إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء

    الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء

    ١



    أعلام الهداية (٥)

    الإمام الحسين الشهيد (عليه السّلام)

    التأليف: لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم

    ٢



    أهل البيت في القرآن الكريم

    ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) .

    ____________________

    (١) سورة الأحزاب / ٣٣.

    ٣



    أهل البيت في الُسنّة النبويّة

    (( إنّي تارك فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ))(١) .

    ____________________

    (١) الصحاح والمسانيد.

    ٤



    فهرس إجمالي

    كلمة المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السّلام)

    الباب الأول:

    الفصل الأول: الإمام الحسين (عليه السّلام) في سطور

    الفصل الثاني: انطباعات عن شخصيته (عليه السّلام)

    الفصل الثالث: مظاهر من شخصيته (عليه السّلام)

    الباب الثاني:

    الفصل الأول: نشأة الإمام الحسين (عليه السّلام)

    الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الحسين (عليه السّلام)

    الفصل الثالث: الإمام الحسين (عليه السّلام) من الولادة إلى الإمامة

    الباب الثالث:

    الفصل الأول: عصر الإمام الحسين (عليه السّلام)

    الفصل الثاني: مواقف وإنجازات الإمام (عليه السّلام)

    الفصل الثالث: نتائج الثورة الحسينيّة

    الفصل الرابع: من تراث الإمام الحسين (عليه السّلام)

    ٥



    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى، ثمّ الصلاة والسّلام على مَنْ اختارهم هداةً لعباده، لاسيّما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمّد (صلّى الله عليه وآله) وعلى آله الميامين النجباء.

    لقد خلق الله الإنسان وزوّده بعنصري العقل والإرادة، فبالعقل يبصر، ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه.

    وقد جعل الله العقل المميِّز حجّةً له على خلقه، وأعانه بما أفاض على العقول من معين هدايته ؛ فإنّه هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلى طريق كماله اللائق به، وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها، وجاء به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها.

    وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهةٍ اُخرى.

    قال تعالى:

    ٦



    ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى ) (الأنعام / ٧١).

    ( يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (البقرة / ٢١٣).

    ( وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) (الأحزاب / ٤).

    ( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (آل عمران / ١٠١).

    ( قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (يونس / ٣٥).

    ( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (سبأ / ٦).

    ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ ) (القصص / ٥٠).

    فالله تعالى هو مصدر الهداية، وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الصّراط المستقيم وإلى الحقّ القويم. وهذه الحقائق يؤيّدها العلم، ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم.

    ولقد أودع الله في فطرة الإنسان النزوع إلى الكمال والجمال، ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف على طريق الكمال، ومن هنا قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (١) . وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة؛ إذ كانت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة الكمال.

    وبعد أن زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب والشهوة؛ ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال، لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة والهوى الناشئ منها والملازم لها؛ فمن هنا احتاج الإنسان - بالإضافة إلى عقله وسائر أدوات المعرفة - إلى ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية ؛ كي تتمّ عليه

    ____________________

    (١) سورة الذاريات / ٥٦.

    ٧



    الحجّة، وتكمل نعمة الهداية، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة، أو طريق الشرّ والشّقاء بملء إرادته.

    ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية أن يُسند عقل الإنسان عن طريق الوحي الإلهي، ومن خلال الهُداة الذين اختارهم الله لتولِّي مسؤولية هداية العباد، وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة، وإعطاء الإرشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة.

    وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلى مدى العصور والقرون، ولم يترك الله عباده مهملين دون حجّة هادية، وعلم مرشد ونور مُضيء، كما أفصحت نصوص الوحي - مؤيّدةً لدلائل العقل - بأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله على خلقه؛ لئلاّ يكون للناس على الله حجّة.

    فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق، ولو لم يبقَ في الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة. و[ قد ] صرّح القرآن بشكل لا يقبل الريب قائلاً إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (١) .

    ويتولّى أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في:

    ١ - تلقِّي الوحي بشكل كامل، واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة.

    وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة؛ ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) (٢) و( اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (٣) .

    ٢ - إبلاغ الرسالة الإلهية إلى البشرية ولمَنْ اُرسلوا إليه.

    ____________________

    (١) سورة الرعد / ٧.

    (٢) سورة الأنعام / ١٢٤.

    (٣) سورة آل عمران / ١٧٩.

    ٨



    ويتوّقف الإبلاغ على الكفاءة التامّة التي تتمثّل في الاستيعاب والإحاطة اللازمة بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و العصمة عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (١) .

    ٣ - تكوين اُمّة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة.

    وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم، قال تعالى يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (٢) ، والتزكية هي التربية باتّجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال كما قال تعالى لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٣) .

    ٤ - صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقرّرة لها. وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية والنفسية والتي تُسمّى العصمة.

    ٥ - العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية، وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية، وذلك بتنفيذ الاُطروحة الربّانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف على المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّى إدارة شؤون الاُمّة على أساس الرسالة الربّانية للبشرية، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً، وشجاعةً فائقةً، وصموداً كبيراً، ومعرفةً تامّةً بالنفوس وبطبقات المجتمع، والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية، وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة عالمية دينية.

    هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي

    ____________________

    (١) سورة البقرة / ٢١٣.

    (٢) سورة الجمعة / ٢.

    (٣) سورة الأحزاب / ٢١.

    ٩



    تصون القيادة الدينية من كلّ سلوك منحرف، أو عمل خاطئ بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً سلبيّاً على مسيرة القيادة وانقياد الاُمّة لها، بحيث يتنافى مع أهداف الرسالة وأغراضها.

    وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل التربية الشّاق، وتحمّلوا في سبيل أداء المهام الرسالية كلّ صعب، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني من أجل مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكأوا طرفة عين.

    وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ على مدى العصور برسالة خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، وحمّله الأمانة الكبرى ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق أهدافها.

    وقد خطا الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي:

    ١ - تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي على عناصر الديمومة والبقاء.

    ٢ - تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف.

    ٣ - تكوين اُمّة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة.

    ٤ - تأسيس دولة إسلاميّة، وكيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام، ويطبّق شريعة السّماء.

    ٥ - تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادته (صلّى الله عليه وآله).

    ١٠



    ولتحقيق أهداف الرّسالة بشكل كامل كان من الضّروري:

    أ - أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدّوائر.

    ب - أن تستمرّ عملية التّربية الصّحيحة باستمرار الأجيال على يد مربٍّ كفوء؛ علميّاً ونفسيّاً، حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسّلوك، كالرّسول (صلّى الله عليه وآله) يستوعب الرّسالة ويجسّدها في كلّ حركاته وسكناته.

    ومن هنا كان التّخطيط الإلهيّ يحتّم على الرّسول (صلّى الله عليه وآله) إعداد الصّفوة من أهل بيته، والتّصريح بأسمائهم وأدوارهم ؛ لتسلّم مقاليد الحركة النّبويّة العظيمة، والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه، وصيانة للرّسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجّاهلين وكيد الخائنين، وتربية الأجيال على قيم ومفاهيم الشّريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها، وكشف أسرارها وذخائرها على مرّ العصور، وحتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها.

    وتجلّى هذا التّخطيط الربّاني في ما نصّ عليه الرّسول (صلّى الله عليه وآله) بقوله( إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لنْ تضلّوا؛ كتاب الله وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض )) . وكان أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) خير مَنْ عرّفهم النّبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بأمر من الله تعالى لقيادة الاُمّة من بعده.

    إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السّلام) تُمثّل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الإسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ طريقه إلى أعماق الاُمّة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرّسول (صلّى الله عليه وآله)؛ فأخذ الأئمّة المعصومون (عليهم السّلام) يعملون على توعية الاُمّة

    ١١



    وتحريك طاقتها باتّجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ للشّريعة ولحركة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) وثورته المباركة، غير خارجين عن مسار السّنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة والاُمّة جمعاء.

    وتبلورت حياة الأئمّة الرّاشدين في استمرارهم على نهج الرّسول العظيم (صلّى الله عليه وآله)، وانفتاح الاُمّة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية، ومصابيح لإنارة الدّرب للسّالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاّء على الله وعلى مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذّائبين في الشّوق إليه، والسّابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود.

    وقد حفلت حياتهم بأنواع الجّهاد والصبر على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلا أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام الله تعالى، ثمّ اختاروا الشّهادة مع العزّ على الحياة مع الذّل فيها حتّى فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير.

    ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة، ويدّعوا دراستها بشكل كامل؛ ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون، واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق، عسى الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق.

    إنّ دراستنا لحركة أهل البيت (عليهم السّلام) الرّسالية تبدأ برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله) وتنتهي بخاتم الأوصياء، محمّد بن الحسن العسكري المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه وأنار الأرض بعدله).

    ويختصّ هذا الكتاب بدراسة حياة الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)، وهو المعصوم الخامس من أعلام الهداية، والثالث من الأئمّة الاثني عشر بعد

    ١٢



    رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي روّى بدمه الطاهر ودماء أهل بيته وأصحابه الأبرار شجرة الإسلام العظيمة، وصانها من الذّبول والانهيار، فكان - كما أخبر عنه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) - مصباح الهدى وسفينة النجاة لأمّة جدّه (صلّى الله عليه وآله) من طوفان الطّغاة والظّالمين.

    ولا بدَّ لنا من تقديم الشّكر إلى كلّ الإخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك وإخراجه إلى عالم النّور، لاسيّما أعضاء لجنة التأليف بإشراف سماحة السيّد منذر الحكيم (حفظه الله تعالى).

    ولا يسعنا إلاّ أن نبتهل إلى الله تعالى بالدعاء والشّكر لتوفيقه على إنجاز هذه الموسوعة المباركة، فإنّه حسبنا ونعم النصير.

    المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السّلام)

    قم المقدسة


  • #2
    الباب الأول

    وفيه فصول:

    الفصل الأوّل: الإمام الحسين (عليه السّلام) في سطور

    الفصل الثاني: انطباعات عن شخصيته (عليه السّلام)

    الفصل الثالث: مظاهر من شخصيته (عليه السّلام)

    ١٤



    الفصل الأول: الإمام الحسين الشهيد (عليه السّلام) في سطور

    * - الإمام أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهما السّلام) الشهيد بكربلاء، ثالث أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وسيّد شباب أهل الجّنة بإجماع المحدّثين، وأحد اثنين نسلت منهما ذرية الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، وأحد الأربعة الّذين باهل بهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نصارى نجران، ومن أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، ومن القربى الذين أمر الله بمودّتهم، وأحد الثقلين اللّذين مَنْ تمسّك بهما نجا، ومَنْ تخلّف عنهما ضلّ وغوى.

    * - نشأ الحسين مع أخيه الحسن (عليهما السّلام) في أحضانٍ طاهرةٍ، وحجورٍ طيّبةٍ ومباركةٍ؛ اُمّاً وأباً وجدّاً، فتغذّى من صافي معين جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) وعظيم خلقه ووابل عطفه، وحظي بوافر حنانه ورعايته حتّى أنّه ورّثه أدبه وهديه، وسؤدده وشجاعته؛ ممّا أهّله للإمامة الكبرى التي كانت تنتظره بعد إمامة أبيه المرتضى وأخيه المجتبى (عليهم السّلام)، وقد صرّح بإمامته للمسلمين في أكثر من موقف بقوله (صلّى الله عليه وآله)( الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا )) ،(( اللهمّ إنّي اُحبّهما فأحبّ مَنْ يُحبّهما )) .

    * - لقد التقى في هذا الإمام العظيم رافدا النبوّة والإمامة، واجتمع فيه

    ١٥



    شرف الحسب والنّسب، ووجد المسلمون فيه ما وجدوه في جدّه وأبيه واُمّه من طهر وصفاء ونبل وعطاء، فكانت شخصيّته تذكّر النّاس بهم جميعاً ؛ فأحبّوه وعظّموه.

    وكان إلى جانب ذلك كلّه مرجعهم الأوحد بعد أبيه وأخيه فيما كان يعترضهم من مشاكل الحياة واُمور الدين، لاسيّما بعد أن دخلت الاُمّة الإسلاميّة حياة حافلة بالمصاعب نتيجة سيطرة الحكم الاُموي الجاهلي حتّى جعلتهم في مأزق جديد لم يجدوا له نظيراً من قبل؛ فكان الحسين (عليه السّلام) هو الشّخصية الإسلاميّة الرّسالية الوحيدة التي استطاعت أن تخلّص اُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) خاصّة والإنسانية عامّة من براثن هذه الجاهلية الجديدة وأدرانها.

    * - لقد كان الحسين بن عليّ (عليهما السّلام) كأبيه المرتضى وأخيه المجتبى في جميع مراحل حياته ومواقفه العملية مثالاً للإنسان الرّسالي الكامل، وتجسيداً حيّاً للخلق النبويّ الرفيع في الصبر على الأذى في ذات الله، والسّماحة والجّود، والرّحمة والشّجاعة، وإباء الضّيم والعرفان، والتعبّد والخشية لله، والتواضع للحقّ والثورة على الباطل، ورمزاً شامخاً للبطولة والجّهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واُسوة مثلى للإيثار والتّضحية لإحياء المُثل العُليا التي اجتمعت في شريعة جدّه سيّد المرسلين، حتّى قال عنه جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله)( حسين منّي وأنا من حسين )) . معبّراً بذلك أبلغ التعبير عن سموّ هذه الشخصية العظيمة التي ولدها (صلّى الله عليه وآله) وربّاها بيديه الكريمتين.

    * - بقي الحسين بن علىّ (عليهما السّلام) بعد جدّه في رعاية الصدّيقة الزهراء سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام)، وفي كنف أبيه المرتضى سيّد الوصيّين وإمام المسلمين الذي عاش محنة الانحراف في قيادة الاُمّة المسلمة بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد حفّت بأبيه واُمّه نكبات هذه المحنة والصّراع مع الذين صادروا هذه الإمامة الكبرى بكلّ صلف ودون حجّة أو برهان.

    لقد عاش الحسين مع أخيه الحسن وأبيه عليّ واُمّه الزهراء (عليهم السّلام) هذه المحنة

    ١٦



    وتجرّع مرارتها، وهو لا يزال في سنّ الطفولة، ولكنّه كان يعي جيّداً عمق المحنة وشدّة المصيبة.

    * - شبَّ الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) أيّام خلافة عمر، وانصرف مع أبيه وأخيه عن السّياسة والتّصدي للحكم في ظاهر الأمر، وأقبل على تثقيف النّاس وتعليمهم معالم دينهم في خطّ الرّسالة الصحيح، والذي كان يتمثّل في سلوك والده عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) ومواقفه المبدئية المشرّفة.

    * - وقف الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى جانب أبيه (عليه السّلام) في عهد عثمان، وهو في عنفوان شبابه يعمل مخلصاً لأجل الإسلام، ويشترك مع أبيه في وضع حدّ للفساد الذي أخذ يستشري في جسم الاُمّة والدولة معاً في ظلّ حكم عثمان وبطانته، ولم يتعدّ مواقف أبيه (عليه السّلام) طيلة هذه الفترة، بل عمل كجندي مخلص للقيادة الشّرعية التي أناطها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأبيه المرتضى (عليه السّلام).

    * - وفي عهد الدولة العلوية المباركة وقف الحسين إلى جانب أبيه (عليهما السّلام) في جميع مواقفه وحروبه، ولم يتوانَ عن قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، بينما كان أبوه حريصاً على حياته وحياة أخيه الحسن (عليه السّلام)؛ خشية انقطاع نسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بموتهما، وبقيا إلى جانب أبيهما حتّى آخر لحظة، وهما يعانيان من أهل العراق ما كان يعانيه أبوهما المرتضى (عليه السّلام) حتّى استشهد في بيت من بيوت الله، وفاز بالشّهادة وهو في محراب العبادة بمسجد الكوفة، وفي أقدس لحظات حياته، أعني لحظة العبادة والتوجّه إلى ربّ الكعبة، حيث خرّ صريعاً وهو يقول( فزتُ وربِّ الكعبة )) .

    * - ثمّ وقف إلى جانب أخيه الحسن المجتبى (عليهما السّلام) بعد أن بايعه بالخلافة، كما بايعه عامّة المسلمين في الكوفة من المهاجرين والأنصار والتّابعين لهم بإحسان.

    ولم يتعدّ مواقف أخيه الّذي نصّ على إمامته كلّ من جدّه وأبيه (عليهما السّلام) بالرغم من كلّ المغريات التي كان يستعملها معاوية لإسقاط

    ١٧



    الإمام الحسن (عليه السّلام)، وتفتيت قواه والقضاء على حكومته المشروعة.

    * - لقد كان الحسين (عليه السّلام) يعي مواقف أخيه الحسن (عليه السّلام) بشكل تامّ والنتائج المترتّبة على تلك المواقف؛ لأنّه كان يدرك حراجة الظرف الذي كان يكتنف الاُمّة الإسلاميّة آنذاك.

    وبعد استشهاد الإمام علي (عليه السّلام) بشكل خاص، حيث انطلت ألاعيب معاوية وشعاراته الزائفة على جماعة كبيرة من السذّج والبسطاء، ممّن كانوا يشكّلون القاعدة العظمى في مجتمع الكوفة ومركز الخلافة الإسلاميّة، فأصبحوا يشكّون ويشكّكون في حقّانية خطّ الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) بعد ذلك التضليل الإعلامي الذي قام به معاوية وبطانته وعمّاله في صفوف الجيش المساند للإمام (عليه السّلام).

    ولم يستطع الإمام الحسن (عليه السّلام) بكلّ ما اُوتي من حنكة سياسية وشجاعة أدبية ورصانة منطقية أن يقنع تلك القاعدة الشّعبية، ويوقفها على زيف الشّعارات الاُموية في عدم صحّة الخضوع لشعار السّلم الذي كان قد تسلّح به معاوية لنيل الخلافة بأبخس الأثمان؛ ممّا اضطرّ الإمام الحسن (عليه السّلام) للإقدام على الصلح من موقع القوّة بعد أن نفَّذَ جميع الخطط السّياسية الممكنة، وبعد أن سلك جميع الطرق المعقولة التي ينبغي للقائد المحنّك أن يسلكها في تلك الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية التي كان يعيشها الإمام الحسن (عليه السّلام) وشيعته؛ فتنازل عن الخلافة، إلاّ إنّه لم يوقّع على شرعيّة حاكميّة معاوية، بالإضافة إلى أنّه قد اشترط شروطاً موضوعيةً تفضح واقع معاوية والحكم الاُموي على المدى القريب أو البعيد.

    * - وهكذا أفلح الإمام الحسن (عليه السّلام) بعد أن اختار الطريق الصعب، وتحمّل ما تحمّل من الأذى والمكروه من أقرب أفراد شيعته فضلاً عن أعدائه، حيث استطاع أن يكشف حقيقة الحكم الاُموي الجّاهلي الذي ارتدى لباس الإسلام ورفع شعار الصّلح والسّلم؛ ليقضي على الإسلام باسم الإسلام

    ١٨



    وبمَنْ ينتسب إلى قريش قبيلة الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، بعد أن خطّط بشكل حاذق خطّةً يتناسى المسلمون بسببها أنّ آل أبي سفيان الذين يتربّعون اليوم على كرسي الحكم الإسلامي، ويحكمون المسلمين باسم الرّسول (صلّى الله عليه وآله) وخلافته، هم الذين حاربوا الإسلام بالأمس القريب.

    * - وبهذا هيّأ الإمام الحسن (عليه السّلام) - بتوقيعه على وثيقة الصّلح - الأرضية اللازمة للثورة على الحكم الاُمويّ الجاهليّ الذي ظهر بمظهر الإسلام من جديد، وذلك بعد أن أخلف معاوية كلّ الشّروط التي اشترطها عليه الإمام الحسن (عليه السّلام) بما فيها عدم تعيين أحد للخلافة من بعده، وعدم التعرّض لشيعة عليّ وللإمام الحسن والحسين (عليهما السّلام) بمكروه.

    ولم يستطع معاوية أن يتمالك نفسه أمام هذه الشّروط حتّى سوّلت له نفسه أن يدسّ السمّ الفاتك إلى الإمام الحسن (عليه السّلام)؛ ليستطيع توريث الخلافة لابنه الفاسق يزيد، ولكنّه لم يعِ نتائج هذا التنكّر للشروط ولنتائج هذه المؤامرة القذرة.

    وقد أيقن المسلمون - بعد مرور عقدين من الحكم الاُموي - بشراسة هذا الحكم وجاهليّته؛ ممّا جعل القواعد الشعبية الشيعية تستعدّ لخوض معركة جديدة ضدّ النظام الحاكم، وبذلك تهيّأت الظروف الملائمة للثورة، واكتملت الشّروط اللازمة بموت معاوية ومجيء يزيد الفاسق، شارب الخمور، والمستهتر بأحكام الدين إلى سدّة الحكم، والإقدام على أخذ البيعة من وجوه الصّحابة وعامّة التّابعين، والإصرار على أخذها من مثل أبيّ الضّيم أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) سيّد أهل الإباء وإمام المسلمين.

    * - لقد حكم معاوية بن أبي سفيان ما يُقارب عشرين سنة، متّبعاً سياسة التّجويع والإرهاب، والخداع والتّزوير؛ ممّا أدّى إلى انكشاف حقيقته للاُمّة من جهة، في حين أنّها كانت قد ابتليت بداء موت الضّمير، وداء فقدان الإرادة من جهة اُخرى، وهكذا استيقظت الاُمّة من سُباتها، وزال شكّها بحقّانية خطّ

    ١٩



    أهل البيت (عليهم السّلام)، بعد أن ارتفع جهلها بحقيقة الاُمويّين، ولكنّها لم تقوَ على مقارعة الظّلم والظّالمين، وأصبحت كما قال الفرزدق للإمام الحسين(عليه السّلام) حين كان متوجّهاً إلى العراق ومستجيباً لدعوة الكوفيين: قلوبهم معك وسيوفهم عليك.

    ومن هنا تأكّد الموقف الشّرعي للإمام الحسين (عليه السّلام) بعد أن توفّرت كلّ الظّروف اللازمة للقيام في وجه الاُمويّين الجّاهليّين، بينما لم تكن النّهضة مفيدة للاُمّة في حالة الابتلاء بمرض الشكّ والترديد التي كانت تعاني منه في عصر الإمام الحسن السّبط (عليه السّلام).

    لقد تمّت الحجّة على الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السّلام) حينما راسله أهل العراق، وطلبوا منه التّوجّه نحوهم، بعد أن أخرجوا عامل بني اُمية من الكوفة وتمرّدوا على الاُمويّين، حيث كان هذا أحد مظاهر رجوع الوعي إلى عامّة شيعة أهل البيت (عليهم السّلام).

    فاستجاب الإمام الحسين (عليه السّلام) لطلبهم، وتحرّك نحوهم بالرغم من علمه بعدم ثباتهم، وضعف إرادتهم أمام إغراءات الحاكمين واضطهادهم وإرهابهم؛ وذلك لأنّه كان لا بدّ له من معالجة هذا المرض الجديد الّذي يؤدّي باستشرائه إلى ضياع معالم الرسالة، وفسح المجال لتحويل الخلافة إلى كسرويّة وقيصريّة، وإعطاء المشروعية لمثل حكم يزيد وأضرابه من الجّاهليّين الذين تستّروا بستار الشّريعة الإسلاميّة لضرب الشّريعة وتمزيقها.

    * - وبعد أن استجمعت ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) كلّ الشّروط اللازمة لنجاحها وبلوغ أهدافها(١) نهض مستنفراً كلّ طاقاته وقدراته التي كان قد

    ____________________

    (١) راجع الشّروط الضّرورية الخمسة للنجاح، والتي توفّرت في ثورة الحسين (عليه السّلام) في كتاب (ثورة الحسين. النظرية - الموقف - النتائج) - للسيّد محمّد باقر الحكيم، الطبعة الأولى، منشورات مؤسّسة الإمام الحسين (عليه السّلام) / ٦٢ - ٩٢، وراجع مجلّة الفكر الإسلامي العدد (١٧) مقال الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر حول الثورة الحسينيّة تحت عنوان (التخطيط الحسيني لتغيير أخلاقية الهزيمة).

    ٢٠



    أعدّها وهيّأها في ذلك الظرف التأريخي في صنع ملحمته الخالدة، فحرّك ضمير الاُمّة، وأعادها لتسلك مسيرة رسالتها، وبعث شخصيّتها العقائدية من جديد، وسلب المشروعية من الحكّام الطّغاة، ومزّق كلّ الأقنعة الخدّاعة التي كانوا قد تستّروا بها، وأوضح الموقف الشّرعي للاُمّة على مدى الأجيال.

    ولم يستطع الطّغاة أن يشوّهوا معالم نهضته، كما لم يستطيعوا أن يقفوا بوجه المدّ الثوري الذي أحدثه على مدى العصور، ذلك المدّ الذي أطاح بحكم بني اُميّة وبني العباس ومَنْ حذا حذوهم، فكانت ثورته مصدر إشعاع رسالي لكلّ الاُمم، كما كانت القيم الرساليّة التي طرحها وأكّد عليها محفّزاً ومعياراً لتقييم كلّ الحكومات والأنظمة السّياسية الحاكمة، فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.

    * * *

    ٢١



    الفصل الثاني: انطباعات عن شخصيّة الإمام الحسين (عليه السّلام)

    تعليق


    • #3
      الفصل الثاني: انطباعات عن شخصيّة الإمام الحسين (عليه السّلام)
      [ أوّلاً ] مكانة الإمام الحسين (عليه السّلام) في آيات الذكر الحكيم


      لم تتّفق كلمة المسلمين في شيء كاتّفاقهم على فضل أهل البيت (عليهم السّلام) وعلوّ مقامهم العلمي والروحي، وانطوائهم على مجموعة الكمالات التي أراد الله للإنسانيّة أن تتحلّى بها.

      ويعود هذا الاتّفاق إلى جملة من الاُصول، منها تصريح الذكر الحكيم بالموقع الخاصّ لأهل البيت (عليهم السّلام) من خلال التنصيص على تطهيرهم من الرجس، وأنّهم القربى الذين تجب مودّتهم كأجر للرسالة التي أتحف الله بها الإنسانيّة جمعاء، وأنّهم الأبرار الذين أخلصوا الطاعة لله، وخافوا عذاب الله، وتجلببوا بخشيته فضمن لهم الجّنة والنّجاة من عذابه.

      والإمام الحسين (عليه السّلام) هو من أهل البيت (عليهم السّلام) المطهّرين من الرّجس بلا ريب، بل هو ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بنصّ آية المباهلة التي جاءت في حادثة المباهلة مع نصارى نجران.

      وقد خلّد القرآن الكريم هذا الحدث بمداليله العميقة في قوله تعالى فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ

      ٢٢



      وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (١) .

      وروى جمهور المحدّثين بطرق مستفيضة أنّها نزلت في أهل البيت (عليهم السّلام)، وهم: رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين)، كما صرّحوا على أنّ الأبناء هنا هما الحسنان (عليهما السّلام) بلا ريب.

      وتضمّنت هذه الحادثة تصريحاً من الرّسول (صلّى الله عليه وآله) بأنّهم خير أهل الأرض وأكرمهم على الله؛ ولهذا فهو يباهل بهم. واعترف أسقف نجران بذلك أيضاً قائلاً: « أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحد أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله »(٢) .

      وهكذا دلّت القصة كما دلّت الآية على عظيم منزلتهم وسموّ مكانتهم وأفضليّتهم، وأنّهم أحبّ الخلق إلى الله ورسوله، وأنّهم لا يدانيهم في فضلهم أحد من العالمين.

      ولم ينصّ القرآن الكريم على عصمة أحد غير النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من المسلمين سوى أهل البيت (عليهم السّلام) الذين أراد الله أن يطهّرهم من الرجس تطهيراً(٣) .

      ولئن اختلف المسلمون في دخول نساء النبيّ في مفهوم أهل البيت (عليهم السّلام) فإنّهم لم يختلفوا قطّ في دخول عليّ والزهراء والحسنَيْن (عليهم السّلام) في ما تقصده الآية المباركة(٤) .

      ____________________

      (١) سورة آل عمران / ٦١.

      (٢) نور الأبصار / ١٠٠، وراجع تفسير الجلالين، وروح البيان والكشّاف، والبيضاوي والرازي، وصحيح الترمذي ٢ / ١٦٦، وسنن البيهقي ٧ / ٦٣، وصحيح مسلم / كتاب فضائل الصحابة، ومسند أحمد ١ / ٨٥، ومصابيح السّنة ٢ / ٢٠١.

      (٣) كما نصّت على ذلك الآية ٣٣ من سورة الأحزاب.

      (٤) راجع التفسير الكبير - للفخر الرازي، وتفسير النيسابوري، وصحيح مسلم ٢ / ٣٣، وخصائص النسائي / ٤، ومسند أحمد ٤ / ١٠٧، وسنن البيهقي ٢ / ١٥٠، ومشكل الآثار ١ / ٣٣٤، ومستدرك الحاكم ٢ / ٤١٦، واُسد الغابة ٥ / ٥٢١.

      ٢٣



      ومن هنا نستطيع أن نفهم السرّ الكامن في وجوب مودّتهم والالتزام بخطّهم، وترجيح حبّهم على حبّ مَنْ سواهم بنصّ الكتاب العزيز(١) .

      فإنّ عصمة أهل البيت (عليهم السّلام) أدلّ دليل على أنّ النّجاة في متابعتهم حينما تتشعّب الطّرق وتختلف الأهواء، فمَنْ عصمه الله من الرجس وكان دالاًّ على النّجاة كان متّبعه ناجياً من الغرق.

      ونصّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) - كما عن ابن عباس - بأنّ آية المودّة في القربى حينما نزلت وسأله بعض المسلمين عن المقصود من القرابة التي أوجبت على المسلمين طاعتهم بقوله( إنّهم عليّ وفاطمة وابناهما )) (٢) .

      ولا يتركنا القرآن الحكيم حتّى يبيّن لنا أسباب هذا التفضيل في سورة « الدهر »، التي نزلت لبيان عظمة الواقع النفسي الذي انطوى عليه أهل البيت (عليهم السّلام)، والإخلاص الذي تقترن به طاعتهم وعباداتهم، بقوله تعالى إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ) (٣) .

      لقد روى جمهور المفسّرين والمحدّثين أنّ هذه السّورة المباركة نزلت في أهل البيت (عليهم السّلام) بعد ما مرض الحسنان، ونذر الإمام صيام ثلاثة أيام شكراً لله إن برئا، فوفوا بنذرهم أيّما وفاء، إنّه وفاءٌ جسَّد أروع أنواع الإيثار حتّى نزل قوله تعالى إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (٤) .

      فشكر الله

      ____________________

      (١) قال تعالى في سورة الشورى الآية ٢٣ مخاطباً رسوله الكريم قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) . وقال في سورة سبأ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) .

      (٢) راجع التفسير الكبير، وتفسير الطبري، والدرّ المنثور في تفسير آية المودّة.

      (٣) سورة الإنسان / ٩ - ١٢.

      (٤) سورة الإنسان / ٥ - ٧.

      ٢٤



      سعيهم على هذا الإيثار والوفاء بما أورثهم في الآخرة، وبما حباهم من الإمامة للمسلمين في الدنيا حتّى يرث الأرض ومَنْ عليها.
      [ ثانياً ] مكانة الإمام الحسين (عليه السّلام) لدى خاتم المرسلين (صلّى الله عليه وآله)


      لقد خصّ الرّسول الأعظم حفيديه الحسن والحسين (عليهما السّلام) بأوصاف تنبئ عن عظم منزلتهما لديه، فهما:

      ١ - ريحانتاه من الدنيا، وريحانتاه من هذه الأمّة(١) .

      ٢ - وهما خير أهل الأرض(٢) .

      ٣ - وهما سيّدا شباب أهل الجّنة(٣) .

      ٤ - وهما إمامان قاما أو قعدا(٤) .

      ٥ - وهما من العترة (أهل البيت) التي لا تفترق عن القرآن إلى يوم القيامة، ولن تضلّ اُمّة تمسّكت بهما(٥) .

      ٦ - كما أنّهما من أهل البيت الذين يضمنون لراكبي سفينتهم النّجاة من الغرق(٦) .

      ٧ - وهما ممّن قال عنهم جدّهم( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف )) (٧) .

      ٨ - وقد استفاض الحديث عن مجموعة من أصحاب الرّسول (صلّى الله عليه وآله) أنّهم قد سمعوا مقالته فيما يخصّ الحسنين (عليهما السّلام)( اللهمّ إنّك تعلم أ نّي اُحبُّهما

      ____________________

      (١) صحيح البخاري ٢ / ١٨٨، وسنن الترمذي / ٥٣٩.

      (٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ٦٢.

      (٣) سنن ابن ماجة ١ / ٥٦، والترمذي / ٥٣٩.

      (٤) المناقب - لابن شهر آشوب ٣ / ١٦٣، نقلاً عن مسند أحمد وجامع الترمذي وسنن ابن ماجة وغيرهم.

      (٥) جامع الترمذي / ٥٤١، ومستدرك الحاكم ٣ / ١٠٩.

      (٦) حلية الأولياء ٤ / ٣٠٦.

      (٧) مستدرك الحاكم ٣ / ١٤٩.

      ٢٥



      فأحبَّهما وأحبّ مَنْ يحبّهما )) (١) .
      [ ثالثاً ] مكانة الإمام الحسين (عليه السّلام) لدى معاصريه


      ١ - قال عمر بن الخطّاب للحسين (عليه السّلام): فإنّما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثمّ أنتم(٢) .

      ٢ - قال عثمان بن عفان في الحسن والحسين (عليهما السّلام) وعبد الله بن جعفر: فطموا العلم فطماً(٣) ، وحازوا الخير والحكمة(٤) .

      ٣ - قال أبو هريرة: دخل الحسين بن عليّ وهو معتمّ، فظننت أنّ النبيّ قد بُعث(٥) .

      وكان (عليه السّلام) في جنازة فأعيى، وقعد في الطريق، فجعل أبو هريرة ينفض التراب عن قدميه بطرف ثوبه، فقال له( يا أبا هريرة، وأنت تفعل هذا؟ )) . فقال له: دعني، فوالله لو يعلم الناس منك ما أعلم لحملوك على رقابهم(٦) .

      ٤ - أخذ عبد الله بن عباس بركاب الحسن والحسين (عليهما السّلام) فعوتب في ذلك، وقيل له: أنت أسنّ منهما. فقال: إنّ هذين ابنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أفليس من سعادتي أن آخذ بركابهما(٧) ؟

      وقال له معاوية بعد وفاة الحسن (عليه السّلام): يابن عباس، أصبحت سيّد قومك. فقال: أمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين فلا(٨) .

      ٥ - قال أنس بن مالك - وكان قد رأى الحسين (عليه السّلام) -: كان أشبههم

      ____________________

      (١) خصائص النسائي / ٢٦.

      (٢) الإصابة ١ / ٣٣٣، وقال: سنده صحيح.

      (٣) فطموا العلم فطماً: أي قطعوه عن غيرهم قطعاً، وجمعوه لأنفسهم جمعاً.

      (٤) الخصال / ١٣٦.

      (٥) بحار الأنوار ١٠ / ٨٢.

      (٦) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٢٢.

      (٧) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٢٢.

      (٨) حياة الإمام الحسين - للقرشي ٢ / ٥٠٠.

      ٢٦



      برسول الله (صلّى الله عليه وآله)(١) .

      ٦ - قال زيد بن أرقم لابن زياد حين كان يضرب شفتي الحسين (عليه السّلام): اعل بهذا القضيب، فوالله الذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على هاتين الشفتين يُقبّلهما. ثمّ بكى.

      فقال له ابن زياد: أبكى الله عينك، فوالله لولا أنّك شيخ قد خرفت لضربت عنقك. فخرج وهو يقول: أنتم يا معشر العرب، العبيد بعد اليوم؛ قتلتم الحسين بن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة! فهو يقتل خياركم ويستبقي شراركم(٢) .

      ٧ - قال أبو برزة الأسلمي ليزيد حينما رآه ينكث ثغر الحسين (عليه السّلام): أتنكث بقضيبك في ثغر الحسين؟! أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يرشفه! أما إنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمّد شفيعه(٣) .

      ٨ - وحين قال معاوية لعبد الله بن جعفر: أنت سيّد بني هاشم. أجابه قائلاً: سيّد بني هاشم حسن وحسين(٤) .

      وكتب إليه: إن هلكت اليوم طُفئ نور الإسلام؛ فإنّك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين(٥) .

      ٩ - سأل رجل عبد الله بن عمر عن دم البعوض يكون في الثوب أفيصلى فيه؟ فقال له: ممّن أنت؟ قال: من أهل العراق. فقال ابن عمر: انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول( هما ريحانتاي من الدنيا )) (٦) !

      ____________________

      (١) أعيان الشيعة ١ / ٥٦٣.

      (٢) اُسد الغابة ٢ / ٢١.

      (٣) الحسن والحسين سبطا رسول الله / ١٩٨.

      (٤) الحسن بن عليّ - لكامل سليمان / ١٧٣.

      (٥) البداية والنهاية ٨ / ١٦٧.

      (٦) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣١٤.

      ٢٧



      ١٠ - قال محمّد بن الحنفيّة: إنّ الحسين أعلمنا علماً، وأثقلنا حلماً، وأقربنا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رحماً؛ كان إماماً فقيهاً...(١) .

      ١١ - مرّ الحسين (عليه السّلام) بعمرو بن العاص وهو جالس في ظلّ الكعبة، فقال: هذا أحب أهل الأرض إلى أهل الأرض وإلى أهل السّماء اليوم(٢) .

      ١٢ - قال عبد الله بن عمرو بن العاص - وقد مرّ عليه الحسين (عليه السّلام) -: مَنْ أحبّ أن ينظر إلى أحبّ أهل الأرض إلى أهل السّماء فلينظر إلى هذا المجتاز(٣) .

      ١٣ - وحين أشار يزيد على أبيه معاوية أن يكتب للحسين (عليه السّلام) جواباً عن كتاب كتبه له؛ على أن يصغّر فيه الحسين (عليه السّلام)، قال معاوية رادّاً عليه: وما عسيت أن أعيب حسيناً؟! ووالله ما أرى للعيب فيه موضعاً(٤) .

      ١٤ - قال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان (والي المدينة) لمروان بن الحكم لمّا أشار عليه بقتل الحسين (عليه السّلام) إذا لم يبايع: والله يا مروان، ما أُحبّ أنّ لي الدنيا وما فيها وأنّي قتلت الحسين. سبحان الله! أقتل حسيناً إن قال لا اُبايع؟! والله إنّي لأظنّ أنّ مَنْ يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم القيامة(٥) .

      ١٥ - لمّا قبض ابن زياد على قيس بن مسهر الصيداوي - رسول الحسين (عليه السّلام) إلى أهل الكوفة - أمره أن يصعد المنبر ويسبّ الحسين وأباه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس، إنّ هذا الحسين بن عليّ، خير خلق الله، وهو ابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر من بطن ذي الرّمّة فأجيبوه، واسمعوا له وأطيعوا.

      ثمّ لعن

      ____________________

      (١) بحار الأنوار ١٠ / ١٤٠.

      (٢) تأريخ ابن عسساكر ٤ / ٣٢٢.

      (٣) بحار الأنوار ١٠ / ٨٣.

      (٤) أعيان الشيعة ١ / ٥٨٣.

      (٥) البداية والنهاية ٨ / ١٤٧.

      ٢٨



      عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ والحسين (عليهما السّلام)؛ فأمر به ابن زياد فأُلقي من رأس القصر فتقطّع(١) .

      ١٦ - من خطبة ليزيد بن مسعود النهشلي (رحمه الله): وهذا الحسين بن عليّ ابن رسول الله (عليه السّلام)، ذو الشّرف الأصيل، والرأي الأثيل، له فضل لا يُوصف، وعلم لا يُنزف، وهو أولى بهذا الأمر؛ لسابقته وسنّه، وقدمه وقرابته؛ يعطف على الصغير، ويحنو على الكبير، فأكرم به راعي رعيّة، وإمام قومٍ وجبت لله به الحجّة، وبلغت به الموعظة(٢) .

      ١٧ - قال عبد الله بن الحرّ الجعفي: ما رأيت أحداً قطّ أحسن ولا أملأ للعين من الحسين(٣) .

      ١٨ - قال إبراهيم النخعي: لو كنت فيمَنْ قاتل الحسين ثمّ اُدخلت الجّنة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(٤) .
      [ رابعاً ] الإمام الحسين (عليه السّلام) عبر القرون والأجيال


      ١ - قال الربيع بن خيثم لبعض مَنْ شهد قتل الحسين (عليه السّلام): والله لقد قتلتم صفوة لو أدركهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لقبّل أفواههم، وأجلسهم في حجره(٥) .

      ٢ - قال ابن سيرين: لم تبكِ السّماء على أحد بعد يحيى بن زكريا إلاّ على الحسين (عليه السّلام)، ولما قُتل اسودّت السّماء، وظهرت الكواكب نهاراً حتّى رُؤيت الجوزاء عند العصر، وسقط التراب الأحمر، ومكثت السّماء سبعة أيام بلياليها كأنّها علقة(٦) .

      ____________________

      (١) المصدر السابق ١٨ / ١٦٨.

      (٢) أعيان الشيعة ١ / ٥٩٠.

      (٣) أعيان الشيعة ٤ / ق ١ / ١١٨.

      (٤) الإصابة ١ / ٣٣٥.

      (٥) بحار الأنوار ١٠ / ٧٩.

      (٦) تأريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩.

      ٢٩



      ٣ - قال علي جلال الحسيني: السيّد الزكي الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وريحانته، وابن أمير المؤمنين عليّ (كرّم الله وجهه)، وشأن بيت النبوّة له أشرف نسب وأكمل نفس، جمع الفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال؛ من علوّ الهمّة، ومنتهى الشجاعة، وأقصى غاية الجود، وأسرار العلم، وفصاحة اللسان، ونصرة الحقّ، والنهي عن المنكر، وجهاد الظلم، والتواضع عن عزّ، والعدل، والصبر، والحلم، والعفاف، والمروءة، والورع وغيرها.

      واختصّ بسلامة الفطرة، وجمال الخلقة، ورجاحة العقل، وقوّة الجسم، وأضاف إلى هذه المحامد كثرة العبادة وأفعال الخير، كالصلاة والحج والجهاد في سبيل الله والإحسان. وكان إذا أقام بالمدينة أو غيرها مفيداً بعلمه، مرشداً بعمله، مهذّباً بكريم أخلاقه، ومؤدّباً ببليغ بيانه، سخيّاً بماله، متواضعاً للفقراء، مُعَظّماً عند الخلفاء، موصِلاً للصدقة على الأيتام والمساكين، منتصفاً للمظلومين، مشتغلاً بعبادته، مشى من المدينة على قدميه إلى مكّة حاجّاً خمساً وعشرين مرّة....

      كان الحسين في وقته علم المهتدين ونور الأرض، فأخبار حياته فيها هدىً للمسترشدين بأنوار محاسنه المقتفين آثار فضله(١) .

      ٤ - قال محمّد رضا المصري: هو ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وعلم المهتدين، ورجاء المؤمنين(٢) .

      ٥ - قال عمر رضا كحالة: الحسين بن عليّ، وهو سيّد أهل العراق فقهاً وحالاً، وجوداً وبذلاً(٣) .

      ____________________

      (١) راجع كتابه « الحسين » (عليه السّلام) ١ / ٦. وراجع أيضاً مجمع الزوائد ٩/٢٠١، وبحار الأنوار ٤٤ / ١٩٣.

      (٢) الحسن والحسين سبطا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) / ٧٥.

      (٣) أعلام النساء ١ / ٢٨.

      ٣٠



      ٦ - قال عبد الله العلايلي: جاء في أخبار الحسين: أنّه كان صورة احتبكت ظلالها من أشكال جدّه العظيم، فأفاض النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إشعاعة غامرة من حبّه، وأشياء نفسه؛ ليتمّ له أيضاً من وراء الصّورة معناها فتكون حقيقة من بعد كما كانت من قبل، إنسانيّة ارتقت إلى نبوّة(( أنا من حسين )) ، ونبوّة هبطت إلى إنسانيّة(( حسين منّي )) ، فسلام عليه يوم ولِد(١) .

      ٧ - قال عبّاس محمود العقّاد: مثل للنّاس في حلّة من النور تخشع لها الأبصار، وباء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الإنسان، غير مستثنى منهم عربي ولا عجمي، وقديم وحديث؛ فليس في العالم اُسرة أنجبت من الشهداء مَنْ أنجبتهم اُسرة الحسين عدّة وقدرة وذكرة، وحسبه أنّه وحده في تأريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السّنين(٢) .

      ٨ - قال عمر أبو النصر: هذه قصّة اُسرة من قريش، حملت لواء التضحية والاستشهاد والبطولة من مشرق الأرض إلى مغربها. قصة ألّف فصولها شباب ما عاشوا كما عاش النّاس، ولا ماتوا كما مات النّاس؛ ذلك أنّ الله شرّف هذه الجماعة من خلقه بأن جعل النبوّة والوحي والإلهام في منازلها، وزاد ندى فلم يشأ لها حظّ الرجل العادي من عبادة، وإنّما أرادها للتشريد والاستشهاد، وأرادها للمثل العليا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكتب لها أن تتزعّم لواء التقوى والصّلاح إلى آخر ما يكون من ذرّيتها(٣) .

      ٩ - قال عبد الحفيظ أبو السّعود: عنوان النضال الحرّ، والجهاد المستميت، والاستشهاد في سبيل المبدأ والعقيدة، وعدم الخضوع لجور

      ____________________

      (١) تاريخ الحسين (عليه السّلام) / ٢٢٦.

      (٢) أبو الشهداء الحسين بن عليّ (عليهما السّلام) / ١٥٠، طبعة النجف، مطبعة الغري الحديثة.

      (٣) آل محمّد في كربلاء / ٣٠.

      ٣١



      السّلطان وبغي الحاكمين(١) .

      تعليق


      • #4


        ١٠ - قال أحمد حسن لطفي: إنّ الموت الذي كان ينشده فيها كان يُمثّل في نظره مثلاً أروع من كلّ مثل الحياة؛ لأنّه الطريق إلى الله الذي منه المبتدأ وإليه المنتهى، ولأنّه السّبيل إلى الانتصار وإلى الخلود، فهو أعظم بطل ينتصر بالموت على الموت(٢) .

        ____________________

        (١) سبطا رسول الله الحسن والحسين / ١٨٨.

        (٢) الشهيد الخالد الحسين بن عليّ / ٤٧.

        ٣٢



        الفصل الثالث: مظاهر من شخصية الإمام الحسين (عليه السّلام)

        ولد الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السّلام) في بيت كان محطّ الملائكة ومهبط التنزيل، في بقعة طاهرة تتصل بالسّماء طوال يومها بلا انقطاع، وتتناغم مع أنفاسه آيات القرآن التي تُتلى آناء الليل والنهار، وترعرع بين شخصيّات مقدّسة تجلّلت بآيات الله، ونهل من نمير الرسالة عذب الارتباط مع الخالق، وصاغ لبنات شخصيته نبي الرحمة (صلّى الله عليه وآله) بفيض مكارم أخلاقه وعظمة روحه.

        فكان الحسين (عليه السّلام) صورة لمحمّد (صلّى الله عليه وآله) في اُمتّه، يتحرّك فيها على هدى القرآن، ويتحدّث بفكر الرسالة، ويسير على خُطى جدّه العظيم ليبيّن مكارم الأخلاق، ويرعى للاُمّة شؤونها، ولا يغفل عن هدايتها ونصحها ونصرتها.

        جاعلاً من نفسه المقدّسة اُنموذجاً حيّاً لما أرادته الرسالة والرسول؛ فكان (عليه السّلام) نور هدىً للضالّين، وسلسبيلاً عذباً للراغبين، وعماداً يستند إليه المؤمنون، وحجّة يركن إليها الصّالحون، وفيصل حقّ إذ يتخاصم المسلمون، وسيف عدل يغضب لله ويثور من أجل الله، وحين نهض كان بيده مشعل الرسالة الذي حمله جدّه النبي (صلّى الله عليه وآله) يدافع عن دينه ورسالته العظيمة.

        ومن الإمعان في شخصيّة الإمام الحسين (عليه السّلام) الفذّة نتلمّس المظاهر التالية:

        ٣٣


        [ أوّلاً ] تواضعه (عليه السّلام)


        جُبل أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) على التواضع ومجافاة الأنانية، وهو صاحب النّسب الرفيع، والشّرف العالي، والمنزلة الخصيصة لدى الرّسول(صلّى الله عليه وآله)، فكان (عليه السّلام) يعيش في الاُمّة لا يأنف من فقيرها، ولا يترفّع على ضعيفها، ولا يتكبّر على أحد فيها.

        يقتدي بجدّه العظيم المبعوث رحمةً للعالمين، يبتغي بذلك رضا الله وتربية الاُمّة، وقد نُقلت عنه (عليه السّلام) مواقف كثيرة تعامل فيها مع سائر المسلمين بكلّ تواضع، مظهراً سماحة الرسالة ولطف شخصيّته الكريمة، ومن ذلك:

        إنّه (عليه السّلام) قد مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً (خبزاً يابساً) على كساء، فسلّم عليهم، فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم، وقال( لولا أنّه صدقة لأكلت معكم )) . ثمّ قال( قوموا إلى منزلي )) ، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم.

        وروي: أنّه (عليه السّلام) مرّ بمساكين يأكلون في الصُّفَة، فقالوا: الغداء. فقال (عليه السّلام)( إنّ الله لا يُحبّ المتكبّرين )) . فجلس وتغدّى معهم، ثمّ قال لهم( قد أجبتكم فأجيبوني )) . قالوا: نعم. فمضى بهم إلى منزله وقال لزوجته( أخرجي ما كنتِ تدّخرين )) (١) .
        [ ثانياً ] حلمه وعفوه (عليه السّلام)


        تأدّب الحسين السّبط (عليه السّلام) بآداب النبوّة، وحمل روح جدّه الرّسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) يوم عفا عمّن حاربه ووقف ضد الرسالة الإسلاميّة، لقد كان قلبه يتّسع لكلّ النّاس، وكان حريصاً على هدايتهم متغاضياً في هذا السبيل عن إساءة جاهلهم، يحدوه رضى الله تعالى، يقرّب المذنبين ويطمئنهم، ويزرع

        ____________________

        (١) أعيان الشيعة ١ / ٥٨٠، تأريخ ابن عساكر - ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) ح ١٩٦، وتفسير البرهان ٢ / ٣٦٣.

        ٣٤



        فيهم الأمل برحمة الله، فكان لا يردّ على مسيء إساءة، بل يحنو عليه ويرشده إلى طريق الحقّ وينقذه من الضلال.

        فقد روي عنه (عليه السّلام) أنّه قال( لو شتمني رجل في هذه الاُذن - وأومأ إلى اليمنى -واعتذر لي في اليسرى لقبلت ذلك منه؛ وذلك أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) حدّثني أنّه سمع جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: لا يرد الحوض مَنْ لم يقبل العذر من محقّ أو مبطل )) (١) .

        كما روي أنّ غلاماً له جنا جنايةً كانت توجب العقاب، فأمر بتأديبه، فانبرى العبد قائلاً: يا مولاي، والكاظمين الغيظ. فقال (عليه السّلام)( خلّوا عنه )) . فقال: يا مولاي، والعافين عن النّاس. فقال (عليه السّلام)( قد عفوت عنك )) . قال: يا مولاي، والله يحبّ المحسنين. فقال (عليه السّلام)( أنت حرّ لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك )) (٢) .
        [ ثالثاً ] جوده وكرمه (عليه السّلام)


        وبنفس كبيرة كان الإمام الحسين بن علي (عليهما السّلام) يعين الفقراء والمحتاجين، ويحنو على الأرامل والأيتام، ويثلج قلوب الوافدين عليه، ويقضي حوائج السّائلين من دون أن يجعلهم يشعرون بذلّ المسألة، ويصل رحمه دون انقطاع، ولم يصله مال إلاّ فرّقه وأنفقه، وهذه سجيّة الجواد وشنشنة الكريم وسمة ذي السّماحة.

        فكان يحمل في دجى الليل البهيم جراباً مملوءاً طعاماً ونقوداً إلى منازل الأرامل واليتامى حتّى شهد له بهذا الكرم معاوية بن أبي سفيان، وذلك حين بعث لعدّة شخصيات بهدايا، فقال متنبّئاً: أمّا الحسين فيبدأ بأيتام مَنْ قُتل مع

        ____________________

        (١) إحقاق الحقّ ١١ / ٤٣١.

        (٢) كشف الغمّة ٢ / ٣١، والفصول المهمّة - لابن الصبّاغ / ١٦٨ مع اختلاف يسير، وأعيان الشيعة ٤ / ٥٣.

        ٣٥



        أبيه بصفّين، فإن بقي شيء نحر به الجزور وسقى به اللبن(١) .

        وفي موقف مفعم باللّطف والإنسانيّة والحنان جعل العتق ردّاً للتحية، فقد روى عن أنس أنّه قال: كنت عند الحسين فدخلت عليه جارية بيدها طاقة ريحان فحيّته بها، فقال لها( أنتِ حرّة لوجه الله تعالى )) .

        وانبهر أنس وقال: جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟! فقال (عليه السّلام)( كذا أدّبنا الله، قال تبارك وتعالى: ( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) ،وكان أحسن منها عتقها )) (٢) .

        ومن كرمه وعفوه أنّه وقف (عليه السّلام) ليقضي دين اُسامة بن زيد، وليفرّج عن همّه الذي كان قد اعتراه وهو في مرضه(٣) ، رغم أنّ اُسامة كان قد وقف في الصفّ المناوئ لأبيه أمير المؤمنين (عليه السّلام).

        ووقف ذات مرّة سائل على باب الحسين (عليه السّلام) وأنشد قائلاً:

        [TR]
        [TD="width: 236"]لم يخب الآن مَنْ رجاك ومَن
        [/TD]
        [TD="width: 18"][/TD]
        [TD="width: 233"]حرّك من دون بابك الحلقهْ
        [/TD]
        [/TR]
        [TR]
        [TD="width: 236"]أنت جوادٌ وأنت معتمدٌ
        [/TD]
        [TD="width: 18"][/TD]
        [TD="width: 233"]أبوك قد كان قاتل الفسقهْ
        [/TD]
        [/TR]
        فأسرع إليه الإمام الحسين (عليه السّلام) وما أن وجد أثر الفاقة عليه حتّى نادى بقنبر، وقال متسائلاً( ما تبقّى من نفقتنا؟ )) .

        قال: مئتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك.

        فقال (عليه السّلام)( هاتها فقد أتى مَنْ هو أحقّ بها منهم )) .

        فأخذها ودفعها إلى السائل معتذراً منه، وأنشد قائلاً:

        [TR]
        [TD="width: 236"](( خذها فإنّي إليك معتذرٌ
        [/TD]
        [TD="width: 18"][/TD]
        [TD="width: 233"]واعلم بأنّي عليك ذو شفقهْ
        [/TD]
        [/TR]
        [TR]
        [TD="width: 236"]لو كان في سيرنا الغداة عصاً
        [/TD]
        [TD="width: 18"][/TD]
        [TD="width: 233"]أمست سمانا عليك مندفقهْ
        [/TD]
        [/TR]
        [TR]
        [TD="width: 236"]لكنّ ريب الزمان ذو غِيرٍ
        [/TD]
        [TD="width: 18"][/TD]
        [TD="width: 233"]والكفّ منّي قليلة النفقهْ ))
        [/TD]
        [/TR]
        ____________________

        (١) حياة الإمام الحسين ١ / ١٢٨ عن عيون الأخبار.

        (٢) كشف الغمّة ٢ / ٣١، والفصول المهمّة / ١٦٧.

        (٣) بحار الأنوار ٤٤ / ١٨٩، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٦٥.

        ٣٦



        فأخذها الأعرابي شاكراً وهو يدعو له (عليه السّلام) بالخير، وأنشد مادحاً:

        [TR]
        [TD="width: 236"]مطهّرون نقيّات جيوبهمُ
        [/TD]
        [TD="width: 18"][/TD]
        [TD="width: 233"]تجري الصلاةُ عليهم أينما ذكروا
        [/TD]
        [/TR]
        [TR]
        [TD="width: 236"]وأنتمُ أنتمُ الأعلون عندكمُ
        [/TD]
        [TD="width: 18"][/TD]
        [TD="width: 233"]علمُ الكتاب وما جاءت به السورُ
        [/TD]
        [/TR]
        [TR]
        [TD="width: 236"]مَنْ لم يكن علويّاً حين تنسبُه
        [/TD]
        [TD="width: 18"][/TD]
        [TD="width: 233"]فما له في جميع النّاس مفتخرُ (١)
        [/TD]
        [/TR]
        [ رابعاً ] شجاعته (عليه السّلام)


        إنّ المرء ليعجز عن الوصف والقول حين يطالع صفحة الشّجاعة من شخصية الإمام الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنّه ورثها عن آبائه وتربّى عليها ونشأ فيها، فهو من معدنها وأصلها، وهو الشّجاع في قول الحقّ والمستبسل للدفاع عنه، فقد ورث ذلك عن جدّه العظيم محمّد (صلّى الله عليه وآله) الذي وقف أمام أعتا قوّة مشركة حتّى انتصر عليها بالعقيدة والإيمان والجهاد في سبيل الله تعالى.

        ووقف مع أبيه أمير المؤمنين (عليه السّلام) يُعيد الإسلام حاكماً، وينهض بالاُمّة في طريق دعوتها الخالصة، يُصارع قوى الضلال والانحراف بالقول والفعل وقوّة السّلاح؛ ليعيد الحقّ إلى نصّابه.

        ووقف مع أخيه الإمام الحسن (عليه السّلام) موقف الأبطال المضحّين من أجل سلامة الاُمّة، ونجاة الصّفوة المؤمنة المتمسّكة بنهج الرسالة الإسلاميّة.

        ووقف صامداً حين تقاعست جماهير المسلمين عن نصرة دينها أمام جبروت معاوية وضلاله، وأزلامه والتيار الذي قاده لتشويه الدين القويم، ولم يخشَ كلّ التهديدات، ولا ما كان يلوح في الاُفق من نهاية مأساوية نتيجة الخروج لطلب الإصلاح، وإحياء رسالة جدّه النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، والوقوف في وجه الظلم والفساد، فخرج وهو مسلّم لأمر الله وساع لابتغاء مرضاته،

        ____________________

        (١) تأريخ ابن عساكر ٤ / ٣٢٣، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٦٥.

        ٣٧



        وها هو (عليه السّلام) يردُّ على الحرّ بن يزيد الرياحي حين قال له: اُذكّرك الله في نفسك؛ فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلنّ، ولئن قوتلت لتهلكنّ.

        فقال له الإمام أبو عبد الله (عليه السّلام)( أبالموت تخوّفني؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟! ما أدري ما أقول لك، ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه:

        [TR]
        [TD="width: 236"]سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى
        [/TD]
        [TD="width: 18"][/TD]
        [TD="width: 233"]إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما
        [/TD]
        [/TR]
        [TR]
        [TD="width: 236"]وواسى رجالاً صالحين بنفسه
        [/TD]
        [TD="width: 18"][/TD]
        [TD="width: 233"]وخالف مثبوراً وفارق مجرما
        [/TD]
        [/TR]
        [TR]
        [TD="width: 236"]فإنْ عشت لم أندم وإنْ متّ لم اُلَم
        [/TD]
        [TD="width: 18"][/TD]
        [TD="width: 233"]كفى بك ذلاً أن تعيش وتُرغما )) (١)
        [/TD]
        [/TR]
        ووقف (عليه السّلام) يوم الطفّ موقفاً حيّر به الألباب وأذهل به العقول، فلم ينكسر أمام جليل المصاب حتّى عندما بقي وحيداً، فقد كان طوداً شامخاً لا يدنو منه العدوّ هيبةً وخوفاً رغم جراحاته الكثيرة حتّى شهد له عدوّه بذلك، فقد قال حميد بن مسلم: فوالله، ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه؛ إن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فيكشفهم عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا اشتدّ عليها الذئب(٢) .
        [ خامساً ] إباؤه (عليه السّلام)


        لقد تجلّت صورة الثائر المسلم بأبهى صورها وأكملها في إباء الإمام الحسين (عليه السّلام) ورفضه للصبر على الحيف والسّكوت على الظلم، فسنّ بذلك للأجيال اللاحقة سنّة الإباء والتضحية من أجل العقيدة وفي سبيلها، حين وقف ذلك الموقف الرسالي العظيم يهزّ الاُمّة ويشجّعها أن لا تموت هواناً

        ____________________

        (١) تأريخ الطبري ٤ / ٢٥٤، والكامل في التأريخ ٣ / ٢٧٠.

        (٢) أعلام الورى ١ / ٤٦٨، وتأريخ الطبري ٥ / ٥٤٠.

        ٣٨



        وذلاً، رافضاً بيعة الطليق ابن الطليق يزيد بن معاوية قائلاً( إنّ مثلي لا يبايع مثله )) .

        وها هو يصرّح لأخيه محمّد بن الحنفيّة مجسّداً ذلك الإباء بقوله (عليه السّلام)( يا أخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية )) (١) .

        ورغم أنّ الشيطان كان قد استحكم على ضمائر النّاس فأماتها حتّى رضيت بالهوان، لكن الإمام الحسين (عليه السّلام) وقف صارخاً بوجه جحافل الشرّ والظلم من جيوش الردّة الاُموية قائلاً( والله، لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد، إنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون )) (٢) .

        لقد كانت كلمات الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) تعبّر عن أسمى مواقف أصحاب المبادئ والقيم وحملة الرسالات، كما تنمّ عن عزّته واعتداده بالنفس، فقد قال (عليه السّلام)( ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيَّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلة! يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام )) (٣) .

        وهكذا علّم الإمام الحسين (عليه السّلام) البشرية كيف يكون الإباء في المواقف، وكيف تكون التضحية من أجل الرسالة.
        [ سادساً ] الصراحة والجرأة في الإصحار بالحقّ


        لقد كانت نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) وثورته بركاناً تفجّر في تأريخ

        ____________________

        (١) الفتوح - لابن أعثم ٥ / ٢٣، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٨٨، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٢٩.

        (٢) مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٨٠، وتأريخ الطبري ٤ / ٣٣٠، وإعلام الورى ١ / ٤٥٩، وأعيان الشيعة ١ / ٦٠٢.

        (٣) أعيان الشيعة ١ / ٦٠٣، والاحتجاج ٢ / ٢٤، ومقتل الحسين (عليه السّلام) - للخوارزمي ٢ / ٦.

        ٣٩



        الرسالة الإسلاميّة، وزلزالاً صاخباً أيقظ ضمير المتقاعسين عن نصرة الحقّ، والكلمة الطيبة التي دعت كلّ الثائرين والمخلصين للعقيدة والرسالة الإسلاميّة إلى مواصلة المسيرة في بناء المجتمع الصالح وفق ما أراده الله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله).

        وقد نهج الإمام الحسين (عليه السّلام) منهج الصراحة والمكاشفة، موضّحاً للاُمّة الخلل والزيغ والطريق الصحيح، فها هو بكلّ جرأة يقف أمام الطّاغية يحذّره ويمنعه عن التمادي في الغيّ والفساد... فهذه كتبه (عليه السّلام) إلى معاوية واضحة لا لبس فيها ينذره ويحذّر من الاستمرار في ظلمه، ويكشف للاُمّة مدى ضلالته وفساده(١) .

        وبكلّ صراحة وقوّة رفض البيعة ليزيد بن معاوية، وقال - موضّحاً للوليد ابن عتبة حين كان والياً ليزيد -( إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق فاجر، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله )) (٢) .

        وكانت صراحته ساطعة مع أصحابه ومَنْ أعلن عن نصرته، ففي أثناء المسير باتّجاه الكوفة وصله نبأ استشهاد مسلم بن عقيل وخذلان النّاس له، فقال (عليه السّلام) للذين اتّبعوه طلباً للعافية( قد خذلنا شيعتنا، فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه ذمام )) (٣) .

        فتفرّق عنه ذوو الأطماع وضعاف اليقين، وبقيت معه الصفوة الخيّرة من أهل بيته وأصحابه، ولم يخادع ولم يداهن في الوقت الذي كان يعزّ فيه الناصر.

        ____________________

        (١) الإمامة والسياسة ١ / ١٨٩ و ١٩٥.

        (٢) الفتوح ٥ / ١٤، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٨٤، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٢٥.

        (٣) الإرشاد ٢ / ٧٥، وتأريخ الطبري ٣ / ٣٠٣، والبداية والنهاية ٨ / ١٨٢، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٧٤.

        ٤٠



        وقبل وقوع المعركة أذن لكلّ مَنْ كان قد تبعه من المخلصين في الانصراف عنه قائلاً( إنّي لا أعلم أصحاباً أصحّ منكم ولا أعدل، ولا أفضل أهل بيت، فجزاكم الله عنّي خيراً. فهذا الليل قد أقبل، فقوموا واتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد صاحبه، أو رجل من إخوتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم؛ فإنّهم لا يطلبون غيري، ولو أصابوني وقدروا على قتلي لما طلبوكم )) (١) .

        والحقّ أنّ مَنْ يطالع كلّ تفاصيل نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) سيجد الصّدق والصّراحة، والجرأة في كلّ قول وفعل في جميع خطوات نهضته المباركة.
        [ سابعاً ] عبادته وتقواه (عليه السّلام)


        تعليق


        • #5
          [ سابعاً ] عبادته وتقواه (عليه السّلام)


          ما انقطع أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) عن الاتّصال بربّه في كلّ لحظاته وسكناته، فقد بقي يجسّد اتّصاله هذا بصيغة العبادة لله، ويوثّق العُرى مع الخالق جلّت قدرته، ويشدّ التضحية بالطاعة الإلهية متفانياً في ذات الله ومن أجله، وقد كانت عبادته ثمرة معرفته الحقيقية بالله تعالى.

          وإنّ نظرة واحدة إلى دعائه (عليه السّلام) في يوم عرفة تُبرهن على عمق هذه المعرفة وشدّة العلاقة مع الله تعالى، وننقل مقطعاً من هذا الدعاء العظيم:

          قال (عليه السّلام)( كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهِر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً...

          إلهي هذا ذُلّي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك. منك أطلب الوصول

          ____________________

          (١) الفتوح ٥ / ١٠٥، وتأريخ الطبري ٣ / ٣١٥، وأعيان الشيعة ١ / ٦٠٠.

          ٤١



          إليك، وبك استدلّ عليك، فاهدني بنورك إليك، وأقمني بصدق العبودية بين يديك ...

          أنت الذي أشرقتَ الأنوار في قلوب أوليائك حتّى عرفوك ووحّدوك، وأنت الذي أزلتَ الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم ...

          ماذا وَجدَ مَنْ فقدك؟! وما الذي فقد مَنْ وجدك؟! لقد خاب مَنْ رضي دونك بَدلاً، ولقد خسر مَنْ بغى عنك مُتحوّلاً ...

          يا مَنْ أذاق أحبّاءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملّقين، ويا مَنْ ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بين يديه مستغفرين )) (١) .

          ولقد بدا عليه عظيم خوفه من الله وشدّة مراقبته له حتّى قيل له: ما أعظم خوفك من ربّك! فقال (عليه السّلام)( لا يأمن يوم القيامة إلاّ مَنْ خاف من الله في الدنيا )) (٢) .
          صور من عبادته (عليه السّلام)


          إنّ العبادة لأهل بيت النبوّة (عليهم السّلام) هي وجود وحياة، فقد كانت لذّتهم في مناجاتهم لله تعالى، وكانت عبادتهم له متّصلة في الليل والنهار وفي السرّ والعلن، والإمام الحسين (عليه السّلام) - وهو أحد أعمدة هذا البيت الطاهر - كان يقوم بين يدي الجبّار مقام العارف المتيقّن والعالم العابد، فإذا توضّأ تغيّر لونه وارتعدت مفاصله، فقيل له في ذلك فقال (عليه السّلام)( حقّ لمَنْ وقف بين يدي الجبّار أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله )) (٣) .

          وحرص (عليه السّلام) على أداء الصّلاة في أحرج المواقف، حتّى وقف يؤدّي

          ____________________

          (١) المنتخب الحسني للأدعية والزيارات / ٩٢٤ - ٩٢٥.

          (٢) بحار الأنوار ٤٤ / ١٩٠.

          (٣) جامع الأخبار / ٧٦، وراجع إحقاق الحقّ ١١ / ٤٢٢.

          ٤٢



          صلاة الظهر في قمّة الملحمة في اليوم العاشر من المحرّم(١) وجيوش الضلالة تحيط به من كلّ جانب وترميه من كلّ صوب.

          وكان (عليه السّلام) يخرج متذلّلاً لله ساعياً إلى بيته الحرام يؤدّي مناسك الحجّ بخشوع وتواضع، حتّى حجّ خمساً وعشرين حجّة ماشياً على قدميه(٢) .

          وقد اشتهرت بين محدّثي الشيعة ومختلف طبقاتهم مواقفه الخاشعة في عرفات أيّام موسم الحجّ، ومناجاته الطويلة لربّه وهو واقف على قدميه في ميسرة الجبل والناس حوله.

          لقد كان (عليه السّلام) كثير البرّ والصدقة، فقد روي أنّه ورث أرضاً وأشياء فتصدّق بها قبل أن يقبضها، وكان يحمل الطعام في غلس الليل إلى مساكين أهل المدينة، لم يبتغ بذلك إلاّ الأجر من الله والتقرب إليه(٣) .

          ____________________

          (١) ينابيع المودّة / ٤١٠، ومقتل الحسين - للخوارزمي ٢ / ١٧.

          (٢) سير أعلام النبلاء ٣ / ١٩٣، ومجمع الزوائد ٩ / ٢٠١.

          (٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ١٣٥.

          ٤٣



          ٤٤



          الباب الثاني

          وفيه فصول:

          الفصل الأوّل: نشأة الإمام الحسين (عليه السّلام)

          الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الحسين (عليه السّلام)

          الفصل الثالث: الإمام الحسين (عليه السّلام) من الولادة إلى الإمامة

          ٤٥



          ٤٦



          الفصل الأول: نشأة الإمام الحسين (عليه السّلام)

          هو أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، ثالث أئمّة أهل البيت الطاهرين، وثاني سبطَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وسيّد شباب أهل الجّنة، وريحانة المصطفى، وأحد الخمسة أصحاب العبا، وسيّد الشهداء، واُمّه فاطمة (عليها السّلام) بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
          تأريخ الولادة


          أكّد أغلب المؤرّخين أنّه (عليه السّلام) ولد بالمدينة في الثالث من شعبان في السّنة الرابعة من الهجرة(١) .

          وثمّة مؤرّخون أشاروا إلى أنّ ولادته (عليه السّلام) كانت في السّنة الثالثة(٢) .
          رؤيا اُمّ أيمن


          أوّلَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رؤيا للسيدة اُمّ أيمن - كانت قد فزعت منها حين

          ____________________

          (١) تأريخ ابن عساكر ١٤ / ٣١٣، ومقاتل الطالبيين / ٧٨، ومجمع الزوائد ٩ / ١٩٤، واُسد الغابة ٢ / ١٨، والإرشاد / ١٨.

          (٢) اُصول الكافي ١ / ٤٦٣، والاستيعاب المطبوع على هامش الإصابة ١ / ٣٧٧.

          ٤٧



          رأت أنّ بعض أعضائه (صلّى الله عليه وآله) مُلقىً في بيتها - بولادة الحسين (عليه السّلام) الذي سيحلّ في بيتها صغيراً للرضاعة.

          فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنّه قال( أقبل جيران اُمّ أيمن إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله، إنّ اُمّ أيمن لم تنم البارحة من البكاء، لم تزل تبكي حتّى أصبحت. فبعث رسول الله إلى اُمّ أيمن فجاءته، فقال لها: يا اُمّ أيمن، لا أبكى الله عينكِ، إنّ جيرانك أتوني وأخبروني أنّكِ لم تزلي الليل تبكين أجمع، فلا أبكى الله عينكِ، ما الذي أبكاكِ؟

          قالت: يا رسول الله، رأيت رؤيا عظيمة شديدة، فلم أزل أبكي الليل أجمع.

          فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): فقصّيها على رسول الله؛ فإنّ الله ورسوله أعلم.

          فقالت: تعظم عليّ أن أتكلّم بها.

          فقال لها: إنّ الرؤيا ليست على ما تُرى، فقصّيها على رسول الله.

          قالت: رأيت في ليلتي هذه كأنّ بعض أعضائك مُلقىً في بيتي!

          فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): نامت عينكِ يا اُمّ أيمن، تلد فاطمة الحسين فتربّينه وتُلبنيه (١) ، فيكون بعض أعضائي في بيتك )) (٢) .
          الوليد المبارك


          ووضعت سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وليدها العظيم، وزفّت البشرى إلى الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، فأسرع إلى دار عليّ والزهراء (عليهما السّلام)، فقال لأسماء بنت عميس( يا أسماء، هاتي ابني )) .

          فحملته إليه وقد لُفّ في خرقة بيضاء، فاستبشر النبي (صلّى الله عليه وآله) وضمّه إليه، وأذّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى، ثمّ وضعه في حجره وبكى، فقالت أسماء: فداك أبي واُمّي! ممّ بكاؤك؟!

          قال (صلّى الله عليه وآله)( من ابني هذا )) .

          قالت: إنّه ولد الساعة.

          قال (صلّى الله عليه وآله)( يا أسماء،

          ____________________

          (١) أي: تسقينه اللبن.

          (٢) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٤٢.

          ٤٨



          تقتله الفئة الباغية من بعدي، لا أنالهم الله شفاعتي... )) (١) .

          ثمّ إنّ الرّسول (صلّى الله عليه وآله) قال لعليّ (عليه السّلام)( أيّ شيء سمّيت ابني؟ )) .

          فأجابه عليّ (عليه السّلام)( ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله )) .

          وهنا نزل الوحي على حبيب الله محمّد (صلّى الله عليه وآله) حاملاً اسم الوليد من الله تعالى، وبعد أن تلقّى الرّسول أمر الله بتسمية وليده الميمون، التفت إلى عليّ (عليه السّلام) قائلاً( سمّه حسيناً )) .

          وفي اليوم السابع أسرع الرّسول (صلّى الله عليه وآله) إلى بيت الزهراء (عليها السّلام) فعقّ عن سبطه الحسين كبشاً، وأمر بحلق رأسه والتصدّق بزنة شعره فضّة، كما أمر بختنه(٢) .

          وهكذا أجرى للحسين السبط ما أجرى لأخيه الحسن السبط من مراسم.
          اهتمام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالحسين (عليه السّلام)


          لقد تضافرت النصوص الواردة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بشأن الحسين (عليه السّلام) وهي تبرز المكانة الرفيعة التي يمثّلها في دنيا الرسالة والاُمّة.

          ونختار هنا عدّة نماذج منها للوقوف على عظيم منزلته:

          ١ - روى سلمان أنّه سمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول في الحسن والحسين (عليهما السّلام)( اللهمّ إنّي اُحبّهما فأَحِبَّهما، واُحبّ مَنْ أحبّهما )) (٣) .

          ٢ -(( مَنْ أحبّ الحسن والحسين أحببته، ومن أحببته أحبّه الله، ومن أحبّه الله (عزّ وجلّ) أدخله الجّنة، ومن أبغضهما أبغضته، ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله خلَّده في النار )) (٤) .

          ____________________

          (١) إعلام الورى بأعلام الهدى ١ / ٤٢٧.

          (٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٥، إعلام الورى ١ / ٤٢٧.

          (٣) الإرشاد ٢ / ٢٨.

          (٤) الإرشاد ٢ / ٢٨.

          ٤٩



          ٣ -(( إنّ ابنيَّ هذين ريحانتاي من الدنيا )) (١) .

          ٤ - رُوي عن ابن مسعود أنّه قال: كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يصلّي فجاء الحسن والحسين (عليهما السّلام) فارتدفاه، فلمّا رفع رأسه أخذهما أخذاً رفيقاً، فلمّا عاد عادا، فلمّا انصرف أجلس هذا على فخذه الأيمن وهذا على فخذه الأيسر، ثمّ قال( مَنْ أحبّني فَلْيُحبّ هذين )) (٢) .

          ٥ -(( حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَنْ أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط )) (٣) .

          ٦ -(( الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي وبعد أبيهما، واُمّهما أفضل نساء أهل الأرض )) (٤) .

          ٧ -(( الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجّنة )) (٥) .

          ٨ - عن برّة ابنة اُميّة الخزاعي أنّها قالت: لمّا حملت فاطمة (عليها السّلام) بالحسن خرج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في بعض وجوهه، فقال لها( إنّكِ ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل، فلا ترضعيه حتّى أصير إليكِ )) .

          قالت: فدخلت على فاطمة حين ولدت الحسن (عليه السّلام)، وله ثلاث ما أرضعته، فقلت لها: أعطينيه حتّى اُرضعه.

          فقالت( كلاّ )) .

          ثمّ أدركتها رقّة الاُمهات فأرضعته، فلمّا جاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال لها( ماذا صنعتِ؟ )) .

          قالت( أدركني عليه رقّة الاُمهات فأرضعته )) .

          فقال( أبى الله (عزّ وجلّ) إلاّ ما أراد )) .

          فلمّا حملت بالحسين (عليه السّلام) قال لها( يا فاطمة، إنّكِ ستلدين غلاماً قد هنّأني به

          ____________________

          (١) الإرشاد ٢ / ٢٨، وصحيح البخاري ٢ / ١٨٨، وسنن الترمذي ٥ / ٦١٥ ح ٣٧٧٠.

          (٢) مستدرك الحاكم ٣ / ١٦٦، وكفاية الطالب / ٤٢٢، وإعلام الورى ١ / ٤٣٢.

          (٣) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٦١، ومسند أحمد ٤ / ١٧٢، وصحيح الترمذي ٥ / ٦٥٨ ح٣٧٧٥.

          (٤) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٦١، وعيون أخبار الرضا ٢ / ٦٢.

          (٥) سنن ابن ماجة ١ / ٥٦، والترمذي ٥ / ٦١٤ ح٣٧٦٨، وبحار الأنوار ٤٣ / ٢٦٥.

          ٥٠



          جبرئيل فلا ترضعيه حتّى أجيء إليكِ ولو أقمت شهراً )) .

          قالت( أفعل ذلك )) .

          وخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بعض وجوهه، فولدت فاطمة الحسين (عليه السّلام)، فما أرضعته حتّى جاء رسول الله، فقال لها( ماذا صنعت؟ )) .

          قالت( ما أرضعته )) .

          فأخذه فجعل لسانه في فمه، فجعل الحسين يمصّ حتّى قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله)( إيهاً حسين! إيهاً حسين! )) . ثمّ قال( أبى الله إلاّ ما يريد، هي فيك وفي ولدك )) (١) ، يعني الإمامة.

          ٩ - إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان جالساً فأقبل الحسن والحسين (عليهما السّلام)، فلمّا رآهما النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قام لهما واستبطأ بلوغهما إليه، فاستقبلهما وحملهما على كتفيه، وقال( نعم المطيّ مطيّكما، ونعم الراكبان أنتما، وأبوكما خير منكما )) (٢) .
          كنيته وألقابه


          أمّا كنيته فهي: أبو عبد الله.

          وأمّا ألقابه فهي: الرشيد، والوفي، والطيّب، والسيّد، والزكيّ، والمبارك، والتابع لمرضاة الله، والدليل على ذات الله، والسبط. وأشهرها رتبةً ما لقّبه به جدّه (صلّى الله عليه وآله) في قوله عنه وعن أخيه( إنّهما سيّدا شباب أهل الجّنة )) .

          وكذلك السبط؛ لقوله (صلّى الله عليه وآله)( حسين سبط من الأسباط )) (٣) .

          ____________________

          (١) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٥٤، وراجع المناقب ٣ / ٥٠.

          (٢) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٨٥ - ٢٨٦، راجع ذخائر العقبى / ١٣٠.

          (٣) أعيان الشيعة ١ / ٥٧٩.

          ٥١



          الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الحسين (عليه السّلام)

          تعليق


          • #6
            الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الحسين (عليه السّلام)

            تنقسم حياة كلّ إمام من الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) إلى قسمين متميّزين:

            الأوّل: من الولادة إلى حين استلامه لمقاليد الإمامة والولاية المناطة إليه من الله، والمنصوص عليها على لسان رسوله والأئمّة (عليهم السّلام) أنفسهم.

            والثاني: يبدأ من يوم تصدّيه لإدارة اُمور المسلمين والمؤمنين إلى يوم استشهاده.

            وقد يشتمل كلّ قسم على عدّة مراحل حسب طبيعة الظروف والأحداث التي تميّز كلّ مرحلة.

            ونحن ندرس الفترة الاُولى بجميع مراحلها وأهمّ أحداثها - وهي فترة الولادة حتّى الإمامة - في الفصل الثالث من الباب الثاني، بينما ندرس الفترة الثانية بمراحلها المختلفة بشكل تفصيلي في الباب الثالث.

            وينبغي أن نعرف أنّ الفترة الاُولى من حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) كانت ذات أربع مراحل هي:

            ١ - حياته في عهد جدّه (صلّى الله عليه وآله)، وهي من السّنة (٤) إلى (١٠) هجرية.

            ٢ - حياته في عهد الخلفاء الثلاثة، وهي من السّنة (١١) إلى (٣٥) هجرية.

            ٥٢



            ٣ - حياته في عهد الدولة العلوية المباركة، أي منذ البيعة مع أبيه إلى يوم استشهاده (صلوات الله عليه)، وهي من السّنة (٣٥) إلى (٤٠) هجرية.

            ٤ - حياته في عهد أخيه الحسن المجتبى (عليه السّلام) وهي عشر سنوات تقريباً، أي من أواخر شهر رمضان سنة (٤٠) هجرية إلى بداية أو نهاية صفر سنة (٥٠) هجرية حيث استشهد الحسن (عليه السّلام)، وتصدّى هو للأمر من بعده.

            وأمّا الفترة الثانية من حياته وهي التي تبدأ بعد استشهاد أخيه (عليه السّلام) وتنتهي باستشهاده بأرض الطفّ يوم عاشوراء سنة ( ٦١ ) هجرية، فهي ذات مرحلتين متميّزتين:

            ١ - المرحلة الاُولى: مدّة حياته خلال حكم معاوية، حيث بقي (صلوات الله عليه) ملتزماً بالهدنة التي عُقدت مع معاوية بالرغم من تخلّف معاوية عن كلّ الشّروط التي اشتُرطت عليه من قبل الإمام الحسن (عليه السّلام)، وقد جسّد تمرّده على كلّ شروط الصلح بإيعاز السمّ الفاتك إلى الإمام الحسن (عليه السّلام)؛ ليتخلّص من رقيب مناهض، ويزيل الموانع عن ترشيح ولده الفاسق يزيد.

            ٢ - المرحلة الثانية: وتبدأ بفرض معاوية ابنه يزيد حاكماً متحكّماً في رقاب المسلمين بعد موت أبيه، وسعيه لأخذ البيعة من الحسين (عليه السّلام) للقضاء على المعارضة التي كان قد عرف جذورها أيام أبيه.

            ومن هنا تبدأ نهضته التي كانت بركاناً تحت الرماد، فانفجرت بانفجار الفسق والفجور وظهورهما على مسرح القيادة وجهاز الحكم، فبدأ حركته من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق، وتوّج صبره وجهاده بدمائه الطاهرة ودماء أهل بيته وأصحابه الأصفياء التي قدّمها في سبيل الله تعالى.

            ٥٣



            الفصل الثالث: الإمام الحسين (عليه السّلام) من الولادة إلى الإمامة
            الإمام الحسين (عليه السّلام) في عهد الرّسول (صلّى الله عليه وآله)


            في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والرسالة الإسلاميّة مساحة واسعة لبيت عليّ وفاطمة وأبنائهما (عليهم السّلام)، ومعاني ودلالات عميقة؛ حيث إنّه البيت الذي سيحتضن الرسالة، ويتحمّل عبء الخلافة، ومسؤولية صيانة الدين والاُمّة.

            وكان لا بدّ لهذا البيت أن ينال القسط الأوفى، والحظّ الأوفر من فيض حبّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ورعايته واُبوّته، فلم يدّخر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وسعاً أن يروّي شجرته المباركة في بيت عليّ (عليه السّلام)، ويتعهّدها صباح مساء مُبيّناً أنّ مصير الاُمّة مرهون بسلامة هذا البيت وطاعة أهله، كما يتجلّى ذلك في قوله (صلّى الله عليه وآله)( إنّ علياً راية الهدى بعدي، وإمام أوليائي، ونور مَنْ أطاعني )) (١) .

            وحين أشرقت الدنيا بولادة الحسين (عليه السّلام) ؛ أخذ مكانته السّامية في قلب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وموضعه الرفيع في حياة الرسالة.

            ____________________

            (١) حلية الأولياء ١ / ٦٧، ونظم درر السّمطين / ١١٤، وتاريخ ابن عساكر ٢ / ١٨٩ ح ٦٨٠، ومقتل الخوارزمي ١ / ٤٣، وجامع الجوامع - للسيوطي ٦ / ٣٩٦، ومنتخب الكنز ٦ / ٩٥٣ ح٢٥٣٩، والفصول المهمّة - لابن الصباغ / ١٠٧، وتاريخ الخلفاء - للسيوطي / ١٧٣، ومجمع الزوائد ٩ / ١٣٥، وكنز العمّال ٥ / ١٥٣، وصحيح الترمذي ٥ / ٣٢٨ ح٣٨٧٤، واُسد الغابة ٢ / ١٢.

            ٥٤



            وبعين الخبير البصير، والمعصوم المسدّد من السّماء وجد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في الوليد الجديد وريثاً للرسالة بعد حين، ثائراً في الاُمّة بعد زيغ وسكون، مُصلحاً في الدين بعد انحراف واندثار، مُحيياً للسنّة بعد تضييع وإنكار، فراح النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يهيّئه ويعدّه لحمل الرسالة الكبرى مستعيناً في ذلك بعواطفه وساعات يومه، وبهديه وعلّمه ؛ إذ عمّا قليل سيضطلع بمهام الإمامة في الرسالة الخاتمة بأمر الله تعالى.

            فها هو (صلّى الله عليه وآله) يقول( الحسن والحسين ابناي، مَنْ أحبّهما أحبّني، ومَنْ أحبّني أحبّه الله، ومَنْ أحبّه الله أدخله الجّنة، ومَنْ أبغضهما أبغضني، ومَنْ أبغضني أبغضه الله، ومَنْ أبغضه الله أدخله النّار )) (١) .

            وهل الحبّ إلاّ مقدّمة الطاعة وقبول الولاية! بل هما بعينهما في المآل.

            لقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يتألّم لبكائه، ويتفقّده في يقظته ونومه، يوصي اُمّه الطاهرة فاطمة (صلوات الله عليها) أن تغمر ولده المبارك بكلّ مشاعر الحنان والرفق(٢) .

            حتّى إذا درج الحسين (عليه السّلام) صبيّاً يتحرّك شرع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يُلفت نظر النّاس إليه، ويهيّئ الأجواء لأن تقبل الاُمّة وصاية ابن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عليها، فكم تأنّى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في سجوده والحسين يعلو ظهره (صلّى الله عليه وآله)؛ ليظهر للاُمّة حبّه له، وكذا مكانته، وكم سارع النبيّ يقطع خطبته ليلقف ابنه القادم نحوه متعثّراً فيرفعه معه على منبره(٣) ؟ كلّ ذلك ليدلّ على منزلته ودوره الخطير في مستقبل الاُمّة.

            وحين قدم وفد نصارى نجران يحاجج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في دعوته إلى

            ____________________

            (١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٦٦، وتأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام)، وإعلام الورى ١ / ٤٣٢.

            (٢) مجمع الزوائد ٩ / ٢٠١، وسير أعلام النبلاء ٣ / ١٩١، وذخائر العقبى / ١٤٣.

            (٣) مسند أحمد ٥ / ٣٥٤، وإعلام الورى ١ / ٤٣٣، وكنز العمال ٧ / ١٦٨، وصحيح الترمذي ٥ / ٦١٦ ح٣٧٧٤.

            ٥٥



            الإسلام وعقيدة التوحيد الخالص، وامتنع عن قبولها رغم وضوح الحق أمر الله تعالى بالمباهلة؛ فخرج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إليهم ومعه خير أهل الأرض تقوىً وصلاحاً، وأعزّهم على الله مكانةً ومنزلةً؛ عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام)، ليباهل بهم أهل الكفر والشرك وانحراف المعتقد، ومُدَلّلاً بذلك - في نفس الوقت - على أنّهم أهل بيت النبوّة، وبهم تقوم الرسالة الإسلاميّة، فعطاؤهم من أجل العقيدة لا ينضب(١) .

            وما كان من النصارى إذ رأوا وجوهاً مشرقة، وطافحة بنور التوحيد والعصمة إلاّ أن تراجعوا عن المباهلة، وقبلوا بأن يعطوا الجزية عنيد وهم صاغرون.

            لقد كانت هذه الفترة القصيرة التي عاشها الحسين (عليه السّلام) مع جدّه (صلّى الله عليه وآله) من أهمّ الفترات وأروعها في تأريخ الإسلام كلّه، فقد وطّد الرّسول (صلّى الله عليه وآله) فيها أركان دولته المباركة، وأقامها على أساس العلم والإيمان، وهزم جيوش الشرك، وهدم قواعد الإلحاد، وأخذت الانتصارات الرائعة تترى على الرّسول (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه الأوفياء؛ حيث أخذ النّاس يدخلون في دين الله أفواجاً.

            وفي غمرة هذه الانتصارات فوجئت الاُمّة بالمصاب الجلل حين توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فخيّم الأسى العميق على المسلمين وبخاصة على أهل بيته (عليهم السّلام) الذين أضنتهم المأساة، ولسعتهم حرارة المصيبة بغياب شخص النبيّ (صلّى الله عليه وآله).

            ____________________

            (١) مسند أحمد ١ / ١٨٥، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل باب فضائل علي ٢ / ٣٦٠، وصحيح الترمذي ٤ / ٢٩٣ ح٥ ٢٠٨، والمستدرك على الصحيحين ٣ / ١٥٠.

            ٥٦


            ميراث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لسبطيه (عليهما السّلام)


            ولمّا علمت سيّدة نساء العالمين أنّ لقاء أبيها بربّه (عزّ وجلّ) قريب أتت بابنيها الحسن والحسين (عليهما السّلام) فقالت( يا رسول الله، هذان ابناك فورّثهما شيئاً )) .

            فقال (صلّى الله عليه وآله)( أمّا الحسن فإنّ له هيبتي وسؤددي، وأمّا الحسين فإنّ له شجاعتي وجودي )) (١) .
            وصيّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالسّبطين (عليهما السّلام)


            ووصّى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الإمام عليّاً برعاية سبطيه، وكان ذلك قبل موته بثلاثة أيام، فقد قال له( سلام الله عليك أبا الريحانتين، اُوصيك بريحانتيَّ من الدنيا، فعن قليل ينهدّ ركناك، والله خليفتي عليك )) .

            فلمّا قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال عليّ (عليه السّلام)( هذا أحد ركنيَّ الذي قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) )) . فلمّا ماتت فاطمة (عليها السّلام) قال عليّ( هذا الركن الثاني الذي قال لي رسول الله )) (٢) .
            لوعة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على الحسين (عليه السّلام)


            تعليق


            • #7
              لوعة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على الحسين (عليه السّلام)


              حضر الإمام الحسين (عليه السّلام) عند جدّه الرّسول (صلّى الله عليه وآله) حينما كان يعاني آلام المرض ويقترب من لحظات الاحتضار، فلمّا رآه ضمّه إلى صدره وجعل يقول( ما لي وليزيد! لا بارك الله فيه )) . ثمّ غشي عليه طويلاً، فلمّا أفاق أخذ يوسع الحسين تقبيلاً وعيناه تفيضان بالدموع، وهو يقول( أما إنّ لي ولقاتلك موقفاً بين يدي الله (عزّ وجلّ) )) (٣) .

              وفي اللحظات الأخيرة من عمره الشريف (صلّى الله عليه وآله) ألقى السّبطان (عليهما السّلام) بأنفسهما عليه وهما يذرفان الدموع والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) يوسعهما تقبيلاً، فأراد أبوهما أمير المؤمنين (عليه السّلام) أن ينحّيهما عنه فأبى (صلّى الله عليه وآله) وقال له( دعهما يتزوّدا

              ____________________

              (١) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٦٣، ومناقب آل أبي طالب ٢ / ٤٦٥، ونظم درر السّمطين / ٢١٢.

              (٢) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٦٢.

              (٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) - باقر شريف القرشي ١ / ٢١٨، نقلاً عن مثير الأحزان.

              ٥٧



              منّي وأتزوّد منهما، فستصيبهما بعدي إثرة )) (١) .

              ثمّ التفت (صلّى الله عليه وآله) إلى عوّاده فقال لهم( قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيّع لسنّتي، والمضيّع لسنّتي كالمضيّع لعترتي، إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض )) (٢) .

              ____________________

              (١) مقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١١٤.

              (٢) المصدر السابق.

              ٥٨



              الإمام الحسين (عليه السّلام) في عهد الخلفاء
              الحسين (عليه السّلام) في عهد أبي بكر


              لقد كان أهل البيت (عليهم السّلام) بما فيهم الحسن والحسين (عليهما السّلام) مفجوعين بوفاة الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، وألم المأساة يهيمن على قلوبهم وهم مشغولون بجهاز أعظم نبيّ عرفه التاريخ الإنساني، إذ توجّهت إليهم صدمةٌ اُخرى ضاعفت آلامهم، وبدّدت آمالهم التي غرسها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في نفوسهم ونفوس الاُمّة.

              إنها صدمة مصادرة الخلافة وتنحية الإمام علي (عليه السّلام) عن مسرح القيادة، ومصادرة المنصب الذي نصّبه فيه الرّسول (صلّى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى.

              وكانت هذه الصدمة العنيفة بداية لمُسلسل القلق والاضطهاد الذي فرضه الخطّ الحاكم بعد الرّسول (صلّى الله عليه وآله) على أهل بيت الرّسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ لتحقيق العزل التام، والإبعاد الكامل لهم عن موقع القيادة بعد الرّسول (صلّى الله عليه وآله).
              لوعة شهادة الزهراء (عليها السّلام)


              كان لوفاة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) وقع مؤلم في روح الإمام الحسين الطاهرة، وهو لم يكن بعد قد أنهى ربيعه الثامن.

              وما هي إلاّ مدّة قصيرة وإذا بالحسين (عليه السّلام) يُفجع باستشهاد اُمّه فاطمة بنت رسول الله بتلك الصورة المأساوية، بعد أن ظلّت تعاني من الظلم والقهر، وألم اغتصاب حقّها طوال الأيام التي عاشتها بعد أبيها (صلّى الله عليه وآله)، فكانت تنعكس معاناتها في روحه اللطيفة ؛ إذ كان كلّما نظر إلى اُمّه بعد وفاة أبيها شاهدها باكيةً، محزونة القلب، منكسرة الخاطر.

              وقد روي: أنّها (سلام الله عليها) ما زالت بعد أبيها معصّبة الرأس، ناحلة

              ٥٩



              الجسم، منهدّة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعد ساعة، وتقول لولديها( أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرّةً بعد مرّة؟ أين أبوكما الذي كان أشدّ النّاس شفقةً عليكما، فلا يدعكما تمشيان على الأرض؟ ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً، ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما )) (١) .

              وروي أن الزهراء (عليها السّلام) بعد وفاة أبيها (صلّى الله عليه وآله) كانت تصطحب الحسنين معها إلى البقيع، حيث تظلّ تبكي إلى المساء، فيأتي أمير المؤمنين (عليه السّلام) فيعود بهم إلى البيت.

              ونقل الرواة عن أسماء بنت عميس قصّة استشهادها مفصّلاً، وقد جاء فيها أنّ الحسن والحسين (عليهما السّلام) دخلا البيت بُعَيد وفاة اُمّهما، فقالا( يا أسماء، ما يُنيم اُمّنا في هذه الساعة؟! )) .

              قالت: يا ابني رسول الله، ليست اُمّكما نائمة، بل فارقت روحها الدنيا.

              فوقع عليها الحسن يقبّلها مرةً ويقول( يا اُمّاه، كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني )) .

              قالت: وأقبل الحسين يقبّل رجلها ويقول( يا اُمّاه، أنا ابنك الحسين، كلّميني قبل أن يتصدّع قلبي فأموت )) .

              قالت لهما أسماء: يا ابني رسول الله، انطلقا إلى أبيكما علي فأخبراه بموت اُمّكما.

              فخرجا حتّى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء، فابتدرهما جميع الصحابة، فقالوا: ما يبكيكما يا ابني رسول الله؟ لا أبكى الله أعينكما(٢) .

              وجاء في نصّ آخر: أنّه بعد أن فرغ أمير المؤمنين (عليه السّلام) من تغسيل الزهراء (عليها السّلام) نادى( يا اُمّ كلثوم، يا زينب، يا سكينة (٣) ، يا فضّة، يا حسن، يا حسين، هلمّوا تزوّدوا من اُمّكم، فهذا الفراق، واللقاء الجّنة )) .

              فأقبل الحسن والحسين (عليهما السّلام) وهما

              ____________________

              (١) بحار الأنوار ٤٣ / ١٨١.

              (٢) المصدر السابق / ١٨٦.

              (٣) لم نجد في جلِّ مصادر التاريخ مَن يذكر أنّ للزهراء (عليها السّلام) بنتاً اسمها سكينة كي تدخل في مجموع مَن ناداهم الإمام (عليه السّلام)، وأمّا بالنسبة إلى فضة الخادمة فيمكن حمل كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام) لها على المجاز، أي أنها بمثابة البنت للزهراء (عليها السّلام)، أو من باب إطلاق الكلِّ وإرادة الجزء.(موقع معهد الإمامين الحسنَين)

              ٦٠



              يناديان( وا حسرةً لا تنطفئ أبداً من فقد جدّنا محمّد المصطفى واُمّنا فاطمة الزهراء! )) .

              فقال أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام)( إنّي اُشهدُ الله أنّها قد حنّت وأنّت، ومدّت يديها وضمّتهما إلى صدرها مليّاً، وإذا بهاتف من السّماء ينادي: يا أبا الحسن، ارفعهما فلقد أبكيا والله ملائكة السماوات )) (١) .

              وذكرت أكثر الروايات أنّ الحسن والحسين (عليهما السّلام) حضرا مراسم الصلاة على جنازة اُمّهما (عليها السّلام)، وتولّى غسلها وتكفينها أمير المؤمنين(عليه السّلام)، وأخرجها من بيتها ومعه الحسن والحسين في الليل، وصلّوا عليها...(٢) .

              لقد فجع الحسين (عليه السّلام) وخلال فترة قصيرة بحادثتين عظيمتين مؤلمتين:

              الاُولى: وفاة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

              والثانية: استشهاد والدته فاطمة بنت الرّسول (صلّى الله عليه وآله) بعدما جرى عليها من أنواع الجفاء والظلم.

              وإذا أضفنا إلى ذلك مأساة غصب حقوق أبيه أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ومأساة إبعاده عن المسرح السياسي ليصبح جليس بيته، تجلّت لنا شدّة المحن والمصائب التي أحاطت بالحسين (عليه السّلام) وهو في صغر سنّه.

              ولقد تعمّقت مصائب الإمام الحسين (عليه السّلام) بسبب أنواع الحصار المفروض من قِبل خطّ الخلافة وقتذاك على أصحاب الرّسول (صلّى الله عليه وآله) الأوفياء لخطّه الرسالي، وعلى علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السّلام) بشكل خاص، مثل منع الخمس وسائر الحقوق من الوصول إليه، كما تجلّى ذلك بوضوح في تأميم « فدك »، والذي كان من أهدافه ممارسة ضغوط مالية اُخرى على أهل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأبناء أمير المؤمنين (عليهم السّلام).
              الحسين (عليه السّلام) في عهد عمر بن الخطاب


              وفي عهد عمر بن الخطاب اتّخذ الحصار أبعاداً أكثر خطورة، فقد ذكر

              ____________________

              (١) بحار الأنوار ٤٣ / ١٧٩.

              (٢) المصدر السابق / ٢١٢.

              ٦١



              المؤرّخون أنّ عمر حظر على أصحاب الرّسول (صلّى الله عليه وآله) الخروج من المدينة إلاّ بترخيص منه، وقد طال الحظر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) حتّى مثّل هذا الأمر نمطاً آخر من الضغوط التي مورست على أهل بيت الوحي الطاهرين.

              أجل، لقد أدّت هذه الممارسات القهرية، والمواقف الظالمة إلى إقصاء عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) وجعلته جليس بيته، ومن ثمّ تغييبه عن الميادين السياسية والاجتماعية حتّى صار نسياً منسياً، وإن كان الخليفة يرجع إليه في بعض المسائل أحياناً، ولعلّ السبب في عدم إبعاده عن المدينة، هو حاجته إليه في القضايا التي كانت تستجد للخليفة، ولم يكن بمقدور أحد غير عليّ (عليه السّلام) أن يقدّم الحلّ المقبول لها.

              وبالحكمة السّديدة، والصبر الجميل كظم أمير المؤمنين (عليه السّلام) غيظه، متغاضياً عن حقّه الذي استأثر به عمر بعد أبي بكر من دون حقّ شرعي ولا حجّة بالغة، وفي كلّ ذلك عاش الحسين (عليه السّلام) مع آلام أبيه (عليه السّلام)، ورأى كيفية تعامله مع الحدث، وهو يحمل هموم الاُمّة الإسلاميّة ويقلقه مصيرها، إنّه يتذكّر كيف كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يؤثر عليّاً على كلّ مَنْ عداه، ويوصي به الاُمّة المرّة بعد المرّة، ولكنّه الآن مقصيٌّ عن مقامه، فما كان يملك إلاّ أن يكتم أحاسيسه ومشاعره.

              يروى: أنّ عمر ذات يوم كان يخطب على المنبر فلم يشعر إلاّ والحسين (عليه السّلام) قد صعد إليه وهو يهتف( انزل عن منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك )) .

              وبهت عمر واستولت الحيرة عليه، وراح يصدّقه ويقول له: صدقت لم يكن لأبي منبر، وأخذه فأجلسه إلى جنبه، وجعل يفحص عمّن أوعز إليه بذلك

              ٦٢



              قائلاً له: مَنْ علّمك؟

              فأجابه الإمام الحسين (عليه السّلام)( والله، ما علّمني أحد )) (١) .

              وقد كان الحق يقضي بأن لا يكتفي عمر بالتصديق الكلامي للحسين (عليه السّلام) من دون إعادة حقّه في فدك والخمس إليه، وإعادة حقّ والده في الخلافة إليه؛ إطاعةً لله وللرسول (صلّى الله عليه وآله).

              ويروى أيضاً أنّ عمر كان معنيّاً بالإمام الحسين (عليه السّلام) حتّى طلب منه أن يأتيه إذا عرض له أمر، وقصده الحسين (عليه السّلام) يوماً ومعاوية عنده، ورأى ابنه عبد الله، فطلب (عليه السّلام) الإذن منه فلم يأذن له، فرجع معه، والتقى به عمر في الغد فقال له: ما منعك يا حسين أن تأتيني؟

              قال الحسين (عليه السّلام)( إنّي جئت وأنت خال بمعاوية فرجعت مع ابن عمر )) .

              قال عمر: أنت أحقّ من ابن عمر، فإنّما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثمّ أنتم(٢) .
              الحسين (عليه السّلام) في عهد عثمان


              بخُلق الرسالة وآداب النبوّة، وبالفضائل السّامية أطلّ الإمام الحسين (عليه السّلام) على مرحلة الرجولة في العقد الثالث من العمر، يعيش أجواء أبيه المحتسب وهو يرى اللعبة السّياسية تتلوّن والهدف واحد، وهو أن لا يصل عليّ (عليه السّلام) وبنوه إلى زعامة الدولة الإسلاميّة، بل تبقى الخلافة بعيدة عنهم؛ فها هو ابن الخطّاب لا يكتفي بحمل الاُمّة على ما لا تطيق من جفاء رأيه وطبعه وأخطاء اجتهاداته، حتّى ابتلاها بالشورى السداسيّة التي انبثقت منها خلافة عثمان.

              ولقد وصف الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) هذه المرحلة، وهو الذي آثر مصلحة الدين والاُمّة على حقّه الخاصّ في الزعامة، فصبر صبراً مُرّاً حتّى قال( فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهباً، حتّى مضى الأوّل

              ____________________

              (١) الإصابة ١ / ٣٣٢.

              (٢) المصدر السابق.

              ٦٣



              لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطّاب بعده، فصيّرها في حوزة خشناء؛ يغلظ كلمها، ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها، فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم، فيا لله وللشورى! متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت اُقرن إلى هذه النظائر؟! )) (١) .

              وازدادت محنة أهل البيت (عليهم السّلام)، وتضاعفت مهمّتهم صعوبةً، وهم يواجهون عصراً جديداً من الانحراف بالخلافة، وهو عصر يتطلّب جهوداً أضخم، وسعياً أكبر؛ لكي لا تضيع الاُمّة والرسالة، ولكنّ لوناً متميزاً من المعاناة القاسية بدأ واضحاً يصبغ حياة الاُمّة الإسلاميّة، فإنّ خيار رجالها من صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يُهانون ويُضربون ويُنفون، في الوقت الذي تتسابق على مراكز الدولة شرارها من الطلقاء وأبنائهم تحت ظلّ ضعف عثمان وجهله بالاُمور أحياناً، وعصبيّته القبليّة الاُمويّة أحياناً اُخرى(٢) .

              وعاش الحسين (عليه السّلام) معاناة الاُمّة وهي تنتفض على فساد حكم عثمان في مخاض عسير، فتمتدّ الأيادي المظلومة لتزيح الخليفة الحاكم بقوّة السّيف.

              وفي خطبة الإمام عليّ (عليه السّلام) المعروفة بالشقشقيّة، والتي وصف فيها محنة الاُمّة بتولّي الخلفاء الثلاثة دفّة الحكم قبله تصويراً دقيقاً لما جرى في حكم عثمان بن عفّان ؛ إذ قال (عليه السّلام)( إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه (٣) بين نثيله (٤) ومعتلفه (٥) ، وقام معه بنو أبيه يخضمون (٦) مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع (٧) ، إلى أن انتكث عليه فتله (٨) ، وأجهز (٩) عليه

              ____________________

              (١) نهج البلاغة / الخطبة الشقشقية.

              (٢) تاريخ الخلفاء / ٥٧.

              (٣) نافجاً حضنيه: رافعهما، والحضن: ما بين الإبط والكشح.

              (٤) النثيل: الروث وقذر الدواب.

              (٥) المعتلف: موضع العلف.

              (٦) الخضم: أكل الشيء الرطب.

              (٧) النبِتة - بكسر النون -: كالنبات في معناه.

              (٨) انتكث عليه فتله: انتقض.

              (٩) أجهز عليه: تمّم قتله.

              ٦٤



              عمله، وكبت (١) به بطنته )) (٢) .
              موقف مع أبي ذرّ الغفاري


              أمعن الخليفة عثمان بن عفان في التنكيل بالمعارضين والمندّدين بسياسته، غير مراعٍ حرمة أو كرامة أحد من صحابة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) الذين طالتهم يداه، فصبّ عليهم جام غضبه، وبالغ في ظلمهم وإرهاقهم.

              وكان أبو ذر الغفاري - وهو أقدم أصحاب الرّسول (صلّى الله عليه وآله) الذين سبقوا إلى الإسلام - واحداً من المندّدين بسياسة عثمان والرافضين لها، وقد نهاه عثمان عن ذلك فلم ينته، فالتاع عثمان وضاق به ذرعاً فأبعده إلى الشّام، وفي الشّام أخذ أبو ذر يوقظ النّاس، ويدعوهم إلى الحذر من السّياسة الاُمويّة التي كان ينتهجها معاوية بن أبي سفيان والي عثمان الاُموي على الشّام.

              لقد غضب معاوية على حركة أبي ذرّ، وكتب إلى عثمان يخبره بخطره عليه، فاستدعاه إلى المدينة، لكنّ هذا الصحابي الجليل واصل مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتحذير من خطر الاُموية الدخيلة على الإسلام والمسلمين.

              فرأى عثمان أنّ خير وسيلة للتخلّص من معارضة أبي ذر هي نفيه إلى جهة نائية لا سكن فيها، فأمر بإبعاده إلى الربذة موعزاً إلى مروان بن الحكم بأن يمنع المسلمين من مشايعته وتوديعه، ولكنّ أهل الحقّ أبوا إلاّ مخالفة عثمان، فقد انطلق لتوديعه - بشكل علني - الإمام علي (عليه السّلام) والحسنان (عليهما السّلام)، وعقيل وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر (رضي الله عنهم).

              وقد نقل المؤرّخون كلمات حكيمة وساخنة للمودّعين

              ____________________

              (١) كبت به: من كبا الجواد إذا سقط بوجهه.

              (٢) البِطنة - بالكسر -: البطر والأشر والتخمة.

              ٦٥



              استنكروا خلالها الحكم العثماني الجائر ضدّه.

              وقد جاء في كلمة الإمام الحسين (عليه السّلام) ما نصّه( يا عمّاه، إنّ الله تبارك وتعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى، إنّ الله كلّ يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم، ومنعتهم دينك، فما أغناك عمّا منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم؟ فاسأل الله الصبر، واستعذ به من الجشع والجزع، فإنّ الصبر من الدين والكرم، وإنّ الجشع لا يقدّم رزقاً، والجزع لا يؤخّر أجلاً )) (١) .

              وبكى أبو ذر بكاءً مرّاً، فألقى نظرة الوداع الأخيرة على أهل البيت (عليهم السّلام) الذين أخلص لهم الودّ وأخلصوا له، وخاطبهم بقوله: « رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشّام، وكره أن اُجاور أخاه وابن خاله بالمصرين، فاُفسد النّاس عليهما، فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله، والله ما اُريد إلاّ الله صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة »(٢) .
              الإمام الحسين (عليه السّلام) في عهد الدولة العلوية


              تعليق


              • #8
                الإمام الحسين (عليه السّلام) في عهد الدولة العلوية


                انتهى حكم الخلفاء الثلاثة بمقتل عثمان، وانتهت بذلك خمسة وعشرون عاماً من العناء الناشئ عن إقصاء الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) عن الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين.

                وقد أيقن المسلمون أنّ الإمام عليّاً (عليه السّلام) هو القائد الذي يحقّق آمالهم وأهدافهم ويعيد لهم كرامتهم، وأنّهم سينعمون في ظلال حكمه بالحرية

                ____________________

                (١) بحار الأنوار ٢٢ / ٤١٢، وراجع مروج الذهب ٢ / ٣٥٠.

                (٢) المصدر السابق.

                ٦٦



                والمساواة والعدل فأصرّوا على مبايعته بالخلافة.

                لكن وللأسف الشّديد فقد جاءت قناعة الاُمّة هذه متأخرةً كثيراً؛ حيث اُصيبت الاُمّة بأمراض خطيرة وانحرافات كبيرة، وغابت عنها الروح التضحوية والقيم الإيمانية، وتسربلت بالأطماع والمنافع الشّخصية، وانحدرت نحو التوجّهات الفئوية الضيّقة؛ من هنا أعلن الإمام عليّ (عليه السّلام) رفضه الكامل لخلافتهم قائلاً لهم( لا حاجة لي في أمركم، فمَنْ اخترتم رضيت )) (١) .

                وذلك لعلمه (عليه السّلام) بأنّه من الصّعب جدّاً أن يُعيد إلى المجتمع الأحكام الإسلاميّة التي بدّلها الخلفاء وغيّروها باجتهاداتهم الخاطئة؛ فإنّه (عليه السّلام) كان يعرف جيّداً أنّ المجتمع الذي نشأ على تلك الأخطاء سيقف بوجهه، وسيعمل جاهداً على مناجزته والحيلولة بينه وبين تحقيق مخطّطاته السّياسية الهادفة إلى تحقيق العدل والقضاء على الجور.

                هذا وإنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) مع سابقته الفريدة إلى الإسلام، وحنكته السّياسية، ومؤهّلاته القيادية العظيمة لم يستطع الوقوف بوجه الانحراف الذي سرى إلى جميع مفاصل المجتمع الإسلامي، ولم يتمكّن من إعادة هذا المجتمع إلى طريق الحقّ والعدالة اللاّحب، إذ وقفت في وجهه فئات من المنافقين والنفعيين، ومَنْ كان يحمل في نفسه البغض والكره لله ولرسوله.

                وقد أكّد ذلك في خطبته الشقشقية بقوله (عليه السّلام)( فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت طائفة (٢) ، ومرقت (٣) اُخرى، وقسط آخرون (٤) ، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه يقول: ( تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي

                ____________________

                (١) بحار الأنوار ٣٢ / ٧.

                (٢) نكثت طائفة: نقضت عهدها، وأراد (عليه السّلام) بتلك الطائفة الناكثة أصحاب الجمل.

                (٣) مرقت: خرجت، وأراد (عليه السّلام) بتلك الطائفة المارقة الخوارج أصحاب النهروان.

                (٤) قسط: جار، وأراد (عليه السّلام) بالجائرين أصحاب صفّين.

                ٦٧



                الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) . بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها )) (٢) .
                مع أبيه (عليه السّلام) في إصلاح الاُمة


                لقد بادر الإمام عليّ (عليه السّلام) إلى إعادة الحقّ إلى نصابه، والعدل إلى سيادته، مُحيياً سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الاُمّة، مُنتهجاً الطريق القويم. وما أسرع ما وقفت قوى الضلال ضدّ إصلاحات الإمام (عليه السّلام) في مجال الإدارة، وفي مجال توزيع الأموال، وفي مجال العدل في القضاء، وفي مجال مراعاة شؤون الرسالة وشؤون المسلمين!

                ولم يتردّد (عليه السّلام) في التحرّك لفضح خطّ النّفاق والقضاء على الفساد واجتثاث جذوره؛ لتسلم الرسالة والاُمّة منه، وقام هو وأهل بيته (عليهم السّلام) يخوضون غمار الحروب دفاعاً عن الإسلام مقتدين برسول الله (صلّى الله عليه وآله).

                وشارك الإمام الحسين (عليه السّلام) في جميع الحروب التي شنّها المنافقون ضدّ الإمام علي (عليه السّلام)، وكان يبرز إلى ساحة القتال بنفسه المقدّسة كلّما اقتضى الأمر وسمح له والده (عليه السّلام).

                وقد سجّل المؤرّخون خطاباً للإمام الحسين (عليه السّلام) وجّهه لأهل الكوفة لدى تحركهم إلى صفّين، جاء فيه - بعد حمد الله تعالى والثناء عليه -( يا أهل الكوفة، أنتم الأحبّة الكرماء، والشعار دون الدثار، جدّوا في إطفاء ما وتر بينكم، وتسهيل ما توعّر عليكم. ألا إنّ الحرب شرّها وريع، وطعمها فظيع، فمَنْ أخذ لها اُهبتها، واستعدّ لها عُدّتها، ولم يألم كُلومها قبل حلولها فذاك صاحبها، ومَنْ عاجلها قبل أوان فرصتها، واستبصار سعيه فيها فذاك قَمِن أن لا ينفع قومَه وإن يهلك نفسه، نسأل الله بقوّته أن يدعمكم بالفيئة )) (٣) .

                ____________________

                (١) سورة القصص / ٨٣.

                (٢) نهج البلاغة / الخطبة الشقشقية.

                (٣) شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد ١ / ٢٨٤.

                ٦٨


                حرص الإمام عليّ (عليه السّلام) على سلامة الحسنين (عليهما السّلام)


                قاتل الإمام الحسين (عليه السّلام) في معركة صفّين كما قاتل في معركة الجمل، مع أنّ بعض الروايات أفادت بأنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان يمنع الحسنين (عليهما السّلام) من النزول إلى ساحة القتال خشية أن ينقطع نسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ إذ كان (عليه السّلام) يقول( املكوا عنّي هذا الغلام لا يَهُدَّني، فإنّني أنفسُ بهذين - يعني الحسن والحسين (عليهما السّلام) -على الموت لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) )) (١) .

                وجاء في نصوص اُخرى أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان يبعث ابنه محمّد ابن الحنفيّة إلى ساحات القتال مرّات عديدة دون أن يسمح للحسنين (عليهما السّلام) بذلك، وقد سُئل ابن الحنفيّة عن سرّ ذلك فأجاب: « إنّهما عيناه وأنا يمينه فهو يدفع عن عينه بيمينه »(٢) .

                ويعكس هذا الجواب مدى ما كان يحظى به الحسنان عند الإمام علي (عليه السّلام).

                وتفيد الأخبار بأنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) ظلّ مع أبيه بعد صفّين أيضاً في جميع الأحداث مثل قضية التحكيم ومعركة النهروان.

                ومعلوم أنّ الأحداث التي عايشها الإمام الحسين مع أبيه (عليهما السّلام) كانت مأساوية ومرّة جدّاً، وقد بلغت المأساة ذروتها عندما تآمر الخوارج على قتل أسمى نموذج للإنسان الكامل - بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - أي عندما ضرب المجرم عبد الرحمن بن ملجم المرادي الخارجي إمامه أمير المؤمنين (عليه السّلام) على رأسه بالسيف وهو في محراب العبادة.

                ____________________

                (١) نهج البلاغة، من كلام له (عليه السّلام) في بعض أيام صفّين، وقد رأى ابنه الحسن (عليه السّلام) يتسرّع إلى الحرب، باب خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) / ٢٠٧.

                (٢) شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد ١ / ١١٨.

                ٦٩


                وصايا أمير المؤمنين (عليه السّلام) للإمام الحسين (عليه السّلام)


                تدلُّ وصايا أمير المؤمنين (عليه السّلام) لولده الحسين (عليه السّلام) على شدّة اهتمامه به ومحبّته له، وقد جاء في نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه الله) أوصى للحسن والحسين بالوصية التالية:

                (( اُوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زُوِيَ عنكما، وقولا بالحقّ، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً. اُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم ؛ فإنّي سمعت جدّكما (صلّى الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام.

                الله الله في الأيتام، فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم. والله الله في جيرانكم؛ فإنّهم وصيّة نبيّكم، ما زال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم. والله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم. والله الله في الصلاة؛ فإنّها عمود دينكم. والله الله في بيت ربّكم، لا تخلوه ما بقيتم؛ فإنّه إن تُرك لم تُناظروا. والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله. وعليكم بالتواصل والتباذل، وإيّاكم والتدابر والتقاطع. لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم، ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم )) .

                ثمّ قال( يا بني عبد المطلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قُتل أميرُ المؤمنين. ألا لا تقتُلنّ بي إلاّ قاتلي. انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تُمثّلوا بالرجل ؛ فإنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور )) (١) .

                وثمّة وصية اُخرى قيّمة وجامعة خاصّة بالإمام الحسين (عليه السّلام) ذكرها ابن شعبة في تحف العقول، ونحن ننقلها لأهمّيتها؛ حيث تضمّنت حكماً غرّاء

                ____________________

                (١) نهج البلاغة، باب الكتب والرسائل / ٤٧.

                ٧٠



                ووصايا أخلاقية خالدة.

                وإليك نصّ ما رواه ابن شعبة عن الإمام عليّ (عليه السّلام)( يا بُنيّ، اُوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر، وكلمة الحقّ في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وبالعدل على الصديق والعدوّ، وبالعمل في النشاط والكسل، والرضا عن الله في الشدّة والرّخاء. أي بُنيّ، ما شرٌ بعده الجّنة بشرّ، ولا خير بعده النار بخير، وكلّ نعيم دون الجّنة محقور، وكلّ بلاء دون النار عافية.

                واعلم يا بُنيّ، أنّه مَنْ أبصر عيب نفسه شُغل عن عيب غيره، ومَنْ تعرّى من لباس التقوى لم يستتر بشيء من اللباس، ومَنْ رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته، ومَنْ سلّ سيف البغي قُتل به، ومَنْ حفر بئراً لأخيه وقع فيه، ومَنْ هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومَنْ نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومَنْ كابد الاُمور عطب، ومَنْ اقتحم الغمرات غرق، ومَنْ أعجب برأيه ضلّ، ومَنْ استغنى بعقله زلّ، ومَنْ تكبّر على النّاس ذلّ، ومَنْ خالط العلماء وُقّر، ومَنْ خالط الأنذال حُقّر، ومَنْ سفه على النّاس شُتم، ومَنْ دخل مداخل السّوء اتُّهِم، ومَنْ مزح استُخِفّ به، ومَنْ أكثر من شيء عُرِف به، ومَنْ كثر كلامه كثر خطؤه، ومَنْ كثر خطؤه قلّ حياؤه، ومَنْ قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومَنْ قلّ ورعه مات قلبه، ومَنْ مات قلبه دخل النار.

                أي بنيّ، مَنْ نظر في عيوب النّاس ورضي لنفسه بها فذاك الأحمق بعينه، ومَنْ تفكّر اعتبر، ومَنْ اعتبر اعتزل، ومَنْ اعتزل سلم، ومَنْ ترك الشّهوات كان حرّاً، ومَنْ ترك الحسد كانت له المحبّة عند النّاس.

                أي بُنيّ، عِزّ المؤمن غناه عن النّاس، والقناعة مال لا ينفد، ومَنْ أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومَنْ علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما ينفعه.

                أي بُنيّ، العَجَبُ ممّن يخاف العقاب فلم يكفّ، ورجا الثواب فلم يتُب ويعمل.

                أي بُنيّ، الفكرة تورث نوراً، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، والسّعيد مَنْ وعِظَ بغيره، والأدب خير ميراث، وحسن الخُلق خير قرين. ليس مع قطيعة الرحم نماء، ولامع الفجور غنى.

                ٧١



                أي بُنيّ، العافية عشرة أجزاء؛ تسعة منها في الصمت إلاّ بذكر الله، وواحدة في ترك مجالسة السّفهاء.

                أي بُنيّ، مَنْ تزيّا بمعاصي الله في المجالس أورثه الله ذلاًّ، ومَنْ طلب العلم علم.

                أي بُنيّ، رأس العلم الرفق، وآفته الخرق، ومِنْ كنوز الإيمان الصبر على المصائب، والعفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى. كثرة الزيارة تورث الملالة، والطمأنينة قبل الخبرة ضدّ الحزم، وإعجاب المرء بنفسه يدلّ على ضعف عقله.

                أي بُني، كم نظرة جلبت حسرة، وكم مِنْ كلمة سلبت نعمة.

                أي بُنيّ، لا شرف أعلا من الإسلام، ولا كرم أعزّ من التقوى، ولا معقل أحرزُ من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى بالقوت، ومَنْ اقتصر على بُلغة الكفاف تعجّل الراحة وتبوّأ خفض الدعة.

                أي بُنيّ، الحرص مفتاح التعب، ومطيّة النصب، وداعٍ إلى التقحّم في الذنوب، والشّره جامع لمساوئ العيوب، وكفاك تأديباً لنفسك ما كرهته من غيرك. لأخيك عليك مثل الذي لك عليه، ومَنْ تورّط في الاُمور بغير نظر في العواقب فقد تعرّض للنوائب. التدبيرُ قبل العمل يؤمنك الندم. مَنْ استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ. الصبر جُنّة من الفاقة. البخل جلباب المسكنة. الحرص علامة الفقر. وصول مُعدم خير من جافٍ مكثر. لكلّ شيء قوت وابن آدم قوت الموت.

                أي بُنيّ، لا تؤيّس مذنباً، فكم من عاكف على ذنبه خُتم له بخير، وكم من مقبل على عمله مُفسد في آخر عمره، صائر إلى النار.

                أي بُنيّ، كم من عاصٍ نجا، وكم من عامل هوى. مَنْ تحرّى الصدق خفّت عليه المؤن. في خلاف النفس رُشدُها. الساعاتُ تنتقص الأعمار. ويلٌ للباغين من أحكم الحاكمين وعالم ضمير المضمرين!

                يا بُنيّ، بئس الزادُ إلى المعاد العدوانُ على العباد. في كلّ جُرعة شرق، وفي كلّ أكلة

                ٧٢



                غصص. لن تُنال نعمة إلاّ بفراق اُخرى .

                ما أقرب الراحة من النّصب، والبؤس من النّعيم، والموت من الحياة، والسّقم من الصحة! فطوبى لمَنْ أخلص لله عمله وعلمه، وحبّه وبغضه، وأخذه وتركه، وكلامه وصمته، وفعله وقوله، وبخٍ بخٍ لعالم عمل فجدّ، وخاف البيات فأعدّ واستعدّ، إن سُئل نصح، وإن تُرك صمت، كلامه صوابٌ، وسكوته من غير عيّ جواب.

                والويل لمَنْ بُلي بحرمان وخذلان وعصيان، فاستحسن لنفسه ما يكرهه من غيره، وأزرى على النّاس بمثل ما يأتي!

                واعلم أي بُنيّ، أنّه مَنْ لانت كلمتُه وجبت محبّته. وفّقك الله لرشدك، وجعلك من أهل طاعته بقدرته، إنّه جواد كريم )) (١) .
                الإمام الحسين مع أبيه (عليهما السّلام) في لحظاته الأخيرة


                تعليق


                • #9
                  الإمام الحسين مع أبيه (عليهما السّلام) في لحظاته الأخيرة


                  كان آخر ما نطق به أمير المؤمنين (عليه السّلام) هو قوله تعالى لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ) ، ثمّ فاضت روحه الزكية، تحفّها ملائكة الرحمن، فمادت أركان العدل في الأرض، وانطمست معالم الدين.

                  لقد مات ملاذ المظلومين والمحرومين الذي كرّس جهده لإقامة دولة تُنهي دور الإثرة والاستغلال، وتقيم العدل والحقّ بين النّاس.

                  وقام سبطا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بتجهيز أبيهما المرتضى (عليه السّلام)، فغسّلاه وأدرجاه في أكفانه. وفي الهزيع الأخير من الليل حملاه إلى قبره في النجف الأشرف، وقد واروا أكبر رمز للعدالة والقيم الإنسانيّة المثلى كما اعترف بذلك خصومه.

                  وكتب المؤرّخون: أنّ معاوية لما بلغه مقتل الإمام علي (عليه السّلام) خرج واتّخذ يوم قتله عيداً في دمشق، فقد تحقّق له ما كان يأمله، وتمّ له ما

                  ____________________

                  (١) تحف العقول / ٨٨ وصايا أمير المؤمنين (عليه السّلام).

                  ٧٣



                  كان يصبو إليه من اتّخاذ الملك وسيلة لاستعباد المسلمين وإرغامهم على ما يكرهون(١) .

                  ____________________

                  (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٠٩.

                  ٧٤



                  الإمام الحسين في عهد أخيه الإمام الحسن (عليهما السّلام)
                  حالة الاُمّة قبل الصلح مع معاوية


                  لم يكن تفتّتُ أركان المجتمع الإسلامي - الذي كان يؤمن بأقدس رسالة سماوية وأعظمها وأشملها - في ظلّ حكم معاوية بن أبي سفيان وليد جهود آنيّة؛ فقد بدأ الانحراف من يوم السقيفة، إذ تولّى زمام اُمور الاُمّة مَنْ كان لا يملك الكفاءة والقدرة المطلوبة، وإنّما تصدّى لها مَنْ تصدّى على أساس العصبية القبلية(١) ، ويشهد لذلك قول أبي بكر: وُلّيت أمركم ولست بخيركم(٢) .

                  وانحدرت الاُمّة في واد آخر يوم ميّز عمر بن الخطاب في العطاء بين المسلمين، مخالفاً سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ومبتدعاً نظاماً طبقياً جديداً، حتّى إذا حكم عثمان بن عفّان استفحل الفساد، واستشرى في جهاز الحكم والإدارة حين سيطر فسّاق النّاس وشرارهم على اُمور النّاس؛ فراحوا يعيثون في الاُمّة فساداً، كالوليد بن عقبة والحكم بن العاص، وعقبة بن أبي معيط وسعيد بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح(٣) .

                  وأصبحت العائلة الاُمويّة التي لم تنفتح على الإسلام لتشكل قوّة اقتصادية جرّاء نهبهم لثروات الاُمّة، وعطايا عثمان لهم بغير حق، وتغلغلوا في أجهزة الحكم، وتمكّن معاوية بن أبي سفيان خلال ولايته على الشام منذ عهد عمر أن يُنشئ مجتمعاً وفق ما تهوى نفسه الحاقدة على الإسلام والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السّلام)؛ فقد دخل هو وأبوه الإسلام مقهورين موتورين

                  ____________________

                  (١) الإمامة والسياسة ١ / ٦.

                  (٢) عليّ والحاكمون / ١٠٩، وتأريخ الخلفاء / ٧١.

                  (٣) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٤١، والعقد الفريد ٢ / ٢٦١، وأنساب الأشراف ٥ / ٣٨، وشرح النهج ١ / ٦٧.

                  ٧٥



                  يوم فتح مكة، ودخل في عداد الطلقاء، بعد أن كان قد فقد جدّه وخاله وأخاه في الصّراع ضدّ الإسلام قبل فتح مكّة.

                  على أنّ طوال هذه الفترة - منذ وفاة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) إلى نهاية حكم عثمان - لم يعتنِ النظام الحاكم بالدعوة الإسلاميّة ونشرها وترسيخها في النفوس، ولم يسعَ لاجتثاث العقد والأمراض والعادات القبلية، بل كان همّ الحاكمين هو الاندفاع في الفتوحات طمعاً في توسعة الدولة وزيادة الأموال.

                  وقد عمل الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) منذ وفاة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) جاهداً على أن لا تفقد الاُمّة شخصيتها الإسلاميّة وحاول تقليل انحرافها، فكان يتدخّل ويُعِين الفئة الحاكمة تارةً باللين واُخرى بالشدّة متجنّباً الصدام المباشر معهم؛ لأجل استرداد حقّه الشرعي في الخلافة، مؤثراً مصلحة الإسلام العامّة على ما سواها من المصالح(١) .

                  لقد فُجعت الاُمّة بمصلحها الكبير - يوم استشهد الإمام علي (عليه السّلام) - وانهارت بين يدي الإمام الحسن بن عليّ (عليهما السّلام) بعد أن أنهكتها حروب الإصلاح ضدّ الناكثين والقاسطين والمارقين ؛ إذ أسرعت القوى النفعية والمنافقة والحاقدة على الإسلام إلى الوقوف في وجه الإمام عليّ (عليه السّلام) متنكرة لأوامر الله سبحانه ورسوله (صلّى الله عليه وآله) غير مبالية بمصلحة الاُمّة، بالرغم من تجسيده للزعامة الحقيقية التي تقود إلى منهج الحقّ والعدل الإلهي، وهم يعلمون بشرعيته التي اكتسبها من الرسالة والرسول (صلّى الله عليه وآله).

                  وهذا ما كان يشكّل خطراً حقيقياً من شأنه أن يلغي وجودهم من المجتمع الإسلامي؛ ولهذا كانت حروب، الجمل وصفّين ثمّ النهروان.

                  ورأى الإمام الحسن (عليه السّلام) أن ينهض بالاُمّة مواصلاً مسيرة الإصلاح ومواجهة الانحراف، ولكنّ الجموع آثرت السّلامة والركون إلى الراحة(٢) ،

                  ____________________

                  (١) شرح النهج - لابن أبي الحديد ١ / ٢٤٨.

                  (٢) الإرشاد - للمفيد / ٨ - ٩.

                  ٧٦



                  فاضطرّ الإمام الحسن (عليه السّلام) إلى الصلح والمهادنة مع معاوية - وهو المتحصّن القويّ في بلاد الشام - على شروط وعهود مهمّة؛ ليضمن سلامة الصّفوة الخيّرة من الاُمّة، وليبني قاعدة جماهيرية أكثر وعياً وأعمق إيماناً برسالتها الإسلاميّة، كي لا يُمسخ المجتمع المسلم ولا تُمحق الرسالة ؛ إذ ليس السيف دائماً هو الفيصل في حالات النزاع، فربما كان للكلمة والمعاهدة أثر أبلغ في مرحلة خطرة، حيث الهدف هو صيانة الرسالة الإسلاميّة وحفظ الاُمّة الإسلاميّة في كلّ الأحوال، وليتّضح دور النفاق والعداء الذي كان يتّسم به بنو اُميّة وما كان يُضمِرهُ حكّامهم للإسلام.

                  ولقد وقف الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى جانب أخيه الإمام الحسن (عليه السّلام) وعايش جميع الأحداث التي مرّ بها أخوه، وكانا على اتّفاق تامّ في الرأي والموقف، يُعاضده في توجيه الاُمّة وإنقاذها بعد أن رأى كيف أنّ انحراف السّقيفة تكاملت أدواره في هذه المرحلة، وقد سرى هذا الانحراف في جسد الاُمّة حتّى غدت لا تتحفّز لنهضة الإمام الحسن (عليه السّلام) ولا تستجيب لأوامره.

                  وأحاط الإمام الحسن (عليه السّلام) بكلّ ما دبّره معاوية من المكائد والدسائس، وأصبحت الأكثرية من جيش العراق في قبضة معاوية بن أبي سفيان وطغمته، بعد أن كان يُمثّل جيش العراق العمود الفقري لجيش الإمام عليّ (عليه السّلام).

                  ولم يكن ليخفى على الإمام الحسين (عليه السّلام) أنّ المعركة - لو قدّر للإمام الحسن أن يدخلها مع معاوية - ستكون لصالح الأخير، وستنتهي حتماً إمّا بقتل الحسن والحسين وجميع الهاشميّين وخُلَّص شيعتهم، أو ستنتهي بأسرهم، في الوقت الذي تحتاج فيه الاُمّة الإسلاميّة إلى وجود الإمام المعصوم بينها؛ لإنقاذ ما تبقّى وبناء ما تهدّم، فإنّ الرسالة الإسلاميّة خاتمة الرسالات ولا بدّ من إتمام

                  ٧٧



                  ما بناه الرّسول (صلّى الله عليه وآله) والإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام).

                  ومن ذلك تبيّن أنّ ما رواه بعض المؤرّخين من أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان كارهاً لما فعله الإمام الحسن (عليه السّلام)، وأنّه قال له: « اُنشدك الله أن لا تصدّق اُحدوثة معاوية وتكذّب اُحدوثة أبيك »، وأنّ الحسن قال له: « اُسكت أنا أعلم منك »... يتبيّن أنّ هذه المرويّات لا أساس لها من الصّحة(١) .

                  هذا بالإضافة إلى أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان أبعد نظراً، وأعمق غوراً في الاُمور ومعطياتها من أفذاذ عصره الذين قدّروا للحسن (عليه السّلام)موقفه الحكيم الذي لم يكن هناك مجال لاختيار موقف سواه، وكان (عليه السّلام) أرفع شأناً من أن تخفى عليه المصلحة التي أدركها غيره فيما فعله أخوه حتّى يقف منه ذلك الموقف المزعوم.

                  ولا يشكّ المعتقدون بإمامة وعصمة الإمامين الحسنين (عليهما السّلام) في عدم صحة الروايات التي تحدّثت عن معارضة الإمام الحسين (عليه السّلام) لموقف أخيه الإمام الحسن (عليه السّلام) من الصلح مع معاوية.

                  فإذا كان الحسنان (عليهما السّلام) إمامين مفترضي الطاعة، كان كلّ ما قاما به هو محض التكليف الإلهي، وطِبقاً لما أراده الله تعالى لهما، فليس ثمّة مجال لمثل تلك الروايات.

                  ويشهد على قولنا هذا روايات معتبرة تُعارض تلك الروايات غير الصحيحة، منها ما يلي:

                  ١ - قال أبو عبد الله الصادق (عليه السّلام)( نحن قوم فرض الله طاعتنا، وأنتم تأتمّون بمَنْ لا يعذر النّاس بجهالته )) (٢) .

                  ٢ - سأل رجل أبا الحسن الإمام الرضا (عليه السّلام) فقال: طاعتك مفترضة؟

                  ____________________

                  (١) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٢٣.

                  (٢ و ٢) اُصول الكافي ١ / ١٤٣، باب فرض طاعة الأئمّة.

                  ٧٨



                  فقال( نعم )) . قال: مثل طاعة عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)؟ فقال( نعم )) (١) .

                  ٣ - عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قال له حمران: جُعلت فداك! أرأيت ما كان من أمر عليّ والحسن والحسين (عليهم السّلام) وخروجهم وقيامهم بدين الله (عزّ وجلّ)، وما اُصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم والظفر بهم حتّى قُتلوا أو غلبوا؟

                  فقال أبو جعفر(عليه السّلام)( يا حُمران، إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه، وأمضاه وحتمه ثمّ أجراه، فبتقدّم علم ذلك إليهم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قام عليّ والحسن والحسين، وبعلم صمت مَنْ صمت منّا )) (٢) .

                  ٤ - وعن عظيم أخلاق الحسين (عليه السّلام) واحترامه لأخيه الحسن (عليه السّلام) قال الإمام محمّد الباقر(عليه السّلام)( ما تكلّم الحسين بين يدي الحسن إعظاماً له )) (٣) .

                  ٥ - قال أبو عبد الله (عليه السّلام)( إنّ معاوية كتب إلى الحسن بن عليّ (صلوات الله عليهما) أن أقدم أنت والحسين وأصحاب عليّ، فخرج معهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فقدموا الشّام، فأذن لهم معاوية، وأعدّ لهم الخطباء... ثمّ قال:يا قيس، قم فبايع، فالتفت إلى الحسين (عليه السّلام) ينظر ما يأمره، فقال: يا قيس، إنّه إمامي - يعني الحسن (عليه السّلام) -)) (٤) .
                  احترام الإمام الحسين (عليه السّلام) لبنود صلح الإمام الحسن (عليه السّلام)


                  استشهد الإمام الحسن (عليه السّلام) سنة (٤٩) أو (٥٠) للهجرة، ومات معاوية سنة (٦٠) للهجرة، وفي هذه المدّة كانت الإمامة والقيادة للإمام الحسين (عليه السّلام)، ولم تجب عليه طاعة أحد، لكنّه (عليه السّلام) ظلّ ملتزماً ببنود معاهدة الصلح التي

                  ____________________

                  (٢) اُصول الكافي ١ / ٢٢١ - ٢٢٢ باب أنّ الأئمّة (عليهم السّلام) لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلاّ بعهد من الله (عزّ وجلّ) وأمر منه لا يتجاوزونه.

                  (٣) حياة الإمام الحسين ٢ / ٢٥٢.

                  (٤) بحار الأنوار ٤٤ / ٦١.

                  ٧٩



                  عقدها أخوه الإمام الحسن (عليه السّلام) مع معاوية، فلم يصدر عنه أيّ موقف ينتهك به بنود المعاهدة المذكورة، بل لمّا طالبه بعض الشيعة بالقيام والثورة على معاوية، أوصاهم بالصبر والتقية مُشيراً إلى التزامه بالمعاهدة، وأنّه سيكون في حِلٍّ من المعاهدة بموت معاوية.
                  رسالة جعدة بن هبيرة إلى الإمام الحسين (عليه السّلام)


                  كان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب من أخلص النّاس للإمام الحسين (عليه السّلام) وأكثرهم مودّة له، وقد اجتمعت عنده الشيعة وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم الكوفة؛ ليعلن الثورة على حكومة معاوية، فدفع جعدة رسالة إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) هذا نصها: « أمّا بعد، فإن من قبلنا من شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك، لا يعدلون بك أحداً، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب، وعرفوك باللين لأوليائك والغلظة على أعدائك والشدّة في أمر الله، فإن كنت تحبّ أن تطلب هذا الأمر فاقدم علينا، فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك »(١) .

                  فأجابه الإمام الحسين (عليه السّلام) بقوله( أمّا أخي فإنّي أرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذاك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً، فإن يُحدث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي، والسّلام )) .

                  يتبيّن ممّا تقدّم أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) - انطلاقاً من مسؤوليته الشّرعية - اتّبع أخاه الإمام الحسن (عليه السّلام) في مسألة الصّلح مع معاوية، وقد قبله والتزم به طيلة حكم معاوية، بل إنّ عشرات الشّواهد تؤكّد أنّهما كانا منسجمين في

                  ____________________

                  (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٢٢٩ - ٢٣٠.

                  ٨٠



                  تفكيرهما ونظرتهما إلى الاُمور ومعطياتها، ومتّفقين في كلّ ما جرى وتمّ التوصل إليه.

                  وكما نسبوا إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) ذلك فقد نسبوا إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) أيضاً أنّه كان على خلاف مع أبيه! في كثير من مواقفه السياسية قُبيل خلافته وخلالها.

                  ومن الواضح أنّ الهدف من أمثال هذه المزاعم هو زرع الشّك في نفوس الاُمّة بالنسبة للموقع الريادي للإمامين الشّرعيين الحسن والحسين (عليهما السّلام)؛ بغية إيجاد الفرقة والاختلاف كي يبتعد النّاس عنهما.
                  استشهاد الإمام الحسن (عليه السّلام)


                  أقام الإمام الحسن (عليه السّلام) بالكوفة أيّاماً بعد أن صالح معاوية، ثمّ عاد مع أخيه الإمام الحسين (عليه السّلام) وجميع أهل بيته إلى المدينة، فأقام بها كاظماً غيظه، لازماً منزله، منتظراً لأمر ربّه جلّ اسمه(١) .

                  وكما ذكرنا فإنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) رفض التحرّك ضدّ معاوية ما دام حيّاً؛ التزاماً بمعاهدة الصّلح التي كان قد عقدها أخوه الحسن (عليه السّلام) معه.

                  وقد اهتمّ الإمامان (عليهما السّلام) في المدينة بالعبادة وترسيخ العقيدة الإسلاميّة في نفوس النّاس، وتوضيح الأحكام الإسلاميّة للناس وإرشادهم وهدايتهم، والعمل من أجل تربية جيل واعٍ يتحمّل مسؤوليته تجاه الظلم والفساد والانحراف الحاصل في مسيرة الاُمّة.

                  وفي هذه السّنوات العشر - كما دوّنته جملة من مصادر التاريخ الإسلامي - قد حدثت عدّة مناوشات كلامية من جانب الإمامين الحسن والحسين (عليهما السّلام) بالنسبة لتصرّفات معاوية وجملة من عناصر بلاطه.

                  ____________________

                  (١) الإرشاد ٢ / ١٥.

                  ٨١



                  ٨٢



                  الباب الثالث

                  وفيه فصول:

                  الفصل الأوّل: عصر الإمام الحسين (عليه السّلام)

                  الفصل الثاني: مواقف الإمام (عليه السّلام) وإنجازاته

                  الفصل الثالث: نتائج الثورة الحسينيّة

                  الفصل الرابع: من تراث الإمام الحسين (عليه السّلام)

                  ٨٣



                  ٨٤



                  الفصل الأول: عصر الإمام الحسين (عليه السّلام)

                  تعليق


                  • #10
                    الفصل الأول: عصر الإمام الحسين (عليه السّلام)
                    البحث الأوّل: حكومة معاوية ودورها في تشويه الإسلام


                    أمسك معاوية والطغمة الفاسدة من بني اُميّة بزمام الحكم، وأكملوا بذلك الانحراف الذي حصل من السّقيفة؛ حيث حوّل معاوية الخلافة إلى ملك عضوض مستبدّ حين صرّح بعدائه للاُمة الإسلاميّة، واعترف بعدم رضى الاُمّة به حاكماً بقوله: والله، ما ولّيتها - أي الخلافة - بمحبّة علمتها منكم، ولا مسرّة بولايتي ولكن جالدتكم بسيفي(١) .

                    ولكنّ معاوية والتّيار الذي تزعّمه واجه عقبةً كؤوداً، هي تطبيق الإمام عليّ (عليه السّلام) لأحكام الشّريعة الإسلاميّة بصورتها الصّحيحة، مضافاً إلى أنّه لم يترك الاُمّة حتّى عمّق العقيدة في النّفوس، فأحبّته الجماهير وخصوصاً أهل العراق، وكان في ذلك حريصاً على الرسالة والاُمّة الإسلاميّة، ومفنّداً مزاعم أرباب السّقيفة حين عبّر أبو بكر عن عجزه، واعتذر عن كثرة أخطائه بقوله: فإنّي قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم(٢) .

                    فإنّ هذا الاعتذار قد يُفهم منه

                    ____________________

                    (١) تأريخ الخلفاء / ٧١.

                    (٢) المصدر السابق.

                    ٨٥



                    عدم إمكان التطبيق التام للشريعة الإسلاميّة، ولكنّ الإمام عليّاً (عليه السّلام) قد قدّم النّموذج الحيّ للقيادة الكفوءة الواعية والمعصومة بعد الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، فكانت الاُمّة المسلمة تتوقّع قائداً كعليّ بن أبي طالب (عليه السّلام).

                    ولكن معاوية شرع في تشويه هذه القيم الإسلاميّة، ومحاربة القوى المتعاطفة مع أهل البيت (عليهم السّلام)، وهدم كلّ ما بناه الإمام عليّ (عليه السّلام) في الاُمّة الإسلاميّة من قيم؛ فتفقد إرادتها ويموت ضميرها؛ لئلاّ تكون قادرة على مواجهة أهواء الحكّام المخالفة للدين الحنيف.

                    لقد أعلن معاوية منذ أوّل خطوة أنّ هدفه الأساس هو استلام زمام الحكم حتّى لو اُريقت من أجله دماء المسلمين المحرّمة، بكلمته المعروفة: والله، ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم(١) .
                    منهج معاوية لمحاربة الإسلام


                    ولا بدّ لنا من دراسة موجزة للمخطّطات الشّيطانية التي تبنّاها معاوية وما رافقها من الأحداث الجسام؛ فإنّها من أهمّ الأسباب في ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام). لقد رأى الإمام (عليه السّلام) ما وصل إليه حال المسلمين من التردّي؛ عقائدياً وأخلاقياً، واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.

                    وكان كلّ هذا التردّي من جرّاء السّياسات التي أبعدت الاُمّة عن مسار الإسلام الأصيل من خلال ممارسات معاوية التي بلغت ذروتها في فرض يزيد بالقوة خليفةً على المسلمين، فهبّ (سلام الله عليه) بعد هلاك معاوية إلى تفجير ثورته الكبرى التي أدّت إلى إيقاظ النّفوس، وتحريك إرادة الاُمّة.

                    وإليك بعض معالم سياسات الجاهلية الاُموية التي تصدّى لتنفيذها:

                    ____________________

                    (١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٦.

                    ٨٦



                    ٨٧



                    معاوية
                    ١ - سياسته الاقتصادية


                    لم تكن لمعاوية أيّة سياسة اقتصادية في المال حسب المعنى المتداول لهذه الكلمة، وإنّما كان تصرّفه في جباية الأموال وإنفاقها خاضعاً لرغباته وأهوائه، فهو يهب الثّراء العريض للمؤيدين له ويحرم معارضيه من العطاء، ويأخذ الأموال ويفرض الضّرائب بغير حقّ، وقد شاع في عصر معاوية الفقر والحرمان عند الأكثرية السّاحقة من المسلمين، فيما تراكمت الثروات عند فئة قليلة راحت تتحكّم في مصير المسلمين وشؤونهم.

                    وهذه بعض الخطوط الرئيسة في سياسته الاقتصادية:
                    أ - الحرمان الاقتصادي


                    أشاع معاوية الحرمان الاقتصادي في الأقطار التي كانت تضمّ الجبهة المعارضة له، مثل:

                    * يثرب:

                    لم ينفق معاوية على أهل يثرب أيّ شيء من المال؛ لأنّ فيهم كثيراً من الشّخصيات المعارضة للاُسرة الأموية والطّامعة في الحكم.

                    يقول المؤرخون: إنّ معاوية أجبرهم على بيع أملاكهم فاشتراها بأبخس الأثمان، وقد أرسل قيّماً على أملاكه؛ لتحصيل وارداتها فمنعوه عنها، وقابلوا حاكمهم عثمان بن محمّد وقالوا له: إنّ هذه الأموال لنا كلّها، وإنّ معاوية آثر علينا في عطائنا، ولم يُعطنا درهماً حتّى مضّنا الزمان ونالتنا المجاعة، فاشتراها بجزء من مئة من ثمنها، فردّ عليهم حاكم المدينة بأقسى القول وأمّره(١) .

                    ____________________

                    (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٢٣.

                    ٨٨



                    وقد نصب معاوية على الحجاز مروان بن الحكم تارةً، وسعيد بن العاص مرّة اُخرى، وكان يعزل الأوّل ويولّي الثاني، وقد جهدا معاً في إذلال أهل المدينة وإفقارهم.

                    * العراق:

                    فرض معاوية على أهل العراق عقوبات اقتصاديةً بصفته المركز الرئيسي للمعارضة، وكان واليه المغيرة بن شعبة يحبس العطاء والأرزاق عن أهل الكوفة، وقد سار الحكّام الاُمويّون بعد معاوية على هذا النهج في اضطهاد أهل العراق وحرمانهم(١)؛ باعتبارهم الثقل الأكبر في الخطّ الواعي الذي وقف مع أمير المؤمنين (عليه السّلام).
                    ب - استخدام المال لتثبيت ملكه


                    استخدم معاوية بيت المال لتثبيت ملكه وسلطانه، واتّخذ المال سلاحاً يمكّنه من التسلّط على الاُمّة، فقد كان من عناصر سياسة الاُمويّين استخدام المال سلاحاً للإرهاب وأداةً للتقريب، فحرم منه فئةً من النّاس، وأغدق أضعافاً مضاعفة لطائفة اُخرى ثمناً لضمائرهم وضماناً لصمتهم(٢) .

                    ووهب معاوية خراج مصر لعمرو بن العاص، وجعله طعمة له مادام حيّاً، وذلك لتعاونه معه على مناجزة أمير المؤمنين (عليه السّلام)(٣) .
                    ج - شراء الذمم


                    فتح معاوية باباً جديداً في سياسته الاقتصادية وهي شراء الذمم، فقد

                    ____________________

                    (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٢٥، وراجع العقد الفريد ٤ / ٢٥٩.

                    (٢) المصدر السابق ٢ / ١٢٧، نقلاً عن اتجاهات الشّعر العربي - د. محمّد مصطفى / ٢٧.

                    (٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٢٧.

                    ٨٩



                    أعلن عن ذلك بكلّ دناءة قائلاً: والله لأستميلنّ بالأموال ثُقات عليّ، ولاُقسّمنّ فيهم الأموال حتّى تغلب دنياي آخرته(١) .

                    كما روي أنّه وفد عليه جماعة من أشراف العرب فأعطى كلّ واحد منهم مئة ألف درهم، وأعطى الحتات عمّ الفرزدق سبعين ألفاً، فلمّا علم الحتات بذلك رجع مغضباً إلى معاوية، فقال له - بلا خجل ولا حياء -: إنّي اشتريت من القوم دينهم، ووكلتك إلى دينك.

                    فقال الحتات: اشتر منّي ديني. فأمر له بإتمام الجائزة(٢) .
                    د - ضريبة النيروز


                    فرض معاوية على المسلمين ضريبة النيروز في بدعة سنّها من غير دليل في الشّريعة الإسلاميّة؛ ليسدّ بها نفقاته، وبالغ في إرهاق النّاس واضطهادهم على أدائها، وقد بلغت فيما يقول المؤرخون: عشرة ملايين درهم، وهي من الضّرائب التي يألفها المسلمون، وقد اتّخذها الحكّام من بعده سنّةً فأرغموا المسلمين على أدائها(٣) .
                    ٢ - سياسة التفرقة


                    بنى معاوية سياسته على تفريق كلمة المسلمين، إيماناً منه بأنّ الحكم لا يستقرّ له إلاّ بإشاعة العداء بين أبناء الاُمّة الإسلاميّة، « وكانت لمعاوية حيلته التي كرّرها وأتقنها وبرع فيها، واستخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين وغير المسلمين، وكان قوام تلك الحيلة، العمل الدائب على التفرقة

                    ____________________

                    (١) راجع وقعة صفّين - لنصر بن مزاحم / ٤٩٥، وشرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٣.

                    (٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٢٨ - ١٢٩.

                    (٣) المصدر السابق ٢ / ١٣١، وراجع الحياة الفكرية في الإسلام / ٤٢.

                    ٩٠



                    والتخذيل بين خصومه بإلقاء الشّبهات بينهم وإثارة الإحن فيهم، ومنهم مَنْ كان من أهل بيته وذوي قرباه... كان لا يُطيق أن يرى رجلين ذوي خطر على وفاق، وكان التنافس الفطري بين ذوي الأخطار ممّا يعينه على الإيقاع بهم »(١) .
                    أ - اضطهاد الموالي


                    بالغ معاوية في اضطهاد الموالي وإذلالهم، وقد رام أن يبيدهم إبادةً شاملةً. يقول المؤرخون: إنّه دعا الأحنف بن قيس، وسمرة بن جندب، وقال لهما: إنّي رأيت هذه الحمراء قد كثُرت، وأراها قد قطعت على السّلف، وكأنّي أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسّلطان، فقد رأيت أن أقتل شطراً منهم، وأدع شطراً لإقامة السّوق وعمارة الطريق(٢) .
                    ب - العصبية القبلية


                    أحيا معاوية العصبيات القبلية، وقد ظهرت في الشّعر العربي صور مُريعة ومؤلمة من ألوان الصّراع الذي كانت السّلطة الاُموية تختلقه؛ لإشغال النّاس عن التدخّل في الشؤون السّياسية.

                    وقال المؤرّخون: إنّ معاوية عمد إلى إثارة الأحقاد القديمة بين الأوس والخزرج؛ محاولاً بذلك التقليل من أهمّيتهم، وإسقاط مكانتهم أمام العالم العربي والإسلامي، كما تعصّب لليمنيّين على المُضريّين، وأشعل نار الفتنة فيما بينهم حتّى لا تتّحد لهم كلمة تضرّ بمصالح دولته(٣) .
                    ٣ - سياسة البطش والجبروت


                    ساس معاوية الاُمّة بسياسة البطش والقمع، فاستهان بمقدّراتها

                    ____________________

                    (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٣٥، عن العقّاد في كتابه « معاوية في الميزان » / ٦٤.

                    (٢) العقد الفريد ٢ / ٢٦٠.

                    (٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٣٧.

                    ٩١



                    وكرامتها، وقد أعلن - بعد الصّلح - أنّه قاتل المسلمين وسفك دماءهم؛ كي يتأمّر عليهم، وقد أدلى بتصريح عبّر فيه عن كبريائه وغطرسته فقال: نحن الزمان، مَنْ رفعناه ارتفع، ومَنْ وضعناه اتّضع(١) .

                    وسار عمّاله وولاته على هذه الخطّة الغادرة، فقد خاطب عتبة بن أبي سفيان المصريّين بقوله: فوالله لأقطعنّ بطون السّياط على ظهوركم.

                    وجاء في خطاب لخالد القسري في أهل مكة: فإنّي والله ما اُوتي لي بأحد يطعن على إمامه (يعني معاوية) إلاّ صلبته في الحرم(٢) .
                    ٤ - الخلاعة والمجون والاستخفاف بالقيم الدينية


                    عُرف معاوية بالخلاعة والمجون. يقول ابن أبي الحديد: كان معاوية أيام عثمان شديد التهتّك، موسوماً بكلّ قبيح، وكان في أيام عمر يستر نفسه قليلاً ؛ خوفاً منه، إلاّ أنّه كان يلبس الحرير والديباج، ويشرب في آنية الذهب والفضّة، ويركب البغلات ذوات السّروج المحلاّت بها - أي بالذهب - وعليها جلال الديباج والوشي... ونقل النّاس عنه في كتب السّيرة: أنّه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشّام(٣) .

                    وروي عن عبد الله بن بريدة قوله: دخلتُ أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفراش، ثمّ اُوتينا بالطعام فأكلنا، ثمّ اُوتينا بالشّراب فشرب معاوية! ثمّ ناول أبي فقال: ما شربته منذ حرّمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(٤) .

                    وثمة روايات عديدة تحدّثت عن أكل معاوية للربا، منها: أنّ معاوية باع سقاية من ذهب، أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت

                    ____________________

                    (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٣٨ - ١٣٩، والعقد الفريد ٢ / ١٥٩.

                    (٢) الأغاني - لأبي الفرج الأصفهاني ٢٢ / ٣٨٢ طبعة بيروت.

                    (٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٤٤ - ١٤٥.

                    (٤) مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٣٤٧.

                    ٩٢



                    رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نهى عن مثل هذا إلاّ مِثلاً بمثل.

                    فقال معاوية: ما أرى به بأساً.

                    فقال له أبو الدرداء: مَنْ يُعذرُني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله وهو يخبرني عن رأيه! لا اُساكنك بأرض أنت بها.

                    ثمّ قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطّاب فذكر له ذلك، فكتب عمر إلى معاوية: أن لا تبع ذلك إلاّ مثلاً بمثل ووزناً بوزن(١) .

                    ومن مظاهر استخفاف معاوية بالقيم الإسلاميّة استلحاقه زياد بن عبيد الرومي وإلصاقه بنسبه من دون بيّنة شرعيّة، وإنّما اعتمد على شهادة أبي مريم الخمّار وهو ممّا لا يثبت به نسب شرعي، وقد خالف بذلك قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)( الولد للفراش وللعاهر الحجر )) (٢) .
                    ٥ - إظهار الحقد على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والعداء لأهل بيته (عليهم السّلام)


                    حقد معاوية على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فقد مكث في أيام خلافته أربعين جمعةً لا يُصلّي عليه، وسأله بعض أصحابه عن ذلك فقال: « لا يمنعني عن ذكره إلاّ أن تشمخ رجال بآنافها »(٣) .

                    وسمع المؤذّن يقول: « أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله... »، واندفع يقول: « لله أبوك يابن عبد الله! لقد كنت عالي الهمّة، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يُقرن اسمك باسم ربّ العالمين »(٤) .

                    وسخّر معاوية جميع أجهزته للحطّ من قيمة أهل البيت (عليهم السّلام) الذين هم وديعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حتّى استخدم أخطر الوسائل في محاربتهم وإقصائهم عن واقع الحياة الإسلاميّة، وكان من بين ما استخدمه في ذلك:

                    ١ - تسخير الوعّاظ ليحوّلوا القلوب عن أهل البيت (عليهم السّلام).

                    ____________________

                    (١) سنن النسائي ٧ / ٢٧٩.

                    (٢) راجع قصة الاستلحاق وأسبابها وآثارها في (حياة الإمام الحسن بن علي) ٢ / ١٧٤ - ١٩٠.

                    (٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٥١، عن النصائح الكافية / ٩٧.

                    (٤) شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد ١٠ / ١٠١.

                    ٩٣



                    ٢ - افتعال الأخبار على لسان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) للحطّ من قيمة أهل البيت (عليهم السّلام)، وقد استفاد من أبي هريرة الدوسي، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، حيث اختلقوا مئات الأحاديث على لسان النبيّ (صلّى الله عليه وآله).

                    ٣ - استخدم معاوية معاهد التعليم وأجهزة الكتاتيب؛ لتغذية النَشْء ببغض أهل البيت (عليهم السّلام) وخلق جيل معاد لهم.

                    وتمادى معاوية في عدائه لأمير المؤمنين (عليه السّلام) فأعلن سبّه ولعنه في نواديه العامّة والخاصّة، وأوعز إلى جميع عمّاله وولاته أن يذيعوا سبّه بين النّاس، وسرى سبّ الإمام في جميع أنحاء العالم الإسلامي.

                    وقد خطب معاوية في أهل الشّام فقال لهم: أيّها النّاس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لي: إنّك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدّسة - يعني الشّام - فإنّ فيها الأبدال، وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب(١) .
                    ٦ - العنف مع شيعة أهل البيت (عليهم السّلام)


                    اضطُهدت الشّيعة أيام معاوية اضطهاداً رسمياً، ومورس معهم أشدُّ أنواع القمع والقهر.

                    وقد وصف الإمام محمّد الباقر (عليه السّلام) الإرهاب الاُموي بقوله (عليه السّلام)( وقُتلت شيعتنا بكلّ بلدة، وقُطّعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان مَنْ يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن، أو نُهب ماله، أو هُدمت داره )) (٢) .

                    وعمد معاوية إلى إبادة القوى المفكّرة والواعية من الشّيعة، وقد ساق أفواجاً منهم إلى ساحات الإعدام، من قبيل: حجر بن عدي، ورشيد الهجري،

                    ____________________

                    (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٦٠، وشرح نهج البلاغة ٣ / ٣٦١.

                    (٢) شرح نهج البلاغة ٣ / ١٥، والطبقات الكبرى ٥ / ٩٥.

                    ٩٤



                    وعمرو بن الحمق الخزاعي، وأوفى بن حصن.

                    ولم يقتصر معاوية على تنكيله برجال الشّيعة، وإنّما تجاوز ظلمه إلى نسائهم، فأشاع الذعر والإرهاب في العديد منهنّ، مثل: الزرقاء بنت عدي، وسودة بنت عمارة، واُمّ الخير البارقيّة.

                    وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله بهدم دور الشّيعة، ومحو أسمائهم من الديوان، وقطع عطائهم ورزقهم، كذلك عهد إلى عمّاله بعدم قبول شهادتهم في القضاء وغيره؛ مبالغة في إذلالهم وتحقيرهم.

                    إنّ انحرافات معاوية وجرائمه لا يمكن استيعابها في هذه الإشارات السّريعة، وهي تتطلّب كتاباً خاصّاً بها لكثرتها وسعتها، ولقد كنّا نرمي في الدرجة الاُولى من هذه الإشارات إلى التمهيد للتطرّق إلى ذِكر جريمته الكبرى التي أدّت بالإمام الحسين (عليه السّلام) إلى إعلان ثورته. هذه الجريمة التي تمثّلت في فرض ابنه يزيد الفاسق وليّاً للعهد.
                    ٧ - فرض البيعة بالقوّة ليزيد الفاجر


                    تعليق


                    • #11
                      ٧ - فرض البيعة بالقوّة ليزيد الفاجر


                      لقد كانت الخلافة أيام أبي بكر وعمر وعثمان ذات مسحة إسلاميّة، وكانوا يحكمون تحت شعار خلافة الرّسول (صلّى الله عليه وآله).

                      على أنّ معاوية حينما بدأ بالسّيطرة على زمام السّلطة فإنّه - رغم الخداع والتضليل الذي عرفنا شيئاً عنه - لم يجترئ على تحدّي الرّسول (صلّى الله عليه وآله) ورسالته بشكل علني وصريح في بداية حكمه ؛ إذ كان يستغلّ المظاهر الإسلاميّة لإحكام القبضة، ولتحقيق مزيد من السيطرة على رقاب أبناء الاُمّة الإسلاميّة؛ ومن هنا وصف معاوية بالدهاء والذكاء المفرط، لأنّه كان يُلبس باطله لباساً إسلامياً.

                      ولكنّ تحميله ليزيد الفاجر، المعلن بفسقه على الاُمّة جاء هتكاً صريحاً للقيم الإسلاميّة، واستهتاراً واضحاً لعرف المسلمين ؛ وذلك لما عرفه

                      ٩٥



                      المسلمون جميعاً من أنّ الخلافة الإسلاميّة ليست حكماً قيصرياً ولا كسروياً لينتقل بالوراثة، ولا يستحق هذا المنصب إلاّ العالم بالكتاب والسنّة، العامل بهما والقادر على تحقيق أهداف الرسالة الإسلاميّة وتطبيق أحكامها.

                      هذا مضافاً إلى أنّ فرض البيعة ليزيد على المسلمين كان جريمة كبرى ذات أبعاد اجتماعية وسياسية خطيرة تنتهي بتصفية الإسلام ومحوه من على وجه الأرض، لولا ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) سبط الرّسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، الحافظ لدين جدّه من الضّياع والدمار.

                      ولأجل الوقوف على عظمة هذه الجريمة لا بدّ أن نعرف أوّلاً مَنْ هو يزيد؟ وما هو السّبب الذي جعله غير صالح للخلافة؟ ولماذا يكون فرض بيعته عدواناً صريحاً على الإسلام، وارتداداً عنه وعودة إلى الجاهليّة التي ناهضها الإسلام؟

                      البحث الثاني: من هو يزيد بن معاوية؟

                      قبل الحديث عن تولّي يزيد للحكم وموقف الإمام الحسين (عليه السّلام) من ذلك لا بدّ وأن نعرف مَنْ هو يزيد في منظار الإسلام والمسلمين، وما هو رأي الإسلام في البيت الاُموي بصورة عامّة.

                      لا يشك أحد من الباحثين والمؤرّخين في أنّ الاُمويّين كانوا من ألدّ أعداء الإسلام وأنكد خصومه منذ أن بزغ فجره وحتى آخر مرحلة من مراحل حكمهم، وأنّهم لم يدخلوا فيه إلاّ بعد أن استنفدوا جميع إمكاناتهم في محاربته حتّى باؤوا بالفشل. ولمّا دخلوا فيه مرغمين أخذوا يخطّطون لتشويه معالمه، وإعادة مظاهر الجاهليّة بكلّ أشكالها باُسلوب جديد وتحت ستار الإسلام.

                      وكان معاوية يرتعش جزعاً ويضجر عندما كان يسمع النداء باسم النبيّ محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، ويشعر بانطلاق هذا الاسم المبارك في أجواء

                      ٩٦



                      العالم الإسلامي من أعلى المآذن في كلّ يوم.

                      وهكذا كان غيره من حكّام ذلك البيت الذين حكموا باسم الإسلام وهم يعملون على تقويضه، وإبرازه على غير واقعه، وتشويه قوانينه وتشريعاته ومُثله.

                      ويزيد بن معاوية - الذي وقف الإمام الحسين (عليه السّلام) منه ذلك الموقف الخالد - كان كما يصفه المؤرّخون والمحدّثون، مستهتراً إلى حدّ الإسراف في الاستهتار، وممعناً في الفحشاء والمنكرات إلى حدّ الغلوّ في ذلك(١) .
                      ولادة يزيد ونشأته وصفاته


                      ولد يزيد سنة (٢٥ أو ٢٦ هـ )(٢) ، واُمّه ميسون بنت بجدل الكلبية، وقد ذكر المؤرّخون أنّ ميسون بنت بجدل الكلبية أمكنت عبد أبيها من نفسها، فحملت بيزيد (لعنه الله)، وإلى هذا أشار النسّابة الكلبي بقوله:

                      [TR]
                      [TD="width: 236"]فإن يكن الزمان أتى علينا
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]بقتل الترك والموت الوحيِّ
                      [/TD]
                      [/TR]
                      [TR]
                      [TD="width: 236"]فقد قَتل الدعيُّ وعبدُ كلبٍ
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]بأرض الطفّ أولادَ النبيِّ
                      [/TD]
                      [/TR]
                      أراد بالدعيّ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) ، ومراده بعبد كلب يزيد بن معاوية؛ لأنّه من عبد بجدل الكلبي(٣) .

                      وفيما يتّصل بصفاته الجسميّة: فقد وصفه ابن كثير - في بدايته - بأنّه كان كثير اللحم، عظيم الجسم، وكثير الشعر مجدوراً(٤) .

                      أمّا صفاته النفسية: فقد ورث صفات الغدر والنّفاق، والطيش والاستهتار من سلفه، حتّى قال المؤرّخون: وكان يزيد قاسياً غدّاراً كأبيه، (إن كان من معاوية طبعاً)، ولكنّه ليس داهيةً مثله. كانت تنقصه القدرة على

                      ____________________

                      (١) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٤١.

                      (٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٧٩.

                      (٣) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٠٩.

                      (٤) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٤٢.

                      ٩٧



                      تغليف تصرّفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت طبيعته المنحلّة وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب إليها شفقة ولا عدل. كان يقتل ويعذّب نشواناً للمتعة واللّذة التي يشعر بها، وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك، لقد كانوا من حثالة المجتمع(١) .

                      وقد نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام، وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين فتأثّر بسلوكهم إلى حدّ بعيد، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب.
                      ولع يزيد بالصيد


                      ومن مظاهر صفات يزيد ولعه بالصيد، فكان يقضي أغلب أوقاته فيه. قال المؤرّخون: كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد، لاهياً به، وكان يُلبِسُ كلابَ الصيد الأساورَ من الذهب، والجلال المنسوجة منه، ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه(٢) .
                      شغفه بالقرود


                      وكان يزيد - فيما أجمع عليه المؤرّخون - ولعاً بالقرود، وكان له قرد يجعله بين يديه ويُكنّيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمُسخ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السّباق، فحمله يوماً فسبق الخيل فسُرّ بذلك، وجعل يقول:

                      ____________________

                      (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٨١ - ١٨٢.

                      (٢) راجع الفخري - لابن الطقطقي / ٤٥، وتاريخ اليعقوبي ٢/٢٣٠، وتاريخ الطبري ٤/٣٦٨، والبداية والنهاية ٨ / ٢٣٦ - ٢٣٩.

                      ٩٨



                      وأرسله مرّةً في حلبة السّباق فطرحته الريح فمات، فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه، كما أمر أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم، وأنشأ راثياً له:

                      [TR]
                      [TD="width: 236"]تمسّك أبا قيس بفضل زمامها
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]فليس عليها إن سقطتَ ضمانُ
                      [/TD]
                      [/TR]
                      [TR]
                      [TD="width: 236"]فقد سبقتْ خيلَ الجماعة كلّها
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]وخيلَ أمير المؤمنين أتانُ
                      [/TD]
                      [/TR]


                      [TR]
                      [TD="width: 236"]كم من كرام وقوم ذوو محافظةٍ
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]جاؤوا لنا ليعزّوا في أبي قيسِ
                      [/TD]
                      [/TR]
                      [TR]
                      [TD="width: 236"]شيخ العشيرة أمضاها وأجملها
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]على الرؤوس وفي الأعناق والريسِ
                      [/TD]
                      [/TR]
                      [TR]
                      [TD="width: 236"]لا يُبعد الله قبراً أنت ساكنه
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]فيه جمالٌ وفيه لحية التيسِ (١)
                      [/TD]
                      [/TR]
                      وذاع بين النّاس هيامه وشغفه بالقرود حتّى لقّبوه بها، ويقول رجل من تنوخ هاجياً له:

                      [TR]
                      [TD="width: 236"]يزيد صديق القرد ملّ جوارَنا
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]فحنّ إلى أرض القرود يزيدُ
                      [/TD]
                      [/TR]
                      [TR]
                      [TD="width: 236"]فتبّاً لمنْ أمسى علينا خليفةً
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]صحابتُه الأدنون منه قرودُ (٢)
                      [/TD]
                      [/TR]
                      إدمانه على الخمر


                      والظاهرة البارزة من صفات يزيد إدمانه على الخمر حتّى أسرف في ذلك إلى حدٍ كبيرٍ، فلم يُرَ في وقت إلاّ وهو ثمل لا يعي من فرط السُكر، ومن شعره في الخمر:

                      [TR]
                      [TD="width: 236"]أقول لصحبٍ ضمّت الخمرُ شملهمْ
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]وداعي صبابات الهوى يترنّمُ
                      [/TD]
                      [/TR]
                      [TR]
                      [TD="width: 236"]خذوا بنصيبٍ من نعيم ولذّةٍ
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]فكلّ وإن طال المدى يتصرّمُ (٣)
                      [/TD]
                      [/TR]
                      وينقل المؤرّخون عن عبد الله بن حنظلة - الذي خرج على يزيد بعد أن

                      ____________________

                      (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٨٢، نقلاً عن جواهر المطالب / ١٤٣.

                      (٢) أنساب الأشراف ٢ / ٢.

                      (٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٨٣، نقلاً عن تأريخ المظفّري.

                      ٩٩



                      اصطحب وفداً من أهل المدينة إلى الشّام في أعقاب استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) - وصفه ليزيد بقوله: والله، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السّماء؛ إنّه رجل ينكح الاُمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصّلاة. والله، لو لم يكن معي أحد من النّاس لأبليت لله بلاءً حسناً(١) .

                      وقال أعضاء الوفد: قدمنا من عند رجل ليس له دين؛ يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويلعب بالكلاب(٢) .

                      ونقل عن المنذر بن الزبير قوله في وصفه: والله إنّه ليشرب الخمر، والله إنّه ليسكر حتّى يدع الصّلاة(٣) .

                      ووصفه أبو عمر بن حفص بقوله: والله، رأيت يزيد بن معاوية يترك الصّلاة مسكراً...(٤) .

                      ويتبدّى الكفر في وصفه للخمر في الأبيات الآتية:

                      [TR]
                      [TD="width: 236"]شميسة كرم برجها قعر دنِّها
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]ومشرقها الساقي ومغربها فمي
                      [/TD]
                      [/TR]
                      [TR]
                      [TD="width: 236"]إذا اُنزلت من دنِّها في زجاجةٍ
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]حكت نفراً بين الحطيم وزمزمِ
                      [/TD]
                      [/TR]
                      [TR]
                      [TD="width: 236"]فإن حَرُمَتْ يوماً على دين أحمدٍ
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]فخذها على دين المسيح بن مريمِ (٥)
                      [/TD]
                      [/TR]
                      وعنه قال المسعودي: وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب، وقرود وفهود ومنادمة على الشّراب، وجلس ذات يوم على شرابه وعن يمينه ابن زياد، وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:

                      ____________________

                      (١) تأريخ ابن عساكر ٧ / ٣٧٢، وتأريخ الخلفاء - للسيوطي / ٨١.

                      (٢) المصدر السابق.

                      (٣) البداية والنهاية ٨ / ٢١٦، الكامل لابن الأثير ٤ / ٤٥.

                      (٤) المصدر السابق.

                      (٥) تتمة المنتهى / ٤٣.

                      ١٠٠



                      [TR]
                      [TD="width: 236"]اسقني شربةً تُروّي مُشاشي
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]ثمّ مِلْ فاسقِ مثلها ابن زيادِ
                      [/TD]
                      [/TR]
                      [TR]
                      [TD="width: 236"]صاحبَ السرّ والأمانة عندي
                      [/TD]
                      [TD="width: 18"][/TD]
                      [TD="width: 233"]ولتسديد مغنمي وجهادي
                      [/TD]
                      [/TR]
                      ثمّ أمر المغنّين فغنّوا.

                      وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستُعملت الملاهي، وأظهر النّاس شرب الشّراب(١) . ويؤكّد في مكان آخر: وكان يسمّى يزيد السكران الخمّير(٢) .

                      وكان ليزيد جماعة من الندماء الخليعين والماجنين يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشّراب والغناء، « وفي طليعة ندمائه الأخطل الشّاعر المسيحي الخليع، فكانا يشربان ويسمعان الغناء، وإذا أراد السّفر صحبه معه، ولمّا هلك يزيد وآل أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه، فكان يدخل عليه بغير استئذان، وعليه جبّة خزّ، وفي عنقه سلسلة ذهب، والخمر يقطر من لحيته »(٣) .

                      إنّ مطالعة الحياة الماجنة ليزيد في حياة أبيه تكفي لفهم دليل امتناع عامّة الصّحابة والتابعين من الرضوخ لبيعة يزيد بالخلافة.

                      إنّ نوايا يزيد ونزعاته المنحرفة قد تجلّت بشكل واضح خلال فترة حكمه القصيرة، حتّى أنّه لم يبالِ بإظهار ما كان يضمره من حقد للرسول (صلّى الله عليه وآله)، وما كان ينطوي عليه من إلحاد برسالته (صلّى الله عليه وآله) بعد أن دنّس يديه بقتل سبط الرّسول وريحانته أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام)، وهو متسلّط - بالقهر - على رقاب المسلمين باسم الرّسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله).
                      إلحاد يزيد وحقده على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)


                      لقد أترعت نفس يزيد بالحقد على الرّسول (صلّى الله عليه وآله) والبغض له؛ لأنّه

                      ____________________

                      (١) مروج الذهب ٢ / ٩٤.

                      (٢) المصدر السابق.

                      (٣) الأغاني - لأبي الفرج الأصفهاني ٧ / ١٧٠.

                      ١٠١



                      وتره باُسرته يوم بدر، ولما أباد العترة الطاهرة جلس على أريكة الملك جذلان مسروراً، فقد استوفى ثأره من النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وتمنّى حضور أشياخه؛ ليروا كيف أخذ بثأرهم، وجعل يترنّم بأبيات عبد الله بن الزبعرى:
                      تم حذف بعض النص للقصور في نقله هنا
                      جرائم حكم يزيد


                      تعليق


                      • #12
                        جرائم حكم يزيد


                        ذكر المؤرّخون أنّ يزيد ارتكب خلال فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث سنين ونصف ثلاث جرائم مروّعة لم يشهد لها التأريخ نظيراً، بحيث لم تسوّد تأريخ الاُمويّين إلى الأبد فحسب، وإنّما شوّهت تأريخ العالم الإسلامي كذلك.

                        ومن هذه الجرائم:

                        ١ - انتهاك حرمة أهل بيت الوحي بقتل الإمام الحسين السّبط (عليه السّلام)، ومَنْ معه من اُسرته وأصحابه، وسبي نسائه وأطفاله، وعرضهم على الجماهير من بلد إلى بلد سنة (٦١ هـ ) وهم ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وملايين المسلمين

                        ____________________

                        (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٨٧، نقلاً عن البداية والنهاية ٨ / ١٩٢.

                        (٢) مروج الذهب ٢ / ٩٥.

                        ١٠٢



                        تقدّسهم، وتذكر فيهم الرّسول (صلّى الله عليه وآله) وكلّ ما في الإسلام من حقّ وخير.

                        ٢ - إقدامه بعد ملحمة عاشوراء على انتهاك حرمة مدينة الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، وقتل أهلها وإباحة أعراضهم لجيش الشّام؛ لأنّهم استعظموا قتل الإمام الحسين (عليه السّلام) وأنكروه عليه.

                        ٣ - إقدامه على حصار مكّة وتدمير الكعبة، وقتل آلاف الأبرياء في الحرم الذي جعله الله حراماً وآمناً.
                        السرّ الكامن وراء نزعات يزيد الشرّيرة


                        رجّح بعض المؤرّخين أنّ بعض نساطرة(١) النّصارى تولّى تربية يزيد وتعليمه، فنشأ نشأةً سيّئة ممزوجةً بخشونة البادية وجفاء الطبع، وقالوا: إنّه كان من آثار تربيته المسيحية أنّه كان يقرّب المسيحيين ويكثر منهم في بطانته الخاصّة، وبلغ من اطمئنانه إليهم أن عهد بتربية ولده إلى مسيحي كما اتّفق على ذلك المؤرّخون(٢) .

                        ولا يمكن أن تعلّل هذه الصّلة الوثيقة وتعلّقه الشّديد بالأخطل وغيره إلاّ بتربيته ذات الصّبغة المسيحية. هكذا حاول بعض المؤرّخين والكتّاب أن يعلّل استهتار يزيد بالإسلام ومقدّساته وحرماته.

                        وهذا التعليل يمكن أن يكون له ما يسوّغه لو كانت لحياة البادية وللتربية المسيحية تلك الصّبغة الشاذّة التي برزت في سلوك يزيد من مطلع شبابه إلى أن أصبح وليّاً لعهد أبيه وحاكماً من بعده، في حين أنّ العرب في حاضرتهم وباديتهم كانت لهم عادات وأعراف كريمة قد أقرّها الإسلام؛ كالوفاء وحسن الجوار، والكرم والنجدة وصون

                        ____________________

                        (١) النساطرة: نسبة إلى نسطوريوس المتوفى سنة ٤٥٠ م الذي كان يرى أن للمسيح إقنومين، أي طبيعتين؛ اللاهوت مع الناسوت.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

                        (٢) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٤٢، وراجع أيضاً حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٨٠ عن المناقب - للقاضي نعمان المصري / ٧١، وسمو المعنى في سموّ الذات - العلائلي / ٥٩.

                        ١٠٣



                        الأعراض وغير ذلك ممّا تحدّث به التأريخ عنهم، ولم يُعرف عن يزيد شيء من ذلك.

                        كما وإنّ التأريخ لم يحدّث عنهم بأنّهم استحلّوا نكاح الأخوات والعمّات كما حدّث التأريخ عنه، والذين ولِدوا في البادية على النّصرانية طيلة حياتهم قبل الفتح الإسلامي، وعاشوا في ظلّ أعرافها وعاداتها حينما دخلوا في الإسلام تغلّبوا على كلّ ما اعتادوه وألفوه عن الآباء والأجداد؛ فلا بدّ إذن من القول: بأنّ لذلك الانحراف الشّديد والوبيء في شخصية يزيد وسلوكه سبباً وراء التربية والحضانة المسيحية.

                        إلى هنا نكون قد وقفنا على صورة واضحة عن واقع شخصية يزيد المنحرفة عن خطّ الإسلام انحرافاً لا يسوغ لأيّ مسلم الانقياد لها والسكوت عليها ما دام الإسلام يمنع الإباحية والفسق ويدعو إلى العدل والتقوى، ويحاول تحقيق مجتمع عامر بالتقوى، ويريد للمسلمين قيادة تحرص على تحقيق أهداف الإسلام المثلى.

                        ومن هنا كان علينا أن نطالع بدقّة كلّ مواقف الإمام الحسين (عليه السّلام)؛ باعتباره القائد الرسالي، الحريص على مصالح الرسالة والاُمّة الإسلاميّة، وندرس تخطيطه الرسالي؛ للوقوف أمام الانحراف الهائل الذي كان يمتدّ بسرعة في أعماق المجتمع الإسلامي آنذاك.

                        ١٠٤



                        مواقف الإمام الحسين (عليه السّلام) وإنجازاته
                        البحث الأوّل: موقفه (عليه السّلام) من البيعة ليزيد

                        ١ - دعوة انتهازية وخطّة شيطانية


                        عندما ارتفعت راية الحقّ مرفرفةً فوق ربوع مكّة، ومعلنةً عن انتصارها دخل أبو سفيان ومعاوية في الإسلام ونار الحقد تستعر في قلبيهما، ونزعة الثأر من الرّسول (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السّلام) تكمن في صدريهما، فتحوّلا من كونهما كافرين إلى كونهما مستسلِمَين طليقين من طلقاء الرّسول(صلّى الله عليه وآله).

                        ولم يطل العهد حتّى حكم عثمان بن عفان فتسرّب ما كان مختبئاً في القلب وظهر على لسان أبي سفيان، وهو يخاطب عثمان بقوله: صارت إليك بعد تيمٍ وعديّ فأدرها كالكرة؛ فإنّما هو الملك ولا أدري ما جنّة ولا نار(١) .

                        وخاطب أبو سفيان بني اُميّة ثانيةً: يا بني اُميّة، تلقّفوها تلقّف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم، ولتصيرنّ إلى صبيانكم ورثة(٢) .

                        وحين أطلّ معاوية من نافذة السّقيفة على كرسيّ الحكم بانت نتائج الانحراف واتّضحت خطورته ؛ فإنّه قد لاحظ أنّ أبا بكر وعمر وعثمان قد

                        ____________________

                        (١) الاستيعاب ٢ / ٦٩٠.

                        (٢) مروج الذهب ١ / ٤٤٠، تأريخ ابن عساكر ٦ / ٤٠٧.

                        ١٠٥



                        ملكوا قبله ولم تسمح لهم الظّروف بإعادة صرح الجاهليّة من جديد، ولا زال صوت الحقّ هادراً كلّ يوم بالتوحيد وبالرسالة لمحمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)(١) .

                        كما إنّ الانحراف السّياسي الذي ولّدته السّقيفة وتربّت عليه فئات من الاُمّة استثمره معاوية أ يّما استثمار، فقد احتجّ على النّاس بأنّ أبا بكر بويع بدون نصّ سماويّ، أو أمر من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّه خالف سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ إذ جعل عمر خليفةً من بعده، وصنع عمر ما لم يصنعه قبله وخالف بذلك الله ورسوله وأبا بكر.

                        ووفق هذا المنطق فإنّ الاُمّة ومصير الرسالة الإسلاميّة تكون اُلعوبة بيد معاوية يسوسها كيف يشاء؛ من هنا قرّر أن يبايع بالخلافة ليزيد(٢) من بعده.

                        وقد خلت السّاحة السّياسية للزمرة الاُمويّة بعد فتن ومصاعب أشعلها معاوية مستغلاًّ جهالة طبقات من الاُمّة، وموظّفاً كلّ الطّاقات التي وقفت ضدّ الإمام عليّ(عليه السّلام) لصالحه في مواجهة تيار الحقّ بقيادة الإمام الحسن (عليه السّلام)، واستأثر بالحكم بعد قتله للإمام الحسن (عليه السّلام) واستهتاره بقيم الإسلام وتعاليمه، وكان حاذقاً في إحكام سيطرته وملكه، ولكنّه لم يجرؤ لإعلان خطّته تثبيتاً لملك بني اُميّة باستخلاف يزيد من بعده وفي الاُمّة مَنْ هو صاحب الخلافة الشّرعية وهو الإمام الحسن (عليه السّلام)، ومن بعده أخوه الإمام الحسين (عليه السّلام) الذي كان على الاُمّة أن تعود لقيادته بعد افتقادها للحسن(عليه السّلام).

                        يُضاف إلى ذلك أنّ أحداً من الخلفاء الثلاثة لم يوصِ بالخلافة لولده من بعده.

                        ونظراً لما كان ينطوي عليه يزيد من ضعف واستهتار ومجون فقد مضى معاوية بكلّ جدٍّ ليحبك الأمر ويدبّره بطريقة يخدع بها الاُمّة، بل

                        ____________________

                        (١) مروج الذهب ٢ / ٣٤٣، وشرح النهج ٢ / ٣٥٧.

                        (٢) الإمامة والسّياسة ١ / ١٨٩.

                        ١٠٦



                        يقهرها على قبول البيعة ليزيد؛ من هنا بادر إلى قتل الإمام الحسن السّبط (عليه السّلام) وخيار المؤمنين في خطوة اُولى، ليرفع بذلك أهمّ الموانع التي كانت تحول بينه وبين تنفيذ خطّته، على أنّ أصحاب النفوس الرذيلة والمطامع الدنيوية على استعداد تام لبلوغ أتفه المطامع من أيّ طريق كان.

                        فقد روي أنّ المغيرة بن شعبة - الذي كان والياً من قبل معاوية على الكوفة - علم بأنّ معاوية ينوي عزله، فأسرع إلى نسج خيوط مؤامرة جلبت الويلات على الاُمّة الإسلاميّة، وليكون بذلك سمساراً يصافق على ما لا يملك ؛ إذ همس في أذن يزيد يمنّيه بخلافة أبيه، ويزيّن له الأمر ويسهّله.

                        ووجد معاوية أنّ خطّة شيطانية يمكن أن يكون المغيرة عاملاً لتنفيذها(١) ، فسأله مخادعاً: ومَنْ لي بهذا؟ فردّ عليه المغيرة: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك.

                        وهكذا قبض المغيرة على ربح عاجل لصفقة مؤجّلة، ورجع إلى الكوفة بكلّ قوّة لينفّذ الخطّة، وهو يقول: لقد وضعت رِجل معاوية في غرز بعيد الغاية على اُمّة محمّد(٢) .

                        ورفض زياد بن أبيه هذه الخطّة الخبيثة ؛ ولعلّه لما كان يلمسه من رذائل في شخصية يزيد بحيث تجعله غير صالح لزعامة الاُمّة. وقد أثارت هذه الخطّة مطامع أطراف اُخرى من بني اُميّة، فمدّ كلّ من مروان بن الحكم وسعيد بن عثمان بن عفان عنقه لذلك(٣) .

                        وجمّد معاوية رسمياً وبشكل مؤقّت خطّته لأخذ البيعة ليزيد ؛ وذلك ليتّخذ إجراءات اُخرى تمهّد للإعلان الرسمي وفي الفرصة المناسبة لذلك.

                        ____________________

                        (١) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٤٩، وتأريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٥، والإمامة والسّياسة ٢ / ٢٦٢.

                        (٢) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٤٩.

                        (٣) وفيات الأعيان ٥ / ٣٨٩، والإمامة والسّياسة ١ / ١٨٢، وتأريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٦.

                        ١٠٧


                        ٢ - أساليب معاوية لإعلان بيعة يزيد


                        لمس معاوية رفض العائلة الاُموية المنحرفة لحكم يزيد من بعده، فكيف بصاحب الحقّ الشّرعي الإمام الحسن (عليه السّلام)، ومن بعده الإمام الحسين (عليه السّلام)، وعدد من أبناء الصحابة؟!

                        من هنا مضى جادّاً باتّخاذ سبل اُخرى تتراوح بين مخادعة الاُمّة وبين قهرها بالقوّة على بيعة الخليع يزيد، ومن تلك السبل:

                        أ - استخدام الشّعراء لإسباغ فضائل على يزيد، ولبيان مقدرته وإشاعة أمره؛ لكي تخضع الاُمّة لولايته(١) ، وأوعز إلى ولاته والخطباء في الأمصار لنشر تلك الفضائل المفتعلة.

                        ب - بذل الأموال الطائلة وشراء ذمم المعارضين ممّن كان يقف ضدّ يزيد، لا بدافع العقيدة والحرص على الإسلام وإنّما بدوافع شخصية وذاتية(٢) .

                        ج - استقدام وفود من وجهاء الأنصار(٣) ومناقشة قضية يزيد معهم؛ لمعرفة الرافض والمؤيّد منهم، ومعرفة نقاط الضّعف لكي ينفذ منها إليهم.

                        د - إيقاع الخلاف بين عناصر بني اُميّة الطّامعين في الحكم؛ كي يضعف منافستهم ليزيد، فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مروان ابن الحكم مكانه، ثمّ عزل مروان واستعمل سعيداً(٤) .

                        هـ - اغتيال الشّخصيات الإسلاميّة البارزة، والتي كانت تحظى باحترام كبير في نفوس الجماهير، فاغتال الإمام الحسن (عليه السّلام)، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الرحمن بن خالد، وعبد الرحمن بن أبي بكر(٥) .

                        ____________________

                        (١) الأغاني ٨ / ٧١، وشعراء النصرانية بعد الإسلام - للويس شيخو اليسوعي / ٢٣٤.

                        (٢ و ٣) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٥٠.

                        (٤) تأريخ الطبري ٤ / ١٨.

                        (٥) مقاتل الطالبيّين / ٢٩، وتأريخ الطبري ٥ / ٢٥٣، والكامل في التأريخ ٣ / ٣٥٢.

                        ١٠٨



                        و - استخدام سلاح الحرمان الاقتصادي ضدّ بني هاشم؛ للضغط عليهم وإضعاف دورهم، فقد حبس عنهم العطاء سنة كاملة(١) ؛ إذ وقفوا مع الإمام الحسين (عليه السّلام) يرفضون البيعة ليزيد.
                        ٣ - محاولات الإمام الحسين (عليه السّلام) لإيقاظ الاُمّة


                        لم يخلد الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى السّكون والخمول حتّى عند إقراره الصّلح مع معاوية، فقد تحرّك انطلاقاً من مسؤوليّته تجاه الشّريعة والاُمّة الإسلاميّة، وبصفته وريث النبوّة - بعد أخيه الإمام الحسن (عليه السّلام) - مراعياً ظروف الاُمّة، وساعياً إلى المحافظة عليها.

                        وقد عمل الإمام (عليه السّلام) في فترة حكم معاوية على تحصين الاُمّة ضدّ الانهيار التام، فأعطاها من المقوّمات المعنوية القدرَ الكافي كي تتمكّن من البقاء صامدةً في مواجهة المحن.

                        وإليك جملة من هذه المواقف:

                        ١ - مواجهة معاوية وبيعةِ يزيد.

                        ٢ - محاولة جمع كلمة الاُمّة.

                        ٣ - فضح جرائم معاوية.

                        ٤ - استعادة حقّ مضيّع.

                        ٥ - تذكير الاُمّة بمسؤوليّاتها.
                        مواجهةُ معاوية وبيعة يزيد


                        تعليق


                        • #13
                          مواجهةُ معاوية وبيعة يزيد


                          أعلن الإمام الحسين (عليه السّلام) رفضه القاطع لبيعة يزيد وكذا زعماء يثرب؛ فقرّر معاوية أن يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين، فاجتمع بالإمام وعبد الله بن عباس، فأشاد بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأثنى عليه، وعرض بيعة ابنه،

                          ____________________

                          (١) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٥٢، والإمامة والسّياسة ١ / ٢٠٠.

                          ١٠٩



                          ومنحه الألقاب الفخمة، ودعاهما إلى بيعته.

                          فانبرى الإمام (عليه السّلام) فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال( أمّا بعد يا معاوية، فلن يؤدّي المادح وإن أطنب في صفة الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من إيجاز الصّفة، والتنكّب عن استبلاغ النّعت، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبحُ فحمةَ الدُّجى، وبهرت الشمسُ أنوار السّرج، ولقد فضّلت حتّى أفرطت، واستأثرت حتّى أجحفت، ومنعت حتّى بخلت، وجُرت حتّى تجاوزت، ما بذلت لذي حقّ من اسم حقّه من نصيب حتّى أخذ الشّيطان حظّه الأوفر ونصيبه الأكمل.

                          وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله، وسياسته لاُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله)، تريد أن توهم النّاس في يزيد، كأنّك تصفُ محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استفرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السّبق لأترابهنّ، والقيان ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً.

                          ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه! فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم حتّى ملأتَ الأسقية، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص.

                          ورأيتك عرّضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثاً، ولعمر الله لقد أورثنا الرّسول (صلّى الله عليه وآله) ولادة، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، فأذْعنَ للحجّة بذلك، وردّه الإيمان إلى النّصف؛ فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون حتّى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا اُولي الأبصار.

                          وذكرتَ قيادةَ الرجلِ القومَ بعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتأميرَه له، وقد كان ذلك لعمرو

                          ١١٠



                          ابن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرّسول وببعثه له، وما صار لعمرو يومئذ حتّى أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدّوا عليه أفعاله، فقال (صلّى الله عليه وآله): لا جَرَمَ يا معشرَ المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري، فكيف تحتجُّ بالمنسوخ من فعل الرّسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف ضاهيتَ بصاحب تابعاً وحولك من يُؤمن في صحبته، ويُعتمد في دينه وقرابته، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون، تريد أن تُلبس النّاس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقى بها في آخرتك؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين، واستغفر الله لي ولكم )) .

                          وذهل معاوية من خطاب الإمام (عليه السّلام)، وضاقت عليه جميع السبل، فقال لابن عباس: ما هذا يابن عباس؟ فقال ابن عباس: لعمر الله! إنّها لذرّية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأحد أصحاب الكساء، ومِنَ البيت المطهّر، فاسأله عمّا تريد؛ فإنّ لك في النّاس مقنعاً حتّى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين(١) .

                          وقد اتّسم موقف الإمام الحسين (عليه السّلام) مع معاوية بالشدّة والصّرامة، وأخذ يدعو المسلمين علناً إلى مقاومة معاوية، ويحذّرهم من سياسته الهدّامة التي تحمل الدمار إلى الإسلام.

                          محاولة جمع كلمة الاُمّة والاستجابة لحركة الجماهير

                          وأخذت الوفود تترى على الإمام من جميع الأقطار الإسلاميّة وهي تعجّ بالشكوى وتستغيث به؛ نتيجة الظلم والجور الذي حلّ بها، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد، ونقلت العيون في يثرب إلى السّلطة المحلّية أنباء تجمّع النّاس واختلافهم إلى الإمام (عليه السّلام)، وكان الوالي مروان بن الحكم؛ ففزع من ذلك وخاف من عواقبه جدّاً، فرفع مذكّرة إلى معاوية جاء فيها: أمّا بعد، فقد كثر اختلاف النّاس إلى الحسين. والله، إنّي لأرى لكم منه يوماً

                          ____________________

                          (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٢١٩ - ٢٢٠.

                          ١١١



                          عصيباً(١) .

                          واضطرب معاوية من تحرّك الإمام الحسين (عليه السّلام)؛ فكتب إليه رسالةً جاء فيها: أمّا بعد، فقد اُنهيت إليّ عنك اُمور، إن كانت حقّاً فإنّي لم أظنّها بك رغبة عنها، وإن كانت باطلة فأنت أسعد النّاس بمجانبتها، وبحظّ نفسك تبدأ، وبعهد الله توفي، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق الله يا حسين في شقّ عصا الاُمّة، وأن تردّهم في فتنة(٢) .
                          فضح جرائم معاوية


                          كتب الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت ردّاً على رسالته، يحمّله فيها مسؤوليّات جميع ما وقع في البلاد من سفك الدماء، وفقدان الأمن، وتعريض الاُمّة للأزمات.

                          وتعدّ من أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت من معاوية، وهذا نصّها( أمّا بعد، بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور أنت عنها راغب، وأنا بغيرها عندك جدير، وأنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى. أمّا ما ذكرت أنّه رقى إليك عنّي فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الجمع، وكذب الغاوون، ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

                          ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم؟! قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيْمان المغلّظة، والمواثيق المؤكّدة؛ جرأةً على الله واستخفافاً بعهده.

                          ____________________

                          (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٢٢٣.

                          (٢) المصدر السابق: ٢ / ٢٢٤.

                          ١١٢



                          أوَ لست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، العبد الصالح الذي أبلتْه العبادة فنحل جسمُه واصفرّ لونُه؟! فقتلته بعد ما أمّنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال.

                          أوَ لستَ بمدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمَت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): الولدُ للفراش وللعاهر الحجر. فتركت سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعمّداً، وتبعت هواك بغير هدىً من الله، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويسملُ أعينهم، ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك؟!

                          أوَ لستَ قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زياد أنّه على دين عليّ (كرّم الله وجهه)، فكتبتَ إليه أن اقتل كلّ مَنْ كان على دين عليّ. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين؛ رحلة الشتاء، ورحلة الصّيف؟!

                          وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ودينك ولاُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله)، واتّق شقّ عصا هذه الاُمّة وأن تردّهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنةً أعظم على هذه الاُمّة من ولايتك عليها، ولا أعظم لنفسي ولديني ولاُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل من أن اُجاهرك؛ فإنْ فعلتُ فإنّه قربة إلى الله، وإن تركتُه فإنّي استغفر الله لديني، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

                          وقلت فيما قلت: إنّي إن أنكرتك تنكرني، وإن أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك؛ فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك؛ لأنّك قد ركبت جهلك، وتحرّصت على نقض عهدك. ولعمري، ما وفيتَ بشرط، ولقد نقضتَ عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان، والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا أو قُتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلَنا، وتعظيمهم حقَّنا، مخافة أمر لعلّك إن لم تقتلهم مُتّ قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا.

                          فأبشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يُغادر

                          ١١٣



                          صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها، وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة، وقتلك أولياءه على التُّهم، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك النّاس ببيعة ابنك الغلام الحدث، يشرب الشّراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك، وبترت دينك، وغَشَشْتَ رعيّتك، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل، وأخفت الورع التقيّ )) (١) .

                          ولا توجد وثيقة سياسية في ذلك العهد عرضت لعبث السّلطة، وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية غير هذه الوثيقة، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.
                          استعادة حقّ مضيّع


                          تعليق


                          • #14
                            استعادة حقّ مضيّع


                            وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة؛ لتدعيم ملكه، كما كان يهب الأموال الطائلة لبني اُميّة؛ لتقوية مركزهم السّياسي والاجتماعي، وكان الإمام الحسين(عليه السّلام) يشجب هذه السّياسة، ويرى ضرورة إنقاذ الأموال من معاوية الذي يفتقد حكمه لأيّ أساس شرعي، ولا يقوم إلاّ على القمع والتزييف والإغراء.

                            وقد اجتازت على يثرب أموال من اليمن مرسولةً إلى خزينة دمشق، فعمد الإمام (عليه السّلام) إلى الاستيلاء عليها ووزّعها على المحتاجين، وكتب إلى معاوية( من الحسين بن عليّ إلى معاوية بن أبي سفيان. أمّا بعد، فإنّ عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً، وعنبراً وطيباً إليك؛ لتودعها خزائن دمشق، وتعلّ بها بعد النّهْل بني أبيك، وإنّي احتجت إليها فأخذتها. والسّلام )) (٢) .

                            فأجاب معاوية: من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسين بن عليّ. سلام عليك. أمّا بعد، فإنّ كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك من اليمن

                            ____________________

                            (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٢٣٥ عن الإمامة والسياسة ١ / ٢٨٤، والدرجات الرفيعة / ٣٣٤، وراجع الغدير ١٠ / ١٦١.

                            (٢) نهج البلاغة - لابن أبي الحديد ٤ / ٣٢٧، الطبعة الاُولى، وناسخ التواريخ ١ / ١٩٥.

                            ١١٤



                            تحمل مالاً وحُللاً، وعنبراً وطيباً إليّ؛ لأودعها خزائن دمشق، وأعُلّ بها بعد النهل بني أبي، وإنّك احتجت إليها فأخذتها، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ؛ لأنّ الوالي أحقّ بالمال، ثمّ عليه المخرج منه. وأيم الله، لو تركت ذلك حتّى صار إليّ لم أبخسك حظّك منه، ولكنّي قد ظننت يابن أخي أنّ في رأسك نزوةً، وبودّي أن يكون ذلك في زماني، فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك، ولكنّي والله أتخوّف أن تبتلي بمَنْ لا ينظرك فواق ناقة(١) .

                            إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) دلّل بعمله على أن ليس من حقّ الخليفة غير الشّرعي أن يتصرّف في أموال المسلمين، وأنّ ذلك من حقوق الحاكم الشّرعي، والحاكم الشّرعي هو الإمام الحسين (عليه السّلام) نفسه الذي ينفق أموال بيت المال وفق المعايير الإسلاميّة.

                            وقد أكّد (عليه السّلام) في رسالته على أنّه لا يعترف رسميّاً بخلافة معاوية ؛ إذ لم يصفه بأمير المؤمنين كما كان يصفه الآخرون؛ ومن هنا حاول معاوية الالتفاف على موقف الإمام (عليه السّلام) فوصف نفسه في رسالته الجوابية بأمير المؤمنين ووالي المسلمين، ولكنّه فشل في محاولته تلك، فقد بات موقف الإمام الحسين (عليه السّلام) معياراً إسلامياً، وملاكاً فارقاً وفاصلاً بين الصواب والخطأ للمسلمين جميعاً على مدى التأريخ، في حين لم يعرِ المسلمون لموقف معاوية أيّ اهتمام، ولم يعتبروه سوى أنّه تشويه للحقيقة وتضليل للرأي العام.

                            لقد كان موقف الإمام (عليه السّلام) هذا إشارة واضحة للاعتراض على تصرّفات وحكم معاوية، والمطالبة بسيادة الحقّ والعدل الإلهي.

                            ____________________

                            (١) شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد ٤ / ٣٢٧، وناسخ التواريخ ١ / ١٩٥.

                            ١١٥


                            تذكير الاُمّة بمسؤوليّتها


                            عقد الإمام (عليه السّلام) في مكة مؤتمراً سياسيّاً عامّاً دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ من المهاجرين والأنصار والتابعين وغيرهم من سائر المسلمين، فانبرى (عليه السّلام) خطيباً فيهم، وتحدّث عمّا ألمّ بعترة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وشيعتهم من المحن والإحن التي صبّها عليهم معاوية، وما اتّخذه من الإجراءات المشدّدة في إخفاء فضائلهم، وستر ما اُثر عن الرّسول (صلّى الله عليه وآله) في حقّهم، وألزم الحاضرين بإذاعة ذلك بين المسلمين.

                            وفيما يلي ما رواه سليم بن قيس عن هذا المؤتمر، ونصّ خطاب الإمام (عليه السّلام)، حيث قال: ولمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحسين بن عليّ، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، فجمع الحسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ومَنْ حجّ من الأنصار ممّن يعرفهم الحسين وأهل بيته، ثمّ أرسل رُسلاً، وقال لهم( لا تدعوا أحداً حجّ العام من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المعروفين بالصّلاح والنّسك إلاّ اجمعوهم لي )) .

                            فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمئة رجل وهم في سرادق، عامّتهم من التابعين، ونحو من مئتي رجل من أصحاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال( أمّا بعد، فإنّ هذا الطاغية - يعني معاوية -قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإنّي اُريد أن أسألكم عن شيء، فإن صدقت فصدّقوني، وإن كذبتُ فكذّبوني. اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم؛ فمَنْ أمنتم من النّاس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون؛ فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون )) .

                            قال الراوي: فما ترك الحسين شيئاً ممّا أنزل الله فيهم إلاّ تلاه وفسّره، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أبيه وأخيه واُمّه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه، وفي كلّ ذلك يقول أصحابه: اللهمّ نعم، قد سمعنا وشهدنا.

                            وممّا ناشدهم (عليه السّلام) أن قال:

                            ١١٦



                            (( اُنشدكم الله، أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه، وقال: أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة؟ )) .

                            قالوا: اللهمّ نعم.

                            قال( اُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ رسول الله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه، ثمّ ابتنى فيه عشرة منازل تسعة له، وجعل عاشرها في وسطها لأبي، ثمّ سدّ كلّ باب شارع إلى المسجد غير بابه، فتكلّم في ذلك مَنْ تكلّم، فقال: ما أنا سددتُ أبوابكم وفتحت بابه، ولكنّ الله أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه، ثمّ نهى النّاس أن يناموا في المسجد غيره، وكان يجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله، فولد لرسول الله وله فيه أولاد؟ )) .

                            قالوا: اللهمّ نعم.

                            قال( أفتعلمون أنّ عمر بن الخطاب حرص على كوة قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى عليه، ثمّ خطب فقال: إنّ الله أمرني أن أبني مسجداً طاهراً لا يسكنه غيري وغير أخي وبنيه؟ )) .

                            قالوا: اللهمّ نعم.

                            قال( اُنشدكم الله، أتعلمون أنّ رسول الله قال في غزوة تبوك: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ )) .قالوا: اللهمّ نعم. قال( اُنشدكم الله، أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين دعا النّصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأتِ إلاّ به وبصاحبته وابنيه؟ )) . قالوا: اللهمّ نعم. قال( اُنشدكم الله، أتعلمون أنّ رسول الله دفع إليه اللواء يوم خيبر، ثمّ قال: لأدفعه إلى رجل يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله كرّار غير فرّار، يفتحها الله على يديه؟ )) . قالوا: اللهمّ نعم. قال( أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعثه ببراءة، وقال: لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي؟ )) . قالوا: اللهمّ نعم. قال( أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم تنزلْ به شدّة قطّ إلاّ قدّمه لها ثقةً به، وأنّه لم يدعه باسمه قطّ، إلاّ يقول يا أخي؟ )) . قالوا: اللهمّ نعم. قال( أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قضى بينه وبين جعفر وزيد، فقال: يا عليّ أنت منّي وأنا منك، وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ )) قالوا: اللهمّ نعم. قال( أتعلمون أنّه كانت له من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كلّ يوم خلوة، وكلّ ليلة دخلة، إذا سأله أعطاه، وإذا سكت أبداه؟ )) . قالوا: اللهمّ نعم.

                            ١١٧



                            قال( أتعلمون أنّ رسول الله فضّله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمة (عليها السّلام): زوّجتك خير أهل بيتي؛ أقدمهم سلماً، وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً؟ )) .

                            قالوا: اللهمّ نعم.

                            قال( أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: أنا سيّد ولد آدم، وأخي عليّ سيّد العرب، وفاطمة سيّدة نساء أهل الجّنة، والحسن والحسين ابناي سيّدا شباب أهل الجّنة؟ )) .

                            قالوا: اللهمّ نعم.

                            قال( أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمره بغسله، وأخبره أنّ جبرئيل يعينه عليه؟ )) .

                            قالوا: اللهمّ نعم.

                            قال( أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال في آخر خطبة خطبها: أيّها النّاس، إنّي تركتُ فيكم الثقلين؛ كتاب الله وأهل بيتي، فتمسّكوا بهما لن تضلّوا؟ )) .

                            قالوا: اللهمّ نعم.

                            فلم يدع (صلّى الله عليه وآله) شيئاً أنزله الله في عليّ بن أبي طالب خاصّة وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان نبيّه إلاّ ناشدهم فيه، فيقول الصحابة: اللهمّ نعم قد سمعناه، ويقول التابعي: اللهم قد حدّثنيه مَنْ أثق به فلان وفلان.

                            ثمّ ناشدهم أنّهم قد سمعوه يقول( مَنْ زعم أنّه يُحبّني ويُبغض عليّاً فقد كذب، ليس يُحبّني وهو يُبغض عليّاً. فقال له قائل: يا رسول الله، وكيف ذلك؟ قال: لأنّه منّي وأنا منه؛ مَنْ أحبّه فقد أحبّني، ومَنْ أحبّني فقد أحبّ الله، ومَنْ أبغضه فقد أبغضني، ومَنْ أبغضني فقد أبغض الله )) .

                            فقالوا: اللهمّ نعم، قد سمعناه. وتفرّقوا على ذلك(١) .
                            موت معاوية


                            لقد كان موت معاوية بن أبي سفيان في سنة ستّين من الهجرة(٢) . واستقبل معاوية الموت غير مطمئن، فكان يتوجّع ويظهر الجزع

                            ____________________

                            (١) كتاب سُليم بن قيس / ٣٢٣، تحقيق محمّد باقر الأنصاري.

                            (٢) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٥٤.

                            ١١٨



                            على ما اقترفه من الإسراف في سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة وحمله على رقاب المسلمين، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون مشغولاً عن أبيه - في أثناء وفاته - برحلات الصيد، وغارقاً في عربدات السكر ونغمة العيدان(١) .

                            البحث الثاني: حكومة يزيد ونهضة الإمام الحسين (عليه السّلام)

                            تعليق


                            • #15
                              البحث الثاني: حكومة يزيد ونهضة الإمام الحسين (عليه السّلام)
                              بدايات النهضة


                              ذكرنا أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) وبالرغم من معارضته الشديدة لحكم معاوية بن أبي سفيان - والتي نقلنا صوراً عديدةً منها - رفض التحرّك لخلع معاوية ؛ التزاماً منه بالعهد الذي وقّعه أخوه الإمام الحسن (عليه السّلام) مع معاوية.

                              وقد سجّل المؤرّخون هذا الموقف المبدئي للإمام الحسين (عليه السّلام)، فقالوا: لمّا مات الحسن (عليه السّلام) تحرّكت الشّيعة بالعراق، وكتبوا إلى الحسين(عليه السّلام) في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك(٢) .

                              من هنا كان معلوماً لشيعته وللجهاز الحاكم أيضاً أنّ موت معاوية يعني بالنسبة للإمام الحسين (عليه السّلام) أنّه في حلّ من أيّ التزام، ومن ثمّ فإنّه سيطلق ثورته على نظام الحكم الغاشم الذي استلمه يزيد الفاسق؛ لذلك كان الإمام الحسين (عليه السّلام) يمثّل الهاجس الأكبر للطغمة الحاكمة.

                              ____________________

                              (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٢٣٩ - ٢٤٠.

                              (٢) الإرشاد ٢ / ٣٢.

                              ١١٩


                              رسالة يزيد إلى حاكم المدينة


                              قال المؤرّخون: إنّ يزيد كتب فور موت أبيه إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - وكان والياً على المدينة من قِبَل معاوية - أن يأخذ على الحسين (عليه السّلام) بالبيعة له، ولا يرخّص له في التأخّر عن ذلك(١) .

                              وذكرت مصادر تأريخية اُخرى أنّه جاء في الرسالة: إذا أتاك كتابي هذا فاحضر الحسين بن عليّ، وعبد الله بن الزبير فخذهما بالبيعة، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليّ برأسيهما، وخذ النّاس بالبيعة، فمَنْ امتنع فأنفذ فيه الحكم(٢) .
                              الوليد يستشير مروان بن الحكم


                              حار الوليد في أمره؛ إذ يعرف أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لا يُبايع ليزيد مهما كانت النتائج، فرأى أنّه في حاجة إلى مشورة مروان بن الحكم عميد الاُسرة الاُموية فبعث إليه، فأشار مروان على الوليد قائلاً له: ابعث إليهم(٣) في هذه السّاعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية ؛ فإنّهم إن علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قبل لك به، إلاّ عبد الله بن عمر؛ فإنّه لا ينازعُ في هذا الأمر أحداً، مع أنّني أعلم أنّ الحسين بن علي لا يجيبك إلى بيعة يزيد، ولا يرى له عليه طاعةً.

                              ووالله لو كنت في موضعك لم اُراجع الحسين

                              ____________________

                              (١) المصدر السابق.

                              (٢) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٥.

                              (٣) المقصود هنا الإمام الحسين (عليه السّلام)، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، باعتبار أنّ بعض المصادر التأريخية أفادت بأنّ رسالة يزيد تضمّنت أسماءهم جميعاً، مثل تأريخ الطبري ٦ / ٨٤.

                              ١٢٠



                              بكلمة واحدة حتّى أضرب رقبته كائناً في ذلك ما كان(١) .

                              وعظم ذلك على الوليد، وهو أكثر بني اُميّة حنكةً، فقال لمروان: يا ليت الوليد لم يولد، ولم يك شيئاً مذكوراً(٢) .

                              فسخر منه مروان وراح يندّد به، قائلاً: لا تجزع ممّا قلتُ لك ؛ فإنّ آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر(٣) .

                              ونهره الوليد فقال له: ويحك يا مروان! اعزب عن كلامك هذا، وأحسن القول في ابن فاطمة؛ فإنّه بقيّة النبوّة(٤) .

                              واتّفق رأيهما على استدعاء الإمام (عليه السّلام) وعرض الأمر عليه لمعرفة موقفه من السّلطة.
                              الإمام (عليه السّلام) في مجلس الوليد


                              أرسل الوليد إلى الحسين (عليه السّلام) يدعوه إليه ليلاً، فجاءه الرّسول وهو في المسجد، ولم يكن قد شاع موت معاوية بين النّاس، وجال في خاطر الحسين (عليه السّلام) أنّ الوليد قد استدعاه ليخبره بذلك، ويأخذ منه البيعة إلى الحاكم الجديد بناءً على الأوامر التي جاءته من الشّام، فاستدعى الحسين (عليه السّلام) مواليه وإخوته وبني عمومته وأخبرهم بأنّ الوالي قد استدعاه إليه، وأضاف( إنّي لا آمن أن يكلّفني بأمر لا اُجيبه عليه )) (٥) .

                              وقال الإمام (عليه السّلام) لمواليه بعد أن أمرهم بحمل السّلاح( كونوا معي، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه )) (٦) .

                              ____________________

                              (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٢٥.

                              (٢) المصدر السابق ٢ / ٢٥١.

                              (٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٢٥١.

                              (٤) المصدر السابق.

                              (٥) إعلام الورى ١ / ٤٣٤، وروضة الواعظين / ١٧١، ومقتل أبي مخنف / ٢٧، وتذكرة الخواص / ٢١٣.

                              (٦) الإرشاد ٢ / ٣٣.

                              ١٢١



                              ودخل الإمام (عليه السّلام) على الوليد فرأى مروان عنده وكانت بينهما قطيعة، فقال (عليه السّلام)( الصلةُ خير من القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما )) (١) .

                              ثمّ نعى إليه الوليد معاوية، فاسترجع الإمام الحسين (عليه السّلام)، ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له. فقال الحسين (عليه السّلام)( إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتّى اُبايعه جهراً )) .

                              فقال الوليد: أجل.

                              فقال الحسين (عليه السّلام)( فتصبح وترى رأيك في ذلك )) .

                              فقال له الوليد: انصرف على اسم الله تعالى حتّى تأتينا مع جماعة النّاس. فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين السّاعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه.

                              فوثب الحسين (عليه السّلام) عند ذلك وقال( أنت يابن الزرقاء تقتلني أم هو؟! كذبت والله وأثمت )) . وخرج يمشي ومعه مواليه حتّى أتى منزله.

                              فقال مروان للوليد: عصيتني! لا والله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً. فقال له الوليد: ويح غيرك يا مروان! إنّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني. والله، ما اُحبّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإنّي قتلت حسيناً. سبحان الله! أقتل حسيناً لمّا أن قال: لا اُبايع؟ والله، إنّي لأظنّ امرأً يحاسبُ بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة(٢) .

                              وثمّة روايات أفادت بأنّ النقاش قد احتدم بين الإمام (عليه السّلام) وبين مروان حتّى أعلن (عليه السّلام) رأيه لمروان بصراحة، قائلاً( إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون،

                              ____________________

                              (١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٢٥٤.

                              (٢) الإرشاد ٢ / ٣٣ - ٣٤.

                              ١٢٢



                              وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة )) (١) .
                              الإمام (عليه السّلام) مع مروان


                              والتقى الإمام الحسين (عليه السّلام) في أثناء الطريق بمروان بن الحكم في صبيحة تلك الليلة التي أعلن فيها رفضه لبيعة يزيد، فبادره مروان قائلاً: إنّي ناصح فأطعني ترشد وتسدّد.

                              فقال الإمام (عليه السّلام)( وما ذاك يا مروان؟ )) .

                              قال مروان: إنّي آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد؛ فإنّه خير لك في دينك ودنياك.

                              فردّ عليه الإمام (عليه السّلام) ببليغ منطقه، قائلاً( على الإسلام السّلام إذ قد بليت الاُمّة براع مثل يزيد!... سمعت جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان، وعلى الطلقاء وأبناء الطلقاء، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. فوالله، لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما اُمروا به )) (٢) .
                              حركة الإمام (عليه السّلام) في الليلة الثانية


                              ذكر المؤرّخون أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) أقام في منزله تلك الليلة، وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين من الهجرة، واشتغل الوليد بن عتبة بمراسلة ابن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليهم، وخرج ابن الزبير من ليلته عن المدينة متوجّهاً إلى مكة، فلمّا أصبح الوليد سرّح في أثره الرجال فبعث راكباً من موالي بني اُميّة في ثمانين راكباً، فطلبوه ولم يدركوه فرجعوا، فلمّا كان آخر نهار يوم السبت بعث الرجال إلى الحسين (عليه السّلام) ليحضر فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية، فقال لهم الحسين (عليه السّلام)( اصبحوا ثمّ

                              ____________________

                              (١) مقتل الحسين - للمقرّم / ١٤٤، وإعلام الورى ١ / ٤٣٥.

                              (٢) الفتوح - لابن أعثم ٥ / ١٧، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٨٤.

                              ١٢٣



                              ترون ونرى )) . فكَفّوا تلك الليلة عنه ولم يلحّوا عليه.

                              فخرج (عليه السّلام) من تحت ليلته - وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب - متوجّهاً نحو مكة ومعه بنوه وبنو أخيه وإخوته وجلّ أهل بيته إلاّ محمّد بن الحنفيّة (رحمة الله عليه) فإنّه لمّا علم عزمه على الخروج عن المدينة لم يدرِ أين يتوجّه، فقال له: يا أخي أنت أحبّ النّاس إليّ وأعزّهم عليّ، ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك وأنت أحقّ بها، تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثمّ ابعث رسلك إلى النّاس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعك النّاس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع النّاس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ولا تذهب به مروّتك ولا فضلك، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك واُخرى عليك، فيقتتلوا فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً، فإذا خير هذه الاُمّة كلّها نفساً وأباً واُمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً.

                              فقال له الحسين (عليه السّلام)( فأين أذهب يا أخي؟ )) .

                              قال: انزل مكة، فإن اطمأنت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن (نَبَتَ بك)(١) لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد حتّى تنظر إلى ما يصير أمر النّاس إليه ؛ فإنّك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً.

                              فقال الإمام (عليه السّلام)( يا أخي، قد نصحتَ وأشفقتَ، وأرجو أن يكون رأيك سديداً موفّقاً )) (٢) .

                              فسار الحسين (عليه السّلام) إلى مكة وهو يقرأ: ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٣) .

                              ____________________

                              (١) أي لم تجد بها قراراً ولم تطمئن عليها. انظر لسان العرب ١٥ / ٣٠٢ مادة نبأ.

                              (٢) الإرشاد ٢ / ٣٥.

                              (٣) سورة القصص / ٢١.

                              ١٢٤


                              وصايا الإمام الحسين (عليه السّلام)


                              تعليق

                              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                              حفظ-تلقائي
                              x

                              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                              صورة التسجيل تحديث الصورة

                              اقرأ في منتديات يا حسين

                              تقليص

                              لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                              يعمل...
                              X