بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الغنوصية Gnosis ووجهاها الآخران: التصوف والعرفان! مصطلحات تدور في فلك واحد وهدفها قضية واحدة محددة وهي الحصول على المعرفة بعيداً عن الوحي الالهي من اجل التحكم بالكائنات جميعها وفي مقدمتها الانسان[1]!
حاول بعض المسلمين اسلمة الغنوصية كما هو حال اسلمة بقية العلوم، فكان الناتج هو التصوف عند أهل السنة والعرفان عند الشيعة الامامية، حيث تم خلط الزهد والعبادة من جهة بالغنوصية الباطنية من جهة اخرى. لكن بقي الهدف نفسه وهو الحصول على المعرفة من اجل التحكم بالكون.
يتألف الجزء الغنوصي من التصوف من عنصر الكشف والشهود، وقد برع به اشخاص عديدون بصورة فردية في اول الامر ثم تطور الى اتخاذ شكل المدرسة الصوفية، فكان ذو النون المصري وابراهيم بن ادهم والبسطامي والحكيم الترمذي والسهروردي وابن عربي وغيرهم كثيرون. وبدأ التصوف في داخل المجتمع الذي يعتنق افراده مذاهب اهل السنة ثم تسلل في القرن الثامن الهجري الى التشيع وكان اول رواده هو السيد حيدر الاملي الذي تطرف في تصوفه حتى انه قال: (لانّ الشيعىّ و الصوفىّ اسمان متغايران (يدلّان) على حقيقة واحدة، و هي الشريعة المحمديّة)[2]، وقال وهو يتحدث عن المتصوفة: (فنريد أن نستدلّ على حقّيّتهم بالدلائل النقليّة و البراهين العقليّة اجمالا، قبل الشروع في المعارضة بينهم تفصيلا. و نثبت أنّ هؤلاء الجماعة (الذين) هم الصوفيّة، (هم) الموسومون بالشيعة الحقيقيّة و «المؤمن الممتحن» و غير ذلك، ليعرفوا (يعنى أصحابنا الشيعة) قدرهم، و يتركوا انكارهم، و يتحقّقوا أنّهم منهم)[3].
يقول الدكتور شهرام بازوكي: (ويعتقد السيد حيدر الآملي أنّ التصوف الحقيقي هو التشيع بعينه، وغالباً ما يطرح التشيع مذهباً فقهياً إلى جانب المذاهب الفقهية الأخرى كالمذهب الحنبلي والحنفي والمالكي والشافعي، أو مدرسةً كلامية كالأشاعرة والمعتزلة)[4].
وبدأت تنمو شجرة التصوف في داخل المجتمعات الشيعية، وكان المتصوفون الشيعة يفضلون اتخاذ لقب العرفاء ويستبدلون لفظ التصوف بلفظ العرفان لدفع شبهة التشبه بأهل السنة الذين لا يتبعون آل البيت الاطهار (عليهم السلام) في قضاياهم العقائدية والفقهية والاخلاقية، ولكي يتجنبوا اثارة علماء الشيعة الذين يروون احاديث آل البيت الاطهار (عليهم السلام) في ذم المتصوفة.
وظهر الشيخ صدر الدين الشيرازي (ملا صدرا) واتخذ من ابن عربي مرشداً اعلى ومن تعاليمه كتاباً مقدساً فتأسست مدرسة الحكمة المتعالية التي تجمع بين الكشف والفلسفة والشريعة، خلطة غريبة غير متجانسة سبق لابن عربي ان خلطها وبرع ملا صدرا بنشرها بين الشيعة!
بينما كان المتصوفون السنة يتحدثون عن القطب فقد كان المتصوفون الشيعة (العرفانيون) يفضلون التحدث عن الانسان الكامل الذي تلقفوا اساس فكرته من ابن عربي! والمؤدى واحد وهو وجود انسان غير معصوم وغير منصوب من قبل الله سبحانه وتعالى يقود البشرية بعد ارتقاءه الى مرتبة الانسان الكامل او الاقتراب منها من خلال جهاده النفسي وخلواته وتمسكه بالعمل بالشريعة ومزج كل ذلك مع القضايا الفلسفية المعقدة والافتراضية! ويميل العرفانيون (المتصوفون الشيعة) الى الاعتراف بأن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الاطهار (عليهم السلام) هم النموذج الاتم للانسان الكامل، غير انهم لا يمنعون من التحدث عن الانسان الكامل في اطار خارج المحيط المعصوم عبر ادعاء فناء العارف (الصوفي) في المعصوم (عليه السلام) بنفس طريقة مزاعم فناءالحلاج في الذات الالهية المقدسة! وبذلك فهم لا يتورعون عن التحدث عن امكانية وصول الانسان غير المعصوم الى مرتبة الانسان الكامل.
قال ابن عربي: (فمن وقف على الحقائق كشفاً وتعريفاً إلهياً فهو الكامل الاكمل، ومن نزل عن هذه الرتبة فهو الكامل، وما عدا هذين فإما مؤمن أو صاحب نظر عقلي، لا دخول لهما في الكمال، فكيف في الاكملية؟!)[5].
وقال السيد محمد حسين الطباطبائي: (فالكمال الحقيقي للإنسان وصوله الى كماله الحقيقي ذاتاً وعوارض , اي وصوله الى كماله الاخير ذاتاً ووصفاً وفعلاً , اي فنائه ذاتاً ووصفاً وفعلاً في الحق سبحانه , وهو التوحيد الذاتي والاسمي والفعلي , وهو تمكنه من شهود ان لا ذات ولا وصف ولا فعل الا لله سبحانه على الوجه اللائق بقدس حضرته جلت عظمته من غير حلول ولا اتحاد تعالى عن ذلك)[6].
فهاتين المرتبتين لكمال الانسان (الانسان الكامل الاكمل) و(الانسان الكامل) يمثلان المعصوم (عليه السلام) والفقيه المندّك والفاني في المعصوم (عليه السلام)، فالانسان الكامل غير المعصوم هو الذي يتمكن من الوصول الى المرتبة القصوى ومن خلال ذلك يتمكن من الحصول على المعارف من غير طريق الوحي ومن ثم من التحكم بالكون. ولذلك ففي الغنوصية يمكن لاي انسان من السعي للوصول الى تلك المرتبة والتحكم بالكون. اما العرفانيون الشيعة فإن عقيدتهم تفرض عليهم ان يكون المعصوم فقط هو الانسان الكامل وهذا يقطع الطريق على الآخرين من العرفانيين من السعي الى تلك المرتبة، ولذلك فقد اضطر العرفانيون الى الالتفاف على فكرة العصمة والامامة فتحدثوا عن الانسان الكامل الذي يندك في الامام ويفنى فيه!
واما قول السيد محمد حسين الطباطبائي (من غير حلول ولا اتحاد تعالى عن ذلك) فلا يشمل مزاعم الفناء في الله تعالى، فالفناء هو امر غير الاتحاد وغير الحلول. فتبرئتهم عن الحلول والاتحاد لا ينزههم عن مزاعم الفناء!
ومن خلال حركة التاريخ وظهور دول واضمحلال اخرى، وتطور الحياة الاجتماعية للشيعة الى درجة ان تمكن علماؤهم من الوصول الى قمة الهرم القيادي السلطوي والتأثير عليه في زمن الدولة الصفوية ومن ثم في زمن الدولة القاجارية. فقد وجد بعض العرفانيون ان المهمة الحقيقية امامهم هي وضع فكرة الانسان الكامل غير المعصوم وغير المنصوص عليه من قبل الله سبحانه (في مقابل الائمة الاطهار (عليهم السلام) الذين هم منصوص عليهم من قبله تبارك وتعالى)، والذي يتحكم في الكون او على اقل تقدير يتحكم في مقدرات الدول والشعوب كخطوة اولى، وضعها في إطار شرعي ضمن نفس الخلطة الثلاثية التي تأسست عليها مدرسة الحكمة المتعالية: (الفلسفة والعرفان والشريعة). فكان اول ظهور شرعي لفكرة الانسان الكامل غير المعصوم الذي يقود الحياة على يد الشيخ احمد النراقي تحت اسم (ولاية الفقيه المطلقة) والتي وجدت لها اساس فقهي تستند اليه وجمعت معه خصائص الانسان الكامل الذي يقود الحياة والمختار من خارج اطار العصمة. فكان الفقيه العرفاني والفلسفي هو من لديه ولاية مطلقة على عباد الله ولديه كل ما للائمة الاطهار (عليهم السلام) من خصائص ولائية عدا ما انفرد الائمة به من خلال النص عليه!
اذن تكونت فكرة ولاية الفقيه المطلقة بعد جمع خصائص مصطلح الانسان الكامل الفلسفي والعرفاني الصوفي مع الادلة الفقهية على وجود ولاية للفقهاء ذات سعة معينة يراها اغلب الفقهاء - وعبر العصور - غير مطلقة. فالنصوص الشرعية تفيد بحسب الفقهاء وجود ولاية للفقيه على الفتاوى والقضاء، وربما قال آخرون بسعة اكبر من ذلك او اقل، فالقضية فقهية مرجعها هم العلماء المجتهدون فهم اهل الاختصاص في تحديد سعة الولاية التي يتمتع بها الفقيه، غير ان اياً منهم قبل ظهور الشيخ احمد النراقي (مولود سنة 1285هـ - 1771م) لم يقل بوجود ولاية مطلقة للفقيه كما هي مطلقة للامام (عليه السلام)!
اذن كان للمدرسة الغنوصية العرفانية (وهي من ثمار فكر وتراث ابن عربي) فضل السبق لايجاد فكرة (ولاية الفقيه المطلقة) عبر اسلوبها العجيب في خلط الشريعة مع الفلسفة والعرفان!!
قال ابن عربي: (فمن وقف على الحقائق كشفاً وتعريفاً إلهياً فهو الكامل الاكمل، ومن نزل عن هذه الرتبة فهو الكامل، وما عدا هذين فإما مؤمن أو صاحب نظر عقلي، لا دخول لهما في الكمال، فكيف في الاكملية؟!)[7]. ثم يضيف: (ولما لم يتمكن ان يكون كل انسان له مرتبة الكمال المطلوبة في الانسانية – وان كان يفضل بعضهم بعضا – فأدناهم منزلة مَنْ هو إنسان حيواني، ويشارك الانسان الكامل بالصورة الانسانية، واعلاهم من هو ظل الله، وهو الانسان الكامل نائب الحق، الذي يكون الحق لسانه وجميع قواه، وما بين هذين المقامين مراتب، ففي زمان الرسل يكون الكامل رسولاً، وفيزمان انقطاع الرسالة يكون الكامل وارثاً، ولا ظهور للوارث مع وجود الرسول، اذ الوارث لا يكون وارثاً إلا بعد موت من يرثه، فلم يتمكن للصاحب مع وجود الرسول ان تكون له هذه المرتبة، فلا تطمع في تخصيصك بشريعة ناسخة من عنده، ولا في إنزال كتاب، فقد اغلق ذلك الباب، فإن نهاية الولي ان يُشرِف على خطاب شريعة نبيه، وتزول القدم من قدامه، فتكون له درجة ميراث النبوة في اخذ الشريعة التي هو عليها، لا شريعة ناسخة لها، فتبقى الشريعة عليه محفوظة، ويعلو سنده فيها، اذ كان محمد (صلى الله عليه وسلم) لبنة الحائط، فكل دليل على مخالفته ساقط، فليست الصورة الالهية لكل نفس، وانما هي للنفس الكاملة، كنفوس الانبياء ومن كمل من الناس، والامر ينزل من الله على الدوام لا ينقطع، فلا يقبله إلا الرسل خاصة على الكمال، فإذا فقدوا، حينئذٍ أوجد ذلك الاستعداد في غير الرسل، فقبلوا ذلك التنزيل الالهي في قلوبهم، فسموا ورثة، ولم ينطلق عليهم اسم رسل مع كونهم يخبرون عن الله بالتنزيل الالهي)[8].
وقال ابن عربي: (ولما تعدد الكمًل من هذه النشأة، جعلهم الحق خلائف بعد ما كان خليفة، فكل كامل خليفة، وما يخلو زمان عن كامل اصلاً، فما يخلو عن خليفة وامام، فلا تخلو الارض عن ظهور صورة إلهية، يعرفها جميع خلق الله ما عدا الثقلين الانسوالجن، فإنها معروفة عند بعضها، فيوفون حقها من التعظيم والاجلال لها)[9].
اذن ترسخت فكرة (الانسان الكامل) في الفكر الغنوصي الصوفي (العرفاني)، وهذه الفكرة لم تجد امامها عقبة في الفكر السني فعندهم يكون الانبياء والاولياء نموذج للانسان الكامل، واذا كان الانبياءمنصوص عليهم من قبل الله تبارك وتعالى، فان اي انسان يمكنه ان يتحول الى ولي من الاولياء بتمسكمه بالشريعة (العقيدة والفقه والاخلاق) واجباتها ومستحباتها ومن ثم يدخل في حوزة فكرة الانسان الكامل للحصول على المعرفة بصورة مباشرة من خلال الكشف والشهود.
اما في الفكر الشيعي فقد واجهت فكرة الانسان الكامل عقبة كبيرة ولكنها تمكنت اخيراً من الالتفاف عليها عبر منهجها الغنوصي الباطني المعتاد! فالاولياء في الفكر السني يقابلهم الائمة المعصومون (عليهم السلام) في الفكر الشيعي غير انهم عند الشيعة منصوبون من قبل الله سبحانه وتعالى كما هو حال الانبياء(عليهم السلام)، فلا يمكن لأي شخصان يرتقي الى مرتبة الامام المعصوم عندهم.نعم يمكن للانسان ان يبلغ الذروة في العبادة والتقوى والمنزلة العالية من العدالة (دون ان يبلغ مرتبة العصمة) وهؤلاء يمكن ان نطلق عليهم اسم (الصالحين). غير ان الفكر الغنوصي العرفاني تدخل ليقول بإمكانية تحويل الصالحين الى مرتبة الانسان الكامل عبر الفناء في الامام المعصوم (عليه السلام) وبذلك يكون فهمهم وكلامهم ومواقفهم كي فهم وكلام ومواقف الامام المعصوم (عليه السلام)! وسنذكر فيمقالنا هذا نصوص غنوصية عرفانية تؤكد ما بيناه هنا.
فالصالحون الذين يصلون الى مرتبة الانسان الكامل ويفنون في الامام (عليه السلام) كيف لا تتحقق لهم الولاية المطلقة كما هي للامام (عليه السلام) غاية الامر ان هذه الولاية المطلقة تحتاج لغطاء شرعي يشرعها من الناحية الدينية فوجدوا ضالتهم في بعض النصوص المروية عن الائمة الاطهار (عليهم السلام) والتي فسروها بحسب مسبوقاتهم الفكرية الغنوصية العرفانية.
بداية فكرة الانسان الكامل:
يذهب هيثم مناع الى ان يحيى بن عدي هو اول من اظهر فكرة الانسان الكامل في التراث الاسلامي والذي سمًاه (الانسان التام)، وكتب مقالاً نقتطف منه التالي: (كتب يحيي بن عدي (893-974م) وهو فيلسوف من أسرة سريانية يعقوبية كتابا بعنوان "تهذيب الأخلاق" الذي نسبته بعض المخطوطات لابن عربي وابن الهيثم والجاحظ وطبع في دمشق في 1924 باعتباره للجاحظ، استدرك محققه محمد كرد علي هذا الخطأ في الطبعات اللاحقة منوها إلى أهمية أن يكون هذا النص فوق الملل والنحل والديانات بحيث ينسب لمن ذكر بآن معا. ويعتبر هذا الكتاب من أوائل ما كتب في فلسفة الأخلاق باللغة العربية. وفكرة الإنسان التام وحب الكمال فيه تقوم على اعتبار القيم الأخلاقية مقياس مركزي لمناهج الحياة على اختلافها، من العمل السياسي العام إلى العمل المهني، بل بكلمة، في مجمل العلاقات ما بين الإنسانية. وهو في طرحه هذا، لا يجنح لمثالية نظرية، بل يحاول باستمرار ربط الفضيلة بمفهوم التوازن الظرفي الذي يعتمد القسمة العادلة المتسامحة عند الضرورة مع إرضاء الرغبة. ولو أخذنا تعريفه للرحمة، لوجدنا فيه المنطق المعاصر الذي يربط بين المبدأ الأخلاقي للمحاسبة ورفض غياب المحاسبة impunity بنفس الوقت: "الرحمة هي محبة للمرحوم، مع جزع من الحال التي من أجلها رحم، وهذه الحالة مستحسنة ما لم تخرج بصاحبها عن العدل، ولم تنته به إلى الجور، وإلى فساد السياسة. فليس بمحمود رحمة القاتل عند القود، والجاني عند القصاص. ولا يختلف منهجه في ذلك عند تعريفه العدل: "هو التقسط اللازم للاستواء واستعمال الأمور في مواضعها وأوقاتها ووجوهها ومقاديرها، من غير سرف ولا تقصير ولا تقديم ولا تأخير". ويعطي للجور تعريفا جامعا يستنكر الظلم والفساد وعدم احترام الحقوق يقول: "هو الخروج عن الاعتدال في جميع الأمور، والسرف والتقصير، وأخذ الأموال من غير وجهها والمطالبة بما لا يجب من الحقوق الواجبة، وفعل الأشياء في غير مواضعها، ولا أوقاتها، ولا على القدر الذي يجب، ولا على الوجه الذي يستحب.
يتحدث يحيي بن عدي عن الإنسان التام بالقول: هو الذي لم تفته فضيلة، ولم تشنعه رذيلة، وهذا الحد قلما ينتهي إليه إنسان. فإذا انتهى الإنسان إلى هذا الحد، فهو بالملائكة أشبه منه بالناس".
يؤكد ابن عدي على مجموعة من المسلكيات للإنسان التام منها صرف عنايته للنظر في العلوم وسعيه للإحاطة بماهيات الأمور وكشف عللها وأسبابها، وتفقد غاياتها ونهاياتها وتفقده الدائم لجميع أخلاقه معتدلا في الشهوة واللذة طالبا للعدل والإنصاف مشاركا الآخرين في ماله مؤاسيا للفقراء وأهل الحاجة متواضعا محبا لجميع الناس دون تمييز.وفي العلاقات الإنسانية لمحب الكمال يقول: "ينبغي لمحب الكمال أيضا أن يعود نفسه محبة الناس أجمع، والتودد إليهم والتحنن عليهم، والرأفة والرحمة لهم.فإن الناس قبيل واحد متناسبون، تجمعهم الإنسانية، وحلية القوة الإلهية التي هي في جميعهم وفي كل واحد منهم، وهي النفس العاقلة، وبهذه النفس صار الإنسان إنسانا، وهي أشرف جزئي الإنسان اللذين هما النفس والجسد. فالإنسان بالحقيقة هو النفس العاقلة، وهي جوهر واحد في جميع الناس، والناس كلهم بالحقيقة شئ واحد، وبالأشخاص كثيرون".
يقوم التكامل بين المعرفة الحكمية والمعرفة الدينية عند إخوان الصفا على رفض التعصب وضرورة الانفتاح على جميع المعارف وعلى الربط بين طموح الإنسان الكامل والدين الكامل. المشروع الإخواني في صورته هذه، يعتبر نفسه جامعا للمذاهب والعلوم أكثر منه طرفا مما يجعل شمولية معارفه هذه تؤهله للتسامح والانفتاح أكثر من غيره "ينبغي لإخواننا أن لا يعادوا علما من العلوم، أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب، لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعها".
هذا التكامل بين المعرفة الحكمية والمعرفة الدينية القائم على مبدأ "التشبه بالله حسب طاقة البشر" لا يسعى فقط لطموح "الإنسان الكامل" بل أيضا ما يمكن تسميته "الدين الكامل". سعي يربط الكمال بالتفاوت بين الناس على أساس المعرفة والعقل.
كمال الإنسان في كمال العقل فكرة تناولها المعتزلة ونجدها بشكل مفصل في كتاب "التكليف" من "المغني" للقاضي عبد الجبار (مات في 415 للهجرة) الذي يعرف العقل بالقول هو "جملة من العلوم مخصوصة، متى حصلت في المكلف صح منه النظر والاستدلال والقيام بأداء ما كلف"، ومن كمال العقل عنده " أن يعرف ما يختص هو به من الحال؛ نحو كونه مريدا وكارها ومعتقدا"، ومن كمال العقل " أن يعرف من حال المدركات التي هي الأجسام ما تحصل عليه: من كونها مجتمعة أو متفرقة"، ومن كمال العقل "أن يعرف بعض المقبحات، وبعض المحسنات وبعض الواجبات، فيعرف قبح الظلم وكفر النعمة والكذب الذي لا نفع فيه ولا دفع ضرر، ويعلم حسن الإحسان والتفضل، ويعلم وجوب شكر النعم ووجوب رد الوديعة عند المطالبة، والإنصاف، ويعلم حسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك منع، وحسن الذم على الإخلال بالواجب مع ارتفاع الموانع". و"من جملة كمال العقل العلم بكثير من الدواعي؛ لأن معرفة الألطاف لا تصح إلا معه".
يشارك القاضي عبد الجبار في فكرة كمال العقل العديد من المعرفيين والفرق. ونجد عند الكرامية (أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام) اتفاق على أن العقل يحسن ويقبح قبل الشرع، وتجب معرفة الله بالعقل. كذلك يؤكد الإمام الماتريدي على "أن الشرع يتبع في أوامره ونواهيه ما يصف به العقل الإنساني الأشياء من حسن وقبح. وإذا كان هذا العقل لا يستطيع التمييز بين هذين الأمرين، في جميع الحالات، فإن الوحي إنما جاء ليأخذ بيد الإنسان وينير أمامه الطريق".
ورغم البعد منهجي بين كمال العقل والإنسان الكامل، ثمة تقاطعات مركزية بينهما أهمها التأكيد على مركزية دور الإنسان في الحياة والكون.
ابن عربي والإنسان الكامل: رغم أن نقطة الانطلاق في تعريف الإنسان عند المذاهب الفقهية الخمسة تكريم آدم وإثبات أفضليته على الملائكة، باعتبار سجود الأخيرة للإنسان تكرمة له وطاعة لله، لا يلبث هذا التعريف أن يتعرض لاختزالات أساسية شاركت بها بشكل أساسي المدرستان الحنبلية (مات ابن حنبل في 855م- 241 للهجرة) والأشعرية (الأولى على الصعيد الشعبي والثانية على الصعيد النخبوي). وأول هذه الاختزالات التأكيد على مفهوم الإنسان الطائع المكلف وثانيها التمييز بين المسلم وغير المسلم وثالثها اغتيال التوسع الأفقي والعامودي للاجتهاد.
لا يمكن للطاعة أن تشكل منهج حياة دون أن يكون موضوعها ترسيخ عبودية الإنسان للإنسان المغلفة بمفهوم الحاكمية الإلهية. والحديث عن الطاعة يقودنا دائما إلى "الطاعة المشروطة على الأرقاء والعبيد في حق سادتهم (عبودية بشر لبشر)، الطاعة المفروضة على المكلفين لله ورسوله (الطاعة الطقوسية والمعاشية)، الطاعة المشروطة في حق الخلق لقيام شوكة السلطان(الطاعة للمستبد العادل أو الجائر) والطاعة المفروضة في حق الزوجة لبعلها (الطاعة الاجتماعية داخل الهرم العائلي". ولا شك بأن التمييز بين المسلم وغير المسلم لا يمكن أن يقفز فوق قضية من هو المسلم، التي شكلت أساس بدعة التكفير الشرعية. وقد أرخ الغزالي في هذا التراجع لانتصار فكرة الإنسان المطيع المذعن العاجز. فلم ينتظر المشرق العربي الإسلامي اجتياح المغول وسقوط بغداد (1258م/656 للهجرة) ليدخل مرحلة الهيمنة العقيدية التي حولت الإسلام إلى جثة مشرحة في مخابر الأئمة بإعطائه بعده كأيديولوجية بأسوأ ما للكلمة من معنى كنظام مغلق من "الحقائق" المطلقة الأبدية. "سيتكفل الماوردي (1056م/450هـ) بترتيب دستور الخلافة ومنح بركات الشرعية "التاريخية والدينية" للخليفة، ابن الجوزي (م1200م/597هـ) سيقوم بغسل شوائب الشيطان في كتابه "تلبيس ابليس"، بعد أن لخّص الغزالي (م 1111م/505هـ) الإسلام : "الدين شطران أحدهما ترك المناهي والآخر فعل الطاعات" (بداية الهداية) ونظم السنن في موت-إحياء علوم الدين ليعمد حجة للإسلام السني".
في هذه الظروف المحملة بالانغلاق على الذات ومصادرة التعددية والاجتهاد وخوف المعرفة الحكمية علمية كانت أو فلسفية، واحتقار الإنسان باسم سمو الرحمن وازدراء المرأة في ظل إعادة إنتاج الاستبداد في المجتمع. وفي وسط محموم بالتطرف والمذهبيية وأمراض أفول الحضارة،، حمل محيي الدين بن عربي (560-638/1164-1240م) فكرة "الإنسان الكامل" في محاولة للوقوف في وجه تيار عات لم يعد يقبل من الإنسان إلا صورته المسخ. في محاولة غير عادية لإعادة الاعتبار لمن أفقده الحاكم والفقيه كل اعتبار ووقف نزيف قد أتى على الأساسي من المجتمع والأفراد والأفكار.
تعيدنا فكرة الإنسان الكامل إلى تلك القوة العالمية المتميزة لكل الأفكار والمبادئ التي تتجاوز بعظمتها القبيلة والمكان والزمان. لذا لا نستغرب أن يجد هانز هينرش شيدر روابطها العضوية مع نظرية الإنسان الأول في الديانات الإيرانية القديمة، وأن يعتبرها لوي ماسينيون ابنة الرؤى السامية التي نشأت عند أنبياء بني إسرائيل في فكرة "عبد يهوا" العادل المبتلي بالآلام واستمرت مع المسيحية في الإيمان بعودة المخلص وزرعت في عدد غير محدود من الملل والنحل التي انتظرت المهدي "ليملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا وظلما". أو أن يبصر فيها الهادي العلوي مشاعيته البدائية الزاهدة: "من لا يملك شيئا ولا يملكه شئ، حيث الملك يجب أن لا يكون لأحد فرد بل لجميع الناس حتى لا يعلو أحد على أحد. "التاوي والمتصوف، يقول الهادي، ينظران كلاهما إلى مجتمع لا مالك فيه ولا محروم، ولا قامع ولا مقموع". بالتأكيد، فقد استعاد المؤرخون الثلاثة في الإنسان الكامل صورة ذهنية عالمية حاولت التاوية من خلالها استقراء قوة الخير في البشر والثقافة الإيرانية استعادة الإنسان الأول عند مزدك والديانات السامية قراءة فكرة المسيح المخلص والمهدي. إلا أن طرح ابن عربي كان ضمن تصور فكري شامل واجه فيه معالم حقبة كاملة. فهو يميز بين قوانين الطبيعة ومنظِمات حركة الإنسان انتصارا لفكرة الإرادة البشرية والإنسان الفاعل والمنفعل في طبيعة لها قوانينها ونواميسها. ويؤكد على وحدة الوجود للتأكيد على فكرة الخير الأسمى والعدل الذي يتجاوز الملة والطائفة. وعبر هذه الوحدة حارب خطاب الفرقة الناجية وتكفير الآخر بحظوظ النفس المشركة التي لا تختلف عن حظوظ النفس المؤمنة مؤكدا "إياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه". ورفض أشكال التمييز بين البشر في المعتقد أو الجنس باعتبار الكمال الإنساني يقابل "الإنسان الحيوان" الذي يحمل فيما يحمل عاهات التفريق بين البشر: "خلق الله الإنسان، مختصرا شريفا جمع فيه معاني العالم الكبير وجعله نسخة جامعة لما في العالم الكبير، ولما في الحضرة الإلهية من الأسماء وقال فيه رسول الله: إن الله خلق آدم على صورته، فلذلك قلنا خرج العالم على الصورة، وفي هذا الضمير الذي في صورته خلاف لمن يعود لأرباب العقول، وفي قولنا علم نفسه فعلم العالم غنية لمن تفطن وكان حديد القلب بصيرا، ولكون الإنسان الكامل على الصورة الكاملة صحت له الخلافة والنيابة عن الله تفي العالم، فلنبين في هذا المنزل نشأة هذا الخليفة ومنزلته وصورته على ما هي عليه، ولسنا نريد الإنسان بما هو إنسان حيوان فقط بل بما هو إنسان وخليفة وبالإنسانية والخلافة صحت له الصورة على الكمال، وما كل إنسان خليفة، فإن الإنسان الحيوان ليس بخليفة عندنا، وليس المخصوص بها أيضا الذكورية فقط، فكلامنا إذا في صورة الكامل من الرجال والنساء فإن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى والذكورية والأنوثية إنما هما عرضان ليستا من حقائق الإنسانية لمشاركة الحيوان كلها في ذلك".
يضع ابن عربي حدا في مفهومه للإنسان الكامل لأي فرق بين من هم أبناء دين واحد ومن هم خارجه، كذلك يعيد الاعتبار للمرأة كطرف أساسي كالرجل في هذا المفهوم.
جعل ابن عربي، كما يلاحظ هانس هينرش شيدر، من "الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية مظهران متماثلان لمذهب واحد في الوحدانية" وبذلك أصل ابن عربي فكرة الإنسان المساوي للعالم، الإنسان المشابه بل والمساوي لله في وجه الإنسان المهمش والذليل والطائع في المدارس الفقهية.
في مقابل عقائد الطاعات والواجبات، تقف فلسفة ابن عربي الصوفية لتذكر بأن الله إنما خلق العالم من أجل الإنسان "الإنسان هو المقصود من الوجود"، وأن هذا يعني أن الإنسان ليس فقط مركز الكون الواعي، بل أكمل مجالي الحق و "المختصر الشريف" و"الكون الجامع" الذي أعطى الروح لعالم شبحي لا روح فيه. إنه نقطة انطلاق الكون وآخر وأرقى تعبيراته: "أول ما خلق الله العقل فهو أول الأجناس. وانتهى الخلق إلى الجنس الإنساني فاكتملت الدائرة. وما بين طرفي الدائرة، جميع ما خلق الله من أجناس العالم بين العقل الأول الذي هو القلم أيضا وبين الإنسان الذي هو الموجود الآخر". الإنسان حسب ابن عربي بكلمة "قطب الفلك، وهو العمد، ألا تراه إذا انتقل من الدنيا خربت وزالت الجبال وانشقت السماء وانكدرت النجوم").
ويضيف كاتب المقال: (يرتبط هاجس العدالة بمفهوم الكمال الإنساني، وبهذا المعنى احترام الحق قاعدة من قواعد الإيمان: "إياك وظلم العباد فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وظلم العباد أن تمنع حقوقهم التي أوجب الله عليك أداءها ولا تنهر السائل مطلقا، فإن الجائع يطلب الطعام والضال يطلب الهداية". ومع يقينه الروحاني، أكد ابن عربي باستمرار على الحديث الذي يقول "أنتم أعلم بأمور دنياكم". والحديث عن الدنيا يعني ارتباط الحياة بالزمان والمكان وتاريخية الوجود، يقول في رسائله: "اعلم أن الحكيم الكامل المحقق المتمكن هو الذي يعامل كل حال ووقت بما يليق به ولا يخلط"، ويؤكد على ذلك في فصوص الحكم:"ما أحسن ما قال الله تعالى في حق العالم وتبدله مع الأنفاس "في خلق جديد" في عين واحدة، فقال في حق طائفة، بل أكثر العالم، "بل هم في لبس من خلق جديد".
ما بعد ابن عربي: كيف تطورت فكرة الإنسان الكامل بعد ابن عربي، وهل وجدت أصداء لها في المجتمع العربي و/أو الإسلامي؟ لقد كان قدر ابن عربي، وذلك الحال بالنسبة لابن رشد أيضا، أن يقف في وجه تراجع عام سعى لإلباس عجزه ثوب التقى. فجرى اغتيال الاجتهاد ولأكثر من قرنين لم يتوقف السلفيون عن نقد كتابات ابن عربي. وفي عملية هدم الحضارة العربية الإسلامية والتجهيل العام باسم الدين وطاعة السلطان، لم يكن لأفكار ابن عربي أن تنتشر وبقيت في إطار الاتجاهات الصوفية والفلسفية والإصلاحية بشكل عام. وجملة هذه الاتجاهات كانت تعاني من حصار وتهميش. لذا فقد كان أكثر المستفيدين المباشرين من فكر ابن عربي رواد الإصلاح المسيحي في أوربة. الأمر الذي لم يحل دون تناول موضوع الإنسان الكامل من قبل تلميذه الصدر القونوي في كتابه "مراتب الوجود" وابن قضيب البان في "المواقف الإلهية" وعبد الكريم الجيلي في "الإنسان الكامل" وعزيز الدين النسفي في كتابه المعنون أيضا "الإنسان الكامل" (بالفارسية). إضافة لشذرات عند التهانوي وغيره ومقاطع شعرية لجلال الدين الرومي ومحمود شبسري.
يعطي الصدر القنوي الإنسان الكامل المرتبة الأعلى من مراتب الوجود باعتبار أنه به تتم المراتب ويكمل العالم. "فالإنسان، يقول القنوي، أنزل الموجودات مرتبة في الظهور، وأعلاهم مرتبة في الكمالات، ليس لغيره ذلك. وقد بينا أنه الجامع للحقائق الحقية، والحقائق الخلقية، جملة وتفصيلا، حكما ووجودا، بالذات والصفات، لزوما وعرضا، حقيقة ومجازا، وكل ما رأيته أو سمعته في الخارج فهو عبارة عن رقيقة من رقائق الإنسان، واسم لحقيقة من حقائق الإنسان. فالإنسان هو الحق، وهو الذات، وهو الصفات، وهو العرش، وهو الكرسي، وهو اللوح، وهو القلم، وهو الملك، وهو الجن، وهو السموات وكواكبها، وهو الأرضون وما فيها، وهو العالم الدنياوي، وهو العالم الأخراوي، وهو الوجود وما حواه، وهو الحق، وهو الخلق، وهو القديم، وهو الحادث".
لم يستمر فك الارتباط بين مفهوم الإنسان الكامل من جهة وتصور نخبوي وخلاصي للكمال الإنساني طويلا بعد ابن عربي، واستسلم من جاء بعده لربط هذه الفكرة بالنبي أو الولي أو الخضر أو المهدي. فنقرأ عند الجيلي قوله: "الإنسان الكامل هو محمد. وهو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين". كذلك يعتبر النسفي (القرن الثالث عشر) أن للإنسان الكامل أربع خصائص هي الكلام الحسن والفعل الحسن والاستعداد الطبيعي للخير والمعارف. وبالنسبة له الإنسان الكامل هو العالم، الخليفة، المعلم الروحي، البالغ، مرآة العالم، المسيح… وهو يؤكد على أنه إنسان واحد في عصره فلا يوجد سوى جسد واحد يحمل قلب الإنسان الكامل. مع هذا التوجه في المدارس الصوفية المتأخرة، تراجع البعد الخلاق في فكرة الإنسان الكامل قبل أن يتجسد في الواقع في مفهوم للإنسان المواطن المتساوي مع غيره، الذي يدرك حق النفس وحق الآخر ويتعرف على الآخر في نفسه وعلى نفسه في كل كائن حي. هذا الإنسان الذي كلما اكتسب معرفة واعتبارا زاد كرما وتواضعا، والذي ينال اعتباره العام من قدرته على اكتساب المعارف وعطاء الآخرين)[10].
ومن الواضحان كاتب المقال (هيثم مناع) قد اغفل امرين مرتبطين بعدم اطلاعه فيما يبدو على التصوف الشيعي المسمى (العرفان)، الامر الاول قوله (كان أكثر المستفيدين المباشرين من فكر ابن عربي رواد الإصلاح المسيحي في أوربة) حيث ان المستفيد الاكبر من فكر ابن عربي بعد المتصوفين السنة هم اتباع مدرسة الحكمة المتعالية الشيعية التي اسسها الشيخ صدر الدين الشيرازي (ملا صدرا) المستندة الى فكر وتراث ابن عربي.
اما الامر الثاني فهو قول كاتب المقال (لم يستمر فك الارتباط بين مفهوم الإنسان الكامل من جهة وتصور نخبوي وخلاصي للكمال الإنساني طويلا بعد ابن عربي) لان فك الارتباط المشار اليه استمر عند الشيعة العرفانيين بتحويل فكرة الانسان الكامل الى ولاية الفقيه المطلقة.
الانسان الكامل في كتاب (جامع السعادات) للنراقي الاب:
نطالع النصوص التالية في كتاب جامع السعادات وهي تؤكّد على ان النراقي الاب (الشيخ محمد مهدي النراقي) كان مستغرقاً في الفكر الصوفي وانَّ تلمذة ابنه على يديه نقلت فكره الصوفي إليه. والنصوص التالية تتحدث عن (الانسان التام الكامل)، وعن (الكاملين) الذين ذكرهم بعد الانبياء والمرسلين والاولياء، و(الانسان الكامل)، و(مراتب الكاملين) ... حيث قال:
(فصل: بيان تلذذ النفس وتألمها ... إذا عرفت تجرد النفس وبقاءها أبدا، فاعلم أنها إما ملتذة متنعمة دائما أو معذبة متألمة كذلك. والتذاذها يتوقف على كمالها الذي يخصها، ولما كانت لها قوتان النظرية والعملية، فكمال القوة النظرية الإحاطة بحقائق الموجودات بمراتبها والاطلاع على الجزئيات غير المتناهية بإدراك كلياتها. والترقي منه إلى معرفة المطلوب الحقيقي وغاية الكل حتى يصل إلى مقام التوحيد ويتخلص عن وساوس الشيطان ويطمئن قلبه بنور العرفان. وهذا الكمال هو الحكمة النظرية. وكما القوة العملية التخلي عن الصفات الردية والتحلي بالأخلاق المرضية ثم الترقي منه إلى تطهير السر وتخليته عما سوى الله سبحانه. وهذا هو الحكمة العملية التي يشتمل هذا الكتاب على بيانها. وكمال القوة النظرية بمنزلة الصورة وكمال القوة العملية بمنزلة المادة، فلا يتم أحدهما بدون الآخر، ومن حصل له الكمالان صار بانفراده عالما صغيرا مشابها للعالم الكبير، وهو الإنسان التام الكامل الذي تلألأ قلبه بأنوار الشهود وبه تتم دائرة الوجود)[11].
(ومن يقينه بكمالاته الغير المتناهية وكونه فوق التمام، يكون دائما في مقام الشوق والوله والحب. وحكايات أصحاب اليقين من الأنبياء والمرسلين والأولياء والكاملين في الخوف والشوق وما يعتريهم من الاضطراب والتغير والتلون وأمثال ذلك في الصلاة وغيرها مشهورة، وفي كتب التواريخ والسير مسطورة، وكذا ما يأخذهم من الوله والاستغراق والابتهاج والانبساط بالله سبحانه)[12].
(فالإنسان الكامل يشتاق إلى الموت، لاقتضائه تماميته وكماله، وخروجه عن ظلمة الطبيعة ومجاورة الأشرار إلى عالم الأنوار ومرافقة الأخيار من العقول القادسة والنفوس الطاهرة، وأي عاقل لا يرجح الحياة العقلية والابتهاجات الحقيقية على الحياة الموحشة الهيولانية، المشوبة بأنواع الآلام والمصائب وأصناف الأسقام والنوائب)[13].
(وهذه المحبة نهاية درجات العشق، وغاية الكمال المتصورة لنوع الإنسان، وذروة مقامات الواصلين، وغاية مراتب الكاملين، فما بعدها مقام إلا وهو ثمرة من ثمراتها كالأنس والرضا والتوحيد، ولا قبلها مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها، كالصبر والزهد وسائر المقامات. وهذا العشق هو الذي أفرط العرفاء وأرباب الذوق في مدحه، وبالغوا في الثناء عليه نثرا ونظما، وصرحوا بأنه غاية الاتحاد والكمال المطلق، ولا كمال إلا هو، ولا سعادة إلا به)[14].
وفي جواب عن الانسان الكامل في كتاب جامع السعادات للشيخ محمد مهدي النراقي يقول مركز الابحاث العقائدية في شبكة الانترنيت العالمية: (الانسان الكامل الذي يتحدث عنه كتاب (جامع السعادات) يختلف عن الانسان الكامل بالمفهوم العقائدي الاثني عشري، فالانسان الكامل بحسب علم الاخلاق هو الانسان الذي يرتقي في سلم العلم والعمل إلى الرتبة القصوى في حصول ملكات الحكمتين المشار إليهما، فالانسان الكامل هو الفاضل الذي يتصف بخصال اهمها الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة، فهذه الاربعة هي أصول الفضائل الاخلاقية التي لأجل الارشاد إليها تم تأليف كتاب (جامع السعادات) من قبل الفاضل النراقي رحمه الله. وهذا الكمال في الواقع هو الرتبة الاخيرة من التكامل المقدور للنوع الانساني، وهو مكتسب بواسطة الحكمتين المذكروتين (الحكمة النظرية والحكمة العملية). وأما الانسان الكامل بالمفهوم العقائدي الإمامي فهو رتبة الامام المعصوم، فالمعصوم سلام الله تعالى عليه هو الانسان الكامل على الاطلاق، ولا يمكن أن يصل الانسان العادي مهما ترقى في الكمال إلى هذه الرتبة. وذلك لان رتبة الانسان الكامل موهوبة وليست مكتسبة ومن لوازمها العصمة).
نبذة عن الشيخ احمد النراقي:
[في قرية نائية من قرى مدينة كاشان، ولد الشيخ أحمد النراقي سنة (1185هـ)، وتكفّل نشأته العلمية أولاً والده الملا مهدي النراقي ــ وكان من كبار العلماء وفحول الفقهاء ــ فقضى وطراً من دراسته على يد والده الماجد وردحاً آخر منها على يد علماء العراق، وقد تركت منهجية الوالد في البحث والتأليف بصماتها واضحةً على مؤلّفات الابن وطريقته في البحث والكتابة.
في المقابل، ساعدت الجهود العلمية التي بذلها النراقي الابن على انكشاف البعد العلمي بصورة أفضل وأنصع في النتاج العلمي للنراقي الأب.
وقد برع الشيخ أحمد النراقي مضافاً إلى علمي الفقه والأصول، وعلم الأخلاق، وسائر العلوم العقلية والنقلية، في مجالات عديدة أخرى كالشعر مثلاً، فهو شاعر مبدع، وكان يتخلّص في أشعاره بـ((الصفائي)).
وأمّا أساتذته فيأتي في طليعتهم الشيخ كاشف الغطاء والشيخ الأعظم الأنصاري، أمّا مؤلفاته وتصانيفه فكثيرة، وهي كالتالي:
1 ــ شرح تجريد الأصول. 2 ــ مناهج الأحكام في الأصول. 3 ــ عين الاُصول. 4 ــ أساس الأحكام في الأصول. 5 ــ مفتاح الأحكام في الأصول.
6 ــ معراج السعادة. 7 ــ تذكرة الأحباب. 8 ــ خلاصة المسائل. 9 ــ شرح محصّل الهيئة. 10 ــ مستند الشيعة في الأحكام الشرعية. 11 ــ الخزائن. 12 ــ عوائد الأيام. 13 ــ سيف الاُمّة وبرهان الملّة. 14 ــ مثنوي طاقديس. 15 ــ وسيلة النجاة.
لقد اتّصفت شخصية النراقي ــ على لسان مترجميه ــ بالموسوعية والجامعية، سيما في الأصول والفقه والأخلاق والرياضيات والسياسة. أمّا الشعر باللغة الفارسية فقد كان في الصدارة من بين شعراء عصره.
وقد تميّز الفاضل النراقي عن باقي أقرانه بقلّة تلمّذه وحضوره في دروس العلماء، وإنما استقى أكثر علومه من بطون الكتب لا من محضر العلماء والأساتذة.
وافته المنية ــ متأثّراً بالوباء ــ عام (1245 هـ)، ووري جثمانه الثرى في النجف الأشرف][15].
((( يتبع )))
مقدمة:
الغنوصية Gnosis ووجهاها الآخران: التصوف والعرفان! مصطلحات تدور في فلك واحد وهدفها قضية واحدة محددة وهي الحصول على المعرفة بعيداً عن الوحي الالهي من اجل التحكم بالكائنات جميعها وفي مقدمتها الانسان[1]!
حاول بعض المسلمين اسلمة الغنوصية كما هو حال اسلمة بقية العلوم، فكان الناتج هو التصوف عند أهل السنة والعرفان عند الشيعة الامامية، حيث تم خلط الزهد والعبادة من جهة بالغنوصية الباطنية من جهة اخرى. لكن بقي الهدف نفسه وهو الحصول على المعرفة من اجل التحكم بالكون.
يتألف الجزء الغنوصي من التصوف من عنصر الكشف والشهود، وقد برع به اشخاص عديدون بصورة فردية في اول الامر ثم تطور الى اتخاذ شكل المدرسة الصوفية، فكان ذو النون المصري وابراهيم بن ادهم والبسطامي والحكيم الترمذي والسهروردي وابن عربي وغيرهم كثيرون. وبدأ التصوف في داخل المجتمع الذي يعتنق افراده مذاهب اهل السنة ثم تسلل في القرن الثامن الهجري الى التشيع وكان اول رواده هو السيد حيدر الاملي الذي تطرف في تصوفه حتى انه قال: (لانّ الشيعىّ و الصوفىّ اسمان متغايران (يدلّان) على حقيقة واحدة، و هي الشريعة المحمديّة)[2]، وقال وهو يتحدث عن المتصوفة: (فنريد أن نستدلّ على حقّيّتهم بالدلائل النقليّة و البراهين العقليّة اجمالا، قبل الشروع في المعارضة بينهم تفصيلا. و نثبت أنّ هؤلاء الجماعة (الذين) هم الصوفيّة، (هم) الموسومون بالشيعة الحقيقيّة و «المؤمن الممتحن» و غير ذلك، ليعرفوا (يعنى أصحابنا الشيعة) قدرهم، و يتركوا انكارهم، و يتحقّقوا أنّهم منهم)[3].
يقول الدكتور شهرام بازوكي: (ويعتقد السيد حيدر الآملي أنّ التصوف الحقيقي هو التشيع بعينه، وغالباً ما يطرح التشيع مذهباً فقهياً إلى جانب المذاهب الفقهية الأخرى كالمذهب الحنبلي والحنفي والمالكي والشافعي، أو مدرسةً كلامية كالأشاعرة والمعتزلة)[4].
وبدأت تنمو شجرة التصوف في داخل المجتمعات الشيعية، وكان المتصوفون الشيعة يفضلون اتخاذ لقب العرفاء ويستبدلون لفظ التصوف بلفظ العرفان لدفع شبهة التشبه بأهل السنة الذين لا يتبعون آل البيت الاطهار (عليهم السلام) في قضاياهم العقائدية والفقهية والاخلاقية، ولكي يتجنبوا اثارة علماء الشيعة الذين يروون احاديث آل البيت الاطهار (عليهم السلام) في ذم المتصوفة.
وظهر الشيخ صدر الدين الشيرازي (ملا صدرا) واتخذ من ابن عربي مرشداً اعلى ومن تعاليمه كتاباً مقدساً فتأسست مدرسة الحكمة المتعالية التي تجمع بين الكشف والفلسفة والشريعة، خلطة غريبة غير متجانسة سبق لابن عربي ان خلطها وبرع ملا صدرا بنشرها بين الشيعة!
بينما كان المتصوفون السنة يتحدثون عن القطب فقد كان المتصوفون الشيعة (العرفانيون) يفضلون التحدث عن الانسان الكامل الذي تلقفوا اساس فكرته من ابن عربي! والمؤدى واحد وهو وجود انسان غير معصوم وغير منصوب من قبل الله سبحانه وتعالى يقود البشرية بعد ارتقاءه الى مرتبة الانسان الكامل او الاقتراب منها من خلال جهاده النفسي وخلواته وتمسكه بالعمل بالشريعة ومزج كل ذلك مع القضايا الفلسفية المعقدة والافتراضية! ويميل العرفانيون (المتصوفون الشيعة) الى الاعتراف بأن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الاطهار (عليهم السلام) هم النموذج الاتم للانسان الكامل، غير انهم لا يمنعون من التحدث عن الانسان الكامل في اطار خارج المحيط المعصوم عبر ادعاء فناء العارف (الصوفي) في المعصوم (عليه السلام) بنفس طريقة مزاعم فناءالحلاج في الذات الالهية المقدسة! وبذلك فهم لا يتورعون عن التحدث عن امكانية وصول الانسان غير المعصوم الى مرتبة الانسان الكامل.
قال ابن عربي: (فمن وقف على الحقائق كشفاً وتعريفاً إلهياً فهو الكامل الاكمل، ومن نزل عن هذه الرتبة فهو الكامل، وما عدا هذين فإما مؤمن أو صاحب نظر عقلي، لا دخول لهما في الكمال، فكيف في الاكملية؟!)[5].
وقال السيد محمد حسين الطباطبائي: (فالكمال الحقيقي للإنسان وصوله الى كماله الحقيقي ذاتاً وعوارض , اي وصوله الى كماله الاخير ذاتاً ووصفاً وفعلاً , اي فنائه ذاتاً ووصفاً وفعلاً في الحق سبحانه , وهو التوحيد الذاتي والاسمي والفعلي , وهو تمكنه من شهود ان لا ذات ولا وصف ولا فعل الا لله سبحانه على الوجه اللائق بقدس حضرته جلت عظمته من غير حلول ولا اتحاد تعالى عن ذلك)[6].
فهاتين المرتبتين لكمال الانسان (الانسان الكامل الاكمل) و(الانسان الكامل) يمثلان المعصوم (عليه السلام) والفقيه المندّك والفاني في المعصوم (عليه السلام)، فالانسان الكامل غير المعصوم هو الذي يتمكن من الوصول الى المرتبة القصوى ومن خلال ذلك يتمكن من الحصول على المعارف من غير طريق الوحي ومن ثم من التحكم بالكون. ولذلك ففي الغنوصية يمكن لاي انسان من السعي للوصول الى تلك المرتبة والتحكم بالكون. اما العرفانيون الشيعة فإن عقيدتهم تفرض عليهم ان يكون المعصوم فقط هو الانسان الكامل وهذا يقطع الطريق على الآخرين من العرفانيين من السعي الى تلك المرتبة، ولذلك فقد اضطر العرفانيون الى الالتفاف على فكرة العصمة والامامة فتحدثوا عن الانسان الكامل الذي يندك في الامام ويفنى فيه!
واما قول السيد محمد حسين الطباطبائي (من غير حلول ولا اتحاد تعالى عن ذلك) فلا يشمل مزاعم الفناء في الله تعالى، فالفناء هو امر غير الاتحاد وغير الحلول. فتبرئتهم عن الحلول والاتحاد لا ينزههم عن مزاعم الفناء!
ومن خلال حركة التاريخ وظهور دول واضمحلال اخرى، وتطور الحياة الاجتماعية للشيعة الى درجة ان تمكن علماؤهم من الوصول الى قمة الهرم القيادي السلطوي والتأثير عليه في زمن الدولة الصفوية ومن ثم في زمن الدولة القاجارية. فقد وجد بعض العرفانيون ان المهمة الحقيقية امامهم هي وضع فكرة الانسان الكامل غير المعصوم وغير المنصوص عليه من قبل الله سبحانه (في مقابل الائمة الاطهار (عليهم السلام) الذين هم منصوص عليهم من قبله تبارك وتعالى)، والذي يتحكم في الكون او على اقل تقدير يتحكم في مقدرات الدول والشعوب كخطوة اولى، وضعها في إطار شرعي ضمن نفس الخلطة الثلاثية التي تأسست عليها مدرسة الحكمة المتعالية: (الفلسفة والعرفان والشريعة). فكان اول ظهور شرعي لفكرة الانسان الكامل غير المعصوم الذي يقود الحياة على يد الشيخ احمد النراقي تحت اسم (ولاية الفقيه المطلقة) والتي وجدت لها اساس فقهي تستند اليه وجمعت معه خصائص الانسان الكامل الذي يقود الحياة والمختار من خارج اطار العصمة. فكان الفقيه العرفاني والفلسفي هو من لديه ولاية مطلقة على عباد الله ولديه كل ما للائمة الاطهار (عليهم السلام) من خصائص ولائية عدا ما انفرد الائمة به من خلال النص عليه!
اذن تكونت فكرة ولاية الفقيه المطلقة بعد جمع خصائص مصطلح الانسان الكامل الفلسفي والعرفاني الصوفي مع الادلة الفقهية على وجود ولاية للفقهاء ذات سعة معينة يراها اغلب الفقهاء - وعبر العصور - غير مطلقة. فالنصوص الشرعية تفيد بحسب الفقهاء وجود ولاية للفقيه على الفتاوى والقضاء، وربما قال آخرون بسعة اكبر من ذلك او اقل، فالقضية فقهية مرجعها هم العلماء المجتهدون فهم اهل الاختصاص في تحديد سعة الولاية التي يتمتع بها الفقيه، غير ان اياً منهم قبل ظهور الشيخ احمد النراقي (مولود سنة 1285هـ - 1771م) لم يقل بوجود ولاية مطلقة للفقيه كما هي مطلقة للامام (عليه السلام)!
اذن كان للمدرسة الغنوصية العرفانية (وهي من ثمار فكر وتراث ابن عربي) فضل السبق لايجاد فكرة (ولاية الفقيه المطلقة) عبر اسلوبها العجيب في خلط الشريعة مع الفلسفة والعرفان!!
قال ابن عربي: (فمن وقف على الحقائق كشفاً وتعريفاً إلهياً فهو الكامل الاكمل، ومن نزل عن هذه الرتبة فهو الكامل، وما عدا هذين فإما مؤمن أو صاحب نظر عقلي، لا دخول لهما في الكمال، فكيف في الاكملية؟!)[7]. ثم يضيف: (ولما لم يتمكن ان يكون كل انسان له مرتبة الكمال المطلوبة في الانسانية – وان كان يفضل بعضهم بعضا – فأدناهم منزلة مَنْ هو إنسان حيواني، ويشارك الانسان الكامل بالصورة الانسانية، واعلاهم من هو ظل الله، وهو الانسان الكامل نائب الحق، الذي يكون الحق لسانه وجميع قواه، وما بين هذين المقامين مراتب، ففي زمان الرسل يكون الكامل رسولاً، وفيزمان انقطاع الرسالة يكون الكامل وارثاً، ولا ظهور للوارث مع وجود الرسول، اذ الوارث لا يكون وارثاً إلا بعد موت من يرثه، فلم يتمكن للصاحب مع وجود الرسول ان تكون له هذه المرتبة، فلا تطمع في تخصيصك بشريعة ناسخة من عنده، ولا في إنزال كتاب، فقد اغلق ذلك الباب، فإن نهاية الولي ان يُشرِف على خطاب شريعة نبيه، وتزول القدم من قدامه، فتكون له درجة ميراث النبوة في اخذ الشريعة التي هو عليها، لا شريعة ناسخة لها، فتبقى الشريعة عليه محفوظة، ويعلو سنده فيها، اذ كان محمد (صلى الله عليه وسلم) لبنة الحائط، فكل دليل على مخالفته ساقط، فليست الصورة الالهية لكل نفس، وانما هي للنفس الكاملة، كنفوس الانبياء ومن كمل من الناس، والامر ينزل من الله على الدوام لا ينقطع، فلا يقبله إلا الرسل خاصة على الكمال، فإذا فقدوا، حينئذٍ أوجد ذلك الاستعداد في غير الرسل، فقبلوا ذلك التنزيل الالهي في قلوبهم، فسموا ورثة، ولم ينطلق عليهم اسم رسل مع كونهم يخبرون عن الله بالتنزيل الالهي)[8].
وقال ابن عربي: (ولما تعدد الكمًل من هذه النشأة، جعلهم الحق خلائف بعد ما كان خليفة، فكل كامل خليفة، وما يخلو زمان عن كامل اصلاً، فما يخلو عن خليفة وامام، فلا تخلو الارض عن ظهور صورة إلهية، يعرفها جميع خلق الله ما عدا الثقلين الانسوالجن، فإنها معروفة عند بعضها، فيوفون حقها من التعظيم والاجلال لها)[9].
اذن ترسخت فكرة (الانسان الكامل) في الفكر الغنوصي الصوفي (العرفاني)، وهذه الفكرة لم تجد امامها عقبة في الفكر السني فعندهم يكون الانبياء والاولياء نموذج للانسان الكامل، واذا كان الانبياءمنصوص عليهم من قبل الله تبارك وتعالى، فان اي انسان يمكنه ان يتحول الى ولي من الاولياء بتمسكمه بالشريعة (العقيدة والفقه والاخلاق) واجباتها ومستحباتها ومن ثم يدخل في حوزة فكرة الانسان الكامل للحصول على المعرفة بصورة مباشرة من خلال الكشف والشهود.
اما في الفكر الشيعي فقد واجهت فكرة الانسان الكامل عقبة كبيرة ولكنها تمكنت اخيراً من الالتفاف عليها عبر منهجها الغنوصي الباطني المعتاد! فالاولياء في الفكر السني يقابلهم الائمة المعصومون (عليهم السلام) في الفكر الشيعي غير انهم عند الشيعة منصوبون من قبل الله سبحانه وتعالى كما هو حال الانبياء(عليهم السلام)، فلا يمكن لأي شخصان يرتقي الى مرتبة الامام المعصوم عندهم.نعم يمكن للانسان ان يبلغ الذروة في العبادة والتقوى والمنزلة العالية من العدالة (دون ان يبلغ مرتبة العصمة) وهؤلاء يمكن ان نطلق عليهم اسم (الصالحين). غير ان الفكر الغنوصي العرفاني تدخل ليقول بإمكانية تحويل الصالحين الى مرتبة الانسان الكامل عبر الفناء في الامام المعصوم (عليه السلام) وبذلك يكون فهمهم وكلامهم ومواقفهم كي فهم وكلام ومواقف الامام المعصوم (عليه السلام)! وسنذكر فيمقالنا هذا نصوص غنوصية عرفانية تؤكد ما بيناه هنا.
فالصالحون الذين يصلون الى مرتبة الانسان الكامل ويفنون في الامام (عليه السلام) كيف لا تتحقق لهم الولاية المطلقة كما هي للامام (عليه السلام) غاية الامر ان هذه الولاية المطلقة تحتاج لغطاء شرعي يشرعها من الناحية الدينية فوجدوا ضالتهم في بعض النصوص المروية عن الائمة الاطهار (عليهم السلام) والتي فسروها بحسب مسبوقاتهم الفكرية الغنوصية العرفانية.
بداية فكرة الانسان الكامل:
يذهب هيثم مناع الى ان يحيى بن عدي هو اول من اظهر فكرة الانسان الكامل في التراث الاسلامي والذي سمًاه (الانسان التام)، وكتب مقالاً نقتطف منه التالي: (كتب يحيي بن عدي (893-974م) وهو فيلسوف من أسرة سريانية يعقوبية كتابا بعنوان "تهذيب الأخلاق" الذي نسبته بعض المخطوطات لابن عربي وابن الهيثم والجاحظ وطبع في دمشق في 1924 باعتباره للجاحظ، استدرك محققه محمد كرد علي هذا الخطأ في الطبعات اللاحقة منوها إلى أهمية أن يكون هذا النص فوق الملل والنحل والديانات بحيث ينسب لمن ذكر بآن معا. ويعتبر هذا الكتاب من أوائل ما كتب في فلسفة الأخلاق باللغة العربية. وفكرة الإنسان التام وحب الكمال فيه تقوم على اعتبار القيم الأخلاقية مقياس مركزي لمناهج الحياة على اختلافها، من العمل السياسي العام إلى العمل المهني، بل بكلمة، في مجمل العلاقات ما بين الإنسانية. وهو في طرحه هذا، لا يجنح لمثالية نظرية، بل يحاول باستمرار ربط الفضيلة بمفهوم التوازن الظرفي الذي يعتمد القسمة العادلة المتسامحة عند الضرورة مع إرضاء الرغبة. ولو أخذنا تعريفه للرحمة، لوجدنا فيه المنطق المعاصر الذي يربط بين المبدأ الأخلاقي للمحاسبة ورفض غياب المحاسبة impunity بنفس الوقت: "الرحمة هي محبة للمرحوم، مع جزع من الحال التي من أجلها رحم، وهذه الحالة مستحسنة ما لم تخرج بصاحبها عن العدل، ولم تنته به إلى الجور، وإلى فساد السياسة. فليس بمحمود رحمة القاتل عند القود، والجاني عند القصاص. ولا يختلف منهجه في ذلك عند تعريفه العدل: "هو التقسط اللازم للاستواء واستعمال الأمور في مواضعها وأوقاتها ووجوهها ومقاديرها، من غير سرف ولا تقصير ولا تقديم ولا تأخير". ويعطي للجور تعريفا جامعا يستنكر الظلم والفساد وعدم احترام الحقوق يقول: "هو الخروج عن الاعتدال في جميع الأمور، والسرف والتقصير، وأخذ الأموال من غير وجهها والمطالبة بما لا يجب من الحقوق الواجبة، وفعل الأشياء في غير مواضعها، ولا أوقاتها، ولا على القدر الذي يجب، ولا على الوجه الذي يستحب.
يتحدث يحيي بن عدي عن الإنسان التام بالقول: هو الذي لم تفته فضيلة، ولم تشنعه رذيلة، وهذا الحد قلما ينتهي إليه إنسان. فإذا انتهى الإنسان إلى هذا الحد، فهو بالملائكة أشبه منه بالناس".
يؤكد ابن عدي على مجموعة من المسلكيات للإنسان التام منها صرف عنايته للنظر في العلوم وسعيه للإحاطة بماهيات الأمور وكشف عللها وأسبابها، وتفقد غاياتها ونهاياتها وتفقده الدائم لجميع أخلاقه معتدلا في الشهوة واللذة طالبا للعدل والإنصاف مشاركا الآخرين في ماله مؤاسيا للفقراء وأهل الحاجة متواضعا محبا لجميع الناس دون تمييز.وفي العلاقات الإنسانية لمحب الكمال يقول: "ينبغي لمحب الكمال أيضا أن يعود نفسه محبة الناس أجمع، والتودد إليهم والتحنن عليهم، والرأفة والرحمة لهم.فإن الناس قبيل واحد متناسبون، تجمعهم الإنسانية، وحلية القوة الإلهية التي هي في جميعهم وفي كل واحد منهم، وهي النفس العاقلة، وبهذه النفس صار الإنسان إنسانا، وهي أشرف جزئي الإنسان اللذين هما النفس والجسد. فالإنسان بالحقيقة هو النفس العاقلة، وهي جوهر واحد في جميع الناس، والناس كلهم بالحقيقة شئ واحد، وبالأشخاص كثيرون".
يقوم التكامل بين المعرفة الحكمية والمعرفة الدينية عند إخوان الصفا على رفض التعصب وضرورة الانفتاح على جميع المعارف وعلى الربط بين طموح الإنسان الكامل والدين الكامل. المشروع الإخواني في صورته هذه، يعتبر نفسه جامعا للمذاهب والعلوم أكثر منه طرفا مما يجعل شمولية معارفه هذه تؤهله للتسامح والانفتاح أكثر من غيره "ينبغي لإخواننا أن لا يعادوا علما من العلوم، أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب، لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعها".
هذا التكامل بين المعرفة الحكمية والمعرفة الدينية القائم على مبدأ "التشبه بالله حسب طاقة البشر" لا يسعى فقط لطموح "الإنسان الكامل" بل أيضا ما يمكن تسميته "الدين الكامل". سعي يربط الكمال بالتفاوت بين الناس على أساس المعرفة والعقل.
كمال الإنسان في كمال العقل فكرة تناولها المعتزلة ونجدها بشكل مفصل في كتاب "التكليف" من "المغني" للقاضي عبد الجبار (مات في 415 للهجرة) الذي يعرف العقل بالقول هو "جملة من العلوم مخصوصة، متى حصلت في المكلف صح منه النظر والاستدلال والقيام بأداء ما كلف"، ومن كمال العقل عنده " أن يعرف ما يختص هو به من الحال؛ نحو كونه مريدا وكارها ومعتقدا"، ومن كمال العقل " أن يعرف من حال المدركات التي هي الأجسام ما تحصل عليه: من كونها مجتمعة أو متفرقة"، ومن كمال العقل "أن يعرف بعض المقبحات، وبعض المحسنات وبعض الواجبات، فيعرف قبح الظلم وكفر النعمة والكذب الذي لا نفع فيه ولا دفع ضرر، ويعلم حسن الإحسان والتفضل، ويعلم وجوب شكر النعم ووجوب رد الوديعة عند المطالبة، والإنصاف، ويعلم حسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك منع، وحسن الذم على الإخلال بالواجب مع ارتفاع الموانع". و"من جملة كمال العقل العلم بكثير من الدواعي؛ لأن معرفة الألطاف لا تصح إلا معه".
يشارك القاضي عبد الجبار في فكرة كمال العقل العديد من المعرفيين والفرق. ونجد عند الكرامية (أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام) اتفاق على أن العقل يحسن ويقبح قبل الشرع، وتجب معرفة الله بالعقل. كذلك يؤكد الإمام الماتريدي على "أن الشرع يتبع في أوامره ونواهيه ما يصف به العقل الإنساني الأشياء من حسن وقبح. وإذا كان هذا العقل لا يستطيع التمييز بين هذين الأمرين، في جميع الحالات، فإن الوحي إنما جاء ليأخذ بيد الإنسان وينير أمامه الطريق".
ورغم البعد منهجي بين كمال العقل والإنسان الكامل، ثمة تقاطعات مركزية بينهما أهمها التأكيد على مركزية دور الإنسان في الحياة والكون.
ابن عربي والإنسان الكامل: رغم أن نقطة الانطلاق في تعريف الإنسان عند المذاهب الفقهية الخمسة تكريم آدم وإثبات أفضليته على الملائكة، باعتبار سجود الأخيرة للإنسان تكرمة له وطاعة لله، لا يلبث هذا التعريف أن يتعرض لاختزالات أساسية شاركت بها بشكل أساسي المدرستان الحنبلية (مات ابن حنبل في 855م- 241 للهجرة) والأشعرية (الأولى على الصعيد الشعبي والثانية على الصعيد النخبوي). وأول هذه الاختزالات التأكيد على مفهوم الإنسان الطائع المكلف وثانيها التمييز بين المسلم وغير المسلم وثالثها اغتيال التوسع الأفقي والعامودي للاجتهاد.
لا يمكن للطاعة أن تشكل منهج حياة دون أن يكون موضوعها ترسيخ عبودية الإنسان للإنسان المغلفة بمفهوم الحاكمية الإلهية. والحديث عن الطاعة يقودنا دائما إلى "الطاعة المشروطة على الأرقاء والعبيد في حق سادتهم (عبودية بشر لبشر)، الطاعة المفروضة على المكلفين لله ورسوله (الطاعة الطقوسية والمعاشية)، الطاعة المشروطة في حق الخلق لقيام شوكة السلطان(الطاعة للمستبد العادل أو الجائر) والطاعة المفروضة في حق الزوجة لبعلها (الطاعة الاجتماعية داخل الهرم العائلي". ولا شك بأن التمييز بين المسلم وغير المسلم لا يمكن أن يقفز فوق قضية من هو المسلم، التي شكلت أساس بدعة التكفير الشرعية. وقد أرخ الغزالي في هذا التراجع لانتصار فكرة الإنسان المطيع المذعن العاجز. فلم ينتظر المشرق العربي الإسلامي اجتياح المغول وسقوط بغداد (1258م/656 للهجرة) ليدخل مرحلة الهيمنة العقيدية التي حولت الإسلام إلى جثة مشرحة في مخابر الأئمة بإعطائه بعده كأيديولوجية بأسوأ ما للكلمة من معنى كنظام مغلق من "الحقائق" المطلقة الأبدية. "سيتكفل الماوردي (1056م/450هـ) بترتيب دستور الخلافة ومنح بركات الشرعية "التاريخية والدينية" للخليفة، ابن الجوزي (م1200م/597هـ) سيقوم بغسل شوائب الشيطان في كتابه "تلبيس ابليس"، بعد أن لخّص الغزالي (م 1111م/505هـ) الإسلام : "الدين شطران أحدهما ترك المناهي والآخر فعل الطاعات" (بداية الهداية) ونظم السنن في موت-إحياء علوم الدين ليعمد حجة للإسلام السني".
في هذه الظروف المحملة بالانغلاق على الذات ومصادرة التعددية والاجتهاد وخوف المعرفة الحكمية علمية كانت أو فلسفية، واحتقار الإنسان باسم سمو الرحمن وازدراء المرأة في ظل إعادة إنتاج الاستبداد في المجتمع. وفي وسط محموم بالتطرف والمذهبيية وأمراض أفول الحضارة،، حمل محيي الدين بن عربي (560-638/1164-1240م) فكرة "الإنسان الكامل" في محاولة للوقوف في وجه تيار عات لم يعد يقبل من الإنسان إلا صورته المسخ. في محاولة غير عادية لإعادة الاعتبار لمن أفقده الحاكم والفقيه كل اعتبار ووقف نزيف قد أتى على الأساسي من المجتمع والأفراد والأفكار.
تعيدنا فكرة الإنسان الكامل إلى تلك القوة العالمية المتميزة لكل الأفكار والمبادئ التي تتجاوز بعظمتها القبيلة والمكان والزمان. لذا لا نستغرب أن يجد هانز هينرش شيدر روابطها العضوية مع نظرية الإنسان الأول في الديانات الإيرانية القديمة، وأن يعتبرها لوي ماسينيون ابنة الرؤى السامية التي نشأت عند أنبياء بني إسرائيل في فكرة "عبد يهوا" العادل المبتلي بالآلام واستمرت مع المسيحية في الإيمان بعودة المخلص وزرعت في عدد غير محدود من الملل والنحل التي انتظرت المهدي "ليملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا وظلما". أو أن يبصر فيها الهادي العلوي مشاعيته البدائية الزاهدة: "من لا يملك شيئا ولا يملكه شئ، حيث الملك يجب أن لا يكون لأحد فرد بل لجميع الناس حتى لا يعلو أحد على أحد. "التاوي والمتصوف، يقول الهادي، ينظران كلاهما إلى مجتمع لا مالك فيه ولا محروم، ولا قامع ولا مقموع". بالتأكيد، فقد استعاد المؤرخون الثلاثة في الإنسان الكامل صورة ذهنية عالمية حاولت التاوية من خلالها استقراء قوة الخير في البشر والثقافة الإيرانية استعادة الإنسان الأول عند مزدك والديانات السامية قراءة فكرة المسيح المخلص والمهدي. إلا أن طرح ابن عربي كان ضمن تصور فكري شامل واجه فيه معالم حقبة كاملة. فهو يميز بين قوانين الطبيعة ومنظِمات حركة الإنسان انتصارا لفكرة الإرادة البشرية والإنسان الفاعل والمنفعل في طبيعة لها قوانينها ونواميسها. ويؤكد على وحدة الوجود للتأكيد على فكرة الخير الأسمى والعدل الذي يتجاوز الملة والطائفة. وعبر هذه الوحدة حارب خطاب الفرقة الناجية وتكفير الآخر بحظوظ النفس المشركة التي لا تختلف عن حظوظ النفس المؤمنة مؤكدا "إياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه". ورفض أشكال التمييز بين البشر في المعتقد أو الجنس باعتبار الكمال الإنساني يقابل "الإنسان الحيوان" الذي يحمل فيما يحمل عاهات التفريق بين البشر: "خلق الله الإنسان، مختصرا شريفا جمع فيه معاني العالم الكبير وجعله نسخة جامعة لما في العالم الكبير، ولما في الحضرة الإلهية من الأسماء وقال فيه رسول الله: إن الله خلق آدم على صورته، فلذلك قلنا خرج العالم على الصورة، وفي هذا الضمير الذي في صورته خلاف لمن يعود لأرباب العقول، وفي قولنا علم نفسه فعلم العالم غنية لمن تفطن وكان حديد القلب بصيرا، ولكون الإنسان الكامل على الصورة الكاملة صحت له الخلافة والنيابة عن الله تفي العالم، فلنبين في هذا المنزل نشأة هذا الخليفة ومنزلته وصورته على ما هي عليه، ولسنا نريد الإنسان بما هو إنسان حيوان فقط بل بما هو إنسان وخليفة وبالإنسانية والخلافة صحت له الصورة على الكمال، وما كل إنسان خليفة، فإن الإنسان الحيوان ليس بخليفة عندنا، وليس المخصوص بها أيضا الذكورية فقط، فكلامنا إذا في صورة الكامل من الرجال والنساء فإن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى والذكورية والأنوثية إنما هما عرضان ليستا من حقائق الإنسانية لمشاركة الحيوان كلها في ذلك".
يضع ابن عربي حدا في مفهومه للإنسان الكامل لأي فرق بين من هم أبناء دين واحد ومن هم خارجه، كذلك يعيد الاعتبار للمرأة كطرف أساسي كالرجل في هذا المفهوم.
جعل ابن عربي، كما يلاحظ هانس هينرش شيدر، من "الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية مظهران متماثلان لمذهب واحد في الوحدانية" وبذلك أصل ابن عربي فكرة الإنسان المساوي للعالم، الإنسان المشابه بل والمساوي لله في وجه الإنسان المهمش والذليل والطائع في المدارس الفقهية.
في مقابل عقائد الطاعات والواجبات، تقف فلسفة ابن عربي الصوفية لتذكر بأن الله إنما خلق العالم من أجل الإنسان "الإنسان هو المقصود من الوجود"، وأن هذا يعني أن الإنسان ليس فقط مركز الكون الواعي، بل أكمل مجالي الحق و "المختصر الشريف" و"الكون الجامع" الذي أعطى الروح لعالم شبحي لا روح فيه. إنه نقطة انطلاق الكون وآخر وأرقى تعبيراته: "أول ما خلق الله العقل فهو أول الأجناس. وانتهى الخلق إلى الجنس الإنساني فاكتملت الدائرة. وما بين طرفي الدائرة، جميع ما خلق الله من أجناس العالم بين العقل الأول الذي هو القلم أيضا وبين الإنسان الذي هو الموجود الآخر". الإنسان حسب ابن عربي بكلمة "قطب الفلك، وهو العمد، ألا تراه إذا انتقل من الدنيا خربت وزالت الجبال وانشقت السماء وانكدرت النجوم").
ويضيف كاتب المقال: (يرتبط هاجس العدالة بمفهوم الكمال الإنساني، وبهذا المعنى احترام الحق قاعدة من قواعد الإيمان: "إياك وظلم العباد فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وظلم العباد أن تمنع حقوقهم التي أوجب الله عليك أداءها ولا تنهر السائل مطلقا، فإن الجائع يطلب الطعام والضال يطلب الهداية". ومع يقينه الروحاني، أكد ابن عربي باستمرار على الحديث الذي يقول "أنتم أعلم بأمور دنياكم". والحديث عن الدنيا يعني ارتباط الحياة بالزمان والمكان وتاريخية الوجود، يقول في رسائله: "اعلم أن الحكيم الكامل المحقق المتمكن هو الذي يعامل كل حال ووقت بما يليق به ولا يخلط"، ويؤكد على ذلك في فصوص الحكم:"ما أحسن ما قال الله تعالى في حق العالم وتبدله مع الأنفاس "في خلق جديد" في عين واحدة، فقال في حق طائفة، بل أكثر العالم، "بل هم في لبس من خلق جديد".
ما بعد ابن عربي: كيف تطورت فكرة الإنسان الكامل بعد ابن عربي، وهل وجدت أصداء لها في المجتمع العربي و/أو الإسلامي؟ لقد كان قدر ابن عربي، وذلك الحال بالنسبة لابن رشد أيضا، أن يقف في وجه تراجع عام سعى لإلباس عجزه ثوب التقى. فجرى اغتيال الاجتهاد ولأكثر من قرنين لم يتوقف السلفيون عن نقد كتابات ابن عربي. وفي عملية هدم الحضارة العربية الإسلامية والتجهيل العام باسم الدين وطاعة السلطان، لم يكن لأفكار ابن عربي أن تنتشر وبقيت في إطار الاتجاهات الصوفية والفلسفية والإصلاحية بشكل عام. وجملة هذه الاتجاهات كانت تعاني من حصار وتهميش. لذا فقد كان أكثر المستفيدين المباشرين من فكر ابن عربي رواد الإصلاح المسيحي في أوربة. الأمر الذي لم يحل دون تناول موضوع الإنسان الكامل من قبل تلميذه الصدر القونوي في كتابه "مراتب الوجود" وابن قضيب البان في "المواقف الإلهية" وعبد الكريم الجيلي في "الإنسان الكامل" وعزيز الدين النسفي في كتابه المعنون أيضا "الإنسان الكامل" (بالفارسية). إضافة لشذرات عند التهانوي وغيره ومقاطع شعرية لجلال الدين الرومي ومحمود شبسري.
يعطي الصدر القنوي الإنسان الكامل المرتبة الأعلى من مراتب الوجود باعتبار أنه به تتم المراتب ويكمل العالم. "فالإنسان، يقول القنوي، أنزل الموجودات مرتبة في الظهور، وأعلاهم مرتبة في الكمالات، ليس لغيره ذلك. وقد بينا أنه الجامع للحقائق الحقية، والحقائق الخلقية، جملة وتفصيلا، حكما ووجودا، بالذات والصفات، لزوما وعرضا، حقيقة ومجازا، وكل ما رأيته أو سمعته في الخارج فهو عبارة عن رقيقة من رقائق الإنسان، واسم لحقيقة من حقائق الإنسان. فالإنسان هو الحق، وهو الذات، وهو الصفات، وهو العرش، وهو الكرسي، وهو اللوح، وهو القلم، وهو الملك، وهو الجن، وهو السموات وكواكبها، وهو الأرضون وما فيها، وهو العالم الدنياوي، وهو العالم الأخراوي، وهو الوجود وما حواه، وهو الحق، وهو الخلق، وهو القديم، وهو الحادث".
لم يستمر فك الارتباط بين مفهوم الإنسان الكامل من جهة وتصور نخبوي وخلاصي للكمال الإنساني طويلا بعد ابن عربي، واستسلم من جاء بعده لربط هذه الفكرة بالنبي أو الولي أو الخضر أو المهدي. فنقرأ عند الجيلي قوله: "الإنسان الكامل هو محمد. وهو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين". كذلك يعتبر النسفي (القرن الثالث عشر) أن للإنسان الكامل أربع خصائص هي الكلام الحسن والفعل الحسن والاستعداد الطبيعي للخير والمعارف. وبالنسبة له الإنسان الكامل هو العالم، الخليفة، المعلم الروحي، البالغ، مرآة العالم، المسيح… وهو يؤكد على أنه إنسان واحد في عصره فلا يوجد سوى جسد واحد يحمل قلب الإنسان الكامل. مع هذا التوجه في المدارس الصوفية المتأخرة، تراجع البعد الخلاق في فكرة الإنسان الكامل قبل أن يتجسد في الواقع في مفهوم للإنسان المواطن المتساوي مع غيره، الذي يدرك حق النفس وحق الآخر ويتعرف على الآخر في نفسه وعلى نفسه في كل كائن حي. هذا الإنسان الذي كلما اكتسب معرفة واعتبارا زاد كرما وتواضعا، والذي ينال اعتباره العام من قدرته على اكتساب المعارف وعطاء الآخرين)[10].
ومن الواضحان كاتب المقال (هيثم مناع) قد اغفل امرين مرتبطين بعدم اطلاعه فيما يبدو على التصوف الشيعي المسمى (العرفان)، الامر الاول قوله (كان أكثر المستفيدين المباشرين من فكر ابن عربي رواد الإصلاح المسيحي في أوربة) حيث ان المستفيد الاكبر من فكر ابن عربي بعد المتصوفين السنة هم اتباع مدرسة الحكمة المتعالية الشيعية التي اسسها الشيخ صدر الدين الشيرازي (ملا صدرا) المستندة الى فكر وتراث ابن عربي.
اما الامر الثاني فهو قول كاتب المقال (لم يستمر فك الارتباط بين مفهوم الإنسان الكامل من جهة وتصور نخبوي وخلاصي للكمال الإنساني طويلا بعد ابن عربي) لان فك الارتباط المشار اليه استمر عند الشيعة العرفانيين بتحويل فكرة الانسان الكامل الى ولاية الفقيه المطلقة.
الانسان الكامل في كتاب (جامع السعادات) للنراقي الاب:
نطالع النصوص التالية في كتاب جامع السعادات وهي تؤكّد على ان النراقي الاب (الشيخ محمد مهدي النراقي) كان مستغرقاً في الفكر الصوفي وانَّ تلمذة ابنه على يديه نقلت فكره الصوفي إليه. والنصوص التالية تتحدث عن (الانسان التام الكامل)، وعن (الكاملين) الذين ذكرهم بعد الانبياء والمرسلين والاولياء، و(الانسان الكامل)، و(مراتب الكاملين) ... حيث قال:
(فصل: بيان تلذذ النفس وتألمها ... إذا عرفت تجرد النفس وبقاءها أبدا، فاعلم أنها إما ملتذة متنعمة دائما أو معذبة متألمة كذلك. والتذاذها يتوقف على كمالها الذي يخصها، ولما كانت لها قوتان النظرية والعملية، فكمال القوة النظرية الإحاطة بحقائق الموجودات بمراتبها والاطلاع على الجزئيات غير المتناهية بإدراك كلياتها. والترقي منه إلى معرفة المطلوب الحقيقي وغاية الكل حتى يصل إلى مقام التوحيد ويتخلص عن وساوس الشيطان ويطمئن قلبه بنور العرفان. وهذا الكمال هو الحكمة النظرية. وكما القوة العملية التخلي عن الصفات الردية والتحلي بالأخلاق المرضية ثم الترقي منه إلى تطهير السر وتخليته عما سوى الله سبحانه. وهذا هو الحكمة العملية التي يشتمل هذا الكتاب على بيانها. وكمال القوة النظرية بمنزلة الصورة وكمال القوة العملية بمنزلة المادة، فلا يتم أحدهما بدون الآخر، ومن حصل له الكمالان صار بانفراده عالما صغيرا مشابها للعالم الكبير، وهو الإنسان التام الكامل الذي تلألأ قلبه بأنوار الشهود وبه تتم دائرة الوجود)[11].
(ومن يقينه بكمالاته الغير المتناهية وكونه فوق التمام، يكون دائما في مقام الشوق والوله والحب. وحكايات أصحاب اليقين من الأنبياء والمرسلين والأولياء والكاملين في الخوف والشوق وما يعتريهم من الاضطراب والتغير والتلون وأمثال ذلك في الصلاة وغيرها مشهورة، وفي كتب التواريخ والسير مسطورة، وكذا ما يأخذهم من الوله والاستغراق والابتهاج والانبساط بالله سبحانه)[12].
(فالإنسان الكامل يشتاق إلى الموت، لاقتضائه تماميته وكماله، وخروجه عن ظلمة الطبيعة ومجاورة الأشرار إلى عالم الأنوار ومرافقة الأخيار من العقول القادسة والنفوس الطاهرة، وأي عاقل لا يرجح الحياة العقلية والابتهاجات الحقيقية على الحياة الموحشة الهيولانية، المشوبة بأنواع الآلام والمصائب وأصناف الأسقام والنوائب)[13].
(وهذه المحبة نهاية درجات العشق، وغاية الكمال المتصورة لنوع الإنسان، وذروة مقامات الواصلين، وغاية مراتب الكاملين، فما بعدها مقام إلا وهو ثمرة من ثمراتها كالأنس والرضا والتوحيد، ولا قبلها مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها، كالصبر والزهد وسائر المقامات. وهذا العشق هو الذي أفرط العرفاء وأرباب الذوق في مدحه، وبالغوا في الثناء عليه نثرا ونظما، وصرحوا بأنه غاية الاتحاد والكمال المطلق، ولا كمال إلا هو، ولا سعادة إلا به)[14].
وفي جواب عن الانسان الكامل في كتاب جامع السعادات للشيخ محمد مهدي النراقي يقول مركز الابحاث العقائدية في شبكة الانترنيت العالمية: (الانسان الكامل الذي يتحدث عنه كتاب (جامع السعادات) يختلف عن الانسان الكامل بالمفهوم العقائدي الاثني عشري، فالانسان الكامل بحسب علم الاخلاق هو الانسان الذي يرتقي في سلم العلم والعمل إلى الرتبة القصوى في حصول ملكات الحكمتين المشار إليهما، فالانسان الكامل هو الفاضل الذي يتصف بخصال اهمها الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة، فهذه الاربعة هي أصول الفضائل الاخلاقية التي لأجل الارشاد إليها تم تأليف كتاب (جامع السعادات) من قبل الفاضل النراقي رحمه الله. وهذا الكمال في الواقع هو الرتبة الاخيرة من التكامل المقدور للنوع الانساني، وهو مكتسب بواسطة الحكمتين المذكروتين (الحكمة النظرية والحكمة العملية). وأما الانسان الكامل بالمفهوم العقائدي الإمامي فهو رتبة الامام المعصوم، فالمعصوم سلام الله تعالى عليه هو الانسان الكامل على الاطلاق، ولا يمكن أن يصل الانسان العادي مهما ترقى في الكمال إلى هذه الرتبة. وذلك لان رتبة الانسان الكامل موهوبة وليست مكتسبة ومن لوازمها العصمة).
نبذة عن الشيخ احمد النراقي:
[في قرية نائية من قرى مدينة كاشان، ولد الشيخ أحمد النراقي سنة (1185هـ)، وتكفّل نشأته العلمية أولاً والده الملا مهدي النراقي ــ وكان من كبار العلماء وفحول الفقهاء ــ فقضى وطراً من دراسته على يد والده الماجد وردحاً آخر منها على يد علماء العراق، وقد تركت منهجية الوالد في البحث والتأليف بصماتها واضحةً على مؤلّفات الابن وطريقته في البحث والكتابة.
في المقابل، ساعدت الجهود العلمية التي بذلها النراقي الابن على انكشاف البعد العلمي بصورة أفضل وأنصع في النتاج العلمي للنراقي الأب.
وقد برع الشيخ أحمد النراقي مضافاً إلى علمي الفقه والأصول، وعلم الأخلاق، وسائر العلوم العقلية والنقلية، في مجالات عديدة أخرى كالشعر مثلاً، فهو شاعر مبدع، وكان يتخلّص في أشعاره بـ((الصفائي)).
وأمّا أساتذته فيأتي في طليعتهم الشيخ كاشف الغطاء والشيخ الأعظم الأنصاري، أمّا مؤلفاته وتصانيفه فكثيرة، وهي كالتالي:
1 ــ شرح تجريد الأصول. 2 ــ مناهج الأحكام في الأصول. 3 ــ عين الاُصول. 4 ــ أساس الأحكام في الأصول. 5 ــ مفتاح الأحكام في الأصول.
6 ــ معراج السعادة. 7 ــ تذكرة الأحباب. 8 ــ خلاصة المسائل. 9 ــ شرح محصّل الهيئة. 10 ــ مستند الشيعة في الأحكام الشرعية. 11 ــ الخزائن. 12 ــ عوائد الأيام. 13 ــ سيف الاُمّة وبرهان الملّة. 14 ــ مثنوي طاقديس. 15 ــ وسيلة النجاة.
لقد اتّصفت شخصية النراقي ــ على لسان مترجميه ــ بالموسوعية والجامعية، سيما في الأصول والفقه والأخلاق والرياضيات والسياسة. أمّا الشعر باللغة الفارسية فقد كان في الصدارة من بين شعراء عصره.
وقد تميّز الفاضل النراقي عن باقي أقرانه بقلّة تلمّذه وحضوره في دروس العلماء، وإنما استقى أكثر علومه من بطون الكتب لا من محضر العلماء والأساتذة.
وافته المنية ــ متأثّراً بالوباء ــ عام (1245 هـ)، ووري جثمانه الثرى في النجف الأشرف][15].
((( يتبع )))
تعليق