
- يذهب أهل السنّة والجماعة إلى أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينصّب عليا (عليه السلام) للخلافة يوم غدير خم ، ولم ينصّ على خليفة من بعده .
- بينما يقول الشيعة الإمامية أنّ ماذكره النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدير خم هو تنصيب لعلي بالإمرة والخلافة من بعده .
وهنا نسأل : أيّ من الفريقين يمثّل في هذا الجانب المذهب الحقّ بينما يمثّل الآخر المذهب البدعي ، أي المذهب الذي يحرف النصوص عن مسارها الشرعي ؟؟!!
في البدء علينا أن نعرف أوّلا أنّ قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمام الآلاف من الصحابة يوم غدير خم : ( من كنت مولاه فهذا علي مولاه ) ، هو من المتواتر اللفظي ، نصّ على ذلك جمع كبير من علماء أهل السنة ، نذكر منهم :
-السيوطي في "قطف الأزهار" (1) .
- الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(2).
-الكتاني في "نظم المتناثر "(3).
-الزبيدي في "لقط اللالئ المتناثرة"(4).
-الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة"(5) ، وغيرهم كثير ...
فالحديث من ناحية السند والمتن لا مجال للطعن فيه أبدا حتّى ورد عن الذهبي قوله عند ترجمته للطبري في "سير أعلام النبلاء": ( قلت : جمعَ طرق حديث غدير خم في أربعة أجزاء ،رأيت شطره ، فبهرني سعة رواياته ،وجزمت بوقوع ذلك )(6).انتهى
دلالة الحديث :
يبقى الكلام في دلالة الحديث .. فأهل السنّة يقولون - كما يذكر ذلك البيهقي في كتابه "الاعتقاد " وكذلك يذكر غيره - أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد بقوله يوم غدير خم الحث على محبة عليّ( عليه السلام ) ومودّته لا أكثر ؛ وذلك لمحل الشكاية التي بلغته عن بعض الصحابة من علي حين بعثه لليمن وإظهروا بغضه ، فأراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نهيهم عن ذلك وحثّهم على مودّته ومحبته ، فالأمر لا يعدو أن يكون منقبة من مناقبه (عليه السلام) لا أكثر !!
وهاهنا سؤال : هل التوجيه المذكور للحديث صحيح أو لا ؟؟!!
الجواب : هذا التوجيه للحديث ليس صحيحا ، بل هو أوهن من بيت العنكبوت عند التدقيق والتحقيق ؛ وذلك لعدة أسباب :
أولا : أنّه دعوى بلا دليل ؛ إذ لم يشر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته يوم غدير خم إلى هذه الشكاية لا من قريب ولا من بعيد في أيّ نصّ وصلّ إلينا عن الخطبة المذكورة ، وبالتالي هي دعوى مبتنية على الحدس والظن لا غير ،والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا .
وثانيا: أنّ حادثة الشكاية هي حادثة جزئية بين أشخاص معدودين ، وفي مثلها ليس من المسوغ عقلائيا ولا عرفا أن يُجمع لأجل ذلك عشرات الألوف من الناس وفي تلك الظهيرة الشديدة الحر ، ليخبرهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) عن شيء لا علاقة لهم مباشرة فيه ؟؟!!
فالذين حضروا خطبة يوم غدير خم يبلغون عشرات الألوف من الصحابة ، كما يذكر ذلك الذين أرخوا للحادثة .. قال ابن الجوزي في "تذكرةالخواص " أن الذين استمعوا لقول النبي ص يوم غدير خم : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، بلغوا مائة وعشرين ألفا (7).
وجاء عن الكتبي في "عيون التأريخ" كان الذين حجّوا مع النبي حجة الوداع مائة الف (8).. وكلّ هؤلاء قد حضروا خطبة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في غدير خم .
وعليه ؛ فليس من المناسب عرفا ولا عقلائيا أن تجتمع هذه العشرات من الألوف لتسمع أمرا لا علاقة لهم فيه .. بل هي حادثة جزيئة يكون حقّها جمع المتخاصمين واجراء الصلح بينهم ، كما كان يفعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مثل هذه الحوادث الجزيئة .. فهاهو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول لبريدة الأسلمي حين أقبل من اليمن يشكو له عليا (عليه السلام) : (لا تقع في علي، فإنّه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي، وإنّه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي).
رواه احمد في "مسنده" ، وقال حمزة أحمد الزين في حكمه على الحديث: «إسناده صحيح»(9).
فهنا نجد أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يجمع الصحابة ليخبرهم عن الحادثة وعن حب علي ( كما يحلو للبعض توجيه حديث الغدير به ) ، بل خاطب - وبشكل مباشر- طرف القضية ( بريدة ) وطلب منه عدم بغض علي ومعاداته ، كما أخبره - في الوقت نفسه - بأنّ عليّا هو الخليفة من بعده ، بقرينة كلمة ( بعدي ) في الحديث !!
وبمثل هذا التصرف تصرّف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا مع أبي سعيد الخدري ( سعد بن مالك ) الذي أقبل يشكو عليا (عليه السلام) عندما منعه من التصرف في إبل صدقات اليمن ، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : (سعد بن مالك الشهيد! مه، بعض قولك لأخيك علي، فوالله لقد علمتُ أنه أخشن في سبيل الله، قال: فقلت في نفسي، ثكلتك أمك سعد بن مالك ألا أراني كنتُ فيما يكره منذ اليوم، وما أدري لا جرم والله لا أذكره بسوء أبداً سراً ولا علانيةً)(10).
قال ابن كثير بعد أن نقل هذا الحديث عن البيهقي

وثالثا :لا علاقة لحديث الغدير بذهاب علي ( عليه السلام ) إلى اليمن :
لا بدّ أن نبيّن هنا بأنّ أمير المؤمنين عليّا ( عليه السلام ) كان قد ذهب إلى اليمن ثلاث مرات ، وفي كلّ هذه المرات لا علاقة لذهابه بخطبة الغدير .
- أمّا المرة الأولى فقد ذهب ( عليه السلام ) داعيا للإسلام في السنة الثامنة للهجرة - كما ينصّ على ذلك أحمد بن زيني دحلان في كتابه "السيرة النبوية"(12)- ، وفي هذه المرة اشتكى بريدة الأسلمي من علي عليه السلام لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد ردّه النبي بما علمت .. وهي لا تناسب أن تكون قرينة حالية لتفسير المراد في خطبة الغدير التي وقعت بعد سنتين ..فإنّ حجة الوداع - التي وقعت إثرها الخطبة - كانت في السنة العاشرة للهجرة !!
- والمرة الثانية عندما ذهب قاضيا ، كما ينصّ على ذلك أحمد في مسنده وغيره ، وفي هذه المرة لم ترد الشكاية عليه من أحد بالمرة !!
- وأمّا المرة الثالثة فهي عندما ذهب ( عليه السلام ) جابيا للصدقات ،وهنا اشتكاه البعض لما رآه من خشونته في سبيل الله ونهيه عن التصرف في أموال الصدقات بغير حق ..وفي هذا الجانب أخرج البيهقي في الدلائل، قال: «أخبرنا أبو الحسين محمد بن الحسين بن محمد بن الفضل القطان ببغداد، أنبأنا أبو سهل بن زياد القطان، حدثنا أبو إسحاق، إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا أخي، عن سليمان بن بلال، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، عن أبي سعيد الخدري، أنه قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه[وآله]وسلم) علي بن أبي طالب إلى اليمن، قال أبو سعيد: فكنت ممن خرج معه، فلما أخذ من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا، فكنا قد رأينا في إبلنا خللاً، فأبى علينا، وقال: إنما لكم منها سهمٌ كما للمسلمين.
قال: فلما فرغ عليٌ وانطلق من اليمن راجعاً أمر علينا إنساناً، وأسرع هو فأدرك الحج، فلما قضى حجته، قال له النبي (صلى الله عليه[وآله]وسلم): ارجع إلى أصحابك حتى تقدم عليهم، قال أبو سعيد: وقد كنا سألنا الذي استخلفه ما كان عليٌ منعنا إياه ففعل، فلما جاء عرف في إبل الصدقة أن قد ركبت، رأى أثر المركب، فذمّ الذي أمره ولامه، فقلت: أنا إن شاء الله إن قدمت المدينة لأذكرنّ لرسول الله (صلى الله عليه[وآله]وسلم) ولأخبرنهُ ما لقينا من الغلظة والتضييق.
قال: فلما قدمنا المدينة غدوت إلى رسول الله (صلى الله عليه[وآله]وسلم) أريد أن أفعل ما كنت حلفت عليه، فلقيتُ أبا بكر خارجاً من عند رسول الله (صلى الله عليه[وآله]وسلم) فوقف معي ورحب بي وسألني وسألته، وقال: متى قدمت؟ قلت: قدمت البارحة، فرجع معي إلى رسول الله (صلى الله عليه[وآله]وسلم)، فدخل فقال: هذا سعد بن مالك بن الشهيد، قال: ائذن له، فدخلت فحييت رسول الله (صلى الله عليه[وآله]وسلم) وجاءني وسلّم علي، وسألني عن نفسي وعن أهلي فأحفى المسألة، فقلت له: يا رسول الله، ما لقينا من علي من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق، فانتبذ رسول الله (صلى الله عليه[وآله]وسلم)، وجعلتُ أنا أعدد ما لقينا منه، حتى إذا كنت في وسط كلامي ضرب رسول الله (صلى الله عليه[وآله] وسلم) على فخذي، وكنت منه قريباً، ثم قال: سعد بن مالك الشهيد! مه، بعض قولك لأخيك علي، فوالله لقد علمتُ أنه أخشن في سبيل الله، قال: فقلت في نفسي، ثكلتك أمك سعد بن مالك ألا أراني كنتُ فيما يكره منذ اليوم، وما أدري لا جرم والله لا أذكره بسوء أبداً سراً ولا علانيةً»(13).
وقد تقدّم كلام ابن كثير بعد نقله لهذا الحديث عن البيهقي

فهنا في هذا النص الذي أخرجه البيهقي وأقرّ ابن كثير بجودة سنده على شرط النسائي نجد أنّ حادثة الشكاية حصلت في المدينة ، وبعد عودة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجة الوداع ، بقرينة : (فلما فرغ عليٌ وانطلق من اليمن راجعاً أمر علينا إنساناً، وأسرع هو فأدرك الحج، فلما قضى حجته، قال له النبي (صلى الله عليه وسلم): ارجع إلى أصحابك حتى تقدم عليهم) ..وقول سعد بن مالك ( أبي سعيد الخدري ) : ( فلما قدمنا المدينة غدوت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أريد أن أفعل ما كنت حلفت عليه) .. فهذا كلّه يدلّ على أنّ الشكاية حصلت في المدينة ،أي بعد قدوم رسول الله ( صى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة ، وبعد الانتهاء من خطبة الغدير التي حصلت عند منطقة يقال لها الجحفة بين مكة والمدينة كما ينصّ على ذلك الحموي في "معجم البلدان"(15).. ومعه لا يصح بأيّ حال من الأحوال أن يكون هذا الفعل المتأخر سببا لهذه الخطبة المتقدمة عليه !!
وبالتالي تسقط دعوى كون الشكاية هذه من علي ( عليه السلام ) - التي يتشبث بها البعض من غير تحصيل - هي السبب في خطبة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم غدير خم أمام عشرات الألوف من الصحابة .
بيان مراد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من كلامه في
يوم غدير خم :
أقول : بعد بطلان القرينة الحالية التي أبرزها القوم في تفسير حديث الغدير ، وهي دعوى الشكاية من علي ( عليه السلام ) ، توجد عندنا قرينة لفظية في نفس خطبة الغدير تبين مراد النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: ( من كنت مولاه فهذا علي مولاه ) ..وهذه القرينة هي قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟؟ فقلنا نعم يا رسول الله، قال : فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه )(16) ..الأمر الذي يستفاد منه أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد بـ( المولى ) هنا معنى( الأولى ) ..
وهاهنا سؤال : هل يمكن أن تأتي كلمة ( مولى ) بمعنى ( الأولى ) في لغة العرب ، حتى يكون الاستناد إليها في المقام تاما بحسب اللغة ولا إشكال فيه ؟؟!!
الجواب : نعم ، فقد نصّ على ذلك جمع من علماء اللغة العربية وصرّحوا بأنّ ( الأولى ) هي أحد معاني كلمة ( مولى ) في لغة العرب .. نذكر منهم :
الفراءوأبي عبيدة ، كما جاء عن الرازي في "تفسيره" وابن حجر في "فتح الباري" (17).
وثعلب ، كما في "شرح المعلقات السبع" للزوزني (18) ، وأبي بكر الأنباري اللغوي في كتابه "الأضداد"(19) ، وأبي الطيب اللغوي الحلبي في كتابه "الأضداد في كلام العرب"(20)، والجوهري في "صحاح اللغة وتاج العربية" (21) وغيرهم ...
وايضا فسر جمع كبير من المفسرين والمحدثين من أهل السنّة كلمة (مولى) بـ (الأولى) في كتبهم عند تعرضهم لبيان قوله تعالى في سورة الحديد : ( مأواكم النار هي مولاكم ) ، فقالوا معنى الأية : أي هي الأولى بكم .. منهم :الطبري والسمعاني والبغوي والقرطبي وابن كثير وغيرهم ،وأيضا نصّ على ذلك البخاري في صحيحه عند تفسيره للآية المذكورة(22) ..وعليه، فلا يوجد أي إشكال لغوي من هذه الناحية بأن يكون المراد من ( مولى ) معنى (الأولى ) في لغة العرب .
والآن السؤال المهم هنا : ماذا تعني كلمة (أولى) في لغة العرب .. أي : ماذا كان يقصد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله هذا الذي عرفنا أنّه يريد به : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه ؟؟!!
لا نذهب بعيدا ، ولنستعين بالقرآن الكريم وبالآية الكريمة نفسها التي استدلّ بها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في خطبته ، وهي قوله تعالى : (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم )(23)،الذي جعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حقّا لعلي (عليه السلام)أيضا حين قال : (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟؟ فقلنا نعم يا رسول الله، قال : فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه )!!
قال الطبري في تفسيره للآية الكريمة : ( يقول:أحقّ بالمؤمنين به من أنفسهم، أنْ يحكم فيهم بما شاء من حكم، فيجوز ذلك عليهم، كما حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما أنت أولى بعبدك، ما قضى فيهم من أمر جاز، كما كلّما قضيت على عبدك جاز)(24).انتهى
وبهذا المعنى من البيان بنفوذ الحكم ولزوم الطاعة فسّر به جمع كبير جدا من علماء أهل السنة الأولوية في الآية الشريفة ، منهم : ابن كثير في تفسيره ، والبغوي في تفسيره ، وابن الجوزي في تفسيره ، والنسفي في تفسيره ، والشوكاني في تفسيره،والقاضي عياض في كتابه "الشفا"(25)، وابن القيم في كتابه "زاد المهاجر"(26) ،وغيرهم كثير ..
والنتيجة :أن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أثبت لعلي(عليه السلام) في يوم غدير خم الأولوية على المؤمنين من أنفسهم ، التي تعني نفوذ حكمه عليهم ، ولزوم إطاعتهم له ، وهذا أمر واضح لا يغالط فيه إلا من سلب الله منه نعمة الفهم السليم !!!
وأيضا وجدنا جملة من علماء أهل السنة ممن يفسرون حديث الغدير بأنّ المراد من كلمة ( مولى ) فيه معنى ( الأولى ) .. وبالتالي لسنا الوحيدين ممن يفسّر الحديث المذكور استنادا إلى القرينة اللفظية الواردة فيه :
1- فهاهو العلامة الأوحد [ كما يصفه الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(27)] محمّد بن طلحة الشافعي، المتوفى (652هـ) يقول في كتابه "مطالب السؤول" في بيان معنى حديث الغدير :
( فيكون معنى الحديث: من كنت أولى به أو ناصره أو وارثه أو عصبته أو حميمه أو صديقه فإن علياً منه كذلك، وهذا صريح في تخصيصه لعلي بهذه المنقبة العلية وجعله لغيره كنفسه... بما لم يجعله لغيره )(28) . انتهى
2- ويقول سبط ابن الجوزي في كتابه "التذكرة" في بيان معني حديث الغدير: ( ..(العاشر) بمعنى الأولى قال الله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} أي: أولى بكم... والمراد من الحديث: الطاعة المحضة المخصوصة فتعين العاشر. ومعناه: من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به).
ثمّ قال : (وقد صرّح بهذا المعنى الحافظ أبو الفرج يحيى ابن سعيد الثقفي الأصبهاني في كتابه المسمّى بمرج البحرين، فإنه روى هذا الحديث بإسناده إلى مشايخه وقال فيه: فأخذ رسول الله بيد علي وقال: من كنت وليه وأولى به من نفسه فعلي وليه. فعلم أن جميع المعاني راجعة إلى الوجه العاشر. ودلّ عليه أيضاً قوله(عليه السلام): ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ وهذا نصٌّ صريح في إثبات إمامته وقبول طاعته)(29) .انتهى
3- ويقول الشيخ الحافظ الكنجي الشافعي محمد بن يوسف ، المتوفى (658 هـ)(30) في كتابه "كفاية الطالب" في دلالة حديث الغدير: «قال رسول الله’ لعلّي: (لو كنت مستخلفاً أحداً لم يكن أحد أحقّ منك)... وهذا الحديث وإن دلّ على عدم الاستخلاف لكن حديث غدير خم دال على التولية، وهي الاستخلاف. وهذا الحديث، أعني حديث غدير خم، ناسخ؛ لأنه كان في آخر عمره (صلّى الله عليه وسلّم) )(31).انتهى
4-ويقول الشيخ المقريزي مؤرخ الديار المصرية ، المتوفى ( 840هـ)(32) ، في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" : (وقال ابن زولاق: وفي يوم ثمانية عشر من ذي الحجة سنة (362 هـ)، وهو يوم الغدير، يجتمع خلق من أهل مصر والمغاربة ومن تبعهم للدعاء، لأنّه يوم عيد؛ لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) عهد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فيه واستخلفه...)(33).انتهى
5- وجاء عن الشيخ ابن عثيمين في "مجموع فتاواه ورسائله" : ( سئل فضيلة الشيخ : عن الانسان إذا خاطب ملكا ( يامولاي ) ؟
فقال ( بعد أن بين القسم الأول من الولاية ) : القسم الثاني : ولاية مقيدة مضافة ، فهذه تكون لغير الله ، ولها في اللغة معان كثيرة منها : الناصر ، والمتولي للأمور ، والسيد ، قال الله تعالى : ( وإن تظاهرا عليه فإن الله مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ) ،وقال صلى الله عليه وسلم : ( من كنت مولاه فعلي مولاه )،وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنما الولاء لمن أعتق ) )(34) .انتهى
وهو بيان واضح منه على نحو اللف والنشر المرتب ، بأنّ المراد من المولى في حديث الغدير هو المتولي للأمور .
إذن .. لا مجال للطعن في دلالة حديث الغدير على الخلافة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة ..فماذا بقي عند القوم ليتشبثوا به في حرف هذا الحديث العظيم عن معناه ومراده حتى يصححوا انحرافهم ومعصيتهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأعتراف بحق علي ( عليه السلام ) بالخلافة من بعده ؟؟؟!!!
لم يبق عندهم سوى شماعة ( فهم الصحابة وفعلهم ) ..فقالوا : لو كان ما تقولونه حقّا لما فات هذا المعنى على الأصحاب فهمه من حديث رسول الله ...ولما تخلفوا عن بيعة علي بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة ؟؟!!
إذن توجد عندنا هاهنا دعويان : الأولى : فهم الصحابة ... والثانية : فعل الصحابة .
فهم الصحابة لحديث الغدير :
أمّا الدعوى الأولى بأنّ الصحابة لم يفهموا من حديث الغدير الخلافة والإمرة ، فهي مردودة بقرائن كثيرة ، ونكتفي هنا بذكر ثلاث قرائن فقط :
الأولى : ما رواه أحمد في "مسنده" بسند صحيح عن رياح بن الحرث قال : جاء رهط إلى علي بالرحبة ، فقالوا : السلام عليك يا مولانا . فقال : كيف أكون مولاكم ، وأنتم قوم عرب ؟ ، قالوا : سـمعنا رسول الله يقول يوم غدير خم : من كنت مولاه فهذا مولاه . قال رياح : فلما مضوا اتبعتهم فسألت من هؤلاء ؟ قالوا : نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري "(35).
فهنا نجد أنّ هؤلاء الصحابة من الأنصار الذين أقبلوا إلى الكوفة والذين شهدوا بأنّهم سمعوا هذا الحديث مباشرة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسّروه بما فسّر به الطبري الأولوية من قوله تعالى ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) .. أي أنّهم فهموا من حديث رسول الله نفاذ حكم عليّ(عليه السلام) فيهم ولزوم إطاعتهم له كما يطيع العبد سيده ، بدليل أنّ عليّا (عليه السلام) أشكل عليهم بإشكال استنكاري أراد منهم بيان الحقيقة من هذه الدعوى أمام الناس جميعا، كما هو شأنه (عليه السلام ) في اللجوء إلى هذه الطريقة أمام الناس حين جاءإلى الكوفة ، وحديث المناشدةالذي شهد فيه اثنا عشر بدريا- وفي بعض الروايات شهد له ثلاثون صحابيا - في مسجد الكوفة أنّهم سمعوا حديث الغدير من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معروف ومشهور ، رواه أغلب المحدّثين كما ستأتي الإشارة إليه بعد قليل ، فقال ( عليه السلام) للقوم هنا : كيف أكون مولاكم ، وأنتم قوم عرب ؟؟!!
أي كيف تكونون عبيدا لي والحال أنّكم من العرب الأحرار الذين لا يصحّ استرقاقهم شرعا ولستم من الموالي -الذين يجوز استرقاقهم- كالعجم والروم .. فقالوا : سـمعنا رسول الله يقول يوم غدير خم : من كنت مولاه فهذا مولاه.. فهؤلاء الأصحاب من الأنصار فهموا من حديث الغدير أنّ المراد به الأولوية بمعنى نفوذ الحكم والطاعة لا بمعنى الاسترقاق ..وهذا دليل صريح على فهم الصحابة التام لمراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حديثه يوم غدير خم ..
القرينة الثانية : مارواه السيوطي في كتابه ( الإزدهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار ) من شعر الصحابي حسان بن ثابت في نفس واقعة غدير خم ، والذي جاء فيه :
يناديهم يوم الغدير نبيّهم ... بخم فأسمع بالرسول مناديا
وقال فمن مولاكم ووليكم ... فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا ... ولم يلف منا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني ... رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه ... فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليّه ... وكن بالذي عادى عليا معاديا(36)
يتبع
تعليق