بسم الله وبالله وعلى ملة جدنا رسول الله
والصلاة والسلام على محمد وآله المتقين
لنتأمل بهذا القول العظيم الذي قاله الحسين صلوات الله عليه للظالمين الذين أرادوا قتله
(إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني)
ما أعظمه من قول ، والله لا يجرأ على قوله إلا من طهر الله قلبه وأعطاه نوراً من نوره
فالسلام على الحسين وعلى علي إبن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
ولنتأمل المعنى من التفسير العظيم :
والصلاة والسلام على محمد وآله المتقين
لنتأمل بهذا القول العظيم الذي قاله الحسين صلوات الله عليه للظالمين الذين أرادوا قتله
(إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني)
ما أعظمه من قول ، والله لا يجرأ على قوله إلا من طهر الله قلبه وأعطاه نوراً من نوره
فالسلام على الحسين وعلى علي إبن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
ولنتأمل المعنى من التفسير العظيم :
بينات من الآيات
[51] لقد وعد الله - ومن أصدق من الله قيلا - أن ينصر رسله الذين حملهم مسؤولية بلاغ وحيه ، و أمرهم بأن يتوكلوا عليه ، و يفوضوا أمورهم إليه ، و هيهات أن يخلف معهم وعده أو يخذلهم بعد أن أمرهم بالتوكل عليه ، أو يتركهم بعد ان فوضوا أمورهم الى حسن تدبيره.
وهذا النصر يمتد الى تابعي الرسل من المؤمنين ، لأنهم جميعا يشتركون في المسؤولية و العاقبة .
[ إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا ]
ولكي لا يزعم البعض أن نصر الله مخصوص بالآخرة فقد أكد أن نصره يمتد من الدنيا الى الآخرة :
[ في الحياة الدنيا ]
و القرآن الكريم كله شاهد على مسيرة النصر ، شروعا من نوح (ع) و انتهاءا بمحمد (ص) و مرورا بسائر النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين ، صلى عليهم جميعا مليك السماء .
وإذا سرنا في الأرض ، و أثرنا ذخائر المدن ، و بحثنا عن بقايا الحضارات البائدة ، وجدنا شواهد التاريخ تدلنا أيضا على تلك الحقيقة .
أما كتب التاريخ فبالرغم من أنها تأثرت بطبيعة المؤلفين لها إلا أن من قرأ فيها الحقائق و ترك التفسيرات يجد بين ثناياها ألف دليل و دليل على تلك الحقيقة .
و بكل المقاييس لا تزال حوادث الدنيا اليومية تشهد امتدادا لحركة الأنبياء ، عبر توسع الديانات السماوية و المزيد من التوجه الى تعاليمها .
بلى . إننا قد نجد مصير بعض الدعاة الشهادة اولا أقل الإعتقال و التهجير ، فأين النصر منهم ؟!
أولم يقتل السبط الشهيد بكربلاء ؟! كما قتل المئات من أنصار الحق بعد استتباب الأمر للأمويين ؟! بلى . ولكن النصر المطلوب ليس دائما انتصار الأشخاص ، بل قد يفدي الشخص نفسه لدينه و قيمه راضيا مسرورا ، وقد عبر أحد الشعراء عن هذه الحقيقة فيما يتصل بالامامالحسين سيد الشهداء (ع) :
إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فياسيوف خذينيوعندما سقط بطل الطف عن جواده مثخنا بالجروح البليغة ، و حوله تناثرت جثث أهل بيته و أصحابه ، وفي الأفق صيحات أطفاله : العطش العطش ، و عويل النساء و الثكالى ، حينذاك جمع حفنة من التراب ، و وضع خده عليها ، و ناجى ربه قائلا : " إلهي رضا برضاك ، لامعبود سواك " بلى . إنه كان يعلم أن السبيل
الوحيد لحمل الرسالة الى القلوب هو استشهاده ، وان قطرة الدم أبلغ أنباء من الكتب و الخطب .
ولا يزال السبط الشهيد عالما يستلهم منه أبناء أمتنا البطولات ، و ينتصرون لدينهم بأنفسهم ، و كأين من مؤمن اعتلى عرش المشانق مطمئنا راضيا لتنتصر قيمه المقدسة ، و كأين من مجاهد آثر الشهادة على الحياة ليعلوا بناء الحق و العدل ، و لتقوض أركان الظلم و الفساد .
و سؤال أخير : كيف ينتصر الرب لرسله و المؤمنين ؟
ليس بالضرورة أن يكون بصورة غيبية ، مما نجدها في طوفان نوح ، و تحول النار لإبراهيم الى برد وسلام ، و عصا موسى ، و إحياء الأموات عند عيسى ، و تأييد رسولنا الأكرم بالملائكة المسومين ، صلى الله عليهم جميعا .
بل قد يكون عبر السنن الجارية في الخليقة ، ذلك أن سنن الله الحاكمة في الكائنات قائمة على أساس الحق ( فقد خلق الله السموات و الأرض بالحق ) و رسالات الله تهدينا الى ذلــك الحق ، و رسل الله و المؤمنون مستقيمون عليه ، و تلتقي أفكارهم و أعمالهم عند نقطةالحق مع حركة الخلائق جميعا ، فلا جرم ينتصرون ، أرأيت لو أخبرت خصمك اللجوج أن الشمس تشرق بعد ساعة وكان حقا انباؤك ، فعند الشروق تنهار مقاومته ، لأنها سنة الله ألا تتأخر الشمس عن شروقها لمجرد أن شخصا لجوجا يجادل في ذلك ، كذلك حين أنبأت رسالات الله أنعاقبة الظالمين الدمار بالرغم من أنهم يجادلون في ذلك ، إلا أنه في ساعة الدمار لا أحد قادر على إنكار الحق ، هكذا سنن الله تجري في الإتجاه الذي تهتدي إليه رسالات الله ولن تجد لسنة الله تبديلا .
و التجلي الأعظم لحقيقة رسالات الله لا يكون إلا عند قيام الساعة ، ذلك لأنالدنيا دار ابتلاء ، و ستبقى فيها فرصة الإنكار أو الجدل لم حقت عليه كلمة الضلال ، فحتى عصا موسى الذي ابتلع حبال السحرة لم يفحم فرعون الجاحد بل قال للسحرة : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر . وكان الانسان أكثر شيء جدلا .
وهكذا ذكرتنا الآية هنا : أن النصر الشامل للرسل يكون عند انتهاء وقت الإمتحان و حلول ساعة الجزاء .
[ و يوم يقوم الأشهاد ]
هنالك الولاية لله و الشهادة لأوليائه ، حيث يرى الناس المقام الكريم و المقام المحمود للرسل و المؤمنين حيث يقومون بالشهادة لهذا فيدخل الجنة وعلى هذا فيدخله الله النار .
[52] أما الظالمون فهم الخاسرون إذ لا تنفعهم الأعذار التي عادة يبررون بها ظلمهم في الدنيا ، كما أنهم يلاحقون بلعنة الله و الطرد عن بركاته و رحماته ، كما أن مستقرهم الأخير يكون النار .
[ يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ][53] لقد نصر الله المؤمنين من بني اسرائيل عندما هيأ لهم قائدا كريما كموسى بن عمران ، و زوده بالتوراة ، فيها هدى يحتوي على جملة القيم و التعاليم المباركة ، و فيها ذكرى و مواعظ لم شاء أن يزداد قربا من ربه و وصولا الى الحقائق التي هي اللباب و الجوهر.
[ ولقد ءاتينا موسى الهدى و أورثنا بني اسرائيل الكتاب ]و يبدو أن الوراثة هنا توحي إلى أمرين :
الأول : إن الكتاب أعظم رأسمال و اكبر مجد ، و كان بمثابة المحور الثابت الذي تدور حوله فاعليات الأمة .
الثاني : إن الكتاب ظل بينهم يرثه الجيل بعد الجيل بينما رحل عنهم قائدهم موسى عليه السلام .
[54] ولم يكن وجود الكتاب بين بني اسرائيل بذاته مفخرة لهم بل الاهتداء به و التذكر بآياته وهذا كان خاصا بأولي الألباب .
[ هدى و ذكرى لأولى الألباب ]
[55] ماذا ينبغي أن يقوم به الرسل و المؤمنون تمهيدا لنصر الله ، بل و ثمنا مدفوعا سلفا لهذه النعمة الكبرى ؟
أولا : لابد من الصبر ، و الذي يعني - بمعناه الشامل - الصبر في تنفيذ الأوامر ، و الصبر عند الشدائد ، و بكلمة : السعي و الإجتهاد الآن انتظارا للنتائج المستقبلية ، فمن كان عجولا ، وكان يفتش عن نتائج سريعة ، فإنه لن يبلغ مناه .. و رأسمال الصبر الإيمانبوعد الله ، وأنه حق لا ريب فيه .
[ فاصبر إن وعد الله حق ]
ثانيا : الإستغفار الذي يسقط سدود الذنوب التي تمنع النصر الإلهي ، و يهيء أرضية الفتح ، و يوجه الانسان الى نواقصه الذاتية لكي يصلحها .
[ و استغفر لذنبك ]
ثالثا : التقرب الى الله بالمزيد من التسبيح و التقديس لمقام ربنا الكريم ، حتى لا نظن بربنا ظن السوء فيوسوس الشيطان في قلوبنا الشكوك حول وعده أو نفقد خلال المسيرة شيئا من عزمنا في تأييد دينه .
رابعا : التقرب الى الله بحمده عشيا و بكورا ، ذلك أن حمد الله يجعلنا نتبصر النعم التي اسبغها علينا فتمنع عنا القنوط و النظرة التشاؤمية .
[ و سبح بحمد ربك بالعشي و الإبكار ]
إن حمد الله يؤدي الى تسبيحه ، فمن عرف ان ما تصيبنا من حسنة فمن عنده وما تصيبنا من سيئة فمن عند أنفسنا نزه ربه من النقص و نسبة السيئات إليه سبحانه .
ولعل هذا أحد معاني الباء في قوله " بحمد ربك " فيكون الحمد وسيلة التقديس لربنا العظيم ، وهو أقرب من أن نجعل معنى الباء مجرد المعية ليكون المفهوم سبح و احمد ربك .
[56] ولابد ان نسلم لرب العالمين ، و معنى التسليم له الايمان بآياته و الاحتراز من الجدل فيها ، فمن يجادل فيها إنطلاقا من أهوائه و بغير سلطان مبين و حجة واضحة من عقله فقد استحوذ عليه الشيطان ، و أثار في نفسه الكبر الذي انطوت عليه حيث نازعت رب العزةرداء الإلوهية فأخزاه الله و لعنه و أبعده عن تحقيق مناه .
[ إن الذين يجادلون في ءايات الله ]
المجادل في آيات الله يغلق منافذ قلبه عن النور . أوليست آيات الله في الطبيعة و آياته في الكتاب تجليات لظهوره و أمواج نوره ، فمن نظر اليها نظرة ذاتية دون أنيجعلها وسيلة لبلوغ غيرها أصيب بالعمى . أرأيت الذي ينظر الى المرآة ليعرف طولها و عرضها ، لايمكن أن ينظر الى صورته فيها ، أورأيت الذي يلاحظ في علامات السير طبيعة خطها و طريقة صنعها ، لا ينتفع بإشاراتها ، كذلك عالم الطبيعة الذي يركز نظره في خصائص المادةدون أن يجعلها معبرا الى أسماء الله .
ومن الناس من عقد عزمه على ألا يعرف الحقيقة ، لأن الحقيقة تخالف ما انطوت عليه نفسه من الكبر ، بل إن مجرد التسليم لها يتنافى و حالة الكبر التي في قلبه .
بلى . إنما يجوز الجدال في آيـــات الله إذا كان يملك الانسان الحجة الكافية من الله ، حينئذ يمكن تفسير آية أو تأويلها إنطلاقا من تلك الحجة ، و أخذا بمبدأ النسخ في الآيات كما قال ربنا : " ما ننسخ من آية " .
أما من لا يملك حجة و سلطانا ، فلا يجوز له إلا التسليم .
[ بغير سلطان أتاهم ]
و يبدو أن المراد منه الوحي .
[ إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ]
ماهو ذا الكبر الذي لا يبلغوه ؟ هل هو مطلق الكبر و حب الذات ، وهو النفس ؟ أم أنه أكبر من ذلك ؟
يبدو لي أنه نزعة الألوهية في النفس ، حيث يزعم الانسان أنه قادر على بلوغ درجة الألوهية بإمكاناته المحدودة ، و بعمره القصير .. ولعل سائر الخصال الذميمة تنبع من هذا الإحساس الخاطئ ، و بالرغم من أن الانسان لن يحقق هذه الرغبةفإنه يتعب نفسه من أجلها حتى يكون من الهالكين ، و أبرز مثل لهذه النزعة الفراعنة و الطغاة الذين ينازعون الله رداء العظمة ، وإنما أثار إبليس هذه النزعة في نفس آدم أبي البشر حين أطمعه في الخلود و الملك الدائم .
و كفار قريش وكل الكفار في التاريخ و الحاضر يتبعون هذه النزعة حين يرفضون التسليم للحق ، لأن تسليمهم للحق يفرض عليهم التسليم لقيمه و شرائعه ، ولمن يمثل تلك القيم و ينفذ الشرائع من القيادات الإلهية .
و إن العلــم - أي علم - يفرض على صاحبه مسؤولية ولذلك فهو صعب مستصعب ، لأن احتمال المسؤولية أمر عظيم ، لذلك ترفض النفس البشرية الإنفتاح أمام حقائق العلم إلا بصعوبة بالغة .
ولكي نتخلص من جذر الفساد في النفس وهو هذا الكبر ، علينا أن نستعيذ بالله ، لأن الشيطان غوي مضل مبين ، وهو يتقن أساليب المكر و الخداع ، و يعرف من أين يدخل في قلب هذا البشر الساذج ، ولولا الإستعاذة بالله تضعف النفس أمام وساوسه و أمانيه .
[ فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ]
فهو يسمع أقوال المتكبرين و المجادلين و يبصر أعمالهم ، كما يسمع همسات المناجين ربهم المستعيذين من مكر الشيطان و يبصر أعمالهم .
و نتساءل : كيف نستعيذ بالله ؟
أولا : بالدعاء و المناجاة . و الملاحظ أن المؤمن قد تهجم عليه أمواج البلاء أو صنوف الإغراء فيتردد قليلا في الأمر ، ولكنه بمجرد أن يدعو الله حتى يعطيه القوةالكافية لمقاومة الشيطان .
ثانيا : بمعرفة الله و التقرب اليه بذكره و تسبيحه و الثقة بنصره .
[57] ومن الوسائل الناجحة لمحاربة كبر النفس النظر في عظيم خلق الله و قيامه بذاتـــه ، فهل أنا المتكبر أكبر أم الجبال أم الأرض أم الشمس و القمر ؟! و أساسا : من أنا بالقياس الى هذا الخلق العظيم ؟!
[ لخلق السموات و الأرض أكبر من خلق الناس ]
تعالـوا لننظر الى ملكوت السموات و الأرض ، لنتعرف على الحجم الحقيقي لأنفسنا ، أنا واحد من خمسة آلاف مليون انسان يمشون اليوم فوق كوكبنا ، و الانسان واحد من ألوف الأحياء ، و الأحياء نوع من عشرات الأجناس غير الحية ، ثم كل ما في الأرض لا تحتل إلا مساحةمحدودة منها ، ثم إني لا أعيش عليها إلا سنين معدودات ، لو قيست بالملايين من سني عمر الأرض لكانت كلحظة خاطفة .
ثم الأرض هذه تابع صغير للشمس ، فحجمها أقل من واحد الى مليون من حجم أمها ، وهي لاتزال تعيش على مقربة منها كالرضيع لا يبتعد عن أمه ، ولكن مع ذلك تبلغ المسافة بين كوكبنا و الشمس حوالي ثلاثة و تسعين مليون ميل !!
أما الشمس فهي من عضوات مجرة تحتوي على نحو من مائة مليون شمس .. ولكن هذه المجرة ليست الوحيدة في هذا الفضاء الأرحب ، بل هي واحدة من عشرات الملايين من المجرات اكتشفها البشر ، و كلما اخترعوا أجهزة جديدة اكتشفوا ملايين جديدة من المجرات ، حتى شاعت بين علماء الفضاء فكرة تقول : إن الكون يشهد ولادة مجرات جديدة لا تستطيع أن تلاحقها أجهزتنا المتطورة ..
الله أكبر .. من أنا أمام هذا الحشد من المجرات !
هكذا قال رسولنا الأكرم لزينب العطارة التي زارته في بيته قائلة : إنما جئتك أسألك عن عظمة الله ، فقال : جل جلال الله ، سأحدثك عن بعض ذلك .
ثم قال : وإن هذه الأرض بمن فيها ومن عليها عند التي تحتها كحلقة في فلاة قي (1) ، وهاتان ومن فيهما ومن عليهما عند التي تحتها كحلقة في فلاة قي و الثالثة .. حتــى انتهى الى السابعة ، ثم تلا هذه الآية : " خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن " (2)
و مضى الرسول (ص) يبين طبقات الأرض وما وراءها ، و أن الواحدة منها بالنسبة الى تاليتها كحلقة فلاة واسعة ، الى أن قال عن السماء : " و السماء الدنيا ومن فيها ومن عليها عند التي فوقها كحلقة في فلاة قي ، و هذا و هاتان السماء ان عند الثانية كحلقة فيفلاة قي ، وهذه الثالثة ومن فيهن ومن عليهن عند الرابعة كحلقة في فلاة قي ، حتى أنتهى الى السابعة ، وهذه السبع ومن فيهن ومن عليهم عند البحر المكفوف عن أهل الأرض كحلقة في فلاة قي " (3)و مضى النبي (ص) يبين عظمة خلق الله حيث أن بعض خلقه أعظم من بعض كما الحلقة الصغيرة في الصحراء المترامية ، وهو أقرب مثل لاتساع المنظومات الشمسية و المجرات وما أشبه .
فهل يحق لنا أن نتكبر على ربنا الواسع الذي وسع كرسيه السموات و الأرض أو ندعى مقامه سبحانه ؟!
هذا في أفق المكان و امتداده . أما عن الزمان و امتداده فنحن لسنا أول ما خلق(1) القفر من الأرض .
(2) الطلاق / 12
(3) التوحيد ( للشيخ الصدوق ) ص 276
الله ، ولن نكون آخر خلقه سبحانه ، جاء في حديث مأثور عن الامام الباقر (ع) أنه قال في تفسير قوله تعالى : " أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد " (1) قال : يا جابر تأويل ذلك ان الله عز وجل إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم ، وسكن أهل الجنة الجنة و أهل النار النار ، جدد عالما غير هذا العالم ، و جدد خلقا من غير فحولة ولا إناث يعبدونه و يوحدونه ، و خلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، و سماء غير هذه السمــــاء تظلهم . لعلك ترى إنما خلق هذا العالم الواحد و ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم، بلى و الله لقد خلق الله ألف ألف عالم و ألف ألف آدم في آخر تلك العوالم و أولئك الآدميين " (2)و أخيرا يرى بعض علماء النفس أن أفضل وسيلة لتربية الانسان أن يعطى له عند بلوغه مبلغ الرجال جهازان يرى بهما عظمة الخلائق ، جهاز ميكروسكوب يرى به عجيب لطف الصنع في خلقة الموجودات المتناهية في الصغر ، و جهاز تلسكوب يرى به عظيم القدرة في خلقة الأجرام المتناهية في الكبر .
[58] هل يستوي من يستوعب هذه الحقائق ببصيرة قلبه فيكون كالبصير ، والذي هو أعمى حتى لو اقتربت منه حقائق الكون جميعا لا يعيها ولا يستوعب دروسها ، و تراه كالشرنقــة لا يزال في تلك الزنزانة الضيقة من نسيج أهوائه و شهواته و وساوس الشيطان .
[ وما يستوي الأعمى و البصير و الذين ءامنوا و عملوا الصالحات ولا المسيء ]أرأيت الذي قضى عمره في جزيرة مهجورة لا يعلم عن الدنيا شيئا ، هل يختلف(1) ق / 15
(2) المصدر / ص 277
بالنتيجة عمن يعيش في غرفة ضيقة في وسط أضخم العواصم قد حجب نفسه عن كل ما حوله ؟ كلا .. كذلك الكافر الذي تحيط به حقائق الكون فلا يستوعبها ، ولا يعيش قلبه في أجوائها ولا تعيها بصيرة نفسه ، بل هو في ظلام جهله و جهالته ، لا يعترف بشيء غير نفسه و أهوائها ،إنه أشد عمى ممن فقد عينيه . أليس كذلك ؟
وكم هو فرق بينه و بين من يعيش عوالم الخلق جميعا في ضميره و وعيه ، و يرى نفسه منها ولابد أن يتناغم سلوكه و سننها ، لأنه يؤمن بربها العظيم ، و يعمل الصالحات التي أمر بها كما أمر سائر العوالم بمثلها .
[ قليلا ما تتذكرون ]
[59] وفي خاتمة الدرس يلخص السياق عبرة الحقائق التي ذكر بها أنها الساعة حيث يتبدل النظام القائم هنا على أساس الإبتلاء ، بنظام يقوم على أساس الشهود و الجزاء .
[ إن الساعة لأتية لاريب فيها ]
وكيف يرتاب في يوم تدل كل حقائق العالم على أنه المنتهى ، فحكمة الله التي تتجلى في كل خليقة صغيرة أو كبيرة تدلنا بوضوح كاف على يوم الجزاء .
[ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ]
فلا تتبع سلوكهم ، و ذرهم يخوضوا في لهوهم ، و انقذ نفسك من المصير الذي ينتهون إليه بكفرهم بها .
[51] لقد وعد الله - ومن أصدق من الله قيلا - أن ينصر رسله الذين حملهم مسؤولية بلاغ وحيه ، و أمرهم بأن يتوكلوا عليه ، و يفوضوا أمورهم إليه ، و هيهات أن يخلف معهم وعده أو يخذلهم بعد أن أمرهم بالتوكل عليه ، أو يتركهم بعد ان فوضوا أمورهم الى حسن تدبيره.
وهذا النصر يمتد الى تابعي الرسل من المؤمنين ، لأنهم جميعا يشتركون في المسؤولية و العاقبة .
[ إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا ]
ولكي لا يزعم البعض أن نصر الله مخصوص بالآخرة فقد أكد أن نصره يمتد من الدنيا الى الآخرة :
[ في الحياة الدنيا ]
و القرآن الكريم كله شاهد على مسيرة النصر ، شروعا من نوح (ع) و انتهاءا بمحمد (ص) و مرورا بسائر النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين ، صلى عليهم جميعا مليك السماء .
وإذا سرنا في الأرض ، و أثرنا ذخائر المدن ، و بحثنا عن بقايا الحضارات البائدة ، وجدنا شواهد التاريخ تدلنا أيضا على تلك الحقيقة .
أما كتب التاريخ فبالرغم من أنها تأثرت بطبيعة المؤلفين لها إلا أن من قرأ فيها الحقائق و ترك التفسيرات يجد بين ثناياها ألف دليل و دليل على تلك الحقيقة .
و بكل المقاييس لا تزال حوادث الدنيا اليومية تشهد امتدادا لحركة الأنبياء ، عبر توسع الديانات السماوية و المزيد من التوجه الى تعاليمها .
بلى . إننا قد نجد مصير بعض الدعاة الشهادة اولا أقل الإعتقال و التهجير ، فأين النصر منهم ؟!
أولم يقتل السبط الشهيد بكربلاء ؟! كما قتل المئات من أنصار الحق بعد استتباب الأمر للأمويين ؟! بلى . ولكن النصر المطلوب ليس دائما انتصار الأشخاص ، بل قد يفدي الشخص نفسه لدينه و قيمه راضيا مسرورا ، وقد عبر أحد الشعراء عن هذه الحقيقة فيما يتصل بالامامالحسين سيد الشهداء (ع) :
إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فياسيوف خذينيوعندما سقط بطل الطف عن جواده مثخنا بالجروح البليغة ، و حوله تناثرت جثث أهل بيته و أصحابه ، وفي الأفق صيحات أطفاله : العطش العطش ، و عويل النساء و الثكالى ، حينذاك جمع حفنة من التراب ، و وضع خده عليها ، و ناجى ربه قائلا : " إلهي رضا برضاك ، لامعبود سواك " بلى . إنه كان يعلم أن السبيل
الوحيد لحمل الرسالة الى القلوب هو استشهاده ، وان قطرة الدم أبلغ أنباء من الكتب و الخطب .
ولا يزال السبط الشهيد عالما يستلهم منه أبناء أمتنا البطولات ، و ينتصرون لدينهم بأنفسهم ، و كأين من مؤمن اعتلى عرش المشانق مطمئنا راضيا لتنتصر قيمه المقدسة ، و كأين من مجاهد آثر الشهادة على الحياة ليعلوا بناء الحق و العدل ، و لتقوض أركان الظلم و الفساد .
و سؤال أخير : كيف ينتصر الرب لرسله و المؤمنين ؟
ليس بالضرورة أن يكون بصورة غيبية ، مما نجدها في طوفان نوح ، و تحول النار لإبراهيم الى برد وسلام ، و عصا موسى ، و إحياء الأموات عند عيسى ، و تأييد رسولنا الأكرم بالملائكة المسومين ، صلى الله عليهم جميعا .
بل قد يكون عبر السنن الجارية في الخليقة ، ذلك أن سنن الله الحاكمة في الكائنات قائمة على أساس الحق ( فقد خلق الله السموات و الأرض بالحق ) و رسالات الله تهدينا الى ذلــك الحق ، و رسل الله و المؤمنون مستقيمون عليه ، و تلتقي أفكارهم و أعمالهم عند نقطةالحق مع حركة الخلائق جميعا ، فلا جرم ينتصرون ، أرأيت لو أخبرت خصمك اللجوج أن الشمس تشرق بعد ساعة وكان حقا انباؤك ، فعند الشروق تنهار مقاومته ، لأنها سنة الله ألا تتأخر الشمس عن شروقها لمجرد أن شخصا لجوجا يجادل في ذلك ، كذلك حين أنبأت رسالات الله أنعاقبة الظالمين الدمار بالرغم من أنهم يجادلون في ذلك ، إلا أنه في ساعة الدمار لا أحد قادر على إنكار الحق ، هكذا سنن الله تجري في الإتجاه الذي تهتدي إليه رسالات الله ولن تجد لسنة الله تبديلا .
و التجلي الأعظم لحقيقة رسالات الله لا يكون إلا عند قيام الساعة ، ذلك لأنالدنيا دار ابتلاء ، و ستبقى فيها فرصة الإنكار أو الجدل لم حقت عليه كلمة الضلال ، فحتى عصا موسى الذي ابتلع حبال السحرة لم يفحم فرعون الجاحد بل قال للسحرة : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر . وكان الانسان أكثر شيء جدلا .
وهكذا ذكرتنا الآية هنا : أن النصر الشامل للرسل يكون عند انتهاء وقت الإمتحان و حلول ساعة الجزاء .
[ و يوم يقوم الأشهاد ]
هنالك الولاية لله و الشهادة لأوليائه ، حيث يرى الناس المقام الكريم و المقام المحمود للرسل و المؤمنين حيث يقومون بالشهادة لهذا فيدخل الجنة وعلى هذا فيدخله الله النار .
[52] أما الظالمون فهم الخاسرون إذ لا تنفعهم الأعذار التي عادة يبررون بها ظلمهم في الدنيا ، كما أنهم يلاحقون بلعنة الله و الطرد عن بركاته و رحماته ، كما أن مستقرهم الأخير يكون النار .
[ يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ][53] لقد نصر الله المؤمنين من بني اسرائيل عندما هيأ لهم قائدا كريما كموسى بن عمران ، و زوده بالتوراة ، فيها هدى يحتوي على جملة القيم و التعاليم المباركة ، و فيها ذكرى و مواعظ لم شاء أن يزداد قربا من ربه و وصولا الى الحقائق التي هي اللباب و الجوهر.
[ ولقد ءاتينا موسى الهدى و أورثنا بني اسرائيل الكتاب ]و يبدو أن الوراثة هنا توحي إلى أمرين :
الأول : إن الكتاب أعظم رأسمال و اكبر مجد ، و كان بمثابة المحور الثابت الذي تدور حوله فاعليات الأمة .
الثاني : إن الكتاب ظل بينهم يرثه الجيل بعد الجيل بينما رحل عنهم قائدهم موسى عليه السلام .
[54] ولم يكن وجود الكتاب بين بني اسرائيل بذاته مفخرة لهم بل الاهتداء به و التذكر بآياته وهذا كان خاصا بأولي الألباب .
[ هدى و ذكرى لأولى الألباب ]
[55] ماذا ينبغي أن يقوم به الرسل و المؤمنون تمهيدا لنصر الله ، بل و ثمنا مدفوعا سلفا لهذه النعمة الكبرى ؟
أولا : لابد من الصبر ، و الذي يعني - بمعناه الشامل - الصبر في تنفيذ الأوامر ، و الصبر عند الشدائد ، و بكلمة : السعي و الإجتهاد الآن انتظارا للنتائج المستقبلية ، فمن كان عجولا ، وكان يفتش عن نتائج سريعة ، فإنه لن يبلغ مناه .. و رأسمال الصبر الإيمانبوعد الله ، وأنه حق لا ريب فيه .
[ فاصبر إن وعد الله حق ]
ثانيا : الإستغفار الذي يسقط سدود الذنوب التي تمنع النصر الإلهي ، و يهيء أرضية الفتح ، و يوجه الانسان الى نواقصه الذاتية لكي يصلحها .
[ و استغفر لذنبك ]
ثالثا : التقرب الى الله بالمزيد من التسبيح و التقديس لمقام ربنا الكريم ، حتى لا نظن بربنا ظن السوء فيوسوس الشيطان في قلوبنا الشكوك حول وعده أو نفقد خلال المسيرة شيئا من عزمنا في تأييد دينه .
رابعا : التقرب الى الله بحمده عشيا و بكورا ، ذلك أن حمد الله يجعلنا نتبصر النعم التي اسبغها علينا فتمنع عنا القنوط و النظرة التشاؤمية .
[ و سبح بحمد ربك بالعشي و الإبكار ]
إن حمد الله يؤدي الى تسبيحه ، فمن عرف ان ما تصيبنا من حسنة فمن عنده وما تصيبنا من سيئة فمن عند أنفسنا نزه ربه من النقص و نسبة السيئات إليه سبحانه .
ولعل هذا أحد معاني الباء في قوله " بحمد ربك " فيكون الحمد وسيلة التقديس لربنا العظيم ، وهو أقرب من أن نجعل معنى الباء مجرد المعية ليكون المفهوم سبح و احمد ربك .
[56] ولابد ان نسلم لرب العالمين ، و معنى التسليم له الايمان بآياته و الاحتراز من الجدل فيها ، فمن يجادل فيها إنطلاقا من أهوائه و بغير سلطان مبين و حجة واضحة من عقله فقد استحوذ عليه الشيطان ، و أثار في نفسه الكبر الذي انطوت عليه حيث نازعت رب العزةرداء الإلوهية فأخزاه الله و لعنه و أبعده عن تحقيق مناه .
[ إن الذين يجادلون في ءايات الله ]
المجادل في آيات الله يغلق منافذ قلبه عن النور . أوليست آيات الله في الطبيعة و آياته في الكتاب تجليات لظهوره و أمواج نوره ، فمن نظر اليها نظرة ذاتية دون أنيجعلها وسيلة لبلوغ غيرها أصيب بالعمى . أرأيت الذي ينظر الى المرآة ليعرف طولها و عرضها ، لايمكن أن ينظر الى صورته فيها ، أورأيت الذي يلاحظ في علامات السير طبيعة خطها و طريقة صنعها ، لا ينتفع بإشاراتها ، كذلك عالم الطبيعة الذي يركز نظره في خصائص المادةدون أن يجعلها معبرا الى أسماء الله .
ومن الناس من عقد عزمه على ألا يعرف الحقيقة ، لأن الحقيقة تخالف ما انطوت عليه نفسه من الكبر ، بل إن مجرد التسليم لها يتنافى و حالة الكبر التي في قلبه .
بلى . إنما يجوز الجدال في آيـــات الله إذا كان يملك الانسان الحجة الكافية من الله ، حينئذ يمكن تفسير آية أو تأويلها إنطلاقا من تلك الحجة ، و أخذا بمبدأ النسخ في الآيات كما قال ربنا : " ما ننسخ من آية " .
أما من لا يملك حجة و سلطانا ، فلا يجوز له إلا التسليم .
[ بغير سلطان أتاهم ]
و يبدو أن المراد منه الوحي .
[ إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ]
ماهو ذا الكبر الذي لا يبلغوه ؟ هل هو مطلق الكبر و حب الذات ، وهو النفس ؟ أم أنه أكبر من ذلك ؟
يبدو لي أنه نزعة الألوهية في النفس ، حيث يزعم الانسان أنه قادر على بلوغ درجة الألوهية بإمكاناته المحدودة ، و بعمره القصير .. ولعل سائر الخصال الذميمة تنبع من هذا الإحساس الخاطئ ، و بالرغم من أن الانسان لن يحقق هذه الرغبةفإنه يتعب نفسه من أجلها حتى يكون من الهالكين ، و أبرز مثل لهذه النزعة الفراعنة و الطغاة الذين ينازعون الله رداء العظمة ، وإنما أثار إبليس هذه النزعة في نفس آدم أبي البشر حين أطمعه في الخلود و الملك الدائم .
و كفار قريش وكل الكفار في التاريخ و الحاضر يتبعون هذه النزعة حين يرفضون التسليم للحق ، لأن تسليمهم للحق يفرض عليهم التسليم لقيمه و شرائعه ، ولمن يمثل تلك القيم و ينفذ الشرائع من القيادات الإلهية .
و إن العلــم - أي علم - يفرض على صاحبه مسؤولية ولذلك فهو صعب مستصعب ، لأن احتمال المسؤولية أمر عظيم ، لذلك ترفض النفس البشرية الإنفتاح أمام حقائق العلم إلا بصعوبة بالغة .
ولكي نتخلص من جذر الفساد في النفس وهو هذا الكبر ، علينا أن نستعيذ بالله ، لأن الشيطان غوي مضل مبين ، وهو يتقن أساليب المكر و الخداع ، و يعرف من أين يدخل في قلب هذا البشر الساذج ، ولولا الإستعاذة بالله تضعف النفس أمام وساوسه و أمانيه .
[ فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ]
فهو يسمع أقوال المتكبرين و المجادلين و يبصر أعمالهم ، كما يسمع همسات المناجين ربهم المستعيذين من مكر الشيطان و يبصر أعمالهم .
و نتساءل : كيف نستعيذ بالله ؟
أولا : بالدعاء و المناجاة . و الملاحظ أن المؤمن قد تهجم عليه أمواج البلاء أو صنوف الإغراء فيتردد قليلا في الأمر ، ولكنه بمجرد أن يدعو الله حتى يعطيه القوةالكافية لمقاومة الشيطان .
ثانيا : بمعرفة الله و التقرب اليه بذكره و تسبيحه و الثقة بنصره .
[57] ومن الوسائل الناجحة لمحاربة كبر النفس النظر في عظيم خلق الله و قيامه بذاتـــه ، فهل أنا المتكبر أكبر أم الجبال أم الأرض أم الشمس و القمر ؟! و أساسا : من أنا بالقياس الى هذا الخلق العظيم ؟!
[ لخلق السموات و الأرض أكبر من خلق الناس ]
تعالـوا لننظر الى ملكوت السموات و الأرض ، لنتعرف على الحجم الحقيقي لأنفسنا ، أنا واحد من خمسة آلاف مليون انسان يمشون اليوم فوق كوكبنا ، و الانسان واحد من ألوف الأحياء ، و الأحياء نوع من عشرات الأجناس غير الحية ، ثم كل ما في الأرض لا تحتل إلا مساحةمحدودة منها ، ثم إني لا أعيش عليها إلا سنين معدودات ، لو قيست بالملايين من سني عمر الأرض لكانت كلحظة خاطفة .
ثم الأرض هذه تابع صغير للشمس ، فحجمها أقل من واحد الى مليون من حجم أمها ، وهي لاتزال تعيش على مقربة منها كالرضيع لا يبتعد عن أمه ، ولكن مع ذلك تبلغ المسافة بين كوكبنا و الشمس حوالي ثلاثة و تسعين مليون ميل !!
أما الشمس فهي من عضوات مجرة تحتوي على نحو من مائة مليون شمس .. ولكن هذه المجرة ليست الوحيدة في هذا الفضاء الأرحب ، بل هي واحدة من عشرات الملايين من المجرات اكتشفها البشر ، و كلما اخترعوا أجهزة جديدة اكتشفوا ملايين جديدة من المجرات ، حتى شاعت بين علماء الفضاء فكرة تقول : إن الكون يشهد ولادة مجرات جديدة لا تستطيع أن تلاحقها أجهزتنا المتطورة ..
الله أكبر .. من أنا أمام هذا الحشد من المجرات !
هكذا قال رسولنا الأكرم لزينب العطارة التي زارته في بيته قائلة : إنما جئتك أسألك عن عظمة الله ، فقال : جل جلال الله ، سأحدثك عن بعض ذلك .
ثم قال : وإن هذه الأرض بمن فيها ومن عليها عند التي تحتها كحلقة في فلاة قي (1) ، وهاتان ومن فيهما ومن عليهما عند التي تحتها كحلقة في فلاة قي و الثالثة .. حتــى انتهى الى السابعة ، ثم تلا هذه الآية : " خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن " (2)
و مضى الرسول (ص) يبين طبقات الأرض وما وراءها ، و أن الواحدة منها بالنسبة الى تاليتها كحلقة فلاة واسعة ، الى أن قال عن السماء : " و السماء الدنيا ومن فيها ومن عليها عند التي فوقها كحلقة في فلاة قي ، و هذا و هاتان السماء ان عند الثانية كحلقة فيفلاة قي ، وهذه الثالثة ومن فيهن ومن عليهن عند الرابعة كحلقة في فلاة قي ، حتى أنتهى الى السابعة ، وهذه السبع ومن فيهن ومن عليهم عند البحر المكفوف عن أهل الأرض كحلقة في فلاة قي " (3)و مضى النبي (ص) يبين عظمة خلق الله حيث أن بعض خلقه أعظم من بعض كما الحلقة الصغيرة في الصحراء المترامية ، وهو أقرب مثل لاتساع المنظومات الشمسية و المجرات وما أشبه .
فهل يحق لنا أن نتكبر على ربنا الواسع الذي وسع كرسيه السموات و الأرض أو ندعى مقامه سبحانه ؟!
هذا في أفق المكان و امتداده . أما عن الزمان و امتداده فنحن لسنا أول ما خلق(1) القفر من الأرض .
(2) الطلاق / 12
(3) التوحيد ( للشيخ الصدوق ) ص 276
الله ، ولن نكون آخر خلقه سبحانه ، جاء في حديث مأثور عن الامام الباقر (ع) أنه قال في تفسير قوله تعالى : " أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد " (1) قال : يا جابر تأويل ذلك ان الله عز وجل إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم ، وسكن أهل الجنة الجنة و أهل النار النار ، جدد عالما غير هذا العالم ، و جدد خلقا من غير فحولة ولا إناث يعبدونه و يوحدونه ، و خلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، و سماء غير هذه السمــــاء تظلهم . لعلك ترى إنما خلق هذا العالم الواحد و ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم، بلى و الله لقد خلق الله ألف ألف عالم و ألف ألف آدم في آخر تلك العوالم و أولئك الآدميين " (2)و أخيرا يرى بعض علماء النفس أن أفضل وسيلة لتربية الانسان أن يعطى له عند بلوغه مبلغ الرجال جهازان يرى بهما عظمة الخلائق ، جهاز ميكروسكوب يرى به عجيب لطف الصنع في خلقة الموجودات المتناهية في الصغر ، و جهاز تلسكوب يرى به عظيم القدرة في خلقة الأجرام المتناهية في الكبر .
[58] هل يستوي من يستوعب هذه الحقائق ببصيرة قلبه فيكون كالبصير ، والذي هو أعمى حتى لو اقتربت منه حقائق الكون جميعا لا يعيها ولا يستوعب دروسها ، و تراه كالشرنقــة لا يزال في تلك الزنزانة الضيقة من نسيج أهوائه و شهواته و وساوس الشيطان .
[ وما يستوي الأعمى و البصير و الذين ءامنوا و عملوا الصالحات ولا المسيء ]أرأيت الذي قضى عمره في جزيرة مهجورة لا يعلم عن الدنيا شيئا ، هل يختلف(1) ق / 15
(2) المصدر / ص 277
بالنتيجة عمن يعيش في غرفة ضيقة في وسط أضخم العواصم قد حجب نفسه عن كل ما حوله ؟ كلا .. كذلك الكافر الذي تحيط به حقائق الكون فلا يستوعبها ، ولا يعيش قلبه في أجوائها ولا تعيها بصيرة نفسه ، بل هو في ظلام جهله و جهالته ، لا يعترف بشيء غير نفسه و أهوائها ،إنه أشد عمى ممن فقد عينيه . أليس كذلك ؟
وكم هو فرق بينه و بين من يعيش عوالم الخلق جميعا في ضميره و وعيه ، و يرى نفسه منها ولابد أن يتناغم سلوكه و سننها ، لأنه يؤمن بربها العظيم ، و يعمل الصالحات التي أمر بها كما أمر سائر العوالم بمثلها .
[ قليلا ما تتذكرون ]
[59] وفي خاتمة الدرس يلخص السياق عبرة الحقائق التي ذكر بها أنها الساعة حيث يتبدل النظام القائم هنا على أساس الإبتلاء ، بنظام يقوم على أساس الشهود و الجزاء .
[ إن الساعة لأتية لاريب فيها ]
وكيف يرتاب في يوم تدل كل حقائق العالم على أنه المنتهى ، فحكمة الله التي تتجلى في كل خليقة صغيرة أو كبيرة تدلنا بوضوح كاف على يوم الجزاء .
[ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ]
فلا تتبع سلوكهم ، و ذرهم يخوضوا في لهوهم ، و انقذ نفسك من المصير الذي ينتهون إليه بكفرهم بها .
تعليق