إن عبد الله بن سبأ الذي يحاول خصوم الشيعة إلصاقه بهم قد اختلفت أراء الباحثين والمحققين حول شخصيته من حيث حقيقتها وتحديد هويتها، فذهب البعض إلى أنه شخصية مختلقة لا وجود لها في الخارج لها.
قال الدكتور طه حسين: (إن أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان متكلفاً منحولاً قد اخترع بأخرة حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية، أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول المذهب عنصراً يهودياً إمعاناً في الكيد لهم والنيل منهم) 1.
وقال الدكتور الأستاذ سهيل زكار محقق كتاب "المنتظم لابن الجوزي" في المجلد الثالث من المنتظم هامش صفحة 302: (المرجح أن ابن سبأ لم يوجد بالمرّة بل هو شخصية مخترعة).
وقال الدكتور عبد العزيز الهلابي الأستاذ في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود بالرياض: (الذي نخلص إليه في بحثنا هذا أن ابن سبأ شخصية وهمية لم يكن لها وجود، فإن وجد شخص بهذا الاسم فمن المؤكد أنه لم يقم بالدور الذي أسنده إليه سيف وأصحاب كتب الفرق، لا من الناحية السياسية ولا من ناحية العقيدة) 2.
وقال الكاتب أحمد عباس صالح: (وهنا يتردد اسم عبد الله بن سبأ وهو شخص كان يهودياً وأسلم، تصوّره كتب التاريخ على أنه كان الشيطان وراء الفتنة التي قتل فيها عثمان، بل وراء الأحداث جميعاً ... وقد وقف منه الكتّاب مواقف متعارضة فمنهم من ينكر وجوده أصلاً، ومنهم من يعتبره أساس كل ما جرى، بل أساس ما دخل في الإسلام من مذاهب غريبة منحرفة.
وعبد الله بن سبأ شخص خرافي بغير شك، فأين هو من هذه الأحداث جميعاً؟ وأين هو من الصراعات الناشئة في هذا العالم الكبير المتعدد ... وماذا يستطيع شخص مهما تكن قيمته أن يلعب بمفرده بين هذه التيارات المتطاحنة؟
إن الأحداث السريعة العنيفة المتلاحقة لم تكن في حاجة إلى شخص ما حتى ولو كان الشيطان نفسه لأن أصولها بعيدة الغور، وقوة اندفاعها لا قبل لأحد بالسيطرة عليها أو توجيهها، فضلاً عن تشابكها وتعددها بما لا يدع لأي قوة أن تزيدها تعقيداً.
وساذج بغير شك التفكير الذي يتّجه إلى خلق شخصية خرافية كهذه ليعطيها أي أثر فيما حدث من أحداث. وأكثر سذاجة منه من يظن لهذا الرجل تأثيراً ما على كبار الصحابة، ومنهم أبو ذر الغفاري نفسه الذي لم يقبل مناقشة من أبي هريرة المحدث المعروف، وضربه فشجّه قائلاً في ازدراء: (أتعلمنا ديننا يا ابن اليهودية) إنما كل ما حيك من قصص حول عبد الله بن سبأ هو من وضع المتأخرين، فلا دليل على وجوده في المراجع القديمة فضلاً عن سخافة التفكير في احتمال وجوده أصلاً) 3.
وذهب آخرون إلى أن عبد الله بن سبأ هو نفسه الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضوان الله تعالى عليه، ومن هؤلاء الدكتور كامل مصطفى الشيبي حيث فقال: (والسبئية على هذا الأساس فرقة قادها عمار الذي أطلقت عليه قريش ذلك اللقب الرمزي، وأضافت إلى آرائه في علي مبالغات وأضاليل لتضيف إلى أفكار عمار ما يخرج بها عن المعقول، ويسلبها قوة الإقناع، ويقنّعها بقناع الشك والبطلان، فينصرف الناس عنه وعن آرائه وعن مبدئه في أحقيّة علي وفضله على سائر المسلمين من معاصريه زمن عثمان) 4.
ومنهم الدكتور علي الوردي فقد قال في كتابه (وعاظ السلاطين): (إن ابن سبأ لم يكن سوى عمار بن ياسر، فلقد كانت قريش تعتبر عماراً رأس الثورة على عثمان ولكنها لم تشأ – في أول الأمر – أن تصرّح باسمه، فرمزت عنه بابن سبأ أو ابن السوداء، وتناقل الرواة هذا الأمر غافلين وهم لا يعرفون ماذا يجري وراء الستار) 5.
ومنهم الدكتور علي سليمان النشار فقال: (ومن المحتمل أن تكون شخصية عبد الله بن سبأ شخصية موضوعة أو أنها رمزت إلى شخصية ابن ياسر كما فعل الأمويون بكلمة تراب والترابيين، ومن المحتمل أن يكون عبد الله بن سبأ هو مجرد تغليف لاسم عمار بن ياسر) 6.
وهناك من ذهب إلى أن عبد الله بن سبأ هو نفسه عبد الله بن وهب الراسبي وقد حزم بذلك الأشعري في المقالات والفرق حيث قال: (السبائية أصحاب عبد الله بن سبأ، وهو عبد الله بن وهب الراسبي الهمداني) 7.
وقال البلاذري في أنساب الأشراف: (وأما حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وحبة بن جوين البجلي ثم العرني وعبد الله بن وهب الهمداني وهو ابن سبأ، فإنهم أتوا علياً فسألوه عن أبي بكر وعمر) 8.
وهناك من ذهب إلى أن ابن سبأ شخصية حقيقية وزعموا صحة ما نسب إليه من مشاغبات ومن إثارة للفتنة وتأليب الناس ضد عثمان بن عفان وغيرها مما ادّعوه عليه ونسبوه إليه من أفكار وعقائد، ولكن لم يكن لهؤلاء مستند في إثبات هذه الشخصية وما نسب إليها إلاّ روايات سيف بن عمر التميمي، وسيف هذا زنديق كذاب وضّاع للحديث غير معتمد الرواية..
قال ابن العجمي: (وكان سيف يضع الحديث وقد اتهم بالزندقة) 9.
وقال النسائي: (ضعيف) 10.
وقال الأصفهاني: (متهم في دينه مرمي بالزندقة ساقط الحديث لا شيء) 11.
وقال الحاكم: (اتهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط) 12.
وقال ابن حبان: (يروي الموضوعات عن الأثبات) 12.
وقال ابن معين: (ضعيف الحديث) وقال أيضاً: (فلس خير منه) 12.
وقال أبو داود: (ليس بشيء) 12.
وقال الدّارقطني: (ضعيف) 12.
ونستطيع أن نجزم بأن شخصية عبد الله بن سبأ بالصورة التي رسمها سيف بن عمر التميمي لها وما أعطاها من أدوار بطولية وحاك حولها من قصص وأساطير ومشاغبات لا وجود لها أصلاً، وإنما هي شخصية من مختلقاته، فقول من قال بوهمية وخرافية واختلاق شخصية ابن سبأ هذه هو الراجح عندنا على جميع الآراء الأخرى، ونؤكد ذلك بأن ما ذكره سيف بن عمر عن هذه الشخصية لم تتعرض له كتب التاريخ الموثوقة التي تعرضت لمسألة الخلاف والأحداث الحاصلة في أيام عثمان بن عفان فلم يذكر ابن سعد المتوفى سنة 230 هـ في طبقاته شيء من ذلك ولا البلاذري المتوفى سنة 279 هـ في أنساب الأشراف، ولا أبو حنيفة الدنيوري المتوفى سنة 290 هـ في الأخبار الطوال، ولا المسعودي المتوفى سنة 345 هـ في مروج الذهب ولا في التنبيه والاشراف، ولا ابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ في الإمامة والسياسة، ولا اليعقوبي المتوفى عام 284هـ في تاريخه، ولا المبرد المتوفى سنة 285 هـ في كامله، فقد خلت مؤلفات المؤرخين القدامى من ذكر ذلك، غير الطبري المتوفى عام 310 هـ في تاريخه وعنه أخذ الذين جاؤوا من بعده ممن ذكروا قصة ابن سبأ.
وهذا دليل على أنّ ما نسبه سيف بن عمر لهذه الشخصية من دور كبير في الأحداث والفتنة أيام عثمان بن عفان كله مختلق في وقت متأخر عن تلك الحقبة من الزّمن، إذ لو كان ما ذكره صحيحاً وكان له هذا الدور الخطير لما أغفله هؤلاء المؤرخون.
نعم هناك شخصية تحمل هذا الاسم (عبد الله بن سبأ) تعرضت لها الرّوايات الشيعية ولم تذكر عنها شيئاً مما ذكره الطبري في تاريخه سوى أنه غالى في الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه السلام" فادّعى له الربوبية ولنفسه النبوة، فعرض عليه أمير المؤمنين التوبة فلم يفعل فأحرقه بالنار، فقد روى الكشّي في رجاله بسنده عن هشام بن سالم أنه قال: سمعت أبا عبد الله "عليه السلام" يقول وهو يحدث أصحابه بحديث ابن سبأ، وما ادّعى من الربوبية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه السلام" فقال: إنّه لما ادّعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين "عليه السلام" فلم يتب فأبى أن يتوب فأحرقه بالنّار) 13.
وفيه أيضاً أخرج الكشي بسنده عن أبان بن عثمان قال: (سمعت أبا عبد الله "عليه السلام" يقول: لعن الله عبد الله بن سبأ أنّه ادّعى الربوبيّة في أمير المؤمنين "عليه السلام" وكان والله أمير المؤمنين "عليه السلام" عبداً لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وأن قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم) 13.
يتبع...
تعليق