مقتدى الصدر في الميزان
السيد مقتدى الصدر لم يأت من فراغ ولم يؤسس جيشه وحالته الميدانية فجأة. بل كان لهذا الاسم والعنوان والوجود معنى وإشارة ودوافع. ولولا الفراغات الهائلة التي تزدحم بها الساحة العراقية سياسية واجتماعية واقتصادية وأن البلد واقع تحت الاحتلال لكان من الصعب ظهور جيش بخطاب ناري وثوري كجيش المهدي وقيادته التي لا تؤمن إلا بالتصعيد ولا تعرف إلا المواجهات.
لم يعرف السيد مقتدى الصدر قبل سقوط النظام الفاشي في بغداد إلا بكونه آخر أبناء الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر الذي لم تطله رصاصات الاغتيال 1999 لأنه ببساطة لم يكن موجوداً مع أبيه المرجع وأخويه لحظة قيام النظام بالتعرض لسيارة المرجع وأبنائه مصطفى ومؤمّل.
يتحدث أنصاره والمتأثرون بخطه وشخصيته الدينية الشابة عن ذكاء علمي نادر وقدرة عقلية في استيعاب الدروس المعرفية والفلسفية والأصولية العالية ويحيطونه ـ مثلما التقينا بنفر منهم خارج العراق ـ بهالة نورانية وسور من الأساطير التي تشعرك أن الرجل ليس قائد تنظيم عسكري يقاتل الأميركان بشجاعة كبيرة وحماسة أكبر وروحية استشهادية مفرطة في الفداء والبسالة بل يعد حسب رأيهم جزءً من حركة الخلاص الكوني ولعل اللوحات التي رسمها المتأثرون به والآيات القرآنية الكريمة التي زينت بها الجداريات في مقدمة شوارع مدينة الصدر (الثورة سابقاً) توحي بموقع الرجل في أعماق أنصاره والمحيطين به والمدافعين عن نهجه الثوري.
إن مقتدى الصدر لم يأت من فراغ لأن العراق الذي استولت عليه القوات الأمريكية في 9/4/2003 كنز من المعارف الحضارية والأزمات والأثقال والكوارث الإنسانية فلا معرفة من فراغ ولا كارثة سياسية أو إنسانية كالكوارث التي عاشها الشعب العراقي وتعرّض لها جاءت من الفراغ أيضاً على أن الصدر خرج من هذا الركام الهائل من الأزمات والمحن وهو ابن الحالة العراقية بكل ما فيها من آلام ومعاناة وأفراح وأتراح وصعود ونزول ولذلك كان الرجل ابن هذا البلد الغارق بالألم الأبدي في الالتحام مع الدم ومغاور القيامة وحبال المشانق والتآمر الدائم من الداخل والخارج على وحدته الأسطورية وسيادته المميزة وموقعه الكوني وثرواته المدهشة وشعبه الخلاق وتراثه الإسلامي ـ العربي المتنوع.
ولذلك لا يمكن عدُّ ما قام به مقتدى الصدر بالغريب أو المستنكر وإذا كان غريباً هذا الذي جاء به الصدر عند قطاعات سياسية وشعبية غير قليلة في المجتمع العراقي فهو ما بينه وبين نفسه وما بينه وبين جماهيره ومؤيديه وأنصاره يعتقد أن مشروعه حالة وطنية حقيقة بل الحالة الوطنية الوحيدة من بين جميع الحالات. وإذا كان الرجل فيما يذهب إليه معتدلاً أم متطرفاً إلا انه أظهر في المواجهات والتصريحات وأساليب ومناسبات سياسية ودينية وعبادية عديدة تمسكه بهذا النهج وارتباطه العميق بمدرسته الثورية بغض النظر عن اختلافنا من اتفاقنا معه.
مقتدى الصدر يتحدث الذين التقوه عن ثقافته السياسية المتواضعة وشدة ذكائه الشخصي وقدرته على التضحية وتقديم النفس من أجل الشعب العراقي وكأنه نذر نفسه بعد شهادة والده المرجع لذات الأهداف التي اختطّها والده المرجع قبل استشهاده في إشارة إلى أن هذه العائلة إنما تكمل مشوارها خدمة لهذا الشعب بالتناوب على قاعدة كل حسب قدرته وكل حسب زمانه ومكانه.
ويقول هؤلاء أن الرجل يشكو قلة أهل الخبرة والتجربة السياسية والأصالة الشخصية في خطه وتياره وجيشه ويقولها بصراحة متناهية ووضوح تام بأنه ليس لديه مستشارون من أهل الخبرة وكل ما لديه أعوان يستعين بهم على نوائب الدهر وطوارئ الأيام لكنه من ناحية ثانية يدافع عن مجمل آرائه وطروحاته التي قدمها للساحة العراقية فأحدثت قلقاً وصخباً وضجيجاً إعلامياً وسياسياً وخلقت حالات استنفار أمني وتأهب عسكري غير مرة قبل المواجهات الأخيرة في النجف الأشرف.
ومثل ذلك ما حدث في أثناء دعوته لتشكيل حكومة بديلة عن حكومة مجلس الحكم الانتقالي حيث أحدثت تلك الخطوة اهتزازاً حقيقياً في الوسط العراقي وأربكت عدداً من الحالات والمناهج التي عدت ثابتة فلا حكومة في بطن حكومة ولا سلطة في النجف وأخرى في بغداد. إن تلك الحالات قللت من شأن السيد مقتدى الصدر في الوسط السياسي العام لكنها لاقت قبولاً مع استهجان مبطن غير معلن من الأوساط الناقمة على الحكومة العراقية الثانية برئاسة الدكتور إياد علاوي كما أن هذا الوسط لم يؤيد حكومة الصدر لأنها تحظى بتأييد قطاع واسع من الناس بل لأنها كما يتصورون كفيلة بإرباك الأجواء السياسية في العراق لصالح الفئات والاتجاهات التي تريد إعادة الأوضاع في العراق إلى المربع الأول ـ أي إلى ما قبل سقوط النظام.
إن السيد مقتدى الصدر لم يعمل في الساحة العراقية بالتناغم والتنسيق والتشاور مع القوى والمجموعات السياسية العراقية في الداخل وهي مجموعات وأحزاب عريقة ولديها تاريخ كفاحي طويل ودام ضد النظام البائد بل دخل بخصومة شديدة معها من خلال مجموعة من التصريحات غير الموفقة صدرت عنه وعن وكلاء ومحسوبين عليه ما كان يفترض أن يطلقها في مناخ سياسي ملبد وغير معروف الاتجاه في وقت كان الكل ينتظر بفارغ الصبر فشل التجربة العراقية الجديدة وإغراق البلاد في حمامات دم طائفية وقومية بين العرب والعرب الشيعة والسنة والأكراد والتركمان وسائر الفئات.
فلم يكن من المناسب مثلاً أن يتهم السيد الصدر المجاهدين العراقيين الذين قاتلوا طاغوت النظام البائد ثماني سنوات متواصلة في الحرب العراقية ـ الإيرانية بالعمالة وأن الأحزاب الإسلامية التي قاتلت النظام وقدمت عشرات الآلاف من الضحايا والقرابين هم أناس وافدون وعملاء القوى الكبرى في العالم ولا حصة لهم في العراق القادم. أو أنهم متواطئون ولا علاقة لهم بخدمة الشعب العراقي وأن عليهم أن يسلموا لقيادته وأمرته. وهناك حالات جرت في زمن مجلس الحكم الانتقالي معيبة وتدل على قيام السيد الصدر بممارسة فوقية غير مبررة ضد أعضاء في المجلس فالمعلومات تقول أن السيد الصدر كان يتصل بأحد أعضاء مجلس الحكم ويأمره بأن يأخذ أوامره والنواهي الشرعية والسياسية من مكتب ولي الأمر!!. في إشارة إلى مكتبه.
هذا التقاطع الذي أشرنا إلى عينات نادرة منه أحدث فجوة واضحة بين الصدر والمجموعات السياسية الإسلامية التي انقسمت بدورها على مقتدى الصدر انقسامها على أبيه حين كان على عرش المرجعية الدينية ـ انقسام ساحةٍ منقسمة أساساً يقودها رموز وقيادات ونخب وثقافات متباينة متباعدة البرامج والرؤى والتصورات ـ انقسام يؤيد الصدر ويعتبر (ثورته) و(جيشه) و(حضوره السياسي) و(صعوده المدوي) فرصة حقيقية نادرة وتاريخية لاختفاء أحزاب مناوئة لمشروع مرجعية الصدر الثاني كما هي فرصة للصعود السياسي بعد تحطيم هذه المجموعات التي دخلت ضد الصدر واتهمته بالعمالة للنظام وأنه مرشده ودليله وعينه على شيعة العراق وأن النظام أراد الإفادة من شيعة العراق بتنصيب مرجع عربي نجفي سيداً للحوزة والمرجعية قبالة (الزحف) الإيراني على قيادة المرجعية بعد تراجع دور النجف على حساب تقدم وحضور قم إيران.
طبعاً من غير الممكن ولا الطبيعي أو المنطقي أن يتناسى النجل مقتدى الصدر الدور الذي مارسته القوى الإسلامية المتطرفة في القول والفعل ضد والده والجلبة التي أحدثتها في الساحة العراقية والانعكاسات السلبية التي تركتها حول دور أبيه المرجع في تلك الساحة خصوصاً خارج العراق. ولذلك تحين السيد الصدر أول فرصة تاريخية أيضاً وهي فرصة سقوط النظام على أيدي القوات الأمريكية والبريطانية لمهاجمة هذه المجموعات ومحاولة عزلها وتطويق نفوذها السياسي والشعبي في الساحة العراقية. لذلك يعتقد خبراء أن السيد الصدر (الثالث) إنما أنشأ جيش المهدي لأجل تطويق البعد الشعبي لدى الأحزاب الإسلامية التي كان لديه موقف منها ومن وجودها، والتطويق هدفه العزل والتصدي للمستقبل السياسي لها وإفهامها أنها لا مكان لها في ساحة المسؤول عنها المرجع محمد صادق الصدر ولا غيره في مرحلة وزمان ومكان لم يكن فيه من يتصدى لحملات الطمس والتشويه والإبادة وانتشار إخطبوط الوهابية باستثناء الصدر الثاني.
إن السيد مقتدى الصدر كان محملاً بهذا الإرث التاريخي الثقيل وكان الأسى يُجلّل عينيه وهو ينظر لجثث أبيه وأخوته مسجاة من دون وداع شعبي يليق بهم وهم الذين نذروا أنفسهم للعراق وشعبه ثم ينظر ثانية فلا يجد غير أحزاب عريقة في القدم والنشأة والممارسة السياسية تنسى تاريخ أبيه معها وتوسعه طعناً وتشويهاً واستهدافاً قاسياً لنواياه في تعبئة الناس وإعادتها إلى الدين والطريقة المثلى في التعبد (صلاة الجمعة) وفوق هذا وذاك ورغم الشهادة المدوية في الشارع الاتهام الجارح بالعمل من أجل زيادة بطانة النظام وأنه مرجع السلطة وفقيهها!!.
اشهد.. لو كان أحد غير مقتدى الصدر يواجه هذا السيل الجارف والجارح من الكلمات والأباطيل والاتهامات لأبيه وعائلته وشهادة أخويه وإحساسه أن لهم فضل ـ وهذا مؤكد ـ على الشعب العراقي ولمستقبل الظاهرة الدينية ـ الشيعية لم يتصرف بأقل مما قام به مقتدى الصدر مع تلك الأحزاب السياسية.
لكن خطأ السيد مقتدى الصدر أنه تعامل مع الظاهرة الحزبية السياسية العراقية كونها ظاهرة واحدة وبقي على مسافات من بعضها ولم يتحدث لنا أحد أو قرأنا شيئاً عن توافقات سياسية حدثت بين (الحوزة الناطقة) التي يقودها السيد مقتدى الصدر والآخرين من أحزاب ومجموعات وحركات سياسية.
هذا الأمر يعتبر من بين الأخطاء القاتلة التي وقع بها مقتدى الصدر. فلو كان ميزّ بين الأحزاب ذات المواقف الواضحة في شكوكها إزاء والده المرجع من الأحزاب الإسلامية المعتدلة التي تعتبر الصدر الثاني أحد مؤسسي الحالة الإسلامية التعبديّة ـ السياسية ـ النهضوية في تاريخ العراق السياسي الحديث لكان خلق إرباكاً في المواقف بين المجموعات السياسية لن يسفر في النهاية إلاّ عن تحقيق 50% على الأقل من أصوات هذه الأحزاب إن لم نقل كلها لصالح تاريخ الصدر وحركته الراهنة. أما وقد حدث ما حدث فمن الصعب اعتبار مقتدى الصدر شريكاً حقيقياً يمكن الاعتماد عليه أو الثقة بجماعته ووكلائه وممثليه في أية صيغة سياسية سواء كانت ثنائية حزبية أو لها علاقة بانتخابات برلمانية رسمية!! وكل ما يحدث حالياً من مشاركات واجتماعات وتحالفات بمناسبة الحديث عن الانتخابات البرلمانية لانتخاب (270) عضواً للبرلمان العراقي الجديد (المجلس الوطني) فهو عمل لزيادة عدد الداخلين في هذا التحالف أو ذاك لتكثير الأصوات أو شرائها والاعتماد على قاعدة الصدر الجماهيرية وهي (من القواعد الواسعة في البلاد) والإفادة منها في يوم الاقتراع وإلا فإن الأحزاب السياسية لديها قلق شديد من أية صيغة لها علاقة بجيش المهدي وقيادته لأن من شأن تلك الصيغة توريط الطرف المتحالف بمشاكل لا طائل تحتها مع قوى واتجاهات وأجهزة لا يعلم بها إلا الله سبحانه والراسخون في معرفة التحالفات!!.
إن مقتدى الصدر لم يكن يتوقع في يوم أن تُسند (فجأة) قيادة تيار أبيه (التيار الصدري) إليه فيجد نفسه مرغماً على قبول شروط وأفكار وتصورات ومواقف ربما لا يكون مؤمناً بها إيمانه بالمواقف التي تصدر عن قناعاته الشخصية هو!!..
أنني اعتقد أن جزء من المواقف التي دافع عنها السيد الصدر من على منبر صلاة الجمعة أو في اللقاءات والاجتماعات المنفردة مع قادة الأحزاب السياسية ومجموعات الوساطة أو مع الاتجاهات المعارضة للسلطة في الفلوجة والرمادي وسامراء هي مواقف إملائية وليست قناعات سياسية (راكزة) مضافاً إلى أن عدداً من المعارك التي خاضها الصدر ودعى جمهوره إلى إشعال مثلها في مناطقهم (ربما) كانت معارك (آخرين) لكن الرجل استحسنها (فقهياً) وعلى مستوى الحماسة الشخصية لكنها ارتدّت (سياسياً) عليه فكانت وبالاً ونقمة وعلة العلل ولو أعاد التاريخ نفسه وراجع السيد مقتدى الصدر بعض التصريحات والبالونات والخطابات النارية لكان تحفظ على العديد منها، لكن التاريخ للأسف الشديد لن يعود إلى الوراء باستثناء المواقف المستعادة تعود إلى الخلف بهدف أن تتحول حسرات في أرواح مطلقيها وقادتها!!..
من جهةٍ أخرى لم يكن السيد مقتدى الصدر بالشاب الذي تغريه مباهج السلطة ومفاتن المواقع وبهارج التوزير وهو طبع في آل الصدر وليس (تمثيلاً) على أحد. لقد عرضت مناصب وفرشت الأرض من تحت الشهيد محمد باقر الصدر في أوائل ظهوره القيادي كمرجع فرفض في نهاية السبعينات لكنه سقط شهيد رفضه لها ومقتدى الصدر ربما لم يأخذ من محمد باقر الصدر ألا سيماء الملامح ورفض المباهج وهي فضيلة تحسب له وليست سيئة عليه!!..
هذا الشاب الممتلئ بالحماسة كان لديه مشروع وقناعات أهمها أن ترفع عمامة شيعية سوداء اتكاء على تاريخ من الرفض للحاكم المستبد ونهر من الدم المقدس لواء تحدي السياسة الأمريكية في عقر دارها الجديدة (بغداد) في مقابل هوس البعض وإفادتهم من الديمقراطية بمصطلح المقاومة وبينهم وبينها بعد المشرق عن المغرب.
لقد هال مقتدى الصدر هذا الشعور وكبر عليه أن يكون في آخر قائمة الذين لا موقف لهم من (المقاومة ) و(الاحتلال) و(الحرية) والدفاع عن المحرومين وهم القاعدة الشعبيّة التي يعتمد عليها في الحركة السياسية والسيادية في كافة المحافظات. من هنا كان موقفه من الاحتلال وبالطريقة التي شهدها العالم ولولا خوف البعض من الحرمان الأبدي والمباشر من ممارسة العمل السياسي والدخول في اللعبة السياسية والبعد عن السلطة من قبل من يمسك بعصا الحالة في العراق لكانت غالبية القوى السياسية في العراق ولا أقول كلها مع مقتدى الصدر. لكن قناعة هذه المجموعات السياسية بالعمل السلمي واستخدام كافة أساليب الممارسة المدنية لخروج القوات الأمريكية من البلاد هي التي أجلت هذا الاعتراف. ولعل بعضهم يتحدث بنبرة واضحة في المجالس أن مقتدى الصدر قاتل بالنيابة عن شرف المدافعين عن سيادة العراق ولم يعط هذا الشرف لمقاتلين جاءوا من خارج الحدود لمقاتلة الأمريكان لأهداف لا صلة لها بكفاح الشعب العراقي من أجل الحرية والديمقراطية.
مشكلة مقتدى الصدر أنه يفكر لوحده ولا يشرك أحداً من القوى السياسية الفاعلة التي يثق بها بهذا التفكير وحين يقرر شيئاً معيناً يتعلق بالسيادة أو بالاحتلال أو بكتابة الدستور أو بقانون إدارة الدولة العراقية أو باستيعاب ملايين العاطلين عن العمل من المحرومين من قاعدة أبيه في صلاة الجمعة وفي النهوض من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية فهو يريد موقفاً من الجميع وعندما يقف الجميع يتفرجون على ما يجري لأنهم أساساً ليسوا جزءاً من تفكيره التفت إليهم وعدهم بكلمات لا تليق بتاريخهم وكفاحهم وحضورهم وتضحياتهم الجسيمة.
والسؤال الذي يطرح نفسه
كيف يمكن بناء علاقات وثيقة بين مقتدى الصدر والمجموعات السياسية (الوافدة) ما دام الرجل يعتقد في قرارة نفسه أنها مجموعات غير فاعلة وغارقة إلى أذنيها في أوحَال العمالة للولايات المتحدة الأمريكية وأن الجو السياسي في البلاد غير صحي وأن لا وجود لمعارضة إسلامية ووطنية حقيقية في العراق للتواجد الأمريكي ـ البريطاني؟.
ليس من الهين أو السهل بناء جسر من الثقة بين هذه الأطراف جميعاً ولو كان السيد مقتدى الصدر يحترم هذه الأطراف الحزبية ويوقر وجودها ويعطيها المساحة والاهتمام اللذين يذكران لكان قبل في وقت سابق سيل الوساطات التي تقدمت بها. أن مقتدى الصدر (ربما) لم يرغب بربط حركته وإنهاء مواجهاته مع القوات الأمريكية والقبول بشروط معينة لإنهاء هذه المواجهات بإعطاء هذا الشرف لتنظيم حزبي أو سياسي أو شخصي بعينه. لقد أراد أن يكون قراره بحجم مواجهاته وأن الشخصية التي ستكون طرفه في معالجة الحرب المستمرة مع القوات الأمريكية رجلاً بحجم المعركة ـ معركة الاستقلال والحرية وأن يكون هذا الرجل تجسيداً حقيقياً لآمال ورغبات ونوازع الشعب العراقي في تحقيق هذه الشروط.. وهكذا كان الإمام السيستاني هو التجسيد لا باختيار السيد مقتدى الصدر أو غيره بل لأن الظروف التاريخية في البلاد شاءت أن يكون الإمام راعي المشكلة والبديل الموضوعي القادر على حلها.
حين بدأ الإمام مشوار فرض التسوية على الأطراف جميعها كان الآخرون من أطراف الأزمة يرحلون إلى ضفاف بلا أسلحة بل يحملون معهم قرار إيقاف القتال كون الرجل الذي يتوسط دائرة المواجهات يفهم شيئاً واحداً ويضع كل الاعتبارات جانباً إذا توقفت المصالح على ضفافه هو الشعب العراقي وأمنه واستقراره وهكذا كانت وثيقة النجف.
الملاحظة الأساسية التي يجب أن يتم إيلائها الاهتمام في النظر للسيد مقتدى الصدر هي أن الرجل وتياره لم يكونا ينظران لكافة مظاهر الحركية الإسلامية العراقية أحزاباً وتنظيمات بما هي أدوار لحضور الإسلام والشريعة الإسلامية وأهداف ثقافة تسعى لتكريس حضور الإسلام في الأمة وتقاتل من أجل الشعب العراقي وحقوقه الاجتماعية والسياسية وحرياته وأمنه واستقراره ولون بديله الديمقراطي المرتبط بتاريخ هذا الشعب وتراثه العربي ـ الإسلامي بل كونها تنظيمات فيها الكثير من الالتباس لجهة أفكارها وميولها السياسية وتلك النظرة لها أسباب تاريخية في تركيبة الرجل وتياره فعلى الرغم من أن مقتدى الصدر عاش في كنف والده المفكر والعالم المنتمي لعائلة الصدر لكن مقتدى تربى في أجواء عائلة لا علاقة لها بالعمل الحزبي هذا إذا لم تكن لديها في الوقت نفسه ملاحظات وإشكالات فقهية وشخصية على تجربة العمل الحزبي في العراق لذلك كان مقتدى الصدر في نشوءه الشخصي وفي تربيته السياسية بعيداً عن كل شيء له علاقة بالأحزاب الحركية الإسلامية المعاصرة.
الإمام السيستاني الذي كان يراقب مشهد العمل الحزبي بتأمل الفقهاء الكبار وأناتهم كان يدرك أن التقاطع سلبياً مع تلك الظاهرة يعني الابتعاد واختيار النأي سبيلاً في مواجهة حالات سياسية إسلامية لها جمهورها وقاعدتها البشرية لذلك فضل أن يكون بيته مقراً وحاضنة لكل الفئات السياسية التي تتوّزع الحركية الإسلامية عليها وهكذا شهدت وتشهد النجف بوجود الإمام السيستاني على الدوام لقاءات (قمة) بين الإمام وعدد من القيادات الرأسية في تركيبة الأحزاب الإسلامية وفي هذه اللقاءات يتم مناقشة ومعالجة وإثارة كافة أوجه الأمراض والأزمات والمشكلات التي يعيشها العراقيون بعد سقوط صدام. ورغم أن الإمام السيستاني يمتلك في موقعه الديني والقيادي والسياسي والروحي قيمومة على هامش واسع من سياق الحركة السياسية لكن الإمام يكتفي دائماً إلى الإشارة والتأكيد على الاهتمام بالقضايا المفصلية والرئيسية في الأمة.
خبير استراتيجي عربي مراقب يصف الإمام السيستاني بالشخصية المحورية ويشبهه في مضمون حركته وممارسة مسؤولياته السياسية والروحية بزعيم الموارنة المسيحيين في لبنان المطران مار بطرس نصر الله صفير وعلاقته بالتيارات والأحزاب السياسية وحضوره في مجمل سياق الحركة الوطنية اللبنانية ويقول هذا الخبير العربي المراقب للمؤلف في مقابلة معه (أن السيد السيستاني رجل قيادي يمارس مسؤلياته القيادية بوعي سياسي شديد ـ لا يتدخل في التفاصيل الصغيرة التي تشغله وتشتت تركيزه لكنه يلح في التدخل بالقضايا الاستراتيجية. وهو بهذا عالم دين استراتيجي وأنا أشبهه بالزعيم الماروني صفير لشدة الشبه بين الدورين فالرجلان يمارسان دوراً واحداً في البيئة السياسية والاجتماعية اللتين يعيشان فيهما ـ أن السيد السيستاني يشتغل في السياسة كاشتغاله في الفقه وهي مهمة ليست سهلة في ظرف كظرف العراق ومتغير دولي كالذي يعصف بأوضاعنا العربية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية( )
وفي العودة إلى الصدر يذكر أن عدداً من وكلائه والمتحدثين باسمه كانوا قبل سقوط النظام لا يعبأون بوجود أحزاب إسلامية عراقية ولا يقيمون وزناً للأسف الشديد للمرجعيات الدينية التي كان لها مكاتب في عدد من العواصم العربية وشخصياً شهدت (مظاهرة) غير لائقة قام بها مجموعة من (طلاب الحوزة الناطقة) أمام مكتب آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم حين غادر الحكيم بغداد إلى سوريا متوجهاً إلى العلاج في لندن. وفي تلك التظاهرة تم رفع شعارات مؤسفة لم تعبر عن وعي أو التزام بتقاليد أو احترام للرجل مهما كان له خلاف مع أي من الأوضاع والأشخاص والمراجع الآخرين إذ ليس بهذه السلوكيات يتم (النيل) من هذا المرجع أو ذاك وليس بمثل تلك التصرفات يمكن الاعتراض على سلوك هذا المرجع أو ذاك. يومها وفي تلك التظاهرة أدرك كل الذين شهدوها أن مشهد العراق سيكون شاهداً على أحداث مؤسفة ستخفف (ثقل) الطائفة الشيعية وتنال من (موقع) المرجعية الدينية في حياة الشعب العراقي وأمام أنظار أبناء ومسؤولي العواصم العربية التي تتواجد لها فيها مكاتب وممثليات وأدركوا أن المعركة القادمة لن تقل شراسة عن معركة نظام صدام البائد ضدنا حين كان هو في السلطة!!.
ملاحظة أخرى مهمة يجب ذكرها في السياق هي أن الإمام السيستاني الذي لم تسجل له أية مساهمة في قيادة أو توجيه حركيات حزبية وسياسية إسلامية عراقية وجد نفسه وسط تجاذبات خلاف قديم بين وجود يفلسف الأشياء والدين والقيادة على أساس ناطق وصامت ووجود لديه علاقات دولية عميقة وكبيرة وجوهرية ويسعى كلا الطرفين في الحقيقة إلى الهيمنة على النجف كمعقل أخير للأكثرية الشيعية التي بدت بعد سقوط النظام في مهب رياح أحزاب تريد استيعابها واعتماد قرارها الديني وجاذبيتها الروحية في قيادة الشعب العراقي. من المعلوم أن الذي يسيطر على النجف ومرجعياتها الدينية يستطيع (ضم) العراق كله ذلك أن الأكثرية العددية الشيعية تدين بالولاء الديني ومعتقدها السياسي لإمامة القيادة النجفية.
فماذا يفعل فقيه يقف على هرم القيادة الزمنية والروحية للمرجعية أمام خلاف (ربما) سيمتد لهيب نيرانه إلى الحوزات العلمية وما تبقى من كيان للعلم والمعرفة وتراث أهل البيت ثم في النجف (وربما) هي بداية سيئة لسحب البساط من تحت أقدام المرجعية الدينية القائدة والشاهدة في خضم صراع لا ينتهي على مناطق النفوذ في الوسط الشيعي وعلى من يقود الساحة خارج النجف من النجف؟.
إن أحد أهم عناصر القوة في شخصية الإمام السيستاني أنه يتحدث مع كل مفردات المشهد الحزبي والسياسي العراقي من أحزاب وقوى وحركات سياسية من دون أن يكون السيستاني جزءً من هذا الإطار أو ذاك لا على مستوى الإرشاد الروحي أو الزعامة السياسية وإلا لو كان كبقية المراجع وبعضهم يمتلك علاقات سابقة مع أحزاب إسلامية رابط تنظيمي لتدخل بعضهم لحل خلافات حادة نشبت قبل المعارك الأخيرة بين المجلس الأعلى مثلاً وأفراد من جيش المهدي في النجف لكن هؤلاء المراجع وقسم منهم في إيران فضلوا عدم النزول في التفاصيل المتعلقة بالخلاف بين الطرفين بسبب علاقات سابقة بين جيش المهدي وبينهم أو بينهم وبين قيادة المجلس الأعلى حين كان المجلس يتخذ طهران مقراً له أيام الصراع ضد النظام البائد.
إن هذه الميزة تعتبر رسالة يوجهها المرجع الأعلى السيد السيستاني لكل العلماء الأفاضل الذين يفكرون بتبوأ موقع ومقام المرجعية الدينية هي أن يكونوا آباء للحالات الإسلامية وليسوا جزء من سياقها التنظيمي لكي يحفظوا للإسلام حدوده وللفقيه دوره وحدوده وللحركية الإسلامية هامشها في العمل وفي يقين عديدين من أهل الخبرة والدراية بشؤون العمل الإسلامي. إن وجود السيد السيستاني على رأس المرجعية الدينية مع كامل استقلاله عن الانتماء لحزب أو إشراف فوقي على حالة حزبية رغم وجود عدد هائل من الأحزاب الإسلامية التي ترجع إليه في شتى المسائل تشكل حالة تحصين للساحة الإسلامية العراقية فلا تحصين من دون وجود قيادة دينية مستقلة في قرارها غير تابعة لتنظيم أو فقيه سياسي يقودها ويوجه مواقفها كما كان يحدث في سابق المعارضة الإسلامية العراقية ولا يمكن أن يستقيم الوضع الشيعي في العراق بجميع أبعاده الحركية والعشائرية وتجمعاته الأهلية والمدنية إلا بوجود قيادة مرجعية واعية ومتصدية وجريئة وقادرة في لحظات التحدي ومداهمة الأخطار أن تقول رأيها الذي تكمن فيه مصالح الإسلام وليست مصلحة حزب أو تنظيم أو شخص.
إن الإمام السيستاني حين دخل الأزمة وهو على فراش المعالجة وسرير العملية القلبية الجراحية، لم يدخلها بدوافع سياسية وحزبية أو مرجعية فردية أو بقصد تعبئة الجمهور العراقي ضد تيار أم شخص بعينه بل هدف من وراء ذلك كله الإحاطة بالأزمة وتطويق أثارها التي إن امتدت في الوسط الشيعي فسيعود هذا الوسط ثلاثة وثمانين عاماً أكثرية مقهورة بيد نظام طائفي ـ استبدادي قهري.
وحين دخل الأزمة ومارس وظيفته الشرعية ـ الوطنية الإسلامية لم يدخلها لكي يشطب على تاريخ أحد بل لكي يؤصل تاريخ كل العاملين الإسلاميين من الذين قاتلوا من أجل أن يكون العراق وطن كل الفئات والأديان والقوميات والأثنيات المختلفة. فما دام الرجل يشعر ـ وهذا حقه الشرعي ومنطلق وظيفته الربانية وموقعه القيادي في الأمة ـ أنه المسؤول عن مصير هذا الشعب ويمثل التجسيد النبيل لفكرة الخلاص وغاية الحرية وفلسفة البديل الاجتماعي السياسي الأفضل للأمة فأنه سيبقى خارج سرب كل التحالفات لكنه يلعب دور الجوهري والناظم والمتابع والمحدد للثوابت أما التفاصيل واقتراح الآليات فهو وظيفة المجموعات الإجرائية وموقف الإمام واضح في هذا المجال حين منع على رجال الدين استلام مهام رسمية في الدولة وأن يقتصر دورهم على الإرشاد والتوجيه والإسهام في بناء الدولة العادلة ـ دولة المساواة والسلام الأهلي.
السيد مقتدى الصدر لم يأت من فراغ ولم يؤسس جيشه وحالته الميدانية فجأة. بل كان لهذا الاسم والعنوان والوجود معنى وإشارة ودوافع. ولولا الفراغات الهائلة التي تزدحم بها الساحة العراقية سياسية واجتماعية واقتصادية وأن البلد واقع تحت الاحتلال لكان من الصعب ظهور جيش بخطاب ناري وثوري كجيش المهدي وقيادته التي لا تؤمن إلا بالتصعيد ولا تعرف إلا المواجهات.
لم يعرف السيد مقتدى الصدر قبل سقوط النظام الفاشي في بغداد إلا بكونه آخر أبناء الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر الذي لم تطله رصاصات الاغتيال 1999 لأنه ببساطة لم يكن موجوداً مع أبيه المرجع وأخويه لحظة قيام النظام بالتعرض لسيارة المرجع وأبنائه مصطفى ومؤمّل.
يتحدث أنصاره والمتأثرون بخطه وشخصيته الدينية الشابة عن ذكاء علمي نادر وقدرة عقلية في استيعاب الدروس المعرفية والفلسفية والأصولية العالية ويحيطونه ـ مثلما التقينا بنفر منهم خارج العراق ـ بهالة نورانية وسور من الأساطير التي تشعرك أن الرجل ليس قائد تنظيم عسكري يقاتل الأميركان بشجاعة كبيرة وحماسة أكبر وروحية استشهادية مفرطة في الفداء والبسالة بل يعد حسب رأيهم جزءً من حركة الخلاص الكوني ولعل اللوحات التي رسمها المتأثرون به والآيات القرآنية الكريمة التي زينت بها الجداريات في مقدمة شوارع مدينة الصدر (الثورة سابقاً) توحي بموقع الرجل في أعماق أنصاره والمحيطين به والمدافعين عن نهجه الثوري.
إن مقتدى الصدر لم يأت من فراغ لأن العراق الذي استولت عليه القوات الأمريكية في 9/4/2003 كنز من المعارف الحضارية والأزمات والأثقال والكوارث الإنسانية فلا معرفة من فراغ ولا كارثة سياسية أو إنسانية كالكوارث التي عاشها الشعب العراقي وتعرّض لها جاءت من الفراغ أيضاً على أن الصدر خرج من هذا الركام الهائل من الأزمات والمحن وهو ابن الحالة العراقية بكل ما فيها من آلام ومعاناة وأفراح وأتراح وصعود ونزول ولذلك كان الرجل ابن هذا البلد الغارق بالألم الأبدي في الالتحام مع الدم ومغاور القيامة وحبال المشانق والتآمر الدائم من الداخل والخارج على وحدته الأسطورية وسيادته المميزة وموقعه الكوني وثرواته المدهشة وشعبه الخلاق وتراثه الإسلامي ـ العربي المتنوع.
ولذلك لا يمكن عدُّ ما قام به مقتدى الصدر بالغريب أو المستنكر وإذا كان غريباً هذا الذي جاء به الصدر عند قطاعات سياسية وشعبية غير قليلة في المجتمع العراقي فهو ما بينه وبين نفسه وما بينه وبين جماهيره ومؤيديه وأنصاره يعتقد أن مشروعه حالة وطنية حقيقة بل الحالة الوطنية الوحيدة من بين جميع الحالات. وإذا كان الرجل فيما يذهب إليه معتدلاً أم متطرفاً إلا انه أظهر في المواجهات والتصريحات وأساليب ومناسبات سياسية ودينية وعبادية عديدة تمسكه بهذا النهج وارتباطه العميق بمدرسته الثورية بغض النظر عن اختلافنا من اتفاقنا معه.
مقتدى الصدر يتحدث الذين التقوه عن ثقافته السياسية المتواضعة وشدة ذكائه الشخصي وقدرته على التضحية وتقديم النفس من أجل الشعب العراقي وكأنه نذر نفسه بعد شهادة والده المرجع لذات الأهداف التي اختطّها والده المرجع قبل استشهاده في إشارة إلى أن هذه العائلة إنما تكمل مشوارها خدمة لهذا الشعب بالتناوب على قاعدة كل حسب قدرته وكل حسب زمانه ومكانه.
ويقول هؤلاء أن الرجل يشكو قلة أهل الخبرة والتجربة السياسية والأصالة الشخصية في خطه وتياره وجيشه ويقولها بصراحة متناهية ووضوح تام بأنه ليس لديه مستشارون من أهل الخبرة وكل ما لديه أعوان يستعين بهم على نوائب الدهر وطوارئ الأيام لكنه من ناحية ثانية يدافع عن مجمل آرائه وطروحاته التي قدمها للساحة العراقية فأحدثت قلقاً وصخباً وضجيجاً إعلامياً وسياسياً وخلقت حالات استنفار أمني وتأهب عسكري غير مرة قبل المواجهات الأخيرة في النجف الأشرف.
ومثل ذلك ما حدث في أثناء دعوته لتشكيل حكومة بديلة عن حكومة مجلس الحكم الانتقالي حيث أحدثت تلك الخطوة اهتزازاً حقيقياً في الوسط العراقي وأربكت عدداً من الحالات والمناهج التي عدت ثابتة فلا حكومة في بطن حكومة ولا سلطة في النجف وأخرى في بغداد. إن تلك الحالات قللت من شأن السيد مقتدى الصدر في الوسط السياسي العام لكنها لاقت قبولاً مع استهجان مبطن غير معلن من الأوساط الناقمة على الحكومة العراقية الثانية برئاسة الدكتور إياد علاوي كما أن هذا الوسط لم يؤيد حكومة الصدر لأنها تحظى بتأييد قطاع واسع من الناس بل لأنها كما يتصورون كفيلة بإرباك الأجواء السياسية في العراق لصالح الفئات والاتجاهات التي تريد إعادة الأوضاع في العراق إلى المربع الأول ـ أي إلى ما قبل سقوط النظام.
إن السيد مقتدى الصدر لم يعمل في الساحة العراقية بالتناغم والتنسيق والتشاور مع القوى والمجموعات السياسية العراقية في الداخل وهي مجموعات وأحزاب عريقة ولديها تاريخ كفاحي طويل ودام ضد النظام البائد بل دخل بخصومة شديدة معها من خلال مجموعة من التصريحات غير الموفقة صدرت عنه وعن وكلاء ومحسوبين عليه ما كان يفترض أن يطلقها في مناخ سياسي ملبد وغير معروف الاتجاه في وقت كان الكل ينتظر بفارغ الصبر فشل التجربة العراقية الجديدة وإغراق البلاد في حمامات دم طائفية وقومية بين العرب والعرب الشيعة والسنة والأكراد والتركمان وسائر الفئات.
فلم يكن من المناسب مثلاً أن يتهم السيد الصدر المجاهدين العراقيين الذين قاتلوا طاغوت النظام البائد ثماني سنوات متواصلة في الحرب العراقية ـ الإيرانية بالعمالة وأن الأحزاب الإسلامية التي قاتلت النظام وقدمت عشرات الآلاف من الضحايا والقرابين هم أناس وافدون وعملاء القوى الكبرى في العالم ولا حصة لهم في العراق القادم. أو أنهم متواطئون ولا علاقة لهم بخدمة الشعب العراقي وأن عليهم أن يسلموا لقيادته وأمرته. وهناك حالات جرت في زمن مجلس الحكم الانتقالي معيبة وتدل على قيام السيد الصدر بممارسة فوقية غير مبررة ضد أعضاء في المجلس فالمعلومات تقول أن السيد الصدر كان يتصل بأحد أعضاء مجلس الحكم ويأمره بأن يأخذ أوامره والنواهي الشرعية والسياسية من مكتب ولي الأمر!!. في إشارة إلى مكتبه.
هذا التقاطع الذي أشرنا إلى عينات نادرة منه أحدث فجوة واضحة بين الصدر والمجموعات السياسية الإسلامية التي انقسمت بدورها على مقتدى الصدر انقسامها على أبيه حين كان على عرش المرجعية الدينية ـ انقسام ساحةٍ منقسمة أساساً يقودها رموز وقيادات ونخب وثقافات متباينة متباعدة البرامج والرؤى والتصورات ـ انقسام يؤيد الصدر ويعتبر (ثورته) و(جيشه) و(حضوره السياسي) و(صعوده المدوي) فرصة حقيقية نادرة وتاريخية لاختفاء أحزاب مناوئة لمشروع مرجعية الصدر الثاني كما هي فرصة للصعود السياسي بعد تحطيم هذه المجموعات التي دخلت ضد الصدر واتهمته بالعمالة للنظام وأنه مرشده ودليله وعينه على شيعة العراق وأن النظام أراد الإفادة من شيعة العراق بتنصيب مرجع عربي نجفي سيداً للحوزة والمرجعية قبالة (الزحف) الإيراني على قيادة المرجعية بعد تراجع دور النجف على حساب تقدم وحضور قم إيران.
طبعاً من غير الممكن ولا الطبيعي أو المنطقي أن يتناسى النجل مقتدى الصدر الدور الذي مارسته القوى الإسلامية المتطرفة في القول والفعل ضد والده والجلبة التي أحدثتها في الساحة العراقية والانعكاسات السلبية التي تركتها حول دور أبيه المرجع في تلك الساحة خصوصاً خارج العراق. ولذلك تحين السيد الصدر أول فرصة تاريخية أيضاً وهي فرصة سقوط النظام على أيدي القوات الأمريكية والبريطانية لمهاجمة هذه المجموعات ومحاولة عزلها وتطويق نفوذها السياسي والشعبي في الساحة العراقية. لذلك يعتقد خبراء أن السيد الصدر (الثالث) إنما أنشأ جيش المهدي لأجل تطويق البعد الشعبي لدى الأحزاب الإسلامية التي كان لديه موقف منها ومن وجودها، والتطويق هدفه العزل والتصدي للمستقبل السياسي لها وإفهامها أنها لا مكان لها في ساحة المسؤول عنها المرجع محمد صادق الصدر ولا غيره في مرحلة وزمان ومكان لم يكن فيه من يتصدى لحملات الطمس والتشويه والإبادة وانتشار إخطبوط الوهابية باستثناء الصدر الثاني.
إن السيد مقتدى الصدر كان محملاً بهذا الإرث التاريخي الثقيل وكان الأسى يُجلّل عينيه وهو ينظر لجثث أبيه وأخوته مسجاة من دون وداع شعبي يليق بهم وهم الذين نذروا أنفسهم للعراق وشعبه ثم ينظر ثانية فلا يجد غير أحزاب عريقة في القدم والنشأة والممارسة السياسية تنسى تاريخ أبيه معها وتوسعه طعناً وتشويهاً واستهدافاً قاسياً لنواياه في تعبئة الناس وإعادتها إلى الدين والطريقة المثلى في التعبد (صلاة الجمعة) وفوق هذا وذاك ورغم الشهادة المدوية في الشارع الاتهام الجارح بالعمل من أجل زيادة بطانة النظام وأنه مرجع السلطة وفقيهها!!.
اشهد.. لو كان أحد غير مقتدى الصدر يواجه هذا السيل الجارف والجارح من الكلمات والأباطيل والاتهامات لأبيه وعائلته وشهادة أخويه وإحساسه أن لهم فضل ـ وهذا مؤكد ـ على الشعب العراقي ولمستقبل الظاهرة الدينية ـ الشيعية لم يتصرف بأقل مما قام به مقتدى الصدر مع تلك الأحزاب السياسية.
لكن خطأ السيد مقتدى الصدر أنه تعامل مع الظاهرة الحزبية السياسية العراقية كونها ظاهرة واحدة وبقي على مسافات من بعضها ولم يتحدث لنا أحد أو قرأنا شيئاً عن توافقات سياسية حدثت بين (الحوزة الناطقة) التي يقودها السيد مقتدى الصدر والآخرين من أحزاب ومجموعات وحركات سياسية.
هذا الأمر يعتبر من بين الأخطاء القاتلة التي وقع بها مقتدى الصدر. فلو كان ميزّ بين الأحزاب ذات المواقف الواضحة في شكوكها إزاء والده المرجع من الأحزاب الإسلامية المعتدلة التي تعتبر الصدر الثاني أحد مؤسسي الحالة الإسلامية التعبديّة ـ السياسية ـ النهضوية في تاريخ العراق السياسي الحديث لكان خلق إرباكاً في المواقف بين المجموعات السياسية لن يسفر في النهاية إلاّ عن تحقيق 50% على الأقل من أصوات هذه الأحزاب إن لم نقل كلها لصالح تاريخ الصدر وحركته الراهنة. أما وقد حدث ما حدث فمن الصعب اعتبار مقتدى الصدر شريكاً حقيقياً يمكن الاعتماد عليه أو الثقة بجماعته ووكلائه وممثليه في أية صيغة سياسية سواء كانت ثنائية حزبية أو لها علاقة بانتخابات برلمانية رسمية!! وكل ما يحدث حالياً من مشاركات واجتماعات وتحالفات بمناسبة الحديث عن الانتخابات البرلمانية لانتخاب (270) عضواً للبرلمان العراقي الجديد (المجلس الوطني) فهو عمل لزيادة عدد الداخلين في هذا التحالف أو ذاك لتكثير الأصوات أو شرائها والاعتماد على قاعدة الصدر الجماهيرية وهي (من القواعد الواسعة في البلاد) والإفادة منها في يوم الاقتراع وإلا فإن الأحزاب السياسية لديها قلق شديد من أية صيغة لها علاقة بجيش المهدي وقيادته لأن من شأن تلك الصيغة توريط الطرف المتحالف بمشاكل لا طائل تحتها مع قوى واتجاهات وأجهزة لا يعلم بها إلا الله سبحانه والراسخون في معرفة التحالفات!!.
إن مقتدى الصدر لم يكن يتوقع في يوم أن تُسند (فجأة) قيادة تيار أبيه (التيار الصدري) إليه فيجد نفسه مرغماً على قبول شروط وأفكار وتصورات ومواقف ربما لا يكون مؤمناً بها إيمانه بالمواقف التي تصدر عن قناعاته الشخصية هو!!..
أنني اعتقد أن جزء من المواقف التي دافع عنها السيد الصدر من على منبر صلاة الجمعة أو في اللقاءات والاجتماعات المنفردة مع قادة الأحزاب السياسية ومجموعات الوساطة أو مع الاتجاهات المعارضة للسلطة في الفلوجة والرمادي وسامراء هي مواقف إملائية وليست قناعات سياسية (راكزة) مضافاً إلى أن عدداً من المعارك التي خاضها الصدر ودعى جمهوره إلى إشعال مثلها في مناطقهم (ربما) كانت معارك (آخرين) لكن الرجل استحسنها (فقهياً) وعلى مستوى الحماسة الشخصية لكنها ارتدّت (سياسياً) عليه فكانت وبالاً ونقمة وعلة العلل ولو أعاد التاريخ نفسه وراجع السيد مقتدى الصدر بعض التصريحات والبالونات والخطابات النارية لكان تحفظ على العديد منها، لكن التاريخ للأسف الشديد لن يعود إلى الوراء باستثناء المواقف المستعادة تعود إلى الخلف بهدف أن تتحول حسرات في أرواح مطلقيها وقادتها!!..
من جهةٍ أخرى لم يكن السيد مقتدى الصدر بالشاب الذي تغريه مباهج السلطة ومفاتن المواقع وبهارج التوزير وهو طبع في آل الصدر وليس (تمثيلاً) على أحد. لقد عرضت مناصب وفرشت الأرض من تحت الشهيد محمد باقر الصدر في أوائل ظهوره القيادي كمرجع فرفض في نهاية السبعينات لكنه سقط شهيد رفضه لها ومقتدى الصدر ربما لم يأخذ من محمد باقر الصدر ألا سيماء الملامح ورفض المباهج وهي فضيلة تحسب له وليست سيئة عليه!!..
هذا الشاب الممتلئ بالحماسة كان لديه مشروع وقناعات أهمها أن ترفع عمامة شيعية سوداء اتكاء على تاريخ من الرفض للحاكم المستبد ونهر من الدم المقدس لواء تحدي السياسة الأمريكية في عقر دارها الجديدة (بغداد) في مقابل هوس البعض وإفادتهم من الديمقراطية بمصطلح المقاومة وبينهم وبينها بعد المشرق عن المغرب.
لقد هال مقتدى الصدر هذا الشعور وكبر عليه أن يكون في آخر قائمة الذين لا موقف لهم من (المقاومة ) و(الاحتلال) و(الحرية) والدفاع عن المحرومين وهم القاعدة الشعبيّة التي يعتمد عليها في الحركة السياسية والسيادية في كافة المحافظات. من هنا كان موقفه من الاحتلال وبالطريقة التي شهدها العالم ولولا خوف البعض من الحرمان الأبدي والمباشر من ممارسة العمل السياسي والدخول في اللعبة السياسية والبعد عن السلطة من قبل من يمسك بعصا الحالة في العراق لكانت غالبية القوى السياسية في العراق ولا أقول كلها مع مقتدى الصدر. لكن قناعة هذه المجموعات السياسية بالعمل السلمي واستخدام كافة أساليب الممارسة المدنية لخروج القوات الأمريكية من البلاد هي التي أجلت هذا الاعتراف. ولعل بعضهم يتحدث بنبرة واضحة في المجالس أن مقتدى الصدر قاتل بالنيابة عن شرف المدافعين عن سيادة العراق ولم يعط هذا الشرف لمقاتلين جاءوا من خارج الحدود لمقاتلة الأمريكان لأهداف لا صلة لها بكفاح الشعب العراقي من أجل الحرية والديمقراطية.
مشكلة مقتدى الصدر أنه يفكر لوحده ولا يشرك أحداً من القوى السياسية الفاعلة التي يثق بها بهذا التفكير وحين يقرر شيئاً معيناً يتعلق بالسيادة أو بالاحتلال أو بكتابة الدستور أو بقانون إدارة الدولة العراقية أو باستيعاب ملايين العاطلين عن العمل من المحرومين من قاعدة أبيه في صلاة الجمعة وفي النهوض من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية فهو يريد موقفاً من الجميع وعندما يقف الجميع يتفرجون على ما يجري لأنهم أساساً ليسوا جزءاً من تفكيره التفت إليهم وعدهم بكلمات لا تليق بتاريخهم وكفاحهم وحضورهم وتضحياتهم الجسيمة.
والسؤال الذي يطرح نفسه
كيف يمكن بناء علاقات وثيقة بين مقتدى الصدر والمجموعات السياسية (الوافدة) ما دام الرجل يعتقد في قرارة نفسه أنها مجموعات غير فاعلة وغارقة إلى أذنيها في أوحَال العمالة للولايات المتحدة الأمريكية وأن الجو السياسي في البلاد غير صحي وأن لا وجود لمعارضة إسلامية ووطنية حقيقية في العراق للتواجد الأمريكي ـ البريطاني؟.
ليس من الهين أو السهل بناء جسر من الثقة بين هذه الأطراف جميعاً ولو كان السيد مقتدى الصدر يحترم هذه الأطراف الحزبية ويوقر وجودها ويعطيها المساحة والاهتمام اللذين يذكران لكان قبل في وقت سابق سيل الوساطات التي تقدمت بها. أن مقتدى الصدر (ربما) لم يرغب بربط حركته وإنهاء مواجهاته مع القوات الأمريكية والقبول بشروط معينة لإنهاء هذه المواجهات بإعطاء هذا الشرف لتنظيم حزبي أو سياسي أو شخصي بعينه. لقد أراد أن يكون قراره بحجم مواجهاته وأن الشخصية التي ستكون طرفه في معالجة الحرب المستمرة مع القوات الأمريكية رجلاً بحجم المعركة ـ معركة الاستقلال والحرية وأن يكون هذا الرجل تجسيداً حقيقياً لآمال ورغبات ونوازع الشعب العراقي في تحقيق هذه الشروط.. وهكذا كان الإمام السيستاني هو التجسيد لا باختيار السيد مقتدى الصدر أو غيره بل لأن الظروف التاريخية في البلاد شاءت أن يكون الإمام راعي المشكلة والبديل الموضوعي القادر على حلها.
حين بدأ الإمام مشوار فرض التسوية على الأطراف جميعها كان الآخرون من أطراف الأزمة يرحلون إلى ضفاف بلا أسلحة بل يحملون معهم قرار إيقاف القتال كون الرجل الذي يتوسط دائرة المواجهات يفهم شيئاً واحداً ويضع كل الاعتبارات جانباً إذا توقفت المصالح على ضفافه هو الشعب العراقي وأمنه واستقراره وهكذا كانت وثيقة النجف.
الملاحظة الأساسية التي يجب أن يتم إيلائها الاهتمام في النظر للسيد مقتدى الصدر هي أن الرجل وتياره لم يكونا ينظران لكافة مظاهر الحركية الإسلامية العراقية أحزاباً وتنظيمات بما هي أدوار لحضور الإسلام والشريعة الإسلامية وأهداف ثقافة تسعى لتكريس حضور الإسلام في الأمة وتقاتل من أجل الشعب العراقي وحقوقه الاجتماعية والسياسية وحرياته وأمنه واستقراره ولون بديله الديمقراطي المرتبط بتاريخ هذا الشعب وتراثه العربي ـ الإسلامي بل كونها تنظيمات فيها الكثير من الالتباس لجهة أفكارها وميولها السياسية وتلك النظرة لها أسباب تاريخية في تركيبة الرجل وتياره فعلى الرغم من أن مقتدى الصدر عاش في كنف والده المفكر والعالم المنتمي لعائلة الصدر لكن مقتدى تربى في أجواء عائلة لا علاقة لها بالعمل الحزبي هذا إذا لم تكن لديها في الوقت نفسه ملاحظات وإشكالات فقهية وشخصية على تجربة العمل الحزبي في العراق لذلك كان مقتدى الصدر في نشوءه الشخصي وفي تربيته السياسية بعيداً عن كل شيء له علاقة بالأحزاب الحركية الإسلامية المعاصرة.
الإمام السيستاني الذي كان يراقب مشهد العمل الحزبي بتأمل الفقهاء الكبار وأناتهم كان يدرك أن التقاطع سلبياً مع تلك الظاهرة يعني الابتعاد واختيار النأي سبيلاً في مواجهة حالات سياسية إسلامية لها جمهورها وقاعدتها البشرية لذلك فضل أن يكون بيته مقراً وحاضنة لكل الفئات السياسية التي تتوّزع الحركية الإسلامية عليها وهكذا شهدت وتشهد النجف بوجود الإمام السيستاني على الدوام لقاءات (قمة) بين الإمام وعدد من القيادات الرأسية في تركيبة الأحزاب الإسلامية وفي هذه اللقاءات يتم مناقشة ومعالجة وإثارة كافة أوجه الأمراض والأزمات والمشكلات التي يعيشها العراقيون بعد سقوط صدام. ورغم أن الإمام السيستاني يمتلك في موقعه الديني والقيادي والسياسي والروحي قيمومة على هامش واسع من سياق الحركة السياسية لكن الإمام يكتفي دائماً إلى الإشارة والتأكيد على الاهتمام بالقضايا المفصلية والرئيسية في الأمة.
خبير استراتيجي عربي مراقب يصف الإمام السيستاني بالشخصية المحورية ويشبهه في مضمون حركته وممارسة مسؤولياته السياسية والروحية بزعيم الموارنة المسيحيين في لبنان المطران مار بطرس نصر الله صفير وعلاقته بالتيارات والأحزاب السياسية وحضوره في مجمل سياق الحركة الوطنية اللبنانية ويقول هذا الخبير العربي المراقب للمؤلف في مقابلة معه (أن السيد السيستاني رجل قيادي يمارس مسؤلياته القيادية بوعي سياسي شديد ـ لا يتدخل في التفاصيل الصغيرة التي تشغله وتشتت تركيزه لكنه يلح في التدخل بالقضايا الاستراتيجية. وهو بهذا عالم دين استراتيجي وأنا أشبهه بالزعيم الماروني صفير لشدة الشبه بين الدورين فالرجلان يمارسان دوراً واحداً في البيئة السياسية والاجتماعية اللتين يعيشان فيهما ـ أن السيد السيستاني يشتغل في السياسة كاشتغاله في الفقه وهي مهمة ليست سهلة في ظرف كظرف العراق ومتغير دولي كالذي يعصف بأوضاعنا العربية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية( )
وفي العودة إلى الصدر يذكر أن عدداً من وكلائه والمتحدثين باسمه كانوا قبل سقوط النظام لا يعبأون بوجود أحزاب إسلامية عراقية ولا يقيمون وزناً للأسف الشديد للمرجعيات الدينية التي كان لها مكاتب في عدد من العواصم العربية وشخصياً شهدت (مظاهرة) غير لائقة قام بها مجموعة من (طلاب الحوزة الناطقة) أمام مكتب آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم حين غادر الحكيم بغداد إلى سوريا متوجهاً إلى العلاج في لندن. وفي تلك التظاهرة تم رفع شعارات مؤسفة لم تعبر عن وعي أو التزام بتقاليد أو احترام للرجل مهما كان له خلاف مع أي من الأوضاع والأشخاص والمراجع الآخرين إذ ليس بهذه السلوكيات يتم (النيل) من هذا المرجع أو ذاك وليس بمثل تلك التصرفات يمكن الاعتراض على سلوك هذا المرجع أو ذاك. يومها وفي تلك التظاهرة أدرك كل الذين شهدوها أن مشهد العراق سيكون شاهداً على أحداث مؤسفة ستخفف (ثقل) الطائفة الشيعية وتنال من (موقع) المرجعية الدينية في حياة الشعب العراقي وأمام أنظار أبناء ومسؤولي العواصم العربية التي تتواجد لها فيها مكاتب وممثليات وأدركوا أن المعركة القادمة لن تقل شراسة عن معركة نظام صدام البائد ضدنا حين كان هو في السلطة!!.
ملاحظة أخرى مهمة يجب ذكرها في السياق هي أن الإمام السيستاني الذي لم تسجل له أية مساهمة في قيادة أو توجيه حركيات حزبية وسياسية إسلامية عراقية وجد نفسه وسط تجاذبات خلاف قديم بين وجود يفلسف الأشياء والدين والقيادة على أساس ناطق وصامت ووجود لديه علاقات دولية عميقة وكبيرة وجوهرية ويسعى كلا الطرفين في الحقيقة إلى الهيمنة على النجف كمعقل أخير للأكثرية الشيعية التي بدت بعد سقوط النظام في مهب رياح أحزاب تريد استيعابها واعتماد قرارها الديني وجاذبيتها الروحية في قيادة الشعب العراقي. من المعلوم أن الذي يسيطر على النجف ومرجعياتها الدينية يستطيع (ضم) العراق كله ذلك أن الأكثرية العددية الشيعية تدين بالولاء الديني ومعتقدها السياسي لإمامة القيادة النجفية.
فماذا يفعل فقيه يقف على هرم القيادة الزمنية والروحية للمرجعية أمام خلاف (ربما) سيمتد لهيب نيرانه إلى الحوزات العلمية وما تبقى من كيان للعلم والمعرفة وتراث أهل البيت ثم في النجف (وربما) هي بداية سيئة لسحب البساط من تحت أقدام المرجعية الدينية القائدة والشاهدة في خضم صراع لا ينتهي على مناطق النفوذ في الوسط الشيعي وعلى من يقود الساحة خارج النجف من النجف؟.
إن أحد أهم عناصر القوة في شخصية الإمام السيستاني أنه يتحدث مع كل مفردات المشهد الحزبي والسياسي العراقي من أحزاب وقوى وحركات سياسية من دون أن يكون السيستاني جزءً من هذا الإطار أو ذاك لا على مستوى الإرشاد الروحي أو الزعامة السياسية وإلا لو كان كبقية المراجع وبعضهم يمتلك علاقات سابقة مع أحزاب إسلامية رابط تنظيمي لتدخل بعضهم لحل خلافات حادة نشبت قبل المعارك الأخيرة بين المجلس الأعلى مثلاً وأفراد من جيش المهدي في النجف لكن هؤلاء المراجع وقسم منهم في إيران فضلوا عدم النزول في التفاصيل المتعلقة بالخلاف بين الطرفين بسبب علاقات سابقة بين جيش المهدي وبينهم أو بينهم وبين قيادة المجلس الأعلى حين كان المجلس يتخذ طهران مقراً له أيام الصراع ضد النظام البائد.
إن هذه الميزة تعتبر رسالة يوجهها المرجع الأعلى السيد السيستاني لكل العلماء الأفاضل الذين يفكرون بتبوأ موقع ومقام المرجعية الدينية هي أن يكونوا آباء للحالات الإسلامية وليسوا جزء من سياقها التنظيمي لكي يحفظوا للإسلام حدوده وللفقيه دوره وحدوده وللحركية الإسلامية هامشها في العمل وفي يقين عديدين من أهل الخبرة والدراية بشؤون العمل الإسلامي. إن وجود السيد السيستاني على رأس المرجعية الدينية مع كامل استقلاله عن الانتماء لحزب أو إشراف فوقي على حالة حزبية رغم وجود عدد هائل من الأحزاب الإسلامية التي ترجع إليه في شتى المسائل تشكل حالة تحصين للساحة الإسلامية العراقية فلا تحصين من دون وجود قيادة دينية مستقلة في قرارها غير تابعة لتنظيم أو فقيه سياسي يقودها ويوجه مواقفها كما كان يحدث في سابق المعارضة الإسلامية العراقية ولا يمكن أن يستقيم الوضع الشيعي في العراق بجميع أبعاده الحركية والعشائرية وتجمعاته الأهلية والمدنية إلا بوجود قيادة مرجعية واعية ومتصدية وجريئة وقادرة في لحظات التحدي ومداهمة الأخطار أن تقول رأيها الذي تكمن فيه مصالح الإسلام وليست مصلحة حزب أو تنظيم أو شخص.
إن الإمام السيستاني حين دخل الأزمة وهو على فراش المعالجة وسرير العملية القلبية الجراحية، لم يدخلها بدوافع سياسية وحزبية أو مرجعية فردية أو بقصد تعبئة الجمهور العراقي ضد تيار أم شخص بعينه بل هدف من وراء ذلك كله الإحاطة بالأزمة وتطويق أثارها التي إن امتدت في الوسط الشيعي فسيعود هذا الوسط ثلاثة وثمانين عاماً أكثرية مقهورة بيد نظام طائفي ـ استبدادي قهري.
وحين دخل الأزمة ومارس وظيفته الشرعية ـ الوطنية الإسلامية لم يدخلها لكي يشطب على تاريخ أحد بل لكي يؤصل تاريخ كل العاملين الإسلاميين من الذين قاتلوا من أجل أن يكون العراق وطن كل الفئات والأديان والقوميات والأثنيات المختلفة. فما دام الرجل يشعر ـ وهذا حقه الشرعي ومنطلق وظيفته الربانية وموقعه القيادي في الأمة ـ أنه المسؤول عن مصير هذا الشعب ويمثل التجسيد النبيل لفكرة الخلاص وغاية الحرية وفلسفة البديل الاجتماعي السياسي الأفضل للأمة فأنه سيبقى خارج سرب كل التحالفات لكنه يلعب دور الجوهري والناظم والمتابع والمحدد للثوابت أما التفاصيل واقتراح الآليات فهو وظيفة المجموعات الإجرائية وموقف الإمام واضح في هذا المجال حين منع على رجال الدين استلام مهام رسمية في الدولة وأن يقتصر دورهم على الإرشاد والتوجيه والإسهام في بناء الدولة العادلة ـ دولة المساواة والسلام الأهلي.
تعليق