
تحصين العقيدة المهدوية
الشيخ جاسم الوائلي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
إنّ الاعتقاد بوجود المهدي (عجّل الله فرجه) وبقائه حيّاً حتى يأذن الله تعالى له بالقيام هو كغيره من الاعتقادات الحقّة، من جهة أنّه عرضة للتزلزل والشّك، لسببٍ أو آخر.
وإلى هذه المسألة الخطيرة أشارت جملة من الروايات، من قبيل: ما رواه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)(١)، قال: «إذا فُقد الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم، لا يزيلكم عنها أحد، يا بنيّ؛ إنّه لابدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنّما هو محنة من الله (عزَّ وجلَّ) امتحن بها خلقه...»(٢).
ومن قبيل ما رواه المفضّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إيّاكم والتنويه، أما والله لَيغيبنّ إمامكم سنيناً من دهركم، ولتمحصنّ حتى يقال: مات، قُتل، هلك، بأيّ وادٍ سلك؟ ولتدمعنّ عليه عيون المؤمنين، ولتكفأنّ كما تكفأ السفن في أمواج البحر، فلا ينجو إلّا من أخذ الله ميثاقه، وكتب في قلبه الإيمان، وأيّده بروح منه، ولترفعنّ اثنتا عشرة رايةً مشتبهة، لا يُدرى أيٌّ من أيٍّ»، قال: فبكيت، ثم قلت: فكيف نصنع؟ قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفّة فقال: «يا أبا عبد الله(٣)؛ ترى هذه الشمس؟»، قلت: نعم، فقال: «والله لأمرنا أَبينُ من هذه الشمس»(٤).
ولتحصين الاعتقادات الحقّة مرتكزات ثلاثة:
المرتكز الأول: عدم اغترار المؤمن بما هو عليه من الإيمان أو العلم والمعرفة، بل عليه أن يستجير بالله تعالى على الدوام، ويستعيذ به من الزيغ والانحراف(٥)، وكما علّمنا سبحانه في كتابه بقوله: ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ﴾ (آل عمران: ٨).
والوجه في ذلك أنّ الإيمان والعلم وحدهما لا يعصمان الإنسان من الزيغ والضلال.
أمّا الإيمان فقد دلّت جملة من النصوص على إمكان زواله، كالنصّ الدالّ صريحاً على أنّ الإيمان منه مستقرٌّ، ومنه مستودع، وهذا الثاني قابل للزوال، وما دلّ على أنّ العبد ربما يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ومن الروايات الجامعة لكلا المعنيين ما رواه كليب بن معاوية الأسدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنّ العبد يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً، وقومٌ يُعارون الإيمانَ، ثمّ يُسلبونه، ويُسمَّون المُعارين، وفلانٌ منهم»(٦).
وأمّا العلم فلا شكّ في عدم كفايته للعصمة من الضلال، وإلّا فكثير من أئمّة الضلال هم من العلماء بلا أدنى شكّ، بل لو قيل: إنّ إبليس من أعلم العلماء لم يكن مجانباً للواقع.
المرتكز الثاني: مراجعة الأدلّة، لأنّها هي العلّة الموجبة للعلم بحقّانية هذه العقيدة أو تلك، ومن البديهيّ أنّ العلم بثبوت العلّة يستتبع وبشكل قهريّ العلم بثبوت المعلول، والمعلول هنا كما أسلفنا هي الحقّانية، والعلم بحقّانية العقيدة يستتبع قهراً منع حصول الشك فيها، أو رفعه لو حصل بالفعل.
هذا وقد أشبع العلماء والباحثون العقيدة المهدوية شرحاً واستدلالاً وبرهنة وردّاً للإشكالات التي وُجهت إليها، بحيث لم يتركوا لجاهل أو شاكٍّ أو مشكّكٍ عذراً.
المرتكز الثالث: معرفة الأسباب الموجبة للشّك، لأجل الحذر من الوقوع في شراكها كما حصل لبعضهم والعياذ بالله تعالى.
ومن هنا يتّضح أنّ تحصين العقيدة المهدوية من الشك والتزلزل يرتكز على هذه المرتكزات الثلاثة كغيرها من الاعتقادات الحقّة.
والبحث الذي بين يديك - عزيزي القارئ - يسلّط الضوء على المرتكز الثالث بالخصوص، ويستعرض بعض الأسباب الموجبة للشك في حقّانية العقيدة المهدوية، ويبيّن كيفية التغلّب عليها من خلال التذكير ببعض أدلّة حقّانيتها، ومن الله (عزَّ وجلَّ) نستمدّ العون والتوفيق.
جملة من أسباب الشك:
وفي هذا المجال نذكر ما تيسّر استحضاره من أسباب للشّك، ونتعرّض لكيفية معالجتها، ومنه يعرف الطريق لمعالجة ما لم نستحضره منها ولو بشكل مجمل.
ولما لم نكن بصدد تمييز الأهمّ منها عن المهمّ، لم نلتزم بذلك في ترتيبها، وربما كان المتأخّر أهمّ من المتقدّم، فلتكن على بيّنة من ذلك.
السبب الأوّل: الوسوسة:
من نافلة القول إنّ للوسوسة ثلاثة مصادر:
الأوّل: شياطين الجنّ بزعامة إبليس.
الثاني: شياطين الإنس.
الثالث: النفس الأمّارة بالسّوء.
والمعركة بين المؤمن وهؤلاء الثلاثة على قدم وساق، وهي معركة شرسة لم تتوقّف يوماً منذ أن كان آدم (عليه السلام) في الجنة، وهي مستمرّة حتى يوم الناس هذا، ولن تتوقّف مادام عالم الابتلاء والتكليف باقياً، أعني الحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ﴾ (الملك: ٢).
أمّا شياطين الجنّ فقد أخذ زعيمهم إبليس على نفسه أن يضلّ بني آدم (عليه السلام) مهما أمكنه ذلك حسداً منه وعداوة لآدم (عليه السلام) وبنيه، كما حكاه القرآن في مثل قوله تعالى: ﴿قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ﴾ (الأعراف: ١٦-١٧)، وقوله سبحانه: ﴿قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ (ص: ٨٢-٨٣).
ولذا جنّد جنوده من الجنّ، وأوكل إليهم مهمّة إضلال العباد كما بيّنته كلمات أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، من قبيل ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إنّ إبليس عليه لعائن الله يبثُّ جنود الليل من حيث تغيب الشمس وتطلع، فأكثروا ذكر الله (عزَّ وجلَّ) في هاتين الساعتين، وتعوّذوا بالله من شرّ إبليس وجنوده، وعوِّذوا صغاركم في تلك الساعتين، فإنّهما ساعتا غفلة»(٧).
وينبغي الالتفات إلى أنّ الشغل الشاغل لإبليس هو إضلال المؤمنين على وجه الخصوص كما جاء في رواية زرارة، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ﴾، قال: «يا زرارة؛ إنّما عَمَدَ لك ولأصحابك، وأمّا الآخرون فقد فرغ منهم»(٨).
وقد حذّر الله (عزَّ وجلَّ) ذرّية آدم (عليه السلام) من تسويل الشيطان وإضلاله، وسيأتي اليوم الذي يذكّر فيه سبحانه الذين لم يأخذوا بتحذيره تعالى، واتّبعوا أمر اللّعين، فيقول لهم: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا اليَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ (يس: ٦٠-٦٤).
وأمّا شياطين الإنس فقد أشير إليهم في قوله تعالى: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام: ١١٢).
وهؤلاء صنفان:
١ - المعادون للدين علناً من الملحدين والمشركين.
٢ - المعادون للدين في الخفاء والمتستّرون بغطاء الإسلام من المنافقين.
والصنف الأوّل كان ولا يزال يطعن في الدين بمختلف السبل، لا سيما في العصر الحديث، من قبيل ما يزعمونه من مخالفة تراث الإسلام للبحوث والدراسات العلمية والمكتشفات الحديثة، مع أنّ أكثرها مجرّد ظنون ونظريات لم يحسم أمرها بعد.
والصنف الثاني يلعب دور المساعد للأوّل، فهو يده التي تعبث بتعاليم الإسلام ومعارفه، من خلال التشكيك فيها بطرح التساؤلات التي من شأنها إثارة الشّك في نفوس عوامّ المسلمين، وأنّه لماذا جعل الله تعالى كذا كذا، ولم يجعله كذا؟ ولِمَ قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كذا أو فعل كذا، ولم يقل كذا أو يفعل كذا؟
وعموم الناس بطبيعتهم لا يلتفتون إلى الهدف الحقيقي من وراء طرح هذه الأسئلة، ظنّاً منهم أنّ الهدف من طرحها هو طلب العلم والتعلُّم.
وأمّا النفس الأمّارة بالسّوء فقد أشير إليها في قوله تعالى: ﴿وَما أُبَرِّئُ نَفْسِـي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (يوسف: ٥٣)، كما أشير إليها أيضاً في الروايات، من قبيل الحديث المعروف الذي رواه الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعث سرية فلّما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله؛ وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس»(٩)، وما رواه (قدِّس سرّه) عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: «أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»(١٠).
وعلى المؤمن أن تكون مجسّاته في غاية التحسُّس لما تسوّل به نفسه، ويميّز بين المسائل التي تطرحها النفس عليه، فإنّ الغرض الأساسي من طرحها لبعض المسائل هو إيجاد المبرّر للتحلُّل من الأحكام الإلزامية - الواجبات والمحرّمات - التي تتضمّنها تلك المسائل، كما في تساؤل بعض النساء عن دليل وجوب التستّر، وتساؤل بعض الرجال - لا سيما الشباب منهم - عن دليل حرمة إقامة علاقة صداقة مع الأجنبية بدون عقد شرعي تحت عنوان الحب مثلاً.
وممّا تقدّم يتّضح أنّ هذه المصادر الثلاثة: شياطين الجنّ، وشياطين الإنس، والنفس الأمّارة بالسّوء، بمقدورها أن تثير الشك في العقيدة المهدوية، وبعدّة طرق:
الطريق الأوّل: التشكيك في مجمل أدلّتها:
ويمكن دفعه من خلال مراجعة تلك الأدلّة وإتقانها، ولو من خلال الاستعانة بالعلماء أو بعض تلامذتهم.
الطريق الثاني: التشكيك في إمكان بقاء الإنسان حيّاً كلّ هذه المدّة:
وهذا والذي بعده هو من التشكيك في بعض مسائل العقيدة المهدوية.
والتشكيك المذكور هو ما أشارت إليه الروايتان اللّتان صدّرنا بهما البحث، لاسيما قول الإمام الصادق (عليه السلام) في رواية المفضّل بن عمر: «أما والله لَيغيبنّ إمامكم سنيناً من دهركم، ولتمحصنّ حتى يقال: مات، قُتل، هلك، بأيّ واد سلك؟».
تعليق