آلية العلاقة بين المرجع والأمة في المشروع السياسي للصدر الثاني
المرجعية والحركة التغييرية
تعتمد أية حركة تغييرية في المجتمعات على ثلاثة عناصر رئيسة وهي الأيديولوجيا والقيادة والأمة. ولما كان قد انتهى زمن نزول الأديان السماوية بوفاة الرسول «ص» وبدء الغيبة الكبرى للإمام المهدي «عج»، فلم يبق سوى الجانب البشري في فهم وتطبيق مفردات تلك الأيديولوجيا. ولمّا كان الإسلام «القرآن والسنّة الصحيحة للمعصومين» نصاً سماوياً مقدساً فلم يبق إذن سوى كيفية فهم وتفسير تلك النصوص من قبل الفقهاء والعلماء والمصلحين. فالعنصر البشري يمثّل الجانب الأقوى بعد أن انتهت مرحلة النصوص الإلهية، اي ان الأيديولوجيا باتت تعتمد بشكل رئيس على العنصر البشري في طريقة فهمه للنص والتي تتأثر بعقليته وتجربته والظروف المحيطة به. فالقيادة، التي تمثل عنصر الإبداع في فهم النصوص المقدسة، والتي تعرض أفكارها من طريقة فهمها للنصوص، ومتأثرة بعنصري الزمان والمكان والظروف الذي تعيشها، هي الطرف الرئيس في العنصر البشري. وتأتي الأمة، المؤمنة بتلك الأيديولوجيا، لتجسد مفرداتها على أرض الواقع متبعة منهج القيادة ورؤاها، متلاحمة معها في بناء متماسك يبدأ من داخله الفعل التغييري ليشمل المجتمع كلّه.
يرى السيد فضل الله أنّ المرجعية الشيعية تحتل مكانة كبيرة في الواقع الشيعي حتى أنها فرضت نفسها على الواقع السياسي بكل قوة. وراحت الحكومات تتعامل معها بحسابات دقيقة، وتتحاشى الاصطدام معها قدر الامكان خوفاً من تعرضها لثورة جماهيرية. وبناء على ذلك اكتسبت المرجعية تأثيرها الاجتماعي من موقعها الديني. وأخذت اهميتها السياسية من قوة الأمة بوصفها الرصيد الكبير للمرجعية. على أنّ هذه الصورة تظهر وكأن قوة المرجعية محصلة اجتماع عنصرين أساسيين هما الدين والأمة، دون أن يكون لها دور ذاتي في صناعة قدرتها، فهل هي الحقيقة أم أنّ هناك تفسيراً آخر؟
لاشكّ أنّ الإجابة على هذا السؤال ذات أهمية خاصة، لأنها تتولى مهمة تحديد عناصر القوة في المرجعية الدينية ومنشأ هذه القوة، ومن ثم طبيعة التحرك الذي تضطلع به، ومقوماتها في صناعته. للوهلة الأولى يبدو وكأنّ عنصري «الأمّة والدين» منفصلان عن بعضهما، وأنّ كل واحد منهما يتحرك بشكل مستقل في إعطاء المرجعية قوتها الميدانية، غير أنّ هذا الفصل الظاهري يغيب في ارضية الواقع، ويتداخل هذان العنصران للدرجة التي يعتمد فيها أحدهما على الآخر. فالأمة وبحكم تكليفها الشرعي ترجع الى علماء الدين في مسائلها الحياتية في العبادات والمعاملات، وتأخذ الحكم في مستجدات الأمور منهم، وفي المواقف الحرجة تنظر صوب المرجعية لترى ما يصدر عنها.
والمكانة الدينية قد تتحول الى موقع محدود اذا فقدت المرجعية قدرتها الحركية وانعزلت عن الأمّة وقيادتها. صحيح أنّها تظل تحتفظ بقدسيتها، لكن دائرة المؤمنين بهذه القدسية تتسع أو تضيق حسب اتساع أو ضيق القاعدة الجماهيرية الملتزمة بالإسلام. فالموقع الديني يكسب المرجعية قوة ذاتية محدودة في حالة انغلاقها على نفسها وخضوعها لأجوائها الخاصة. ويتحول هذا الموقع الى قوة كبيرة عندما تكون المرجعية نشطة في دائرة تحركها وسط الأمة. فهي المعنية في نشر الإسلام بين المجتمع وهي التي تتولى قيادة العملية التغييرية في الأمّة. وحين تنجح في عملها هذا تكون قد صنعت قاعدة جماهيرية واسعة ملتزمة بالإسلام ومنضوية تحت لوائها. والشاهد التاريخي البارز في هذا الخصوص تحول بعض العشائر العراقية الى الارتباط الوثيق بالمرجعية خلافاً لما كانت عليه سابقاً في القرن التاسع عشر مثلاً.
إنّ هذا التحول المؤثر رافقه في نفس الوقت امتلاك المرجعية الدينية رصيداً جماهيرياً ضخماً، فضمنت بذلك عنصر الأمّة، وقوّت به مكانتها الدينية «وهو العنصر الثاني لقوتها». وكانت النتيجة أن صارت المرجعية قوة اجتماعية وسياسية كبيرة في المجتمع العراقي، قلبت الموازين في الساحة العراقية وغيرت مجرى الأحداث فيها، ورسم على أساس هذا التحول تاريخ العراق في السنوات التي أعقبت ذلك. وهنا تبرز مسألة جديدة هي كفاءة المرجعية في استخدام مكانتها الدينية في توجيه الأمة وتحريك الاحداث، لتحتفظ بقاعدة جماهيرية متفاعلة ولتبقى متمتعة بمركز القوة في الساحة. [1]
إنّ مشكلة المرجعية في كل تاريخها أنّها كانت شخصاً، كانت تعتمد على مستوى هذا الشخص، وعلى مبادراته، وعلى سعة أفقه والظروف والاشخاص المحيطين به. ومن هنا، فإننا في الوقت الذي نؤكد أنّ المرجعية في كل تاريخها قامت بمبادرات هامة في الدائرة الشيعية وأنها حفظت التشيع بطريقة أو بأخرى، لكنها لم تفكر بأن تتحمل مسؤولية التشيع أمام كل المتغيرات الواقعية على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وعلى مستوى التطورات التي انطلقت في العالم. [2]
وتلعب شخصية المرجع دوراً رئيساً في مكانته الاجتماعية وتأثيره على الامة من خلال مقومات شخصيته ومن خلال نظرته الى الحياة واهتماماته السياسية والفكرية. فقد صنع بعض الفقهاء أحداثاً تاريخية من خلال مواقفهم وفتاواهم، وقادوا جماهيرهم في مسيرة تحولات عميقة وانجازات عظيمة. فالمرجع الديني السيد محمد حسن الشيرازي «سامراء» قاد ثورة التنباك عام 1891، وساند المرجع الديني الملا كاظم الخراساني «النجف» التحولات السياسية وثورة الدستور في ايران عام 1905 التي ادت الى تدوين اول دستور اسلامي لحكومة ملكية دستورية. [3] وتصدت المرجعية الدينية للغزو العسكري البريطاني للعراق عام 1914 حيث أصدر السيد محمد سعيد الحبوبي والسيد كاظم اليزدي فتوى الجهاد التي تمكنت من تعبئة العشائر العراقية في مواجهة القوات البريطانية. ولعبت المرجعية الشيعية دوراً حاسماً في مقاومة الاستعمار البريطاني ومخططاته الرامية إلى جعل العراق مستعمرة هندية، فقادت ثورة العشرين 1920 التي أنجزت موافقة الانجليز على تأسيس دولة عراقية مستقلة يرأسها ملك عربي مسلم، في حين كانت رغبة بريطانيا ومن يساندها من وجهاء العراق هو قيام حكم بريطاني مباشر في العراق. فأصدر المرجع الديني الشيخ محمد تقي الشيرازي «كربلاء» فتواه الشهيرة بحرمة تولية غير المسلمين السلطة في بلد اسلامي. [4]
لقد مثلت المرجعية الدينية نضجاً سياسياً ووعياً رفيع المستوى في بداية القرن العشرين عبر تمكنها من بلورة مشروعها السياسي الذي اعتمد بشكل رئيس على العنصر الجماهيري «العشائري» ومكانة المرجعية ودورها السياسي والاجتماعي في المجتمع العراقي. يقول الباحث إسحاق نقاش: «واقتربت عملية تكوين الدولة الشيعية في جنوب العراق من النضج في مرحلة مبكرة من القرن العشرين، حين قام مجتهدون قياديون بصياغة نظرية تحدد طبيعة الدولة التي كانت في تصورهم، وأرسوا أسس تمثيلهم في السياسة. ولكن محاولة المجتهدين لإقامة حكومة اسلامية في العراق لم تتحقق، واجهضت عملية تكوين الدولة الشيعية في أعقاب الاحتلال البريطاني ثم إقامة دولة سنية في البلاد». [5] وفي نهاية السبعينات تمكن المرجع الديني السيد روح الله الخميني بمساندة الحوزة العلمية والجماهير الايرانية من اسقاط نظام الشاه وتاسيس أول جمهورية اسلامية عام 1979.
المرجعية وفن الخطاب الجماهيري
إنّ تحريك الرأي العام فن له اصوله وعنصره ومناهجه، يعتمد على مدى دقة تشخيص القائد لمفردات العناصر السلوكية والفكرية التي تؤثر في المجتمع الذي يخاطبه. وربما لم يدرس المرجع علم الاجتماع لكن اسلوب تحركه ينطبق على بعض مفردات هذا العلم، بسبب الخبرة الطويلة والحس المرهف والأسلوب الصحيح في مخاطبة الآخرين والتأثير عليهم. وفي الرسول «ص» والأئمة «ع» اسوة حسنة وتراث غني في كيفية التأثير على الآخرين وجذبهم للخط الإسلامي وتعبئتهم عند الأزمات.
وفي التاريخ المعاصر برز عدة مراجع ذوو تأثير كبير على الرأي العام في مجتمعاتهم من خلال نوعية خطابهم أو مواقفهم وسلوكهم مع الجماهير. ففي عام 1914 قام علماء الشيعة بقيادة كتائب المجاهدين لمواجهة القوات البريطانية التي نزلت في البصرة لاحتلال العراق. فلم يكتفوا بإصدار الفتاوى وإلقاء الخطب الحماسية لتعبئة الناس للمشاركة في الجهاد بل ساروا معهم، ينزلون عند كل مدينة أو قرية، يبثون فيها روح المقاومة فيلتحق اهلوها بهم. فقد (خرج السيد محمد سعيد الحبوبي من النجف في عصر 15/11/1914 في موكب يصحبه جماعة من أصحابه. وكان قد تقلد سيفه والطبول تدق أمامه. وبعد نزوله في كثير من المدن والعشائر وصل الناصرية في منتصف كانون الثاني 1915. وكان الحبوبي اثناء مكوثه في الناصرية دائب الحركة حيث صار يتجول بين العشائر المجاورة، ويرسل أعوانه من شبان الطلبة كباقر الشبيبي وعلي الشرقي الى العشائر البعيدة، لحثهم على الانضمام الى حركة الجهاد) [6]. ونفس الأمر حدث للشيخ مهدي الخالصي في الكاظمية ببغداد، كما انطلق علماء النجف وكربلاء من بغداد ايضاً امثال الشيخ فتح الله الاصفهاني، والسيد علي التبريزي والسيد مصطفى الكاشاني وآخرين. وفي معركة الروطة قرب البصرة فشلت القوة العسكرية البريطانية في احتلال المنطقة لأن أحد العلماء (هو السيد مهدي الحيدري «80 عاماً» كان السبب الأكبر في انتصار الأتراك على الانجليز لأنه كان قد نصب خيامه قريباً من ساحة المعركة، وظل صامداً فيها لا يبالي بقصف المدافع مما شجع المجاهدين والقوات العثمانية كلها أن تصمد معه وتهزم الانجليز شر هزيمة). [7] وهنا أمثلة كثيرة تؤكد تأثير الحضور الجماهيري للعلماء في تعبئة الأمة، وفي سير الاحداث التاريخية.
وتختلف الأساليب التي يعتمدها المراجع من بلد الى آخر ومن عصر الى آخر، فالامام الخميني استخدم عدة اساليب متنوعة قبل انتصار الثورة وبعدها مثل: الخطاب الجماهيري العام، البيانات التي تطبع وتوزع على الناس أو تلصق على الجدران في المساجد والاسواق والشوارع [8]، الخطاب المسجل على أشرطة كاسيت حيث يكثر منه الآلاف توزع في المدن الايرانية. وكان هذا الاسلوب قد اشتهر اثناء المواجهة مع نظام الشاه في شهوره الاخيرة، وعندما كان الامام يقيم في باريس. كما استخدم اساليب جديدة مثل «اطلاق نداء الله اكبر من سطوح المنازل في وقت محدد»، والتأكيد على المسيرات المليونية التي يتصدرها العلماء، ورفض دفع الضرائب الحكومية، ومخاطبة المسؤولين الكبار بعدم طاعة اوامر الشاه، ودعوة الأمة الى القيام باضرابات شاملة. [9]
وكان السيد محمد باقر الصدر منفتحاً على الأمّة من خلال تلقيه عشرات الرسائل من مختلف الشرائح الاجتماعية تتضمن استفتاءات واسئلة عقائدية وتاريخية وفلسفية واقتصادية. وكان يجيب عليها ويهتم بذلك كثيراً خاصة بتلك الرسائل القادمة من شباب الجامعات العراقية. وكان يستقبل في منزله المتواضع الكثير من الراغبين بزيارته وتوجيه الأسئلة اليه مباشرة. فكنّا آنذاك نلاحظ مدى ترحيبه واهتمامه بنا والاستماع الى احاديثنا والاجابة عليها بكل لطف وعلمية. وترك لنا محاضرات قيمة ألقاها على طلابه قبل شهادته. صحيح ان الشهيد الصدر لم يزر مقلديه في المدن الاخرى ولم يلق خطابات جماهيرية [10] لكن الجماهير كانت تشعر بمدى قربه منها، وما يمثله من طموحات وهموم الأمّة. وكانت علاقته بالناس خارج النجف الأشرف تتم عبر طريقين، الأول: الشخصيات الحركية من حزب الدعوة الإسلامية التي تنقل افكاره وتثقف الناس على منهجه، والثاني: وكلاؤه في المدن العراقية الذين ينقلون توجيهاته وفتاواه بالإضافة الى آرائه ومواقفه. كما أنّ مؤلفاته العظيمة كانت خير سفير له حيث تجد طريقها في عقول ونفوس الشباب والمثقفين وطلاب الجامعات. وعندما أعلنت الاذاعة الايرانية عن عزمه على مغادرة العراق، رغم وجود نية للشهيد الصدر بذلك [11]، تم اتخاذ قرار باستقدام وفود جماهيرية من مختلف مدن العراق لزيارة القائد الصدر في منزله وتجديد البيعة له، فيما عرف بـ (وفود البيعة) [12] التي ضمت مختلف الشرائح الاجتماعية العراقية، شباباً وشيبة، رجالاً ونساءً، مثقفين ومهنيين وكسبة وطلاباً، كما شارك فيها أعداد من أهل السنة. [13] وعندما فرض النظام العراقي الإقامة الجبرية عليه قبل استشهاده بعدة شهور، وانقطعت صلته بالعالم، بادر الى كتابة بيانات موجهة للشعب العراقي، ولما كان من الصعب توزيع بياناته في الشارع، فقد قام بتسجيل هذه البيانات بصوته على أشرطة كاسيت حيث تم تهريبها الى ايران لتبث من الاذاعة الايرانية لتصل الى ملايين المسلمين في العراق وايران ودول المنطقة. [14]
أما السيد محسن الحكيم ففي اثناء التوتر بين المرجعية والنظام الحاكم فقد لجأ الى الخطاب الجماهيري حين كان يكلف احد اولاده بالقاء خطاباته التي تتضمن نقداً حاداً للسلطة في مؤتمرات وتجمعات جماهيرية حاشدة ذات طابع احتجاجي. فكان السيد محسن الحكيم يريد تفعيل صورة المرجعية في أذهان الامة من خلال التأكيد على حضورها ومخاطبتها ابناء الامة مباشرة كي تعزز من التلاحم بين الأمة والمرجعية. كما مارس الحكيم سياسة المنفى الاختياري المؤقت حين قام في حزيران 1969 بمغادرة محل اقامته «النجف» متوجهاً الى الكاظمية ببغداد كإيحاء بالاحتجاج. [15] وهكذا تنوعت طرق الاحتجاج وأساليب تعبئة الجماهير حسب ظرف المرجع ورؤيته.
مقدمات المشروع السياسي للصدر الثاني
تعرضت المرجعية الدينية في العراق خلال العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين الى ضربات قوية من قبل النظام الحاكم، ففي الفترة ما بين عام 1968 (وصول حزب البعث العراقي الى السلطة) وحتى عام 1970 (حيث توفي السيد الحكيم) تعرضت مرجعية السيد محسن الحكيم الى اساءات عديدة وصلت الى اتهام ولده السيد مهدي الحكيم بالتجسس لقوى اجنبية. وفي عام 1980 أُعدم المفكر الإسلامي المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر بتهمة تشكيل حزب إسلامي سري معارض (حزب الدعوة الإسلامية) وتأييد الثورة الاسلامية في ايران. وفي عام 1991 تعرض السيد ابو القاسم الخوئي الى ضغوط كبيرة بسبب دعمه للانتفاضة الشعبانية في آذار 1991. كما تعرض للسجن والتعذيب العديد من المراجع الكبار (السيد السيستاني، السيد السبزواري، السيد محمد سعيد الحكيم، السيد محمد الصدر) وعشرات الفضلاء ومن اساتذة وطلاب الحوزة العلمية، واستشهد آخرون اثناء وبعد الانتفاضة. كما اغتيل عدد من المراجع الكبار امثال الشيخ علي الغروي والشيخ البروجردي، اضافة الى محاولة اغتيال السيد السيستاني.
ورث الصدر الثاني ارثاً ثقيلاً، ظروفاً صعبة، بلداً محاصراً اقتصادياً وسياسياً، سلطة تمارس سياسة البطش والقمع في اقسى صورها، شعباً محاصراً أمنياً واقتصادياً، تفشى فيه الفقر والجوع والمرض والانحلال الاخلاقي، وجماهير مازالت تلملم جراحها بعدما قدمته من تضحيات جسيمة اثناء وبعد الانتفاضة العظيمة عام 1991. كل هذه المفردات تمثل مثبطات لمجرد التفكير في اي مشروع نهضوي سياسي ـ اجتماعي. كما أنّ ضعف الامكانات الذاتية تشكل بحد ذاتها تحدياً كبيراً امام اي حركة تغييرية ممكنة. هذا الإرث الثقيل بعناصره المتشابكة مثل التحدي الأكبر امام الصدر الثاني لبناء مشروعه التأسيسي. لقد كان عليه أن يفكك عناصر الصراع ويعالج كل واحد على حدة ليخلق منه لبنة قادرة على الانسجام والتكيف مع اللبنات الاخرى كي يرتفع البناء على أسس قوية متراصة. كان عليه أن يتجاوز القيود التي تقيد حركته داخل المرجعية الدينية نفسها أولاً، هذه القيود ليست سوى اشكاليات تطورت عبر السنين لتصبح واقعاً وعرفاً يجب التقيد به رغم هشاشة متبنياته. هذه الإشكاليات هي:
أولاً: إشكالية العلاقة مع السلطة
كان على الصدر الثاني أن يحدد موقفه من (اشكالية الاعتزال والمواجهة) التي حكمت مسار العلاقة بين الحوزة والسلطة. فمن العلماء من آمن بالمواجهة ومنهم من آثر السكوت، وكل له قناعاته ومبرراته الشرعية. فانتهج الصدر الثاني طريقه الخاص به في تحييد السلطة ريثما تكتمل ملامح مشروعه وتنضج خبرته استعداداً للمواجهة التي لابد منها في يوم ما. فكان عليه ان يتفادى استفزاز السلطة ويمنعها من التفكير في الاجهاز عليه وعلى مشروعه. ومع أن لذلك الموقف استحقاقاته، لكن الصدر لم يمنح السلطة ما تأمله منه، إذ لم ينقل عنه أي مديح للسلطة أو تأييدها سياسياً أو فكرياً [16]، بل على العكس كان ينتقد السلطة في لقاءاته أو صلاة الجمعة تارة تلميحاً وتارة تصريحاً. وكان يدرك أنّ السلطة تريد اغتياله حوزوياً وجماهيرياً عندما كانت تمتدحه في إعلامها. [17]
لقد كان الصدر يعي بأنّ السلطة تريد تحكيمه والسيطرة على مرجعيته، ففي لقاء صحفي مسجل صرح بأنه من وجهة نظر الدولة (ينبغي السيطرة على هذه الجهة (مرجعية الصدر) وتحجيمها. وأحسن طريقة للتحجيم هي أن يُمدح ويُنفَع لأجل ان يخمد ويأفل نجمه، وهذا ما حصل. تصرفوا (عناصر السلطة) تصرفاً حكيماً من وجهة نظرهم متسماً بالحقيقة، وأنا أعمل على أعصابي، ولا استطيع أن أقول مجبراً أو مكرهاً. بأي يد اصفق وبأي لسان أنطق؟ فالناس في داخل وخارج العراق يأخذون المطلب كأنه ناجز. كأنني أنا لي رغبة في ذلك).
وخلال تلك المرحلة واجه الصدر الثاني حملات عدائية وهجمات واتهامات في الخارج والداخل، في حين لا يمكنه الإفصاح عن مشروعه، كما في تصريحه الآنف الذكر، لأنه سيُجهض في وقت مبكر. لقد استطاع الصدر أن يوطد صلته بالجماهير العراقية ويكسب ثقتها وخاصة مجاهدي الداخل الذين كانوا يدركون عمق الإشكالية التي وضع الصدر الثاني فيها من خلال اتهامه بالعمالة للسلطة، وأنه لا يستطيع أن يكشف مشروعه قبل أوانه، وأنهم يؤمنون بأن (السيد محمد الصدر هو الأصلح وهو يخطط لأمر مستقبلي يقوي به التيار الديني بشكل عجز عنه الآخرون. وهو يريد تغيير النفوس قبل تغيير النظام. وأنّ ما تردد عنه من مسائل قد تكون غير مقبولة عند البعض هو من شائعات أعداء الإسلام. وأنّ النظام زرع جواسيس عليه حتى في مكتبه في النجف الاشرف. وأنه يسعى لإحياء الدين ومعالمه التي بدأت بالاندثار. وأنّه ثوري يخطط للحظة المناسبة، ويريد أن يستغل الظرف الراهن الذي ضعف به النظام. وأنّ الكثير من أبناء الشعب لم يكونوا يعرفون أمور دينهم قبل تصدي السيد الصدر للمرجعية). [18] لقد كانت (الأمّة في الداخل) أكثر فهماً والتصاقاً بمرجعية الصدر من (الأمّة في الخارج) التي تأثرت بحملات بعض الأطراف ضده.
لقد انطلق الصدر الثاني في علاقته بالسلطة من خلال قاعدة (جواز العمل مع حكام الجور) حيث تعامل الصدر مع السلطة دون ان يعطيها المشروعية. كما أنّ علاقته بالسلطة لم تكن علاقة تعاون بل علاقة تعامل مشروط لا تختلف عن بعض حالات التعامل التي شهدها التاريخ الفقهي الشيعي من قبل بعض الفقهاء الشيعة تماشياً مع مصلحة الإسلام العليا التي يقدرها الفقيه على ضوء الواقع والظرف الاجتماعي الذي يحكم مرحلته. [19] وقد صنف في هذه المسألة الكثير من فقهاء الشيعة على مر التاريخ كالشيخ الصدوق (381 هـ / 991م) [20]، والشيخ المفيد (ت 413 هـ / 1039م) [21]، وشيخ الطائفة الطوسي (ت 460 هـ / 1067م) [22]، والشريف المرتضى (ت 436 هـ / 1044م) [23]. ومن المتأخرين الإمام الخميني (ت 1989) [24] والشيخ محمد مهدي شمس الدين [25].
وبعد أن يناقش الروايات المانعة والروايات المجوّزة، يستنتج
انتظروا التكملة؛
المرجعية والحركة التغييرية
تعتمد أية حركة تغييرية في المجتمعات على ثلاثة عناصر رئيسة وهي الأيديولوجيا والقيادة والأمة. ولما كان قد انتهى زمن نزول الأديان السماوية بوفاة الرسول «ص» وبدء الغيبة الكبرى للإمام المهدي «عج»، فلم يبق سوى الجانب البشري في فهم وتطبيق مفردات تلك الأيديولوجيا. ولمّا كان الإسلام «القرآن والسنّة الصحيحة للمعصومين» نصاً سماوياً مقدساً فلم يبق إذن سوى كيفية فهم وتفسير تلك النصوص من قبل الفقهاء والعلماء والمصلحين. فالعنصر البشري يمثّل الجانب الأقوى بعد أن انتهت مرحلة النصوص الإلهية، اي ان الأيديولوجيا باتت تعتمد بشكل رئيس على العنصر البشري في طريقة فهمه للنص والتي تتأثر بعقليته وتجربته والظروف المحيطة به. فالقيادة، التي تمثل عنصر الإبداع في فهم النصوص المقدسة، والتي تعرض أفكارها من طريقة فهمها للنصوص، ومتأثرة بعنصري الزمان والمكان والظروف الذي تعيشها، هي الطرف الرئيس في العنصر البشري. وتأتي الأمة، المؤمنة بتلك الأيديولوجيا، لتجسد مفرداتها على أرض الواقع متبعة منهج القيادة ورؤاها، متلاحمة معها في بناء متماسك يبدأ من داخله الفعل التغييري ليشمل المجتمع كلّه.
يرى السيد فضل الله أنّ المرجعية الشيعية تحتل مكانة كبيرة في الواقع الشيعي حتى أنها فرضت نفسها على الواقع السياسي بكل قوة. وراحت الحكومات تتعامل معها بحسابات دقيقة، وتتحاشى الاصطدام معها قدر الامكان خوفاً من تعرضها لثورة جماهيرية. وبناء على ذلك اكتسبت المرجعية تأثيرها الاجتماعي من موقعها الديني. وأخذت اهميتها السياسية من قوة الأمة بوصفها الرصيد الكبير للمرجعية. على أنّ هذه الصورة تظهر وكأن قوة المرجعية محصلة اجتماع عنصرين أساسيين هما الدين والأمة، دون أن يكون لها دور ذاتي في صناعة قدرتها، فهل هي الحقيقة أم أنّ هناك تفسيراً آخر؟
لاشكّ أنّ الإجابة على هذا السؤال ذات أهمية خاصة، لأنها تتولى مهمة تحديد عناصر القوة في المرجعية الدينية ومنشأ هذه القوة، ومن ثم طبيعة التحرك الذي تضطلع به، ومقوماتها في صناعته. للوهلة الأولى يبدو وكأنّ عنصري «الأمّة والدين» منفصلان عن بعضهما، وأنّ كل واحد منهما يتحرك بشكل مستقل في إعطاء المرجعية قوتها الميدانية، غير أنّ هذا الفصل الظاهري يغيب في ارضية الواقع، ويتداخل هذان العنصران للدرجة التي يعتمد فيها أحدهما على الآخر. فالأمة وبحكم تكليفها الشرعي ترجع الى علماء الدين في مسائلها الحياتية في العبادات والمعاملات، وتأخذ الحكم في مستجدات الأمور منهم، وفي المواقف الحرجة تنظر صوب المرجعية لترى ما يصدر عنها.
والمكانة الدينية قد تتحول الى موقع محدود اذا فقدت المرجعية قدرتها الحركية وانعزلت عن الأمّة وقيادتها. صحيح أنّها تظل تحتفظ بقدسيتها، لكن دائرة المؤمنين بهذه القدسية تتسع أو تضيق حسب اتساع أو ضيق القاعدة الجماهيرية الملتزمة بالإسلام. فالموقع الديني يكسب المرجعية قوة ذاتية محدودة في حالة انغلاقها على نفسها وخضوعها لأجوائها الخاصة. ويتحول هذا الموقع الى قوة كبيرة عندما تكون المرجعية نشطة في دائرة تحركها وسط الأمة. فهي المعنية في نشر الإسلام بين المجتمع وهي التي تتولى قيادة العملية التغييرية في الأمّة. وحين تنجح في عملها هذا تكون قد صنعت قاعدة جماهيرية واسعة ملتزمة بالإسلام ومنضوية تحت لوائها. والشاهد التاريخي البارز في هذا الخصوص تحول بعض العشائر العراقية الى الارتباط الوثيق بالمرجعية خلافاً لما كانت عليه سابقاً في القرن التاسع عشر مثلاً.
إنّ هذا التحول المؤثر رافقه في نفس الوقت امتلاك المرجعية الدينية رصيداً جماهيرياً ضخماً، فضمنت بذلك عنصر الأمّة، وقوّت به مكانتها الدينية «وهو العنصر الثاني لقوتها». وكانت النتيجة أن صارت المرجعية قوة اجتماعية وسياسية كبيرة في المجتمع العراقي، قلبت الموازين في الساحة العراقية وغيرت مجرى الأحداث فيها، ورسم على أساس هذا التحول تاريخ العراق في السنوات التي أعقبت ذلك. وهنا تبرز مسألة جديدة هي كفاءة المرجعية في استخدام مكانتها الدينية في توجيه الأمة وتحريك الاحداث، لتحتفظ بقاعدة جماهيرية متفاعلة ولتبقى متمتعة بمركز القوة في الساحة. [1]
إنّ مشكلة المرجعية في كل تاريخها أنّها كانت شخصاً، كانت تعتمد على مستوى هذا الشخص، وعلى مبادراته، وعلى سعة أفقه والظروف والاشخاص المحيطين به. ومن هنا، فإننا في الوقت الذي نؤكد أنّ المرجعية في كل تاريخها قامت بمبادرات هامة في الدائرة الشيعية وأنها حفظت التشيع بطريقة أو بأخرى، لكنها لم تفكر بأن تتحمل مسؤولية التشيع أمام كل المتغيرات الواقعية على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وعلى مستوى التطورات التي انطلقت في العالم. [2]
وتلعب شخصية المرجع دوراً رئيساً في مكانته الاجتماعية وتأثيره على الامة من خلال مقومات شخصيته ومن خلال نظرته الى الحياة واهتماماته السياسية والفكرية. فقد صنع بعض الفقهاء أحداثاً تاريخية من خلال مواقفهم وفتاواهم، وقادوا جماهيرهم في مسيرة تحولات عميقة وانجازات عظيمة. فالمرجع الديني السيد محمد حسن الشيرازي «سامراء» قاد ثورة التنباك عام 1891، وساند المرجع الديني الملا كاظم الخراساني «النجف» التحولات السياسية وثورة الدستور في ايران عام 1905 التي ادت الى تدوين اول دستور اسلامي لحكومة ملكية دستورية. [3] وتصدت المرجعية الدينية للغزو العسكري البريطاني للعراق عام 1914 حيث أصدر السيد محمد سعيد الحبوبي والسيد كاظم اليزدي فتوى الجهاد التي تمكنت من تعبئة العشائر العراقية في مواجهة القوات البريطانية. ولعبت المرجعية الشيعية دوراً حاسماً في مقاومة الاستعمار البريطاني ومخططاته الرامية إلى جعل العراق مستعمرة هندية، فقادت ثورة العشرين 1920 التي أنجزت موافقة الانجليز على تأسيس دولة عراقية مستقلة يرأسها ملك عربي مسلم، في حين كانت رغبة بريطانيا ومن يساندها من وجهاء العراق هو قيام حكم بريطاني مباشر في العراق. فأصدر المرجع الديني الشيخ محمد تقي الشيرازي «كربلاء» فتواه الشهيرة بحرمة تولية غير المسلمين السلطة في بلد اسلامي. [4]
لقد مثلت المرجعية الدينية نضجاً سياسياً ووعياً رفيع المستوى في بداية القرن العشرين عبر تمكنها من بلورة مشروعها السياسي الذي اعتمد بشكل رئيس على العنصر الجماهيري «العشائري» ومكانة المرجعية ودورها السياسي والاجتماعي في المجتمع العراقي. يقول الباحث إسحاق نقاش: «واقتربت عملية تكوين الدولة الشيعية في جنوب العراق من النضج في مرحلة مبكرة من القرن العشرين، حين قام مجتهدون قياديون بصياغة نظرية تحدد طبيعة الدولة التي كانت في تصورهم، وأرسوا أسس تمثيلهم في السياسة. ولكن محاولة المجتهدين لإقامة حكومة اسلامية في العراق لم تتحقق، واجهضت عملية تكوين الدولة الشيعية في أعقاب الاحتلال البريطاني ثم إقامة دولة سنية في البلاد». [5] وفي نهاية السبعينات تمكن المرجع الديني السيد روح الله الخميني بمساندة الحوزة العلمية والجماهير الايرانية من اسقاط نظام الشاه وتاسيس أول جمهورية اسلامية عام 1979.
المرجعية وفن الخطاب الجماهيري
إنّ تحريك الرأي العام فن له اصوله وعنصره ومناهجه، يعتمد على مدى دقة تشخيص القائد لمفردات العناصر السلوكية والفكرية التي تؤثر في المجتمع الذي يخاطبه. وربما لم يدرس المرجع علم الاجتماع لكن اسلوب تحركه ينطبق على بعض مفردات هذا العلم، بسبب الخبرة الطويلة والحس المرهف والأسلوب الصحيح في مخاطبة الآخرين والتأثير عليهم. وفي الرسول «ص» والأئمة «ع» اسوة حسنة وتراث غني في كيفية التأثير على الآخرين وجذبهم للخط الإسلامي وتعبئتهم عند الأزمات.
وفي التاريخ المعاصر برز عدة مراجع ذوو تأثير كبير على الرأي العام في مجتمعاتهم من خلال نوعية خطابهم أو مواقفهم وسلوكهم مع الجماهير. ففي عام 1914 قام علماء الشيعة بقيادة كتائب المجاهدين لمواجهة القوات البريطانية التي نزلت في البصرة لاحتلال العراق. فلم يكتفوا بإصدار الفتاوى وإلقاء الخطب الحماسية لتعبئة الناس للمشاركة في الجهاد بل ساروا معهم، ينزلون عند كل مدينة أو قرية، يبثون فيها روح المقاومة فيلتحق اهلوها بهم. فقد (خرج السيد محمد سعيد الحبوبي من النجف في عصر 15/11/1914 في موكب يصحبه جماعة من أصحابه. وكان قد تقلد سيفه والطبول تدق أمامه. وبعد نزوله في كثير من المدن والعشائر وصل الناصرية في منتصف كانون الثاني 1915. وكان الحبوبي اثناء مكوثه في الناصرية دائب الحركة حيث صار يتجول بين العشائر المجاورة، ويرسل أعوانه من شبان الطلبة كباقر الشبيبي وعلي الشرقي الى العشائر البعيدة، لحثهم على الانضمام الى حركة الجهاد) [6]. ونفس الأمر حدث للشيخ مهدي الخالصي في الكاظمية ببغداد، كما انطلق علماء النجف وكربلاء من بغداد ايضاً امثال الشيخ فتح الله الاصفهاني، والسيد علي التبريزي والسيد مصطفى الكاشاني وآخرين. وفي معركة الروطة قرب البصرة فشلت القوة العسكرية البريطانية في احتلال المنطقة لأن أحد العلماء (هو السيد مهدي الحيدري «80 عاماً» كان السبب الأكبر في انتصار الأتراك على الانجليز لأنه كان قد نصب خيامه قريباً من ساحة المعركة، وظل صامداً فيها لا يبالي بقصف المدافع مما شجع المجاهدين والقوات العثمانية كلها أن تصمد معه وتهزم الانجليز شر هزيمة). [7] وهنا أمثلة كثيرة تؤكد تأثير الحضور الجماهيري للعلماء في تعبئة الأمة، وفي سير الاحداث التاريخية.
وتختلف الأساليب التي يعتمدها المراجع من بلد الى آخر ومن عصر الى آخر، فالامام الخميني استخدم عدة اساليب متنوعة قبل انتصار الثورة وبعدها مثل: الخطاب الجماهيري العام، البيانات التي تطبع وتوزع على الناس أو تلصق على الجدران في المساجد والاسواق والشوارع [8]، الخطاب المسجل على أشرطة كاسيت حيث يكثر منه الآلاف توزع في المدن الايرانية. وكان هذا الاسلوب قد اشتهر اثناء المواجهة مع نظام الشاه في شهوره الاخيرة، وعندما كان الامام يقيم في باريس. كما استخدم اساليب جديدة مثل «اطلاق نداء الله اكبر من سطوح المنازل في وقت محدد»، والتأكيد على المسيرات المليونية التي يتصدرها العلماء، ورفض دفع الضرائب الحكومية، ومخاطبة المسؤولين الكبار بعدم طاعة اوامر الشاه، ودعوة الأمة الى القيام باضرابات شاملة. [9]
وكان السيد محمد باقر الصدر منفتحاً على الأمّة من خلال تلقيه عشرات الرسائل من مختلف الشرائح الاجتماعية تتضمن استفتاءات واسئلة عقائدية وتاريخية وفلسفية واقتصادية. وكان يجيب عليها ويهتم بذلك كثيراً خاصة بتلك الرسائل القادمة من شباب الجامعات العراقية. وكان يستقبل في منزله المتواضع الكثير من الراغبين بزيارته وتوجيه الأسئلة اليه مباشرة. فكنّا آنذاك نلاحظ مدى ترحيبه واهتمامه بنا والاستماع الى احاديثنا والاجابة عليها بكل لطف وعلمية. وترك لنا محاضرات قيمة ألقاها على طلابه قبل شهادته. صحيح ان الشهيد الصدر لم يزر مقلديه في المدن الاخرى ولم يلق خطابات جماهيرية [10] لكن الجماهير كانت تشعر بمدى قربه منها، وما يمثله من طموحات وهموم الأمّة. وكانت علاقته بالناس خارج النجف الأشرف تتم عبر طريقين، الأول: الشخصيات الحركية من حزب الدعوة الإسلامية التي تنقل افكاره وتثقف الناس على منهجه، والثاني: وكلاؤه في المدن العراقية الذين ينقلون توجيهاته وفتاواه بالإضافة الى آرائه ومواقفه. كما أنّ مؤلفاته العظيمة كانت خير سفير له حيث تجد طريقها في عقول ونفوس الشباب والمثقفين وطلاب الجامعات. وعندما أعلنت الاذاعة الايرانية عن عزمه على مغادرة العراق، رغم وجود نية للشهيد الصدر بذلك [11]، تم اتخاذ قرار باستقدام وفود جماهيرية من مختلف مدن العراق لزيارة القائد الصدر في منزله وتجديد البيعة له، فيما عرف بـ (وفود البيعة) [12] التي ضمت مختلف الشرائح الاجتماعية العراقية، شباباً وشيبة، رجالاً ونساءً، مثقفين ومهنيين وكسبة وطلاباً، كما شارك فيها أعداد من أهل السنة. [13] وعندما فرض النظام العراقي الإقامة الجبرية عليه قبل استشهاده بعدة شهور، وانقطعت صلته بالعالم، بادر الى كتابة بيانات موجهة للشعب العراقي، ولما كان من الصعب توزيع بياناته في الشارع، فقد قام بتسجيل هذه البيانات بصوته على أشرطة كاسيت حيث تم تهريبها الى ايران لتبث من الاذاعة الايرانية لتصل الى ملايين المسلمين في العراق وايران ودول المنطقة. [14]
أما السيد محسن الحكيم ففي اثناء التوتر بين المرجعية والنظام الحاكم فقد لجأ الى الخطاب الجماهيري حين كان يكلف احد اولاده بالقاء خطاباته التي تتضمن نقداً حاداً للسلطة في مؤتمرات وتجمعات جماهيرية حاشدة ذات طابع احتجاجي. فكان السيد محسن الحكيم يريد تفعيل صورة المرجعية في أذهان الامة من خلال التأكيد على حضورها ومخاطبتها ابناء الامة مباشرة كي تعزز من التلاحم بين الأمة والمرجعية. كما مارس الحكيم سياسة المنفى الاختياري المؤقت حين قام في حزيران 1969 بمغادرة محل اقامته «النجف» متوجهاً الى الكاظمية ببغداد كإيحاء بالاحتجاج. [15] وهكذا تنوعت طرق الاحتجاج وأساليب تعبئة الجماهير حسب ظرف المرجع ورؤيته.
مقدمات المشروع السياسي للصدر الثاني
تعرضت المرجعية الدينية في العراق خلال العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين الى ضربات قوية من قبل النظام الحاكم، ففي الفترة ما بين عام 1968 (وصول حزب البعث العراقي الى السلطة) وحتى عام 1970 (حيث توفي السيد الحكيم) تعرضت مرجعية السيد محسن الحكيم الى اساءات عديدة وصلت الى اتهام ولده السيد مهدي الحكيم بالتجسس لقوى اجنبية. وفي عام 1980 أُعدم المفكر الإسلامي المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر بتهمة تشكيل حزب إسلامي سري معارض (حزب الدعوة الإسلامية) وتأييد الثورة الاسلامية في ايران. وفي عام 1991 تعرض السيد ابو القاسم الخوئي الى ضغوط كبيرة بسبب دعمه للانتفاضة الشعبانية في آذار 1991. كما تعرض للسجن والتعذيب العديد من المراجع الكبار (السيد السيستاني، السيد السبزواري، السيد محمد سعيد الحكيم، السيد محمد الصدر) وعشرات الفضلاء ومن اساتذة وطلاب الحوزة العلمية، واستشهد آخرون اثناء وبعد الانتفاضة. كما اغتيل عدد من المراجع الكبار امثال الشيخ علي الغروي والشيخ البروجردي، اضافة الى محاولة اغتيال السيد السيستاني.
ورث الصدر الثاني ارثاً ثقيلاً، ظروفاً صعبة، بلداً محاصراً اقتصادياً وسياسياً، سلطة تمارس سياسة البطش والقمع في اقسى صورها، شعباً محاصراً أمنياً واقتصادياً، تفشى فيه الفقر والجوع والمرض والانحلال الاخلاقي، وجماهير مازالت تلملم جراحها بعدما قدمته من تضحيات جسيمة اثناء وبعد الانتفاضة العظيمة عام 1991. كل هذه المفردات تمثل مثبطات لمجرد التفكير في اي مشروع نهضوي سياسي ـ اجتماعي. كما أنّ ضعف الامكانات الذاتية تشكل بحد ذاتها تحدياً كبيراً امام اي حركة تغييرية ممكنة. هذا الإرث الثقيل بعناصره المتشابكة مثل التحدي الأكبر امام الصدر الثاني لبناء مشروعه التأسيسي. لقد كان عليه أن يفكك عناصر الصراع ويعالج كل واحد على حدة ليخلق منه لبنة قادرة على الانسجام والتكيف مع اللبنات الاخرى كي يرتفع البناء على أسس قوية متراصة. كان عليه أن يتجاوز القيود التي تقيد حركته داخل المرجعية الدينية نفسها أولاً، هذه القيود ليست سوى اشكاليات تطورت عبر السنين لتصبح واقعاً وعرفاً يجب التقيد به رغم هشاشة متبنياته. هذه الإشكاليات هي:
أولاً: إشكالية العلاقة مع السلطة
كان على الصدر الثاني أن يحدد موقفه من (اشكالية الاعتزال والمواجهة) التي حكمت مسار العلاقة بين الحوزة والسلطة. فمن العلماء من آمن بالمواجهة ومنهم من آثر السكوت، وكل له قناعاته ومبرراته الشرعية. فانتهج الصدر الثاني طريقه الخاص به في تحييد السلطة ريثما تكتمل ملامح مشروعه وتنضج خبرته استعداداً للمواجهة التي لابد منها في يوم ما. فكان عليه ان يتفادى استفزاز السلطة ويمنعها من التفكير في الاجهاز عليه وعلى مشروعه. ومع أن لذلك الموقف استحقاقاته، لكن الصدر لم يمنح السلطة ما تأمله منه، إذ لم ينقل عنه أي مديح للسلطة أو تأييدها سياسياً أو فكرياً [16]، بل على العكس كان ينتقد السلطة في لقاءاته أو صلاة الجمعة تارة تلميحاً وتارة تصريحاً. وكان يدرك أنّ السلطة تريد اغتياله حوزوياً وجماهيرياً عندما كانت تمتدحه في إعلامها. [17]
لقد كان الصدر يعي بأنّ السلطة تريد تحكيمه والسيطرة على مرجعيته، ففي لقاء صحفي مسجل صرح بأنه من وجهة نظر الدولة (ينبغي السيطرة على هذه الجهة (مرجعية الصدر) وتحجيمها. وأحسن طريقة للتحجيم هي أن يُمدح ويُنفَع لأجل ان يخمد ويأفل نجمه، وهذا ما حصل. تصرفوا (عناصر السلطة) تصرفاً حكيماً من وجهة نظرهم متسماً بالحقيقة، وأنا أعمل على أعصابي، ولا استطيع أن أقول مجبراً أو مكرهاً. بأي يد اصفق وبأي لسان أنطق؟ فالناس في داخل وخارج العراق يأخذون المطلب كأنه ناجز. كأنني أنا لي رغبة في ذلك).
وخلال تلك المرحلة واجه الصدر الثاني حملات عدائية وهجمات واتهامات في الخارج والداخل، في حين لا يمكنه الإفصاح عن مشروعه، كما في تصريحه الآنف الذكر، لأنه سيُجهض في وقت مبكر. لقد استطاع الصدر أن يوطد صلته بالجماهير العراقية ويكسب ثقتها وخاصة مجاهدي الداخل الذين كانوا يدركون عمق الإشكالية التي وضع الصدر الثاني فيها من خلال اتهامه بالعمالة للسلطة، وأنه لا يستطيع أن يكشف مشروعه قبل أوانه، وأنهم يؤمنون بأن (السيد محمد الصدر هو الأصلح وهو يخطط لأمر مستقبلي يقوي به التيار الديني بشكل عجز عنه الآخرون. وهو يريد تغيير النفوس قبل تغيير النظام. وأنّ ما تردد عنه من مسائل قد تكون غير مقبولة عند البعض هو من شائعات أعداء الإسلام. وأنّ النظام زرع جواسيس عليه حتى في مكتبه في النجف الاشرف. وأنه يسعى لإحياء الدين ومعالمه التي بدأت بالاندثار. وأنّه ثوري يخطط للحظة المناسبة، ويريد أن يستغل الظرف الراهن الذي ضعف به النظام. وأنّ الكثير من أبناء الشعب لم يكونوا يعرفون أمور دينهم قبل تصدي السيد الصدر للمرجعية). [18] لقد كانت (الأمّة في الداخل) أكثر فهماً والتصاقاً بمرجعية الصدر من (الأمّة في الخارج) التي تأثرت بحملات بعض الأطراف ضده.
لقد انطلق الصدر الثاني في علاقته بالسلطة من خلال قاعدة (جواز العمل مع حكام الجور) حيث تعامل الصدر مع السلطة دون ان يعطيها المشروعية. كما أنّ علاقته بالسلطة لم تكن علاقة تعاون بل علاقة تعامل مشروط لا تختلف عن بعض حالات التعامل التي شهدها التاريخ الفقهي الشيعي من قبل بعض الفقهاء الشيعة تماشياً مع مصلحة الإسلام العليا التي يقدرها الفقيه على ضوء الواقع والظرف الاجتماعي الذي يحكم مرحلته. [19] وقد صنف في هذه المسألة الكثير من فقهاء الشيعة على مر التاريخ كالشيخ الصدوق (381 هـ / 991م) [20]، والشيخ المفيد (ت 413 هـ / 1039م) [21]، وشيخ الطائفة الطوسي (ت 460 هـ / 1067م) [22]، والشريف المرتضى (ت 436 هـ / 1044م) [23]. ومن المتأخرين الإمام الخميني (ت 1989) [24] والشيخ محمد مهدي شمس الدين [25].
وبعد أن يناقش الروايات المانعة والروايات المجوّزة، يستنتج
انتظروا التكملة؛
تعليق