بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد
الباحثة السنية الأستاذة رولا خرسا تعرض لنا المآسي التي تعرضت لها السيدة زينب عليها السلام ، جمعتها لكم من صحيفة المصري اليوم
رولا خرسا
السند «الأخت» 1- السيدة زينب
كل من قرأ سيرة السيدة زينب عرف كم تعذبت هذه السيدة، وكم كانت قوية فى نفس الوقت رغم عذابها الشديد.. فى سلسلة السند سأتحدث عنها، فهى نِعمَ الأخت التى تحملت ما لا يتحمله بشر، رضى الله عنها وأرضاها، واقترن اسمها بفاجعة كربلاء، إحدى المعارك الحاسمة فى التاريخ الإسلامى، وهى المعركة التى تسببت فى تفرقة المسلمين إلى مذهبى السنة والشيعة.. هى ابنة السيدة فاطمة، ابنة رسول الله، عليه أفضل الصلاة والسلام، من سيدنا على بن أبى طالب، وهى أخت أم كلثوم والحسن والحسين، رضى الله عنهم جميعا وأرضاهم.. نبدأ بمعنى اسم زينب، وحسبما جاء فى القاموس المحيط فإن «الزَّيْنَبُ: نبات عشبىٌّ بصلىّ معمّر من فصيلة النرجسيات، أزهاره جميلة بيضاء اللون فوّاحة العرف، وبه سُمِّيت المرأة». من ألقابها العقيلة، أى الكريمة، والنفيسة وسيدة القوم.. كذلك سميت الغريبة، العالمة غير المعلمة، الطاهرة، السيدة. وإذا قيل فى مصر السيدة فقط عرفت أنها السيدة زينب. هناك خلاف على موعد ولادتها، يعتقد المؤرخون الشيعة أن ولادتها كانت قبل إجهاض السيدة فاطمة للمحسن، بينما يعتقد المؤرخون السنة أنها جاءت بعده.. ولدت فى المدينة المنورة. جدتها السيدة خديجة وجدها محمد، عليه الصلاة والسلام، هو من سمَّاها زينب، إحياءً لذكرى ابنته الراحلة زينب التى كانت قد توفيت قبل ولادتها بقليل، وحزن عليها رسول الله حزنا شديدا.. ويقال إنه عليه الصلاة والسلام بكى عندما حملها لأنه عرف كم ستعانى وتشهد من مصائب فى حياتها.. ويقال إنها عندما ولدت شاعت نبوءة تتحدث عما ستشهده هذه الطفلة من مصائب ومحن.. ويقول ابن الأثير فى كتابه «الكامل» إن الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام، أعطى زوجته أم سلمة ترابا من التربة التى سوف يقتل فوقها الحسين، وقال لها: «إذا صار هذا التراب دما فقد قُتل الحسين»، وحفظت التراب فى قارورة، وعندما قُتل الحسين وجدت التراب وقد امتلأ دما، فأعلنت الخبر على قومها. ويقال أيضا إن سلمان الفارسى عندما ذهب ليهنئ علياً بقدوم ابنته وجده يبكى وحدّثه عما ستلقاه زينب فى كربلاء.. هذه الحكايات قد يعتبرها البعض بعيدة عن الواقع ولكنها جاءت فى كتب الكثير من المؤرخين العرب والأجانب.
تربّت السيدة زينب فى بيت النبوة، وكانت أمها فاطمة حريصة على إعلامها بالنبوءة لتتأهل لما ينتظرها.. وما انتظرها كان كثيرا.. فى الخامسة من عمرها انتقل جدها إلى الرفيق الأعلى.. جدها سيد قومها والأقرب لقلب والدتها مات.. رأت دموع القوم ورأت دموع والدها ووالدتها بعد مبايعة الناس لأبى بكر، وكانا يؤمنان أن علياً هو الأولى بالخلافة. عاشت بعدها السيدة زينب تشهد حزن والدتها.. كيف أجهضت المحسن وكيف كانت لا تخرج من غرفتها إلا لزيارة قبر والدها عليه أفضل الصلاة والسلام.. كانت فاطمة تبكى دون توقف وكانت ابنتها زينب ترقبها فى صمت.. ثم ماتت فاطمة لتلحق بأبيها وتذهب للقاء ربها.. فتعيش زينب يتيمة حزينة.
السند.. الأخت السيدة زينب(2(
لو لاحظنا لوجدنا أن أشهر سيدات بيت النبوة فقدن أمهاتهن فى طفولتهن.. السيدة فاطمة والسيدة زينب، حتى سيدنا محمد، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، فقد أمه، السيدة آمنة، وهو طفل، بعد أن فقد أباه وهو لايزال جنيناً فى رحمها.. من المؤكد أن يُتم الأم هو أكثر المشاعر إيلاما على الإطلاق.. والسيدة زينب- التى عانت كما لم تعانِ سيدة من العذاب- بدأت رحلتها مع المعاناة مبكرة عندما تيتمت، ومما زاد الحِمل عليها وصية أمها، السيدة فاطمة، وهى على فراش الموت، بأن «تصحب أخويها الحسن والحسين وترعاهما وتكون لهما من بعدها أما».. وعملت «زينب» بالوصية، ومن أجل تنفيذها رأت من الدنيا العجب.. وكانت «زينب» الطفلة أماً ثانية للحسن والحسين وأم كلثوم، حتى بلغت سن الزواج.. واختار لها والدها ابن عمها، عبدالله بن جعفر بن أبى طالب. وجعفر بن أبى طالب هو شقيق سيدنا على، والملقب بـ«أبوالمساكين»، واليوم، نحن نلقب السيدة زينب بـ«أم العواجز».. حماتها، أو والدة زوجها، هى أسماء بنت عميس، أخت السيدة «ميمونة»، أم المؤمنين، و«سلمى»، زوج حمزة بن عبدالمطلب، و«لبابة»، زوجة العباس. زوج السيدة زينب، عبدالله بن جعفر، كان سيدا كريما جداً، وسُمى «قطب السخاء»، حتى إن «معاوية» قال عنه: «لو لم يكن فى كفه غير روحه لجاد بها، فليتق اللهَ سائلُه».. ولأن الطيبين للطيبات، تزوج «عبدالله» «زينب»، وأنجبت له أربعة بنين وفتاتين.. ورغم زواجها لم تبتعد عن بيت أبيها، حتى عندما انتقل «على» إلى الكوفة، بعد أن أصبح خليفة للمسلمين، انتقلت هى أيضا بعائلتها الصغيرة معه، واختار زوجها «عبدالله» الوقوف فى صف عمه، والد زوجته، وحارب معه فى معركة صفين الشهيرة، وهى المعركة التى تسبب فيها امتناع أهل الشام عن مبايعة سيدنا على للخلافة، بزعامة معاوية بن أبى سفيان، فصدر قرار عزل «معاوية» عن إمارة البلاد، ورفض «معاوية» تنفيذ الأمر، وأصر على أنه الأَوْلَى فى تسلم الخلافة، لأن «عليا» لم يُسلم الناس قتلة عثمان بن عفان، ثالث الخلفاء الراشدين. واستمرت المعركة تسعة أيام، ثم بدأ جيش «على» يحقق انتصارات، وكانت فكرة عمرو بن العاص الشهيرة برفع المصاحف، ثم حكاية التحكيم الشهيرة، التى لا مجال لذكرها هنا. هذه المعركة تسببت فى خسائر عدة، إذ خسر جيش على خمسة وعشرين ألفا، وخسر جيش معاوية خمسة وأربعين ألف جندى.. وبدأت بعدها الحروب والنزاعات تتوالى، بعد أن انتشرت الفتنة بين المسلمين. قُدر للسيدة زينب أن ترى زوجة جدها، السيدة عائشة، تخرج فى موقعة الجمل، لتقود كل الخارجين على على بن أبى طالب، ويُقال إن السبب الرئيسى لهذا أنها لم تنسَ له موقفه من حادث الإفك، والذى لا مجال هنا أيضا لذكره. ولكن هذه المعركة تسببت للأسف فى موت عشرة آلاف من العرب والمسلمين وصحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويُقال إن السيدة عائشة نفسها كادت تُقتل لولا أن أنقذها سيدنا على. كانت السيدة زينب فى الثلاثين من عمرها عندما اندلعت الفتنة، ولم تشارك فى هذه المعركة، ولكن ما كان ينتظرها كان أكثر إيلاما، عاشت السيدة زينب فى مقر الخلافة تتابع معارك أبيها، الجمل، ثم صفين، وبعدها لقاء الخوارج فى النهروان.. خمس سنوات من الحروب والدماء إلى أن كان ما كان.
وللحديث بقية..
رولا خرسا
السند- الأخت السيدة زينب (3(
عاشت السيدة زينب وهى ترى والدها الخليفة على بن أبى طالب وهو يحارب ويحاول التغلب على الفتنة.. وفى معركة النهروان قتل على الكثير من الخوارج، فاجتمع قادتهم بعد الهزيمة واتفقوا على قتل ثلاثة من زعماء المسلمين، هم الخليفة على بن أبى طالب، ووالى الشام معاوية بن أبى سفيان، ووالى مصر عمرو بن العاص، وأرسلوا ثلاثة لتنفيذ المهمة، ولأن العمر مكتوب فى اللوح المحفوظ، وبسبب شدة الإجراءات الأمنية على معاوية وعمرو فقد نجوا ونجح عبدالرحمن بن ملجم فى التربص بسيدنا علىّ وهو خارج لصلاة الفجر فى مسجد الكوفة وضربه على رأسه حتى تناثرت الدماء على لحيته كما تنبأ له الرسول سيدنا محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، وعرفت زينب قصة ابن ملجم مع الفتاة الجميلة جداً قطام بنت الأخضر، التى وقع فى هواها، وطلبت مهرها رأس علىّ ليصبح أغلى مهر دُفع فى امرأة. وحملوا سيدنا على إلى مقر الخلافة، وعرفت زينب أن أجل أبيها قد دَنا، فلازمت فراشه، وبعد يومين فقط انتقل إلى بارئه تاركا ولديه الحسن والحسين وأم كلثوم فى عهدة زينب، وليبدأ الإخوة رحلة عذاب طويلة غيرت التاريخ الإسلامى كله، لأنها تسببت فى تقسيمهم إلى مذاهب. أتى الدور فى الخلافة على الحسن الذى حاول التصدى لمعاوية بن أبى سفيان،
ولكن أهل الكوفة خذلوه للأسف، حتى إن أحدهم طعنه فى فخذه. وتولت عقيلة بنى هاشم السيدة زينب تمريض أخيها حتى اندمال جرحه وبدأت تقتنع أن تنازل الحسن أمر جيد لحقن الدماء، وبعد أن بقى خليفة ستة أشهر تنازل لمعاوية بعد أن وضع فى وثيقة التنازل مجموعة من الشروط، أهمها ألا يشتم علىّ، وألا يلاحق أحدا من أهل المدينة والحجاز والعراق، وأن يكون الأمر من بعد معاوية للحسن ثم للحسين والعمل بكتاب الله وسنة رسوله، إلا أن معاوية لم يهدأ وكان يؤرقه جداً عدم تولى ابنه يزيد من بعده، فقام بتسميم الحسن، أى حرض من يضع السم له. وبعد سنوات من تشييع والدها شيعت زينب أخاها، الذى دُفن فى البقيع إلى جانب أمه السيدة فاطمة الزهراء. وحزنت زينب على أخيها حزنا شديدا وبدأت تخاف على أخيها الحسين. فلقد استشعرت أن معاوية فاعل أى شىء من أجل بقاء الملك أو الخلافة بين يدى بنى أمية. وبايع الناس يزيد وليا للعهد، بعضهم راضٍ، والبعض الآخر خائف.. وكان معاوية شديد الدهاء والقوة، وكيف لا وهو ابن أبى سفيان أحد أقوى رجال قريش، وأمه هند التى تسببت فى قتل حمزة عّم الرسول، عليه الصلاة والسلام، ثم أكلت كبده!. وعاشت زينب والحسين أربع سنوات بعدها يرفضان الاعتراف بيزيد أو إعطاء البيعة. وأصبح يزيد خليفة. وطلب الوليد بن عتبة أمير المدينة من الحسين أن يبايعه، ولما رفض هدده الوليد بقطع رأسه فقرر الحسين الهجرة.. وخرج بأهله إلى مكة ومعه السيدة زينب.
تماما على طريقة جده رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خرج بعد أن عانى من قومه. ليل مظلم ورحلة طويلة شاقة جداً أياما وليالى طوالا عانت فيها السيدة زينب كى لا تترك أخاها الحسين. حتى اقتربوا من مكة لتصلهم وقتها مبايعة أهل الكوفة له ويدعونه للعودة. وصدّقهم الحسين وقرر العودة ليكون أهل الكوفة أول من يتخلى عن الحسين، ولتشهد زينب واحدة من أشهر المآسى فى التاريخ وأقساها.. كل ما عاشته من عذاب لا يقارن بما كان ينتظرها. رضى الله عنها، وصلى الله على جدها وآله وصحبه أجمعين.
السند- الأخت السيدة زينب (5(
قلنا فى مقال سابق إن سيدنا الحسين وصل إلى كربلاء قرب الكوفة فى العراق عائدا من مكة، بعد أن أرسل إليه أهلها يبايعونه..
كل مرة أذكر فيها كربلاء أشعر وكأن الاسم لم يأتِ مصادفة.. بعيدا عن معنى الاسم فى البابلية، وهو «قرب الإله».. أشعر وكأن كربلاء هى مزج لكرب وبلاء.. كيف لا وهى التى شهدت دم الحسين وجمع من آل بيت رسول الله يُراق.. وشربت تربتها الرخوة دماء طاهرة سالت.. تخاذل أهل الكوفة وتخلوا عن الحسين، وبلغ تخاذلهم أنهم أنكروا الرسائل التى بعثوا بها إلى الحسين يبايعونه فيها حين ذكّرهم بها.. وحقنا للدماء عرض الحسين على عمر بن سعد بن أبى وقّاص، قائد الجيش الذى أرسله يزيد بن معاوية لقتاله، ثلاثة حلول: إما أن يرجع إلى المكان الذى أقبل منه وهو مكة، وإما أن يذهب إلى ثغر من ثغور الإسلام للجهاد فيه، وإما أن يأتى يزيد بن معاوية فى دمشق فيضع يده فى يده.. كان يحاول بكل الطرق حقن الدماء لأنه كان يرى هلاك قومه لقلة عددهم.. ورفض والى «عمر بن سعد» «عبيد الله بن زياد» هذه الحلول، وأبى إلا أن يسلم الحسين نفسه باعتباره أسيراً، ويرسله بهذه الصفة إلى «يزيد» فى دمشق، وطبعا رفض الحسين.. ومرة ثانية ولأنه كان يخاف على قومه من الهلاك تقدم الحسين بعرض آخر، ولكن هذه المرة لقومه عندما أعفاهم من أى التزام وقال لهم: «لقد بررتم وعاونتم، والقوم لا يريدون غيرى، ولو قتلونى لم يبتغوا غيرى أحداً، فإذا جنّكم الليل فتفرقوا فى سواده وانجوا بأنفسكم». إلا أن الذين كانوا معه، ومعظمهم من آل بيت رسول الله، قالوا له: «معاذ الله!، بل نحيا بحياتك ونموت معك». ومرت ليلة طويلة على سيدنا الحسين.. كانت تجلس فيها معه معظم الوقت أخته السيدة زينب.. ليلتها قال لها: «إنى أرى رسول الله- ﷺ وآله- فى المنام، فقال لى: إنك تروح إلينا».. وبكت زينب.. وعرض على أهله مرة أخرى الذهاب ورفضوا وبكوا، وسمع الجميع صوت عقيلة بنى هاشم تبكى وتقول: «اليوم مات رسول الله وأمى فاطمة وأبى على وأخى الحسن».. كانت تصرخ لأنها تعلم أن مَن ذكرتهم هم السابقون ومَن معها سوف يلحقون بهم.. كان على بن الحسين مريضا، وزينب تجلس قربه، وسمعا الحسين يقول: «إنما الأمر إلى الجليل وكل حى سالك السبيل».
ففهما أنه يودع أصحابه، فبدأت زينب باللطم، فما كان من الحسين إلا أن حلّفها ألا تلطم أو تشق ملابسها وأن تتماسك بعد موته.. أى قوة هذه سواء من جانب الأخ أو الأخت.. أخ يهدئ من روع أخته وهو ذاهب للموت ويُحمّلها فوق أكتافها أحمالا فوق أحمال، واثقا فى ثباتها وإيمانها؟!.
لن أتحدث عن معركة كربلاء أو «ألطف» كما يطلق عليها، سأكتفى بقول: سبعون حاربوا ضد الآلاف.. حاول فى بدايتها الحسين تذكير مَن اختاروا محاربته بالعذاب الذى ينتظر مَن يقتل آل بيت رسول الله ظلما، ولكن لم يسمعه أحد إلا «الحر بن يزيد»، الذى ترك جيشه واستُشهد مع الحسين. أول مَن استُشهد هو على بن الحسين، بعد أن حارب ظمآن، لأن جيش عمر بن سعد منع عنهم الماء، وكان الحسين يصبره، قائلا: ستشرب مع رسول الله.. أى إيمان هذا وأى جلد وصبر؟!.. واستمرت المعركة، واستُشهد كثيرون، لعل أشهرهم شقيق الحسين، «العباس بن على»، الذى كان يُعرف بـ«قمر بنى هاشم»، وقصة مقتله حزينة جدا، وفيها بطولة وتضحية، فقد كان حريصا على إحضار الماء لسقاية الحسين، فأحاط به جمع من الأمويين، وقطعوا يده اليمنى، ثم اليسرى، ثم أجهزوا عليه تماماً، ومنعوا توصيل الماء لمعسكر الحسين. ويُعتبر «عبدالله» الرضيع ابن الحسين واحداً من أبرز ضحايا المذبحة.. رَآه أحد أفراد الجيش الأموى يُدعى «حرملة»، فرماه بسهم وهو بين يدى والده فقتله.
وبقى الحسين وحده، بعد أن استُشهد كل أهله، ولم يجرؤ أحد فى البداية على قتله حتى أتى «شمر بن ذى الجوشن»، كان مصاباً بالبرص ودميم الخلقة، وقتل الحسين بطريقة وحشية، وقطع رأسه وفصله عن جسده.. لم ينجُ من المذبحة إلا «سكينة بنت الحسين». وللحديث بقية..
السند - الأخت السيدة زينب 6
مات سيدنا الحسين ومعه جمع كبير من أهله ثلاثة وسبعين شهيدا لم يستسلموا أمام جيش من أربعة آلاف رجل.. قتل حفيد رسول الله ﷺ وأهله بعد أن هان عليهم أن يتركوهم دون كلأ أو ماء.. وشهدت المجزرة التى أصبحت تسمى بطلة كربلاء إضافة إلى أسمائها العديدة.. السيدة زينب عقيلة بنى هاشم الصامدة القوية.. شهدت لحظات الاحتضار ولحظات انتقال أحبائها إلى البارئ.. شهدت الألم وعرفت معنى فقد العزيز وكل الأهل.. شهدت دماء أحبائها وقد أغرقت رمال الكوفة.. كل هذا لم يشف غليل الطامعين فى السلطة وكأن يزيد لم يكتف بكل من قتل، سيقت السيدة زينب أسيرة مع من نجا من أسرتها فى موكب للكوفة.. الكوفة التى تخلت عن أخيها وخذلته بعد أن وعده أهلها بنصرته ونسوا أن الله سبحانه قد قالها واضحة فى القرآن الكريم «إن العهد كان مسؤولا».. وخطبت فى أهل الكوفة خطبة يحكى عنها التاريخ وقادوها إلى بيت الإمارة.. البيت الذى عاشت فيه مع والدها على بن أبى طالب عندما كان أميرا للمؤمنين.. رغم إحساسها بالمرارة الشديدة رفعت رأسها عاليا وهى الأسيرة ووضعت يدها على قلبها مصلية على رسول الله، جدها، علها تمنع قلبها أن ينخلع عن صدرها من شدة الألم.. فقدت أباها وولدها وشقيقيها.. كانت السيدة متماسكة لَم تذرف دمعة واحدة رافعة رأسها وقلبها ينزف دما.. تذكر نفسها دوما هى ابنة من.. وجلست قبل أن يأذن لها الأمير بالجلوس.. سألها من تكون، فلم تجبه.. كرر السؤال فأجابته أمتها:
-«هذه زينب ابنة فاطمة..».
وبدا ابن زياد فى السخرية لما آل إليه وضع آل بيتها محاولا أن يشككها فأجابته:
«سيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده».. ثم نظر إلى الغلام على وعندما علم بأنه على ابن الحسين كاد يقتله لولا أن ذادت عنه السيدة زينب وقالت له:
لو أردت قتله فاقتلنى معه.. فأعتقه.
وأمر يزيد بأن يطوف رأس الحسين فى كل الكوفة محمولا على خشبة كى يعلم الناس مصير من يجرؤ على المعارضة ومؤازرة آل بيت رسول الله ﷺ.. وكأن القدر لم يكتف بكل هذه الابتلاءات فأمر الأمير بأن يساقوا إلى دمشق فى موكب وهم أسرى والأغلال فى يدى على زين العابدين.. وتسبق الموكب السبايا من نساء آل بيت رسول الله ﷺ يحملن رأس الحسين ورؤوس من استشهدوا معه.. عندما وصلوا دمشق كان يزيد بن معاوية جالسا محاطا بجمع من الصحابة وأهل الشام فخورا بعملته.. وأخذ يلعب بعصاه فى ثغر الحسين فرآه أحد الصحابة وقال له مستنكرا: من تلعب بثغره سيكون شفيعه يوم القيامة جده محمد ﷺ.. ولَم تسكت السيدة زينب وخطبت فى الناس خطبة عصماء بينت من خلالها للناس الغافلين الحقائق، وفضحت أفعال بنى أمية وجرائمهم التى ارتكبوها فى حادثة كربلاء، حيث كان يعتقد أهل الشام أن الحسين وأصحابه من المارقين عن الدين.
بعدها أمر يزيد بإبعاد النساء اللاتى بدأن بالبكاء وشاركتهن البكاء سيدات بنى أمية بعد أن رأين رأس الحسين.
وقرر يزيد أن يرسل الأسرى إلى المدينة بعد أن أطلق سراحهم مع أحد رجاله.. وكان هذا الرجل محبا لآل البيت فأحسن معاملتهم فطلبوا منه أن يعرجوا على كربلاء فى طريقهم فقبل ليبقوا هناك ثلاثة أيام يبكون شهداءهم.. ثم وصلوا المدينة ولَم يكن أهلها قد علموا بعد بما حدث.. فتحولت بعد علمهم إلى مناحة فكان يسمع البكاء فى كل منزل..
رولا خرسا
-7 السند- الأخت
وصلت السيدة زينب إلى المدينة، وعرف أهلها باستشهاد الحسين، وبكت البيوت جميعا على سِبْط رسول الله ﷺ.
يُقال إن أم البنين بنت خزام، زوجة الإمام على، كانت تخرج باستمرار إلى البقيع تبكى أبناءها الأربعة الذين قُتلوا فى كربلاء، عبدالله وجعفر وعثمان والعباس، وإن الرباب بنت امرئ القيس، زوجة الحسين، أم ابنته السيدة سكينة، لم تحتمل فراقه، ورفضت كل مَن تقدم لها من خطاب، وماتت بعد استشهاده بسنة.
بقيت السيدة زينب فى المدينة وقتا قليلا.. فقد خاف منها بنو أمية. كيف لا وكان كل مَن يراها فى المدينة يتذكر استشهاد الحسين وما حدث له فى كربلاء، خاصة وقد كانت عاقلة ومتحدثه جيدة؟!، خافوا أن تثير أهل المدينة عليهم.. ولم يُكذِّبوا خبرا، وطلبوا منها مغادرة المدينة.. فرفضت وثارت، ولكن اجتمعت عندها قريباتها من النساء، وأقنعنها بذلك خوفا عليها من انتقام الحاكم منها.. واقتنعت، إذ إن الله سبحانه قد أورث آل البيت الأرض ومَن عليها، واختارت الذهاب إلى مصر.. رحلة جديدة لم تكن تعلم أنها ستكون الأخيرة.. وصلت عام 61هـ إلى مصر.. وجدت فى استقبالها مسلمة بن مخلد الأنصارى، على رأس وفد من علماء البلد وأهم رجالها، ولما رأوها بكوا.. تذكروا مأساة الحسين وما حدث له.. استقبلها أمير مصر فى داره، وبقيت سنة عابدة زاهدة حتى ماتت.
وهنا نصل إلى نقطة الخلاف الكبرى بين السنة والشيعة، بل بين العلماء أنفسهم، إذ يقول الباحث المصرى على مبارك، فى كتابه «الخطط التوفيقية»: «لم أرَ فى كتب التواريخ أن السيدة زينب بنت على، رضى الله عنهما، جاءت إلى مصر فى الحياة أو بعد الممات»، وعندما سُئل المفتى، الشيخ محمد بخيت المطيعى، حول هذا الموضوع كرّر ما ذكره على مبارك، ورأى أن المدفونة بمصر من الزينبات هى زينب بنت يحيى بن زيد بن على بن الحسين، وليست زينب بنت على، أخت الحسين، وهذه شهادة تنافى المقولة المتداولة، التى تؤكد أن «زينب» هى المدفونة فى الحى المعروف الآن باسمها فى القاهرة، وأن وفاتها حدثت فى مصر، وتم دفنها فيها، والتى أكدتها الدكتورة عائشة عبدالرحمن، المعروفة بـ«بنت الشاطئ»، عندما قالت إنها مدفونة فى مصر.. ويقول الشيعة إنها دُفنت فى الشام، فى المنطقة المعروفة باسمها جنوب دمشق، والمسماة «الزينبية». ويقول البعض إنها لم تغادر المدينة أصلا، وإنها مدفونة فى البقيع.. أينما كانت، فلكل مسجد من مساجدها تأثير كبير على محبيها، كيف لا وعندما نذكر اسمها، «السيدة زينب»، نذكر عابدة آل محمد، صلى الله عليه وسلم، التى لم تترك نافلة دون أن تؤديها، وكانت تقضى عامة لياليها فى التهجد وتلاوة القرآن؟!، كيف لا والسيدة زينب هى الصابرة، بل يُضرب المثل بها فى الصبر. ألَمَّ بها ما ألَمَّ من كوارث ومصائب، وبقيت صابرة صبرا يذهل- حتى يومنا هذا- كل كائن حى، حتى إنها حينما وقفت على جسد أخيها الحسين فى كربلاء، ورغم ما فى قلبها من ألم، بسطت يديها تحت بدنه المقدس، ورفعته نحو السماء، وقالت: «إلهى تقبَّل منَّا هذا القربان»؟!
كيف لا وعندما نذكر السيدة زينب نقول: الفصيحة البليغة، وخطبتها فى الكوفة خير دليل " انتهى النقل
دمتم برعاية الله
كتبته : وهج الإيمان
اللهم صل على محمد وال محمد
الباحثة السنية الأستاذة رولا خرسا تعرض لنا المآسي التي تعرضت لها السيدة زينب عليها السلام ، جمعتها لكم من صحيفة المصري اليوم
رولا خرسا
السند «الأخت» 1- السيدة زينب
كل من قرأ سيرة السيدة زينب عرف كم تعذبت هذه السيدة، وكم كانت قوية فى نفس الوقت رغم عذابها الشديد.. فى سلسلة السند سأتحدث عنها، فهى نِعمَ الأخت التى تحملت ما لا يتحمله بشر، رضى الله عنها وأرضاها، واقترن اسمها بفاجعة كربلاء، إحدى المعارك الحاسمة فى التاريخ الإسلامى، وهى المعركة التى تسببت فى تفرقة المسلمين إلى مذهبى السنة والشيعة.. هى ابنة السيدة فاطمة، ابنة رسول الله، عليه أفضل الصلاة والسلام، من سيدنا على بن أبى طالب، وهى أخت أم كلثوم والحسن والحسين، رضى الله عنهم جميعا وأرضاهم.. نبدأ بمعنى اسم زينب، وحسبما جاء فى القاموس المحيط فإن «الزَّيْنَبُ: نبات عشبىٌّ بصلىّ معمّر من فصيلة النرجسيات، أزهاره جميلة بيضاء اللون فوّاحة العرف، وبه سُمِّيت المرأة». من ألقابها العقيلة، أى الكريمة، والنفيسة وسيدة القوم.. كذلك سميت الغريبة، العالمة غير المعلمة، الطاهرة، السيدة. وإذا قيل فى مصر السيدة فقط عرفت أنها السيدة زينب. هناك خلاف على موعد ولادتها، يعتقد المؤرخون الشيعة أن ولادتها كانت قبل إجهاض السيدة فاطمة للمحسن، بينما يعتقد المؤرخون السنة أنها جاءت بعده.. ولدت فى المدينة المنورة. جدتها السيدة خديجة وجدها محمد، عليه الصلاة والسلام، هو من سمَّاها زينب، إحياءً لذكرى ابنته الراحلة زينب التى كانت قد توفيت قبل ولادتها بقليل، وحزن عليها رسول الله حزنا شديدا.. ويقال إنه عليه الصلاة والسلام بكى عندما حملها لأنه عرف كم ستعانى وتشهد من مصائب فى حياتها.. ويقال إنها عندما ولدت شاعت نبوءة تتحدث عما ستشهده هذه الطفلة من مصائب ومحن.. ويقول ابن الأثير فى كتابه «الكامل» إن الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام، أعطى زوجته أم سلمة ترابا من التربة التى سوف يقتل فوقها الحسين، وقال لها: «إذا صار هذا التراب دما فقد قُتل الحسين»، وحفظت التراب فى قارورة، وعندما قُتل الحسين وجدت التراب وقد امتلأ دما، فأعلنت الخبر على قومها. ويقال أيضا إن سلمان الفارسى عندما ذهب ليهنئ علياً بقدوم ابنته وجده يبكى وحدّثه عما ستلقاه زينب فى كربلاء.. هذه الحكايات قد يعتبرها البعض بعيدة عن الواقع ولكنها جاءت فى كتب الكثير من المؤرخين العرب والأجانب.
تربّت السيدة زينب فى بيت النبوة، وكانت أمها فاطمة حريصة على إعلامها بالنبوءة لتتأهل لما ينتظرها.. وما انتظرها كان كثيرا.. فى الخامسة من عمرها انتقل جدها إلى الرفيق الأعلى.. جدها سيد قومها والأقرب لقلب والدتها مات.. رأت دموع القوم ورأت دموع والدها ووالدتها بعد مبايعة الناس لأبى بكر، وكانا يؤمنان أن علياً هو الأولى بالخلافة. عاشت بعدها السيدة زينب تشهد حزن والدتها.. كيف أجهضت المحسن وكيف كانت لا تخرج من غرفتها إلا لزيارة قبر والدها عليه أفضل الصلاة والسلام.. كانت فاطمة تبكى دون توقف وكانت ابنتها زينب ترقبها فى صمت.. ثم ماتت فاطمة لتلحق بأبيها وتذهب للقاء ربها.. فتعيش زينب يتيمة حزينة.
السند.. الأخت السيدة زينب(2(
لو لاحظنا لوجدنا أن أشهر سيدات بيت النبوة فقدن أمهاتهن فى طفولتهن.. السيدة فاطمة والسيدة زينب، حتى سيدنا محمد، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، فقد أمه، السيدة آمنة، وهو طفل، بعد أن فقد أباه وهو لايزال جنيناً فى رحمها.. من المؤكد أن يُتم الأم هو أكثر المشاعر إيلاما على الإطلاق.. والسيدة زينب- التى عانت كما لم تعانِ سيدة من العذاب- بدأت رحلتها مع المعاناة مبكرة عندما تيتمت، ومما زاد الحِمل عليها وصية أمها، السيدة فاطمة، وهى على فراش الموت، بأن «تصحب أخويها الحسن والحسين وترعاهما وتكون لهما من بعدها أما».. وعملت «زينب» بالوصية، ومن أجل تنفيذها رأت من الدنيا العجب.. وكانت «زينب» الطفلة أماً ثانية للحسن والحسين وأم كلثوم، حتى بلغت سن الزواج.. واختار لها والدها ابن عمها، عبدالله بن جعفر بن أبى طالب. وجعفر بن أبى طالب هو شقيق سيدنا على، والملقب بـ«أبوالمساكين»، واليوم، نحن نلقب السيدة زينب بـ«أم العواجز».. حماتها، أو والدة زوجها، هى أسماء بنت عميس، أخت السيدة «ميمونة»، أم المؤمنين، و«سلمى»، زوج حمزة بن عبدالمطلب، و«لبابة»، زوجة العباس. زوج السيدة زينب، عبدالله بن جعفر، كان سيدا كريما جداً، وسُمى «قطب السخاء»، حتى إن «معاوية» قال عنه: «لو لم يكن فى كفه غير روحه لجاد بها، فليتق اللهَ سائلُه».. ولأن الطيبين للطيبات، تزوج «عبدالله» «زينب»، وأنجبت له أربعة بنين وفتاتين.. ورغم زواجها لم تبتعد عن بيت أبيها، حتى عندما انتقل «على» إلى الكوفة، بعد أن أصبح خليفة للمسلمين، انتقلت هى أيضا بعائلتها الصغيرة معه، واختار زوجها «عبدالله» الوقوف فى صف عمه، والد زوجته، وحارب معه فى معركة صفين الشهيرة، وهى المعركة التى تسبب فيها امتناع أهل الشام عن مبايعة سيدنا على للخلافة، بزعامة معاوية بن أبى سفيان، فصدر قرار عزل «معاوية» عن إمارة البلاد، ورفض «معاوية» تنفيذ الأمر، وأصر على أنه الأَوْلَى فى تسلم الخلافة، لأن «عليا» لم يُسلم الناس قتلة عثمان بن عفان، ثالث الخلفاء الراشدين. واستمرت المعركة تسعة أيام، ثم بدأ جيش «على» يحقق انتصارات، وكانت فكرة عمرو بن العاص الشهيرة برفع المصاحف، ثم حكاية التحكيم الشهيرة، التى لا مجال لذكرها هنا. هذه المعركة تسببت فى خسائر عدة، إذ خسر جيش على خمسة وعشرين ألفا، وخسر جيش معاوية خمسة وأربعين ألف جندى.. وبدأت بعدها الحروب والنزاعات تتوالى، بعد أن انتشرت الفتنة بين المسلمين. قُدر للسيدة زينب أن ترى زوجة جدها، السيدة عائشة، تخرج فى موقعة الجمل، لتقود كل الخارجين على على بن أبى طالب، ويُقال إن السبب الرئيسى لهذا أنها لم تنسَ له موقفه من حادث الإفك، والذى لا مجال هنا أيضا لذكره. ولكن هذه المعركة تسببت للأسف فى موت عشرة آلاف من العرب والمسلمين وصحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويُقال إن السيدة عائشة نفسها كادت تُقتل لولا أن أنقذها سيدنا على. كانت السيدة زينب فى الثلاثين من عمرها عندما اندلعت الفتنة، ولم تشارك فى هذه المعركة، ولكن ما كان ينتظرها كان أكثر إيلاما، عاشت السيدة زينب فى مقر الخلافة تتابع معارك أبيها، الجمل، ثم صفين، وبعدها لقاء الخوارج فى النهروان.. خمس سنوات من الحروب والدماء إلى أن كان ما كان.
وللحديث بقية..
رولا خرسا
السند- الأخت السيدة زينب (3(
عاشت السيدة زينب وهى ترى والدها الخليفة على بن أبى طالب وهو يحارب ويحاول التغلب على الفتنة.. وفى معركة النهروان قتل على الكثير من الخوارج، فاجتمع قادتهم بعد الهزيمة واتفقوا على قتل ثلاثة من زعماء المسلمين، هم الخليفة على بن أبى طالب، ووالى الشام معاوية بن أبى سفيان، ووالى مصر عمرو بن العاص، وأرسلوا ثلاثة لتنفيذ المهمة، ولأن العمر مكتوب فى اللوح المحفوظ، وبسبب شدة الإجراءات الأمنية على معاوية وعمرو فقد نجوا ونجح عبدالرحمن بن ملجم فى التربص بسيدنا علىّ وهو خارج لصلاة الفجر فى مسجد الكوفة وضربه على رأسه حتى تناثرت الدماء على لحيته كما تنبأ له الرسول سيدنا محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، وعرفت زينب قصة ابن ملجم مع الفتاة الجميلة جداً قطام بنت الأخضر، التى وقع فى هواها، وطلبت مهرها رأس علىّ ليصبح أغلى مهر دُفع فى امرأة. وحملوا سيدنا على إلى مقر الخلافة، وعرفت زينب أن أجل أبيها قد دَنا، فلازمت فراشه، وبعد يومين فقط انتقل إلى بارئه تاركا ولديه الحسن والحسين وأم كلثوم فى عهدة زينب، وليبدأ الإخوة رحلة عذاب طويلة غيرت التاريخ الإسلامى كله، لأنها تسببت فى تقسيمهم إلى مذاهب. أتى الدور فى الخلافة على الحسن الذى حاول التصدى لمعاوية بن أبى سفيان،
ولكن أهل الكوفة خذلوه للأسف، حتى إن أحدهم طعنه فى فخذه. وتولت عقيلة بنى هاشم السيدة زينب تمريض أخيها حتى اندمال جرحه وبدأت تقتنع أن تنازل الحسن أمر جيد لحقن الدماء، وبعد أن بقى خليفة ستة أشهر تنازل لمعاوية بعد أن وضع فى وثيقة التنازل مجموعة من الشروط، أهمها ألا يشتم علىّ، وألا يلاحق أحدا من أهل المدينة والحجاز والعراق، وأن يكون الأمر من بعد معاوية للحسن ثم للحسين والعمل بكتاب الله وسنة رسوله، إلا أن معاوية لم يهدأ وكان يؤرقه جداً عدم تولى ابنه يزيد من بعده، فقام بتسميم الحسن، أى حرض من يضع السم له. وبعد سنوات من تشييع والدها شيعت زينب أخاها، الذى دُفن فى البقيع إلى جانب أمه السيدة فاطمة الزهراء. وحزنت زينب على أخيها حزنا شديدا وبدأت تخاف على أخيها الحسين. فلقد استشعرت أن معاوية فاعل أى شىء من أجل بقاء الملك أو الخلافة بين يدى بنى أمية. وبايع الناس يزيد وليا للعهد، بعضهم راضٍ، والبعض الآخر خائف.. وكان معاوية شديد الدهاء والقوة، وكيف لا وهو ابن أبى سفيان أحد أقوى رجال قريش، وأمه هند التى تسببت فى قتل حمزة عّم الرسول، عليه الصلاة والسلام، ثم أكلت كبده!. وعاشت زينب والحسين أربع سنوات بعدها يرفضان الاعتراف بيزيد أو إعطاء البيعة. وأصبح يزيد خليفة. وطلب الوليد بن عتبة أمير المدينة من الحسين أن يبايعه، ولما رفض هدده الوليد بقطع رأسه فقرر الحسين الهجرة.. وخرج بأهله إلى مكة ومعه السيدة زينب.
تماما على طريقة جده رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خرج بعد أن عانى من قومه. ليل مظلم ورحلة طويلة شاقة جداً أياما وليالى طوالا عانت فيها السيدة زينب كى لا تترك أخاها الحسين. حتى اقتربوا من مكة لتصلهم وقتها مبايعة أهل الكوفة له ويدعونه للعودة. وصدّقهم الحسين وقرر العودة ليكون أهل الكوفة أول من يتخلى عن الحسين، ولتشهد زينب واحدة من أشهر المآسى فى التاريخ وأقساها.. كل ما عاشته من عذاب لا يقارن بما كان ينتظرها. رضى الله عنها، وصلى الله على جدها وآله وصحبه أجمعين.
السند- الأخت السيدة زينب (5(
قلنا فى مقال سابق إن سيدنا الحسين وصل إلى كربلاء قرب الكوفة فى العراق عائدا من مكة، بعد أن أرسل إليه أهلها يبايعونه..
كل مرة أذكر فيها كربلاء أشعر وكأن الاسم لم يأتِ مصادفة.. بعيدا عن معنى الاسم فى البابلية، وهو «قرب الإله».. أشعر وكأن كربلاء هى مزج لكرب وبلاء.. كيف لا وهى التى شهدت دم الحسين وجمع من آل بيت رسول الله يُراق.. وشربت تربتها الرخوة دماء طاهرة سالت.. تخاذل أهل الكوفة وتخلوا عن الحسين، وبلغ تخاذلهم أنهم أنكروا الرسائل التى بعثوا بها إلى الحسين يبايعونه فيها حين ذكّرهم بها.. وحقنا للدماء عرض الحسين على عمر بن سعد بن أبى وقّاص، قائد الجيش الذى أرسله يزيد بن معاوية لقتاله، ثلاثة حلول: إما أن يرجع إلى المكان الذى أقبل منه وهو مكة، وإما أن يذهب إلى ثغر من ثغور الإسلام للجهاد فيه، وإما أن يأتى يزيد بن معاوية فى دمشق فيضع يده فى يده.. كان يحاول بكل الطرق حقن الدماء لأنه كان يرى هلاك قومه لقلة عددهم.. ورفض والى «عمر بن سعد» «عبيد الله بن زياد» هذه الحلول، وأبى إلا أن يسلم الحسين نفسه باعتباره أسيراً، ويرسله بهذه الصفة إلى «يزيد» فى دمشق، وطبعا رفض الحسين.. ومرة ثانية ولأنه كان يخاف على قومه من الهلاك تقدم الحسين بعرض آخر، ولكن هذه المرة لقومه عندما أعفاهم من أى التزام وقال لهم: «لقد بررتم وعاونتم، والقوم لا يريدون غيرى، ولو قتلونى لم يبتغوا غيرى أحداً، فإذا جنّكم الليل فتفرقوا فى سواده وانجوا بأنفسكم». إلا أن الذين كانوا معه، ومعظمهم من آل بيت رسول الله، قالوا له: «معاذ الله!، بل نحيا بحياتك ونموت معك». ومرت ليلة طويلة على سيدنا الحسين.. كانت تجلس فيها معه معظم الوقت أخته السيدة زينب.. ليلتها قال لها: «إنى أرى رسول الله- ﷺ وآله- فى المنام، فقال لى: إنك تروح إلينا».. وبكت زينب.. وعرض على أهله مرة أخرى الذهاب ورفضوا وبكوا، وسمع الجميع صوت عقيلة بنى هاشم تبكى وتقول: «اليوم مات رسول الله وأمى فاطمة وأبى على وأخى الحسن».. كانت تصرخ لأنها تعلم أن مَن ذكرتهم هم السابقون ومَن معها سوف يلحقون بهم.. كان على بن الحسين مريضا، وزينب تجلس قربه، وسمعا الحسين يقول: «إنما الأمر إلى الجليل وكل حى سالك السبيل».
ففهما أنه يودع أصحابه، فبدأت زينب باللطم، فما كان من الحسين إلا أن حلّفها ألا تلطم أو تشق ملابسها وأن تتماسك بعد موته.. أى قوة هذه سواء من جانب الأخ أو الأخت.. أخ يهدئ من روع أخته وهو ذاهب للموت ويُحمّلها فوق أكتافها أحمالا فوق أحمال، واثقا فى ثباتها وإيمانها؟!.
لن أتحدث عن معركة كربلاء أو «ألطف» كما يطلق عليها، سأكتفى بقول: سبعون حاربوا ضد الآلاف.. حاول فى بدايتها الحسين تذكير مَن اختاروا محاربته بالعذاب الذى ينتظر مَن يقتل آل بيت رسول الله ظلما، ولكن لم يسمعه أحد إلا «الحر بن يزيد»، الذى ترك جيشه واستُشهد مع الحسين. أول مَن استُشهد هو على بن الحسين، بعد أن حارب ظمآن، لأن جيش عمر بن سعد منع عنهم الماء، وكان الحسين يصبره، قائلا: ستشرب مع رسول الله.. أى إيمان هذا وأى جلد وصبر؟!.. واستمرت المعركة، واستُشهد كثيرون، لعل أشهرهم شقيق الحسين، «العباس بن على»، الذى كان يُعرف بـ«قمر بنى هاشم»، وقصة مقتله حزينة جدا، وفيها بطولة وتضحية، فقد كان حريصا على إحضار الماء لسقاية الحسين، فأحاط به جمع من الأمويين، وقطعوا يده اليمنى، ثم اليسرى، ثم أجهزوا عليه تماماً، ومنعوا توصيل الماء لمعسكر الحسين. ويُعتبر «عبدالله» الرضيع ابن الحسين واحداً من أبرز ضحايا المذبحة.. رَآه أحد أفراد الجيش الأموى يُدعى «حرملة»، فرماه بسهم وهو بين يدى والده فقتله.
وبقى الحسين وحده، بعد أن استُشهد كل أهله، ولم يجرؤ أحد فى البداية على قتله حتى أتى «شمر بن ذى الجوشن»، كان مصاباً بالبرص ودميم الخلقة، وقتل الحسين بطريقة وحشية، وقطع رأسه وفصله عن جسده.. لم ينجُ من المذبحة إلا «سكينة بنت الحسين». وللحديث بقية..
السند - الأخت السيدة زينب 6
مات سيدنا الحسين ومعه جمع كبير من أهله ثلاثة وسبعين شهيدا لم يستسلموا أمام جيش من أربعة آلاف رجل.. قتل حفيد رسول الله ﷺ وأهله بعد أن هان عليهم أن يتركوهم دون كلأ أو ماء.. وشهدت المجزرة التى أصبحت تسمى بطلة كربلاء إضافة إلى أسمائها العديدة.. السيدة زينب عقيلة بنى هاشم الصامدة القوية.. شهدت لحظات الاحتضار ولحظات انتقال أحبائها إلى البارئ.. شهدت الألم وعرفت معنى فقد العزيز وكل الأهل.. شهدت دماء أحبائها وقد أغرقت رمال الكوفة.. كل هذا لم يشف غليل الطامعين فى السلطة وكأن يزيد لم يكتف بكل من قتل، سيقت السيدة زينب أسيرة مع من نجا من أسرتها فى موكب للكوفة.. الكوفة التى تخلت عن أخيها وخذلته بعد أن وعده أهلها بنصرته ونسوا أن الله سبحانه قد قالها واضحة فى القرآن الكريم «إن العهد كان مسؤولا».. وخطبت فى أهل الكوفة خطبة يحكى عنها التاريخ وقادوها إلى بيت الإمارة.. البيت الذى عاشت فيه مع والدها على بن أبى طالب عندما كان أميرا للمؤمنين.. رغم إحساسها بالمرارة الشديدة رفعت رأسها عاليا وهى الأسيرة ووضعت يدها على قلبها مصلية على رسول الله، جدها، علها تمنع قلبها أن ينخلع عن صدرها من شدة الألم.. فقدت أباها وولدها وشقيقيها.. كانت السيدة متماسكة لَم تذرف دمعة واحدة رافعة رأسها وقلبها ينزف دما.. تذكر نفسها دوما هى ابنة من.. وجلست قبل أن يأذن لها الأمير بالجلوس.. سألها من تكون، فلم تجبه.. كرر السؤال فأجابته أمتها:
-«هذه زينب ابنة فاطمة..».
وبدا ابن زياد فى السخرية لما آل إليه وضع آل بيتها محاولا أن يشككها فأجابته:
«سيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده».. ثم نظر إلى الغلام على وعندما علم بأنه على ابن الحسين كاد يقتله لولا أن ذادت عنه السيدة زينب وقالت له:
لو أردت قتله فاقتلنى معه.. فأعتقه.
وأمر يزيد بأن يطوف رأس الحسين فى كل الكوفة محمولا على خشبة كى يعلم الناس مصير من يجرؤ على المعارضة ومؤازرة آل بيت رسول الله ﷺ.. وكأن القدر لم يكتف بكل هذه الابتلاءات فأمر الأمير بأن يساقوا إلى دمشق فى موكب وهم أسرى والأغلال فى يدى على زين العابدين.. وتسبق الموكب السبايا من نساء آل بيت رسول الله ﷺ يحملن رأس الحسين ورؤوس من استشهدوا معه.. عندما وصلوا دمشق كان يزيد بن معاوية جالسا محاطا بجمع من الصحابة وأهل الشام فخورا بعملته.. وأخذ يلعب بعصاه فى ثغر الحسين فرآه أحد الصحابة وقال له مستنكرا: من تلعب بثغره سيكون شفيعه يوم القيامة جده محمد ﷺ.. ولَم تسكت السيدة زينب وخطبت فى الناس خطبة عصماء بينت من خلالها للناس الغافلين الحقائق، وفضحت أفعال بنى أمية وجرائمهم التى ارتكبوها فى حادثة كربلاء، حيث كان يعتقد أهل الشام أن الحسين وأصحابه من المارقين عن الدين.
بعدها أمر يزيد بإبعاد النساء اللاتى بدأن بالبكاء وشاركتهن البكاء سيدات بنى أمية بعد أن رأين رأس الحسين.
وقرر يزيد أن يرسل الأسرى إلى المدينة بعد أن أطلق سراحهم مع أحد رجاله.. وكان هذا الرجل محبا لآل البيت فأحسن معاملتهم فطلبوا منه أن يعرجوا على كربلاء فى طريقهم فقبل ليبقوا هناك ثلاثة أيام يبكون شهداءهم.. ثم وصلوا المدينة ولَم يكن أهلها قد علموا بعد بما حدث.. فتحولت بعد علمهم إلى مناحة فكان يسمع البكاء فى كل منزل..
رولا خرسا
-7 السند- الأخت
وصلت السيدة زينب إلى المدينة، وعرف أهلها باستشهاد الحسين، وبكت البيوت جميعا على سِبْط رسول الله ﷺ.
يُقال إن أم البنين بنت خزام، زوجة الإمام على، كانت تخرج باستمرار إلى البقيع تبكى أبناءها الأربعة الذين قُتلوا فى كربلاء، عبدالله وجعفر وعثمان والعباس، وإن الرباب بنت امرئ القيس، زوجة الحسين، أم ابنته السيدة سكينة، لم تحتمل فراقه، ورفضت كل مَن تقدم لها من خطاب، وماتت بعد استشهاده بسنة.
بقيت السيدة زينب فى المدينة وقتا قليلا.. فقد خاف منها بنو أمية. كيف لا وكان كل مَن يراها فى المدينة يتذكر استشهاد الحسين وما حدث له فى كربلاء، خاصة وقد كانت عاقلة ومتحدثه جيدة؟!، خافوا أن تثير أهل المدينة عليهم.. ولم يُكذِّبوا خبرا، وطلبوا منها مغادرة المدينة.. فرفضت وثارت، ولكن اجتمعت عندها قريباتها من النساء، وأقنعنها بذلك خوفا عليها من انتقام الحاكم منها.. واقتنعت، إذ إن الله سبحانه قد أورث آل البيت الأرض ومَن عليها، واختارت الذهاب إلى مصر.. رحلة جديدة لم تكن تعلم أنها ستكون الأخيرة.. وصلت عام 61هـ إلى مصر.. وجدت فى استقبالها مسلمة بن مخلد الأنصارى، على رأس وفد من علماء البلد وأهم رجالها، ولما رأوها بكوا.. تذكروا مأساة الحسين وما حدث له.. استقبلها أمير مصر فى داره، وبقيت سنة عابدة زاهدة حتى ماتت.
وهنا نصل إلى نقطة الخلاف الكبرى بين السنة والشيعة، بل بين العلماء أنفسهم، إذ يقول الباحث المصرى على مبارك، فى كتابه «الخطط التوفيقية»: «لم أرَ فى كتب التواريخ أن السيدة زينب بنت على، رضى الله عنهما، جاءت إلى مصر فى الحياة أو بعد الممات»، وعندما سُئل المفتى، الشيخ محمد بخيت المطيعى، حول هذا الموضوع كرّر ما ذكره على مبارك، ورأى أن المدفونة بمصر من الزينبات هى زينب بنت يحيى بن زيد بن على بن الحسين، وليست زينب بنت على، أخت الحسين، وهذه شهادة تنافى المقولة المتداولة، التى تؤكد أن «زينب» هى المدفونة فى الحى المعروف الآن باسمها فى القاهرة، وأن وفاتها حدثت فى مصر، وتم دفنها فيها، والتى أكدتها الدكتورة عائشة عبدالرحمن، المعروفة بـ«بنت الشاطئ»، عندما قالت إنها مدفونة فى مصر.. ويقول الشيعة إنها دُفنت فى الشام، فى المنطقة المعروفة باسمها جنوب دمشق، والمسماة «الزينبية». ويقول البعض إنها لم تغادر المدينة أصلا، وإنها مدفونة فى البقيع.. أينما كانت، فلكل مسجد من مساجدها تأثير كبير على محبيها، كيف لا وعندما نذكر اسمها، «السيدة زينب»، نذكر عابدة آل محمد، صلى الله عليه وسلم، التى لم تترك نافلة دون أن تؤديها، وكانت تقضى عامة لياليها فى التهجد وتلاوة القرآن؟!، كيف لا والسيدة زينب هى الصابرة، بل يُضرب المثل بها فى الصبر. ألَمَّ بها ما ألَمَّ من كوارث ومصائب، وبقيت صابرة صبرا يذهل- حتى يومنا هذا- كل كائن حى، حتى إنها حينما وقفت على جسد أخيها الحسين فى كربلاء، ورغم ما فى قلبها من ألم، بسطت يديها تحت بدنه المقدس، ورفعته نحو السماء، وقالت: «إلهى تقبَّل منَّا هذا القربان»؟!
كيف لا وعندما نذكر السيدة زينب نقول: الفصيحة البليغة، وخطبتها فى الكوفة خير دليل " انتهى النقل
دمتم برعاية الله
كتبته : وهج الإيمان
تعليق