بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت30).
الحديثُ في هذه الآية المباركة عن الموحّدين، الذين قالوا (رَبُّنَا الله)، ولكنّ توحيدهم لم يكن وحده كافياً بل اقترن بأمرٍ آخر (ثُمَّ اسْتَقَامُوا).
فينبغي أن يُستكملَ ويُستتبعَ التوحيدُ بالاستقامةِ، إذْ كَمْ مِنْ مُوَحِّدٍ بالقولِ يخالفُ قولُهُ فِعلَهُ فلا يتولى أولياءَ اللهِ، ولا يتبرأُ مِنْ أعدائِهم، ولا يكون مستقيماً عقيدةً أو قولاً أو فعلاً، فلا يكون مصداقاً للآية.
إنّ للإيمانِ بالله تعالى ثم الإستقامةَ ثمارٌ تَذكُرُ بعضَها الايةُ المباركةُ (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ).
إنّ لنزولِ الملائكةِ أسبابٌ متنوعةٌ، فتارةً تنزل للعذاب وأخرى للتحذير وثالثةً للبشرى وهكذا.
وهؤلاء ممن تتنزل عليهم الملائكة (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا).
الخوفُ والحزنُ صفتان من أشَدِّ الصفاتِ فَتكاً بالإنسان، لكنّ الملائكةَ تتكفلُ بطَمأَنَةِ هؤلاء بالربطِ على قلوبِهم، وتبشِّرهم (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ)، جناتٍ عرضُها السمواتِ والأرض (بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ).
أثَرٌ آخر للاستقامة يُذكرُ في آيةٍ أخرى، لكنّ تلكَ الآية تبينُ أنّ الإستقامةَ إنما تكونُ على طريقةٍ خاصةٍ معهودةٍ، قالَ تعالى في سورةِ الجن: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ﴾(الجن16)، أي: ماءً كثيراً.
لقد تقدَّمَ في البحث الأوّل أنّ فضلَ الإمامِ عليه السلام كفضلِ الماءِ، فكما أنّه بالماءِ يحيى كلُ شيءٍ، كذلك بالامامِ يحيى كلُّ شيء.
فما المرادُ من الماءِ هنا؟
هل هو ما أُريدَ في قولِهم عليهم السلام (الإمامُ السَّحَابُ الماطر) ؟
أم هو الماءُ الذي أنْزَلَهُ اللهُ تعالى من السماءِ ليُنْبِتَ بهَ الأرض ؟
أم هو ماءُ طهارةِ أرواحِ المؤمنين ونُفُوسِهم بالإمام ؟
لقد ورد في تفسير الآية المباركة عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام:
لَوْ اسْتَقَامُوا عَلَى وَلَايَةِ [أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ] عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) مَا ضَلُّوا أَبَداً (تفسير فرات الكوفي ص512).
وورد عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ: إِنِ اسْتَقَمْتُمْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَلَايَتِنَا، أُسْقِيتُمْ مَاءً غَدَقاً وَأَكَلْتُمْ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِكُمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ (الأصول الستة عشر ص352).
وهكذا اجتمعت النعمتان الدنيويةُ والأخروية كثمارٍ للاستقامة، وهي طريق عليٍّ عليه السلام.
ثم قال صلى الله عليه واله: وَإِنْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا اخْتَلَفَتْ كَلِمَتُكُمْ وَشَمِتَ بِكُمْ عَدُوُّكُمْ : أي إن لم تتَّبعوا طريقَ عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
وكذا يقول أبو جعفر عليه السلام في الآية المباركة: لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى وَلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِهِ (ع)، وَقَبِلُوا طَاعَتَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ، (لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) يَقُولُ: لَأَشْرَبْنَا قُلُوبَهُمُ الْإِيمَانَ (الكافي ج1 ص220).
إذاً تَجمعُ هذه الايةُ المعنيان:
1. لَأَشْرَبْنَا قُلُوبَهُمُ الْإِيمَانَ.
2. إنزال الماء من السماء والأكل من فوق الرؤوس ومن تحت الأرجل.
لأنّ الإمام بركةُ الأرض وبه قِوَامها، فإنّ اتّباعه يفتحُ بابَ النِّعَمِ الإلهيةِ ماديةً ومعنويةً.
وتَركُ الإستقامةِ بعدمِ اتّباعِهِ يفتحُ البابَ أمام كلِّ سوءٍ، حيث نفوسٌ مريضةٌ، وحياةٌ بائسةٌ، وحيث يدبُّ في الأمّةِ روحُ الإختلافِ، وروحُ الضعفِ، حتى يتسلطَ عدوّ المسلمين عليهم.
هذا هو حال الأمة.. حيث لم تتبع الصراط المستقيم: وَإِنْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا اخْتَلَفَتْ كَلِمَتُكُمْ وَشَمِتَ بِكُمْ عَدُوُّكُمْ.
الصراط المستقيم هو الولاية
إنّ كل مسلم مُصَلٍّ لله سبحانه وتعالى يطلب من ربه عزّ وجل كل يوم أن يهديه للصراط المستقيم، عشر مرات أو يزيد، وفي هذا يتنافس المتنافسون، فيقولون: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة6-7).
هي أكثر سورةٍ تُتلى من كتاب الله كل يومٍ في مواعيد الصلاة وأوقاتها، لكنّ معظمَ المصلين يغفلُ عن معنى هذا الصراطِ، ويصيرُ القرآنُ عندَهُمْ لقلقة لسان.
ألم يقل النبي صلى الله عليه وآله: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُه (الكافي ج8 ص308).
فماذا بقي من هذه الآيةِ غير رسمها؟! حيث لم يعرف معناها معظم المسلمين ولم يسلكوا صراط الله المستقيم، الذي لا ينفكّ عن اتباع عليّ عليه السلام، فأين معظم المسلمين اليوم من ذلك؟!
لقد روينا عن أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام أنه فسر الآية (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بمعرفة الإمام فقال: الطَّرِيقَ وَمَعْرِفَةَ الْإِمَام.
وعنه في تفسير الصراط المستقيم: هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَمَعْرِفَتُه (تفسير القمي ج1 ص28).
أما المغضوب عليهم ففسرها عليه السلام بـ (النُّصَّابُ)، فمن ينزل عليهم غضب الله هم الذين نصبوا العداوة له عليه السلام، وأمّا الضالّين ففسرها عليه السلام بـ (الشُّكَّاكُ وَالَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الْإِمَام) (تفسير القمي ج1 ص29).
هذان صنفان من الناس سوى الناصبي، فالناصب هو المغضوب عليه، وهذان الصنفان أحدهما يشكّ بالإمام والآخر لا يعرفه، وهما معاً من أهل الضلال، فصار الجاهلُ الذي لم يتّبعْ الإمامِ ولم يسلك الصراط المستقيم قَسيماً للناصبي المغضوب عليه.
ولقد أشار الله تعالى إلى الصراط المستقيم في آية أخرى بقوله عز وجل: (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ)، وقد حدّدته الآية جلياً ب (هذا).. لم تتركه صراطاً غير معروف، وأيُّ صراط أعظم من صراطِ مَن قرنهم الله برسوله (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ).
وأيُّ صراطٍ أعظمُ من الذي قرنَهُ النبيُ بكتابِ الله تعالى؟ حينما صار الكتاب والعترة حبلاً ممدوداً من السماء ؟!
وقد بيّن ذلك الصادق عليه السلام بقوله: نَحْنُ وَاللَّهِ سَبِيلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ، وَنَحْنُ وَاللَّهِ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَنَحْنُ وَاللَّهِ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِمْ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَأْخُذْ هُنَا، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَأْخُذْ مِنْ هُنَاكَ، لَا يَجِدُونَ وَاللَّهِ عَنَّا مَحِيصاً (تفسير القمي ج2 ص67).
لذا قلنا في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام:
وَأَشْهَدُ أَنَّكَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ: (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ضَلَّ واللَّهِ وَأَضَلَّ مَنِ اتَّبَعَ سِوَاكَ، وَعَنَدَ عَنِ الْحَقِّ مَنْ عَادَاكَ.
هدايةُ النبي للصراطِ المستقيمِ إذاً صارَتْ هدايَتُهُ لولايةِ عليّ ابن طالب عليه السلام، لأنّها الطريقُ المستقيمُ التي من سلكها نجا، فكما لا يُكتفى بالتوحيد دون النبوة، لا يُكتفى بالنبوة دون الولاية.
قال الباقر عليه السلام:
وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إِنَّكَ لَتَأْمُرُ بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ (ع) وَتَدْعُو إِلَيْهَا، وَعَلِيٌّ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيم (بصائر الدرجات ج1 ص78).
كل هذا وأضعافُ أضعافه يكشفُ لنا أنّ علياً عليه السلام والأئمةَ المعصومين هم الصراطُ المستقيمُ الذي أوجبَ اللهُ إتباعَهُ، هم الذين يوفِقُ اللهُ المؤمنينَ لمعرِفَتِهمْ فتتَنَوَرَ قلوبُ المؤمنين بذكرهم وذكرِ حديِثِهمْ ومعرفةِ أمرهم.
اذا تبين ذلك، نفتح بابين من محاور الاستقامة والانحراف:
أولها: هل تشمل الاستقامة إثبات الحق بالباطل؟
ثانيها: هل تشمل الاستقامة تثبيت الحق بالباطل؟
المحور الأول: هل تشمل الاستقامة إثبات الحق بالباطل؟
لمّا ثبت أن الإمام هو الصراط المستقيم، وأنّ شيعته على هَديه، حيث روينا عن الإمام الصادق عليه السلام قوله:
إِنَّ النَّاسَ أَخَذُوا يَمِيناً وَشِمَالًا، وَإِنَّا وَشِيعَتَنَا هُدِينَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (الكافي ج2 ص246).
لَزِمَ أن نعرف:
هل توسَّلَ الإمامُ والشيعةُ من بعده طُرُقاً غير سويّة لإثبات حقهم؟ أم أنه أُخِذَ في معنى كونهم (صراطاً مستقيماً) أن يكونَ الطريقُ لإثباتِ الحقِّ مستقيماً أيضاً ليتناسب مع الغاية الحقة؟ فيحصل التناسبُ والتناغمُ بين الغايةِ والأسلوب.
هل يمكن أن نستثمر الكذب والتدليس والتلبيس في إثبات الحق؟
بين أيدينا روايةٌ تنقل واقعةً عظيمةً تُبَيِّنُ منهج الأئمة عليهم السلام في ذلك، فقد روينا أنّ رجلاً من أهل الشام ورد على إمامنا الصادق عليه السلام ليناظر أصحابه، فطلب الإمام من الرواي يونس بن عبد الرحمان أن يخرج فينظر من يرى من المتكلمين الشيعة ليدخله، فهذا الشاميّ يطلب مناظرة الشيعة في حضرة الامام عليه السلام، فأدخل يونس جملةً من المتكلمين كحمران بن أعيَن والاحول وهشام بن سالم وقيس بن الماصر، وما لبث أن ورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطّت لحيته، فَوَسَّعَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) وَقَالَ: نَاصِرُنَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ: وما أعظم هذا المديح والإطراء لهشام ناصر العترة.
ثُمَّ قَالَ: يَا حُمْرَانُ كَلِّمِ الرَّجُلَ، فَكَلَّمَهُ فَظَهَرَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ: أي غلبه.
ثُمَّ قَالَ: يَا طَاقِيُّ كَلِّمْهُ فَكَلَّمَهُ فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْأَحْوَلُ.
ثُمَّ قَالَ: يَا هِشَامَ بْنَ سَالِمٍ كَلِّمْهُ فَتَعَارَفَا: أو تعاركا، أي لم يغلب أحدهما الآخر.
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) لِقَيْسٍ الْمَاصِرِ: كَلِّمْهُ، فَكَلَّمَهُ، فَأَقْبَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَضْحَكُ مِنْ كَلَامِهِمَا مِمَّا قَدْ أَصَابَ الشَّامِيَّ: فقد حار الرجلُ في مناظرته لقيس الماصر، فبعدما غلبه اثنان وتساوى مع الثالث جاء قيس الماصر وأذهلَهُ فضحِكَ الإمام من ذلك.
ثم قال الامام للشامي: كَلِّمْ هَذَا الْغُلَامَ، وعنى به هشام ابن الحكم.
حاجَّ هشامُ ابن الحكم هذا الشامي، وأثبت له لزوم الامامة، وأنّ القرآن وحده لا يرفع غائلةَ الاختلاف دون إمامٍ، ولمّا أراد الشامي معرفة الإمام عليه السلام أحاله هشام على الصادق عليه السلام فأخبره الإمام ببعض المغيبات: كيف كان سفره وكيف كانت طريقه، ومن ثَم أقرّ الشامي بإمامة الامام وانتهت المناظرة معه، واتّبع هذا الرجل الحقَّ بعدما كلمه هشام وأظهر له الامام ما يقطع به عذره .
كل هذا مقدٌّمةٌ لأمرٍ في غاية الأهمية، حيث التفت الإمام عليه السلام الى أصحابه وهم خمسة، غلب أربعةٌ منهم الشامي وتساوى واحد منهم معه، وشَرَعَ الإمام في تقييم أصحابه ومناظرتهم.
تقول الرواية: ثُمَّ الْتَفَتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) إِلَى حُمْرَانَ فَقَالَ: تُجْرِي الْكَلَامَ عَلَى الْأَثَرِ فَتُصِيبُ: أنت يا حمران تحتج بالأثر، ولعله الحديث الشريف، تأتي بأثر بعد أثر، فتتوالى أحاديثك التي ترويها عن المعصوم معدن الحق، فتصيب يا حمران.
فاقرّ الامام فعلَ هذا الصحابي، لأنّ منطقه مصيبٌ مُقتَبَسٌ من حديث الأئمة عليهم السلام، وعدم قبول الشامي للحق حينها يعود لخللٍ عنده.
وَ الْتَفَتَ إِلَى هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ فَقَالَ: تُرِيدُ الْأَثَرَ وَلَا تَعْرِفُهُ :
هشام هذا يريد أن يحتجّ على الشامي بالأحاديث، لكنه لم يكن عالماً بها، فلم يتمكن من إثبات الحق وإن رغب بذلك، فلم يكن أهلاً ليناظر الشامي، لذا لم يتمكن من إثبات الحق أمامه فتعادلا.
مثل هذا كان حرياً به ألا يُنصّب نفسه للكلام والمناظرة.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْأَحْوَلِ فَقَالَ: قَيَّاسٌ رَوَّاغٌ، تَكْسِرُ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ، إِلَّا أَنَّ بَاطِلَكَ أَظْهَرُ:
يريد الأحول أن يثبت الإمامة، والإمامةُ حقٌّ مطلق، لكنه لم يتمكن من اثباتها بالحق، فلجأ الى الأساليب الملتوية، حتى قال له الإمام: أنت تراوغ في حوارك وتقيس أمراً على أمر، والقياس ليس من الدين، بل به يُمحق الدين.
لعله يعتمد الحيلة والمكر فيكون فعله باطلاً، يريدُ أن يكسر باطلَ الشامي المخالف للإمامة، فانتهج طريقاً يتضمن باطلاً، وليس هذا طريق يرضى به الإمام عليه السلام، فقال له: قَيَّاسٌ رَوَّاغٌ، تَكْسِرُ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى قَيْسٍ الْمَاصِرِ فَقَالَ: تَتَكَلَّمُ وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (ص) أَبْعَدُ مَا تَكُونُ مِنْهُ.
لا تكاد تصيب الحّق يا قيس حتى تفسر الحديث تفسيراً لا يطابق المراد منه، لعل هذا هو مراد الامام عليه السلام من قوله، فكلما أردت يا قيس أن تحتجّ بحديثٍ وقربت من مطلوبك أبعدك عنه عدم علمك وإلمامك بقواعد فهم الحديث، أو بمراد النبي (ص)، أو بلحن قولهم عليهم السلام .
يكمل الامام عليه السلام: تَمْزُجُ الْحَقَّ مَعَ الْبَاطِلِ، وَقَلِيلُ الْحَقِّ يَكْفِي عَنْ كَثِيرِ الْبَاطِلِ، أَنْتَ وَالْأَحْوَلُ قَفَّازَانِ حَاذِقَانِ.
لقد مزج قيس الحق بالباطل، وهذا قد نفعه في غَلَبَةِ الشامي، لكنّه ليس منهج أهل الصراط المستقيم، لأن منهجهم الذهبي عبرّ عنه الامام عليه السلام بالعبارة المتقدمة: وَقَلِيلُ الْحَقِّ يَكْفِي عَنْ كَثِيرِ الْبَاطِلِ.
ثم قال عليه السلام:
يَا هِشَامُ، لَا تَكَادُ تَقَعُ تَلْوِي رِجْلَيْكَ، إِذَا هَمَمْتَ بِالْأَرْضِ طِرْتَ، مِثْلُكَ فَلْيُكَلِّمِ النَّاسَ، فَاتَّقِ الزَّلَّةَ، وَالشَّفَاعَةُ مِنْ وَرَائِهَا إِنْ شَاءَ اللَّه (الكافي ج1 ص173).
هذا هو المؤهّل ليكلّم الناس، الذي يكون موفقاً للتخلص من الإشكالات بالحق، وإذا ما همّ بالوقوع طار، فليس كلُّ أحدٍ يقدر أن ينقل رسالة المعصومين، ويساهم في تشييد أركانها، فإنّ لذلك أهلاً وشروطاً، منها أن يتعلم علومهم الحقة ويقتصر عليها دون أن يمزجها بالباطل قليلاً كان أو كثيراً، فإنّ قليل الحق يغني عن كثير الباطل.
ثم ينبغي بعد ذلك أن يتقي الزلّة، وينتظر الشفاعة من وراء ذلك.
ما أصعب هذا المنهج، منهج الإستقامة المطلقة، حيث تكون الغاية نبيلةً وساميةً، ويكون طريق إثباتها حقاً منزهاً عن أدران الباطل، فليس للشيعي العاجز عن إثبات الحق بالحق أن يسعى لإثبات الحق بالباطل، وبالمراوغة والقياس.
فليصمت العاجز، وليترك الباب مفتوحاً أمام الآخرين الذين يقدرون على ذلك.
إنّ الهدف النبيل دائماً ما يحتاج طريقاً مستقيماً، فقليل الحق يغني عن كثير الباطل.
المحور الثاني: هل تشمل الاستقامة تثبيت الحق بالباطل؟
هو سؤالٌ قريبٌ من السؤال السابق، لكن الأول ناظرٌ إلى إثبات الحق، والاستدلال عليه.. وهذا ناظرٌ إلى ما سواه، من طرقٍ يتم فيها تشييد أركان الحق وتقوية سلطانه.
فذاك بحث عقائديٌّ، وهذا بحثٌ سلوكيٌّ، وإن كانا من وادٍ واحد.
فهل لنا أن نستثمر الطرق الملتوية لإحقاق الحق؟
الغاية تبرر الوسيلة
هاهنا قاعدة معاصرةٌ شهيرةٌ استفيدت من كتابٍ للمفكر والفيلسوف والسياسي الإيطالي الشهير (نيكولو ميكافيلي) الذي عاش قبل خمسة قرون، وصارت هذه القاعدة أشهر من صاحبها، وعُرِفَت بـ (المبدأ النفعي الميكافيلي) وتلخصها العبارة الأكثر شهرة: (الغاية تبرر الوسيلة).
وهي ترجع في حقيقتها إلى رأيٍ يقول أنّه ينبغي النظر في الأمور لغاياتها وليس لوسائلها، ينبغي أن ننظر الى الهدف وليس الى الوسيلة، فما ان كانت الغاية شريفة حتى ساغ لنا سلوك أي طريق للوصول الى تلك الغاية الشريفة.
وإن كان مكيافيلي صاحب هذه العبارة والمعنى أراد منها ما يخص مصلحة الدولة، إلا أنها صارت قاعدة شهيرةً دخلت عالم الاقتصاد والدين والاجتماع كما دخلت عالم السياسة وغيره.
وقد تنبّه بعض المعاصرين الباحثين في الشأن الإسلامي إلى أن هذه القاعدة وان اشتهرت عن ميكافيلي إلا أنها قاعدة معاوية ابن أبي سفيان، وأنّ معاوية هو الذي أسسها وشيّد أركانها.
فهل كان معاوية فعلاً هو مؤسسها؟ هل كان يريد الحق فعلاً ولكنّه سلك طرقاً باطلة لإحقاقه؟
وهل هذا هو حال الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة ؟ أنها تريد الحق لكنها تتبع طرقاً ملتوية لتحقيقه.
وإن شئنا طرحنا السؤال بصيغة أخرى:
هل يكفي أن يكون الهدف شريفاً؟ أم لابد من أن يكون الصراط مستقيماً أيضاً؟
هل الغاية تبرر الوسيلة؟ فيكفي أن تكون ساميةً كحفظ الدين، فلا نحتاج معها إلى سلوك الطريق المستقيم وسيلةً ؟
هل لنا حينها أن نتوسل كلَّ سُبُلِ الحفاظ على الهدف النبيل حتى لو كانت طرقه ذات اليمين وذات الشمال ؟!
هل ما انتهجته بعض التيارات الاسلامية السياسة سنيَّةً كانت أم شيعية هو منهج عليٍّ عليه السلام ؟ أم منهج معاوية ؟ أم منهجٌ مفارق لهما ؟
إبليس: لأقعدن لهم صراطك المستقيم
إن في كتاب الله آيةً تقشعر لها الأبدان، ينقل فيها الله تعالى كلمات إبليس اللعين حيث يقول: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ﴾.
أين المفر من إبليس؟ ينتظرنا ليحرفنا عن الصراط المستقيم، ويأتينا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا !
وإذا كان الصراط المستقيم هو عليّ والأئمة عليهم السلام من وُلدِه، فلا عجب أن يفسر الامام الصادق الآية بقوله عن الصراط (هو عليّ ع).
لكنّ أمراً في غاية الأهمية ينبّه إليه إمامنا الباقر عليه السلام حين يقول عن الآية: يَا زُرَارَةُ إِنَّمَا صَمَدَ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ، فَأَمَّا الْآخَرِينَ فَقَدْ فَرَغَ مِنْهُمْ (المحاسن ج1 ص171).
ابليس صمد للشيعة، لأنّ أمرَ الآخرين قد انتهى، فصاروا مصداق قوله تعالى: (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)، فقد فرغ منهم حين انحازوا عن الصراط المستقيم وتجنّبوه وسلكوا طريقاً آخر، وتفرَّقَت بهم الأسباب لمّا حادوا عن سبيل الله وصراطه.
واذا كان إبليس قد فرغ من الآخرين، فهل يكون هؤلاء الآخرون مصداقَاً لمن يريد إثبات الحق متوسلاً بالسبل الخاطئة ؟
أم أنهم مصداقٌ لقوله عليه السلام: لَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَه؟
ولقوله تعالى: (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ)
لقد قال بعض الباحثين المعاصرين: لم يكن الخليفة علي بن أبي طالب وشيعته بدهاء ومكر جبهة معاوية بن أبي سفيان، ومن يضم في مقدمة قادته ودهاته كعمرو بن العاص، لذا خسر عليٌّ التحكيم (انتهى).
ولأمير المؤمنين عليه السلام كلمةٌ خالدةٌ تكذِّبُ هذه المقولة، حين قال عليه السلام: وَاللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَلَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ !
يرى هذا الباحث أن معاوية كان أقدر على الدّهاء من عليٍّ عليه السلام، لكنّ الأمر ليس كذلك، حيث أنّ دهاء معاوية قائمٌ على الغدر والفجور والمكر، والإمام يقول في نهجه: لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ولأنّ علياً عليه السلام يعتقد أن: الْغَالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوب، فإنّه يرى أنّ الغلبة ليست بالنصر الظاهريّ وحده، بل لا بدّ من أن تتمّ شروط هذا النصر، وأحد أهم أركانه أن تكون الغلبة بالحق لا بالباطل، وإلا كان الغالب مغلوباً، وهو يحسب نفسه غالباً.
عليٌّ عليه السلام هو صاحب الحق المطلق، لكنه لم يتوسل الغدر والفجور للحصول على حقه، لأنّه يرى أن الغاية الشريفة تستدعي مقدمة وأسلوباً وطريقاً شريفاً، مقابلَ فئة تنشد غاية شريفة بأسلوبٍ باطل، وأخرى تروم غاية باطلة بطريق باطل.
على أن الأمر لم يبدأ من معاوية كما توهم المتوهمون، ولم يكن فعل معاوية من باب الغاية الشريفة التي تبرر الوسيلة.
فهو وأصحابه من أهل الطريق الثالث، الذين يطلبون الباطل بالباطل.
ثم لم يسنّ هو بنفسه هذا النهج ولا خطّه، فقد سبقه إليه إبليس، لمّا أخرج آدم من الجنة، ثم جرت في أبناء آدم، واستمرت المسيرة.
كانت أهداف أكثر الأمم إبطال كلمة الحق، واستعمل الناس لأجل ذلك كل وسيلة، فلم يكن مراد غالب الناس الحق يوماً، لا مع نوح ولا مع ابراهيم ولا مع موسى ولا مع أنبياء بني اسرائيل المقتولين عليهم السلام، ولا حتى مع عيسى (ع)، ومحاولتهم صلبه وتحريفهم لدينه، ولا حتى مع رسول الله صلى الله عليه واله، منذ أن اجتمع أصحاب الصحيفة الملعونة واتفقوا على أن يزووا الخلافة عن أهله، ولا حين الهجوم على الدار وغصب الخلافة وفدك.
كلا لم يكن هؤلاء القوم من أهل الجهل، كانوا يعرفون ما يفعلون، حتى قال علي عليه السلام كلمته الشهيرة: أمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابن أبي قحافة وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى.
انه يعلم ذلك، بل لا يجهل ذلك الأوّلون جميعاً، فإنهم أصحاب الصحيفة والسقيفة ! إنهم أوّل من دفع الأئمة عن مقامهم وأزالهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها، ثم ظلموا العترة وقتلوا الحسنين عليهما السلام.
فمن يشتبه عليه الأمر في سيد شباب اهل الجنة !!
قاتلوه واستحلوا دمه بغضاً منهم لأبيه عليه السلام.
عِلِمَ القوم ما هم مقدمون عليه، ألا لعنة الله على الظالمين.
اشترك الثلاثة ومِن بعدهم معاوية ويزيد ومَن تَبِعَهم في أنهم يطلبون الباطل بالباطل، فليس الهدف سامياً إذاً، ولا المقاصد نبيلة، لذا أخطأ من ذهب إلى أن قاعدة هؤلاء تعتمد على مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة).
فليس هؤلاء كذلك، بل هم أسوأ من أصحاب هذه القاعدة، ومن تبعهم من تيارات تسمّت بالإسلام، فليس لهؤلاء من غاية شريفة.
إنّهم مصداق من يريد إثبات الباطل بالباطل، ولئن كان اسم معاوية مقروناً بهذه القاعدة لما تميز به من غدر ومكر وخداع كما في واقعة المصاحف وقضية التحكيم، فإن معاوية الحاسد لآل محمد عليهم السلام بنصّ كلام أمير المؤمنين عليهم السلام يعلم الباطل، لقد طلب الباطل فأصابه.
حاله حال ثالث أنواع القضاة الأربعة، كما يقول الإمام الصادق:
الْقُضَاةُ أَرْبَعَةٌ:
قَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ فَهُوَ فِي النَّارِ.
وَقَاضٍ قَضَى بِالْبَاطِلِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَهُوَ فِي النَّارِ.
وَقَاضٍ قَضَى بِالْبَاطِلِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَهُوَ فِي النَّارِ.
وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ (الخصال ج1 ص247).
هؤلاء القوم جميعاً مصداق لثالث القضاة، قضوا بالباطل وهم يعلمون أنه باطل، وتوسلوا طرقاً باطلة لإثبات الباطل.. وهم أسوأ من على هذه الأرض..
ولمّا كانوا كذلك كان لعليّ عليه السلام كلمة عظيمة يوجهها لمعاوية يقول: وَلَعَمْرِي يَا مُعَاوِيَةُ لَوْ تَرَحَّمْتُ عَلَيْكَ وَعَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، مَا كَانَ تَرَحُّمِي عَلَيْكُمْ وَاسْتِغْفَارِي لَكُمْ لِيُحِقَّ بَاطِلًا (كتاب سليم ج2 ص770)
فلا يمكن لترحم أمير المؤمنين على هؤلاء أن ينقلهم من جانب الباطل إلى جانب الحق، فالباطل لا يصير حقاً !
معاوية هذا يشترك مع من وطّأ له ظلمَ آل محمد وحمله على رقابهم، كما يشتركون معه في صفاته، تلك الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين في كتاب له (ع) إلى زياد ابن أبيه وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه فقال عليه السلام:
وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَيْكَ يَسْتَزِلُّ لُبَّكَ، وَيَسْتَفِلُّ غَرْبَكَ، فَاحْذَرْهُ فَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ، يَأْتِي الْمَرْءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ (نهج البلاغة ص416).
معاوية كالشيطان، قعدا ونظائرهما صراط الله المستقيم، يأتون المؤمن من الجهات الأربع، وههنا يُمتَحَنُ الإنسان في أيامنا، هل يريد الحق ويسلك صراطاً مستقيماً للوصول إليه قولاً وفعلاً ؟
أم يريد الحق فيسلك سبلاً باطلةً في إثباته؟! فلعله يكون كالخوارج.
أم يريد الباطل فيتلمّس كل باطل لتشييد أركانه ؟
ههنا يمتحن الأفراد، وتُمتَحَن الدول والأنظمة المعاصرة، والأحزاب والقوى، والتيارات المختلفة، حتى تلك التي ترفع لواء الاسلام ورايته.
أما السبيل الأوّل فلن يتحقق بأبهى صوره إلا على يد المهدي عليه السلام.
وأما السبيلان الآخران، فيتنافس عليهما أهل الدنيا ومن تلبّس بالدين منهم.
نعوذ بالله من مضلات الفتن، ونسأل تعالى أن يثبتنا على الصراط المستقيم قولاً وفعلاً، أسلوبا وهدفاً، صراط عليّ وبنيه.
والحمد لله رب العالمين.
شعيب العاملي
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت30).
الحديثُ في هذه الآية المباركة عن الموحّدين، الذين قالوا (رَبُّنَا الله)، ولكنّ توحيدهم لم يكن وحده كافياً بل اقترن بأمرٍ آخر (ثُمَّ اسْتَقَامُوا).
فينبغي أن يُستكملَ ويُستتبعَ التوحيدُ بالاستقامةِ، إذْ كَمْ مِنْ مُوَحِّدٍ بالقولِ يخالفُ قولُهُ فِعلَهُ فلا يتولى أولياءَ اللهِ، ولا يتبرأُ مِنْ أعدائِهم، ولا يكون مستقيماً عقيدةً أو قولاً أو فعلاً، فلا يكون مصداقاً للآية.
إنّ للإيمانِ بالله تعالى ثم الإستقامةَ ثمارٌ تَذكُرُ بعضَها الايةُ المباركةُ (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ).
إنّ لنزولِ الملائكةِ أسبابٌ متنوعةٌ، فتارةً تنزل للعذاب وأخرى للتحذير وثالثةً للبشرى وهكذا.
وهؤلاء ممن تتنزل عليهم الملائكة (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا).
الخوفُ والحزنُ صفتان من أشَدِّ الصفاتِ فَتكاً بالإنسان، لكنّ الملائكةَ تتكفلُ بطَمأَنَةِ هؤلاء بالربطِ على قلوبِهم، وتبشِّرهم (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ)، جناتٍ عرضُها السمواتِ والأرض (بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ).
أثَرٌ آخر للاستقامة يُذكرُ في آيةٍ أخرى، لكنّ تلكَ الآية تبينُ أنّ الإستقامةَ إنما تكونُ على طريقةٍ خاصةٍ معهودةٍ، قالَ تعالى في سورةِ الجن: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ﴾(الجن16)، أي: ماءً كثيراً.
لقد تقدَّمَ في البحث الأوّل أنّ فضلَ الإمامِ عليه السلام كفضلِ الماءِ، فكما أنّه بالماءِ يحيى كلُ شيءٍ، كذلك بالامامِ يحيى كلُّ شيء.
فما المرادُ من الماءِ هنا؟
هل هو ما أُريدَ في قولِهم عليهم السلام (الإمامُ السَّحَابُ الماطر) ؟
أم هو الماءُ الذي أنْزَلَهُ اللهُ تعالى من السماءِ ليُنْبِتَ بهَ الأرض ؟
أم هو ماءُ طهارةِ أرواحِ المؤمنين ونُفُوسِهم بالإمام ؟
لقد ورد في تفسير الآية المباركة عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام:
لَوْ اسْتَقَامُوا عَلَى وَلَايَةِ [أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ] عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) مَا ضَلُّوا أَبَداً (تفسير فرات الكوفي ص512).
وورد عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ: إِنِ اسْتَقَمْتُمْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَلَايَتِنَا، أُسْقِيتُمْ مَاءً غَدَقاً وَأَكَلْتُمْ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِكُمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ (الأصول الستة عشر ص352).
وهكذا اجتمعت النعمتان الدنيويةُ والأخروية كثمارٍ للاستقامة، وهي طريق عليٍّ عليه السلام.
ثم قال صلى الله عليه واله: وَإِنْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا اخْتَلَفَتْ كَلِمَتُكُمْ وَشَمِتَ بِكُمْ عَدُوُّكُمْ : أي إن لم تتَّبعوا طريقَ عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
وكذا يقول أبو جعفر عليه السلام في الآية المباركة: لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى وَلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِهِ (ع)، وَقَبِلُوا طَاعَتَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ، (لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) يَقُولُ: لَأَشْرَبْنَا قُلُوبَهُمُ الْإِيمَانَ (الكافي ج1 ص220).
إذاً تَجمعُ هذه الايةُ المعنيان:
1. لَأَشْرَبْنَا قُلُوبَهُمُ الْإِيمَانَ.
2. إنزال الماء من السماء والأكل من فوق الرؤوس ومن تحت الأرجل.
لأنّ الإمام بركةُ الأرض وبه قِوَامها، فإنّ اتّباعه يفتحُ بابَ النِّعَمِ الإلهيةِ ماديةً ومعنويةً.
وتَركُ الإستقامةِ بعدمِ اتّباعِهِ يفتحُ البابَ أمام كلِّ سوءٍ، حيث نفوسٌ مريضةٌ، وحياةٌ بائسةٌ، وحيث يدبُّ في الأمّةِ روحُ الإختلافِ، وروحُ الضعفِ، حتى يتسلطَ عدوّ المسلمين عليهم.
هذا هو حال الأمة.. حيث لم تتبع الصراط المستقيم: وَإِنْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا اخْتَلَفَتْ كَلِمَتُكُمْ وَشَمِتَ بِكُمْ عَدُوُّكُمْ.
الصراط المستقيم هو الولاية
إنّ كل مسلم مُصَلٍّ لله سبحانه وتعالى يطلب من ربه عزّ وجل كل يوم أن يهديه للصراط المستقيم، عشر مرات أو يزيد، وفي هذا يتنافس المتنافسون، فيقولون: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة6-7).
هي أكثر سورةٍ تُتلى من كتاب الله كل يومٍ في مواعيد الصلاة وأوقاتها، لكنّ معظمَ المصلين يغفلُ عن معنى هذا الصراطِ، ويصيرُ القرآنُ عندَهُمْ لقلقة لسان.
ألم يقل النبي صلى الله عليه وآله: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُه (الكافي ج8 ص308).
فماذا بقي من هذه الآيةِ غير رسمها؟! حيث لم يعرف معناها معظم المسلمين ولم يسلكوا صراط الله المستقيم، الذي لا ينفكّ عن اتباع عليّ عليه السلام، فأين معظم المسلمين اليوم من ذلك؟!
لقد روينا عن أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام أنه فسر الآية (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بمعرفة الإمام فقال: الطَّرِيقَ وَمَعْرِفَةَ الْإِمَام.
وعنه في تفسير الصراط المستقيم: هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَمَعْرِفَتُه (تفسير القمي ج1 ص28).
أما المغضوب عليهم ففسرها عليه السلام بـ (النُّصَّابُ)، فمن ينزل عليهم غضب الله هم الذين نصبوا العداوة له عليه السلام، وأمّا الضالّين ففسرها عليه السلام بـ (الشُّكَّاكُ وَالَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الْإِمَام) (تفسير القمي ج1 ص29).
هذان صنفان من الناس سوى الناصبي، فالناصب هو المغضوب عليه، وهذان الصنفان أحدهما يشكّ بالإمام والآخر لا يعرفه، وهما معاً من أهل الضلال، فصار الجاهلُ الذي لم يتّبعْ الإمامِ ولم يسلك الصراط المستقيم قَسيماً للناصبي المغضوب عليه.
ولقد أشار الله تعالى إلى الصراط المستقيم في آية أخرى بقوله عز وجل: (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ)، وقد حدّدته الآية جلياً ب (هذا).. لم تتركه صراطاً غير معروف، وأيُّ صراط أعظم من صراطِ مَن قرنهم الله برسوله (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ).
وأيُّ صراطٍ أعظمُ من الذي قرنَهُ النبيُ بكتابِ الله تعالى؟ حينما صار الكتاب والعترة حبلاً ممدوداً من السماء ؟!
وقد بيّن ذلك الصادق عليه السلام بقوله: نَحْنُ وَاللَّهِ سَبِيلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ، وَنَحْنُ وَاللَّهِ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَنَحْنُ وَاللَّهِ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِمْ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَأْخُذْ هُنَا، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَأْخُذْ مِنْ هُنَاكَ، لَا يَجِدُونَ وَاللَّهِ عَنَّا مَحِيصاً (تفسير القمي ج2 ص67).
لذا قلنا في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام:
وَأَشْهَدُ أَنَّكَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ: (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ضَلَّ واللَّهِ وَأَضَلَّ مَنِ اتَّبَعَ سِوَاكَ، وَعَنَدَ عَنِ الْحَقِّ مَنْ عَادَاكَ.
هدايةُ النبي للصراطِ المستقيمِ إذاً صارَتْ هدايَتُهُ لولايةِ عليّ ابن طالب عليه السلام، لأنّها الطريقُ المستقيمُ التي من سلكها نجا، فكما لا يُكتفى بالتوحيد دون النبوة، لا يُكتفى بالنبوة دون الولاية.
قال الباقر عليه السلام:
وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إِنَّكَ لَتَأْمُرُ بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ (ع) وَتَدْعُو إِلَيْهَا، وَعَلِيٌّ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيم (بصائر الدرجات ج1 ص78).
كل هذا وأضعافُ أضعافه يكشفُ لنا أنّ علياً عليه السلام والأئمةَ المعصومين هم الصراطُ المستقيمُ الذي أوجبَ اللهُ إتباعَهُ، هم الذين يوفِقُ اللهُ المؤمنينَ لمعرِفَتِهمْ فتتَنَوَرَ قلوبُ المؤمنين بذكرهم وذكرِ حديِثِهمْ ومعرفةِ أمرهم.
اذا تبين ذلك، نفتح بابين من محاور الاستقامة والانحراف:
أولها: هل تشمل الاستقامة إثبات الحق بالباطل؟
ثانيها: هل تشمل الاستقامة تثبيت الحق بالباطل؟
المحور الأول: هل تشمل الاستقامة إثبات الحق بالباطل؟
لمّا ثبت أن الإمام هو الصراط المستقيم، وأنّ شيعته على هَديه، حيث روينا عن الإمام الصادق عليه السلام قوله:
إِنَّ النَّاسَ أَخَذُوا يَمِيناً وَشِمَالًا، وَإِنَّا وَشِيعَتَنَا هُدِينَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (الكافي ج2 ص246).
لَزِمَ أن نعرف:
هل توسَّلَ الإمامُ والشيعةُ من بعده طُرُقاً غير سويّة لإثبات حقهم؟ أم أنه أُخِذَ في معنى كونهم (صراطاً مستقيماً) أن يكونَ الطريقُ لإثباتِ الحقِّ مستقيماً أيضاً ليتناسب مع الغاية الحقة؟ فيحصل التناسبُ والتناغمُ بين الغايةِ والأسلوب.
هل يمكن أن نستثمر الكذب والتدليس والتلبيس في إثبات الحق؟
بين أيدينا روايةٌ تنقل واقعةً عظيمةً تُبَيِّنُ منهج الأئمة عليهم السلام في ذلك، فقد روينا أنّ رجلاً من أهل الشام ورد على إمامنا الصادق عليه السلام ليناظر أصحابه، فطلب الإمام من الرواي يونس بن عبد الرحمان أن يخرج فينظر من يرى من المتكلمين الشيعة ليدخله، فهذا الشاميّ يطلب مناظرة الشيعة في حضرة الامام عليه السلام، فأدخل يونس جملةً من المتكلمين كحمران بن أعيَن والاحول وهشام بن سالم وقيس بن الماصر، وما لبث أن ورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطّت لحيته، فَوَسَّعَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) وَقَالَ: نَاصِرُنَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ: وما أعظم هذا المديح والإطراء لهشام ناصر العترة.
ثُمَّ قَالَ: يَا حُمْرَانُ كَلِّمِ الرَّجُلَ، فَكَلَّمَهُ فَظَهَرَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ: أي غلبه.
ثُمَّ قَالَ: يَا طَاقِيُّ كَلِّمْهُ فَكَلَّمَهُ فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْأَحْوَلُ.
ثُمَّ قَالَ: يَا هِشَامَ بْنَ سَالِمٍ كَلِّمْهُ فَتَعَارَفَا: أو تعاركا، أي لم يغلب أحدهما الآخر.
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) لِقَيْسٍ الْمَاصِرِ: كَلِّمْهُ، فَكَلَّمَهُ، فَأَقْبَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَضْحَكُ مِنْ كَلَامِهِمَا مِمَّا قَدْ أَصَابَ الشَّامِيَّ: فقد حار الرجلُ في مناظرته لقيس الماصر، فبعدما غلبه اثنان وتساوى مع الثالث جاء قيس الماصر وأذهلَهُ فضحِكَ الإمام من ذلك.
ثم قال الامام للشامي: كَلِّمْ هَذَا الْغُلَامَ، وعنى به هشام ابن الحكم.
حاجَّ هشامُ ابن الحكم هذا الشامي، وأثبت له لزوم الامامة، وأنّ القرآن وحده لا يرفع غائلةَ الاختلاف دون إمامٍ، ولمّا أراد الشامي معرفة الإمام عليه السلام أحاله هشام على الصادق عليه السلام فأخبره الإمام ببعض المغيبات: كيف كان سفره وكيف كانت طريقه، ومن ثَم أقرّ الشامي بإمامة الامام وانتهت المناظرة معه، واتّبع هذا الرجل الحقَّ بعدما كلمه هشام وأظهر له الامام ما يقطع به عذره .
كل هذا مقدٌّمةٌ لأمرٍ في غاية الأهمية، حيث التفت الإمام عليه السلام الى أصحابه وهم خمسة، غلب أربعةٌ منهم الشامي وتساوى واحد منهم معه، وشَرَعَ الإمام في تقييم أصحابه ومناظرتهم.
تقول الرواية: ثُمَّ الْتَفَتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) إِلَى حُمْرَانَ فَقَالَ: تُجْرِي الْكَلَامَ عَلَى الْأَثَرِ فَتُصِيبُ: أنت يا حمران تحتج بالأثر، ولعله الحديث الشريف، تأتي بأثر بعد أثر، فتتوالى أحاديثك التي ترويها عن المعصوم معدن الحق، فتصيب يا حمران.
فاقرّ الامام فعلَ هذا الصحابي، لأنّ منطقه مصيبٌ مُقتَبَسٌ من حديث الأئمة عليهم السلام، وعدم قبول الشامي للحق حينها يعود لخللٍ عنده.
وَ الْتَفَتَ إِلَى هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ فَقَالَ: تُرِيدُ الْأَثَرَ وَلَا تَعْرِفُهُ :
هشام هذا يريد أن يحتجّ على الشامي بالأحاديث، لكنه لم يكن عالماً بها، فلم يتمكن من إثبات الحق وإن رغب بذلك، فلم يكن أهلاً ليناظر الشامي، لذا لم يتمكن من إثبات الحق أمامه فتعادلا.
مثل هذا كان حرياً به ألا يُنصّب نفسه للكلام والمناظرة.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْأَحْوَلِ فَقَالَ: قَيَّاسٌ رَوَّاغٌ، تَكْسِرُ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ، إِلَّا أَنَّ بَاطِلَكَ أَظْهَرُ:
يريد الأحول أن يثبت الإمامة، والإمامةُ حقٌّ مطلق، لكنه لم يتمكن من اثباتها بالحق، فلجأ الى الأساليب الملتوية، حتى قال له الإمام: أنت تراوغ في حوارك وتقيس أمراً على أمر، والقياس ليس من الدين، بل به يُمحق الدين.
لعله يعتمد الحيلة والمكر فيكون فعله باطلاً، يريدُ أن يكسر باطلَ الشامي المخالف للإمامة، فانتهج طريقاً يتضمن باطلاً، وليس هذا طريق يرضى به الإمام عليه السلام، فقال له: قَيَّاسٌ رَوَّاغٌ، تَكْسِرُ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى قَيْسٍ الْمَاصِرِ فَقَالَ: تَتَكَلَّمُ وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (ص) أَبْعَدُ مَا تَكُونُ مِنْهُ.
لا تكاد تصيب الحّق يا قيس حتى تفسر الحديث تفسيراً لا يطابق المراد منه، لعل هذا هو مراد الامام عليه السلام من قوله، فكلما أردت يا قيس أن تحتجّ بحديثٍ وقربت من مطلوبك أبعدك عنه عدم علمك وإلمامك بقواعد فهم الحديث، أو بمراد النبي (ص)، أو بلحن قولهم عليهم السلام .
يكمل الامام عليه السلام: تَمْزُجُ الْحَقَّ مَعَ الْبَاطِلِ، وَقَلِيلُ الْحَقِّ يَكْفِي عَنْ كَثِيرِ الْبَاطِلِ، أَنْتَ وَالْأَحْوَلُ قَفَّازَانِ حَاذِقَانِ.
لقد مزج قيس الحق بالباطل، وهذا قد نفعه في غَلَبَةِ الشامي، لكنّه ليس منهج أهل الصراط المستقيم، لأن منهجهم الذهبي عبرّ عنه الامام عليه السلام بالعبارة المتقدمة: وَقَلِيلُ الْحَقِّ يَكْفِي عَنْ كَثِيرِ الْبَاطِلِ.
ثم قال عليه السلام:
يَا هِشَامُ، لَا تَكَادُ تَقَعُ تَلْوِي رِجْلَيْكَ، إِذَا هَمَمْتَ بِالْأَرْضِ طِرْتَ، مِثْلُكَ فَلْيُكَلِّمِ النَّاسَ، فَاتَّقِ الزَّلَّةَ، وَالشَّفَاعَةُ مِنْ وَرَائِهَا إِنْ شَاءَ اللَّه (الكافي ج1 ص173).
هذا هو المؤهّل ليكلّم الناس، الذي يكون موفقاً للتخلص من الإشكالات بالحق، وإذا ما همّ بالوقوع طار، فليس كلُّ أحدٍ يقدر أن ينقل رسالة المعصومين، ويساهم في تشييد أركانها، فإنّ لذلك أهلاً وشروطاً، منها أن يتعلم علومهم الحقة ويقتصر عليها دون أن يمزجها بالباطل قليلاً كان أو كثيراً، فإنّ قليل الحق يغني عن كثير الباطل.
ثم ينبغي بعد ذلك أن يتقي الزلّة، وينتظر الشفاعة من وراء ذلك.
ما أصعب هذا المنهج، منهج الإستقامة المطلقة، حيث تكون الغاية نبيلةً وساميةً، ويكون طريق إثباتها حقاً منزهاً عن أدران الباطل، فليس للشيعي العاجز عن إثبات الحق بالحق أن يسعى لإثبات الحق بالباطل، وبالمراوغة والقياس.
فليصمت العاجز، وليترك الباب مفتوحاً أمام الآخرين الذين يقدرون على ذلك.
إنّ الهدف النبيل دائماً ما يحتاج طريقاً مستقيماً، فقليل الحق يغني عن كثير الباطل.
المحور الثاني: هل تشمل الاستقامة تثبيت الحق بالباطل؟
هو سؤالٌ قريبٌ من السؤال السابق، لكن الأول ناظرٌ إلى إثبات الحق، والاستدلال عليه.. وهذا ناظرٌ إلى ما سواه، من طرقٍ يتم فيها تشييد أركان الحق وتقوية سلطانه.
فذاك بحث عقائديٌّ، وهذا بحثٌ سلوكيٌّ، وإن كانا من وادٍ واحد.
فهل لنا أن نستثمر الطرق الملتوية لإحقاق الحق؟
الغاية تبرر الوسيلة
هاهنا قاعدة معاصرةٌ شهيرةٌ استفيدت من كتابٍ للمفكر والفيلسوف والسياسي الإيطالي الشهير (نيكولو ميكافيلي) الذي عاش قبل خمسة قرون، وصارت هذه القاعدة أشهر من صاحبها، وعُرِفَت بـ (المبدأ النفعي الميكافيلي) وتلخصها العبارة الأكثر شهرة: (الغاية تبرر الوسيلة).
وهي ترجع في حقيقتها إلى رأيٍ يقول أنّه ينبغي النظر في الأمور لغاياتها وليس لوسائلها، ينبغي أن ننظر الى الهدف وليس الى الوسيلة، فما ان كانت الغاية شريفة حتى ساغ لنا سلوك أي طريق للوصول الى تلك الغاية الشريفة.
وإن كان مكيافيلي صاحب هذه العبارة والمعنى أراد منها ما يخص مصلحة الدولة، إلا أنها صارت قاعدة شهيرةً دخلت عالم الاقتصاد والدين والاجتماع كما دخلت عالم السياسة وغيره.
وقد تنبّه بعض المعاصرين الباحثين في الشأن الإسلامي إلى أن هذه القاعدة وان اشتهرت عن ميكافيلي إلا أنها قاعدة معاوية ابن أبي سفيان، وأنّ معاوية هو الذي أسسها وشيّد أركانها.
فهل كان معاوية فعلاً هو مؤسسها؟ هل كان يريد الحق فعلاً ولكنّه سلك طرقاً باطلة لإحقاقه؟
وهل هذا هو حال الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة ؟ أنها تريد الحق لكنها تتبع طرقاً ملتوية لتحقيقه.
وإن شئنا طرحنا السؤال بصيغة أخرى:
هل يكفي أن يكون الهدف شريفاً؟ أم لابد من أن يكون الصراط مستقيماً أيضاً؟
هل الغاية تبرر الوسيلة؟ فيكفي أن تكون ساميةً كحفظ الدين، فلا نحتاج معها إلى سلوك الطريق المستقيم وسيلةً ؟
هل لنا حينها أن نتوسل كلَّ سُبُلِ الحفاظ على الهدف النبيل حتى لو كانت طرقه ذات اليمين وذات الشمال ؟!
هل ما انتهجته بعض التيارات الاسلامية السياسة سنيَّةً كانت أم شيعية هو منهج عليٍّ عليه السلام ؟ أم منهج معاوية ؟ أم منهجٌ مفارق لهما ؟
إبليس: لأقعدن لهم صراطك المستقيم
إن في كتاب الله آيةً تقشعر لها الأبدان، ينقل فيها الله تعالى كلمات إبليس اللعين حيث يقول: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ﴾.
أين المفر من إبليس؟ ينتظرنا ليحرفنا عن الصراط المستقيم، ويأتينا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا !
وإذا كان الصراط المستقيم هو عليّ والأئمة عليهم السلام من وُلدِه، فلا عجب أن يفسر الامام الصادق الآية بقوله عن الصراط (هو عليّ ع).
لكنّ أمراً في غاية الأهمية ينبّه إليه إمامنا الباقر عليه السلام حين يقول عن الآية: يَا زُرَارَةُ إِنَّمَا صَمَدَ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ، فَأَمَّا الْآخَرِينَ فَقَدْ فَرَغَ مِنْهُمْ (المحاسن ج1 ص171).
ابليس صمد للشيعة، لأنّ أمرَ الآخرين قد انتهى، فصاروا مصداق قوله تعالى: (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)، فقد فرغ منهم حين انحازوا عن الصراط المستقيم وتجنّبوه وسلكوا طريقاً آخر، وتفرَّقَت بهم الأسباب لمّا حادوا عن سبيل الله وصراطه.
واذا كان إبليس قد فرغ من الآخرين، فهل يكون هؤلاء الآخرون مصداقَاً لمن يريد إثبات الحق متوسلاً بالسبل الخاطئة ؟
أم أنهم مصداقٌ لقوله عليه السلام: لَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَه؟
ولقوله تعالى: (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ)
لقد قال بعض الباحثين المعاصرين: لم يكن الخليفة علي بن أبي طالب وشيعته بدهاء ومكر جبهة معاوية بن أبي سفيان، ومن يضم في مقدمة قادته ودهاته كعمرو بن العاص، لذا خسر عليٌّ التحكيم (انتهى).
ولأمير المؤمنين عليه السلام كلمةٌ خالدةٌ تكذِّبُ هذه المقولة، حين قال عليه السلام: وَاللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَلَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ !
يرى هذا الباحث أن معاوية كان أقدر على الدّهاء من عليٍّ عليه السلام، لكنّ الأمر ليس كذلك، حيث أنّ دهاء معاوية قائمٌ على الغدر والفجور والمكر، والإمام يقول في نهجه: لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ولأنّ علياً عليه السلام يعتقد أن: الْغَالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوب، فإنّه يرى أنّ الغلبة ليست بالنصر الظاهريّ وحده، بل لا بدّ من أن تتمّ شروط هذا النصر، وأحد أهم أركانه أن تكون الغلبة بالحق لا بالباطل، وإلا كان الغالب مغلوباً، وهو يحسب نفسه غالباً.
عليٌّ عليه السلام هو صاحب الحق المطلق، لكنه لم يتوسل الغدر والفجور للحصول على حقه، لأنّه يرى أن الغاية الشريفة تستدعي مقدمة وأسلوباً وطريقاً شريفاً، مقابلَ فئة تنشد غاية شريفة بأسلوبٍ باطل، وأخرى تروم غاية باطلة بطريق باطل.
على أن الأمر لم يبدأ من معاوية كما توهم المتوهمون، ولم يكن فعل معاوية من باب الغاية الشريفة التي تبرر الوسيلة.
فهو وأصحابه من أهل الطريق الثالث، الذين يطلبون الباطل بالباطل.
ثم لم يسنّ هو بنفسه هذا النهج ولا خطّه، فقد سبقه إليه إبليس، لمّا أخرج آدم من الجنة، ثم جرت في أبناء آدم، واستمرت المسيرة.
كانت أهداف أكثر الأمم إبطال كلمة الحق، واستعمل الناس لأجل ذلك كل وسيلة، فلم يكن مراد غالب الناس الحق يوماً، لا مع نوح ولا مع ابراهيم ولا مع موسى ولا مع أنبياء بني اسرائيل المقتولين عليهم السلام، ولا حتى مع عيسى (ع)، ومحاولتهم صلبه وتحريفهم لدينه، ولا حتى مع رسول الله صلى الله عليه واله، منذ أن اجتمع أصحاب الصحيفة الملعونة واتفقوا على أن يزووا الخلافة عن أهله، ولا حين الهجوم على الدار وغصب الخلافة وفدك.
كلا لم يكن هؤلاء القوم من أهل الجهل، كانوا يعرفون ما يفعلون، حتى قال علي عليه السلام كلمته الشهيرة: أمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابن أبي قحافة وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى.
انه يعلم ذلك، بل لا يجهل ذلك الأوّلون جميعاً، فإنهم أصحاب الصحيفة والسقيفة ! إنهم أوّل من دفع الأئمة عن مقامهم وأزالهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها، ثم ظلموا العترة وقتلوا الحسنين عليهما السلام.
فمن يشتبه عليه الأمر في سيد شباب اهل الجنة !!
قاتلوه واستحلوا دمه بغضاً منهم لأبيه عليه السلام.
عِلِمَ القوم ما هم مقدمون عليه، ألا لعنة الله على الظالمين.
اشترك الثلاثة ومِن بعدهم معاوية ويزيد ومَن تَبِعَهم في أنهم يطلبون الباطل بالباطل، فليس الهدف سامياً إذاً، ولا المقاصد نبيلة، لذا أخطأ من ذهب إلى أن قاعدة هؤلاء تعتمد على مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة).
فليس هؤلاء كذلك، بل هم أسوأ من أصحاب هذه القاعدة، ومن تبعهم من تيارات تسمّت بالإسلام، فليس لهؤلاء من غاية شريفة.
إنّهم مصداق من يريد إثبات الباطل بالباطل، ولئن كان اسم معاوية مقروناً بهذه القاعدة لما تميز به من غدر ومكر وخداع كما في واقعة المصاحف وقضية التحكيم، فإن معاوية الحاسد لآل محمد عليهم السلام بنصّ كلام أمير المؤمنين عليهم السلام يعلم الباطل، لقد طلب الباطل فأصابه.
حاله حال ثالث أنواع القضاة الأربعة، كما يقول الإمام الصادق:
الْقُضَاةُ أَرْبَعَةٌ:
قَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ فَهُوَ فِي النَّارِ.
وَقَاضٍ قَضَى بِالْبَاطِلِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَهُوَ فِي النَّارِ.
وَقَاضٍ قَضَى بِالْبَاطِلِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَهُوَ فِي النَّارِ.
وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ (الخصال ج1 ص247).
هؤلاء القوم جميعاً مصداق لثالث القضاة، قضوا بالباطل وهم يعلمون أنه باطل، وتوسلوا طرقاً باطلة لإثبات الباطل.. وهم أسوأ من على هذه الأرض..
ولمّا كانوا كذلك كان لعليّ عليه السلام كلمة عظيمة يوجهها لمعاوية يقول: وَلَعَمْرِي يَا مُعَاوِيَةُ لَوْ تَرَحَّمْتُ عَلَيْكَ وَعَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، مَا كَانَ تَرَحُّمِي عَلَيْكُمْ وَاسْتِغْفَارِي لَكُمْ لِيُحِقَّ بَاطِلًا (كتاب سليم ج2 ص770)
فلا يمكن لترحم أمير المؤمنين على هؤلاء أن ينقلهم من جانب الباطل إلى جانب الحق، فالباطل لا يصير حقاً !
معاوية هذا يشترك مع من وطّأ له ظلمَ آل محمد وحمله على رقابهم، كما يشتركون معه في صفاته، تلك الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين في كتاب له (ع) إلى زياد ابن أبيه وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه فقال عليه السلام:
وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَيْكَ يَسْتَزِلُّ لُبَّكَ، وَيَسْتَفِلُّ غَرْبَكَ، فَاحْذَرْهُ فَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ، يَأْتِي الْمَرْءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ (نهج البلاغة ص416).
معاوية كالشيطان، قعدا ونظائرهما صراط الله المستقيم، يأتون المؤمن من الجهات الأربع، وههنا يُمتَحَنُ الإنسان في أيامنا، هل يريد الحق ويسلك صراطاً مستقيماً للوصول إليه قولاً وفعلاً ؟
أم يريد الحق فيسلك سبلاً باطلةً في إثباته؟! فلعله يكون كالخوارج.
أم يريد الباطل فيتلمّس كل باطل لتشييد أركانه ؟
ههنا يمتحن الأفراد، وتُمتَحَن الدول والأنظمة المعاصرة، والأحزاب والقوى، والتيارات المختلفة، حتى تلك التي ترفع لواء الاسلام ورايته.
أما السبيل الأوّل فلن يتحقق بأبهى صوره إلا على يد المهدي عليه السلام.
وأما السبيلان الآخران، فيتنافس عليهما أهل الدنيا ومن تلبّس بالدين منهم.
نعوذ بالله من مضلات الفتن، ونسأل تعالى أن يثبتنا على الصراط المستقيم قولاً وفعلاً، أسلوبا وهدفاً، صراط عليّ وبنيه.
والحمد لله رب العالمين.
شعيب العاملي