من أين نشأ التشيع ؟ ومتى تكوَّن؟ ومن هو غارس بذرته الأُولى؟
إنَّ أول مَنْ وضع بذرة التشيُّع في حقل الاسلام هو نفس صاحب الشَّريعة الاسلامية ، يعني أنَّ بذرة التشيَّع وضعت مع بذرة الاسلام ، جنباً الى جنب ، وسواء بسواء ، ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والعناية حتى نمت وأزهرت في حياته ، ثم أثمرت بعد وفاته.
وشاهدي على ذلك نفس أحاديثه الشَّريفة ، لا من طرق الشِّيعة ورواة الامامية ، حتى يُقال : أنَّهم ساقطون لأنهم يقولون ( بالرجعة ) أو أنَّ راويهم ( يجر الى قرصه ) بل من نفس أحاديث علماء السنَّة وأعلامهم ، ومن طرقهم الوثيقة التي لا يظن ذو مسكة فيها الكذب والوضع ، وأنا أذكر جملة ممّا علق بذهني من المراجعات الغابرة ، والتي عثرت عليها عفواً من غير قصد ولا عناية.
فمنها : ما رواه السيوطي في كتاب ( الدر المنثور في تفسير كتاب الله بالمأثور ) في تفسير قوله تعالى :﴿ ... أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ 1.
قال : أخرج ابن عساكر : عن جابربن عبدالله قال : كنّا عند النَّبي صلىاللهعليهوآله فاقبل عليٌ عليهالسلام فقال النَّبي : « والَّذي نفسي بيده إنَ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ».
ونزلت :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ 1.
وأخرج ابن عدي : عن ابن عبّاس قال : لما نزلت :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... ﴾ 1 قال رسول الله [ صلىاللهعليهوآله ] لعلي [ عليهالسلام ] : « هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ».
وأخرج ابن مردويه : عن علي عليهالسلام قال : « قال لي رسول اللهّ صلىاللهعليهوآله : الم تسمع قول الله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ 1 أنتَ وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض ، إذا جاءت الامم للحساب تُدعون غرّاً محجَّلين ». انتهى حديث السيوطي2.
وروى بعض هذه الأحاديث ابن حجر في ( صواعقه ) عن الدارقطني ، وحدّث أيضاً عن أُمِّ سلمة أنَّ النَّبي صلىاللهعليهوآله قال : « يا علي أنت وأصحابك في الجنَّة »3.
وفي ( نهاية ابن الأثير ما نصَّه في مادة ( قمح ) : وفي حديث علي عليهالسلام قال له النَّبي صلىاللهعليهوآله : « ستقدم على الله أنتَ وشيعتك راضين مرضيين ، ويقدم عليه عدوك غضاباً مقمَّحين » ، ثم جمع يده إلى عنقه ليريهم كيف الاقماح4. انتهى.
وببالي أنَّ هذا الحديث أيضاً رواه ابن حجر في ( صواعقه ) وجماعة آخرون من طرق اُخرى تدل على شهرته عند أرباب الحديث5.
والزمخشري في ( ربيع الأبرار ) يروي عن رسول الله [ صلىاللهعليهوآله ] أنَّه قال : « يا علي ، إذا كان يوم القيامة أخذتُ بحجزة الله تعالى ، وأخذتُ أنت بحجزتي ، وأخذ وُلْدِكَ بحجزتك ، واخذ شيعة ولْدِكَ بحجزتهم ، فترى أين يؤمر بنا »6.
ولو أراد المتتبع [ لـ ] كتب الحديث ، مثل : مسند الامام أحمد بن حنبل ، وخصائص النسائي ، وأمثالهما أنْ يجمع أضعاف هذا القدر لكان سهلاً عليه.
وإذا كان نفس صاحب الشريعة الاسلامية صلىاللهعليهوآله يُكرر ذكر شيعة علي عليهالسلام ويُنَوِّه عنهم بأنَّهم هُمُ الآمنون يوم القيامة ، وهم الفائزون والراضون المرضيون ، ولا شك أنَّ كلُّ معتقد بنبوته يصدقه فيما يقول ، وأنَّه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلّا وحي يوحى7 ، فإذا لم يصر كلُّ أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله شيعة لعلي عليهالسلام فبالطبع والضرورة تلفت تلك الكلمات نظر جماعة منهم أن يكونوا ممَّن ينطبق عليه ذلك الوصف بحقيقة معناه ، لا بضرب من التوسّع والتأويل.
نعم ، وهكذا كان الأمر ، فإنَّ عدداً ليس بالقليل اختصوا في حياة النبي صلىاللهعليهوآله بعلي عليهالسلام ولازموه ، وجعلوه إماما كمبلِّغٍ عن الرسول ، وشارح ومفسِّرٍ لتعاليمه ، وأسرار حِكَمِه وأحكامه ، وصاروا يُعرفون بأنّهم شيعة علي عليهالسلام كعَلَمٍ خاص بهم كما نصًّ على ذلك أهل اللغة. راجع النهاية8 ولسان العرب9 وغيرهما10 تجدهم ينصّون على أنَّ هذا الاسم غلب على أتباع علي عليهالسلام وولده ومن يواليهم ، حتى صار اسماً خاصاً بهم.
ومن الغني عن البيان أنَه لو كان مراد صاحب الرسالة من شيعة علي عليهالسلام مَنْ يحبه أو لا يبغضه ـ بحيث ينطبق على أكثر المسلمين ، كما تخيَّله بعض القاصرين ـ لم يستقم التعبير بلفظ ( شيعة ) ، فانَّ صرف محبة شخص لآخر أو عدم بغضه لا يكفي في كونه شيعة له ، بل لا بدَّ هناك من خصوصية زائدة ، وهي الاقتداء والمتابعة له ، بل ومع الالتزام بالمتابعة أيضاً ، وهذا يعرفه كلُّ من له أدنى ذوق في مجاري استعمال الألفاظ العربية ، وإذا استعمل في غيره فهو مجاز مدلول عليه بقرينة حال أو مقال.
والقصارى إنِّي لا أحسب أنَّ المنصف يستطيع أنْ ينكر ظهور تلك الأحاديث وأمثالها في إرادة جماعة خاصة من المسلمين ، ولهم نسبة خاصة بعلي عليهالسلام ، يمتازون بها عن سائر المسلمين الَّذين لم يكن فيهم ذلك اليوم من لا يحب علياً ، فضلاً عن وجود من يبغضه.
ولا أقول : إنَّ الاخرين من الصحابة ـ وهم الأكثر الَّذين لم يتسموا بتلك السمة ـ قد خالفوا النبي صلىاللهعليهوآله ولم يأخذوا بارشاده ، كلّا ومعاذ الله أنْ يُظن فيهم ذلك ، وهم خيرة مَنْ على وجه الأرض يومئذٍ ، ولكن لعلَّ تلك الكلمات لم يسمعها كلَّهم ، ومن سمع بعضها لم يلتفت إلى المقصود منها ، وصحابة النبي الكرام أسمى من أن تُحلِّق إلى أوج مقامهم بغاث الأوهام11.
ثم إنَّ صاحب الشريعة لم يزل يتعاهد تلك البذرة ، ويسقيها بالماء النمير العذب من كلماته وإشاراته ، في أحاديث مشهورة عند أئمة الحديث من علماء السنَّة ، فضلاً عن الشِّيعة ، وأكثرها مروي في الصحيحين ، مثل : قوله صلىاللهعليهوآله : « عليٌ مني بمنزلة هارون من موسى »12.
ومثل : « لا يحبك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق »13.
وفي حديث الطائر : « اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك »14.
ومثل : « لأعطين الراية غداَ رجلاً يُحب اللهَ ورسولَهُ ويُحبه الله ورسولُهُ »15.
ومثل : « إنِّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللهّ ، وعترتي أهل بيتي »16.
و « عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع علي »17.
إلى كثير من أمثالها ممَّا لسنا في صدد إحصائه وإثبات أسانيده ، وقد كفانا ذلك موسوعات كتب الامامية ، فقد ألَّف العالم الحبر السيِّد حامد حسين اللكناهوري كتاباً أسماه ( عبقات الأنوار ) يزيد على عشرة مجلَّدات ، كلُّ مجلَّد بقدر صحيح البخاري تقريباً ، أثبت فيها أسانيد تلك الأحاديت من الطرق المعتبرة عند القوم ومداليلها ، وهذا واحد من اُلوف ممَّن سبقه ولحقه.
ثمَّ لمّا ارتحل الرسول صلىاللهعليهوآله من هذه الدار إلى دار القرار ، ورأى جمع من الصحابة أنْ لا تكون الخلافة لعلي عليهالسلام : إمّا لصغر سنِّه!! أو لأنَّ قريشاً كرهت أنْ تجتمع النبوة والخلافة لبني هاشم ، زعماً منهم أنَّ النبوة والخلافة إليهم يضعونها حيث شاؤوا!! أو لاُمور اُخرى لسنا بصدد البحث عنها ، ولكنَّه باتفاق الفريقين امتنع أوَّلاً عن البيعة ، بل في صحيح البخاري ـ في باب غزوة خيبر : أنَّه لم يُبايع إلاّ بعد ستة أشهر18.
وتبعه على ذلك جماعة من عيون الصحابة ، كالزبير وعمّار والمقداد وآخرين19.
ثمَّ لمّا رأى تخلّفه يوجب فتقاً في الاسلام لا يُرتق ، وكسراً لا يُجبر ، وكلُّ أحد يعلم أنَّ علياً ما كان يطلب الخلافة رغبة في الامرة ، ولا حرصاً على المُلك والغلبة والاثَرة ، وحديثه مع ابن عبّاس بذي قار مشهور20 ، وإنَّما يريد تقوية الاسلام ، وتوسيع نطاقه ، ومد رواقه ، وإقامة الحقِّ ، وإماتة الباطل.
وحين رأى أنَّ المتخلّفين21 ـ أعني الخليفة الأول والثاني ـ بذلا أقصى الجهد في نشركلمة التوحيد ، وتجهيز الجنود ، وتوسيع الفتوح ، ولم يستأثروا ولم يستبدوا ، بايع وسالم ، وأغضى عما يراه حقّاً له ، محافظة على الاسلام أن تتصدّع وحدته ، وتتفرَّق كلمته ، ويعود الناس الى جاهليتهم الأُولى.
وبقي شيعته منضوين تحت جناحه ، ومستنيرين بمصباحه22 ، ولم يكن للشِّيعة والتشيُع يومئذٍ مجال للظهور ، لأنَّ الاسلام كان يجري على مناهجه القويمة ، حتى إذا تميَّز الحقًّ من الباطل ، وتبيَّن الرشد من الغي ، وامتنع معاوية عن البيعة لعلي عليهالسلام وحاربه في ( صفِّين ) انضم بقية الصحابة إلى علي عليهالسلام حتى قتل أكثرهم تحت رايته23 ، وكان معه من عظماء أصحاب النبي ثمانون رجلاً ، كلّهم بدريَ عقبي : كعمّار بن ياسر ، وخزيمة ذي الشَّهادتين ، وأبي أيوب الأنصاري ، ونظرائهم.
ثمَّ لما قُتل علي عليهالسلام واستتب الأمر لمعاوية ، وانقضى دور الخلفاء الراشدين ، سار معاوية بسيرة الجبابرة في المسلمين ، واستبد واستأثر عليهم ، وفعل في شريعة الاسلام ما لا مجال لتعداده في هذا المقام ، ولكن باتفاق المسلمين سار بضد سيرة مَنْ تقدمه من الخلفاء ، وتغلَب على الأُمَّة قهراً عليها ، وكانت أحوال أمير المؤمنين عليهالسلام وأطواره في جميع شؤونه جارية على نواميس الزهد والورع ، وخشونة العيش ، وعدم المخادعة والمداهنة في شيء من أقواله وأفعاله ، وأطوار معاوية كلّها على الضد من ذلك تماماً.
وقضية إعطائه مصر لابن العاص على الغدر والخيانة مشهورة24 ، وقهر الأُمَّة على بيعة يزيد25 ، واستلحاق زياد أشهر26 ، وتوسّعه بالموائد وألوان المطاعم الأنيقة معلوم ، وكلُّ ذلك من أموال الأُمَّة ، وفيء المسلمين الذي كان يصرفه الخليفتان27 في الكراع والسلاح والجند.
ويحدثنا الوزير أبو سعيد منصور بن الحسين اللآبي المتوفى سنة (٤٢٢) في كتابه ( نثر الدرر ) ما نصَّه :
قال أحنف بن قيس : دخلتُ على معاوية فقدَّم لي من الحار والبارد ، والحلو والحامض ، ما كثر تعجبي منه ، ثم قدَّم لوناً لم أعرف ما هو : فقلتُ : ما هذا؟
فقال : هذا مصارين البط محشوَّة بالمخ ، قد قلي بدهن الفستق ، وذُرَّ عليه بالطبرزد.
فبكيتُ ، فقال : ما يُبكيك؟
قلت : ذكرتُ علياً ، بينا أنا عنده وحضر وقت الطعام وإفطاره ـ وسألني المقام ـ فجيء له بجراب مختوم ، قلتُ : ما في الجراب؟
قال : سويق شعير.
قلتُ : خفتَ عليه أنْ يُؤخذ أو بخلتَ به؟
قال : لا ولا أحدهما ، ولكن خفتُ أنْ يلته الحسن والحسين بسمن أو زيت.
فقلتُ : محرَّم هو يا أمير المؤمنين؟
فتهال : لا ، ولكن يجب على أئمة الحقِّ أنْ يعتدُوا أنفسهم من ضعفة الناس لئلا يُطغيَ الفقيرَ فقرُهُ.
فقال معاوية : ذكرتَ مَنْ لا يُنكر فضله28.
وتجد في ( ربيع الأبرار ) للزمخشري ونظائره لهذه النادرة نظائر كثيرة29.
هذا كلّه والناس قريبو عهد بالنبي والخلفاء ، وما كانوا عليه من التجافي عن زخارف الدنيا وشهواتها ، ثم انتهى الأمر به إلى أنْ دسَّ السّم إلى الحسن عليهالسلام فقتله30 ، بعد أنْ نقض كلُّ عهد وشرط عاهد الله عليه له31 ، ثم أخذ البيعة لولده يزيد قهراً ، وحاله معلوم عند الأُمَّة يومئذٍ أكثر ممَّا هو معلوم عندنا اليوم.
فَمِنْ هذا وأضعاف أمثاله استمكن البغض له والكراهة في قلوب المسلمين ، وعرفوا أنَّه رجل دنيا لا علاقة له بالدِّين ، وما أصدق ما قال عن نفسه فيما حدَّثنا الزمخشري في ( ربيعه ) قال : قال معاوية : أمَّا أبو بكر فقد سلم من الدنيا وسلمتْ منه ، وأمَّا عمر فقد عالجها وعالجته ، وأمَّا عثمان فقد نال منها ونالت منه ، وأمَّا أنا فقد تضجعتُها ظهراً لبطن ، وانقطعتُ إليها وانقطعتْ إليَّ32.
يتبع..
إنَّ أول مَنْ وضع بذرة التشيُّع في حقل الاسلام هو نفس صاحب الشَّريعة الاسلامية ، يعني أنَّ بذرة التشيَّع وضعت مع بذرة الاسلام ، جنباً الى جنب ، وسواء بسواء ، ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والعناية حتى نمت وأزهرت في حياته ، ثم أثمرت بعد وفاته.
وشاهدي على ذلك نفس أحاديثه الشَّريفة ، لا من طرق الشِّيعة ورواة الامامية ، حتى يُقال : أنَّهم ساقطون لأنهم يقولون ( بالرجعة ) أو أنَّ راويهم ( يجر الى قرصه ) بل من نفس أحاديث علماء السنَّة وأعلامهم ، ومن طرقهم الوثيقة التي لا يظن ذو مسكة فيها الكذب والوضع ، وأنا أذكر جملة ممّا علق بذهني من المراجعات الغابرة ، والتي عثرت عليها عفواً من غير قصد ولا عناية.
فمنها : ما رواه السيوطي في كتاب ( الدر المنثور في تفسير كتاب الله بالمأثور ) في تفسير قوله تعالى :﴿ ... أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ 1.
قال : أخرج ابن عساكر : عن جابربن عبدالله قال : كنّا عند النَّبي صلىاللهعليهوآله فاقبل عليٌ عليهالسلام فقال النَّبي : « والَّذي نفسي بيده إنَ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ».
ونزلت :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ 1.
وأخرج ابن عدي : عن ابن عبّاس قال : لما نزلت :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... ﴾ 1 قال رسول الله [ صلىاللهعليهوآله ] لعلي [ عليهالسلام ] : « هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ».
وأخرج ابن مردويه : عن علي عليهالسلام قال : « قال لي رسول اللهّ صلىاللهعليهوآله : الم تسمع قول الله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ 1 أنتَ وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض ، إذا جاءت الامم للحساب تُدعون غرّاً محجَّلين ». انتهى حديث السيوطي2.
وروى بعض هذه الأحاديث ابن حجر في ( صواعقه ) عن الدارقطني ، وحدّث أيضاً عن أُمِّ سلمة أنَّ النَّبي صلىاللهعليهوآله قال : « يا علي أنت وأصحابك في الجنَّة »3.
وفي ( نهاية ابن الأثير ما نصَّه في مادة ( قمح ) : وفي حديث علي عليهالسلام قال له النَّبي صلىاللهعليهوآله : « ستقدم على الله أنتَ وشيعتك راضين مرضيين ، ويقدم عليه عدوك غضاباً مقمَّحين » ، ثم جمع يده إلى عنقه ليريهم كيف الاقماح4. انتهى.
وببالي أنَّ هذا الحديث أيضاً رواه ابن حجر في ( صواعقه ) وجماعة آخرون من طرق اُخرى تدل على شهرته عند أرباب الحديث5.
والزمخشري في ( ربيع الأبرار ) يروي عن رسول الله [ صلىاللهعليهوآله ] أنَّه قال : « يا علي ، إذا كان يوم القيامة أخذتُ بحجزة الله تعالى ، وأخذتُ أنت بحجزتي ، وأخذ وُلْدِكَ بحجزتك ، واخذ شيعة ولْدِكَ بحجزتهم ، فترى أين يؤمر بنا »6.
ولو أراد المتتبع [ لـ ] كتب الحديث ، مثل : مسند الامام أحمد بن حنبل ، وخصائص النسائي ، وأمثالهما أنْ يجمع أضعاف هذا القدر لكان سهلاً عليه.
وإذا كان نفس صاحب الشريعة الاسلامية صلىاللهعليهوآله يُكرر ذكر شيعة علي عليهالسلام ويُنَوِّه عنهم بأنَّهم هُمُ الآمنون يوم القيامة ، وهم الفائزون والراضون المرضيون ، ولا شك أنَّ كلُّ معتقد بنبوته يصدقه فيما يقول ، وأنَّه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلّا وحي يوحى7 ، فإذا لم يصر كلُّ أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله شيعة لعلي عليهالسلام فبالطبع والضرورة تلفت تلك الكلمات نظر جماعة منهم أن يكونوا ممَّن ينطبق عليه ذلك الوصف بحقيقة معناه ، لا بضرب من التوسّع والتأويل.
نعم ، وهكذا كان الأمر ، فإنَّ عدداً ليس بالقليل اختصوا في حياة النبي صلىاللهعليهوآله بعلي عليهالسلام ولازموه ، وجعلوه إماما كمبلِّغٍ عن الرسول ، وشارح ومفسِّرٍ لتعاليمه ، وأسرار حِكَمِه وأحكامه ، وصاروا يُعرفون بأنّهم شيعة علي عليهالسلام كعَلَمٍ خاص بهم كما نصًّ على ذلك أهل اللغة. راجع النهاية8 ولسان العرب9 وغيرهما10 تجدهم ينصّون على أنَّ هذا الاسم غلب على أتباع علي عليهالسلام وولده ومن يواليهم ، حتى صار اسماً خاصاً بهم.
ومن الغني عن البيان أنَه لو كان مراد صاحب الرسالة من شيعة علي عليهالسلام مَنْ يحبه أو لا يبغضه ـ بحيث ينطبق على أكثر المسلمين ، كما تخيَّله بعض القاصرين ـ لم يستقم التعبير بلفظ ( شيعة ) ، فانَّ صرف محبة شخص لآخر أو عدم بغضه لا يكفي في كونه شيعة له ، بل لا بدَّ هناك من خصوصية زائدة ، وهي الاقتداء والمتابعة له ، بل ومع الالتزام بالمتابعة أيضاً ، وهذا يعرفه كلُّ من له أدنى ذوق في مجاري استعمال الألفاظ العربية ، وإذا استعمل في غيره فهو مجاز مدلول عليه بقرينة حال أو مقال.
والقصارى إنِّي لا أحسب أنَّ المنصف يستطيع أنْ ينكر ظهور تلك الأحاديث وأمثالها في إرادة جماعة خاصة من المسلمين ، ولهم نسبة خاصة بعلي عليهالسلام ، يمتازون بها عن سائر المسلمين الَّذين لم يكن فيهم ذلك اليوم من لا يحب علياً ، فضلاً عن وجود من يبغضه.
ولا أقول : إنَّ الاخرين من الصحابة ـ وهم الأكثر الَّذين لم يتسموا بتلك السمة ـ قد خالفوا النبي صلىاللهعليهوآله ولم يأخذوا بارشاده ، كلّا ومعاذ الله أنْ يُظن فيهم ذلك ، وهم خيرة مَنْ على وجه الأرض يومئذٍ ، ولكن لعلَّ تلك الكلمات لم يسمعها كلَّهم ، ومن سمع بعضها لم يلتفت إلى المقصود منها ، وصحابة النبي الكرام أسمى من أن تُحلِّق إلى أوج مقامهم بغاث الأوهام11.
ثم إنَّ صاحب الشريعة لم يزل يتعاهد تلك البذرة ، ويسقيها بالماء النمير العذب من كلماته وإشاراته ، في أحاديث مشهورة عند أئمة الحديث من علماء السنَّة ، فضلاً عن الشِّيعة ، وأكثرها مروي في الصحيحين ، مثل : قوله صلىاللهعليهوآله : « عليٌ مني بمنزلة هارون من موسى »12.
ومثل : « لا يحبك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق »13.
وفي حديث الطائر : « اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك »14.
ومثل : « لأعطين الراية غداَ رجلاً يُحب اللهَ ورسولَهُ ويُحبه الله ورسولُهُ »15.
ومثل : « إنِّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللهّ ، وعترتي أهل بيتي »16.
و « عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع علي »17.
إلى كثير من أمثالها ممَّا لسنا في صدد إحصائه وإثبات أسانيده ، وقد كفانا ذلك موسوعات كتب الامامية ، فقد ألَّف العالم الحبر السيِّد حامد حسين اللكناهوري كتاباً أسماه ( عبقات الأنوار ) يزيد على عشرة مجلَّدات ، كلُّ مجلَّد بقدر صحيح البخاري تقريباً ، أثبت فيها أسانيد تلك الأحاديت من الطرق المعتبرة عند القوم ومداليلها ، وهذا واحد من اُلوف ممَّن سبقه ولحقه.
ثمَّ لمّا ارتحل الرسول صلىاللهعليهوآله من هذه الدار إلى دار القرار ، ورأى جمع من الصحابة أنْ لا تكون الخلافة لعلي عليهالسلام : إمّا لصغر سنِّه!! أو لأنَّ قريشاً كرهت أنْ تجتمع النبوة والخلافة لبني هاشم ، زعماً منهم أنَّ النبوة والخلافة إليهم يضعونها حيث شاؤوا!! أو لاُمور اُخرى لسنا بصدد البحث عنها ، ولكنَّه باتفاق الفريقين امتنع أوَّلاً عن البيعة ، بل في صحيح البخاري ـ في باب غزوة خيبر : أنَّه لم يُبايع إلاّ بعد ستة أشهر18.
وتبعه على ذلك جماعة من عيون الصحابة ، كالزبير وعمّار والمقداد وآخرين19.
ثمَّ لمّا رأى تخلّفه يوجب فتقاً في الاسلام لا يُرتق ، وكسراً لا يُجبر ، وكلُّ أحد يعلم أنَّ علياً ما كان يطلب الخلافة رغبة في الامرة ، ولا حرصاً على المُلك والغلبة والاثَرة ، وحديثه مع ابن عبّاس بذي قار مشهور20 ، وإنَّما يريد تقوية الاسلام ، وتوسيع نطاقه ، ومد رواقه ، وإقامة الحقِّ ، وإماتة الباطل.
وحين رأى أنَّ المتخلّفين21 ـ أعني الخليفة الأول والثاني ـ بذلا أقصى الجهد في نشركلمة التوحيد ، وتجهيز الجنود ، وتوسيع الفتوح ، ولم يستأثروا ولم يستبدوا ، بايع وسالم ، وأغضى عما يراه حقّاً له ، محافظة على الاسلام أن تتصدّع وحدته ، وتتفرَّق كلمته ، ويعود الناس الى جاهليتهم الأُولى.
وبقي شيعته منضوين تحت جناحه ، ومستنيرين بمصباحه22 ، ولم يكن للشِّيعة والتشيُع يومئذٍ مجال للظهور ، لأنَّ الاسلام كان يجري على مناهجه القويمة ، حتى إذا تميَّز الحقًّ من الباطل ، وتبيَّن الرشد من الغي ، وامتنع معاوية عن البيعة لعلي عليهالسلام وحاربه في ( صفِّين ) انضم بقية الصحابة إلى علي عليهالسلام حتى قتل أكثرهم تحت رايته23 ، وكان معه من عظماء أصحاب النبي ثمانون رجلاً ، كلّهم بدريَ عقبي : كعمّار بن ياسر ، وخزيمة ذي الشَّهادتين ، وأبي أيوب الأنصاري ، ونظرائهم.
ثمَّ لما قُتل علي عليهالسلام واستتب الأمر لمعاوية ، وانقضى دور الخلفاء الراشدين ، سار معاوية بسيرة الجبابرة في المسلمين ، واستبد واستأثر عليهم ، وفعل في شريعة الاسلام ما لا مجال لتعداده في هذا المقام ، ولكن باتفاق المسلمين سار بضد سيرة مَنْ تقدمه من الخلفاء ، وتغلَب على الأُمَّة قهراً عليها ، وكانت أحوال أمير المؤمنين عليهالسلام وأطواره في جميع شؤونه جارية على نواميس الزهد والورع ، وخشونة العيش ، وعدم المخادعة والمداهنة في شيء من أقواله وأفعاله ، وأطوار معاوية كلّها على الضد من ذلك تماماً.
وقضية إعطائه مصر لابن العاص على الغدر والخيانة مشهورة24 ، وقهر الأُمَّة على بيعة يزيد25 ، واستلحاق زياد أشهر26 ، وتوسّعه بالموائد وألوان المطاعم الأنيقة معلوم ، وكلُّ ذلك من أموال الأُمَّة ، وفيء المسلمين الذي كان يصرفه الخليفتان27 في الكراع والسلاح والجند.
ويحدثنا الوزير أبو سعيد منصور بن الحسين اللآبي المتوفى سنة (٤٢٢) في كتابه ( نثر الدرر ) ما نصَّه :
قال أحنف بن قيس : دخلتُ على معاوية فقدَّم لي من الحار والبارد ، والحلو والحامض ، ما كثر تعجبي منه ، ثم قدَّم لوناً لم أعرف ما هو : فقلتُ : ما هذا؟
فقال : هذا مصارين البط محشوَّة بالمخ ، قد قلي بدهن الفستق ، وذُرَّ عليه بالطبرزد.
فبكيتُ ، فقال : ما يُبكيك؟
قلت : ذكرتُ علياً ، بينا أنا عنده وحضر وقت الطعام وإفطاره ـ وسألني المقام ـ فجيء له بجراب مختوم ، قلتُ : ما في الجراب؟
قال : سويق شعير.
قلتُ : خفتَ عليه أنْ يُؤخذ أو بخلتَ به؟
قال : لا ولا أحدهما ، ولكن خفتُ أنْ يلته الحسن والحسين بسمن أو زيت.
فقلتُ : محرَّم هو يا أمير المؤمنين؟
فتهال : لا ، ولكن يجب على أئمة الحقِّ أنْ يعتدُوا أنفسهم من ضعفة الناس لئلا يُطغيَ الفقيرَ فقرُهُ.
فقال معاوية : ذكرتَ مَنْ لا يُنكر فضله28.
وتجد في ( ربيع الأبرار ) للزمخشري ونظائره لهذه النادرة نظائر كثيرة29.
هذا كلّه والناس قريبو عهد بالنبي والخلفاء ، وما كانوا عليه من التجافي عن زخارف الدنيا وشهواتها ، ثم انتهى الأمر به إلى أنْ دسَّ السّم إلى الحسن عليهالسلام فقتله30 ، بعد أنْ نقض كلُّ عهد وشرط عاهد الله عليه له31 ، ثم أخذ البيعة لولده يزيد قهراً ، وحاله معلوم عند الأُمَّة يومئذٍ أكثر ممَّا هو معلوم عندنا اليوم.
فَمِنْ هذا وأضعاف أمثاله استمكن البغض له والكراهة في قلوب المسلمين ، وعرفوا أنَّه رجل دنيا لا علاقة له بالدِّين ، وما أصدق ما قال عن نفسه فيما حدَّثنا الزمخشري في ( ربيعه ) قال : قال معاوية : أمَّا أبو بكر فقد سلم من الدنيا وسلمتْ منه ، وأمَّا عمر فقد عالجها وعالجته ، وأمَّا عثمان فقد نال منها ونالت منه ، وأمَّا أنا فقد تضجعتُها ظهراً لبطن ، وانقطعتُ إليها وانقطعتْ إليَّ32.
يتبع..
تعليق