بن أنس عنه أنه (دجال من الدجاجلة) ، وقال معمر ـ كما في الإيضاح للفضل بن شاذان ص216 ـ (قال لي أبي : لا تأخذن عن محمد بن إسحاق شيئاً فإنه كذّاب ، وقد كان يروي عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير وهي امرأة هشام بن عروة ، فبلغ ذلك هشاماً فأنكره وقال : أهو الذي كان يدخل على امرأتي أم أنا ؟) ، فالمسالة لا تختص بإمكانية رواية أبن إسحاق عن فاطمة بنت المنذر حتى يتم تعليل ذلك بأنه تم من خلال الكتابة أو من وراء حجاب ، بل يتعلق الأمر بمعرفة دقيقة لهشام بن عروة في أن أبن إسحاق قد كذب في إدعائه الرواية عن زوجته بنت المنذر ، ومن الطبيعي أن يسأل الرجل زوجته عن حقيقة الأمر وعن كيفية حدوث الرواية إن كان هناك رواية فعلاً قبل أن يصرح بكذب تلك الرواية ، فالذي تم هو نفي رواية بنت المنذر من طريق أبن إسحاق ، فالزوجة فيما يبدو قد نفت تحديثها له بجميع الطرق فلا رسائل ولا من وراء حجاب ، والملفت للنظر أن هناك آخرين قد رووا عن فاطمة بنت المنذر نفسها دون أن يحدث مثل هذا اللبس حول روايتهم ، فقد ذكر المارديني في كتابه (الجوهر النقي) ص169 أن أحمد بن حنبل قد روى في مسنده وكذلك الطحاوي في شرح الآثار عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن فاطمة بنت المنذر ، وروى الحاكم في المستدرك عن أيمن المكي يقول حدثتني فاطمة بنت المنذر ، فالمسألة تتعلق بعدم تحديث فاطمة بنت المنذر لأبن إسحاق بحيث دارت الشبهة حول هذا التحديث دون بقية من رووا عنها.
وقال الدكتور النجار : [(كان السيد الكرخي قد اعترض على حديث أوردناه عن عائشة وقال إنها لم تكن حاضرة وقت الحدث لصغر سنها، وعندما اعترضنا على ذلك بقولنا أن ابن عباس لم يكن حاضراً في أغلب المناسبات التي روى عنها أحاديثاً لصغر سنه عندما مات النبي، رد علينا الكرخي بقوله: " فما هو وجه إعتراض الدكتور النجار في إعمالنا قواعد البحث العلمي ، فنحقق كل رواية قبل قبولها ! وحتى لو سقطت عشرات الأحاديث عن الإعتبار ، فإذا كان الحق هو في عدم إعتبارها فلماذا نهتم لأي شخص يريد خلاف ذلك نتيجة أتباع هوى. " وطبعاً وجه الغرابة هنا أن أكثر من تسعين بالمائة من الأحاديث التي يرويها السنة ترجع إلى ابن عباس. فلو طبقنا شرط السيد الكرخي لانتفت تسعين بالمائة من الأحاديث التي بين أيدينا، غير التي ضعفها البخاري وغيرة، وهي تمثل نسبة 99 بالمائة، ووقتها نكون قد هدمنا السنة بكاملها، وهو أمر محبب إلى نفوس عدد كبير من المسلمين الذين يرون الرجوع إلى القرآن فقط كمصدر للإسلام)] ، فظاهر كلام الدكتور أنه يرى جواز الرواية عن شخص لم يحضر الحدث ، وأن هذا الأمر هو أمر مقبول عنده ! ولذلك يدافع عن روايته عن أم المؤمنين عائشة الرواية التي ناقشناها في الحلقات السابقة حول أبن أم مكتوم وقصة نزول سورة عبس حيث قلنا أن أم المؤمنين عائشة لم تكن حاضرة تلك الحادثة لصغر سنها ، ونحن نرى أن كل من يروي رواية لم يحضرها فكلامه مردود حتى وإنْ كان صحابياً ، ومن جانب آخر فإن الدكتور النجار لا يميز بين موقفين مختلفين موقف أم المؤمنين عائشة في روايتها قصة أبن أم مكتوم وبين عموم روايات أبن عباس ، فنحن لم نرفض رواية أم المؤمنين لمجرد صغر سنها وعدم أدراكها بل رفضناه لأن صغر سنها كان يمنعها من حضور تلك القصة وقد دارت أحداثها في مجالس الرجال من مشركي قريش ، فمن الواضح أنها لم تحضر ذلك المجلس ، بينما صغر سن أبن عباس لا يمنع من حضوره ما رواه لا سيما وهو كان صبياً مميزاً ، أي يفهم ويدرك ما يسمع وما يراه ، فضلاً عن أنه كان قد عبر سن البلوغ حين وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ، ففي الإصابة في تمييز الصحابة لأبن حجر العسقلاني أن عبد الله بن عباس قد ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل بخمس سنين. فهناك فارق في المقارنة بين رواية أم المؤمنين عائشة لقصة لم تحضر أحداثها مع صغر سنها ورواية أبن عباس لروايات قد شهدها ووعاها وميزها وهو في سن التمييز أو البلوغ. فإذا عثرنا على روايات مروية عن أبن عباس وهو في سن صغير لا يمكنه من الحضور أو التمييز فسوف نرفض تلك الروايات بكل تأكيد كما رفضنا الرواية المذكورة المنسوبة لأم المؤمنين عائشة.
وأما ما ذكره الدكتور النجار حول وجود عدد كبير من المسلمين ممن يرغبون بإتباع القرآن فقط ورفض السنة فهو كلام غير سليم ، لأنه على فرض وجود عدد ممن يحملون هذا الفكر فإنهم سيصطدمون بحقيقة أن القرآن الكريم نفسه يوجب التمسك بالسنة النبوية ، فمن يريد أن يعمل بالقرآن الكريم فهو ملزم بالعمل بالسنة وفقاً لنصوص القرآن الكريم نفسه ، فلا معنى للتمسك بالقرآن الكريم ورفض السنة نبوية.
وأما ما ذكرناه حول قتادة وأنه مجروح في علم الرجال فلا تصح الرواية عنه فضلاً عن أنه قد أرسل الرواية ولم يكن من المعاصرين للأحداث ، فأجاب الدكتور النجار بأن أورد بعض أقوال العلماء في مدح قتادة ، ونحن نعلم بكل تأكيد ما قاله المادحون في قتادة وكذلك نعلم ما قاله القادحون فيه ، والقاعدة في علم الرجال والتي ذكرناها آنفاً تقول أنَّ الجرح مقدم على التعديل ، فلذلك قلنا بضعف قتادة ، وعلى فرض التنزل والقول بوثاقة قتادة فهو قد أرسل الرواية لأنه من التابعين ويروي أحداث واقعة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) بلا واسطة أي بدون أن يكون في روايته صحابي ، وهذا يؤكد ما نقلناه عنه من أنه كان مدلساً ، وعلى أي حال فروايته مرسلة فهي ضعيفة ولا يصح الأخذ بها.
وقال الدكتور النجار : [(ثم لما تعرضنا لحادث تلقيح النخيل وروينا حديثاً عن ابن ماجة فيه اسم سماك قال الكرخي: " فأما سماك فهو سماك بن حرب وقد قال أبو طالب عن أحمد أنه مضطرب الحديث ، وكان شعبة يضعفه ، وقال أبن عمار : يقولون أنه كان يغلط ويختلفون في حديثه ، وكان الثوري يضعفه بعض الضعف ، وقد ذكره العقيلي في الضعفاء." فأي اعتراض هذا الذي اعترض به السيد الكرخي عندما يقول: " وقال أبن عمار : يقولون أنه كان يغلط ويختلفون في حديثه " فابن عمار لم يضعّف الرجل إنما روى أنه سمع أنهم يُضعفونه، وهذه طبعاً شهادة سماعية لا يُعترف بها. وقد قمت ببحثٍ طويل في عدة مراجع للحديث فعثرت على 366 حديثاً لسماك بن حرب في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، ومختصر التفسير لابن كثير، والمستدرك على الصحيحين للإمام محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، وسنن ابن ماجة وسنن ابن داود وصحيح مسلم ومعجم الطبراني الكبير، ولم أجد أحداً منهم يُضعّف الرجل)] ، فمن الواضح أن تضعيف سماك لا يقتصر على أبن عمار بل أتفق معه في تضعيفه كل من أحمد بن حنبل وشعبة والثوري والعقيلي ، على أن شهادة أبن عمار يعترف بها علماء الرجال وذكروها في كتبهم وأصبحت جزءاً من إستدلالهم على ضعفه فضلاً عن موافقتها لشهادة أحمد بن حنبل وشعبة والثوري والعقيلي ، فعدم إعتراف الدكتور النجار بها هو أمر خاص به وحده.
ويقول الدكتور النجار أنه لم يجد من يضعف سماك في الكتب التي ذكرها ، ومن الطبيعي أن لا يجد ذلك لأنها ليست كتباً مختصة بالجرح والتعديل ، فلماذا لم يراجع الدكتور النجار الكتب المختصة بذلك لكي يعثر على ما عثرنا عليه من جرحٍ لسماك وحكم بضعفه !؟
والدكتورالنجار يريدنا ان نحتج باخبار النواصب وما رووه من أحاديث ويعتبر عدم الرواية عنهم خروجاً عن متطلبات البحث العلمي !؟؟
وأما بخصوص قصة خولة بنت ثعلبة التي ظاهر عليها زوجها ، فرغم الردود المتعاقبة فإن ما وجدناه هو روايات قد تبدو متعارضة في بعض فقراتها وقد قلنا في تعقيبنا السابق ما نصه : (وعلى العموم فأنه على فرض عدم وجود مرجحات لترجيح إحدى الروايات على الأخرى فتسقط الروايتين عن الإعتبار) ، ولكن الدكتور النجار يفترض فرضية مفادها أن الزوج المذكور قد راجع أمرأته دون أن يدفع الكفارة وهو أمر مخالف للروايات التي ذكرناها والتي ذكرها هو نفسه ، وبمجرد أن يراجع القاريء الكريم الروايات التي ذكرناها في تعقيباتنا المتبادلة مع الدكتور النجار والروايات التي ذكرها هو نفسه فإنَّه سيرى هذا الأمر بوضوح.
واما بخصوص قوله تعالى : (( ما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته )) ، فقد بينّا في تعقيبنا السابق تفسير الآية وحمل معناها على الوجه الصحيح لكن الدكتور النجار لم يرض بهذا الحمل فقال : [(إذ أن كل الحاضرين سمعوه ينطق بهما ولذلك وافقوا على اتباعه)] ، فهو قول ليس عليه دليل إلا روايات ضعيفة غير مقبولة. ومن الغريب أن ما قاله المفسرون في النصين اللذين نقلناهما هو قول واضح كل الوضوح لكن الدكتور النجار يصر على قوله تحكماً ، ثم يطالبنا أن نأتي بحجج علمية !!؟
فلنأتِ الآن إلى تدقيق سند هذه القصة المزعومة فقد رواها الطبراني في معجمه الكبير عن أبن عباس ، وقد ذكرنا أن أبن عباس قد ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات أو خمسة سنوات والقصة مكية مما يعني عدم حضوره لتلك القصة المزعومة فالرواية ضعيفة ، وكذلك فإنَّ جميع من ذكروا هذه القصة المزعومة من رواة أهل السنة في كتب الأحاديث عندهم فإنهم أرجعوا سندها إلى أبن عباس وهو لم يكن قد ولد حينها ، فكيف يريد منّا الدكتور النجار ان نصدق مثل هذه القصة الموهومة ؟!
وفي ختام تعقيبه قال الدكتور النجار : [(وملاحظة أخيرة: قال السيد الكرخي عن قتادة أنه مدلس وكذاب وكان يروي الحديث عن أناس لم يسمع منهم، وتساءل: " فهل يمكن ان نقبل رواية شخص يحمل مثل هذه الصفات ؟! " ثم قال في آخر مقاله: " حتى تأتيهم الساعة بغتة ) أي : فجأة ، وعلى غفلة ( أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ) قيل : إنه عذاب يوم بدر ، عن قتادة ومجاهد. " فإذا لم نقبل حديث قتادة لكذبه وتدليسه، هل يمكن أن نقبل تفسيره للقرآن ؟ فكيف سمح السيد الكرخي لنفسه أن يستشهد برجل كذاب ومدلس ؟)] ، فقد فات الدكتور النجار ان ما نقلناه إنما هو ما ذكره الشيخ الطبرسي في تفسير مجمع البيان وهو إنما يستشهد بأحاديث أهل السنة لينقض فكرةً عندهم ، فذكره لقتادة هو من هذا الباب.
فكما يرى القاريء الكريم إنَّ الدكتور كامل النجار لم يفلح بأن يأتي بدليل واحد صحيح على عدم عصمة الأنبياء أو التشكيك بها رغم المحاولات المتعددة لإيجاد أدلة على ذلك ، ولكنها أدلة مبنية على قواعد خاطئة مخالفة لمنهج البحث العلمي.
nabilalkarkhy@yahoo.com
التعقيب الثالث
كتابات - نبيـل الكرخي
عند مناقشة موضوع مهم ودقيق مثل موضوع عصمة الأنبياء لن تجدي محاولات الخروج عن الموضوع الأصلي والتهرب من الحقائق بتفريع مواضيع ليست ذات قيمة حقيقية مثل عدد صفحات المقال ، فالتهرب من الإعتراف بالحقائق بذريعة وجود مقولة (خير الكلام ما قل ودل) هي وسيلة رخيصة للتهرب من الإجابة عن بعض الحقائق التي ذكرناها في مقالاتنا السابقة ، مع أن العبارة المذكورة رغم قيمتها المعنوية المهمة إلا أنها لا تحدد الكاتب بعدد معين من الصفحات إذ إنَّ لكل باحث الحرية في تناول الموضوع الذي يريده بالصورة التي يجدها كافية لإيصال فكرته للقاريء الكريم ، فما قل ودل من الكلام قد يكون صفحة وقد يكون عشرة صفحات وقد يكون كتاباً كاملاً كما هو معلوم. وإلا لما ألّف أحدٌ كتاباً قط ، فلماذا إذن ألّف الدكتور كامل النجار أكثر من كتاب ضد الإسلام ولم يكتف بمقالات متواضعة في عدد صفحاتها تحت ذريعة "خير الكلام ما قلّ ودل" !
يحاول الدكتور النجار أن يتقمص في مقاله الأخير دور "مسلم سني" فيرد على مذهب الشيعة بأدلة أهل السنة مع أنه لا يؤمن أصلا بصحة مذهب أهل السنة ، وهذا الأسلوب أشرنا إليه في أحد مقالاتنا السابقة حيث يحاولون ضرب كل مذهب بالمذهب الآخر ، ولو كان من يناقشه في هذه الصفحات سنياً لأتى الدكتور النجار بأدلة الشيعة ليثبت خطأه وهكذا ، فهذا الأسلوب لا يخدم القاريء الكريم لأنه لا يخدم الحقيقة.
فأما قول الدكتور النجار : [(وليس هناك ولا حديث واحد يمكن أن نجزم بأنه حديث نبوي أكيد)] ، فطبعاً لا يمكن للدكتور النجار أن يفعل ذلك لأن الأسس التي اعتمدها هي اسس خاطئة فمن الطبيعي ان تكون النتيجة خاطئة.
وقال الدكتور النجار : [(ولو أردنا أن نتبع طريقة البحث العلمي فلن نأخذ بأي حديث مروي عن النبي لأن كل هذه الأحاديث جُمعت بعد موت النبي بأكثر من مائة وخمسين عاماً)] ، فالدكتور كامل النجار هنا يعترف بانه لا يتبع البحث العلمي ، فما هي قيمة مقال تأريخي بدون بحث معتبر ، وما هي قيمة مقال ديني بدون بحث معتبر ، فإذا كانت نتيجة البحث العلمي توصلنا إلى أنه لا يمكن الإعتماد على أي حديث نبوي فعليه أن يلتزم بهذه النتيجة ، لأن الأصل هو فيما توصل إليه الإنسان من حقيقة لا أن يقوم بالتشويش على الأمور فيعتمد على أحاديث يعرف هو مقدماً عدم صحتها ، ويبني عليها أفكاره ويحاول إقناع القاري العزيز بها وبالأفكار المستنبطة منها مع أنه يعرف سلفاً أنها أحاديث غير صحيحة وما يبنى على الباطل باطل !
واما قوله بعدم صحة كل الأحاديث لأنها مروية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) بأكثر من مائة وخمسين عاماً ، فهو أستدلال غير صحيح لأن هناك منظومة قواعد وأسس وضعها العلماء لتمييز الصحيح عن غيره ، ونحن قد نعترض على بعض تلك القواعد ونستبدلها بقواعد أخرى ، ولكن عموم المنظومة معتبر.
وقال الدكتور النجار : [(وليس من شك هنا أن السيد الكرخي يحاول هنا شق الشعرة، فالخلاف بين السنة والشيعة خلاف لا يؤثر في الإدعاء الأصل، فكلاهما يدعي بأن النبي معصوم، سواء في الأفعال والقول أو في التبليغ. فالنقاش هنا في مسألة العصمة وهل تجوز عقلياً، وليس في نوعيتها أو مداها)] ، فمن غير الصحيح قوله أن الخلاف بين السنة والشيعة لا يؤثر في الإدعاء الأصل ، لأن كل الأدلة التي جاء بها الدكتور النجار من كتب أهل السنة قد تدل في ظاهرها على عدم وجود العصمة ولكن في غير التبليغ وبالتالي فالدكتور النجار لا يستطيع الإعتراض على أهل السنة بكتاباته هذه بأحاديث من مثل تأبير النخل أو عبس وتولى لأنها أحاديث لا تتعلق بالتبليغ ، فالمشكلة أعمق مما قد يتصورها الدكتور النجار بتناوله السطحي هذا. فقوله بأن النقاش [(هنا في مسألة العصمة وهل تجوز عقلياً، وليس في نوعيتها أو مداها)] هو مخالف للأدلة التي جاء بها ، فأولاً هو لم يتحدث عن أدلة عقلية وثانياً نجده قد عمد إلى أحاديث قد تدل في ظاهرها على عدم العصمة في غير التبليغ من أجل أن ينقض العصمة في التبليغ وهذا أسلوب لا حجية فيه.
ويصر الدكتور النجار أن يحوم حول نفس الموضوع الذي تطرقنا إليه في تعقيباتنا السابقة فيقول : [(فأنا قد حاولت نفي العصمة عن جميع الأنبياء لأنهم جميعهم بشر، ولا يقبل العقل أن يكون البشر معصوماً. وكنتيجة جانبية تسقط العصمة عن الأئمة إذا سقطت عن الأنبياء)] ، مع إننا قد بينا عدم جواز أن يستشهد بأحاديث من أهل السنة لينقض فكرة العصمة عند الشيعة وفكرة عصمة الأئمة أيضاً وهي من خصوصيات مذهب الشيعة لأن البحث بهذا الأسلوب هو بحث غير متزن.
ويتعمد الدكتور النجار خلط الأوراق فيقول : [(مرة أخرى يدعي السيد الكرخي، كما يدعي أهل السنة، امتلاك الحقيقة دون غيرهم، فما أخذوه من أهل البيت يكفي لإنقاذهم من الضلال. والنتيجة المنطقية لهذا الطرح هي أن أهل السنة وغيرهم من المذاهب في ضلال مبين. وبعد كل هذا يدعي كل فريق أن الإسلام دين يحض على التسامح وعلى التعددية المذهبية والدينية)] ، فمن المعلوم أنه لا علاقة بين معرفة الحقائق وبين التسامح ، فهل يجب على من يعرف حقائق الأمور أن يكون مستبداً وغير متسامحاً ؟! فأي منطق هذا !؟
ثم إنَّ كل شخص يمتلك فكراً معيناً يعتقد أنَّ فكره هذا هو الحقيقة دون فكر الآخرين ، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الدكتور النجار ، فإذا كان الدكتور النجار يعتقد أن فكره لا يمت إلى الحقيقة بصلة فلماذا يروِّج له بين الناس !! إنه يروِّج له لأنه يظن أن فكره هو الحقيقة دون أفكار الآخرين ، أليس كذلك ؟
وقال الدكتور النجار : [(ثم قال السيد الكرخي: " ولكن يبدو أن ليس كل إنسان يتعلم من أخطاءه ، فهل ياترى قد تعلم الدكتور النجار من أخطاءه ، فهل أمتنع عن الإستشهاد بالأحاديث والروايات الضعيفة ؟ " فكما قلنا سابقاً فليس هناك أي حديث ليس به شخصٌ لم يُضعّفه أحدٌ من مذهب مخالف، وبالتالي تكون كل الأحاديث ضعيفة، ويكاد أن يكون معظمها موضوعاً)] ، فهذا النص يدل على حدوث فجوة بين الدكتور النجار وبين معرفة علم الحديث ، وإنَّ مجرد نقله نصوصاً لا يدرك فحواها من بعض الكتب لا يغني المعرفة التفصيلية بهذا العلم الواسع. فدعوى عدم وجود أي حديث ليس به شخص لم يضعّفه أحد هي دعوى غير صحيحة.
فمجرد نقل الدكتور النجار عن كتاب الموضوعات لأبن الجوزي لا يعني انه قد توصل لحقيقة الأحاديث الضعيفة لأن معظم الأحاديث التي تناولها أبن الجوزي هي احاديث لم ترد في الكتب المعتبرة للمسلمين بنفس الأسانيد ، والحديث الذي ذكره الدكتور النجار بلفظ : (هو بابي الذي أوتى منه، وهو خليفتي من بعدي) على أنه مروي بطريقين في أحدهما عباد بن يعقوب وفي الآخر أبو الصلت الهروي ، فقد روي في كتب المسلمين السنة والشيعة بغير هذين الطريقين ـ أي بطريقين ليس فيهما عباد بن يعقوب ولا أبو الصلت الهروي ـ كما في الكامل لأبن عدي ج4 ص229 وتاريخ دمشق لأبن عساكر ج24 ص42 ، ومعاني الأخبار للشيخ الصدوق ص401 وغيرها ، ولسنا بصدد تحقيق صحة ما ورد في تلك الكتب بخصوص هذا الحديث وإنما ما نريد قوله هو أن معظم ما نقله أبن الجوزي هو أحاديث ضعيفة من وجهة نظره ولا يعني أن المسلمين يتفقون معه في ضعف ما ذكره.
وأما قول الدكتور النجار : [(وإذا أخذنا الذين ضعّفهم السيد الكرخي، مثلاً محمد بن إسحق، الذي قال عنه: " فإن سند هذه الرواية ضعيف لمكان محمد بن إسحاق حيث ضعفوه كما في ضعفاء العقيلي حيث قال عنه هشام بن عروة : كذاب ، وقال عبد الرحمن بن مهدي : كان يحيى بن سعيد القطان ومالك يجرحان محمد بن إسحاق ." لوجدنا أن ابن حجر العسقلاني يقول عنه في كتابه " تهذيب التهذيب " ما يلي: " قال عبيد بن يعيش ثنا يونس بن بكير، سمعت شعبة يقول ابن إسحق أمير المؤمنين لحفظه، وقال لي ابن علي بن عبد الله نظرت في كتب اين إسحق فما وجدت عليه إلا في حديثين ويمكن أن يكونا صحيحين......... وقال البخاري حدثني مصعب قال كانوا يطعنون على ابن إسحق بشئ غير الحديث. وقال أبو زرعة الدمشقي ابن إسحق رجل قد أجمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه. " أما اتهام هشام بن عروة لابن إسحق كان عن رواية ابن إسحق أحاديثاً عن زوجة هشام بن عروة، فأنكر هشام أن يكون ابن إسحق قد رأى زوجته ليروي عنها. لكن أهل المدينة، كما يقول ابن حجر العسقلاني، كانوا يرون ذلك ممكناً إما عن طريق أنه كتب إليها يسألها أو أنه تحدث إليها من وراء حجاب. وعليه يكون الحديث الذي أوردناه عن النبي وتلقيح النخيل حديثاً موّثقاً بالنسبة لأهل السنة، وبالتالي يكون النبي قد أخطأ، فإذاً هو ليس معصوماً)] ، وقد توهم الدكتور النجار فإن الحديث الذي ذكره في مقاله والذي في سنده محمد بن إسحاق هو حديث بخصوص إرسال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي عليه السلام لقتل أحد الموالي ، وليس بخصوص تلقيح النخل ، على أي حال فهناك قاعدة في علم الجرح والتعديل تقول إنَّ الجرح مقدم على التعديل لأن الجارح قد أطلع على ما لم يطلع عليه المعدِّل ، فنحن قلنا بضعف محمد بن إسحاق ونحن نعلم أن هناك من مدحه ولكن هذه القاعدة هي التي تجعلنا نقول بضعفه وهي قاعدة معتبرة عند علماء الجرح والتعديل.
وأما أبن حجر العسقلاني فقد قال عن محمد بن إسحاق في كتابه (طبقات المدلسين) ص51 : (صدوق مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم وصفه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما) ! وقال أبن حجر العسقلاني نقلاً عن مالك بن أنس عنه أنه (دجال من الدجاجلة) ، وقال معمر ـ كما في الإيضاح للفضل بن شاذان ص216 ـ (قال لي أبي : لا تأخذن عن محمد بن إسحاق شيئاً فإنه كذّاب ، وقد كان يروي عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير وهي امرأة هشام بن عروة ، فبلغ ذلك هشاماً فأنكره وقال : أهو الذي كان يدخل على امرأتي أم أنا ؟) ، فالمسالة لا تختص بإمكانية رواية أبن إسحاق عن فاطمة بنت المنذر حتى يتم تعليل ذلك بأنه تم من خلال الكتابة أو من وراء حجاب ، بل يتعلق الأمر بمعرفة دقيقة لهشام بن عروة في أن أبن إسحاق قد كذب في إدعائه الرواية عن زوجته بنت المنذر ، ومن الطبيعي أن يسأل الرجل زوجته عن حقيقة الأمر وعن كيفية حدوث الرواية إن كان هناك رواية فعلاً قبل أن يصرح بكذب تلك الرواية ، فالذي تم هو نفي رواية بنت المنذر من طريق أبن إسحاق ، فالزوجة فيما يبدو قد نفت تحديثها له بجميع الطرق فلا رسائل ولا من وراء حجاب ، والملفت للنظر أن هناك آخرين قد رووا عن فاطمة بنت المنذر نفسها دون أن يحدث مثل هذا اللبس حول روايتهم ، فقد ذكر المارديني في كتابه (الجوهر النقي) ص169 أن أحمد بن حنبل قد روى في مسنده وكذلك الطحاوي في شرح الآثار عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن فاطمة بنت المنذر ، وروى الحاكم في المستدرك عن أيمن المكي يقول حدثتني فاطمة بنت المنذر ، فالمسألة تتعلق بعدم تحديث فاطمة بنت المنذر لأبن إسحاق بحيث دارت الشبهة حول هذا التحديث دون بقية من رووا عنها.
وقال الدكتور النجار : [(كان السيد الكرخي قد اعترض على حديث أوردناه عن عائشة وقال إنها لم تكن حاضرة وقت الحدث لصغر سنها، وعندما اعترضنا على ذلك بقولنا أن ابن عباس لم يكن حاضراً في أغلب المناسبات التي روى عنها أحاديثاً لصغر سنه عندما مات النبي، رد علينا الكرخي بقوله: " فما هو وجه إعتراض الدكتور النجار في إعمالنا قواعد البحث العلمي ، فنحقق كل رواية قبل قبولها ! وحتى لو سقطت عشرات الأحاديث عن الإعتبار ، فإذا كان الحق هو في عدم إعتبارها فلماذا نهتم لأي شخص يريد خلاف ذلك نتيجة أتباع هوى. " وطبعاً وجه الغرابة هنا أن أكثر من تسعين بالمائة من الأحاديث التي يرويها السنة ترجع إلى ابن عباس. فلو طبقنا شرط السيد الكرخي لانتفت تسعين بالمائة من الأحاديث التي بين أيدينا، غير التي ضعفها البخاري وغيرة، وهي تمثل نسبة 99 بالمائة، ووقتها نكون قد هدمنا السنة بكاملها، وهو أمر محبب إلى نفوس عدد كبير من المسلمين الذين يرون الرجوع إلى القرآن فقط كمصدر للإسلام)] ، فظاهر كلام الدكتور أنه يرى جواز الرواية عن شخص لم يحضر الحدث ، وأن هذا الأمر هو أمر مقبول عنده ! ولذلك يدافع عن روايته عن أم المؤمنين عائشة الرواية التي ناقشناها في الحلقات السابقة حول أبن أم مكتوم وقصة نزول سورة عبس حيث قلنا أن أم المؤمنين عائشة لم تكن حاضرة تلك الحادثة لصغر سنها ، ونحن نرى أن كل من يروي رواية لم يحضرها فكلامه مردود حتى وإنْ كان صحابياً ، ومن جانب آخر فإن الدكتور النجار لا يميز بين موقفين مختلفين موقف أم المؤمنين عائشة في روايتها قصة أبن أم مكتوم وبين عموم روايات أبن عباس ، فنحن لم نرفض رواية أم المؤمنين لمجرد صغر سنها وعدم أدراكها بل رفضناه لأن صغر سنها كان يمنعها من حضور تلك القصة وقد دارت أحداثها في مجالس الرجال من مشركي قريش ، فمن الواضح أنها لم تحضر ذلك المجلس ، بينما صغر سن أبن عباس لا يمنع من حضوره ما رواه لا سيما وهو كان صبياً مميزاً ، أي يفهم ويدرك ما يسمع وما يراه ، فضلاً عن أنه كان قد عبر سن البلوغ حين وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ، ففي الإصابة في تمييز الصحابة لأبن حجر العسقلاني أن عبد الله بن عباس قد ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل بخمس سنين. فهناك فارق في المقارنة بين رواية أم المؤمنين عائشة لقصة لم تحضر أحداثها مع صغر سنها ورواية أبن عباس لروايات قد شهدها ووعاها وميزها وهو في سن التمييز أو البلوغ. فإذا عثرنا على روايات مروية عن أبن عباس وهو في سن صغير لا يمكنه من الحضور أو التمييز فسوف نرفض تلك الروايات بكل تأكيد كما رفضنا الرواية المذكورة المنسوبة لأم المؤمنين عائشة.
وأما ما ذكره الدكتور النجار حول وجود عدد كبير من المسلمين ممن يرغبون بإتباع القرآن فقط ورفض السنة فهو كلام غير سليم ، لأنه على فرض وجود عدد ممن يحملون هذا الفكر فإنهم سيصطدمون بحقيقة أن القرآن الكريم نفسه يوجب التمسك بالسنة النبوية ، فمن يريد أن يعمل بالقرآن الكريم فهو ملزم بالعمل بالسنة وفقاً لنصوص القرآن الكريم نفسه ، فلا معنى للتمسك بالقرآن الكريم ورفض السنة نبوية.
وأما ما ذكرناه حول قتادة وأنه مجروح في علم الرجال فلا تصح الرواية عنه فضلاً عن أنه قد أرسل الرواية ولم يكن من المعاصرين للأحداث ، فأجاب الدكتور النجار بأن أورد بعض أقوال العلماء في مدح قتادة ، ونحن نعلم بكل تأكيد ما قاله المادحون في قتادة وكذلك نعلم ما قاله القادحون فيه ، والقاعدة في علم الرجال والتي ذكرناها آنفاً تقول أنَّ الجرح مقدم على التعديل ، فلذلك قلنا بضعف قتادة ، وعلى فرض التنزل والقول بوثاقة قتادة فهو قد أرسل الرواية لأنه من التابعين ويروي أحداث واقعة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) بلا واسطة أي بدون أن يكون في روايته صحابي ، وهذا يؤكد ما نقلناه عنه من أنه كان مدلساً ، وعلى أي حال فروايته مرسلة فهي ضعيفة ولا يصح الأخذ بها.
وقال الدكتور النجار : [(ثم لما تعرضنا لحادث تلقيح النخيل وروينا حديثاً عن ابن ماجة فيه اسم سماك قال الكرخي: " فأما سماك فهو سماك بن حرب وقد قال أبو طالب عن أحمد أنه مضطرب الحديث ، وكان شعبة يضعفه ، وقال أبن عمار : يقولون أنه كان يغلط ويختلفون في حديثه ، وكان الثوري يضعفه بعض الضعف ، وقد ذكره العقيلي في الضعفاء." فأي اعتراض هذا الذي اعترض به السيد الكرخي عندما يقول: " وقال أبن عمار : يقولون أنه كان يغلط ويختلفون في حديثه " فابن عمار لم يضعّف الرجل إنما روى أنه سمع أنهم يُضعفونه، وهذه طبعاً شهادة سماعية لا يُعترف بها. وقد قمت ببحثٍ طويل في عدة مراجع للحديث فعثرت على 366 حديثاً لسماك بن حرب في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، ومختصر التفسير لابن كثير، والمستدرك على الصحيحين للإمام محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، وسنن ابن ماجة وسنن ابن داود وصحيح مسلم ومعجم الطبراني الكبير، ولم أجد أحداً منهم يُضعّف الرجل)] ، فمن الواضح أن تضعيف سماك لا يقتصر على أبن عمار بل أتفق معه في تضعيفه كل من أحمد بن حنبل وشعبة والثوري والعقيلي ، على أن شهادة أبن عمار يعترف بها علماء الرجال وذكروها في كتبهم وأصبحت جزءاً من إستدلالهم على ضعفه فضلاً عن موافقتها لشهادة أحمد بن حنبل وشعبة والثوري والعقيلي ، فعدم إعتراف الدكتور النجار بها هو أمر خاص به وحده.
ويقول الدكتور النجار أنه لم يجد من يضعف سماك في الكتب التي ذكرها ، ومن الطبيعي أن لا يجد ذلك لأنها ليست كتباً مختصة بالجرح والتعديل ، فلماذا لم يراجع الدكتور النجار الكتب المختصة بذلك لكي يعثر على ما عثرنا عليه من جرحٍ لسماك وحكم بضعفه !؟
والدكتورالنجار يريدنا ان نحتج باخبار النواصب وما رووه من أحاديث ويعتبر عدم الرواية عنهم خروجاً عن متطلبات البحث العلمي !؟؟
وأما بخصوص قصة خولة بنت ثعلبة التي ظاهر عليها زوجها ، فرغم الردود المتعاقبة فإن ما وجدناه هو روايات قد تبدو متعارضة في بعض فقراتها وقد قلنا في تعقيبنا السابق ما نصه : (وعلى العموم فأنه على فرض عدم وجود مرجحات لترجيح إحدى الروايات على الأخرى فتسقط الروايتين عن الإعتبار) ، ولكن الدكتور النجار يفترض فرضية مفادها أن الزوج المذكور قد راجع أمرأته دون أن يدفع الكفارة وهو أمر مخالف للروايات التي ذكرناها والتي ذكرها هو نفسه ، وبمجرد أن يراجع القاريء الكريم الروايات التي ذكرناها في تعقيباتنا المتبادلة مع الدكتور النجار والروايات التي ذكرها هو نفسه فإنَّه سيرى هذا الأمر بوضوح.
واما بخصوص قوله تعالى : (( ما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته )) ، فقد بينّا في تعقيبنا السابق تفسير الآية وحمل معناها على الوجه الصحيح لكن الدكتور النجار لم يرض بهذا الحمل فقال : [(إذ أن كل الحاضرين سمعوه ينطق بهما ولذلك وافقوا على اتباعه)] ، فهو قول ليس عليه دليل إلا روايات ضعيفة غير مقبولة. ومن الغريب أن ما قاله المفسرون في النصين اللذين نقلناهما هو قول واضح كل الوضوح لكن الدكتور النجار يصر على قوله تحكماً ، ثم يطالبنا أن نأتي بحجج علمية !!؟
فلنأتِ الآن إلى تدقيق سند هذه القصة المزعومة فقد رواها الطبراني في معجمه الكبير عن أبن عباس ، وقد ذكرنا أن أبن عباس قد ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات أو خمسة سنوات والقصة مكية مما يعني عدم حضوره لتلك القصة المزعومة فالرواية ضعيفة ، وكذلك فإنَّ جميع من ذكروا هذه القصة المزعومة من رواة أهل السنة في كتب الأحاديث عندهم فإنهم أرجعوا سندها إلى أبن عباس وهو لم يكن قد ولد حينها ، فكيف يريد منّا الدكتور النجار ان نصدق مثل هذه القصة الموهومة ؟!
وفي ختام تعقيبه قال الدكتور النجار : [(وملاحظة أخيرة: قال السيد الكرخي عن قتادة أنه مدلس وكذاب وكان يروي الحديث عن أناس لم يسمع منهم، وتساءل: " فهل يمكن ان نقبل رواية شخص يحمل مثل هذه الصفات ؟! " ثم قال في آخر مقاله: " حتى تأتيهم الساعة بغتة ) أي : فجأة ، وعلى غفلة ( أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ) قيل : إنه عذاب يوم بدر ، عن قتادة ومجاهد. " فإذا لم نقبل حديث قتادة لكذبه وتدليسه، هل يمكن أن نقبل تفسيره للقرآن ؟ فكيف سمح السيد الكرخي لنفسه أن يستشهد برجل كذاب ومدلس ؟)] ، فقد فات الدكتور النجار ان ما نقلناه إنما هو ما ذكره الشيخ الطبرسي في تفسير مجمع البيان وهو إنما يستشهد بأحاديث أهل السنة لينقض فكرةً عندهم ، فذكره لقتادة هو من هذا الباب.
فكما يرى القاريء الكريم إنَّ الدكتور كامل النجار لم يفلح بأن يأتي بدليل واحد صحيح على عدم عصمة الأنبياء أو التشكيك بها رغم المحاولات المتعددة لإيجاد أدلة على ذلك ، ولكنها أدلة مبنية على قواعد خاطئة مخالفة لمنهج البحث العلمي.
nabilalkarkhy@yahoo.com