وصايا الإمام الحسين (عليه السّلام)
لقد كتب الإمام (عليه السّلام) قبل خروجه من المدينة عدّة وصايا:
منها: وصية لأخيه هذا نصّها
( هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ إلي أخيه محمّد بن الحنفيّة، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، وأنّ الجّنة حق والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَنْ في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين )) (١) .
ومنها: وصيّته لاُم المؤمنين اُمّ سلمة حيث أوصاها بما يرتبط بإمامة الإمام من بعده. روي أنّه لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته اُمّ سلمة (رضي الله عنها) فقالت: يا بُني لا تحزنّي بخروجك إلى العراق؛ فإنّي سمعت جدّك يقول
( يُقتل ولدي الحسين (عليه السّلام) بأرض العراق في أرض يُقال لها: كربلا )) .
فقال لها
( يا اُماه، وأنا والله أعلم ذلك، وإنّي مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بدّ، وإنّي والله لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه، وأعرف مَنْ يقتلني، وأعرف البقعة التي اُدفن فيها، وإنّي أعرف مَنْ يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردت يا اُمّاه اُريك حفرتي ومضجعي )) .
ثمّ أشار إلى جهة كربلاء، فانخفضت الأرض حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده، فعند ذلك بكت اُمّ سلمة بكاءً شديداً وسلّمت أمره إلى الله.
فقال لها
( يا اُمّاه، قد شاء الله (عزّ وجلّ) أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد
____________________
(١) مقتل الحسين - للمقرّم / ١٥٦.
١٢٥
شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً )) .
وفي رواية اُخرى: قالت اُمّ سلمة: وعندي تربة دفعها إليَّ جدّك في قارورة، فقال
( والله إنّي مقتول كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً )) .
ثمّ أخذ تربةً فجعلها في قارورة وأعطاها إيّاها، وقال
( اجعليها مع قارورة جدّي فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قتلت )) (١) .
وروى الطوسي عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام)
( لمّا توجه الحسين (عليه السّلام) إلى العراق، ودفع إلى اُمّ سلمة زوجة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الوصية والكتب وغير ذلك قال لها: إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما قد دفعت إليك. فلمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) أتى عليّ بن الحسين (عليه السّلام) اُمّ سلمة فدفعت إليه كلّ شيء أعطاها الحسين (عليه السّلام) )) (٢) .
وروى عليّ بن يونس العاملي في كتاب الصراط المستقيم النصّ على عليّ بن الحسين (عليه السّلام) في حديث، ثمّ قال: وكتب الحسين (عليه السّلام) وصيّته وأودعها اُمّ سلمة، وجعل طلبها منها علامة على إمامة الطالب لها من الأنام، فطلبها الإمام زين العابدين (عليه السّلام)(٣) .
توجّه الإمام إلى مكة
قال المؤرّخون: إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) عندما توجّه إلى مكة لزم
____________________
(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٣١، والعوالم ١٧ / ١٨٠، وينابيع المودّة / ٤٠٥... إلى قوله: بكت اُمّ سلمة بكاءً شديداً.
(٢) الغيبة - للطوسي / ١١٨ ح ١٤٨، وإثبات الهداة ٥ / ٢١٤.
(٣) إثبات الهداة ٥ / ٢١٦ ح ٨.
١٢٦
الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير؛ كي لا يلحقك الطلب. فقال
( لا والله، لا اُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض )) (١) .
ولما دخل الإمام الحسين (عليه السّلام) مكة كان دخوله إيّاها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، دخلها وهو يقرأ
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ) (٢) .
ثمّ نزلها فأقبل أهلها يختلفون إليه ومَنْ كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي عندها ويطوف، ويأتي الحسين (عليه السّلام) فيمَنْ يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرّة، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين (عليه السّلام) في البلد، وأنّ الحسين (عليه السّلام) أطوع في النّاس منه وأجلّ(٣) .
____________________
(١) الفتوح ٥ / ٢٤، وينابيع المودّة / ٤٠٢، الإرشاد - للمفيد ٢ / ٣٥.
(٢) سورة القصص / ٢٢.
(٣) الإرشاد ٢ / ٣٦، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٢.
١٢٧
١٢٨
البحث الثالث: أسباب ودوافع الثورة
إنّه من الصعب أن نقف على جميع الأسباب لثورة امتدّت في عمق الزمن، ولا زالت تنبض بالدفق والحيويّة، مثيرة في النفوس روح الإباء والتضحية، وتأخذ بيد الثائرين على مرّ الزمن بالاستمرار في طريق الحقّ وبذل النفس والنفيس لبلوغ الأهداف السّامية، إنّها الثورة التي أحيت الرسالة الإسلاميّة بعد أن كادت تضيع وسط أهواء ورغبات الحكّام الفاسدين، وأثارت في الاُمّة الإسلاميّة الوعي حتّى صارت تطالب بإعادة الحقّ إلى أهله وموضعه.
إنّ أفضل ما نستخلص منه أسباب ودوافع الثورة الحسينيّة هي النصوص المأثورة عن الحسين الثائر (عليه السّلام) وكذا آثار الثورة، إلى جانب معرفتنا بشخصيّته (عليه السّلام)، فها هو الحسين (عليه السّلام) يخاطب جيش الحرّ بن يزيد الرياحي الذي تعجّل لمحاصرته، ولم يسمح له بتغيير مساره قائلاً
( أيّها النّاس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله.
ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشّيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ مَنْ غَيّر، وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، وإنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تمّمتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ أُسوة )) (١) .
____________________
(١) تأريخ الطبري ٤ / ٣٠٤، والكامل في التأريخ ٣ / ٢٨٠.
١٢٩
وفي خطاب آخر بعد أن توضّحت نوايا الغدر والخذلان، والإصرار على محاربة الإمام (عليه السّلام) وطاعة يزيد الفاسق، قال (عليه السّلام)
( فسحقاً لكم يا عبيد الأمة، وشذّاذ الأحزاب، ونَبَذَة الكتاب، ونفثة الشّيطان، وعصبة الآثام، ومحرّفي الكتاب، ومطفئي السُّنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيدي عترة الأوصياء، وملحقي العهار بالنّسب، ومؤذي المؤمنين، وصُراخ أئمّة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون! )) .
ثمّ قال (عليه السّلام)
( ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام... )) (١) .
من هنا يمكن أن نخلص إلى أسباب ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) كما يلي:
١ - فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة
لم يعد في مقدور الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يتوقّف عن الحركة؛ وهو يرى الانحراف الشّامل في زعامة الاُمّة الإسلاميّة، فإذا كانت السّقيفة قد زحزحت الخلافة عن صاحبها الشّرعي وهو الإمام عليّ (عليه السّلام)، وتذرّع أتباعها بدعوى حرمة نقض البيعة ولزوم الجماعة، وحرمة تفريق كلمة الاُمّة ووجوب إطاعة الإمام المنتخب بزعمهم، فقد كان الإمام عليّ (عليه السّلام) يسعى بنحو أو بآخر لإصلاح ما فسد من جرّاء فعل الخليفة غير المعصوم، وقد شهد الإمام الحسين (عليه السّلام) جانباً من ذلك بوضوح خلال فترة حكم عثمان.
ولقد كانت بنود الصلح تضع قيوداً على تصرّفات معاوية الذي اتّخذ اُسلوب الخداع والتستّر بالدين سبيلاً لتمرير مخطّطاته، أمّا الآن فإنّ الأمر يختلف ؛ إذ بعد موت معاوية لم يبقَ أيّ علاج إلاّ الصدام المباشر في نظر
____________________
(١) أعيان الشّيعة ١ / ٦٠٣.
١٣٠
الإمام المعصوم، وصاحب الحقّ الشّرعي - الحسين (عليه السّلام) - فلم يعد في الإمكان - ولو نظرياً - القبول بصلاحيّة يزيد وبني اُميّة للحكم.
على أنّ نتائج انحراف السّقيفة كانت تنذر بالخطر الماحق للدين، فقد قال الإمام (عليه السّلام)
( أيّها النّاس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله )) .
وقد كان يزيد يتّصف بكلّ ما حذّر منه الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، وكان الحسين (عليه السّلام) وهو الوريث للنبيّ، وحامل مشعل الرسالة أحقّ من غيره بالمواجهة والتغيير.
٢ - مسؤولية الإمام تجاه الاُمّة
كان الإمام الحسين (عليه السّلام) يمثّل القائد الرسالي الشّرعي الذي يجسّد كلّ القيم الخيّرة والأخلاق السّامية.
وبحكم مركزه الاجتماعي - حيث إنّه هو سبط الرّسول (صلّى الله عليه وآله) ووريثه - فإنّه مسؤول عن هذه الاُمّة، وقد وقف (عليه السّلام) في عهد معاوية محاولاً إصلاح الاُمور بطريقة سلمية، فحاجج معاوية وفضح مخطّطاته(١) ، ونبّه الاُمّة إلى مسؤولياتها ودورها(٢) ، بل خطا خطوةً كبيرة لتحفيز الاُمّة على رفض الظلم(٣) ، وحاول جمع كلمة الاُمّة في وجه الظالمين(٤) .
ولمّا استنفد كلّ الإجراءات الممكنة لتغيير الأوضاع الاجتماعية في الاُمّة تحرّك بثقله وأهل بيته للقيام بعمل قويّ في مضمونه ودلالته وأثره
____________________
(١) الإمامة والسياسة ١ / ٢٨٤.
(٢) كتاب سُليم بن قيس / ١٦٦.
(٣) شرح نهج البلاغة ٤ / ٣٢٧.
(٤) أنساب الأشراف ق ١ ج ١، وتأريخ ابن كثير ٨ / ١٦٢.
١٣١
وعطائه؛ لينهض بالاُمّة لتغيير واقعها الفاسد.
٣ - الاستجابة لرأي الجماهير الثائرة
لم يكن بوسع الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يقف دون أن يقوم بحركة قوية، وقد تكاثرت عليه كتب الرافضين لبيعة يزيد بن معاوية تطلب منه قيادة زمام اُمورها والنهوض بها، وقد حمّلته المسؤولية أمام الله إذا لم يستجب لدعواتهم، وكانت دعوة أهل الكوفة للإمام الحسين (عليه السّلام) بمثابة الغطاء السّياسي الذي يُعطي الصّفة الشّرعية لحركته، فلم تكن حركته بوازع ذاتي، ولا مطمع شخصي، لاسيّما بعد إتمام الحجّة عليه من قبل هؤلاء المسلمين.
٤ - محاولة إرغامه (عليه السّلام) على الذلّ والمساومة
لقد كان الإمام الحسين (عليه السّلام) يحمل روحاً صاغها الله بالمُثل العليا والقيم الرفيعة، ففاضت إباءً وعزّةً وكرامةً، وفي المقابل تدنّت نفسيّة يزيد الشّريرة ونفسيات أزلامه، فأرادوا من الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يعيش ذليلاً في ظلّ حكم فاسد، وقد صرّح (عليه السّلام) قائلاً
( ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله، ونفوس أبيّة، واُنوف حميّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام )) .
وفي موقف آخر قال (عليه السّلام)
( لا أرى الموت إلاّ سعادةً، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً )) .
بهذه الصّورة الرائعة سنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) سنّة الإباء لكلّ مَنْ يدين بقيم السّماء وينتمي إليها ويدافع عنها، وانطلق من هذه القاعدة ليغيّر الواقع الفاسد.
٥ - نوايا الغدر الاُموي والتخطيط لقتل الحسين (عليه السّلام)
استشفّ الإمام الحسين (عليه السّلام) - وهو الخبير الضليع بكلّ ما كان يمرّ في
١٣٢
معترك السّاحة السّياسية، والمتغيّرات الاجتماعية التي كانت تتفاعل في الاُمّة - نوايا الغدر والحقد الاُموي على الإسلام وأهل البيت (عليهم السّلام)، وتجارب السنين الاُولى من الدعوة الإسلاميّة، ثمّ ما كان لمعاوية من مواقف مع الإمام علي (عليه السّلام) ومن بعده مع الإمام الحسن (عليه السّلام).
وأيقن الحسين (عليه السّلام) أنّهم لا يكفّون عنه وعن الفتك به حتّى لو سالمهم، فقد كان يمثّل بقيّة النبوّة، والشّخصية الرسالية التي تدفع الحركة الإسلاميّة في نهجها الحقيقي وطريقها الصّحيح.
ولم يستطع يزيد أن يخفي نزعة الشرّ في نفسه، فقد روي أنّه صرّح قائلاً في وقاحة:
وقد أعلن الإمام الحسين (عليه السّلام) أنّ بني اُميّة لا يتركونه بحال من الأحوال، فقد صرّح لأخيه محمّد بن الحنفيّة قائلاً
( لو دخلت في جُحْر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتّى يقتلوني )) .
وقال (عليه السّلام) لجعفر بن سليمان الضّبعي
( والله، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة - يعني قلبه الشّريف -من جوفي )) .
فتحرّك الإمام (عليه السّلام) من مكة مبكّراً؛ ليقوم بالثورة قبل أن تتمكّن يد الغدر من قتله وتصفيته، وهو بعد لم يتمكّن من أداء دوره المفروض له في الاُمّة آنذاك، وسعى لتفويت أيّة فرصة يمكن أن يستغلّها الاُمويّون للغدر به، والظهور بمظهر المدافع عن أهل بيت النبوّة.
٦ - انتشار الظلم وفقدان الأمن
قام الحكم الاُموي على أساس الظلم والقهر والعدوان، فمنذ أن برز معاوية وزمرته كقوّة في العالم الإسلامي برز وهو باغ على خليفة المسلمين
١٣٣
وإمام الاُمّة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأسرف في ممارساته الظالمة التي جلبت الويل للاُمّة، فقد سفك الدماء الكثيرة، واستعمل شرار الخلق لإدارة الاُمور يوم تفرّد بالحكم، بل وقبل أن يتسلّط على الاُمّة كانت كلّ العناصر الموالية له تشيع الخوف والقتل حتّى قال النّاس في ولاية زياد بن أبيه: « انج سعد، فقد هلك سعيد »؛ للتدليل على ضياع الأمن في جميع أنحاء البلاد(١) .
ومن جانب آخر أمعنت السّلطة الاُموية في احتقار فئات و قطاعات كبيرة من الاُمّة بنظرة استعلائية قبلية(٢) ، كما مارس معاوية في سياسته التي ورثها يزيد أنواع الفتك والتعذيب والتهجير للمسلمين، وبالأخص مَنْ عرف منه ولاء أهل البيت (عليهم السّلام)(٣) .
وبكلّ جرأة على الحقّ واستهتار بالقيم يقول معاوية للإمام الحسين (عليه السّلام): يا أبا عبد الله، علمت أنّا قتلنا شيعة أبيك، فحنّطناهم وكفّناهم وصلّينا عليهم ودفنّاهم(٤) .
أمام هذه المظالم لم يقف الإمام الحسين (عليه السّلام) مكتوف اليد، فقد احتجّ على معاوية ثمّ ثار على ولده يزيد؛ إذ لم ينفع النصح والاحتجاج لينقذ الاُمّة من الجور الهائل.
٧ - تشويه القيم الإسلاميّة ومحو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام)
اجتهد الحكم الاُموي أن يغيّر الصّورة الصّحيحة للرسالة الإسلاميّة، والتركيب الاجتماعي للمجتمع المسلم، فقد عمد الاُمويّون إلى إشاعة الفرقة بين المسلمين، والتمييز بين العرب وغيرهم، وبثّ روح التناحر القبلي،
____________________
(١) تأريخ الطبري ٦ / ٧٧، وتأريخ ابن عساكر ٣ / ٢٢٢، والاستيعاب ١ / ٦٠، وتأريخ ابن كثير ٧ / ٣١٩.
(٢) العقد الفريد ٢ / ٢٥٨، وطبقات ابن سعد ٦ / ١٧٥، ونهاية الإرب ٦ / ٨٦.
(٣) شرح النهج ١١ / ٤٤، وتأريخ الطبري ٤ / ١٩٨.
(٤) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠٦.
١٣٤
والعمل على تقريب قبيلة دون اُخرى من البلاط وفق المصالح الاُمويّة في الحكم.
وكان للمال دور مهمّ في إشاعة الروح الانتهازية والازدواج في الشّخصيّة والإقبال على اللهو(١) .
ولمّا كان لأهل البيت (عليهم السّلام) الأثر الكبير في تجذير العقيدة الإسلاميّة، ورعاية هموم الرسالة الإسلاميّة ؛ فقد عمد الاُمويّون ومنذ تفرّد معاوية بالحكم باُسلوب مبرمج إلى محو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام)، وقد تكاملت هذه الخطوة في أواخر حكم معاوية ومحاولة استخلافه ليزيد(٢) .
٨ - الاستجابة لأمر الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله)
إنّ عقيدة سامية ورسالة خاتمة لكل الرسالات كرسالة الإسلام لا يمكن أن يتركها قائدها الكبير، ومبلّغها العظيم (صلّى الله عليه وآله) وهو النبيّ المعصوم والمسدّد من السّماء دون تخطيط وعناية، ودون قيّم يرعى شؤونها وأحوالها، يخلص لها في قوله وعمله، ويوجّهها نحو هدفها المنشود، مستعيناً بدرايته وبعلمه الشّامل بأحكامها، ويفتديها بكلّ غال ونفيس من أجل أن تحيى وتبقى كلمة الله هي العليا.
والمتتبّع لسيرة الرّسول وأهل بيته (صلوات الله عليهم) يلمس بوضوح ترابط الأدوار التي قام بها المعصومون من آل النبيّ وتكاملها، وهم مستسلمون لأمر الله ورسوله غاية التسليم.
وقد أدلى الإمام الحسين (عليه السّلام) بذلك حينما أشار المشفقون عليه بعدم الخروج إلى العراق، فقال (عليه السّلام)
( أمرني رسول الله بأمر وأنا ماضٍ له )) (٣) .
____________________
(١) تأريخ الطبري ٨ / ٢٨٨، والأغاني ٤ / ١٢٠.
(٢) نهج البلاغة ٣ / ٥٩٥ و ٤ / ٦١ و و ١١ / ٤٤.
(٣) البداية والنهاية ٨ / ١٧٦، وتأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام)، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ٢١٨، والفتوح ٥ / ٧٤.
١٣٥
كما إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان قد أخبر بمقتل الإمام الحسين (عليه السّلام) بأيدي الظلمة الفاسقين حين ولادته حتّى بات ذلك من الاُمور المتيقّنة لدى المسلمين(١) .
أهداف منظورة في ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام)
إنّ أهداف الرجال العظام هي عظيمة في التأريخ، وتزداد رفعةً وسموّاً حين تنبعث من عمق رسالة سامية. ونحن حين نقف أمام الحسين (عليه السّلام) الذي يمثّل أعظم رجل في عصره وهو يحمل ميراث النبوّة، وثقل الرسالة الخاتمة الخالدة مسدّداً بالتسديد الإلهي في القول والفعل، وأمام سيرته لنبحث عن أهداف نهضته المقدّسة - التي فداها بنفسه وبأهل بيته وخيرة أصحابه - لا نجد من السّهل لنا أن نحيط علماً بكلّ ذلك، لكنّنا نبحث بمقدار إدراكنا ووعينا للحدث وفق ما تتحمّله عقولنا طبعاً.
لقد تفانى الحسين (عليه السّلام) في الله ومن أجل دينه، فكانت أهدافه - التي تمثّل رضى الله وطاعته - سامية جليلة، كما إنّها كانت واسعة وعديدة. ويمكننا أن نذكر بعض أهداف الإمام الحسين (عليه السّلام) من ثورته كما يلي(٢) :
١ - تجسيد الموقف الشّرعي تجاه الحاكم الظالم
لقد كتب الإمام (عليه السّلام) قبل خروجه من المدينة عدّة وصايا:
منها: وصية لأخيه هذا نصّها

ومنها: وصيّته لاُم المؤمنين اُمّ سلمة حيث أوصاها بما يرتبط بإمامة الإمام من بعده. روي أنّه لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته اُمّ سلمة (رضي الله عنها) فقالت: يا بُني لا تحزنّي بخروجك إلى العراق؛ فإنّي سمعت جدّك يقول

فقال لها

ثمّ أشار إلى جهة كربلاء، فانخفضت الأرض حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده، فعند ذلك بكت اُمّ سلمة بكاءً شديداً وسلّمت أمره إلى الله.
فقال لها

____________________
(١) مقتل الحسين - للمقرّم / ١٥٦.
١٢٥
شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً )) .
وفي رواية اُخرى: قالت اُمّ سلمة: وعندي تربة دفعها إليَّ جدّك في قارورة، فقال

ثمّ أخذ تربةً فجعلها في قارورة وأعطاها إيّاها، وقال

وروى الطوسي عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام)

وروى عليّ بن يونس العاملي في كتاب الصراط المستقيم النصّ على عليّ بن الحسين (عليه السّلام) في حديث، ثمّ قال: وكتب الحسين (عليه السّلام) وصيّته وأودعها اُمّ سلمة، وجعل طلبها منها علامة على إمامة الطالب لها من الأنام، فطلبها الإمام زين العابدين (عليه السّلام)(٣) .
توجّه الإمام إلى مكة
قال المؤرّخون: إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) عندما توجّه إلى مكة لزم
____________________
(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٣١، والعوالم ١٧ / ١٨٠، وينابيع المودّة / ٤٠٥... إلى قوله: بكت اُمّ سلمة بكاءً شديداً.
(٢) الغيبة - للطوسي / ١١٨ ح ١٤٨، وإثبات الهداة ٥ / ٢١٤.
(٣) إثبات الهداة ٥ / ٢١٦ ح ٨.
١٢٦
الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير؛ كي لا يلحقك الطلب. فقال

ولما دخل الإمام الحسين (عليه السّلام) مكة كان دخوله إيّاها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، دخلها وهو يقرأ

ثمّ نزلها فأقبل أهلها يختلفون إليه ومَنْ كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي عندها ويطوف، ويأتي الحسين (عليه السّلام) فيمَنْ يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرّة، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين (عليه السّلام) في البلد، وأنّ الحسين (عليه السّلام) أطوع في النّاس منه وأجلّ(٣) .
____________________
(١) الفتوح ٥ / ٢٤، وينابيع المودّة / ٤٠٢، الإرشاد - للمفيد ٢ / ٣٥.
(٢) سورة القصص / ٢٢.
(٣) الإرشاد ٢ / ٣٦، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٢.
١٢٧
١٢٨
البحث الثالث: أسباب ودوافع الثورة
إنّه من الصعب أن نقف على جميع الأسباب لثورة امتدّت في عمق الزمن، ولا زالت تنبض بالدفق والحيويّة، مثيرة في النفوس روح الإباء والتضحية، وتأخذ بيد الثائرين على مرّ الزمن بالاستمرار في طريق الحقّ وبذل النفس والنفيس لبلوغ الأهداف السّامية، إنّها الثورة التي أحيت الرسالة الإسلاميّة بعد أن كادت تضيع وسط أهواء ورغبات الحكّام الفاسدين، وأثارت في الاُمّة الإسلاميّة الوعي حتّى صارت تطالب بإعادة الحقّ إلى أهله وموضعه.
إنّ أفضل ما نستخلص منه أسباب ودوافع الثورة الحسينيّة هي النصوص المأثورة عن الحسين الثائر (عليه السّلام) وكذا آثار الثورة، إلى جانب معرفتنا بشخصيّته (عليه السّلام)، فها هو الحسين (عليه السّلام) يخاطب جيش الحرّ بن يزيد الرياحي الذي تعجّل لمحاصرته، ولم يسمح له بتغيير مساره قائلاً

ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشّيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ مَنْ غَيّر، وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، وإنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تمّمتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ أُسوة )) (١) .
____________________
(١) تأريخ الطبري ٤ / ٣٠٤، والكامل في التأريخ ٣ / ٢٨٠.
١٢٩
وفي خطاب آخر بعد أن توضّحت نوايا الغدر والخذلان، والإصرار على محاربة الإمام (عليه السّلام) وطاعة يزيد الفاسق، قال (عليه السّلام)

ثمّ قال (عليه السّلام)

من هنا يمكن أن نخلص إلى أسباب ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) كما يلي:
١ - فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة
لم يعد في مقدور الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يتوقّف عن الحركة؛ وهو يرى الانحراف الشّامل في زعامة الاُمّة الإسلاميّة، فإذا كانت السّقيفة قد زحزحت الخلافة عن صاحبها الشّرعي وهو الإمام عليّ (عليه السّلام)، وتذرّع أتباعها بدعوى حرمة نقض البيعة ولزوم الجماعة، وحرمة تفريق كلمة الاُمّة ووجوب إطاعة الإمام المنتخب بزعمهم، فقد كان الإمام عليّ (عليه السّلام) يسعى بنحو أو بآخر لإصلاح ما فسد من جرّاء فعل الخليفة غير المعصوم، وقد شهد الإمام الحسين (عليه السّلام) جانباً من ذلك بوضوح خلال فترة حكم عثمان.
ولقد كانت بنود الصلح تضع قيوداً على تصرّفات معاوية الذي اتّخذ اُسلوب الخداع والتستّر بالدين سبيلاً لتمرير مخطّطاته، أمّا الآن فإنّ الأمر يختلف ؛ إذ بعد موت معاوية لم يبقَ أيّ علاج إلاّ الصدام المباشر في نظر
____________________
(١) أعيان الشّيعة ١ / ٦٠٣.
١٣٠
الإمام المعصوم، وصاحب الحقّ الشّرعي - الحسين (عليه السّلام) - فلم يعد في الإمكان - ولو نظرياً - القبول بصلاحيّة يزيد وبني اُميّة للحكم.
على أنّ نتائج انحراف السّقيفة كانت تنذر بالخطر الماحق للدين، فقد قال الإمام (عليه السّلام)

وقد كان يزيد يتّصف بكلّ ما حذّر منه الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، وكان الحسين (عليه السّلام) وهو الوريث للنبيّ، وحامل مشعل الرسالة أحقّ من غيره بالمواجهة والتغيير.
٢ - مسؤولية الإمام تجاه الاُمّة
كان الإمام الحسين (عليه السّلام) يمثّل القائد الرسالي الشّرعي الذي يجسّد كلّ القيم الخيّرة والأخلاق السّامية.
وبحكم مركزه الاجتماعي - حيث إنّه هو سبط الرّسول (صلّى الله عليه وآله) ووريثه - فإنّه مسؤول عن هذه الاُمّة، وقد وقف (عليه السّلام) في عهد معاوية محاولاً إصلاح الاُمور بطريقة سلمية، فحاجج معاوية وفضح مخطّطاته(١) ، ونبّه الاُمّة إلى مسؤولياتها ودورها(٢) ، بل خطا خطوةً كبيرة لتحفيز الاُمّة على رفض الظلم(٣) ، وحاول جمع كلمة الاُمّة في وجه الظالمين(٤) .
ولمّا استنفد كلّ الإجراءات الممكنة لتغيير الأوضاع الاجتماعية في الاُمّة تحرّك بثقله وأهل بيته للقيام بعمل قويّ في مضمونه ودلالته وأثره
____________________
(١) الإمامة والسياسة ١ / ٢٨٤.
(٢) كتاب سُليم بن قيس / ١٦٦.
(٣) شرح نهج البلاغة ٤ / ٣٢٧.
(٤) أنساب الأشراف ق ١ ج ١، وتأريخ ابن كثير ٨ / ١٦٢.
١٣١
وعطائه؛ لينهض بالاُمّة لتغيير واقعها الفاسد.
٣ - الاستجابة لرأي الجماهير الثائرة
لم يكن بوسع الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يقف دون أن يقوم بحركة قوية، وقد تكاثرت عليه كتب الرافضين لبيعة يزيد بن معاوية تطلب منه قيادة زمام اُمورها والنهوض بها، وقد حمّلته المسؤولية أمام الله إذا لم يستجب لدعواتهم، وكانت دعوة أهل الكوفة للإمام الحسين (عليه السّلام) بمثابة الغطاء السّياسي الذي يُعطي الصّفة الشّرعية لحركته، فلم تكن حركته بوازع ذاتي، ولا مطمع شخصي، لاسيّما بعد إتمام الحجّة عليه من قبل هؤلاء المسلمين.
٤ - محاولة إرغامه (عليه السّلام) على الذلّ والمساومة
لقد كان الإمام الحسين (عليه السّلام) يحمل روحاً صاغها الله بالمُثل العليا والقيم الرفيعة، ففاضت إباءً وعزّةً وكرامةً، وفي المقابل تدنّت نفسيّة يزيد الشّريرة ونفسيات أزلامه، فأرادوا من الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يعيش ذليلاً في ظلّ حكم فاسد، وقد صرّح (عليه السّلام) قائلاً

وفي موقف آخر قال (عليه السّلام)

بهذه الصّورة الرائعة سنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) سنّة الإباء لكلّ مَنْ يدين بقيم السّماء وينتمي إليها ويدافع عنها، وانطلق من هذه القاعدة ليغيّر الواقع الفاسد.
٥ - نوايا الغدر الاُموي والتخطيط لقتل الحسين (عليه السّلام)
استشفّ الإمام الحسين (عليه السّلام) - وهو الخبير الضليع بكلّ ما كان يمرّ في
١٣٢
معترك السّاحة السّياسية، والمتغيّرات الاجتماعية التي كانت تتفاعل في الاُمّة - نوايا الغدر والحقد الاُموي على الإسلام وأهل البيت (عليهم السّلام)، وتجارب السنين الاُولى من الدعوة الإسلاميّة، ثمّ ما كان لمعاوية من مواقف مع الإمام علي (عليه السّلام) ومن بعده مع الإمام الحسن (عليه السّلام).
وأيقن الحسين (عليه السّلام) أنّهم لا يكفّون عنه وعن الفتك به حتّى لو سالمهم، فقد كان يمثّل بقيّة النبوّة، والشّخصية الرسالية التي تدفع الحركة الإسلاميّة في نهجها الحقيقي وطريقها الصّحيح.
ولم يستطع يزيد أن يخفي نزعة الشرّ في نفسه، فقد روي أنّه صرّح قائلاً في وقاحة:

وقال (عليه السّلام) لجعفر بن سليمان الضّبعي

فتحرّك الإمام (عليه السّلام) من مكة مبكّراً؛ ليقوم بالثورة قبل أن تتمكّن يد الغدر من قتله وتصفيته، وهو بعد لم يتمكّن من أداء دوره المفروض له في الاُمّة آنذاك، وسعى لتفويت أيّة فرصة يمكن أن يستغلّها الاُمويّون للغدر به، والظهور بمظهر المدافع عن أهل بيت النبوّة.
٦ - انتشار الظلم وفقدان الأمن
قام الحكم الاُموي على أساس الظلم والقهر والعدوان، فمنذ أن برز معاوية وزمرته كقوّة في العالم الإسلامي برز وهو باغ على خليفة المسلمين
١٣٣
وإمام الاُمّة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأسرف في ممارساته الظالمة التي جلبت الويل للاُمّة، فقد سفك الدماء الكثيرة، واستعمل شرار الخلق لإدارة الاُمور يوم تفرّد بالحكم، بل وقبل أن يتسلّط على الاُمّة كانت كلّ العناصر الموالية له تشيع الخوف والقتل حتّى قال النّاس في ولاية زياد بن أبيه: « انج سعد، فقد هلك سعيد »؛ للتدليل على ضياع الأمن في جميع أنحاء البلاد(١) .
ومن جانب آخر أمعنت السّلطة الاُموية في احتقار فئات و قطاعات كبيرة من الاُمّة بنظرة استعلائية قبلية(٢) ، كما مارس معاوية في سياسته التي ورثها يزيد أنواع الفتك والتعذيب والتهجير للمسلمين، وبالأخص مَنْ عرف منه ولاء أهل البيت (عليهم السّلام)(٣) .
وبكلّ جرأة على الحقّ واستهتار بالقيم يقول معاوية للإمام الحسين (عليه السّلام): يا أبا عبد الله، علمت أنّا قتلنا شيعة أبيك، فحنّطناهم وكفّناهم وصلّينا عليهم ودفنّاهم(٤) .
أمام هذه المظالم لم يقف الإمام الحسين (عليه السّلام) مكتوف اليد، فقد احتجّ على معاوية ثمّ ثار على ولده يزيد؛ إذ لم ينفع النصح والاحتجاج لينقذ الاُمّة من الجور الهائل.
٧ - تشويه القيم الإسلاميّة ومحو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام)
اجتهد الحكم الاُموي أن يغيّر الصّورة الصّحيحة للرسالة الإسلاميّة، والتركيب الاجتماعي للمجتمع المسلم، فقد عمد الاُمويّون إلى إشاعة الفرقة بين المسلمين، والتمييز بين العرب وغيرهم، وبثّ روح التناحر القبلي،
____________________
(١) تأريخ الطبري ٦ / ٧٧، وتأريخ ابن عساكر ٣ / ٢٢٢، والاستيعاب ١ / ٦٠، وتأريخ ابن كثير ٧ / ٣١٩.
(٢) العقد الفريد ٢ / ٢٥٨، وطبقات ابن سعد ٦ / ١٧٥، ونهاية الإرب ٦ / ٨٦.
(٣) شرح النهج ١١ / ٤٤، وتأريخ الطبري ٤ / ١٩٨.
(٤) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠٦.
١٣٤
والعمل على تقريب قبيلة دون اُخرى من البلاط وفق المصالح الاُمويّة في الحكم.
وكان للمال دور مهمّ في إشاعة الروح الانتهازية والازدواج في الشّخصيّة والإقبال على اللهو(١) .
ولمّا كان لأهل البيت (عليهم السّلام) الأثر الكبير في تجذير العقيدة الإسلاميّة، ورعاية هموم الرسالة الإسلاميّة ؛ فقد عمد الاُمويّون ومنذ تفرّد معاوية بالحكم باُسلوب مبرمج إلى محو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام)، وقد تكاملت هذه الخطوة في أواخر حكم معاوية ومحاولة استخلافه ليزيد(٢) .
٨ - الاستجابة لأمر الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله)
إنّ عقيدة سامية ورسالة خاتمة لكل الرسالات كرسالة الإسلام لا يمكن أن يتركها قائدها الكبير، ومبلّغها العظيم (صلّى الله عليه وآله) وهو النبيّ المعصوم والمسدّد من السّماء دون تخطيط وعناية، ودون قيّم يرعى شؤونها وأحوالها، يخلص لها في قوله وعمله، ويوجّهها نحو هدفها المنشود، مستعيناً بدرايته وبعلمه الشّامل بأحكامها، ويفتديها بكلّ غال ونفيس من أجل أن تحيى وتبقى كلمة الله هي العليا.
والمتتبّع لسيرة الرّسول وأهل بيته (صلوات الله عليهم) يلمس بوضوح ترابط الأدوار التي قام بها المعصومون من آل النبيّ وتكاملها، وهم مستسلمون لأمر الله ورسوله غاية التسليم.
وقد أدلى الإمام الحسين (عليه السّلام) بذلك حينما أشار المشفقون عليه بعدم الخروج إلى العراق، فقال (عليه السّلام)

____________________
(١) تأريخ الطبري ٨ / ٢٨٨، والأغاني ٤ / ١٢٠.
(٢) نهج البلاغة ٣ / ٥٩٥ و ٤ / ٦١ و و ١١ / ٤٤.
(٣) البداية والنهاية ٨ / ١٧٦، وتأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام)، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ٢١٨، والفتوح ٥ / ٧٤.
١٣٥
كما إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان قد أخبر بمقتل الإمام الحسين (عليه السّلام) بأيدي الظلمة الفاسقين حين ولادته حتّى بات ذلك من الاُمور المتيقّنة لدى المسلمين(١) .
أهداف منظورة في ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام)
إنّ أهداف الرجال العظام هي عظيمة في التأريخ، وتزداد رفعةً وسموّاً حين تنبعث من عمق رسالة سامية. ونحن حين نقف أمام الحسين (عليه السّلام) الذي يمثّل أعظم رجل في عصره وهو يحمل ميراث النبوّة، وثقل الرسالة الخاتمة الخالدة مسدّداً بالتسديد الإلهي في القول والفعل، وأمام سيرته لنبحث عن أهداف نهضته المقدّسة - التي فداها بنفسه وبأهل بيته وخيرة أصحابه - لا نجد من السّهل لنا أن نحيط علماً بكلّ ذلك، لكنّنا نبحث بمقدار إدراكنا ووعينا للحدث وفق ما تتحمّله عقولنا طبعاً.
لقد تفانى الحسين (عليه السّلام) في الله ومن أجل دينه، فكانت أهدافه - التي تمثّل رضى الله وطاعته - سامية جليلة، كما إنّها كانت واسعة وعديدة. ويمكننا أن نذكر بعض أهداف الإمام الحسين (عليه السّلام) من ثورته كما يلي(٢) :
١ - تجسيد الموقف الشّرعي تجاه الحاكم الظالم
تعليق