إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

(1) وغاب نجم الإمام!

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • (1) وغاب نجم الإمام!

    (1) وغاب نجم الإمام!

    بسم الله الرحمن الرحيم

    يتغنَّى الشيعة الإمامية الإثنا عشرية بإمامٍ ينسبون له كُلَّ كمال، وهو رَمزُ الإسلام، عليّ بن أبي طالبٍ عليه السلام، ثمَّ يتلوه الأئمة من ذرّيته، وآخرهم إمامٌ لا يُعلَمُ مَحَلُّه! غاب عنهم منذ قرون طويلة!

    تُثيرُ هذه العقيدة التعجُّبَ أحياناً عند المخالف لهم، حيث ينظر إلى شِدَّةٍ ما يواجهونه في أمور الدين والدنيا، فيخاطبهم قائلاً:

    تقولون أيها الشيعة أنّكم في زمن الغيبة الكبرى، فماذا تعني هذه الغيبة؟ هل غاب إمامكم عنكم فلا ترونه؟ أم ترونه وتكتمون الأمر فتبقونه سِرَّاً؟
    لماذا غاب إمامكم؟ وكيف يكون كالشمس الطالعة وهو مُختَفٍ عن الأنظار؟

    هل يخاف إمامكم أيها الشيعة؟ فعلامَ تقتدون بإمامٍ خائفٍ؟ وأيُّ فضلٍ له وأيُّ دور إن كان كذلك؟
    ألا يكون عاجزاً عن حفظ نفسه؟ فكيف ترجون وتأملون أن يحفظكم ويرعاكم؟ أم أنَّ تكليفكم أنتم هو حفظه ورعايته؟

    ما هو موقف الإمام منكم أنتم أيها الشيعة؟ هل يراكم شيعةً له حقاً وصدقاً؟

    وما هو دوركم في أيام غيبته؟ هل تَسعَون للتمهيد له؟ هل تظنون أنكم ستوطؤون له سلطانه؟ هل ستُعِدُّون له رايةً يستلَّمُها منكم فور ظهوره؟ وتكون جيوشكم بانتظاره؟
    أم أنَّ لكم دوراً آخر في أيام غيبته فلا يحتاجكم للتمهيد له؟

    ثم ما الذي سيفعلُه إمامُكم بعد ظهوره؟
    أيقدر على ما لم يقدر عليه كلُّ أنبياء الله تعالى وأوليائه؟ وفيهم خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وآله، وفيهم آباؤه وأجداده من الأئمة المعصومين عليهم السلام!

    هل دعوة إمامكم ستكون بالتي هي أحسن؟ أم هي دعوة السيف والقَسوَة؟

    هل تَعُمُّ العدالة في أيامه؟ فيقهر الكفار والمنافقين على الإيمان؟ فأيُّ فضلٍ لهم في إيمانهم؟
    وإذا كان خِتام البشرية قَهراً على الطاعة فَلِم لَم يكن بَدؤها كذلك؟

    هل يموت المهديُّ فتكتفي البشرية بما استفادته ثمَّ تكمل مسيرتها دون الحاجة لإمام؟

    أسئلة كثيرةٌ يُغرِقُنَا بها المخالف تارة، ويتفكّر فيها الموالي أخرى ليزيد معرفةً بإمامه، ويكون على بيّنة من أمره وبصيرة في دينه.

    لذا.. نتناول هذه الأسئلة وغيرها في سلسلة أبحاثٍ تحت عنوان (وغاب نجم الإمام!).

    صفات الإمام

    إنّ معرفة شيءٍ من صفات الإمام تصلُحُ لأن تكون (مَدخلاً) للإجابة على هذه التساؤلات.
    لقد روى الشيخ الكليني رحمه الله في الكافي الشريف حديثاً عظيم الشأن عن ثامن الأئمة المعصومين عليهم السلام يصف فيه الإمام بقوله:

    الإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ المُجَلِّلَةِ بِنُورِهَا لِلْعَالَمِ، وَهِيَ فِي الأُفُقِ بِحَيْثُ لَا تَنَالُهَا الأَيْدِي وَالأَبْصَارُ، الإِمَامُ البَدْرُ المُنِيرُ، وَالسِّرَاجُ الزَّاهِرُ، وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالنَّجْمُ الهَادِي فِي غَيَاهِبِ الدُّجَى (الكافي ج‏1 ص200).

    هكذا يعتقد الشيعة في الإمام، فهذه التشابيه والأوصاف الخمسة قد صدرت مِن معصومٍ باعتقادهم، وهم يرون أن للإمام بركاتٍ متكثّرةٍ عامةٍ وخاصّة، فمِن أوصافه:

    1. الإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ

    الإمام هنا في هذا الحديث (كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ)، وهي التي تَصِلُ أشعَّتُها ونورُها إلى كلِّ العالم، ويستفيد منها كلُّ مَن على وَجه البسيطة، وهكذا الإمام، فإنَّ خيرَهُ يصل للبرّ والفاجر، والمؤمن والكافر، ويبلغ مَن أقر بوجوده ومن أنكر، بحيثُ يطلُع عليهم كلهم نورٌ من نوره، وقَبَسٌ من مُحَيّاه.

    وهو في الوقت عينه كالشمس، من حيثُ كونه بَعيداً عن الأيدي والأبصار (وَهِيَ فِي الأُفُقِ بِحَيْثُ لَا تَنَالُهَا الأَيْدِي وَالأَبْصَارُ)، بحيثُ يُرى أثر الإمام، لكن لا تُدرَك حقيقته، حيث أنَّه أعظم من أن تصله أيدي المتناولين وأبصار الناظرين.

    وما رآه الناس من الإمام وما يرونه هو بَعضُ نوره وليس تمامه وكماله وكنه حقيقته، فنحن لم ننل جوهره وكنهه كما لا تَنالُ الأيدي والأبصار الشمس، وبه يحفظ الله الأرض والعباد والبلاد، وبه يُرشَدون ويهتَدون.

    إنَّ كلَّ مَن على الأرض من وَليٍّ ومؤمنٍ وعالمٍ وصِدِّيقٍ وعابدٍ، كلُّهُم يقتاتون على مائدة الإمام، ويتنعمون ببركته، ما منهم أحدٌ يزعم أنَّ له في الإمامة نصيباً أو يقرن نفسه بالإمام، إلّا ثلّة من قطّاع طريق العباد المؤمنين، يزعمون لأنفسهم مقاماً يجاورُ أو يجاوزُ مقام الإمام المعصوم، وهؤلاء شَرُّ خلق الله لأنَّهم تسمّوا بأسماء المعصومين عليهم السلام، وتلقَّبوا بألقابهم، وأخذوا أمكنتهم، وتأمَّروا في ممالكهم.

    2. الإِمَامُ البَدْرُ المُنِيرُ

    قد يتيسّر لنا أن نتلمَّسَ بعضاً من خصائص الإمام، ومن ذلك أنَّه عليه السلام أخذَ دورَ الشَّمس والقمر معاً، وهما يتبادلان الإنارة، فتُنير الشمسُ نوراً عامّاً في النهار، ولمَّا تغيب يأتي دورُ القَمَر، فلا تخلو الأرض من نورِ أحدهما.

    وهكذا لا تخلو الأرض من إمامٍ يكون باباً للهداية في كلِّ حينٍ وظَرف، ليلاً كان ذلك أم نهاراً، سراً كان أم جهاراً.

    3. السِّرَاجُ الزَّاهِرُ

    قال الله تعالى في وصف خاتم الأنبياء: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً﴾ (الأحزاب 45-46).

    فكان النبيُّ سراجاً مُنيراً في الآية، والإمامُ سراجاً زاهراً في الرواية، لأنَّ النبيَّ والإمامَ من نورٍ واحدٍ، هو أوَّلُ نورٍ خلقه الله سبحانه وتعالى قبل خلق الخليقة، وصار نوراً للهداية، يُشَبَّهُ تارةً بالشمس، وأخرى بالبدر، وثالثة بالسراج، فكم هو عاثر الحظ هذا الذي يتيه عن الشمس والقمر والسِّراج المنير، ويظلّ يعيش في ظلمات الجهل، ولا يتنعّم بنعمة النبوّة والإمامة، ولا ينهل من مَعين المعصومين عليهم السلام.

    كم هي ملوّثةٌ تلك النفس التي أعرضت عن أبواب رحمة الله تعالى، فكان صاحبها ممن استحبَّ العمى على الهدى.

    4. النُّورُ السَّاطِعُ

    لقد تحدَّثَت آيات الكتاب الكريم عن النور، وسئل الباقر عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿فَآمِنُوا بالله وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا﴾.
    فَقَالَ: يَا أَبَا خَالِدٍ، النُّورُ والله الأَئِمَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (ص) إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهُمْ والله نُورُ الله الَّذِي أَنْزَلَ، وَهُمْ وَالله نُورُ الله فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْض‏ (الكافي ج‏1 ص194).

    5. وَالنَّجْمُ الهَادِي

    في كلّ ظُلمَةٍ نَجِدُ نَجمَ الإمام هادياً، فليس في القِفَارِ والبحار مِن هادٍ كالإمام، والأئمة سلسلةٌ من النجوم الهداة، كما عن الباقر عليه السلام: إِنَّمَا نَحْنُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ كُلَّمَا غَابَ نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ.
    فلا تخلو سماء الهداية والمعرفة مِنهم، كلّما غاب إمامٌ طلع إمام، وكُلَّما غاب نجمٌ طلع نجم.

    ولكن، أين إمامنا نحن؟ وماذا أصابنا عندما انتقل إمامنا الحادي عشر إلى جوار ربه؟

    إِنَّمَا نَحْنُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ كُلَّمَا غَابَ نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ، حَتَّى إِذَا أَشَرْتُمْ بِأَصَابِعِكُمْ، وَمِلْتُمْ بِأَعْنَاقِكُمْ، غَيَّبَ الله عَنْكُمْ نَجْمَكُمْ.. (الكافي ج‏1 ص338).

    إنَّ الأئمة كالنجوم يتلو بعضهم بعضاً، فهم نجوم الهداية التي تأخذ بيد المؤمنين إلى طريق الحق، وهم باب الله الذي منه يؤتى، ولقد كانت الشيعة تنتظر إماماً يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وكان كثيرٌ منهم يُمَنُّون النَّفس بأن يكون إمام زمَانهم، الذي يعيش بين ظهرانيهم، هو الإمام الذي يجري الله تعالى ذلك على يديه، لكن الإمام كان ينفي ذلك، كما يروي عَبْد الله بْن عَطَاءٍ: قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (ع): أَخْبِرْنِي عَنِ القَائِمِ (ع).

    فَقَالَ: وَالله مَا هُوَ أَنَا وَلَا الَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ‏ أَعْنَاقَكُمْ (الغيبة للنعماني ص169).

    إنَّ مدَّ الأعناق هو نوعُ تَرَقٌّبٍ للإمام عليه السلام، بحيث كان الشيعة يتأمَّلون أن يكون إمامُ زمانهم هو الإمام الموعود الذي يملأ الأرض قِسطاً وعدلاً، لكنَّ الله تعالى جعله النجم الثاني عشر، ثمَّ شاء الله تعالى أن يغيب هذا الإمام عن الشيعة، فأوصى إلى سفيره قائلاً:

    فَاجْمَعْ أَمْرَكَ وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ يَقُومُ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ فَقَدْ وَقَعَتِ الغَيْبَةُ الثَّانِيَةُ «أو التامة» فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ الله عَزَّ وَجَلَّ (كمال الدين ج‏2 ص516).

    ولكن، لماذا غاب الإمام فلم نَعُد نرى نَجمَنا؟

    هذا ما نعرض له في البحث القادم إن شاء الله.

    والحمد لله رب العالمين.

    الثلاثاء 22 ذو القعدة 1441 هـ الموافق ‏14 - ‏07 - ‏2020 م.

  • #2
    (2) لماذا غاب الإمام؟
    بسم الله الرحمن الرحيم

    لقد سَخَّرَ الله تعالى لنبيِّه سليمان الريح والشياطين، وأعطاه ملكاً عظيماً جَمَعَ به سلطان الدُّنيا وخير الآخرة، ثم قال عزَّ وجلّ له: ﴿هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ (ص39).

    فخَوَّلَهُ أن يمنَّ أو يمسك كما يشاء، لذا كان للنبيِّ أن يعطي، وله أن يمنع، كما أنَّ له أن يعاقب، وله أن يعفو، حيث ورد عنهم عليهم السلام الاستدلال بالآية الكريمة على أنَّه: إِذَا كَانَ لِلْإِمَامِ الَّذِي مِنَ الله أَنْ يُعَاقِبَ فِي الله فَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ فِي الله (مناقب آل أبي طالب ج4 ص405).

    وهكذا سائر ما أعطى الله تعالى للأنبياء والأئمة عليهم السلام، فكلُّ ما تحت اختيارهم يكون لهم الخِيَرَةُ في بذله أو حجبه، قاصدين بذلك وجه الله تعالى، ومِن ذلك بعض مُفردات المعرفة والعقيدة أيضاً.

    فإنَّ الله تعالى بعدما أوجب على الناس السؤال: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾، أوجب على الأنبياء والأئمة أن يرشدوا الناس إليه، ويدلَّوهم عليه، إلا أنَّه لم يوجب عليهم كشف كلِّ ما علَّمَهم، ولم يُلزِمهُم الإجابة على كلِّ ما يُطرَح عليهم، بل أمرهم بمراعاة المصلحة في ذلك كلٌّ بحسبه.

    لذا لمّا سئل الإمام الرضا عليه السلام (حَقّاً عَلَيْكُمْ أَنْ تُجِيبُونَا؟) أجاب:
    لَا، ذَاكَ إِلَيْنَا، إِنْ شِئْنَا فَعَلْنَا، وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَفْعَلْ (الكافي ج‏1 ص210).

    فالإمام أعرَفُ بمصالح العباد منهم، لا يحجُبُ عنهم ما لا بدَّ من إظهاره، ولا يُطلعُهم على ما لا صلاح لهم في كشفه.

    وهذا معنىً عظيم ينبغي استحضاره كلَّما أردنا معرفة وجه الحكمة في أفعال الأئمة عليهم السلام، فهو مما يمكن معرفته حيناً ويمتنع حيناً آخر.

    وقَد سَرَت هذه القاعدة إلى مسألة غيبة الإمام الثاني عشر عليه السلام، ولطالما واجَهَ المؤمنون سؤالاً مهماً: لماذا غاب إمامكم أيها الشيعة؟
    وقد بَيَّنَ الإمامُ الصادق عليه السلام أنَّ تمام السبب والحكمة في غيبة المنتظر عليه السلام لا ينكشف ولا يُعرَفُ إلا بظهوره، وأنَّه سِرٌّ من الأسرار، فإنه لمّا سئل عن سبب الغيبة قال: لِأَمْرٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَنَا فِي كَشْفِهِ لَكُمْ.

    ولما سئل عن وجه الحكمة قال:
    وَجْهُ الحِكْمَةِ فِي غَيْبَتِهِ وَجْهُ الحِكْمَةِ فِي غَيْبَاتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ حُجَجِ الله تَعَالَى ذِكْرُهُ، إِنَّ وَجْهَ الحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ لَا يَنْكَشِفُ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ كَمَا لَا يَنْكَشِفُ وَجْهُ الحِكْمَةِ لمَّا أَتَاهُ الخَضِرُ (ع) مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الغُلَامِ وَإِقَامَةِ الجِدَارِ لِمُوسَى (ع) إِلَّا وَقْتَ افْتِرَاقِهِمَا.
    يَا ابْنَ الفَضْلِ إِنَّ هَذَا الأَمْرَ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ الله، وَسِرٌّ مِنَ الله، وَغَيْبٌ مِنْ غَيْبِ الله، وَمَتَى عَلِمْنَا أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَكِيمٌ صَدَّقْنَا بِأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا حِكْمَةٌ وَإِنْ كَانَ وَجْهُهَا غَيْرَ مُنْكَشِفٍ لَنَا (كمال الدين ج2 ص482).

    هكذا هم المؤمنون الموقنون بحكمة الله تعالى، يعتقدون جازمين أنَّ أمره تعالى لوليه بالاستتار لا يفارق الحكمة، فلا تُضعِفُهُم تشكيكات المشككين ولا تهزُّ عقيدتهم، سواءٌ وفَّقَهم الله للإجابة عنها أم عجزوا عن ذلك.

    رغم ذلك، كشف الأئمةُ عليهم السلام بعضَ وجوه الحكمة في غيبته، وإن ظَلَّ تمامُها خفيَّاً عنا وسيبقى حتى الظهور، فقد ورد في التوقيع الشريف للإمام الحجة عليه السلام بعدما أرجع الشيعةَ إلى الفقهاء ورواة الحديث لأخذ معالم الدين عنهم، قال عليه السلام:

    وَأَمَّا عِلَّةُ مَا وَقَعَ مِنَ الغَيْبَةِ فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾.
    إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آبَائِي إِلَّا وَقَدْ وَقَعَتْ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ، وَإِنِّي أَخْرُجُ حِينَ أَخْرُجُ وَلَا بَيْعَةَ لِأَحَدٍ مِنَ الطَّوَاغِيتِ فِي عُنُقِي..
    فَأَغْلِقُوا أَبْوَابَ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يَعْنِيكُمْ، وَلَا تَتَكَلَّفُوا عَلَى مَا قَدْ كُفِيتُمْ، وَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ بِتَعْجِيلِ الفَرَجِ (الغيبة للطوسي ص292).

    وقد جَمَعَ الإمام في التوقيع بين أمرين:

    الأمر الأول: النهي عن كثرة السؤال عما لا يعني، تجنّباً لآثاره، وتَخَلُّصاً مما قد يكون في معرفته أذيَّة للمؤمنين، فيكون في ستره عليهم كلُّ الخير لهم والصلاح.

    الأمر الثاني: إظهار بعض الحِكَم من الغيبة، لئلا يغفل الشيعة عن كلِّ وجوه الحكمة في فعل إمامهم، ويضعفوا أمام أعدائهم، سيَّما مَن لم يُحكم عقيدته منهم.

    وقد أشارت أحاديث كثيرة إلى هذا الأمر، كالحديث الذي روي عن الإمام الحسن عليه السلام حين قال:
    أَ مَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَيَقَعُ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ إِلَّا القَائِمُ الَّذِي يُصَلِّي خَلْفَهُ عِيسَى (ع)، فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُخْفِي وِلَادَتَهُ وَيُغَيِّبُ شَخْصَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ‏ (كفاية الأثر ص225).

    فإنَّ الأمة لمّا تخاذلت عن نصرة إمامها ولا تزال، أخفاه الله تعالى عن أعينهم، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: اعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ لله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنَّ الله سَيُعْمِي خَلْقَهُ عَنْهَا بِظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ وَإِسْرَافِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ (الغيبة للنعماني ص141).

    الإمامُ مُبصِرٌ لا يوصفُ بالعمى، فهو نورُ الله الذي ينير الله به سماواته وأرضه.
    والإمامُ يرى الخلقَ مَن آمَن منهم به ومَن كَفَر، لكنَّ العمى إنما أصابهم هم.

    لقد انكشف لنا كأمَّةٍ أنَّ العمى قَد أصابنا بغياب الإمام، فكما كان هو العادل وكُنَّا من أهل الظُّلم، كان هو المُبصر ونحنُ من أهل العمى، ولولا ذلك لما غيَّبَهُ الله تعالى عنا.

    ما استحقَّت الأمم بقاء الإمام وظهوره، فعن الباقر عليه السلام: إِذَا غَضِبَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ نَحَّانَا عَنْ جِوَارِهِمْ (الكافي ج1 ص343).

    وقد أشار الصادق عليه السلام إلى أن أشد غضب الله تعالى على أعدائهم يكون عند افتقادهم حجته (الكافي ج1 ص333).

    لقد اختارت البشريَّةُ طريقاً تُغضِبُ الله تعالى به، بقتلها الأنبياء والأولياء والأوصياء، فغضبَ الله تعالى عليها، وغيَّبَ عنها خاتم الأوصياء، بعدما ظُلِمَ وآباؤه أشد الظُّلامات، حتَّى أن الأمة لا تزالُ مصمِّمَةً على قتله لو ظهر، فكان خوفه من القتل وجهاً آخر أبرزه الأئمة كحكمةٍ من حكم الغياب.

    فعن الصادق عليه السلام: إِنَّ لِلْقَائِمِ (ع) غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ.. إِنَّهُ يَخَافُ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ، يَعْنِي القَتْلَ (الكافي ج1 ص338).

    لقد ضحت البشريَّةُ بالأئمة الاثني عشر قرابين على مذبح الأبالسة، من شياطين الجن والإنس، واتَّفَقَت كلمتهم على ظلمهم أو الرضا بالظلم والسكوت عنه، عدا فئة قليلة لا حول لها ولا قوة.

    فشاءت إرادة السماء أن تحفظ آخر الأئمة عليهم السلام من القتل ليكمل المسيرة، وكان في حفظه حفظ حقِّهِ وحقّ المخلصين من هذه الأمة.

    إن المؤمن يؤمنُ بأنَّ كل ما يواجهه ويقع عليه خارجاً عن اختياره يكون فيه صلاحه، حتى أنَّ الإمام الحسن عليه السلام لما لامَهُ بعضُ الناس على صلحه مع معاوية قال لهم:

    وَالله، الَّذِي عَمِلْتُ خَيْرٌ لِشِيعَتِي مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ، أَ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّنِي إِمَامُكُمْ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ عَلَيْكُم‏ (كمال الدين ج1 ص316).

    فإنَّ الإمام يلحظُ مصلحة الشيعة وهو غائبٌ كما يلحَظُها وهو حاضرٌ، وإن خفيَ عنهم وجه الصلاح في فعله عليه السلام.
    وليس إيمانُ المؤمنين بحكمةِ الخضر أعظم من إيمانهم بحكمة الإمام، وهو سرُّ الله تعالى ونوره ومظهر علمه وقدرته.

    والحمد لله رب العالمين

    الثلاثاء 7 ذو الحجة 1441 هـ الموافق ‏28- ‏07 - ‏2020 م

    شعيب العاملي

    تعليق


    • #3
      اللهم عجل لوليك الفرج

      تعليق


      • #4

        (3) هل (يخافُ) الإمام الغائب؟

        بسم الله الرحمن الرحيم

        يروي الشيعةُ عن الأئمة المعصومين عليهم السلام رواياتٍ تفيد أنَّ الإمام المنتظر قد غاب خوفاً من القتل.

        يسمعُ المخالف كلامَهم، فيقول:

        هل يخاف إمامُكم أيها الشيعة؟ فَعَلامَ تَقتَدُون وتعتَقِدُون بإمامٍ خائفٍ؟ وأيُّ فضلٍ له إن كان كذلك؟ ألا يكون عاجزاً عن حفظ نفسه؟ فكيف ترجون وتأملون أن يحفظكم ويرعاكم؟

        وهَل يجتمعُ خوفُ الإمام مع كماله وعصمته؟
        ألا ينبغي أن يكون قلبُ الإمام طافحاً بالإيمان مطمئناً بدلاً من أن يكون خائفاً؟

        أسئلةٌ كثيرةٌ يطرحها المخالف في المذهب أو الدين.. فما هو موقف الشيعة منها؟

        1. خوف المؤمنين

        لقد نفى الله تعالى الخوفَ عن المؤمنين يوم القيامة حينما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة 277).
        وقال تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس 62).

        لقد نَفَت هذه الآيات المباركة خوفَ الأولياء والمؤمنين في الآخرة، عندما تحين ساعة الأجر والثواب على ما قدَّموا في الدُّنيا، وقد قال تعالى عن يوم الحساب: ﴿يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ (الزخرف68).
        فلا خوفَ على المؤمنين يوم القيامة من سوء المنقلب، حيث تنتظرهم جنّاتٌ أُعِدَّت لهم، وهو لا يتنافى مع خوفِهم في الدُّنيا.

        وقد نطقَت آيات الكتاب الكريم بمدح الخائفين في الدُّنيا من يوم الحساب، فإنَّهم يخافون من يوم الجزاء وهم في دار الامتحان، قال تعالى: ﴿رِجالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصارُ﴾ (النور37).

        فلَم يكُن الخوف مذموماً مُطلقاً، بل إنَّ الخوفَ في الدُّنيا من يوم الجزاء مقدَّمةٌ للأمن فيه من العذاب.
        قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى‏ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الأنعام51).
        بل ذمَّ عزَّ وجل الذين لا يخافون ذلك اليوم: ﴿كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الآخِرَةَ﴾ (المدثر53).

        2. خوف الأنبياء

        ثمَّ إنَّه قد دلَّت جملةٌ من الآيات والروايات على خوف الأنبياء في مواطن عدَّة، منها:

        1. خوف النبي إبراهيم عليه السلام من الملائكة ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ (هود 70).

        2. خوف النبي يعقوب على يوسف عليهم السلام: ﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ (يوسف 13).

        3. خوف موسى وهارون عليهما السلام لما أُمِرا بالذهاب إلى فرعون: ﴿قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ (طه46).

        4. خوف موسى عليه السلام أمام السحرة: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى﴾ (طه67-68).

        5. خوف موسى من التكذيب والقتل: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ (الشعراء12-14).

        6. خوف موسى وترقبه القتل: ﴿فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ إلى قوله تعالى ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (القصص21).
        وقد روي أنَّ في الإمام الحجة سُنَنٌ من الأنبياء منها سُنَّةٌ من موسى وأنَّه (خَائِفٌ يَتَرَقَّبُ) (الإمامة والتبصرة ص94).
        ومثلها قوله تعالى عن لسان موسى عليه السلام: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ﴾ (الشعراء21).
        وقد روي عن الصادق عليه السلام أنَّ الإمام الحجة يقرأ هذه الآية في غيبته وعند ظهوره (الغيبة للنعماني ص174).

        7. خوف النبيّ محمد (ص) بمكة، فعن الصادق عليه السلام: اكْتَتَمَ رَسُولُ الله (ص) بِمَكَّةَ مُسْتَخْفِياً خَائِفاً خَمْسَ سِنِينَ لَيْسَ يَظْهَرُ وَعَلِيٌّ (ع) مَعَهُ وَخَدِيجَةُ، ثُمَّ أَمَرَهُ الله تَعَالَى أَنْ يَصْدَعَ بِمَا يُؤْمَرُ فَظَهَرَ وَأَظْهَرَ أَمْرَهُ (الغيبة للطوسي ص332).

        3. كيف يخاف الأنبياء؟

        ثمَّ إنَّ السؤال ينقلب إلى جهةٍ أخرى، إذ كيف نُوَجِّه خوف هؤلاء الأنبياء جميعاً، وهو ليس خوفاً من يوم الجزاء كخوف المؤمنين من الحساب.
        وكيف نفهمُ خوف إبراهيم من الملائكة، وخوف يعقوب على يوسف من الذئب، وخوف وموسى وهارون من طغيان فرعون، ومن التكذيب والقتل، وخوف النبي محمد (ص) في مكة خمس سنين.

        ثم كيف يجتمع ذلك مع نفي الله تعالى خشية الأنبياء من كلِّ أحدٍ سواه، قال تعالى: ﴿الَّذينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله وَكَفى‏ بالله حَسيباً﴾ (الأحزاب39)

        وقال تعالى في مقام ذمِّ الذين يخشون الناس كخشية الله: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إِذا فَريقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى‏ أَجَلٍ قَريبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَليلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى‏ وَلا تُظْلَمُونَ فَتيلاً﴾ (النساء77).

        وقد نهى الله تعالى عن الخوف مَن تتنزل عليهم الملائكة، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت30).
        وثبت أنَّ الخشية هي الخوف كما في كتاب العين ج‌4 ص284‌.

        فكيف يخشى الأنبياء أحداً غير الله تعالى ويخافونه؟ سيَّما إذا فُسِّر الخوف بالفزع والذعر:
        الخوف: الفزع (المحيط في اللغة ج‌4 ص423).
        الذُّعْرِ والفزَع (معجم مقائيس اللغة ج‌2 ص230).

        يرتفعُ اللبس والإبهام عندما نعلَم أن للخوفِ والخشية أكثر من معنى، فإنَّهما وإن كانا يدلّان على الفزع والذُّعر، إلا أن الأنبياء والأولياء والصالحين لمّا كانوا ممّن لا يخشون أحداً إلا الله تعالى، أي لا يفزعون من أحدٍ سواه، ولا يخافون إلا منه تعالى، تَعَيَّن حملُ الخوف والخشية التي وردَت في الأنبياء على معنى آخر ورد في اللغة، حيث يصير معنى (الخوف) مساوقاً (للعلم).

        قال ابن فارس:
        الخاء والشين والحرف المعتل يدلُّ على خَوف وذُعْر، ثمّ يحمل عليه المجاز. فالخَشَية الخَوْف.. والمجاز قولهم: خَشِيت بمعنى عَلِمت.
        ولقد خَشِيت بأن مَن تَبِعَ الهُدى *** سكَنَ الجِنَانَ مع النبيِّ محمدٍ (معجم مقائيس اللغة ج‌2 ص184‌)

        وقال الراغب:
        الخَوْف: توقّع مكروه عن أمارة مظنونة، أو معلومة.. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا تُقْسِطُوا﴾ [النساء/3]، وقوله:﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقٰاقَ بَيْنِهِمٰا﴾ [النساء/35]، فقد فسّر ذلك بعرفتم (مفردات ألفاظ القرآن ص303)

        فيكون الخوفُ في هذه الآيات هو العلم بالعاقبة، أو توقُّعُ ما يكون مكروهاً.

        وهكذا لا يكون خوفُ الأنبياء من تلك الأحداث خوفَ فَزَعٍ وذُعرٍ، بل يعني عِلمَهم بما يجري، أو ترقُّبهم لأحداثٍ جسيمة أو أليمةٍ أو مؤذية.

        قال ابن منظور:
        والخَوْفُ: العِلْم، وبه فسر اللحياني قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خٰافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً وَإِنِ امْرَأَةٌ خٰافَتْ مِنْ بَعْلِهٰا نُشُوزاً أَوْ إِعْرٰاضاً﴾ (لسان العرب، ج‌9، ص: 100).

        وشواهدُ هذا المعنى في الآيات كثيرةٌ منها ما تقدَّم، وفي الروايات أكثر، منها ما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام:

        وَأَمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلَالَتَهُ، فَإِنَّ الكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلَالِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الأَهْوَالِ (نهج البلاغة ص392).
        وليس الخوف هنا هو الفزع والرُّعب جزماً، إنما هو توقُّعُ وترقُّب الضلال، أو العلم به، أو الترقُّبُ مع العلم، فيلزم على العاقل أن يجتنب الطريق الذي يحتمل فيه الضلال، ولو لم يحصل عنده خوف بمعنى الفزع والرُّعب.

        وعنه عليه السلام:
        إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَيْنِ: اتِّبَاعَ الهَوَى وَطُولَ الأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الهَوَى فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَنِ الحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ (المحاسن ج1 ص211).
        ولم يكُن خوفُ أمير المؤمنين عليه السلام سوى علمه بما يؤدي إليه اتباع الهوى وطول الأمل، وترقُّبُ البُعد عن الحقِّ لمن اتبع هواه وطال أمله.

        ومثله حديث الإمام الرضا عليه السلام:
        إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ اسْتِخْفَافاً بِالدِّينِ.. (صحيفة الإمام الرضا عليه السلام ص78).
        فليس خوفه عليه السلام هنا خوفَ فزعٍ ولا رُعب، بل هو عِلمٌ بما سيقدمون عليه من استخفافٍ بالدين، وعِلمٌ بما سيترتب على ذلك من آثار.

        بل قيل أنَّ الخوف من الله تعالى لا يراد منه الرُّعب أيضاً بل الكف عن المعاصي، قال الراغب:
        والخوف من اللّه لا يراد به ما يخطر بالبال من الرّعب، كاستشعار الخوف من الأسد، بل إنما يراد به الكفّ عن المعاصي واختيار الطّاعات، ولذلك قيل: لا يعدّ خائفا من لم يكن للذنوب تاركا (مفردات ألفاظ القرآن ص303).

        ولا يبعد صحة هذا التفسير، فعن الصادق عليه السلام فِي قَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ‏ جَنَّتانِ﴾:
        مَنْ عَلِمَ أَنَّ الله يَرَاهُ وَيَسْمَعُ مَا يَقُولُ، وَيَعْلَمُ مَا يَعْمَلُهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَيَحْجُزُهُ ذَلِكَ عَنِ القَبِيحِ مِنَ الأَعْمَال،‏ فَذَلِكَ الَّذِي خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوى‏ (الكافي ج‏2 ص70).

        4. كيف يخاف الإمام المهدي؟

        إذا تبيَّن ذلك نقول:

        لقد دلَّت الأحاديث الشريفة أنَّ وجه الحكمة في غيبة الإمام لا ينكشف إلا بعد ظهوره، وأنَّ الله تعالى لم يأذن للأئمة عليهم السلام في كشف العلَّة التامة لغيبته عليه السلام، فعلمنا أنَّ ما ذُكِرَ من خوفه القتل وسواه ليس السببَ التامّ في غيبته عجّل الله تعالى فرجه، وإن كان جزء علَّةٍ أو حكمةً للغيبة.

        عن الصادق عليه السلام: إِنَّ لِلْقَائِمِ (ع) غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ.. إِنَّهُ يَخَافُ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ، يَعْنِي القَتْلَ (الكافي ج1 ص338).

        فإنَّ الإمام يخافُ على نفسه القتل، أي يعلم بأنَّه سيُقتل كما قُتِلَ آباؤه من قبل لولا غيبته، فغاب بأمر الله تعالى حفظاً لنفسه الشريفة، لأنَّ بقتله وهو آخر الأئمة المعصومين فناءُ الأرض بأهلها، فإنَّ الأرضَ تسيخُ بمن فيها لولا الحجَّة.
        فكان في غيبة الإمام حفظُ الأرض ومَن عليها، ولَم يكُن خوفُهُ القتلَ يعني شيئاً سوى علمه بأنه سيُقتل.

        وقد يُشعِرُ بهذا المعنى ما دلَّ من الروايات الشريفة على أنَّ الله تعالى لا يخلي الأرض من حجة، يكون تارةً ظاهراً، وأخرى يكون (خَائِف مَغْمُور) أو (مُكْتَتَم يُتَرَقَّبُ)، حيث يراد من الخوف هنا العلم بالقتل وترقُّبه لولا الغيبة.

        ولا يراد من الترقُّب ترقُّبُ أمرٍ مجهول، فقد استعمل الترقُّب في آيات عدّة فيما يعلم وقوعه، ومنها:
        قوله تعالى لشعيب عليه السلام: ﴿وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ (هود 93).
        وقوله تعالى: ﴿ارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ (الدخان10)، وهو معلوم التحقق والوقوع.

        ولذا فإنَّ قولنا بأن الإمام خافَ القتل يعني عَلِمَ بمصيره لو ظهر، فغاب حتى لا يُقتل، دون أن يعني الفزع والرعب والذعر.

        وعلى كلِّ تقدير..

        ليس الإمام خائفاً خوفاً يتوهمه الجهال..

        والإمام قادرٌ على حفظ نفسه بالإعجاز، وبالولاية التي أعطاه الله إياها، كما النبي أيام استتاره وعدم ظهوره، لكن سنة الله التي أبت أن تجري الأمور بغير أسبابها اقتضت الصبر على هؤلاء وإمهالَهم.

        إنَّ قلبَ الإمام هو مصدر الإيمان للمؤمنين، وهو الذي يفيض سكينة على المحبين والموالين.. فلا يتوهمنَّ متوهمٌ أن الإمام يفزعُ ويخشى أحداً إلا الله.

        والثمرة ممّا تقدَّم..

        أنَّه حيث ثبت الخوف للأنبياء والأئمة عليهم السلام، ولم يكن لائقاً بمكانتهم وشأنهم، ولا متناسباً مع خوفم من ربهم دون سواه، لزم تفسيره بترقّبهم وانتظارهم لما يعلمونه من مآل الأمور، لا بفزعهم ورعبهم وذعرهم.

        وعليه يحمل ما ورد أنَّ النبي (ص) اكتتم بمكة: مُسْتَخْفِياً خَائِفاً خَمْسَ سِنِينَ لَيْسَ يَظْهَرُ.

        فقد كان ذلك بأمر الله تعالى، لعلمه بمآل الظهور والخروج، وأن ليس يتحقق الغرض الإلهي بتعجيل ذلك، وأنَّ لذلك وقتاً.. فانتظر صلى الله عليه وآله أمر الله تعالى حتى صدع وانتشرت دعوته.

        لم يكن الرسول صلى الله عليه وآله مرتعباً ولا مذعوراً، وهو أعظم عارفٍ بالله تعالى ومُسَلِّمٍ له أمره، هو الذي ينام ولا ينام قلبه، فأنى لهذا القلب أن يفزع ويذعر لخشية أحدٍ غير الله تعالى؟!
        وليس الإمام المنتظر مخالفاً لسنته تلك، ولا حائداً عن طريقته.

        إنَّ إمامنا غائبٌ بأمر الله تعالى، عالمٌ بنا وبظروفنا، يرتقب أمر الله تعالى فلا يصدع إلا عنه، وليس في ذلك نقصٌ في الإمام الكامل العالم العارف، ولا في شيعته الموقنين به وبمكانته.. بل تمام الكمال والإنقياد لله تعالى.

        والحمد لله رب العالمين

        الثلاثاء 14 ذو الحجة 1441 هـ الموافق 4-8-2020 م

        تعليق


        • #5

          (4) ما فائدة الإمام الغائب؟

          بسم الله الرحمن الرحيم

          الإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ المُجَلِّلَةِ بِنُورِهَا لِلْعَالَم‏..

          هذه هي عقيدةُ الشيعة في الإمام، يتميَّزون بها عن سائر فِرَق المسلمين، ويعتقدون أنَّ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّة (كفاية الأثر ص296).

          يطرح المنكرُ لهذه العقيدة والجاحدُ بها، على المؤمنين سؤالين في غاية الأهمية:

          أوَّلهما: ما هي فائدة الإمام الغائب؟ وأين نوره؟ وكيف يستفيد الناس منه؟
          ثانيهما: كيف يكون الإمامُ حجَّةً لله تعالى وهو غائبٌ عنكم أيُّها الشيعة وعن سواكم؟

          1. كيف يستفيدُ الناس من الإمام؟

          أوَّلُ الأسئلة: ما فائدة الإمام الغائب؟

          سُرعان ما يجدُ المؤمن ضالَّتَهُ في حديث النبيِّ صلى الله عليه وآله لجابرٍ، حين سأله عن انتفاع الشيعة بالإمام الغائب، فقال (ص):
          وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ، إِنَّهُمْ لَيَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِ‏، وَيَنْتَفِعُونَ بِوَلَايَتِهِ فِي غَيْبَتِهِ، كَانْتِفَاعِ النَّاسِ بِالشَّمْسِ إِنْ سَتَرَهَا سَحَاب (كفاية الأثر ص55).

          ومثله جوابُ الإمام الصادق عليه السلام حين سُئِل: كَيْفَ يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِالحُجَّةِ الغَائِبِ المَسْتُورِ؟
          فأجاب (ع): كَمَا يَنْتَفِعُونَ بِالشَّمْسِ إِذَا سَتَرَهَا السَّحَابُ (الأمالي للصدوق ص186).

          من هنا يُدركُ المؤمنُ جملةً من بركات وثِمار وجود الإمام، منها:

          1. الثمرة الأولى: أمانٌ لأهل الأرض، في عالم التكوين

          يحاولُ المؤمنُ أن يتدبَّرَ في حديث النبيِّ صلى الله عليه وآله، فما هي فائدة الشَّمس المستورة بالسحاب؟
          هل تمنعُ السَّحابُ كلَّ تأثيرٍ للشَّمس، فتنعدمُ كلُّ فائدةٍ لها؟ أم أنَّ هذا القول فاسدٌ بالوجدان؟

          هل تحجبُ الغيومُ نور الشَّمس حتى كأنَّها لم تكن؟ أم تحجب منها جزءاً ويصل للأرض جزءٌ آخر يساهم في الحفاظ عليها ويؤثِّرُ في استقرارها؟

          ليس خفيّاً أنَّ النهار لا يصيرُ ليلاً عندما تسترُ الغيومُ الشمس، وأنَّ الأرض تظلُّ تنعمُ بفوائدها، وكذا الإمام.. وهو نورُ الله في الأرض، وهو الذي يسترشد به المؤمنون، فلا يضيرُه أن يُغطِّيه شيءٌ من السحاب، إذ لا يحجب السحابُ كلَّ نور الشمس.

          بل إنَّ في بقاء الشمس ولو مستورةً بالغيومُ بقاءَ الأرض بأكملها، فلو انعدمت الشمس تماماً، وانقلب النَّهارُ ليلاً، لفسدت الحياة على وجه البسيطة، وما أمكن للإنسان أن يحيا عليها.

          إنَّ درجة الحرارة تنخفضُ بشكل هائل لولا الشمس، حتى تصيرَ الأرضُ كتلةً جليديةً خلال أيام قليلة، ولن يبقى فيها أثرٌ للإنسان أو الحيوان أو النبات..

          فأوَّلُ الثِّمارِ من وجود الإمام تكوينيٌّ إذاً، ولئن كانت الأرض لا تحيا بغير الشَّمس إلا وقتاً يسيراً، وسُرعان ما تنعدمُ الحياة فيها، فإنَّها لا تحيا دون الإمام لحظةً واحدة، كما قال الإمام الرضا عليه السلام: لَوْ خَلَتِ الأَرْضُ طَرْفَةَ عَيْنٍ مِنْ حُجَّةٍ لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا (بصائر الدرجات ج1 ص489).

          وعن الباقر عليه السلام: لَوْ أَنَّ الإِمَامَ رُفِعَ مِنَ الأَرْضِ سَاعَةً لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا، وَمَاجَتْ كَمَا يَمُوجُ البَحْرُ بِأَهْلِه‏ (الغيبة للنعماني ص139).
          هكذا يفهم المؤمنُ قولَ الإمام الحجة عليه السلام: وإِنِّي لَأَمَانٌ لِأَهْلِ الأَرْض‏ (كمال الدين ج2 ص485).

          وهكذا تُحفَظُ الأرض بوجود الإمام، لأنَّه يمثِّل حجة السماء، والله تعالى لا يُبقي الأرض لحظةً بلا حجَّة.

          2. الثمرة الثانية: هداية الناس لله

          وكما أنَّ الأثرَ الأوَّلَ خفيٌّ لا يراه العباد، كذلك للإمام أثرٌ في عالم الهداية والإرشاد مع غيبته، لا يراه غالبُ النّاس، وإنَّما يتلمَّسُ أثرَه الساعون لإرشاد عباد الله، حيث يرون الظروفَ كلَّها معاكسةً لهم بشكل عجيب، ثم يرون فلاحاً ونجاحاً وتوفيقاً لا يناسب موازين الأسباب الظاهرة، فيدركون أنَّ الإمام هو الذي يُدَبِّرُ الأمور، والإمامُ يَدُ الله تعالى.

          الله تعالى يهدي العبادَ بالإمام، ويسهِّلُ لهم سبل الرشاد، والأسبابُ في ذلك تكون خفيَّةً لا يراها كلُّ أحد.
          وهو معنى قول الصادق عليه السلام: إِنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو إِلَّا وَفِيهَا عَالِمٌ، كُلَّمَا زَادَ المُؤْمِنُونَ شَيْئاً رَدَّهُمْ، وَإِنْ نَقَصُوا شَيْئاً تَمَّمَهُ لَهُمْ (بصائر الدرجات ج1 ص331).

          وفي الروايات الشريفة أنَّه لولاه عليه السلام لاختلطت والتَبَسَت على الناس أمورهم، ولم يُعرف الحق من الباطل.
          وفي الحديث: وَالله مَا تَرَكَ الله الأَرْضَ مُنْذُ قَبَضَ الله آدَمَ إِلَّا وَفِيهَا إِمَامٌ يُهْتَدَى بِهِ إِلَى الله، حُجَّةً عَلَى العِبَادِ، مَنْ تَرَكَهُ هَلَكَ، وَمَنْ لَزِمَهُ نَجَا، حَقّاً عَلَى الله (المحاسن ج1 ص92).

          إنَّ مُلازمةَ الإمام تعني ملازمةَ نهجه وطريقه، فليس المعاصرُ للإمام الحاضر ملازماً له من حيث المكان والظهور والخفاء، بل ملازمٌ لنهجه، مُتَّبِعٌ لأمره، يعلمُ أن في تركه الهلاك وفي اتِّباعه النجاة والرشاد، وقد يعجزُ كثيرٌ من أصحاب الأئمة عليهم السلام عن رؤية الإمام الذي كانوا في أيامه ومع ذلك لا يتركونه ولا يفارقون نهجه وسبيله.

          وفي الحديث: لَنْ تَخْلُوَ الأَرْضُ مِنْ حُجَّةٍ عَالِمٍ يُحْيِي فِيهَا مَا يُمِيتُونَ مِنَ الحَقِّ (بصائر الدرجات ج1 ص487).
          هو الذي: يَدْعُو النَّاسَ إِلَى سَبِيلِ الله (الكافي ج1 ص178) سواءٌ تلمَّسنا ورأينا أثراً لدعوته وهو حاضر، أو كان ذلك خفياً علينا وهو غائب.. سواءٌ علمنا كيف يُبقي شعلةَ الحقِّ وقّادةً في أسوأ الظروف، أم غفلنا عن ذلك وغاب عنا وجهه.

          3. الثمرة الثالثة: رعاية أوليائه

          بعدما حَفِظَ الإمامُ الأرض بوجوده، وحَفِظَ باب الهداية وأبقاه جليّاً للناس كافَّةً، اهتمَّ عليه السلام اهتماماً خاصاً بالفئة التي آمنت به، واتَّخذته إماماً، وأطاعت أمرَه.

          إنَّ هذه الفئة كانت ولا زالت قليلةً لا حولَ لها ولا قوَّة، تكالَبَت عليها الأمَم، سيَّما الحُكّام الظلمة، أعداءُ آل محمدٍ عليهم السلام.
          إنَّ مقدار عداوة أعداء الله لأوليائه مَهولٌ وعجيب، وهو يقتضي وفق قوانين الأسباب أن يستأصل المخالفون المؤمنينَ عن وجه الأرض، ولا يبقوا لهم من باقية.

          لكنَّ الإمام عليه السلام، وهو بابُ الله، يعلمُ أنَّ الحقَّ محصورٌ بهؤلاء، ولو أُبيدوا عن وجه الأرض لاندرس الحق تماماً، فأحاطهم برعايته، وحفظهم بحفظ الله تعالى.

          وهو ما عبَّرَ عنه الإمام في توقيعه الشريف:

          نَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَائِينَ بِمَكَانِنَا النَّائِي عَنْ مَسَاكِنِ الظَّالِمِينَ، حَسَبَ الَّذِي أَرَانَاهُ الله تَعَالَى لَنَا مِنَ الصَّلَاحِ وَلِشِيعَتِنَا المُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ، مَا دَامَتْ دَوْلَةُ الدُّنْيَا لِلْفَاسِقِينَ:
          فالإمام نأى عنَّا لما فيه صلاحُهُ وصلاحُنا، وإن جَهِلنَا الوجه في ذلك.

          فَإِنَّا نُحِيطُ عِلْماً بِأَنْبَائِكُمْ، وَلَا يَعْزُبُ عَنَّا شَيْ‏ءٌ مِنْ أَخْبَارِكُمْ..
          الإمام غائبٌ عنَّا وليس بغائب: غائبٌ ببدنه الشريف عن المؤمنين، حاضرٌ بعلمه واطلاعه ومتابعته لأمورهم..

          يقول عليه السلام:
          إِنَّا غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلَا نَاسِينَ لِذِكْرِكُمْ، وَلَوْ لَا ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمُ اللَّأْوَاءُ، وَاصْطَلَمَكُمُ الأَعْدَاءُ (الإحتجاج ج‏2 ص497).

          أي أنَّه لولا رعاية الإمام للمؤمنين لنزلت بهم شِدَّةٌ تفوق ما نزل بهم فعلاً، ولضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت، ولاجتثَّهم أعداؤهم عن وجه الأرض، واستأصلوهم عن بكرة أبيهم.

          4. الثمرة الرابعة: قرب المؤمنين من الإمام بعد الامتحان

          إنَّ في غيبة الإمام امتحانٌ للعباد قاطبةً، لكنَّ الظَّفَرَ والفوزَ يكون للشيعة المؤمنين بالإمام، بحيث ينالون القُربَ من الله تعالى.
          فإنَّ المُسَلِّمَ لإمامِه مع غيبته ممتثلٌ لأمر الله تعالى فيه، دون سائر الخلق.

          لذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام:
          أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العِبَادُ مِنَ الله جَلَّ ذِكْرُهُ، وَأَرْضَى مَا يَكُونُ عَنْهُمْ، إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّةَ الله جَلَّ وَعَزَّ، وَلَمْ يَظْهَرْ لهمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَكَانَهُ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ تَبْطُلْ حُجَّةُ الله جَلَّ ذِكْرُهُ وَلَا مِيثَاقُهُ، فَعِنْدَهَا فَتَوَقَّعُوا الفَرَجَ صَبَاحاً وَمَسَاءً.

          هذه الفئة الأولى من الناس.. المؤمنون الذين ما شكوا بالإمام لحظةً، لأنَّ الشكَّ بالإمام شكٌّ بالله وحكمته وحجَته، فالإمامُ حجَّةُ الله، ولولا وجوده لما كانت حجَّةُ الله تامَّة.

          والفئة الثانية أعداء الإمام وأعداء الله:
          إِنَّ أَشَدَّ مَا يَكُونُ غَضَبُ الله عَلَى أَعْدَائِهِ إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّتَهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُم‏، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَا يَرْتَابُونَ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَرْتَابُونَ مَا غَيَّبَ حُجَّتَهُ عَنْهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ (الكافي ج1 ص333).

          هؤلاء قد بلغوا من المعرفة ما لم يبلغها سواهم، فغيرُهم آمَنَ بعدما رأى، وهم آمنوا بدلائل العقول، والحججِ والبراهين دون أن يروا الإمام، حتى قال عنهم الإمام عليه السلام:

          إِنَّ أَهْلَ زَمَانِ غَيْبَتِهِ، الْقَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ، وَالمُنْتَظِرِينَ لِظُهُورِهِ، أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ، لِأَنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ وَالمَعْرِفَةِ مَا صَارَتْ بِهِ الْغَيْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ المُشَاهَدَة (كمال الدين ج‏1 ص320).

          هي منزلةٌ عظيمةٌ بلغها المنتظرون، فإنَّهم وإن تشوَّقوا إلى رؤية إمامهم عليه السلام، إلا أنَّ يقينهم بإمامهم لا يتوقَّف على رؤيته، فالغياب كالحضور عندهم من حيث اليقين والاعتقاد، وإن كان للحضور ثمارُه وفرحته وسروره، ففيه غاية المنى.

          وليس هؤلاء ممَّن يبحثون عن شخصٍ ينصبونه دونَ الحجَّة، فإنَّ عقيدتهم في الحجَّة عظيمةٌ حتى كأنَّهم يرونه مع غيابه.
          أما من تشوَّهَت عقيدته، فإنَّه يبحث في شرق الأرض وغربها عمَّن يصلحُ بنظره لأن يكون إماماً يُقتدى به، وليس هناك إلا الخيبة والخسران.

          هذه بعضُ فوائد الإمام عليه السلام.. حِفظُ الأرض بمَن عليها، وفَتحُ باب الهداية للناس، ورعاية أولياء الله تعالى، وقربهم من الله تعالى، إلى غير ذلك مما يتنعَّمُ به العبادُ وهم جاهلون بها.

          2. كيف يكون الإمام حجَّةً لله وهو غائب؟

          ألا تُلازمُ الحجيَّةُ الظهور؟ هل يمكن أن يكون الإمامُ حُجَّةً لله وهو غائب؟ ألا تنتقض بغيبته الحجيَّة وتبطل؟

          يظهر الجواب على ذلك في جهات:

          1. الحجة: من يصح الاحتجاج به

          ورد في كتاب العين أنَّ:
          المَحَجَّة: قارعة الطريق الواضح. والحُجَّة: وجه الظفر عند الخصومة (ج‌3 ص10).
          وفي معجم مقاييس اللغة: المحَجَّة، وهي جَادَّة الطريق.. وممكنٌ أن يكون الحُجَّة مشتقّةً من هذا؛ لأنها تُقْصَد، أو بها يُقْصَد الحقُّ المطلوب. يقال حاججت فلاناً فحجَجْته أى غلبتُه بالحجّة، وذلك الظّفرُ يكون عند الخصومة (ج2 ص30).

          فإن أُريدَ بالحجَّة ما يدلُّ على الحق، ويرشدُ إليه، فقد تقدَّمَ أنَّ الإمام حجَّةٌ بهذا المعنى حتى مع غيبته، وسيأتي أن له دلائل تُرشدُ إليه عندما يكون مستتراً.
          وإن أُريدَ بالحجَّة ما يصحُّ الاحتجاج به، ويغلبُ به المحتجُّ خصمَه، فإنَّه يشمل الرُّسُل والأنبياء والأئمة معاً، كما يشمل العقول وإن كانت حججاً باطنةً مستورةً، وآثارُها ظاهرة، فالإمامُ حال غيبته تظهرُ بعضُ آثاره، وإن خَفيَ شخصه، وقد قال الصادق عليه السلام:

          إِنَّ لله عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً، وَحُجَّةً بَاطِنَةً.
          فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالأَنْبِيَاءُ وَالأَئِمَّةُ (ع)، وَأَمَّا البَاطِنَةُ فَالعُقُول‏ (الكافي ج1 ص16).

          وكون العقول باطنةً مستورةً لا يُخرجُها عن الحجّيَّة بعد ظهور آثارها، فبها قِوامُ التكليف، وامتياز الإنسان عن سواه، وهكذا الإمام الغائب.
          وعن الصادق عليه السلام: إِنَ الله احْتَجَّ عَلَى النَّاسِ بِمَا آتَاهُمْ وَعَرَّفَهُمْ (الكافي ج1 ص162).
          فكلُّ ما يُعَرِّفُ النَّاسَ على أمر الله هو حجَّةٌ له تعالى، وليس أوضح من الإمام بعد النبي (ص) في الدلالة على الله تعالى.

          بل إنَّ الاحتجاج يصحُّ حتى بالمماثِلِ الممتثِل، بمعنى أنَّ لله تعالى أن يحتجَّ على العصاة من العباد بالمطيعين منهم، وليس للعاصي حينها من حجَّةٍ أمام ربِّه، لأنَّ امتثالَ واحدٍ من ألوفٍ مع عِلمِ الجميع بلزوم الامتثال وبلوغ أمر الله لهم هو حجَّةٌ واضحةٌ جليَّةٌ على العصاة، لتوفُّر أسباب الطاعة والانقياد لله تعالى، فمن لم يمتثل لأمر الله كان مستحقاً للعقوبة.

          وهذا يشمل الأحياء والأموات معاً، فيصحُّ الاحتجاجُ بفعلِ ميِّتٍ مع وحدة المناط، كما في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام:
          تُؤْتَى بِالمَرْأَةِ الحَسْنَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ الَّتِي قَدِ افْتُتِنَتْ فِي حُسْنِهَا، فَتَقُولُ:
          يَا رَبِّ حَسَّنْتَ خَلْقِي حَتَّى لَقِيتُ مَا لَقِيتُ!

          وكأنَّ هذه المرأة تُريد الاحتجاج على الله تعالى بأنَّ سبب افتتانها وما جرى معها هو حُسنُها، والله تعالى هو الذي حسَّنَ خلقها، فهي بريئةٌ من كل شيء بزعمها!

          ههنا تظهر حجّة الله، بحيثُ يؤتى بمن كانت أحسن منها ولم تفتتن، لتتم الحجة، يقول الصادق عليه السلام:
          فَيُجَاءُ بِمَرْيَمَ (ع)، فَيُقَالُ: أَنْتِ أَحْسَنُ أَوْ هَذِهِ؟
          قَدْ حَسَّنَّاهَا فَلَمْ تُفْتَتَنْ
          (الكافي ج‏8 ص229).

          وهكذا يؤتى بيوسف وأيوب عليهما السلام، ليُحتجَّ بهما على من افتتن بجماله ومن شُدِّدَ عليه في بلائه، فيبثت أن الاحتجاج يشمل الحاضر والغائب.

          2. الحجة المغمور المكتتم

          بعدما تبيَّنَ أن لله تعالى أن يحتجَّ على العباد بما هو غائبٌ عن أبصارهم، كقوَّة الإدراك والتعقُّل التي لا يُمكن أن تُرى، وبالصالحين ولو في الأزمنة المختلفة، ثبت أنَّه لا تنافي بين كون الإمامَ حجَّةً لله تعالى وبين كونه مغموراً مُكتَتِماً.

          ولذا فإنَّ المؤمنَ يعلم أنَّ غيبة وليِّ الله تعالى لا تعني أنَّ حجته قد بطلت، فإنَّ حجَّة الله تعالى تامَّةٌ بوجوده، ولذا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: اللهم.. إِنَّكَ لَا تُخْلِي أَرْضَكَ مِنْ حُجَّةٍ لَكَ عَلَى خَلْقِكَ:

          1. ظَاهِرٍ لَيْسَ بِالمُطَاعِ.
          2. أَوْ خَائِفٍ مَغْمُورٍ.


          كَيْلَا تَبْطُلَ حُجَّتُكَ، وَلَا يَضِلَّ أَوْلِيَاؤُكَ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَهُم‏ (الكافي ج1 ص335).

          فكما أنَّ الإمام حجَّةٌ لله عند ظهوره ولو لم يكن مُطاعاً، فهو حجَّةٌ في غيابه.
          إنَّ على الأمة أن تطيع الإمام في كلِّ أوامره، وامتناعُها عن طاعته لا ينافي تمامية حجَّته، وكذا إلجاؤها الإمام إلى الغياب لا يعني بطلان الحجَّة، فإنَّها تامَّةٌ بنفس وجوده.
          فالمقتضي للحجيَّة هو وجود الإمام، ومعه تتمُّ حجَّةُ الله.

          ثمَّ إن عدم رؤية الناس للإمام قد يتصور على وجهين:

          الأول: هو عدم وجود إمامٍ رأساً، فليس هناك من مقتضٍ للرؤية، بل إنَّها سالبة بانتفاء موضوعها، أي أن الإمام غير موجود فكيف يمكن رؤية غير الموجود؟

          الثاني: أن الإمام موجودٌ، لكنه غائب بل مُغَيَّبٌ، فهناك مقتضٍ لرؤيته وهو وجوده، لكن هناك مانع منها وهو غيبته بسبب الخلق.

          فإن قيل: لا فرق بين الأمرين!

          قلنا: هذا من عمى العينين!

          لأنّه مع عدم وجود الإمام قد يحتجُّ الخلقُ على الخالق: أنك لم تترك بين ظهرانينا من يُتِمُّ الحجة علينا.
          أمَّا مع وجوده، فحجَّةُ الله تامة، وليس للناس حجة على الله تعالى، لأن غيبة الإمام كانت بسبب الخلق أنفسهم، إذ لو أطاعوا الله تعالى وتجنبوا ظلم الإمام لما غيَّبَهُ ربُّه، كما لهجت بذلك الأحاديث، ودلّت عليه شواهد العقول.

          فإن قيل: كيف صرنا سبباً لغيابه، وهو غائبٌ منذ ما يزيد عن ألف عام؟ إن كان ذنبٌ للمتقدِّم فما ذنب المتأخر؟!

          قلنا: الناس هم الناس، والقوم هم القوم.. والراضي بفعل قومٍ كالداخل معهم.. فإن الأمَّة لم تقبل من النبي والإمام دعوتهم لله تعالى، ولا استجابت أمر الله في اتباعهم، فاستحقت أن يُغَيَّبَ عنها الإمام، وبقيت حجة الله تامَّةً بوجوده ولو كان مغموراً مستوراً.

          3. لماذا قلنا بلزوم حياته ؟

          فإن قيل:
          لماذا يشترط الشيعة إذاً أن يكون الإمامُ حياً.. وهم يقبلون أن يكون الميت حجَّةً؟ ألا اكتفوا بمَن تقدَّمَ من الأئمة حيث تتمُّ الحجَّةُ بهم؟

          قلنا:
          تقدَّم أن حجج الله تعالى كثيرةٌ، ومنها العقل، فهو من الحجج الباطنة، ومع كونه حجَّةً إلا أنَّه تعالى ما اكتفى به، بل ضمَّ إليه الحجة الظاهرة وهم الرسل والأنبياء.
          ومع كثرة حجج الله تعالى وعظمتها، فإنَّ الله تعالى ما اقتصر على بعضها، بل أراد إتمام الحجة وتعظيمها.

          وأعظم حجج الله تعالى الإمام، بل هو الحجة البالغة.
          ومع كونه حجَّةً حتى بعد وفاته، إلا أن كونه الحجَّة البالغة يقتضي وجوده حيَّاً ليكون الاحتجاج به أبلغ وأقوى.
          لقد ورد عنهم عليهم السلام: نَحْنُ الحُجَّةُ البَالِغَةُ عَلَى مَنْ دُونَ السَّمَاءِ وَفَوْقَ الأَرْضِ (بصائر الدرجات ج1 ص104).

          وورد في الأئمة عليهم السلام:
          جَعَلَهُمُ الله أَرْكَانَ الأَرْضِ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ، وَالحُجَّةَ البَالِغَةَ عَلَى مَنْ فَوْقَ الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الثَّرَى‏ (بصائر الدرجات ج1 ص201).

          الإمام حجَّةٌ لله إذاً حتى على من لم يُعاصره، فهو الحجة على من تحت الثرى، لِما تقدَّمَ من عدم اختصاص الحجَّة بالحاضر، لكنَّ الاحتجاج بالحاضر أبلغ وأقوى، وقد شاء الله تعالى أن تكون حجَّتُه بالغة، فلزم من ذلك اشتراط الحياة في الإمام من باب الإبقاء على الحجة البالغة، فضلاً عن أنَّ الائمة أركان الأرض الذين تميد لو رفعوا منها ولا يستقرُّ لها قرار دونَهم.

          ويكفي في إتمام حُجَّة الإمام أن يُعرَف، وإن غابَ شخصُه، وقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام:
          إِنَّ الحُجَّةَ لَا تَقُومُ لله عَلَى خَلْقِهِ إِلَّا بِإِمَامٍ حَتَّى يُعْرَفَ (الكافي ج1 ص177).
          وورد أنَّه: لَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا اثْنَانِ لَكَانَ أَحَدُهُمَا الحُجَّة (بصائر الدرجات ج1 ص488).

          وعن الصادق عليه السلام:
          لَوْ كَانَ النَّاسُ رَجُلَيْنِ لَكَانَ أَحَدُهُمَا الإِمَامَ..
          إِنَّ آخِرَ مَنْ يَمُوتُ الإِمَامُ لِئَلَّا يَحْتَجَّ أَحَدٌ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لله عَلَيْهِ (الكافي ج1 ص180).

          4. دلائل الإمام في غيبته

          لعلَّ سائلاً يتساءل.. كيف السَّبيلُ إلى معرفة الإمام في حال غيبته؟ وما الطريق إلى ذلك إذا كان مُكتَتِماً مستوراً؟

          والجواب:
          أنَّ للإمام علاماتٍ تدلُّ عليه، وتُرشدُ إليه، يستوي في ذلك الإمام الحاضر والغائب..
          وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن حال المكلفين بعد وفاة الإمام، فبيَّنَ لهم ضرورة أن ينفر من كل طائفةٍ فرقةٌ، ليعرفوا إمامهم، ويبلغوا قومهم إذا رجعوا إليهم..

          ثم سئل فقيل له:
          فَبَلَغَ الْبَلَدَ بَعْضُهُمْ، فَوَجَدَكَ مُغْلَقاً عَلَيْكَ بَابُكَ، وَمُرْخًى عَلَيْكَ سِتْرُكَ، لَا تَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِكَ، وَلَا يَكُونُ مَنْ يَدُلُّهُمْ عَلَيْكَ، فَبِمَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟

          قَالَ: بِكِتَابِ الله المُنْزَلِ.

          كتابُ الله تعالى أوَّلُ دلائل الإمام عليه السلام في غيبته، وقد نزل شطرٌ كبيرٌ من القرآن الكريم فيهم عليهم السلام، وأمرَ الله تعالى فيه بمودَّتِهم واتِّباعهم، وجعل أوَّل الأئمة علياً عليه السلام إماماً بنصِّ آية الغدير، وغيرها الكثير..

          وثاني دلائل الإمام وصايا رسول الله (ص) بالأئمة عليهم السلام، وهي ثابتةٌ سواءٌ حضرَ الإمام أم غاب..

          ولئن خفيَت بعضُ خِصال الإمام أو علاماته كما قيل للصادق عليه السلام: إِنَّ ذَلِكَ مَسْتُورٌ مَخَافَةَ السُّلْطَانِ!
          فإنَّ ما يظهرُ منها يكون كافياً في بيان الحق والإرشاد إليه، وقد أجاب عليه السلام: لَا يَكُونَ فِي سِتْرٍ إِلَّا وَلَهُ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ ! (الكافي ج1 ص379).

          وحجَّةُ الإمام المنتظر اليوم تامَّةٌ بالقرآن الكريم وحديث النبيِّ صلى الله عليه وآله، وقد ثبت بشكل قطعيٍّ أنَّه حجَّة الله تعالى.
          ولعلَّه المصداق الأتم لقول أمير المؤمنين عليه السلام حين قال:

          اللهمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ حُجَجٍ فِي أَرْضِكَ، حُجَّةٍ بَعْدَ حُجَّةٍ عَلَى خَلْقِكَ، يَهْدُونَهُمْ إِلَى دِينِكَ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ عِلْمَكَ، كَيْلَا يَتَفَرَّقَ أَتْبَاعُ أَوْلِيَائِكَ.
          ظَاهِرٍ غَيْرِ مُطَاعٍ أَوْ مُكْتَتَمٍ يُتَرَقَّبُ!

          إِنْ غَابَ عَنِ النَّاسِ شَخْصُهُمْ فِي حَالِ هُدْنَتِهِمْ، فَلَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ قَدِيمُ مَبْثُوثِ عِلْمِهِمْ.
          وَآدَابُهُمْ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مُثْبَتَةٌ، فَهُمْ بِهَا عَامِلُونَ (الكافي ج1 ص339).

          قديمُ مبثوث علم الحجج هو ما بشَّرَ به الأنبياء من آدم عليه السلام إلى خاتمهم وسيِّدهم محمدٍ صلى الله عليه وآله، حتى أنَّ الله تعالى أخذ الميثاق بالولاء لعليٍّ وبنيه عليهم السلام على الخلق، بل ورد عن رسول الله (ص) أنَّه:
          لَمْ يَزَلِ الله يَحْتَجُّ بِعَلِيٍّ فِي كُلِّ أُمَّةٍ فِيهَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَأَشَدُّهُمْ مَعْرِفَةً لِعَلِيٍّ أَعْظَمُهُمْ دَرَجَةً عِنْدَ الله! (كتاب سليم ج2 ص858).

          هكذا كان عليٌّ حجَّةَ الله على الأنبياء قبل ولادته ! وهكذا صار المهديُّ حجَّة الله على كلّ العباد اليوم رغم غيبته.
          وقد صار ما بثَّهُ الأنبياء من علومٍ حجَّةً ظاهرة للإمام، سيَّما ما قاله الخاتم (ص) ثم الأوصياء من بعده، وهذه حُجَّةٌ ظاهرةٌ بَيِّنَةٌ للإمام المستور.

          لذا يهتدي اليوم إلى نور الإمام من كان صادقاً مخلصاً، ويضلُّ عنه من جَحَدَ نور الله تعالى وما اهتدى بهَديه..
          هكذا يظهر أنّ حجَّة الله تامَّةٌ بالإمام عليه السلام، لا فرق في ذلك بين حضوره وغيابه عليه السلام، وأنَّ المؤمن لا يرتاب من ذلك لشدَّة معرفته بدلائل إمامتهم عليهم السلام، وقوَّة اعتقاده بهم.

          ثبتنا الله على ولايتهم.. وعجل الله فرج وليهم.. وجعلنا من أنصاره وأعوانه.

          والحمد لله رب العالمين

          الأحد 15 شهر رمضان 1443 هـ الموافق 17-4-2022 م

          تعليق

          المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
          حفظ-تلقائي
          x

          رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

          صورة التسجيل تحديث الصورة

          اقرأ في منتديات يا حسين

          تقليص

          لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

          يعمل...
          X