الشّهيد الثّاني والمدرسة النُّوريَّة في بعلبك
"دعوة إلى جعلها مركزاً للتقريب بين المذاهب"
مدخل من الآهات:
تاريخُكَ ، أيها الشهيد ، نقشه الإزميل في الصخر، وحياتك في بعلبك ، خطّتها أنامل مفعمة بالحب والأخوة ، متجاورة مع تاريخ مدينة رماها الدهر بسهم الحقد عن قوس الحسد.
بعلبك، تاريخك زركشته يد مترفة بالفن، وما ندت عن خاطري أحداث ثورة سنة 1926م، ضد الاحتلال الفرنسي ، يوم تواطأ كل لبنان مع فرنسا، ووقفت يا بعلبك مفردة في وجه صلف المستعمر، فذمها اللبنانيون، واتهموها بالعقوق، ولما نال لبنان استقلاله سنة 1946م غنّى الكثير من أبنائه بالحرية، متناسين بعلبك التي سبقتهم في مضمار الوطنية والتحرير بعشرين عاماً.
آلمني ما حل بكِ من غبن وظلم ، فداويت آلامي بهذا البحث المتواضع عن الشهيد في المدينة، علّني أعيد إليها بعض الصفحات المجيدة . والحقوق الضائعة ، سيّما أن الجمهورية الإسلامية في إيران قد التفتت منذ سنوات إلى هذه المدينة، ولو أنها لا تزال محتاجة إلى الكثير من الرعاية والعناية.
التعريف بمدينة بعلبك:
"بَعْلَبَكّ" بفتح الباء الموحدة ثم تسكين العين، وفتح اللام والباء والكاف المشدّدة[1]، وضبطها المسعودي والقلقشندي "بَعَلْبك" بفتح العين وتسكين اللام وهي لغة عامة الناس[2].
والاسم مركب من (بعل – بك) لا خلاف حوله، لكن التأولات كثرت حول اللّغة الأولى التي انطلقت منها التسمية. فقيل: فينيقية[3]، وقيل: بأن التسمية جاءت من اسم إلهة السوريين[4].
وأوضح القرآن الكريم أن أهل المدينة عبدوا (البعل) – قبل المسيح – يوم أتاهم نبي الله الياس وأنبهم على فعلتهم (أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين)[5].
وذهب البعض إلى أنه الاشتقاق سرياني[6]، والملفت، أن شعراء العرب ذكروها في أسفارهم، فذكرها امرؤ القيس الكندي – الشاعر الجاهلي – لما اجتازها قاصداً بيزنطة قبل نهاية القرن الخامس الهجري[7]. وذكرها عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته[8]. كما وردت في شعر النابغة الشيباني[9].
وتقع مدينة بعلبك عند سفح الجبل الشرقي، في القسم الشمالي الشرقي من سهل البقاع، ويتراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين 1165 متراً و1200 متراً. وتبعد عن العاصمة اللبنانية بيروت مسافة 86كلم. ويبلغ عدد سكانها حالياً ما يزيد من (100،000) مئه ألف نسمة، والأكثرية السكانية على المذهب الشيعي الإمامي الإثني عشري (أكثر من 80% من السكان).
"المدرسة النّوريّة" في بعلبك
عرفت بعلبك مدرسةً واحدةً على الأقل في أيام الرومان ، تؤهل الطلاب للالتحاق بجامعة الحقوق البيروتية . وأخذ البعلبكيون دوراً في روابط الطلبة والجمعيات.... فقد كان هناك مثلاً جمعية تعنى بعلم الغيب، وقد كان من أعضائها البارزين طالب أرمني وآخر من سلونيك ولبناني من بعلبك ومصري من طيبة[10]....
كلّ هذه الإشارات السريعة إلى المتفوقين علمياً من بعلبك لا تسدّ ثغرة التلاشي في أخبار مدارس المدينة في العهود الأولى. إذ لا نعرف شيئاً عن تنظيمها وأساتذتها وأماكن تواجدها.
وفي العهد البيزنطي عرفت المدينة تدريس الكيمياء والرياضيات، والكهانة، ومبادئ الطب، وظهور "كلينكوس" المخترع البعلبكي دليل واضح على تطور علم الكيمياء[11].
إذا جزنا إلى العهد الإسلامي نجد "المدرسة النجمية أو الخانقاه الكبير" ، هي أول مدرسة نظامية عرفتها بعلبك في العهود الإسلامية، أنشأها نجم الدين أيوب، الذي ولّاهُ على بعلبك الأتابك زنكي لما تملّكها سنة 534هـ[12].
وتأتي بعدها "المدرسة النورية"، التي أنشأها في بعلبك نور الدين محمود ابن الأتابك زنكي (ت 569هـ)، وهي موضوع بحثنا. وأتحدث عنها لاحقاً.
وأما ثالث المدارس فهي "المدرسة الأمينية"، التي أمر ببنائها أمين الدولة أبو الحسن ابن غزال المسلماني، الطبيب السامري المتوفي سنة 648هـ، كان يهودياً فأسلم، وليُثبت للناس إسلامه شادَ هذه المدرسة لتدريس الفقه الإسلامي. ويذهب البعض إلى أن المدرسة الأمينية، هي نفسها "المدرسة النورية"، ولكن الدكتور حسن نصر الله في تاريخ بعلبك، وبلقاء شخصي معه، أكد بأن المدرسة النورية هي ليست المدرسة الأمينية.
وأما "المدرسة النورية"، فأنشأها في بعلبك نور الدين محمود بن الأتابك زنكي (511 – 569هـ) ، وأغفلت المصادر سنة تأسيسها، لعله أمر ببنائها عام 552هـ/ 1157م[13]. لما زار بعلبك في الثالث عشر من ربيع الأول لتفقد أحوالها ، وجعل الإشراف عليها لقاضي القضاة (الشافعي) شرف الدين عبد الله من محمد بن عصرون التميمي (492 – 585هـ) ، وفوّض إليه أن يُولي التدريس فيها من يشاء.
ويبدو أن بني عصرون ظلوا أكثر من قرن يتوارثون الإشراف على أوقاف "المدرسة النورية" في بعلبك ، وقصروها على مذهبهم الشافعي، وكانوا يرفضون إشراك سائر المذاهب في تدريس النورية، حتى سنة 664هـ، عندما ظهر (كتاب وقف هذه المدرسة) ، وتبيّن أنه ينصّ على إشتراك الشافعية وغيرهم من المشتغلين بالعلم من أهل السُّنة. وقد دوّن موسى اليونيني الحنبلي بفرح ظهور كتاب الوقف في تاريخه "ذيل مرآة الزمان[14]".
إن آثار المدرسة النورية ما زالت قائمة إلى اليوم، ملاصقة للمسجد الكبير شرقي هياكل بعلبك، ولها ثلاثة أبواب تفضي إلى المسجد من جهته الشرقية، ومساحتها 420 متراً مربعاً، ضمّت بضع غرف للطلاب والمشايخ وباحة للدرس ، تتوسطها بركة ماء ، طولها خمسة أمتار ، وعرضها أربعة أمتار، وعلى زواياها أربعة أعمدة مضلعة، ويتصدرها محراب، نقلت بعض حجارتها من الهياكل المجاورة.
وفي آخر هذا البحث ، تُوجد صورٌ فوتوغرافية عن آثار هذه المدرسة، ومجاورتها للمسجد الكبير.
وعدّ الدكتور حسن نصر الله ما يقارب (13) شيخاً قد تولوا التدريس في هذه المدرسة[15]. ومن أشهر هؤلاء حسين بن عبد الصمد (ت984هـ)، الذي درَّس مع شيخه الشهيد الثاني وأقام في بعلبك من سنة 953 حتى 965هـ[16]، أي إلى السنة التي توفي فيها أستاذه الشهيد الثاني، لأن الشيخ حسين في هذه السنة ارتحل مع ولده (بهاء الدين)، المولود في بعلبك، إلى إيران[17]، مع الإشارة، أن المنزل الذي ولد فيه (بهاء الدين) هو ما يزال خرباً في قرية إيعات ، وقد كتبت تحقيقاً عنه نشر في كتاب صدر أخيراً في إيران[18] ، وأجدد دعوتي اليوم إلى إعادة بنائه، وجعله متحفاً وطنياً.
الشهيد الثاني : سيرته ونهجه في بعلبك :
"دعوة إلى جعلها مركزاً للتقريب بين المذاهب"
مدخل من الآهات:
تاريخُكَ ، أيها الشهيد ، نقشه الإزميل في الصخر، وحياتك في بعلبك ، خطّتها أنامل مفعمة بالحب والأخوة ، متجاورة مع تاريخ مدينة رماها الدهر بسهم الحقد عن قوس الحسد.
بعلبك، تاريخك زركشته يد مترفة بالفن، وما ندت عن خاطري أحداث ثورة سنة 1926م، ضد الاحتلال الفرنسي ، يوم تواطأ كل لبنان مع فرنسا، ووقفت يا بعلبك مفردة في وجه صلف المستعمر، فذمها اللبنانيون، واتهموها بالعقوق، ولما نال لبنان استقلاله سنة 1946م غنّى الكثير من أبنائه بالحرية، متناسين بعلبك التي سبقتهم في مضمار الوطنية والتحرير بعشرين عاماً.
آلمني ما حل بكِ من غبن وظلم ، فداويت آلامي بهذا البحث المتواضع عن الشهيد في المدينة، علّني أعيد إليها بعض الصفحات المجيدة . والحقوق الضائعة ، سيّما أن الجمهورية الإسلامية في إيران قد التفتت منذ سنوات إلى هذه المدينة، ولو أنها لا تزال محتاجة إلى الكثير من الرعاية والعناية.
التعريف بمدينة بعلبك:
"بَعْلَبَكّ" بفتح الباء الموحدة ثم تسكين العين، وفتح اللام والباء والكاف المشدّدة[1]، وضبطها المسعودي والقلقشندي "بَعَلْبك" بفتح العين وتسكين اللام وهي لغة عامة الناس[2].
والاسم مركب من (بعل – بك) لا خلاف حوله، لكن التأولات كثرت حول اللّغة الأولى التي انطلقت منها التسمية. فقيل: فينيقية[3]، وقيل: بأن التسمية جاءت من اسم إلهة السوريين[4].
وأوضح القرآن الكريم أن أهل المدينة عبدوا (البعل) – قبل المسيح – يوم أتاهم نبي الله الياس وأنبهم على فعلتهم (أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين)[5].
وذهب البعض إلى أنه الاشتقاق سرياني[6]، والملفت، أن شعراء العرب ذكروها في أسفارهم، فذكرها امرؤ القيس الكندي – الشاعر الجاهلي – لما اجتازها قاصداً بيزنطة قبل نهاية القرن الخامس الهجري[7]. وذكرها عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته[8]. كما وردت في شعر النابغة الشيباني[9].
وتقع مدينة بعلبك عند سفح الجبل الشرقي، في القسم الشمالي الشرقي من سهل البقاع، ويتراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين 1165 متراً و1200 متراً. وتبعد عن العاصمة اللبنانية بيروت مسافة 86كلم. ويبلغ عدد سكانها حالياً ما يزيد من (100،000) مئه ألف نسمة، والأكثرية السكانية على المذهب الشيعي الإمامي الإثني عشري (أكثر من 80% من السكان).
"المدرسة النّوريّة" في بعلبك
عرفت بعلبك مدرسةً واحدةً على الأقل في أيام الرومان ، تؤهل الطلاب للالتحاق بجامعة الحقوق البيروتية . وأخذ البعلبكيون دوراً في روابط الطلبة والجمعيات.... فقد كان هناك مثلاً جمعية تعنى بعلم الغيب، وقد كان من أعضائها البارزين طالب أرمني وآخر من سلونيك ولبناني من بعلبك ومصري من طيبة[10]....
كلّ هذه الإشارات السريعة إلى المتفوقين علمياً من بعلبك لا تسدّ ثغرة التلاشي في أخبار مدارس المدينة في العهود الأولى. إذ لا نعرف شيئاً عن تنظيمها وأساتذتها وأماكن تواجدها.
وفي العهد البيزنطي عرفت المدينة تدريس الكيمياء والرياضيات، والكهانة، ومبادئ الطب، وظهور "كلينكوس" المخترع البعلبكي دليل واضح على تطور علم الكيمياء[11].
إذا جزنا إلى العهد الإسلامي نجد "المدرسة النجمية أو الخانقاه الكبير" ، هي أول مدرسة نظامية عرفتها بعلبك في العهود الإسلامية، أنشأها نجم الدين أيوب، الذي ولّاهُ على بعلبك الأتابك زنكي لما تملّكها سنة 534هـ[12].
وتأتي بعدها "المدرسة النورية"، التي أنشأها في بعلبك نور الدين محمود ابن الأتابك زنكي (ت 569هـ)، وهي موضوع بحثنا. وأتحدث عنها لاحقاً.
وأما ثالث المدارس فهي "المدرسة الأمينية"، التي أمر ببنائها أمين الدولة أبو الحسن ابن غزال المسلماني، الطبيب السامري المتوفي سنة 648هـ، كان يهودياً فأسلم، وليُثبت للناس إسلامه شادَ هذه المدرسة لتدريس الفقه الإسلامي. ويذهب البعض إلى أن المدرسة الأمينية، هي نفسها "المدرسة النورية"، ولكن الدكتور حسن نصر الله في تاريخ بعلبك، وبلقاء شخصي معه، أكد بأن المدرسة النورية هي ليست المدرسة الأمينية.
وأما "المدرسة النورية"، فأنشأها في بعلبك نور الدين محمود بن الأتابك زنكي (511 – 569هـ) ، وأغفلت المصادر سنة تأسيسها، لعله أمر ببنائها عام 552هـ/ 1157م[13]. لما زار بعلبك في الثالث عشر من ربيع الأول لتفقد أحوالها ، وجعل الإشراف عليها لقاضي القضاة (الشافعي) شرف الدين عبد الله من محمد بن عصرون التميمي (492 – 585هـ) ، وفوّض إليه أن يُولي التدريس فيها من يشاء.
ويبدو أن بني عصرون ظلوا أكثر من قرن يتوارثون الإشراف على أوقاف "المدرسة النورية" في بعلبك ، وقصروها على مذهبهم الشافعي، وكانوا يرفضون إشراك سائر المذاهب في تدريس النورية، حتى سنة 664هـ، عندما ظهر (كتاب وقف هذه المدرسة) ، وتبيّن أنه ينصّ على إشتراك الشافعية وغيرهم من المشتغلين بالعلم من أهل السُّنة. وقد دوّن موسى اليونيني الحنبلي بفرح ظهور كتاب الوقف في تاريخه "ذيل مرآة الزمان[14]".
إن آثار المدرسة النورية ما زالت قائمة إلى اليوم، ملاصقة للمسجد الكبير شرقي هياكل بعلبك، ولها ثلاثة أبواب تفضي إلى المسجد من جهته الشرقية، ومساحتها 420 متراً مربعاً، ضمّت بضع غرف للطلاب والمشايخ وباحة للدرس ، تتوسطها بركة ماء ، طولها خمسة أمتار ، وعرضها أربعة أمتار، وعلى زواياها أربعة أعمدة مضلعة، ويتصدرها محراب، نقلت بعض حجارتها من الهياكل المجاورة.
وفي آخر هذا البحث ، تُوجد صورٌ فوتوغرافية عن آثار هذه المدرسة، ومجاورتها للمسجد الكبير.
وعدّ الدكتور حسن نصر الله ما يقارب (13) شيخاً قد تولوا التدريس في هذه المدرسة[15]. ومن أشهر هؤلاء حسين بن عبد الصمد (ت984هـ)، الذي درَّس مع شيخه الشهيد الثاني وأقام في بعلبك من سنة 953 حتى 965هـ[16]، أي إلى السنة التي توفي فيها أستاذه الشهيد الثاني، لأن الشيخ حسين في هذه السنة ارتحل مع ولده (بهاء الدين)، المولود في بعلبك، إلى إيران[17]، مع الإشارة، أن المنزل الذي ولد فيه (بهاء الدين) هو ما يزال خرباً في قرية إيعات ، وقد كتبت تحقيقاً عنه نشر في كتاب صدر أخيراً في إيران[18] ، وأجدد دعوتي اليوم إلى إعادة بنائه، وجعله متحفاً وطنياً.
الشهيد الثاني : سيرته ونهجه في بعلبك :
تعليق