عصمة أئمةِ أهلِ البيت (ع) في القرونِ الثلاثةِ الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد
المسألة:
ثمة من يدَّعي أنَّ اعتقاد الشيعة الاثني عشريَّة في عصمة الأئمة (ع) طارئ وأنَّ الشيعة المعاصرين للأئمة (ع) وعلى امتداد ثلاثة قرون لم يكونوا يعتقدون بعصمة الأئمة (ع)، وغاية ما يعتقدونه فيهم أنَّهم علماءُ أبرار وأنَّ الدين يُؤخذ عنهم كما يأخذُ أبناءُ العامَّة دينَهم من أئمة مذاهبِهم وكما يأخذُ الشيعة في عصر الغيبة دينَهم من فقهائهم. فالاعتقادُ بعصمة الأئمة (ع) شيءٌ استحدثه الشيعة في القرون المتأخرة عن عصر الأئمة (ع) ولم يكن معروفًا في عصرهم (ع).
الجواب:
هذه الدعوى لا تصحُّ ولا تقومُ على أساسٍ علميٍّ، وهي من الوهن بمستوىً لا يسترعي تفنيدها جهدًا يُذكر، فإنَّ نظرةً فاحصةً ومتأنِّية بل وعابرة في أحوال الشيعة الإماميَّة وأحوال الرواة عن الأئمة (ع) وكيفيَّة تعاطيهم مع أقوال الأئمة (ع) وأوامرهم تُفضي إلى الإذعان والجزم بأنَّ ماعليه الشيعة الإماميَّة هو الاعتقاد بأنَّ الأئمة الاثني عشر هم الهداة بعد الرسول (ص) وأنَّ طاعتهم في كلِّ ما يأمرون وينهون مفروضة وأنَّ قولهم صدقٌ وحقٌّ ودين، فهذا المقدار يُؤمنُ به كلُّ الشيعة الإمامية الاثني عشريَّة في عصر الأئمة (ع) وهو مساوقٌ لمعنى العصمة في الجملة بقطع النظر عن التسمية والاصطلاح وبقطع النظر عن التفاصيل.
ولذلك تجدُ الشيعة المعاصرين للأئمة عند متابعة أحوالِهم أنَّه لو أجمع علماءُ المذاهب بل ومع غيرهم من علماء العامَّة على حكمِ مسألةٍ وثبتَ لهم أنَّ الإمام (ع) يقولُ بغير ما يقولون فإنَّهم يبنون على صوابيَّة ما أفاده الإمام (ع) وأنَّ احتمال الخطأ لا يتطرَّق إلى ما يقولُه الإمام (ع)، وكذلك لو استفاضَ عن ثقاة العامَّة حديثٌ ينسبونه إلى النبيِّ (ص) وتصدَّى الإمامُ (ع) إلى تكذيبه أو تخطئة الناقلين له في الفهم فإنَّ الشيعةَ منذُ العهد الأول لا يتردَّدون في اعتماد قول الإمام (ع) والإعراض عن كلِّ ما ينقلُه رواةُ العامَّة حتى وإنْ وقفوا على وثاقتِهم وتثبُّتِهم في النقل، وكذلك لو تصدَّى الإمامُ لتفسير آيةٍ وثبت لهم ذلك فإنَّهم يقطعون بأنَّ تفسير الإمام (ع) هو المطابِق للواقع، ولذلك تجدُهم يحتجُّون به ويدينون اللهَ تعالى به ويستنبطون منه الأحكام والمُعتقدات ولا يحتملون ولو بنسبةٍ ضئيلة أنَّ الأمام (ع) أخطأ في فهمِه للآية، رغم أنَّ كلَّ ذلك من مظانِّ الخطأ والاشتباه والغفلة، فلو لم يكونوا يعتقدون بعصمتِهم لما ساغ لهم الاعتقادُ بصحَّةِ كلِّ ما يصدرُ عنهم والإذعان الجازم بأنَّه من الدين، وكذلك تجدُ الشيعة حين يعتمدُ الإمام (ع) موقفًا في مختلف القضايا العامَّة أو الجزئية فإنَّهم يعتقدون بأنَّ هذا الموقف هو الصواب وانَّ كلَّ موقفٍ مناقضٍ لموقفِه فهو باطل.
ومن ذلك يتضح أنَّ اعتقادُ الشيعة في أئمتِهم (ع) ليس كاعتقاد العامَّة في علمائهم ورواتِهم، فإنَّ الواضحَ من سيرة أبناءِ العامَّة أنَّهم يرونَ في علمائهم وأئمة مذاهبِهم بل وفي الصحابة والتابعين أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يُؤخذُ منه ويردُّ عليه وأنَّه قد يشتبهُ في الفتوى أو النقل وقد يُخطأ الصواب فإنْ أخطأ فله أجرٌ وإنْ أصاب فله أجران، ولا يرون غضاضةً في عالِمهم ومَن يعتمدون قولَه أن يعدِلَ عن رأيٍ كان قد تبنَّاه، ولذلك تعارفَ بين الشافعيَّة التعبير بقال الشافعي في القديم وقال الشافعي في الجديد، وتعارف بين الأحناف أنْ يكون لأبي حنيفة قولٌ ولأبي يوسُفَ أو غيره من كبار تلامذتِه قولٌ آخر وهكذا هو الشأن عند سائر أتباع أئمة المذاهب الفقهيَّة بل والعقائدية، فالمعروفُ بينهم أنَّ أبا الحسن الأشعري مثلًا كان له مذهبٌ في العقيدة ثم تحوَّل منه إلى مذهبٍ آخر، فهذا ما يعتقده العامَّة في علمائهم وأئمة مذاهبهم بل وفي الصحابة والتابعين، وكذلك يعتقدُ الشيعة في علمائهم وفقهائهم فهم وإن كانوا يأخذون أحكام الشريعة عنهم لكنهم يعتقدون أنَّهم يُخطئون ويُصيبون وأنَّ أحدهم قد يتبنَّى رأيًا في مسألةٍ ثم يعدل عن ذلك الرأى إلى رأيٍ آخر ولا يرونَ غضاضةً في ذلك.
وأما اعتقادهم في أئمتهم (ع) فمختلفٌ عن ذلك تمامًا، فهم يعتقدون مثلًا أنَّ ما ثبت من تفسيرهم للقرآن حقٌ لا يشوبُه باطل ولا يتطرَّق إليه وهمٌ أو خطأٌ في الفهم، ويعتقدون فيهم أنَّ كلَّ حكم يتصدَّون لبيانه ولم يصدر عن تقيةٍ فهو حكمُ الله الواقعي وأنَّهم لم يخطئوا في بيانه ولا في تلقِّيه وفهمِه من القرآن أو السنَّة التي يعتقدون أنَّها وصلت إليهم كاملةً غير منقوصة، ويعتقدون فيهم أنَّ كلَّ ما ينسبونه للدين فهو من الدين واقعًا وأنَّهم لم يُخطئوا في نسبتهم له وأنَّهم قطُ لم ينطقوا في ذلك عن جهلٍ أو نسيانٍ أو ذهولٍ وغفلةٍ أو قصورٍ في الفهم. وهذا هو معنى اعتقادِهم بعصمتهم في الجملة، ولا نقولُ ذلك جزافًا بل إنَّ نظرةً فاحصة ومتأنيِّة بل وعابرة في أحوال الشيعة وأحوال الرواة وأصحاب الأئمة (ع) وكيفية تعاطيهم مع أقوال الأئمة (ع) ومواقفهم يُفضي إلى الإذعان والجزم بما ذكرناه من اعتقادهم بعصمة الأئمة (ع) في الجملة، ومما يؤشِّر إلى ذلك بجلاء هو اعتقادهم بإمامة الإمام الجواد (ع) وأنَّ ما ينسبُه إلى الدين فهو حقٌّ رغم أنَّ عمره حين تسلُّمِه للإمامة لم يتجاوز الثامنة، وكذلك هو اعتقادهم في إمامة الإمام الهادي (ع) والذي لم يتجاوز عمره العاشرة حين تسلَّم زمام الإمامة الدينيَّة للشيعة، وكذلك هو الشأن في اعتقادهم بإمامة الإمام المهدي (ع) والذي لم يتجاوز السادسة حين اضطلع بدور الإمامة، فهؤلاءِ الأئمة الثلاثة كانوا كما كان سائر الأئمة (ع) يُفسِّرون القرآن ويُبينون تفاصيل الأحكام الشرعيَّة ويُجيبون على تساؤلات الناس في جزئيات المسائل الاعتقاديَّة وكان الشيعة -وفيهم العلماء والرواة وفيهم مَن عاصر الصادق والكاظم (ع)- يُذعنون إلى ما يصدرُ عن هؤلاء الأئمة (ع) دون أن يتطرَّق إليهم شكٌّ في أنَّهم قد أخطأوا في الفهم أو أنَّهم لا يُحيطون علمًا بما يقولون أو فاتهم من الحكمةِ والصواب ما يفوتُ العلماء من ذوي الأسنان فضلًا عمَّن هم في مثل سنِّهم. وهذا مؤشِّر واضحٌ وجليٌّ يُؤكد اعتقاد الشيعة في عصمة أئمتهم منذُ العهد الأول وإلا فلا مُسوِّغ لإعتقادهم بإمامة هؤلاء الأئمة الثلاثة وأنَّ ما يقولونه في مختلف الشئون الدينيَّة حقٌّ وصدقٌّ ودين، رغم أنَّ هذه الشئون هي مزلَّةُ الأقدام ومظنَّة الخطأ، فلماذا يعتقدُ الشيعة المعاصرون لهؤلاء الأئمة الثلاثة أنَّ كلَّ ما يصدر عنهم في مختلف القضايا الدينيَّة حقٌّ وصدقٌ ودينٌ لولا ايمانهم بعصمتِهم، إذ لو كانوا غيرُ مؤمنين بعصمتهم لاحتملوا أنَّهم قد أخطأوا في بعض ما يقولون ويشرحون ولما ساغ لهم الاحتجاج بأقوالهم والإذعان لهم والانقياد لأوامرهم واعتبارهم حجج الله عليهم على خلقه وأنَّ طاعتهم مفروضة رغم أنَّهم كانوا في عمر الصبى وكانوا يحتجُّون على خصومهم بأنَّ هؤلاء الأئمة الثلاثة مثلهم مثل عيسى ابن مريم الذي علَّمه الله الكتاب في المهد ومثل يحيى بن زكريا الذي آتاه اللهُ الحكمَ صبيا.
وخلاصة القول إنَّ دعوى عدم اعتقاد الشيعة الإماميَّة في القرون الثلاثة الأولى بعصمة الأئمة (ع) لمجرَّد أنَّ هذا المصطلح لم يكن شائعًا في عصرهم كشيوعه في العصور المتأخِّرة هذه الدعوى في غاية الوهن فإنَّ مناط النفي والإثبات ليس هو شيوع هذا المصطلح وعدم شيوعه بل المناط هو ملاحظة واقع ما عليه الشيعة من اعتقادٍ في أئمتهم (ع) فحيثُ إنَّ المُحرَز جزمًا انَّ عامَّتهم كانوا يعتقدون بأنَّ الأئمة الإثني عشر (ع) هم الهداة بعد رسول الله (ع) وأنَّ كلَّ ما يصدرُ عنهم في مختلف الشئون الدينيَّة فهو حقٌّ وصدقٌ ودين دون أنْ ينتابهم في ذلك أدنى شكٍّ أو ارتياب فهذا وحده كافٍ للتثبُّت من أنَّ عامَّة الشيعة كانوا معتقدين بعصمة الأئمة (ع) حتى لو سلَّمنا انَّهم لم يكونوا يتداولون هذا المصطلح في أدبياتهم. هذا أولًا
وثانيًا: إنَّ واحدًا من وسائل التثبُّت ممَّا كان عليه عامَّة الشيعة الإماميَّة من اعتقادٍ في أئمتهم هو مراجعة الروايات التي كان يتناقلُها رواتُهم وثقاتهم ويدونونها في مدوَّناتهم وأصولهم ويتداولونها في محافلهم ويستجيز الرواة روايتها ونقلها عن شيوخهم، إنَّ مَن يُراجع هذه الروايات يقفُ ليس على العشرات بل المئات من الروايات المتصدِّية لبيان ما عليه أئمة أهل البيت (ع) من كمالاتٍ، وهذه الكمالات المنصوصة بعضُها مُستلزمةٌ بنحو اللزوم البيِّن لعصمتِهم وبعضُها مستلزمةٌ لوجدانهم لما يفوقُ ملكة العصمة بمراتب.
ولولا خشيةُ الإطالة لاستعرضتُ جملةً وافرةً من هذه الروايات إلا أنِّي سوف أستعرضُ عددًا من عناوين أبواب هذه الروايات والتي لن يجدَ الباحثُ عناءً يُذكر في الوقوف عليها في كتب الحديث مثل كتاب الكافي وكتب الشيخ الصدوق وغيرها من المجاميع الروائية.
يتبع
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد
المسألة:
ثمة من يدَّعي أنَّ اعتقاد الشيعة الاثني عشريَّة في عصمة الأئمة (ع) طارئ وأنَّ الشيعة المعاصرين للأئمة (ع) وعلى امتداد ثلاثة قرون لم يكونوا يعتقدون بعصمة الأئمة (ع)، وغاية ما يعتقدونه فيهم أنَّهم علماءُ أبرار وأنَّ الدين يُؤخذ عنهم كما يأخذُ أبناءُ العامَّة دينَهم من أئمة مذاهبِهم وكما يأخذُ الشيعة في عصر الغيبة دينَهم من فقهائهم. فالاعتقادُ بعصمة الأئمة (ع) شيءٌ استحدثه الشيعة في القرون المتأخرة عن عصر الأئمة (ع) ولم يكن معروفًا في عصرهم (ع).
الجواب:
هذه الدعوى لا تصحُّ ولا تقومُ على أساسٍ علميٍّ، وهي من الوهن بمستوىً لا يسترعي تفنيدها جهدًا يُذكر، فإنَّ نظرةً فاحصةً ومتأنِّية بل وعابرة في أحوال الشيعة الإماميَّة وأحوال الرواة عن الأئمة (ع) وكيفيَّة تعاطيهم مع أقوال الأئمة (ع) وأوامرهم تُفضي إلى الإذعان والجزم بأنَّ ماعليه الشيعة الإماميَّة هو الاعتقاد بأنَّ الأئمة الاثني عشر هم الهداة بعد الرسول (ص) وأنَّ طاعتهم في كلِّ ما يأمرون وينهون مفروضة وأنَّ قولهم صدقٌ وحقٌّ ودين، فهذا المقدار يُؤمنُ به كلُّ الشيعة الإمامية الاثني عشريَّة في عصر الأئمة (ع) وهو مساوقٌ لمعنى العصمة في الجملة بقطع النظر عن التسمية والاصطلاح وبقطع النظر عن التفاصيل.
ولذلك تجدُ الشيعة المعاصرين للأئمة عند متابعة أحوالِهم أنَّه لو أجمع علماءُ المذاهب بل ومع غيرهم من علماء العامَّة على حكمِ مسألةٍ وثبتَ لهم أنَّ الإمام (ع) يقولُ بغير ما يقولون فإنَّهم يبنون على صوابيَّة ما أفاده الإمام (ع) وأنَّ احتمال الخطأ لا يتطرَّق إلى ما يقولُه الإمام (ع)، وكذلك لو استفاضَ عن ثقاة العامَّة حديثٌ ينسبونه إلى النبيِّ (ص) وتصدَّى الإمامُ (ع) إلى تكذيبه أو تخطئة الناقلين له في الفهم فإنَّ الشيعةَ منذُ العهد الأول لا يتردَّدون في اعتماد قول الإمام (ع) والإعراض عن كلِّ ما ينقلُه رواةُ العامَّة حتى وإنْ وقفوا على وثاقتِهم وتثبُّتِهم في النقل، وكذلك لو تصدَّى الإمامُ لتفسير آيةٍ وثبت لهم ذلك فإنَّهم يقطعون بأنَّ تفسير الإمام (ع) هو المطابِق للواقع، ولذلك تجدُهم يحتجُّون به ويدينون اللهَ تعالى به ويستنبطون منه الأحكام والمُعتقدات ولا يحتملون ولو بنسبةٍ ضئيلة أنَّ الأمام (ع) أخطأ في فهمِه للآية، رغم أنَّ كلَّ ذلك من مظانِّ الخطأ والاشتباه والغفلة، فلو لم يكونوا يعتقدون بعصمتِهم لما ساغ لهم الاعتقادُ بصحَّةِ كلِّ ما يصدرُ عنهم والإذعان الجازم بأنَّه من الدين، وكذلك تجدُ الشيعة حين يعتمدُ الإمام (ع) موقفًا في مختلف القضايا العامَّة أو الجزئية فإنَّهم يعتقدون بأنَّ هذا الموقف هو الصواب وانَّ كلَّ موقفٍ مناقضٍ لموقفِه فهو باطل.
ومن ذلك يتضح أنَّ اعتقادُ الشيعة في أئمتِهم (ع) ليس كاعتقاد العامَّة في علمائهم ورواتِهم، فإنَّ الواضحَ من سيرة أبناءِ العامَّة أنَّهم يرونَ في علمائهم وأئمة مذاهبِهم بل وفي الصحابة والتابعين أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يُؤخذُ منه ويردُّ عليه وأنَّه قد يشتبهُ في الفتوى أو النقل وقد يُخطأ الصواب فإنْ أخطأ فله أجرٌ وإنْ أصاب فله أجران، ولا يرون غضاضةً في عالِمهم ومَن يعتمدون قولَه أن يعدِلَ عن رأيٍ كان قد تبنَّاه، ولذلك تعارفَ بين الشافعيَّة التعبير بقال الشافعي في القديم وقال الشافعي في الجديد، وتعارف بين الأحناف أنْ يكون لأبي حنيفة قولٌ ولأبي يوسُفَ أو غيره من كبار تلامذتِه قولٌ آخر وهكذا هو الشأن عند سائر أتباع أئمة المذاهب الفقهيَّة بل والعقائدية، فالمعروفُ بينهم أنَّ أبا الحسن الأشعري مثلًا كان له مذهبٌ في العقيدة ثم تحوَّل منه إلى مذهبٍ آخر، فهذا ما يعتقده العامَّة في علمائهم وأئمة مذاهبهم بل وفي الصحابة والتابعين، وكذلك يعتقدُ الشيعة في علمائهم وفقهائهم فهم وإن كانوا يأخذون أحكام الشريعة عنهم لكنهم يعتقدون أنَّهم يُخطئون ويُصيبون وأنَّ أحدهم قد يتبنَّى رأيًا في مسألةٍ ثم يعدل عن ذلك الرأى إلى رأيٍ آخر ولا يرونَ غضاضةً في ذلك.
وأما اعتقادهم في أئمتهم (ع) فمختلفٌ عن ذلك تمامًا، فهم يعتقدون مثلًا أنَّ ما ثبت من تفسيرهم للقرآن حقٌ لا يشوبُه باطل ولا يتطرَّق إليه وهمٌ أو خطأٌ في الفهم، ويعتقدون فيهم أنَّ كلَّ حكم يتصدَّون لبيانه ولم يصدر عن تقيةٍ فهو حكمُ الله الواقعي وأنَّهم لم يخطئوا في بيانه ولا في تلقِّيه وفهمِه من القرآن أو السنَّة التي يعتقدون أنَّها وصلت إليهم كاملةً غير منقوصة، ويعتقدون فيهم أنَّ كلَّ ما ينسبونه للدين فهو من الدين واقعًا وأنَّهم لم يُخطئوا في نسبتهم له وأنَّهم قطُ لم ينطقوا في ذلك عن جهلٍ أو نسيانٍ أو ذهولٍ وغفلةٍ أو قصورٍ في الفهم. وهذا هو معنى اعتقادِهم بعصمتهم في الجملة، ولا نقولُ ذلك جزافًا بل إنَّ نظرةً فاحصة ومتأنيِّة بل وعابرة في أحوال الشيعة وأحوال الرواة وأصحاب الأئمة (ع) وكيفية تعاطيهم مع أقوال الأئمة (ع) ومواقفهم يُفضي إلى الإذعان والجزم بما ذكرناه من اعتقادهم بعصمة الأئمة (ع) في الجملة، ومما يؤشِّر إلى ذلك بجلاء هو اعتقادهم بإمامة الإمام الجواد (ع) وأنَّ ما ينسبُه إلى الدين فهو حقٌّ رغم أنَّ عمره حين تسلُّمِه للإمامة لم يتجاوز الثامنة، وكذلك هو اعتقادهم في إمامة الإمام الهادي (ع) والذي لم يتجاوز عمره العاشرة حين تسلَّم زمام الإمامة الدينيَّة للشيعة، وكذلك هو الشأن في اعتقادهم بإمامة الإمام المهدي (ع) والذي لم يتجاوز السادسة حين اضطلع بدور الإمامة، فهؤلاءِ الأئمة الثلاثة كانوا كما كان سائر الأئمة (ع) يُفسِّرون القرآن ويُبينون تفاصيل الأحكام الشرعيَّة ويُجيبون على تساؤلات الناس في جزئيات المسائل الاعتقاديَّة وكان الشيعة -وفيهم العلماء والرواة وفيهم مَن عاصر الصادق والكاظم (ع)- يُذعنون إلى ما يصدرُ عن هؤلاء الأئمة (ع) دون أن يتطرَّق إليهم شكٌّ في أنَّهم قد أخطأوا في الفهم أو أنَّهم لا يُحيطون علمًا بما يقولون أو فاتهم من الحكمةِ والصواب ما يفوتُ العلماء من ذوي الأسنان فضلًا عمَّن هم في مثل سنِّهم. وهذا مؤشِّر واضحٌ وجليٌّ يُؤكد اعتقاد الشيعة في عصمة أئمتهم منذُ العهد الأول وإلا فلا مُسوِّغ لإعتقادهم بإمامة هؤلاء الأئمة الثلاثة وأنَّ ما يقولونه في مختلف الشئون الدينيَّة حقٌّ وصدقٌّ ودين، رغم أنَّ هذه الشئون هي مزلَّةُ الأقدام ومظنَّة الخطأ، فلماذا يعتقدُ الشيعة المعاصرون لهؤلاء الأئمة الثلاثة أنَّ كلَّ ما يصدر عنهم في مختلف القضايا الدينيَّة حقٌّ وصدقٌ ودينٌ لولا ايمانهم بعصمتِهم، إذ لو كانوا غيرُ مؤمنين بعصمتهم لاحتملوا أنَّهم قد أخطأوا في بعض ما يقولون ويشرحون ولما ساغ لهم الاحتجاج بأقوالهم والإذعان لهم والانقياد لأوامرهم واعتبارهم حجج الله عليهم على خلقه وأنَّ طاعتهم مفروضة رغم أنَّهم كانوا في عمر الصبى وكانوا يحتجُّون على خصومهم بأنَّ هؤلاء الأئمة الثلاثة مثلهم مثل عيسى ابن مريم الذي علَّمه الله الكتاب في المهد ومثل يحيى بن زكريا الذي آتاه اللهُ الحكمَ صبيا.
وخلاصة القول إنَّ دعوى عدم اعتقاد الشيعة الإماميَّة في القرون الثلاثة الأولى بعصمة الأئمة (ع) لمجرَّد أنَّ هذا المصطلح لم يكن شائعًا في عصرهم كشيوعه في العصور المتأخِّرة هذه الدعوى في غاية الوهن فإنَّ مناط النفي والإثبات ليس هو شيوع هذا المصطلح وعدم شيوعه بل المناط هو ملاحظة واقع ما عليه الشيعة من اعتقادٍ في أئمتهم (ع) فحيثُ إنَّ المُحرَز جزمًا انَّ عامَّتهم كانوا يعتقدون بأنَّ الأئمة الإثني عشر (ع) هم الهداة بعد رسول الله (ع) وأنَّ كلَّ ما يصدرُ عنهم في مختلف الشئون الدينيَّة فهو حقٌّ وصدقٌ ودين دون أنْ ينتابهم في ذلك أدنى شكٍّ أو ارتياب فهذا وحده كافٍ للتثبُّت من أنَّ عامَّة الشيعة كانوا معتقدين بعصمة الأئمة (ع) حتى لو سلَّمنا انَّهم لم يكونوا يتداولون هذا المصطلح في أدبياتهم. هذا أولًا
وثانيًا: إنَّ واحدًا من وسائل التثبُّت ممَّا كان عليه عامَّة الشيعة الإماميَّة من اعتقادٍ في أئمتهم هو مراجعة الروايات التي كان يتناقلُها رواتُهم وثقاتهم ويدونونها في مدوَّناتهم وأصولهم ويتداولونها في محافلهم ويستجيز الرواة روايتها ونقلها عن شيوخهم، إنَّ مَن يُراجع هذه الروايات يقفُ ليس على العشرات بل المئات من الروايات المتصدِّية لبيان ما عليه أئمة أهل البيت (ع) من كمالاتٍ، وهذه الكمالات المنصوصة بعضُها مُستلزمةٌ بنحو اللزوم البيِّن لعصمتِهم وبعضُها مستلزمةٌ لوجدانهم لما يفوقُ ملكة العصمة بمراتب.
ولولا خشيةُ الإطالة لاستعرضتُ جملةً وافرةً من هذه الروايات إلا أنِّي سوف أستعرضُ عددًا من عناوين أبواب هذه الروايات والتي لن يجدَ الباحثُ عناءً يُذكر في الوقوف عليها في كتب الحديث مثل كتاب الكافي وكتب الشيخ الصدوق وغيرها من المجاميع الروائية.
يتبع
تعليق