انتشرت فكرة بين الناس مؤخّرًا، مفادها أنّ شيعة الإمام الكاظم عليه السلام تركوا نصرة إمام زمانهم، وكانوا يذهبون لزيارة سيد الشهداء عليه السلام بينما كان إمامهم في السجن.
ولمعرفة صحة هذه الفكرة من عدمها، علينا الاطلاع على بعض النقاط ليكون لدينا إحاطة بظروف ذلك الوقت، وهذه النقاط هي:
•أوّلًا: كم كان عدد شيعة ؟
•ثانيًا: ماذا كان تكليف شيعة الإمام عليه السلام آنذاك؟
•ثالثًا: كيف كان حال زيارة و زوار سيّد الشهداء عليه السلام في زمن الأئمة سلام الله عليهم؟
1.لا يخفى أنّ عدد الشيعة في ذلك الزمان كان قليلًا جدًّا، ولا يُتصوّر أنّه قريبٌ لعددهم اليوم، ولهذا الأمر شواهد عديدة، منها ما ورد في الكافي عن حمران بن أعين مخاطبًا الإمام الباقر عليه السلام: «جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا أَقَلَّنَا؟! لَوِ اجْتَمَعْنَا عَلى شَاةٍ مَا أَفْنَيْنَاهَا»، وهذه كناية عن قلّة عدد الشيعة في ذلك الزمان.
وفي المقابل، كانت الدولة العباسية الظالمة في غاية العظمة، كما ورد في البداية والنهاية لابن كثير في كلامٍ عن مُلك هارون لعنه الله: «ما تمطر السماء شيئا ولا تنبت الأرض شيئا إلا وهو تحت تصرفه وفي يده».
فمع قلّة عدد الشيعة، وعظمة تلك الدولة الجائرة الحاقدة على أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، أين الحكمة في أيّ تحرّك؟ إنّ أيّ تحرّك في ذلك الزمان كان سيؤدّي إلى قتل الشيعة وهزيمتهم، وهو ما كان مصير عدّة ثورات هاشمية، كثورة الحسين بن علي شهيد فخ، وغيرها.
2. تكليف الشيعة في ذلك الزمان كان التقيّة، كما يظهر من الأخبار الكثيرة. منها ما ورد في رجال الكشي، أنّ والي المدينة دعا المعلّى بن خنيس [أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام] وسأله عن شيعة الإمام أبي عبد الله عليه السلام وأن يكتبهم له، فقال المعلّى: «ما أعرف من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام أحدًا وإنّما أنا رجل أختلف في حوائجه وما أعرف له صاحبًا»، فقال: أتكتمني؟ أما إنّك إن كتمتني قتلتُك، فقال له المعلّى: «بالقتل تهدّدني! والله لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم، وإن أنت قتلتني لتُسعدني وأُشقيك..».
ويُفهم من هذا الحديث: أنّ الشيعة كانوا مجهولين، وأنّ الوالي أراد معرفتهم، وما كانوا مجهولين إلا لأنّ الإمام عليه السلام كلّفهم بذلك من أجل حمايتهم، وهذا المعلّى بعد أن وقع، التزم بعدم الاعتراف باسم أحد من شيعة الصادق عليه السلام، فكيف يكون التحرّك في ذلك الزمان مطلوبًا من الشيعة وهم أصلا في تقية إلى حدّ أنّهم كانوا مجهولين؟
ومما يُظهر أيضًا أنّ تكليف الشيعة في زمن الإمام الكاظم عليه السلام كان التقية، ما قاله ثقة المحدّثين الشيخ الصدوق رحمه الله في كتابه عيون أخبار الرضا: «لم يكن موسى بن جعفر عليه السلام ممّن يجمع المال، ولكنّه حصل في وقت الرشيد، وكثر أعداؤه، ولم يقدر على تفريق ما كان يجمع إلّا على القليل ممّن يثق بهم في كتمان السر، فاجتمعت هذه الأموال لأجل ذلك.
وأراد ألا يحقق على نفسه قول من كان يسعى به إلى الرشيد، ويقول: إنّه تُحمل إليه الأموال، ويُعتقد له الإمامة، ويُحمل على الخروج عليه، ولولا ذلك لفرّق ما اجتمع من هذه الأموال، على أنّها لم تكن أموال الفقراء، وإنّما كانت أمواله يصل بها مواليه؛ ليكون له إكرامًا منهم له، وبرًّا منهم به عليه السلام».
ويُفهم من هذا الكلام: أنّ الإمام الكاظم عليه السلام لم يكن يثق فيمن لا يكتم السرّ، فمن لا يكتم السرّ كان يشكّل ضررًا على الإمام، وكان الإمام حريصًا على ألا يُشتهر عنه أنّ له جماعة تحمل إليه الأموال وتعتقد بإمامته، وعلى ألا يشكّ الرشيد في أنّه ينوي الخروج عليه، كل ذلك يدلّ على الحرص الشديد على التقية لحفظ الإمام وحفظ شيعته، فمجرّد الإذاعة وإيصال الأموال وتوزيعها كان خطرًا، فما بالك بالخروج والتحرّك لنصرة الإمام وإنقاذه؟
هذا ويؤيّد أيضًا أنّ الشيعة ما خالفوا التكليف في عدم تحرّكهم لإنقاذ الإمام الكاظم عليه السلام من السجن، سكوت الإمام الرضا عليه السلام - فضلًا عن باقي الأئمّة من بعده - وعدم ذمّه للشيعة على عدم الإقدام على ذلك.
3.اذا فلا يُتصوَّر أنّ زيارة سيّد الشهداء عليه السلام في زمن الأئمة عليهم السلام كانت كما هي عليه اليوم من العظمة، فهذا توهّمٌ واشتباه، أمّا واقع الأمر هو أنّ الزيارة لم تكن يسيرةً أبدًا، بسبب حكّام الجور الذين كانوا يعرفون الشيعة من زيارتهم لسيّد الشهداء، ويقدمون على قتلهم واضطهادهم بسبب ذلك، ويدلّ عليه ما ورد في كامل الزيارات عن مسمع بن عبد الملك كردين البصري الذي سأله الإمام الصادق عليه السلام: «يا مسمع، أنت من أهل العراق، أما تأتي قبر الحسين عليه السلام؟» فقال مسمع: «لا، أنا رجل مشهور عند أهل المصر، وعندنا من يتبع هوى هذا الخليفة وأعداؤنا كثير من أهل القبائل من النُّصّاب وغيرهم، ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثّلون بي..».
وقد كان الحال مثله أيضًا قريبًا من ذلك الزمان، فقد ورد في كامل الزيارات عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي، قال: «خَرَجْتُ فِي آخِرِ زَمَانِ بَنِي مَرْوَانَ إِلَى زِيَارَةِ قَبْرِ الْحُسَيْنِ عليه السلام مُسْتَخْفِياً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى كَرْبَلَاءَ فَاخْتَفَيْتُ فِي نَاحِيَةِ القَرْيَةِ، حتَّى إِذَا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ نِصْفُهُ، أَقْبَلْتُ نَحْوَ الْقَبْرِ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ أَقْبَلَ نَحْوِي رَجُلٌ فَقَالَ لِي: انْصَرِفْ مَأْجُوراً فَإِنَّكَ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ. فَرَجَعْتُ فَزِعاً، حَتَّى إِذَا كَادَ يَطْلُعُ الفَجْرُ أَقْبَلْتُ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْهُ، خَرَجَ إِلَيَّ الرَّجُلُ فَقَالَ لِي: يَا هَذَا إِنَّكَ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ. فَقُلْتُ لَهُ: عَافَاكَ اللَّهُ، وَلِمَ لَا أَصِلُ إِلَيْهِ وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ الكُوفَةِ أُرِيدُ زِيَارَتَهُ، فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، عَافَاكَ اللَّهُ، وَأَنَا أَخَافُ إِنْ أَصْبَحَ فَيَقْتُلُوني - أَهْلُ الشَّامِ - إِنْ أَدْرَكُونِي هَاهُنَا...».
ألخلاصة.. أنّ شيعة الإمام الكاظم عليه السلام لم يقصّروا عبر عدم نصرته وإخراجه من السجن، إذ لم يكن ذلك تكليفهم أصلًا، بل كان تكليفهم خلافه، وإن أمكن حملهم على التقصير تجاه الإمام عليه السلام فمن نواحٍ أخرى. وأنّ ذهاب الشيعة لزيارة سيّد الشهداء لم يُزاحم نصرةَ الإمام الكاظم كما توهّم البعض، بل لم تكن صورة الزيارة وعدد الزوار كما توهّمه أيضًا ضاربًا المثل بالزيارة الأربعينية المليونية اليوم.
نعم إنّ فكرة تحديد الأولويّات ومعرفة التكليف والبصيرة هي أمرٌ مطلوب، لكنّ هذا المثال ليس صحيحًا، وهو اتهام باطل تجاه مجموعة من المؤمنين، ولذا وجب التوضيح. ويمكن لإحياء هذه الفكرة التمثيل من عاشوراء سيّد الشهداء عليه السلام، إذ كان تكليف الأمّة الإسلاميّة التي خذلت الإمام ترك فريضة الحج والذهاب معه ونصرته، فما نفَعَهم حجّهم وهم قد تخلّفوا عن نصرة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله؟! فبئس الأمّة تلك.
أللهم عجل فرج وليك صاحب العصر و الزمان و اجعلنا من أنصاره و اعوانه و محبيه و المستشهدين بين يديه يا ارحم الراحمين
منقول بتصرف
ابراهيم علي عوالي العاملي
تعليق