في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، قام ملك الدنمارك، فردريك الخامس، بإرسال أول بعثة علمية أوروبية إلى بلاد اليمن، والتي كانت تسمى آنذاك بلاد العربية السعيدة.
تكونت تلك البعثة من 5 من أهم علماء أوروبا في ذلك الوقت، وهم: بيتر فورسكال عالم سويدي في النبات والأحياء، وكارستن نيبور عالم ألماني في الرياضيات والفلك، وكرستيان كرامر طبيب دنماركي وفيزيائي، وجورج بورنفانيد رسام ونحات ألماني، وفون هافن عالم لغويات دنماركي.
غرض البعثة الدنماركية وهدفها
طبقاً للرواية الدنماركية التي أوردها ثوركيل هانسن، كان غرض البعثة جمع المعلومات عن النباتات والحيوانات النادرة في اليمن السعيد، وارسال عينات منها (وخصوصا النباتات التي وردت في الكتاب المقدس)، إلى جانب جمع المخطوطات التاريخية ذات القيمة، وارسال نماذج منها. كانت البعثة تسعى لاكتشاف ما تخفيه هذه البلاد التي طالت شهرتها مسامع أوروبا، والتي كانت ماتزال بلاد مغلقة، لا يعرفها الأوروبيين والأجانب.
سر شجرة البلسم لدى فورسكال
طبقاً لاحدى المصادر، كانت أحد أهداف هذه الرحلة بالنسبة لعالم النبات السويدي الشهير بيتر فورسكال (كما خطط لها البرفيسور لينيوس) هي اكتشاف المزيد عن النباتات المذكورة في الكتاب المقدس، وتحديداً محاولة التعرف على شجرة تدعى البلسم opobalsamum، أو شجرة بلسم التوراة في جلعاد.
والتي وردت بناءً على قصص الكتاب المقدس وكتابات العديد من المؤلفين اليونانيين والرومانيين من الجغرافيين والمؤرخين، بمن فيهم جوزيفوس فلافيوس. ولذلك سافر فورسكال إلى اليمن، المعروفة بانها مقر مملكة سبأ التوراتية، على أمل العثور على هذه الشجرة التي انقرضت في يهودا.

وبحسب المصدر ذاته، كانت السمات المعروفة التي يمكن أن تساعد في البحث عن الشجرة في اليمن، هي أنها يفوح منها العطر النضح لراتنج صمغ سائل Opobalsamum، وهي الصفات الطبية التقليدية التي اشتهرت شجرة بلسم جلعاد بها.
وبعد رحلة طويلة ومجهدة، وجد العالم السويدي فورسكال في نهاية المطاف، شجرة صغيرة واحدة تنمو على تلال صخرية جافة في سفوح تهامة في اليمن، والتي تنبعث منها رائحة خاصة عند سحقها. وهي شجرة البلسم الأصلية.
ويشير بحث علمي حديث، أن شجرة أو نبات البلسم/ البلسمون القديم، تعتبر محفز لموت الخلايا المبرمج لخطوط الخلايا السرطانية، في حين أن معظم العلماء مقتنعون بأن نبات البلسمون القديم، هو في الواقع النبات المعروف في علم النبات الحديث باسم C.gileadensis .
وبالطبع، لا يمكن الحصول على دليل بنسبة 100%، إلا من خلال العثور على بقايا نبات البلسم القديم، ومقارنتها علمياً بعينة نبات C. gileadensis. لكن لم تعد هذه البقايا موجودة في منطقة البحر الميت.

تاريخياً، توجد العديد من الاستشهادات التي تدعم حقيقة أن شجرة البسلم او البلسمون تم إحضارها بالفعل إلى أراض بني إسرائيل (فلسطين) من اليمن من قبل ملكة سبأ.
حيث كتب المؤرخ اليهودي يوسف بن ماتيتياهو (تيتوس جوزيفوس فلافيوس)، الذي روج للإمبراطورية الرومانية في القرن الأول الميلادي، عن ملكة سبأ: “يقول البعض أن نبات البلسمون الذي يزرع في أرضنا اليوم، ينبغي أن ننسب إليه شكرا لهذه المرأة”.

وتقول احدى المصادر أن ملكة سبأ أحضرت البلسم للملك سليمان. حيث نُشر في العام 2010 مقال علمي كتبه الباحث الفرنسي أندريه لومير. وهو يصف لوحة نحاسية اكتشفت مؤخرًا في اليمن، مع نقش بالخط القديم لمنطقة شبه الجزيرة العربية الجنوبية.
ويعود تاريخ اللوحة المكونة من 25 سطرًا إلى عام 600 قبل الميلاد وقد كتبها “صباحهمو”، كاتب في بلاط ملك سبأ. تخبر اللوحة، من بين أشياء أخرى، أن وفداً من التجار من مملكة سبأ ذهبوا في رحلة عمل إلى يهودا. وتدعم هذه اللوحة بقوة القصة التوراتية التي تؤكد وجود تجارة كبيرة بالفعل بين مملكة سبأ ومملكة إسرائيل (مراجعة الآثار الكتابية – يناير/ فبراير 2010، ص 55).

وصلت البعثة العلمية الدنماركية الى ميناء المخاء الشهير في اليمن، في 24 ابريل من العام 1762، بعد أن مرت على أوروبا ومصر، وجدة، وصولاً الى ميناء المخاء ومدينة “اللحية”. وبدأ حينها فريق البعثة باكتشاف المناطق، وتدوين الملاحظات بناءاً على الاختصاصات.
وبدأ فريق البعثة العلمية الدنماركية، برئاسة كارستن نيبور، باكتشاف ومسح منطقة تهامة، حيث قام نيبور بجولاته الدراسية في معظم مناطق تهامة. وكان أكبر انجاز صنعه نيبور هو أنه وضع أول خريطة جغرافية لليمن في العام 1763، ويقول نيبور في مذكراته ” لقد وضعت خريطة اساسية لليمن”. وتعد تلك الخريطة بمقياس اليوم خريطة شبه دقيقة رغم بدائية الأدوات التي استخدمها نيبور لقياس المسافات والاحداثيات.
بيتر فورسكال سنة 1760 – Peter Forsskaal / الصورة: Wikimedia
فورسكال يعلن اكتشاف شجرة البلسم
كانت البعثة قد استقرت طيلة 6 أشهر في مدينة “بيت الفقيه” التابعة لمحافظة الحديدة على الساحل اليمني في البحر الأحمر، وكانت بيت الفقية كما وصفها نيبور في مذكراته، بأنها مركز تنقلات افراد البعثة. حيث يغادرون منها الى استكشاف مناطق تلال أشجار البن والقهوة اليمنية، التي تقع على بعد يوم كامل الى الشرق من بيت الفقيه. والى مناطق حولها.
وفي 26 مارس/آذار 1763، غادرت البعثة الدنماركية من مدينة بيت الفقيه الى صوب مدينة تعز، جنوب غرب اليمن. عابرة من طريق وعر ومهجور ومارين بمناطق “العدين” و”جبلة”. وفي ذلك الطريق بدأ عالم النبات فورسكال بجمع النباتات التي كان يشاهدها في الطريق.
يروي المؤرخ الدنماركي ثوركيل هانسن، في كتابه “من كوبنهاجن الى صنعاء” الذي يوثق رحلة البعثة الدنماركية، تفاصيل دقيقة من مذكرات فورسكال التي دونها في اليمن، والتي تبين اهم إنجازاته العلمية في اليمن، وفي ذلك الجزء، يسرد هانسن قصة أهم لاكتشاف نباتي حققه فورسكال على النحو التالي:
” كانت كل الحوادث عادية، عدا ذلك الأمر الذي حدث في ظهيرة الرابع من نيسان/أبريل 1763، حين كان فورسكال، ومعه نيبور، يسيران في طريق عودتهما من جبلة وتعز الى بيت الفقيه، فبينما كانا في طريقهما، راكبين حماريهما جنباً الى جنب، في صمت وذهول بسبب حرارة الشمس، وبينما لم يكونا يسمعا الا وقع حوافر الحمارين على الطريق الصخري؛ فجأة لمحَ فورسكال، لمعاناً غريباً على بعد مسافة أمامهما، واستطاع أن يعرف مصدر ذلك اللمعان بعد عدة دقائق من المسير، ففي أحدى التلال القريبة من الطريق، كانت تنتصب شجرة متفتحة الأزهار، اتجه إليها فورسكال بمفرده بعد أن نزل من ظهر حماره؛ وقبل أن يصل اليها التفت الى نيبور وصرخ بصوت مثير، دفع نيبور ايضاً الى الإسراع نحو الشجرة. واجتاح السرور قلب فورسكال، وهما يشاهدان أعظم اكتشاف نباتي كانا يأملان الحصول عليه في كل رحلتهم الى اليمن.
لقد وجدوا أخيراً: شجرة البلسم الأصلية في اليمن، وبينما كان نيبور يربط الحمارين، كان فورسكال يصف تفتح ازهار هذه الشجرة الثمينة بعد أن جلس في ظل أحد الأشجار، وبيده غصن من أغصان هذه الشجرة. وكان وصف فورسكال لهذه العينات مفصلاً ومكتوباً بعناية، الأمر الذي مكن الخبراء فيما بعد من التعرف عليها بسهولة.

تمعن فورسكال في وصف شجرة البلسم الاصلية، واحتفظ بإحدى غصونها المزهرة، وحين عاد الى مدينة بيت الفقيه، كان أول عمل قام به: ارسال تقرير عن هذا الاكتشاف الى البروفيسور لينوس في جامعة أوبسالا في السويد، والذي أعرب عن أمله في أن ينجح فورسكال في أن يرسل اليه غصناً من شجرة البلسم الأصلية المزهرة، حتى يكون في استطاعته القيام بفحصه، ووصف طبائع وخصائص هذا النوع من النبات.
تقرير فورسكال عن شجرة البلسم
في 18 نيسان/ابريل من العام 1763، كتب عالم الأحياء السويدي فورسكال، من مكان اقامته في بيت الفقيه، تقريراً إلى البروفيسور لينوس في جامعة أوبسالا السويدية، وأرفق برسالته هذه ساقاً من هذه شجرة البلسم opobalsamum التي وجدها.
تجاهل فورسكال في عمله هذا، أوامر المنع الذي صدرت من الحكومة الدنماركية، وقال في رسالته:
“أني اعرف الآن نوع شجرة البلسم الاصلية فهي تنمو في اليمن، لكن السكان هنا لا يعرفون كيف يجمعون البلسم منها، إني لا أستطيع أن أسجل اكتشافاتي في رسائل خاصة، غير ان ما يمكنني قوله هو أن هذه الشجرة ليست Pistac وليست Lenticus. ولكنها من نوع Brown’s Genera.”.
” لقد جمعت أيضاً عدداً لا يصدق من النباتات الأميركية والهندية ونباتات أخرى جديدة وجدتها في اليمن. لكن ليس من المسموح أن اسجلها في قوائم منفصلة عن بعضها البعض، وعلى أي حال سوف تظهر هذه الاكتشافات الى الوجود إذا وهبني الله طول العمر والصحة، وفي الحقيقة يستحق هذا البلد السعيد حقاً أن ترسل الية بعثة زراعية خاصة، ويجب التمسك بأن يكون ارسال هذه البعثة على شرف البروفسور ميشاليس في كونتجن. وإذا لم يطل بي العمر حتى اناقش معك ما جمعته من نباتات في اليمن، فسوف أخسر، ويخسر العلم معي عندئذ أكثر مما يمكن أن تتصور”. التوقيع: فورسكال.
لقد استغرق وصول هذه الرسالة سنة كاملة، ومنذ أن أرسلت الى لينوس مع الساق المزهر المقطوع من شجرة قرب Qude حتى وصولها الى جامعة أوبسالا في السويد. وخلال هذا الوقت الطويل كان كل شيء قد تغير.
كارستن نيبور بالملابس اليمنية في صنعاء 1763 – نيبور
ولأول مرة كان البرفيسور لينوس قادراً على دراسة شجرة البلسم الأصلية، لكن هذا لم يكن الا شكلاً على ما يبدو، فقد كانت الزهور ذابلة.
في اليوم الثاني لتسلمه رسالة فورسكال من بيت الفقيه، وصف البروفسور لينوس محتوياتها المثيرة في رسالة بعث بها الى عالم الفلك وارجانتين، جاء فيها قوله التالي: ” البارحة تسلمت رسالة من فورسكال، من مملكة الأموات”.
وعلى عكس ما ظنه لينوس، فقط كان اكتشاف فورسكال لشجرة البلسم تتويجاً لنشاطات البعثة الدنماركية في اليمن السعيد. وكان السكان في كل مكان في هذه البلاد ودودين، وعلى استعداد لتقديم المساعدة والعون، كما سادت روح المودة بين جميع أعضاء البعثة. ولم يكن لعملهم من قبل مثل هذه النتائج الباهرة، ولم تكن توقعات المستقبل بمثل هذا الجمال. (هانسن، ص 240 – 243)

بعد 3 أشهر من هذا الاكتشاف لشجرة البلسم، وتحديداً في يوم 11 يوليو 1763، توفي عالم النبات السويدي بيتر فورسكال متأثراً بمرض الملاريا، في مدينة يريم (وسط اليمن) في أثناء طريقة من تعز الى ذمار.
تم دفن جثة فورسكال في أحد مقابر اليهود في مدينة يريم. كما توفي كل علماء البعثة في اليمن بسبب الحمى والملاريا ونجا كارستين نيبور لوحده وخرج حياً من اليمن وعاد الى الدنمارك.
تمكن فورسكال من جمع 693 نوعًا مختلفًا من النباتات من اليمن لوحدها، وهي أكثر من نصف الأنواع الجديدة في العلوم. كما قام بتدوين ملاحظات مستفيضة على الموائل والتوزيعات النباتية في اليمن.
2000 نوع من النبات جمعها فورسكالتمكن فورسكال من جمع 693 نوعًا مختلفًا من النباتات من اليمن لوحدها، وهي أكثر من نصف الأنواع الجديدة في العلوم. كما قام بتدوين ملاحظات مستفيضة على الموائل والتوزيعات النباتية في اليمن.
وطبقاً للمؤلف الدنماركي هانسن، أرسل فورسكال ثروة علمية من البلدان التي زارها في رحلته من الدنمارك الى اليمن، حيث ارسل قرابة 2000 الفين مجموعة منفصلة من البذور، وأرسلها الى 6 جامعات أوروبية.
وحين وصلت البذور الى جامعة أوبسالا في السويد، قام البرفسور لينوس ببذر وعرس بذور فورسكال، ونجح في الحصول على ما لا يقل عن 80 نباتا نامياً. وفي جامعة كوبنهاجن بالدنمارك، وصلت بذور فورسكال وقام البرفسور أودور بزراعة البذور في حديقة النباتات الخاصة في كوبنهاجن، ومجمل ما حصل عليه من الإنتاج 230 نباتاً.
لكن هذه البذور الأخيرة كانت من التي أرسلت القسطنطينية والقاهرة فقط. اما الشحنات المرسلة من اليمن ظلت مغلقة لسنوات طويلة ولاقت الإهمال، نظرا لتغير الحكم في الدنمارك وتغير الاهتمامات.
وبعد مضي 170 سنة من موت فورسكال في اليمن، تم تشكيل مجموعة اعشاب فورسكال وقد سميت باسم “المجموعة الفورسكالية” وأصبح لهذه المجموعة فيما بعد أهمية تاريخية كبرى. وبعد 200 سنة اتى علماء النبات وعلماء الحيوان من جميع انحاء العالم لينحنوا فوق بقية “المحصول” الذي ارسله فورسكال، تقديرا واكبارا.
* المصادر والمراجع:
– توركيل هانس، “من كوبنهاجن الى صنعاء” قصة البعثة العلمية الأوروبية الى اليمن، مركز الدراسات والبحوث اليمني، دار العودة، بيروت، الطبعة الأولى، 1982
....................................
1-ارض جلعاد في الاردن اليوم , اذا كان كذلك فلماذا نبات البلسم الذي ينبت في اليمن يسمى بلسم جلعاد ؟؟
ولماذا البعثة الدنماركية ذهبت الى اليمن ولم تذهب الى الاردن للبحث عن بلسم جلعاد ؟
هناك اجوبة قابلة للنفي ,
الخلاصة ان اسم جلعاد في اليمن يفتح بابا للتأمل في اصل تسمية منطقة جلعاد في الاردن اليوم
2- لماذا البعثة الدنماركية التي كانت تبحث عن النباتات التي وردت في الكتاب المقدس
ذهبت الى اليمن ؟ ولم تذهب الى فلسطين ؟؟
هذا باب آخر للتأمل
تعليق