إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    وصايا الإمام الحسين (عليه السّلام)


    لقد كتب الإمام (عليه السّلام) قبل خروجه من المدينة عدّة وصايا:

    منها: وصية لأخيه هذا نصّها( هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ إلي أخيه محمّد بن الحنفيّة، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، وأنّ الجّنة حق والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَنْ في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين )) (١) .

    ومنها: وصيّته لاُم المؤمنين اُمّ سلمة حيث أوصاها بما يرتبط بإمامة الإمام من بعده. روي أنّه لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته اُمّ سلمة (رضي الله عنها) فقالت: يا بُني لا تحزنّي بخروجك إلى العراق؛ فإنّي سمعت جدّك يقول( يُقتل ولدي الحسين (عليه السّلام) بأرض العراق في أرض يُقال لها: كربلا )) .

    فقال لها( يا اُماه، وأنا والله أعلم ذلك، وإنّي مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بدّ، وإنّي والله لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه، وأعرف مَنْ يقتلني، وأعرف البقعة التي اُدفن فيها، وإنّي أعرف مَنْ يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردت يا اُمّاه اُريك حفرتي ومضجعي )) .

    ثمّ أشار إلى جهة كربلاء، فانخفضت الأرض حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده، فعند ذلك بكت اُمّ سلمة بكاءً شديداً وسلّمت أمره إلى الله.

    فقال لها( يا اُمّاه، قد شاء الله (عزّ وجلّ) أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد

    ____________________

    (١) مقتل الحسين - للمقرّم / ١٥٦.

    ١٢٥



    شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً )) .

    وفي رواية اُخرى: قالت اُمّ سلمة: وعندي تربة دفعها إليَّ جدّك في قارورة، فقال( والله إنّي مقتول كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً )) .

    ثمّ أخذ تربةً فجعلها في قارورة وأعطاها إيّاها، وقال( اجعليها مع قارورة جدّي فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قتلت )) (١) .

    وروى الطوسي عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام)( لمّا توجه الحسين (عليه السّلام) إلى العراق، ودفع إلى اُمّ سلمة زوجة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الوصية والكتب وغير ذلك قال لها: إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما قد دفعت إليك. فلمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) أتى عليّ بن الحسين (عليه السّلام) اُمّ سلمة فدفعت إليه كلّ شيء أعطاها الحسين (عليه السّلام) )) (٢) .

    وروى عليّ بن يونس العاملي في كتاب الصراط المستقيم النصّ على عليّ بن الحسين (عليه السّلام) في حديث، ثمّ قال: وكتب الحسين (عليه السّلام) وصيّته وأودعها اُمّ سلمة، وجعل طلبها منها علامة على إمامة الطالب لها من الأنام، فطلبها الإمام زين العابدين (عليه السّلام)(٣) .
    توجّه الإمام إلى مكة


    قال المؤرّخون: إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) عندما توجّه إلى مكة لزم

    ____________________

    (١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٣١، والعوالم ١٧ / ١٨٠، وينابيع المودّة / ٤٠٥... إلى قوله: بكت اُمّ سلمة بكاءً شديداً.

    (٢) الغيبة - للطوسي / ١١٨ ح ١٤٨، وإثبات الهداة ٥ / ٢١٤.

    (٣) إثبات الهداة ٥ / ٢١٦ ح ٨.

    ١٢٦



    الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير؛ كي لا يلحقك الطلب. فقال( لا والله، لا اُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض )) (١) .

    ولما دخل الإمام الحسين (عليه السّلام) مكة كان دخوله إيّاها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، دخلها وهو يقرأ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ) (٢) .

    ثمّ نزلها فأقبل أهلها يختلفون إليه ومَنْ كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي عندها ويطوف، ويأتي الحسين (عليه السّلام) فيمَنْ يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرّة، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين (عليه السّلام) في البلد، وأنّ الحسين (عليه السّلام) أطوع في النّاس منه وأجلّ(٣) .

    ____________________

    (١) الفتوح ٥ / ٢٤، وينابيع المودّة / ٤٠٢، الإرشاد - للمفيد ٢ / ٣٥.

    (٢) سورة القصص / ٢٢.

    (٣) الإرشاد ٢ / ٣٦، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٢.

    ١٢٧



    ١٢٨



    البحث الثالث: أسباب ودوافع الثورة

    إنّه من الصعب أن نقف على جميع الأسباب لثورة امتدّت في عمق الزمن، ولا زالت تنبض بالدفق والحيويّة، مثيرة في النفوس روح الإباء والتضحية، وتأخذ بيد الثائرين على مرّ الزمن بالاستمرار في طريق الحقّ وبذل النفس والنفيس لبلوغ الأهداف السّامية، إنّها الثورة التي أحيت الرسالة الإسلاميّة بعد أن كادت تضيع وسط أهواء ورغبات الحكّام الفاسدين، وأثارت في الاُمّة الإسلاميّة الوعي حتّى صارت تطالب بإعادة الحقّ إلى أهله وموضعه.

    إنّ أفضل ما نستخلص منه أسباب ودوافع الثورة الحسينيّة هي النصوص المأثورة عن الحسين الثائر (عليه السّلام) وكذا آثار الثورة، إلى جانب معرفتنا بشخصيّته (عليه السّلام)، فها هو الحسين (عليه السّلام) يخاطب جيش الحرّ بن يزيد الرياحي الذي تعجّل لمحاصرته، ولم يسمح له بتغيير مساره قائلاً( أيّها النّاس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله.

    ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشّيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ مَنْ غَيّر، وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، وإنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تمّمتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ أُسوة )) (١) .

    ____________________

    (١) تأريخ الطبري ٤ / ٣٠٤، والكامل في التأريخ ٣ / ٢٨٠.

    ١٢٩



    وفي خطاب آخر بعد أن توضّحت نوايا الغدر والخذلان، والإصرار على محاربة الإمام (عليه السّلام) وطاعة يزيد الفاسق، قال (عليه السّلام)( فسحقاً لكم يا عبيد الأمة، وشذّاذ الأحزاب، ونَبَذَة الكتاب، ونفثة الشّيطان، وعصبة الآثام، ومحرّفي الكتاب، ومطفئي السُّنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيدي عترة الأوصياء، وملحقي العهار بالنّسب، ومؤذي المؤمنين، وصُراخ أئمّة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون! )) .

    ثمّ قال (عليه السّلام)( ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام... )) (١) .

    من هنا يمكن أن نخلص إلى أسباب ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) كما يلي:
    ١ - فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة


    لم يعد في مقدور الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يتوقّف عن الحركة؛ وهو يرى الانحراف الشّامل في زعامة الاُمّة الإسلاميّة، فإذا كانت السّقيفة قد زحزحت الخلافة عن صاحبها الشّرعي وهو الإمام عليّ (عليه السّلام)، وتذرّع أتباعها بدعوى حرمة نقض البيعة ولزوم الجماعة، وحرمة تفريق كلمة الاُمّة ووجوب إطاعة الإمام المنتخب بزعمهم، فقد كان الإمام عليّ (عليه السّلام) يسعى بنحو أو بآخر لإصلاح ما فسد من جرّاء فعل الخليفة غير المعصوم، وقد شهد الإمام الحسين (عليه السّلام) جانباً من ذلك بوضوح خلال فترة حكم عثمان.

    ولقد كانت بنود الصلح تضع قيوداً على تصرّفات معاوية الذي اتّخذ اُسلوب الخداع والتستّر بالدين سبيلاً لتمرير مخطّطاته، أمّا الآن فإنّ الأمر يختلف ؛ إذ بعد موت معاوية لم يبقَ أيّ علاج إلاّ الصدام المباشر في نظر

    ____________________

    (١) أعيان الشّيعة ١ / ٦٠٣.

    ١٣٠



    الإمام المعصوم، وصاحب الحقّ الشّرعي - الحسين (عليه السّلام) - فلم يعد في الإمكان - ولو نظرياً - القبول بصلاحيّة يزيد وبني اُميّة للحكم.

    على أنّ نتائج انحراف السّقيفة كانت تنذر بالخطر الماحق للدين، فقد قال الإمام (عليه السّلام)( أيّها النّاس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله )) .

    وقد كان يزيد يتّصف بكلّ ما حذّر منه الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، وكان الحسين (عليه السّلام) وهو الوريث للنبيّ، وحامل مشعل الرسالة أحقّ من غيره بالمواجهة والتغيير.
    ٢ - مسؤولية الإمام تجاه الاُمّة


    كان الإمام الحسين (عليه السّلام) يمثّل القائد الرسالي الشّرعي الذي يجسّد كلّ القيم الخيّرة والأخلاق السّامية.

    وبحكم مركزه الاجتماعي - حيث إنّه هو سبط الرّسول (صلّى الله عليه وآله) ووريثه - فإنّه مسؤول عن هذه الاُمّة، وقد وقف (عليه السّلام) في عهد معاوية محاولاً إصلاح الاُمور بطريقة سلمية، فحاجج معاوية وفضح مخطّطاته(١) ، ونبّه الاُمّة إلى مسؤولياتها ودورها(٢) ، بل خطا خطوةً كبيرة لتحفيز الاُمّة على رفض الظلم(٣) ، وحاول جمع كلمة الاُمّة في وجه الظالمين(٤) .

    ولمّا استنفد كلّ الإجراءات الممكنة لتغيير الأوضاع الاجتماعية في الاُمّة تحرّك بثقله وأهل بيته للقيام بعمل قويّ في مضمونه ودلالته وأثره

    ____________________

    (١) الإمامة والسياسة ١ / ٢٨٤.

    (٢) كتاب سُليم بن قيس / ١٦٦.

    (٣) شرح نهج البلاغة ٤ / ٣٢٧.

    (٤) أنساب الأشراف ق ١ ج ١، وتأريخ ابن كثير ٨ / ١٦٢.

    ١٣١



    وعطائه؛ لينهض بالاُمّة لتغيير واقعها الفاسد.
    ٣ - الاستجابة لرأي الجماهير الثائرة


    لم يكن بوسع الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يقف دون أن يقوم بحركة قوية، وقد تكاثرت عليه كتب الرافضين لبيعة يزيد بن معاوية تطلب منه قيادة زمام اُمورها والنهوض بها، وقد حمّلته المسؤولية أمام الله إذا لم يستجب لدعواتهم، وكانت دعوة أهل الكوفة للإمام الحسين (عليه السّلام) بمثابة الغطاء السّياسي الذي يُعطي الصّفة الشّرعية لحركته، فلم تكن حركته بوازع ذاتي، ولا مطمع شخصي، لاسيّما بعد إتمام الحجّة عليه من قبل هؤلاء المسلمين.
    ٤ - محاولة إرغامه (عليه السّلام) على الذلّ والمساومة


    لقد كان الإمام الحسين (عليه السّلام) يحمل روحاً صاغها الله بالمُثل العليا والقيم الرفيعة، ففاضت إباءً وعزّةً وكرامةً، وفي المقابل تدنّت نفسيّة يزيد الشّريرة ونفسيات أزلامه، فأرادوا من الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يعيش ذليلاً في ظلّ حكم فاسد، وقد صرّح (عليه السّلام) قائلاً( ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله، ونفوس أبيّة، واُنوف حميّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام )) .

    وفي موقف آخر قال (عليه السّلام)( لا أرى الموت إلاّ سعادةً، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً )) .

    بهذه الصّورة الرائعة سنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) سنّة الإباء لكلّ مَنْ يدين بقيم السّماء وينتمي إليها ويدافع عنها، وانطلق من هذه القاعدة ليغيّر الواقع الفاسد.
    ٥ - نوايا الغدر الاُموي والتخطيط لقتل الحسين (عليه السّلام)


    استشفّ الإمام الحسين (عليه السّلام) - وهو الخبير الضليع بكلّ ما كان يمرّ في

    ١٣٢



    معترك السّاحة السّياسية، والمتغيّرات الاجتماعية التي كانت تتفاعل في الاُمّة - نوايا الغدر والحقد الاُموي على الإسلام وأهل البيت (عليهم السّلام)، وتجارب السنين الاُولى من الدعوة الإسلاميّة، ثمّ ما كان لمعاوية من مواقف مع الإمام علي (عليه السّلام) ومن بعده مع الإمام الحسن (عليه السّلام).

    وأيقن الحسين (عليه السّلام) أنّهم لا يكفّون عنه وعن الفتك به حتّى لو سالمهم، فقد كان يمثّل بقيّة النبوّة، والشّخصية الرسالية التي تدفع الحركة الإسلاميّة في نهجها الحقيقي وطريقها الصّحيح.

    ولم يستطع يزيد أن يخفي نزعة الشرّ في نفسه، فقد روي أنّه صرّح قائلاً في وقاحة:

    [TR]
    [TD="width: 261"]لستُ من خندف إن لم انتقمْ
    [/TD]
    [TD="width: 19"][/TD]
    [TD="width: 259"]من بني أحمدَ ما كان فعلْ
    [/TD]
    [/TR]
    وقد أعلن الإمام الحسين (عليه السّلام) أنّ بني اُميّة لا يتركونه بحال من الأحوال، فقد صرّح لأخيه محمّد بن الحنفيّة قائلاً( لو دخلت في جُحْر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتّى يقتلوني )) .

    وقال (عليه السّلام) لجعفر بن سليمان الضّبعي( والله، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة - يعني قلبه الشّريف -من جوفي )) .

    فتحرّك الإمام (عليه السّلام) من مكة مبكّراً؛ ليقوم بالثورة قبل أن تتمكّن يد الغدر من قتله وتصفيته، وهو بعد لم يتمكّن من أداء دوره المفروض له في الاُمّة آنذاك، وسعى لتفويت أيّة فرصة يمكن أن يستغلّها الاُمويّون للغدر به، والظهور بمظهر المدافع عن أهل بيت النبوّة.
    ٦ - انتشار الظلم وفقدان الأمن


    قام الحكم الاُموي على أساس الظلم والقهر والعدوان، فمنذ أن برز معاوية وزمرته كقوّة في العالم الإسلامي برز وهو باغ على خليفة المسلمين

    ١٣٣



    وإمام الاُمّة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأسرف في ممارساته الظالمة التي جلبت الويل للاُمّة، فقد سفك الدماء الكثيرة، واستعمل شرار الخلق لإدارة الاُمور يوم تفرّد بالحكم، بل وقبل أن يتسلّط على الاُمّة كانت كلّ العناصر الموالية له تشيع الخوف والقتل حتّى قال النّاس في ولاية زياد بن أبيه: « انج سعد، فقد هلك سعيد »؛ للتدليل على ضياع الأمن في جميع أنحاء البلاد(١) .

    ومن جانب آخر أمعنت السّلطة الاُموية في احتقار فئات و قطاعات كبيرة من الاُمّة بنظرة استعلائية قبلية(٢) ، كما مارس معاوية في سياسته التي ورثها يزيد أنواع الفتك والتعذيب والتهجير للمسلمين، وبالأخص مَنْ عرف منه ولاء أهل البيت (عليهم السّلام)(٣) .

    وبكلّ جرأة على الحقّ واستهتار بالقيم يقول معاوية للإمام الحسين (عليه السّلام): يا أبا عبد الله، علمت أنّا قتلنا شيعة أبيك، فحنّطناهم وكفّناهم وصلّينا عليهم ودفنّاهم(٤) .

    أمام هذه المظالم لم يقف الإمام الحسين (عليه السّلام) مكتوف اليد، فقد احتجّ على معاوية ثمّ ثار على ولده يزيد؛ إذ لم ينفع النصح والاحتجاج لينقذ الاُمّة من الجور الهائل.
    ٧ - تشويه القيم الإسلاميّة ومحو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام)


    اجتهد الحكم الاُموي أن يغيّر الصّورة الصّحيحة للرسالة الإسلاميّة، والتركيب الاجتماعي للمجتمع المسلم، فقد عمد الاُمويّون إلى إشاعة الفرقة بين المسلمين، والتمييز بين العرب وغيرهم، وبثّ روح التناحر القبلي،

    ____________________

    (١) تأريخ الطبري ٦ / ٧٧، وتأريخ ابن عساكر ٣ / ٢٢٢، والاستيعاب ١ / ٦٠، وتأريخ ابن كثير ٧ / ٣١٩.

    (٢) العقد الفريد ٢ / ٢٥٨، وطبقات ابن سعد ٦ / ١٧٥، ونهاية الإرب ٦ / ٨٦.

    (٣) شرح النهج ١١ / ٤٤، وتأريخ الطبري ٤ / ١٩٨.

    (٤) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠٦.

    ١٣٤



    والعمل على تقريب قبيلة دون اُخرى من البلاط وفق المصالح الاُمويّة في الحكم.

    وكان للمال دور مهمّ في إشاعة الروح الانتهازية والازدواج في الشّخصيّة والإقبال على اللهو(١) .

    ولمّا كان لأهل البيت (عليهم السّلام) الأثر الكبير في تجذير العقيدة الإسلاميّة، ورعاية هموم الرسالة الإسلاميّة ؛ فقد عمد الاُمويّون ومنذ تفرّد معاوية بالحكم باُسلوب مبرمج إلى محو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام)، وقد تكاملت هذه الخطوة في أواخر حكم معاوية ومحاولة استخلافه ليزيد(٢) .
    ٨ - الاستجابة لأمر الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله)


    إنّ عقيدة سامية ورسالة خاتمة لكل الرسالات كرسالة الإسلام لا يمكن أن يتركها قائدها الكبير، ومبلّغها العظيم (صلّى الله عليه وآله) وهو النبيّ المعصوم والمسدّد من السّماء دون تخطيط وعناية، ودون قيّم يرعى شؤونها وأحوالها، يخلص لها في قوله وعمله، ويوجّهها نحو هدفها المنشود، مستعيناً بدرايته وبعلمه الشّامل بأحكامها، ويفتديها بكلّ غال ونفيس من أجل أن تحيى وتبقى كلمة الله هي العليا.

    والمتتبّع لسيرة الرّسول وأهل بيته (صلوات الله عليهم) يلمس بوضوح ترابط الأدوار التي قام بها المعصومون من آل النبيّ وتكاملها، وهم مستسلمون لأمر الله ورسوله غاية التسليم.

    وقد أدلى الإمام الحسين (عليه السّلام) بذلك حينما أشار المشفقون عليه بعدم الخروج إلى العراق، فقال (عليه السّلام)( أمرني رسول الله بأمر وأنا ماضٍ له )) (٣) .

    ____________________

    (١) تأريخ الطبري ٨ / ٢٨٨، والأغاني ٤ / ١٢٠.

    (٢) نهج البلاغة ٣ / ٥٩٥ و ٤ / ٦١ و و ١١ / ٤٤.

    (٣) البداية والنهاية ٨ / ١٧٦، وتأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام)، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ٢١٨، والفتوح ٥ / ٧٤.

    ١٣٥



    كما إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان قد أخبر بمقتل الإمام الحسين (عليه السّلام) بأيدي الظلمة الفاسقين حين ولادته حتّى بات ذلك من الاُمور المتيقّنة لدى المسلمين(١) .
    أهداف منظورة في ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام)


    إنّ أهداف الرجال العظام هي عظيمة في التأريخ، وتزداد رفعةً وسموّاً حين تنبعث من عمق رسالة سامية. ونحن حين نقف أمام الحسين (عليه السّلام) الذي يمثّل أعظم رجل في عصره وهو يحمل ميراث النبوّة، وثقل الرسالة الخاتمة الخالدة مسدّداً بالتسديد الإلهي في القول والفعل، وأمام سيرته لنبحث عن أهداف نهضته المقدّسة - التي فداها بنفسه وبأهل بيته وخيرة أصحابه - لا نجد من السّهل لنا أن نحيط علماً بكلّ ذلك، لكنّنا نبحث بمقدار إدراكنا ووعينا للحدث وفق ما تتحمّله عقولنا طبعاً.

    لقد تفانى الحسين (عليه السّلام) في الله ومن أجل دينه، فكانت أهدافه - التي تمثّل رضى الله وطاعته - سامية جليلة، كما إنّها كانت واسعة وعديدة. ويمكننا أن نذكر بعض أهداف الإمام الحسين (عليه السّلام) من ثورته كما يلي(٢) :
    ١ - تجسيد الموقف الشّرعي تجاه الحاكم الظالم


    تعليق


    • #17
      ١ - تجسيد الموقف الشّرعي تجاه الحاكم الظالم


      لقد أصابت الاُمّة حالة من الركود حتّى أنّها لم تعد تتحرّك لاتّخاذ موقف عملي واقعي تجاه الحاكم الظالم، فالجميع يعرف مَنْ هو يزيد، وبماذا يتّصف من رذائل الأخلاق ممّا تجعله غير لائق أبداً بأن يتزعّم الاُمّة الإسلاميّة.

      ____________________

      (١) مستدرك الحاكم ٤ / ٣٩٨ و ٣ / ١٧٦، وكنز العمال ٧ / ١٠٦، ومجمع الزوائد ٩ / ١٨٧، وذخائر العقبى / ١٤٨، وسير أعلام النبلاء ٣ / ١٥.

      (٢) للمزيد من التفصيل راجع أضواء على ثورة الحسين (عليه السّلام) - للسيّد محمّد الصدر / ٥٧.

      ١٣٦



      في مثل هذا الظرف وقف الكثيرون حيارى يتردّدون في قرارهم، فتحرّك الإمام الحسين (عليه السّلام)؛ ليجسّد الموقف الرسالي الرافض للظلم والفساد، في حركة قوية واضحة مقرونة بالتضحية والفداء من أجل العقيدة الإسلاميّة؛ لتتّخذ الاُمّة الموقف ذاته تجاه الظلم والعدوان.
      ٢ - فضح بني اُميّة وكشف حقيقتهم


      إنّ الحكّام الذين تولّوا اُمور المسلمين ولم يكونوا معصومين ولا شرعيين كانوا يغطّون تصرّفاتهم بغطاء ذي مسحة شرعية عند الجماهير. وكان بنو اُميّة من أكثر الحكّام المستفيدين من هذا الاُسلوب الماكر ؛ إذ لم يتردّد معاوية في وضع الأحاديث المفتعلة لتدعيم حكمه، بل سعى بكلّ وسيلة لتضليل الاُمّة، وتمكّن من فعل ذلك مع عامّة النّاس.

      وأصبح الأمر أكثر خطورة حين تولّى يزيد ولاية الحكم بطريقة لم يقرّها الإسلام؛ ولهذا كان لا بدّ من فضح التّيار الاُموي وتصويره على حقيقته، لتتّضح الصورة للعالم الإسلامي فيعي دوره ورسالته، ويقوم بواجبه ووظيفته، فتحرّك الحسين (عليه السّلام) بصفته الإمام المعصوم؛ ليواجه زيف الحكم وضلالته.

      وفعلاً أسفر التّيار الاُموي عن مكنون حقده بارتكابه الجريمة البشعة في كربلاء بقتل خير النّاس وأصحابه وأهل بيته من الرجال والنساء والأطفال، ثمّ أعقب ذلك بقصف الكعبة بالمنجنيق في واقعة الحرّة، وإباحة المدينة ثلاثة أيام؛ قتلاً ونهباً وسلباً واعتداءً على الأموال والنساء والأطفال بشكل بشع لم يسبق له مثيل(١) .

      وانتبه المسلمون إلى انحراف الفئة الحاكمة الضالّة وإلى فساد أعمالها، وسعوا من خلال محاولات عديدة إلى تطهير الجهاز الحاكم

      ____________________

      (١) راجع الفتوح - لابن أعثم ٥ / ٣٠١، والإمامة والسياسة - للدينوري ٢ / ١٩، مروج الذهب ٢ / ٨٤.

      ١٣٧



      المتوغّل في الظلم والطّغيان، حتّى غدت ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) اُنموذجاً يُحتذى به لمقارعة ومقاومة كلّ نظام يستشري فيه الفساد. وقد أفصح الإمام (عليه السّلام) عن الصّفات التي يجب أن يتحلّى بها الحاكم بقوله( فلعمري، ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله )) (١) .
      ٣ - إحياء السنّة وإماتة البدعة


      انحدرت الاُمّة الإسلاميّة في منحدر صعب يوم انحرفت الخلافة عن مسارها الشّرعي في يوم السّقيفة؛ فإنّها قبلت بعد وفاة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) أن يتولّى أمرها مَنْ يحتاج إلى المشورة والنّصيحة، ويخطئ في حقّها ويعتذر، فكانت النّتيجة بعد خمسين عاماً من غياب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أن يتولّى أمرها رجل لا يتورّع عن محارم الله، بل ويظهر الحقد على الإسلام والمسلمين، فتعرّض الإسلام - عقيدةً وكياناً واُمّةً - للخطر الحقيقي، والتشويه المقيت المغيّر لكلّ شيء، على غرار ما حدث لبعض الرسالات السّماوية السّابقة.

      في مثل هذا المنعطف الخطير وقف الإمام الحسين (عليه السّلام) ومعه أهل بيته وأصحابه، وأطلق صرخة قويّة ومدوّية محذّراً الاُمّة، مفتدياً العقيدة والاُمّة بدمه الطاهر الزكي، ومن قبل قال فيه جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)( إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النّجاة )) .

      كما قال غير مرّة( حسين منّي وأنا من حسين )) . فكان الحسين (عليه السّلام) ونهضته التجسيد الحقيقي للإسلام الحقّ؛ فقد كان الخطّ الحقيقي للإسلام المحمدي متمثلاً في الحسين(عليه السّلام) وأهل بيته وأصحابه (رضوان الله تعالى عليهم).

      وقد صرّح الإمام الحسين (عليه السّلام) في رسالته التي بعثها إلى أهل

      ____________________

      (١) تأريخ الطبري ٦ / ١٩٧.

      ١٣٨



      البصرة بكل وضوح إلى أنّ السنّة قد ماتت حين وصل الانحراف إلى حدّ ظهور البدع وإجبائها.
      ٤ - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


      لقد كان غياب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتيجة طبيعية لتولّي الزعامة المنحرفة، وقد حدث هذا تحت عناوين متعدّدة، منها: لزوم إطاعة الوالي، وحرمة نقض بيعة تمّت حتّى لو كانت منحرفة، وكذلك حرمة شقّ وحدة الكلمة، وقد وصف الإمام (عليه السّلام) هذه الحالة بقوله( ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله... )) (١) .

      لذا تطلّب الأمر أن يبرز ابن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) للجهاد وهو يحمل السّيف في محاولة لإعادة الحقّ إلى نصابه من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أدلى (عليه السّلام) بذلك في وصيّته لأخيه محمّد بن الحنفيّة حين كتب له( إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر )) .

      إنّ الإصلاح المقصود هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كلّ جوانب الدين والحياة، وقد تحقّق ذلك من خلال النهضة العظيمة التي قام (عليه السّلام) بها، فكانت الهداية والرعاية للبشر دينياً ومعنوياً، وإنسانياً واُخروياً بمقتله وشهادته، وتلك النهضة التي عليها تربّت أجيال من الاُمّة، وتخرّجت من مدرستها الأبطال والصناديد، ولا زالت وستبقى المشعل الوضّاء ينير درب الحقّ والعدل والحرية وطاعة الله إلى يوم القيامة.

      ____________________

      (١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٣.

      ١٣٩


      ٥ - إيقاظ الضمائر وتحريك العواطف


      في أحيان كثيرة لا يستطيع أصحاب العقائد ودعاة الرسالات أن يحاوروا العقل والذهن مجرّداً معزولاً عن عنصر العاطفة لأجل تعميق المعتقد والفكر لدى الجماهير، وقد ابتليت الاُمّة الإسلاميّة في عهد الإمام الحسين (عليه السّلام) وبعد تسلّط يزيد بحالة من الجمود والقسوة، وعدم التحسّس للأخطار التي تحيط بها، وبفقدان الإرادة في مواجهة التحديات ضدّ العقيدة الإسلاميّة؛ لهذا لم يكتف الإمام الحسين (عليه السّلام) بتثبيت الموقف الشّرعي وتوضيحه عملياً من خلال موقفه الجهادي، بل سعى إلى إيقاظ ضمائر النّاس، وتحريك وجدانهم وأحاسيسهم ليقوموا بالمسؤولية.

      فسلك سبيل البذل والعطاء والتضحية من أجل العقيدة والدين، واتّخذ اُسلوب الاستشهاد الذي يدخل بعمق وحرارة في قلوب الجماهير، وقد ضرب لنا مثلاً رائعاً حينما برّزت ثورته أنّ التضحية لم تكن مقصورة على فئة أو مستوىً معيّن من الاُمّة، فللطفل كما للمرأة والشيخ دور فاعل فضلاً عن الشباب.

      وما أسرع ما بان الأثر على أهل الكوفة؛ إذ أظهروا الندم والإحساس بالتقصير تجاه الإمام والإسلام، فكانت ثورة التوّابين التي أعقبت ثورة أهل المدينة التي وقعت في السّنة الثانية من بعد واقعة الطفّ.

      لقد كانت واقعة الطفّ تأكيداً حقيقياً على أنّ المصاعب والمتاعب لا تمنع من قول الحقّ والعمل على صيانة الرسالة الإسلاميّة، كما إنّها زرعت روح التضحية في سبيل الله في نفوس أبناء الاُمّة الإسلاميّة، وحرّرت إرادتها ودفعتها إلى التصدّي للظلم والظالمين، ولم تُبقِ عذراً للتهرّب من مسؤولية الجهاد والدفاع عن العقيدة والمقاومة لإعلاء كلمة الله.
      لماذا لم ينهض الإمام الحسين (عليه السّلام) بالثورة في حكم معاوية؟


      إنّ الأحداث السّياسية التي عصفت بالاُمّة الإسلاميّة بعد وفاة

      ١٤٠



      الرّسول (صلّى الله عليه وآله) كانت ثقيلة الوطأة عليها، وبلغت غاية الشدّة أيام تسلّط معاوية على الشّام ومحاربة الإمام عليّ (عليه السّلام)، وبالتالي اضطرار الإمام الحسن (عليه السّلام) لإبرام صلح معه ؛ لأسباب موضوعية كانت تكتنف الاُمّة.

      ولكننا نلحظ أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لم يغيّر من موقفه المتطابق مع موقف الإمام الحسن (عليه السّلام) تجاه معاوية حتّى بعد استشهاد الإمام الحسن(عليه السّلام)، فلم يعلن ثورته، وما كان ذلك إلاّ لبقاء نفس الأسباب التي دفعت بالإمام الحسن (عليه السّلام) إلى قبول الصلح، فمِنْ ذلك:
      ١ - حالة الاُمّة الإسلاميّة


      كان الوضع النفسي والاجتماعي للاُمّة الإسلاميّة متأزّماً، إذ كانت تتطلّع إلى حالة السّلم بعد أن أرهقها معاوية والمنافقون بحروب دامت طوال حكم الإمام عليّ (عليه السّلام)، فكان رأي الإمام الحسن (عليه السّلام) هو أن يُربّي جيلاً جديداً وينهض بعد حين، فقد قال (عليه السّلام)( إنّي رأيت هوى أعظم النّاس في الصّلح، وكرهوا الحرب؛ فلم اُحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصّة من القتل، ورأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن )) (١) .

      وهو نفسه موقف الإمام الحسين (عليه السّلام)؛ بسبب ما كان يعيه ويدركه من واقع الاُمّة، فكان قوله لمنْ فاوضه في الثورة إذ قعد الإمام الحسن (عليه السّلام) عنها( صدق أبو محمّد، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً )) .

      وبقي هذا موقفه نفسه بعد استشهاد الإمام الحسن (عليه السّلام)؛ لبقاء نفس

      ____________________

      (١) الأخبار الطوال / ٢٢١.

      ١٤١



      الأسباب، فقد كتب (عليه السّلام) يردّ على أهل العراق حين دعوه للثورة( أمّا أخي فأرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما يأتي، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً )) (١) .
      ٢ - شخصيّة معاوية وسلوكه المتلوّن


      لقد كانت زعامة الاُمّة الإسلاميّة بعد وفاة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) بأيدي مسؤولين غير كفوئين لفترة طويلة. ومراجعة بسيطة لأحداث ووقائع تلك الفترة توضّح ذلك.

      ولكنّ معاوية كان أشدّ مكراً ومراوغةً ودهاءً؛ إذ كان يتلاعب ببراعة سياسية، ويتوسّل بكلّ وسيلة من أجل أن يبقى زمام السّلطة بيده، متّخذاً من التظاهر بالدين ستراً يُغطّي جرائمه الأخلاقية واللإنسانيّة، والتي منها فتكه بخيار المسلمين، ومخادعة عوام النّاس في مجاراته لعواطفهم ومعتقداتهم، وهو يحمل حقداً لا ينقطع على الإسلام والرسول (صلّى الله عليه وآله)(٢) .

      وقد تمكّن معاوية من القضاء على المعارضين له من دون اللجوء إلى القتال والحرب، فهو الذي اغتال الإمام الحسن (عليه السّلام)، وسعد بن أبي وقّاص(٣) ، وقضى على عبد الرحمن بن خالد(٤) ، ومن قبله على مالك الأشتر، وقد أوجز اُسلوبه هذا في كلمته المشهورة: « إنّ لله جنوداً منها العسل »(٥) .

      كما إنّ معاوية كان يضع كلّ مَنْ يلمس منه أيّة معارضة أو تحرّك تحت مجهر المراقبة والإرصاد، فتُرفع إليه التقارير عن كلّ ما يحدث فيستعجل في

      ____________________

      (١) المصدر السابق / ٢٢٢.

      (٢) شرح النهج - لابن أبي الحديد ٢ / ٣٥٧.

      (٣) مقاتل الطالبيين / ٢٩، ومختصر تأريخ العرب / ٦٢.

      (٤) التمدن الإسلامي - لجرجي زيدان ٤ / ٧١.

      (٥) عيون الأخبار ١ / ٢٠١.

      ١٤٢



      القضاء عليه.

      في مثل هذا الاُسلوب - أي التصرّف تحت ستار الإسلام - لو قام الإمام الحسين (عليه السّلام) بحركة واسعة، ونشاط سياسي بعد وفاة الإمام الحسن (عليه السّلام) مباشرةً لما كان قادراً على فضح معاوية، وإقناع كلّ الجماهير بشرعيّة ثورته، ولكان معاوية متمكّناً من القضاء عليه من دون ضجيج، وعندها كانت الثورة تموت في مهدها، وتضيع جهود كبيرة كان من شأنها أن تبني في الاُمّة تيّاراً واعياً، ويختنق الصوت الذي كان في مقدوره أن يبقى مدوّياً في تأريخ الإنسانيّة كما حصل في واقعة الطفّ.

      وما كان الإمام الحسين (عليه السّلام) ليتمكّن من توضيح كلّ أهدافه وغاياته من الثورة(١) ، المتمثّلة في إنقاذ الاُمّة من الظلم، وصيانة الرسالة الإسلاميّة من التحريف لو كان يسرع بثورته في أيام معاوية.

      وأمّا حينما اعتلى يزيد عرش الخلافة، وهو مَنْ قد عرفه النّاس باللهو والفسق، والشغف بالقرود وشرب الخمور، وعدم صلاحيته للخلافة؛ لتجاوزه وعدوانه على كلّ المقاييس الشّرعيّة والعرفيّة لدى المسلمين، فالثورة عليه تعدّ ثورة مشروعة عند عامّة المسلمين، كما أثبت التأريخ ذلك بكلّ وضوح.
      ٣ - احترام صلح الإمام الحسن (عليه السّلام)


      لقد كان العهد والميثاق الذي تمّ بين معاوية وبين الإمام الحسن (عليه السّلام) ورقة رابحة يلوّحها معاوية لكلّ تحرّك فعّال مضاد تجاه تربّعه على مسند السّلطة، صحيح أنّه عهد غير حقيقي، وما كان برضى الإمامين (عليهما السّلام)، وتمّ في ظروف كان لا بدّ من تغييرها، لكنّ المجتمع لم يكن يتقبّل نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) مع وجود هذا العهد، وحتى لو كان هذا العهد صحيحاً فإنّ معاوية نقضه بممارسته العدائية بملاحقة رجال الشّيعة، ولم يرعَ أيَّ حقّ في

      ____________________

      (١) للتفصيل راجع ثورة الحسين، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية / ١٢٢.

      ١٤٣



      سياسته الاقتصادية.

      وقد سارع معاوية لاستغلال هذا العهد في التشهير بالإمام الحسين (عليه السّلام)، وإظهاره بموقف الناقض للعهد، فقد كتب إلى الإمام (عليه السّلام): أمّا بعد، فقد انتهت إليّ اُمور عنك، إن كانت حقاً فإنّي أرغب بك عنها. ولعمر الله، إنّ مَنْ أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء مَنْ كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، ونفسك فاذكر، وبعهد الله أوفِ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّقِ شقّ عصا هذه الاُمّة(١) .

      من هنا لجأ الإمام الحسن (عليه السّلام)، ومن بعده الحسين (عليه السّلام) إلى اُسلوب آخر لنشر الدعوة، والتهيّؤ للثورة التي غذّاها معاوية بظلمه وجوره، وبُعده عن تمثيل الحكم الإسلامي الصحيح، حتّى إذا مات معاوية كان كثير من النّاس، وعامّة أهل العراق - بشكل خاصّ - يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت (عليهم السّلام) لأنفسهم ديناً(٢) .
      المواقف من ثورة الحسين (عليه السّلام) قبل انطلاقها


      تعليق


      • #18
        المواقف من ثورة الحسين (عليه السّلام) قبل انطلاقها


        لم تكن نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) وثورته حركةً آنيةً، أو ردّة فعل مفاجئة، بل كان الحسين (عليه السّلام) في الاُمّة يُمثّل بقيّة النبوّة، وكان وريث الرسالة، وحامل راية القيم السّامية التي أوجدها الإسلام في الاُمّة وأرسى قواعدها، كما إنّ العهد قريب برحيل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يُكثر الثناء والتوضيح لمقام الإمام الحسين (عليه السّلام)، وفي الوقت نفسه كانت قد ظهرت مقاصد الاُمويّين

        ____________________

        (١) الإمامة والسّياسة ١ / ١٨٨، والأخبار الطوال / ٢٢٤، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٨٢.

        (٢) الفتنة الكبرى، علي وبنوه - طه حسين / ٢٩٠، وللمزيد من التفصيل راجع ثورة الحسين (عليه السّلام)، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية / ١٢٧.

        ١٤٤



        الفاسدة تجاه رسالة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الإسلاميّة واُمّته المؤمنة برسالته.

        وقد وقف أهل البيت (عليهم السّلام) بصلابة يدافعون عن الحقّ والعدل وإحياء الرسالة الإسلاميّة، والمحافظة عليها بكلّ وسيلة ممكنة ومشروعة.

        وفي عصر الإمام الحسين (عليه السّلام) كان لتراخي وفتور الاُمّة عن نصرة الحقّ إلى جانب تسلّط المنافقين ونفوذهم في أجهزة الدولة دور كبير لإيجاد حالة مَرَضيّة يمكن تسميتها بفقدان الإرادة وموت الضمير، ومن ثمّ تباينت المواقف تجاه اُسلوب الدفاع عن العقيدة الإسلاميّة وصيانتها، وسيادة الحقّ والعدل.

        ولكن لم يشكّ أحد في مشروعية وعدالة موقف الإمام الحسين (عليه السّلام) تجاه الانحراف المستشري في كلّ مفاصل الدولة، وتجاه التغيير الحاصل في بنية الاُمّة الإسلاميّة، إلاّ أنّ موقف الاستعداد الكامل للنصرة باتخّاذ قرار ثوريّ يزيح عن الاُمّة الظلم والفساد لم يكن يتكامل بعد لدى الجميع.

        وقد كانت هذه المواقف تتراوح بين التأييد مع إعلان الاستعداد للثورة مهما كانت النتائج، وبين الحذر من الفشل وعدم نجاح الثورة، وبين التثبيط وفتّ العزائم.

        وتبنّى شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) الذين اكتووا بجحيم البيت الأموي المتحكّم في رقاب المسلمين موقف التأييد وإعلان الاستعداد، وإن غلب الخوف على بعضهم فيما بعد، واُودع البعض الآخر السجن، أو حوصر من قبل قوّات السّلطة الاُمويّة.

        كما تبنّى آخرون من أقرباء الإمام (عليه السّلام) - مثل عبد الله بن عباس ومحمّد ابن الحنفيّة - موقف الحذر، ورجّحوا للإمام الحسين (عليه السّلام) الهجرة إلى اليمن ؛ نظراً لبُعد اليمن عن العاصمة، ولتوفّر جمع من شيعته وشيعة أبيه

        ١٤٥



        فيها(١) .

        وتبنّى آخرون موقف التثبيط، وفتّ العزائم والتخويف من مغبّة الثورة على الحاكم، فنصحوا الإمام (عليه السّلام) بالدخول فيما دخل فيه النّاس، والصّبر على الظلم، كما تمثّل ذلك في نصيحة عبد الله بن عمر للإمام الحسين (عليه السّلام)(٢) .

        ____________________

        (١) مقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٨٧ و ٢١٦، ومروج الذهب ٣ / ٦٤.

        (٢) مقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٩١.

        ١٤٦



        البحث الرابع: توجّه الإمام (عليه السّلام) إلى مكّة

        خرج الإمام الحسين (عليه السّلام) من المدينة متوجّهاً إلى مكة بأهله وإخوته، وبني عمومته وبعض الخواصّ من شيعته، ولم يبقَ إلاّ أخوه محمّد بن الحنفيّة، وأفادت بعض المصادر التأريخية بأنّ الإمام (عليه السّلام) أقام في بيت العباس بن عبد المطلب(١) ، فيما تحدّثت مصادر اُخرى عن إقامته (عليه السّلام) في شِعْب عليّ(٢) .

        وأقام الإمام (عليه السّلام) في مكة أربعة أشهر وأياماً من ذي الحجّة، كان فيها مهوى القلوب، فالتفّ حوله المسلمون يأخذون عنه الأحكام، ويتعلّمون منه الحلال و الحرام، ولم يتعرّض له أمير مكة يحيى بن حكيم بسوء، وحيث ترك الإمام (عليه السّلام) وشأنَه؛ فقد عزله يزيد بن معاوية عنها، واستعمل عليها عمرو بن سعيد بن العاص.

        وفي شهر رمضان من تلك السنة (٦٠ هـ ) ضمّ إليه المدينة، وعزل عنها الوليد بن عتبة؛ لأنّه كان معتدلاً في موقفه من الإمام (عليه السّلام)، ولم يستجب لطلب مروان(٣) .
        رسائل أهل الكوفة إلى الإمام (عليه السّلام)


        وقد عرف النّاس في مختلف الأقطار امتناع الإمام الحسين (عليه السّلام) عن البيعة، فاتّجهت إليه الأنظار، وبخاصّة أهل الكوفة، فقد كانوا يومذاك من أشدّ النّاس نقمةً على يزيد، وأكثرِهم ميلاً إلى الإمام (عليه السّلام)؛ فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد الخزاعي، فقام فيهم خطيباً فقال: إنَّ معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه وأعلموه، وإنْ خفتم

        ____________________

        (١) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٨.

        (٢) الأخبار الطوال / ٢٠٩.

        (٣) سيرة الأئمّة الاثني عشر٢ / ٥٨.

        ١٤٧



        الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه.

        قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه، ونقتل أنفسنا دونه.

        قال: فاكتبوا إليه.

        فكتبوا إليه: « للحسين بن عليّ (عليهما السّلام) من سليمان بن صرد، والمسيّب بن نَجَبَة، ورفاعة بن شدّاد البجلي، وحبيب بن مظاهر، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلام عليك، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو.

        أمَّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضا منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دُوْلةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبعداً له كما بعدت ثمود! إنّه ليس علينا إمام غيرك، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ، وإنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، وإنّنا لم نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشّام إن شاء الله تعالى ».

        ثمّ سرّحوا بالكتاب مع عبد الله بن مِسْمَع الهَمْداني، وعبد الله بن وال وأمروهما بالنجاء(١) ، فخرجا مسرعين حتّى قدما على الحسين (عليه السّلام) بمكة لعشر مضين من شهر رمضان، ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مُسْهِر الصيداوي، وعبد الله وعبد الرحمن ابني شداد الأرحبي، وعمارة بن عبد السَلولي إلى الحسين (عليه السّلام) ومعهم نحو من مئة وخمسين صحيفةً من الرجل والاثنين والأربعة، ثمّ لبثوا يومين

        ____________________

        (١) النجاء: السرعة.

        ١٤٨



        آخرين وسرّحوا إليه هاني بن هاني السبيعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكتبوا إليه:

        « للحسين بن علىّ (عليهما السّلام) من شيعته من المؤمنين والمسلمين.

        أمَّا بعد، فإنّ النّاس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثمّ العجل العجل، والسّلام ».

        ثمّ كتب شبث بن ربعي، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رُوَيْم، وعروة بن قيس، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، ومحمد بن عمير التميمي:

        « أمَّا بعد، فقد اخضرّ الجَناب، وأينعت الثمار، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجنّدة، والسّلام »(١) .
        جواب الإمام (عليه السّلام) على رسائل الكوفيّين


        تتابعت كتب الكوفيّين كالسيل إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) وهي تدعوه إلى المسير والقدوم إليهم؛ لإنقاذهم من ظلم الاُمويّين وبطشهم، وكانت بعض تلك الرسائل تُحَمِّلُه المسؤولية أمام الله والاُمّة إن تأخّر عن إجابتهم.

        ورأى الإمام - قبل كلّ شيء - أنْ يختار للقياهم سفيراً له يُعَرّفُه باتّجاهاتهم وصدق نيّاتهم، وقد اختار ثقته وكبير أهل بيته مسلم بن عقيل، وهو من أمهر السّاسة وأكثرهم قدرةً على مواجهة الظروف الصّعبة، والصمود أمام الأحداث الجسام، وزوّده برسالة رويت بصور متعدّدة، من بينها النصّ الذي رواه صاحب الإرشاد، وهي كما يلي:

        ____________________

        (١) الإرشاد ٢ / ٣٨، وروضة الواعظين / ١٧١، وتذكرة الخواص / ٢١٣، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٦٢، والفتوح - لابن أعثم ٥ / ٣٣، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٩٥.

        ١٤٩



        (( من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين. أمّا بعد، فإنّ هانئاً وسعيداً قَدِما عليّ بكتبكم، وكانا آخر مَنْ قَدِمَ عليّ من رسلكم، وقد فهمتُ كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلّكم إنّه ليس علينا إمام، فأقبلْ لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى.

        وإنّي باعث إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإنْ كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأيُ ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمتْ به رسلُكم، وقرأتُ في كتبكم فإنّي أقدمُ إليكم وشيكاً إن شاء الله. فلعمري، ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابسُ نَفسه على ذات الله. والسّلام )) (١) .
        تحرّك مسلم بن عقيل نحو الكوفة


        لقد أكّد المؤرّخون أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) أرسل مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي، وعمارة بن عبد الله السلولي، وعبد الله وعبد الرحمن ابني شدّاد الأرحبي إلى الكوفة، بعد أنْ أمره بالتقوى وكتمانِ أمرِه واللطف بالناس، فإنْ رأى النّاس مجتمعين مستوسقين عجّلَ إليه بذلك(٢) .

        وفي النّصف من شهر رمضان انطلق مسلم من مكة نحو الكوفة، فعرّج على المدينة فصلّى في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وودّع مَنْ أحَبَّ من أهله وواصل مسيره إلى الكوفة.

        وتعدّدت أقوال المؤرّخين بشأن المكان الذي نزل فيه مسلم بن عقيل

        ____________________

        (١) الإرشاد ٢ / ٣٩، وإعلام الورى ١ / ٤٣٦، والفتوح - لابن أعثم ٥ / ٣٥، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٩٥.

        (٢) الفتوح ٥ / ٣٦، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٩٦.

        ١٥٠



        بعد أنْ وصل إلى الكوفة، فثمّة مَنْ قال: إنّه نزل في دار المختار بن أبي عبيدة(١) ، وقيل: نزل في بيت مسلم بن عوسجة(٢) ، وقيل: في بيت هاني بن عروة(٣) .

        وعندما علم الكوفيّون بوصول مبعوث الحسين (عليه السّلام) إلى مدينتهم ازدحموا للقائه وبيعته، وحسب قول بعض المؤرّخين فقد أقبلت الشّيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين (عليه السّلام) وهم يبكون، وبايعه النّاس، حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً(٤) .
        رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (عليه السّلام)


        ظلّ مسلم بن عقيل يجمع القواعد الشّعبية ويأخذ البيعة للإمام (عليه السّلام)، وتوالت الوفود تقدّم ولاءها، والجماهير تعلن عن استبشارها. وقد لاحظنا كيف أنّ النّاس كانوا يبكون وهم يسمعون مسلماً يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين (عليه السّلام) التي فيها يحيّيهم، ويعلن استعداده للقدوم إليهم، وقيادة الثورة على الحكم الطاغي.

        وبعد أن لاحظ مسلم كثرة الأنصار بادر بالكتابة إلى الإمام (عليه السّلام)، ناقلاً إليه صورةً حيّة للأحداث والوقائع التي تجري أمام عينيه في الكوفة، وقيّم له الموقف وأعرب عن تفاؤلهِ وسأله القدوم.

        وقد جاء في رسالة مسلم للإمام (عليه السّلام): « أَمّا بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشَر ألفاً، فعجّل حين يأتيك كتابي،

        ____________________

        (١) الإرشاد ٢ / ٤١، وإعلام الورى ١ / ٤٣٧.

        (٢) الإصابة ١ / ٣٣٢.

        (٣) تهذيب التهذيب ٢ / ٣٤٩.

        (٤) الإرشاد ٢ / ٤١، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٩٠، وتذكرة الخواص / ٢٢٠.

        ١٥١



        فإنّ النّاس كلَّهُم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى »(١) .
        رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى زعماء البصرة


        تعليق


        • #19
          رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى زعماء البصرة


          وذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) - بعد أن قرّر التوجّه إلى العراق - بعث رسالة إلى زعماء البصرة جاء فيها( أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلّى الله عليه وآله) من خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما اُرسل به، وكنّا أهلَه وأولياءه، وأوصياءه وورثته، وأحقَّ الناس بمقامه، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولاّه. وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه؛ فإنّ السنّة قد أُميتت، والبدعة قد أُحييت، فإنْ تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد )) (٢) .

          وقد بعث (عليه السّلام) عدّة نسخ من هذه الرسالة إلى كلّ من: مالك بن مسمع البكري، والأحنفِ بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمرو بن عبيد بن معمر، ويزيد بن مسعود النهشلي، وأرسل الإمام (عليه السّلام) النسخ مع مولىً له يُقال له: سليمان أبو رزين.

          ولم يُجب على رسالة الإمام (عليه السّلام) غيرُ الأحنف بن قيس ويزيد بن مسعود، أمّا المنذر بن الجارود فقد سلّم رسول الحسين إلى ابن زياد - وكان حينها والياً على البصرة - فصلبه عشية الليلة التي خرج في صبيحتها إلى الكوفة(٣) . وكانت ابنة المنذر زوجة ابن زياد فزعم المنذر أنّه كان يخشى أن يكون الرّسول مدسوساً من ابن زياد لكشف نواياه.

          ____________________

          (١) حياة الإمام الحسين ٢ / ٣٤٨، عن تأريخ الطبري ٦ / ٢٢٤.

          (٢) مقتل الحسين - للمقرّم / ١٥٩ - ١٦٠، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٦٦، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠.

          (٣) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٩، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠.

          ١٥٢


          جواب الأحنف بن قيس


          وأمّا الأحنف بن قيس - وهو أحد زعماء البصرة - فقد أجاب على رسالة الإمام (عليه السّلام) برسالة كتب فيها هذه الآية الكريمة، ولم يزد عليها فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) (١) .

          وهذا الجواب يعكس مدى تخاذله وتقاعسه في مواجهة الظلم والمنكر.
          جواب يزيد بن مسعود النهشلي


          واستجاب الزعيم الكبير يزيد بن مسعود النهشلي إلى تلبية نداء الحقّ، فاندفع بوحي من إيمانه وعقيدته إلى نصرة الإمام، فعقد مؤتمراً عامّاً دعا فيه القبائل الموالية له، وهي:

          ١ - بنو تميم.

          ٢ - بنو حنظلة.

          ٣ - بنو سعد.

          وانبرى فيهم خطيباً فكان ممّا قال: إنَّ معاوية مات، فأهونْ به واللهِ هالكاً ومفقوداً، ألا إنّه قد انكسر باب الجور والإثم، وتضعضعت أركان الظلم، وكان قد أحدث بيعة عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه، وهيهات الذي أراد! اجتهد والله ففشل، وشاور فخذل، وقد قام يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة للمسلمين، ويتأمرّ عليهم بغير رضىً منهم مع قصر حلم وقلّة علم، لا يعرف من الحقّ موطأ قدميه، فأُقسم بالله قسماً مبروراً لَجِهادُه على الدين أفضل من جهاد المشركين.

          وهذا الحسين بن عليّ وابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذو الشّرف الأصيل، والرأي الأثيل. له فضل لا يوصف، وعلم لا ينزف. وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه، وقِدمه وقرابته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله). يعطف على الصغير،

          ____________________

          (١) سير أعلام النبلاء ٣ / ٣٠٠، والآية (٦٠) من سورة الروم.

          ١٥٣



          ويُحسن إلى الكبير، فأكرم به راعي رعية، وإمام قوم وجبت لله به الحجّة، وبلغت به الموعظة. فلا تعشوا عن نور الحقّ، ولا تسكعوا في وهد الباطل... والله لا يُقصِّر أحدكم عن نصرته إلاّ أورثه الله الذلّ في ولده، والقلّة في عشيرته، وها أنا قد لَبَسْتُ للحرب لامَتها، وادَّرَعْتُ لها بِدِرْعِها. مَنْ لم يُقْتَلْ يَمُتْ، ومَنْ يهرب لم يفت، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب ».

          ولما أنهى النهشلي خطابه انبرى وجهاء القبائل فأظهروا الدعم الكامل له، فرفع النهشلي رسالة للإمام (عليه السّلام) دلّت على شرفه ونبله، وهذا نصّها: « أمّا بعد، فقد وصل إليَّ كتابك، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظّي من طاعتك، والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لم يخلُ الأرض قطّ من عامل عليها بخير، ودليل على سبيل نجاة، وأنتم حجّة الله على خلقه، ووديعتُه في أرضه، تفرّعتم من زيتونة أحمدية، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدم سعدت بأسعد طائر؛ فقد ذلّلت لك أعناق بني تميم، وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الضمأى لورود الماء يوم خمسها، وقد ذلّلت لك رقاب بني سعد، وغسلت درن قلوبها بماء سحابة مزن حين استهلّ برقُها فلمع »(١) .

          ويقول بعض المؤرّخين: إنّ الرسالة انتهت إلى الإمام (عليه السّلام) في اليوم العاشر من المحرّم بعد مقتل أصحابه وأهل بيته، وهو وحيد فريد قد أحاطت به القوى الغادرة، فلمّا قرأ الرسالة قال (عليه السّلام)( آمنك الله من الخوف، وأرواك يوم العطش الأكبر )) .

          ولما تجهّز ابن مسعود لنصرة الإمام بلغه قتله فَجَزع لذلك، وذابت

          ____________________

          (١) اللهوف / ٣٨، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٩.

          ١٥٤



          نفسه أسىً وحسرات(١) .
          موقف والي الكوفة


          كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة وقتذاك، ومع أنّه كان عثماني الهوى واُمويّ الرغبة لكنّه لم يكن راضياً عن خلافة يزيد، وبعد موت معاوية انضم إلى عبد الله بن الزبير وقاتل وقُتل معه.

          وعليه فإنّه لم يتّخذ موقفاً متشدّداً من نشاطات مسلم بن عقيل في الكوفة، ولم يُنقل عنه في تلك المرحلة الحسّاسة سوى خِطاب ألقاه في جمع الكوفيين، كان - كما يتصوّر - لرفع العتب والتظاهر بأنّه يقوم بواجبه كوال تابع لحكومة الشّام.

          وقد ذكر في خطابه: أمّا بعد، فاتّقوا الله عبادَ الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة؛ فإنّ فيها تَهلِكُ الرجال، وتُسفَكُ الدماء، وتُغْصَبُ الأموال. إنّي لا اُقاتل مَنْ لا يُقاتلني، ولا آتي على مَنْ لم يأت عليَّ، ولا اُنبّه نائمكم، ولا أتحرّش بكم، ولا آخُذُ بالقرف ولا الظِنَّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غَيرُه َلأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إنّي أرجو أن يكون مَنْ يعرف الحقّ منكم أكثرَ مِمَّنْ يرديهِ الباطل(٢) .

          فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني اُميّة فقال: إنَّه لا يُصْلِحُ ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغُشْمُ، وإنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأيُ المستضعفين. فقال له النعمان: لئن أكون من المستضعفين

          ____________________

          (١) اللهوف / ٣٨، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٩.

          (٢) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٦٧.

          ١٥٥



          في طاعة الله أحبُّ إليّ مِنْ أن أكون من الأعزّين في معصية الله(١) .
          أنصار الاُمويّين يتداركون أُمورهم


          كانت الكوفة تضمّ آنذاك فئةً من أنصار الاُمويّين والمعارضين لأهل البيت (عليهم السّلام)، وبين هذه الفئة كان بعض المنافقين الذين يتظاهرون بالتشيّع لأمير المؤمنين (عليه السّلام) فيما كانوا يُبْطِنُونَ محبّة الاُمويّين، الأمر الذي ساعدهم في اختراق صفوف شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) والتجسس لصالح الحكم الاُموي، وكان من بين هؤلاء عبد الله الحضرمي الذي عاب على النعمان رأيَه كما لاحظنا قبل قليل؛ فقد كتب رسالةً إلى يزيد جاء فيها: أمّا بعد، فإنّ مسلم بن عقيل قد قَدِمَ الكوفة وبايعته الشّيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعثْ إليها رجلاً قويّاً ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك؛ فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف، أو هو يتضَعَّفُ(٢) .

          ويضيف المؤرّخون أنّه كتب إليه - يعني إلى يزيد - عمارة بن عقبة بنحو كتابه - يعني كتاب الحضرمي -، ثمّ كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثلَ ذلك(٣) .
          قلق يزيد واستشارة السيرجون (٤)


          قَلِقَ يزيد كثيراً من الأخبار التي وصلته من الكوفة،

          ____________________

          (١) الإرشاد ٢ / ٤٢، وأنساب الأشراف / ٧٧، والفتوح ٥ / ٧٥، والعوالم - للبحراني ١٣ / ١٨٢.

          (٢) الإرشاد ٢ / ٤٢، وإعلام الورى ١ / ٢٣٧.

          (٣) المصدر السابق.

          (٤) السيرجون: غلام نصراني كان معاوية قد اتخذه كاتباً ومستشاراً له، واستمر في منصبه الخطير في عهد يزيد الذي كان قد نشأ على التربية النصرانية، وكان أقرب منها إلى غيرها.

          وليس هذا أوّل مورد نلاحظ فيه بصمات أصابع أهل الكتاب في صنع مواقف هؤلاء الحكّام تجاه الرسالة والعقيدة، والاُمة الإسلاميّة وقادتها الاُمناء عليها؛ لقد كان لكلّ من تميم الداري ( الراهب النصراني ) وكعب الأحبار ( اليهودي ) موقع متميّز عند عمر؛ حيث كان يحترمهما ويستشيرهما، ويسمح لهما بالتحدّث كلّ أُسبوع قبل صلاة الجمعة، فضلاً عن تدريس التوراة وتفسير القرآن الكريم، في وقت كان لا يسمح للصحابة بكتابة حديث الرّسول (صلّى الله عليه وآله) ولا التحديث به، بل كان يحبسهم في المدينة لئلاّ ينشروا حديث الرّسول (صلّى الله عليه وآله). ( راجع كنز العمّال / الحديث رقم ٤٨٦٥، وتذكرة الحفاظ / بترجمة عمر، وتاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٧ ). =

          ١٥٦



          وهي تتحدّث عن موقف الكوفيّين من الحكم الاُموي ومبايعتهم للإمام الحسين (عليه السّلام)؛ فدعا يزيد السيرجون الذي كان يعدّ غلاماً لمعاوية، فقال له: ما رأيك؟ إنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيّئ، فَمَنْ ترى أن أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتباً على عبيد الله بن زياد(١) .

          فقال له السيرجون: أَرأيت لو [يُنشر] إليك معاوية حيّاً هل كنتَ آخذاً برأيه؟

          قال: بلى.

          فأخرج السيرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة، وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمّ المصرَيْن ( يعني

          ____________________

          = وقد عظم نفوذ هؤلاء القصّاصين بعد عمر، وتعاظم في عهد الاُمويّين، واستمر في عهد العباسيين، بالرغم من أنّ الإمام عليّاً (عليه السّلام) كان قد طردهم من مساجد المسلمين.

          ولا يبعد أن يكون دخول عقائد منحرفة كالتجسيم، وعدم عصمة الأنبياء وغيرها من المفاهيم المنحرفة إلى مصادر المسلمين نتيجة هذا الحضور الفاعل منهم في السّاحة الإسلاميّة وتحت شعار الإسلام ونصح الحكّام.

          وقد تميّز معاوية باتخاذ بطانة واسعة من أهل الكتاب؛ حيث تلاحظ أنّ كاتبه ومستشاره نصراني، وهو (السيرجون )، كما أنّ طبيبه كان نصرانياً وهو (أثال)، وشاعره أيضاً كان نصرانياً وهو (الأخطل)، والشّام هي عاصمة نصارى الروم البيزنطيين قبل دخول الإسلام إليها. (راجع معالم المدرستين ٢ / ٥١ - ٥٣ ).

          (١) لأنّ عبيد الله بن زياد كان معارضاً لمعاوية في تولية العهد ليزيد، انظر البداية والنهاية ٨ / ١٥٢.

          ١٥٧



          الكوفة والبصرة والتي كان والياً عليها أيام معاوية ) إلى عبيد الله.

          فقال له يزيد: أفعلُ. ابعث بعهد عبيد الله بن زياد إليه...

          ثمّ دعا مسلم بن عمرو الباهلي وكتب إلى عبيد الله معه كتاباً جاء فيه: أمّا بعد، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها، يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتيَ الكوفة فتطلب ابنَ عقيل طَلَب الخِرزةِ حتّى تثقفه فتُوثِقَه، أو تقتله أو تنفيَهُ، والسّلام(١) .
          توجّه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة


          استلم عبيد الله بن زياد كتاب يزيد بن معاوية، فانطلق في اليوم الثاني نحو الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته(٢) ، حيث ينتظر أهلُها قدومَ الإمام الحسين (عليه السّلام) ومعظمهم لا يعرف شخصية الإمام ولم تكن قد التقته من قبل، وقد تعجّل ابن زياد الانتقال إلى الكوفة ليصلها قبل الإمام الحسين (عليه السّلام).

          باغت ابن زياد جماهير الكوفة وهو يُخفي معالم شخصيتِه، ويتستّر على ملامحه، فقد تلثّم ولبس عمامةً سوداء، وراح يخترق الكوفة والناس ترحّب به وتسلِّمُ عليه، وتردِّد: مرحباً بك يابن رسول الله، قدمت خير مقدم(٣) .

          فساءه ما سمع وراح يواصل السير نحو قصر الإمارة، فاضطرب النعمان وأطلّ من شرفات القصر يخاطب عبيد الله بن زياد، وكان هو أيضاً قد ظنّ أنّه الإمام، فخاطبه: اُنشدك الله إلاّ ما تنحّيتَ، واللهِ ما أنا بمسلِّم إليك أمانتي، وما لي

          ____________________

          (١) الإرشاد ٢ / ٤٢ - ٤٣، وإعلام الورى ١ / ٤٣٧، وسير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠١.

          (٢) إعلام الورى ١ / ٤٣٧.

          (٣) الإرشاد ٢ / ٤٣، وإعلام الورى ١ / ٤٣٨.

          ١٥٨



          في قتالك من إرب...(١) .

          صمت ابن زياد وراح يقترب من باب القصر، حتّى شخّص النعمان أنّ القادم هو ابن زياد، ففتح الباب ودخل ابن زياد القصر وأغلق بابه وباتَ ليلته، وباتت الكوفة على وجل وترقّب، وفي منعطف سياسي خطير.
          محاولات ابن زياد للسيطرة على الكوفة


          فوجئ أهل الكوفة بابن زياد عند الصّباح وهو يحتلّ القصر بالنداء: الصلاة جامعةً، فقام خطيباً في الجموع المحتشدة، وراح يُمنّي المطيع والسّائر في ركب السّياسة القائمة بالأماني العريضة، ويهدّد ويتوعّد المعارضة والمعارضين والرافضين لحكومة يزيد، حتّى قال:... سوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي(٢) .

          ثمّ فرض على الحاضرين مسؤولية التجسّس على المعارضين، وهدّد مَنْ لَمْ يُساهم في هذه العملية ويُنَفِّذْ هذا القرار بالعقوبة وقطع المخصّصات المالية، فقال:... فمَنْ يجيء لنا بهم فهو بريء، ومَنْ لم يكتب لنا أحدٌ فليضمن لنا في عَرافته أن لا يخالِفَنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ برئت منه الذمّة وحلال لنا دمُه ومالُه. وأيُّما عريف وجد في عرافته مَنْ بُغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره، واُلغيت تلك العرافة من العطاء(٣) .

          وقد كان ابن زياد معروفاً في أوساط الكوفيّين بالقسوة والشدّة، فكان

          ____________________

          (١) الإرشاد ٢ / ٤٣، وروضة الواعظين / ١٧٣، ومقتل الحسين - للخوارزمي / ١٩٨، وتهذيب التهذيب ٢ / ٣٠٢.

          (٢) مقاتل الطالبيّين / ٩٧، وإعلام الورى ١ / ٤٣٨.

          (٣) الإرشاد ٢ / ٤٥، والفصول المهمّة / ١٩٧، والفتوح - لابن أعثم ٥ / ٦٧.

          ١٥٩



          من الطبيعي أن يُحْدِثَ قدومُه وخطابُه الشديد اللهجة هزّةً عند المعارضين لسياسته، فلاحت بوادر النكوص والتخاذل والإرجاف تظهر على الكوفيّين وقياداتهم؛ من هنا اعتمد مسلم بن عقيل وسيلةً جديدة للسير في حركته نحو الهدف المطلوب. فانتقل إلى دار هانئ بن عروة وجعل يتستّر في دعوته وتحركاته إلاّ عن خلّص أصحابه، وهانئ يومذاك سيّد بني مراد وصاحب الكلمة المسموعة في الكوفة والرأي المطاع(١) .
          موقف مسلم من اغتيال ابن زياد


          تعليق


          • #20

            موقف مسلم من اغتيال ابن زياد


            لقد كان مسلم بن عقيل (رضوان الله تعالى عليه) يحمل رسالةً ساميةً، وأخلاقاً فاضلة اكتسبها من بيت النبوّة، كما كان يملك درايةً بكلّ تقاليد وأعراف المجتمع الذي كان يتحرّك فيه، ففي موقف كان يمكن فيه لمسلم بن عقيل أن يغتال ابن زياد رفض ذلك لاعتبارات شتّى.

            فقد روي أنّ شريك بن الأعور حين نزل في دار هانئ بن عروة مرض مرضاً شديداً، وحين علم عبيد الله بن زياد بذلك قدم لعيادته، وهنا اقترح شريك على مسلم أن يغتال ابن زياد، فقال: إنّما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك الله منه، وهو صائر إليّ ليعودني، فقم وادخل الخزانة حتّى إذا اطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله، ثمّ صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه؛ فإنّه لا ينازعنّك فيه أحد من النّاس.

            ولمس مسلم كراهية هانئ أن يُقتل عبيد الله في داره، ولم يأخذ مسلم باقتراح شريك، وحين خرج عبيد الله قال شريك بحسرة وألم لمسلم: ما منعك من قتله؟

            قال مسلم: منعني منه خلّتان؛ أحدهما كراهية هانئ لقتله في

            ____________________

            (١) مروج الذهب ٢ / ٨٩، والأخبار الطوال / ٢١٣، وإعلام الورى ١ / ٤٣٨.

            ١٦٠



            منزله، والاُخرى قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)( إنّ الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن )) (١) .
            الغدر بمسلم بن عقيل


            اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت دنيئة للقضاء على الوجود السّياسي، والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن عقيل على النظام الاُموي، وسارع للقضاء على مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل وصول الإمام الحسين (عليه السّلام)، وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة فدبّر خطّةً للتجسّس على تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له، واستطاع أن يكتشف مخبأه، وأن يعلم بمقرّه(٢) ، فكانت بداية تخاذل النّاس عن الصّمود في مواجهة الظلم.

            لقد استطاع الوالي الجديد عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ على هانئ بن عروة الذي آوى رسول الحسين (عليه السّلام) وأحسن ضيافته، واشترك معه في الرأي والتدبير، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل جرى بينهما، وألقى بجثمانه من أعلا القصر إلى الجماهير المحتشدة حوله، فاستولى الخوف والتخاذل على النّاس، وذهب كلّ إِنسان إلى بيته وكأنّ الأمر لا يعنيه(٣) .

            ولمّا علم مسلم بما جرى لهانئ، ورأى تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في أصحابه، ونادى مناديه في النّاس وسار بهم لمحاصرة القصر، واشتدّ الحصار على ابن زياد، وضاق به أمرُه، ولكنّه استطاع(*)

            ____________________

            (١) الأخبار الطوال / ١٨٧، ومقاتل الطالبيّين / ٩٨، وإعلام الورى ١ / ٤٢٨.

            (٢) إعلام الورى ١ / ٤٤٠، والأخبار الطوال / ١٧٨، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٩١، والفتوح - لابن أعثم ٥ / ٦٩، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٧١، وأنساب الأشراف / ٧٩.

            (٣) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٧١، والفتوح - لابن أعثم ٥ / ٨٣، وإعلام الورى ١ / ٤٤١.

            (*) هكذا وردت العبارة في الأصل، ولا يخفى ما فيها من سقط وقطع واضحين مع ما بعدها.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

            ١٦١



            لقد دسّ ابن زياد في أوساط النّاس أشخاصاً يُخَذِّلونهم، ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار، وعدم إراقة الدماء، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشّام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوى الثوار.

            واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّى بمَنْ بقي معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر، ولا مَنْ يَدُلُّه على الطريق، وأقفل النّاس أبوابهم في وجهه، فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً على باب دارها وكأنّها تنتظر شيئاً، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلى الصّباح، فرحّبت به وأدخلته بيتها، وعرضت عليه العشاء فأبى أن يأكل شيئاً.

            وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ جائزة لِمَنْ يخبره عنه، وما كاد الصّبح يتنفّس حتّى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر محمّد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل، وفور وصول النبأ إلى ابن زياد أرسل قوّة كبيرة من جنده(٢) بقيادة ابن الأشعث إلى المكان الذي فيه مسلم، وما أن سمع بالضجّة حتّى أدرك أنّ القوم يطلبونه فخرج إليهم بسيفه.

            وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار، ثمّ عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، مع إنّهم تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح، فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض فاُخذ أسيراً، وحُمل على بلغة

            ____________________

            (١) سيرة الأئمّة الاثني عشر، القسم الثاني / ٦٣، وإعلام الورى ١ / ٤٤١، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٩٢، والكامل في التأريخ ٣ / ٢٧١.

            (٢) جاء في « الإرشاد » أنّهم كانوا سبعين رجلاً.

            ١٦٢



            وانتزع الأشعث سيفه وسلاحه، وأخذوه إلى القصر فاُدْخِلَ على ابن زياد ولم يسلّم عليه، وجرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل (رضوان الله عليه) رابط الجأش، منطلقاً في بيانه، قويّ الحجّة، حتّى أعياه أمرُه، وانتفخت أوداجه، وجعل يشتم عليّاً والحسن والحسين، ثمّ أمر أجهزته أن يصعَدوا به إلى أعلا القصر ويقتلوه، ويرموا جسده إلى النّاس، ويسحبوه في شوارع الكوفة، ثمّ يصلبوه إلى جانب هانئ بن عروة. هذا وأهل الكوفة وقوف في الشّوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً.

            وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن يكتب إلى الحسين (عليه السّلام) يخبره بما جرى في الكوفة، وينصحه بعدم الشّخوص إليهم، فوعده ابن الأشعث بذلك، ولكنّه لم يفِ بوعده(١) .

            المبحث الخامس: حركة الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى العراق

            ونترك الكوفة يعبثُ بها ابن زياد ويتتبّع شيعة الإمام الحسين (عليه السّلام) ويطاردهم، ونعود إلى مكة لنتابع السّير مع ركب الحسين (عليه السّلام) حتّى الطفّ حيث المأساة الكبرى.

            قال المؤرّخون: كان خروج مسلم بن عقيل (رحمة الله عليه) بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة سنة ستين، وقتلُه يوم

            ____________________

            (١) يراجع في تفصيلاته أعيان الشّيعة ١ / ٥٩٢، إعلام الورى ١ / ٤٤٢، والكامل في التأريخ ٤ / ٣٢، والفتوح ٥ / ٨٨، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٨٠، ومقاتل الطالبيّين / ٩٢.

            ١٦٣



            الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة، وكان توجّه الحسين (صلوات الله عليه) من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة - وهو يوم التروية - بعد مُقامه بمكة بقيّة شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذي القعدة، وثماني ليال خلون من ذي الحجّة سنة ستين. وكان (عليه السّلام) قد اجتمع إليه مدةَ مُقامه بمكة نَفَرٌ من أهل الحجاز، ونفر من أهل البصرة انضمّوا إلى أهل بيته ومواليه.

            ولمّا أراد الحسين (عليه السّلام) التوجّه إلى العراق طاف بالبيت، وسعى بين الصّفا والمروة، وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرةً؛ لأَنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقْبَضَ عليه بمكة فيُنْفَذ به إلى يزيد بن معاوية، فخرج (عليه السّلام) مبادراً بأهله وولده ومَنْ انضمّ إليه من شيعته، ولم يكن خبر مسلم قد بلغه(١) .
            لماذا اختار الإمام الحسين (عليه السّلام) الهجرة إلى العراق؟


            رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع المجتمع الكوفي، وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون جزم، فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسين (عليه السّلام) الهجرة إلى العراق كان لأسباب منها:

            ١ - إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل جميع المسلمين بلا استثناء، إذ إنّنا لا نجد في النصوص التأريخية ما يدلّل على قيام قطر من الأقطار الإسلاميّة بمحاولة لمواجهة الحكم الأموي سوى العراق الذي وقف ضدّهم منذ أن ظهر الأمويّون في السّاحة السّياسية وحتى سقوطهم.

            ٢ - إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الأمويّين وفسادهم، والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد، بل كانت تمتدّ

            ____________________

            (١) الإرشاد ٢ / ٦٧.

            ١٦٤



            دعوته في العمق الزمني إلى أبعد من ذلك، ولكن لم نرَ نصوصاً تأريخية تدلّل على استجابة شعب من شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسين (عليه السّلام) ونهضته غير العراق، فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد النهضة ومواجهة الحكم الاُموي الفاسد.

            ٣ - لم يكن أمام الحسين (عليه السّلام) من خيار لاختيار بلد آخر غير العراق؛ لأنّ بقيّة الأقطار إمّا إنّها كانت مؤيّدة للاُمويين في توجّهاتهم وسياساتهم، أو خاضعة مقهورة، أو إنّها كانت غير متحضّرة وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام، أو غير عربية بحيث يصعب التعايش والتعامل معها ؛ ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده.

            ٤ - كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصّالحة التي بناها الإمام عليّ(عليه السّلام)، والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيت (عليهم السّلام)؛ فأراد الإمام الحسين (عليه السّلام) أن لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة، كما أراد أن يعمّق الإيمان في النفوس ويجذّر الولاء لأهل البيت (عليهم السّلام)، وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام)، وأصبح العراق القاعدة العريضة لنشر مبادئ وفضائل أهل البيت (عليهم السّلام) إلى العالم الإسلامي في السّنين اللاحقة.

            ٥ - إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السّلبي، إذ يتّخذه أعداء الإسلام وأهل البيت (عليهم السّلام) أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السّامية، ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية، في الوقت الذي كان يهدف الإمام (عليه السّلام) إلى إحياء حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية، وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين.

            وحتى على فرض اختياره (عليه السّلام) بلداً آخر فإنّ سلطة الاُمويّين ستنال منه وتقضي عليه

            ١٦٥



            دون أن يحقّق أهداف رسالته التي جاء من أجلها.

            ٦ - لما كان العراق يُصارع الاُمويّين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسين (عليه السّلام) وأفكاره، ومن ثمّ فضح بني اُميّة وتستّرهم بالشّرعية وغطاء الدين، وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا.

            ولعلّ هناك أسباباً لا ندركها، لاسيما ونحن نرى أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان على بيّنة واطلاع من نتيجة الصّراع، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية المحيطة بمسيرته، وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسّياسي للمجتمع الذي كان يتوجّه إليه من خلال وعيه السّياسي الحاذق، والنّصائح التي قدّمها إليه عدد من الشّخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء، كما نعتقد ؛ فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل النّاس، وتركهم نصرة إمامهم، ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة.
            تصريحات الإمام (عليه السّلام) عند وداعه مكة


            صدرت عن الإمام الحسين (عليه السّلام) عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكة والتوجّه إلى العراق، وكانت بعض هذه التصريحات تمثّل أجوبته(عليه السّلام) على مَنْ أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة، فنذكرُ منها هنا:

            ١ - روى عبد الله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قوله (عليه السّلام)( والله، لا يَدَعُونَنِي حتّى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من جوفي، فإذا فعلوا سُلِّط

            ١٦٦



            عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة )) (١) .

            ٢ - كان محمّد بن الحنفيّة في يثرب فلمّا علم بعزم الإمام (عليه السّلام) على الخروج إلى العراق توجّه إلى مكة، وقد وصل إليها في الليلة التي أراد (عليه السّلام) الخروج في صبيحتها إلى العراق، وقصده فور وصوله فبادره قائلاً: « يا أخي، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، ويساورني خوف أن يكون حالك حال مَنْ مضى، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعزّ مَنْ بالحرم وأمنعهم ».

            فأجابه الإمام (عليه السّلام)( خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية، فأكون الذي تُستباح به حرمةُ هذا البيت )) .

            فقال محمّد: « فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن، أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع النّاس به، ولا يقدر عليك أحد ».

            قال الحسين (عليه السّلام)( أنظر فيما قلت )) .

            ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى العراق وكان يتوضّأ فبكى، وأسرع محمّد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له: « يا أخي، ألم تعدني فيما سألتك؟ ».

            قال الإمام (عليه السّلام)( بلى، ولكنّي أتاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد ما فارَقْتُك وقال لي: يا حسين، اخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً )) .

            فقال محمّد: فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال وأنت خارج على مثل هذا الحال؟

            فأجابه الإمام (عليه السّلام)( قد شاء الله أن يراهن سبايا )) (٢) .

            ولم يكن اصطحاب الحسين (عليه السّلام) لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي، فقد كان العرب يصطحبون نساءَهم في الحروب، وكذا فعل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في غزواته فقد كان يقرع بين نسائه، أمّا بالنسبة إلى الإمام

            ____________________

            (١) الكامل في التأريخ ٤ / ٣٩.

            (٢) اللهوف على قتلى الطفوف / ٢٧، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٢، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٤.

            ١٦٧



            الحسين (عليه السّلام) فإنّ اصطحابه لعائلته في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قويّة على المسلمين لنصرته، فمَنْ تولّى الحسين(عليه السّلام) ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسين (عليه السّلام) فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، خاصّة إنّ الخلاف بزعم الاُمويّين إنّما هو لأجل الخلافة؟

            ٣ - ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها، جاء فيه( خُطَّ الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين. لن تشذّ عن رسول الله (عليهم السّلام) لُحْمَتُه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس؛ تَقِرُّ بهم عينُه، ويُنْجَزُ بهم وعدُه.

            مَنْ كان باذلاً فينا مهجتَه، وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه فَلْيَرْحَلْ معنا؛ فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى )) (١) .

            يُبَيِّنُ الإمام الحسين (عليه السّلام) في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد ؛ قياماً بتكليفه الإلهي، موضحاً سبب خروجِه من مكة، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً، داعياً إلى الالتحاق به مَنْ كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه، معلِناً أنّ الله تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيت (عليهم السّلام).
            خلاصة الثورة في رسالة


            تعليق


            • #21
              خلاصة الثورة في رسالة


              بوعي القائد الرسالي والفدائي العظيم والثائر من أجل العقيدة صمّم الإمام الحسين (عليه السّلام) بحنكة ودراية المسير من مكة إلى العراق، بعد أن أوضح جانباً كبيراً من أهدافه وأسباب نهضته، وقد تطايرت أخباره إلى

              ____________________

              (١) إحقاق الحق ١١ / ٥٩٨، وكشف الغمة ٢ / ٢٠٤.

              ١٦٨



              أرجاء العالم الإسلامي.

              وكتب الإمام (عليه السّلام) إلى بني هاشم في يثرب رسالةً يدعوهم فيها إلى الفرصة الأخيرة لنصرة الإسلام، والمبادئ والقيم الإلهية، والتألّق في سماء التضحية في الدنيا، وخلود الذكر الطيّب، والبقاء عنواناً للحقّ والعدل والإباء، والفوز في أعلا درجات الجّنة في الآخرة.

              فقد جاء فيها بعد البسملة( من الحسين بن عليّ إلى أخيه محمّد ومن قبله من بني هاشم. أمّا بعد، فإنّه مَنْ لحق بي منكم استشهد، ومَنْ لم يلحق بي لم يدرك الفتح. والسّلام )) (١) .

              ولمّا وردت رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى بني هاشم في يثرب، بادرت طائفة منهم إلى الالتحاق به؛ ليفوزوا بالفتح والشهادة بين يدي ريحانة رسول الله(صلّى الله عليه وآله)(٢) .
              ملاحقة السلطة للإمام (عليه السّلام)


              ولم يبعُد الإمام (عليه السّلام) كثيراً عن مكة حتّى لاحقته مفرزة من الشّرطة بقيادة يحيى بن سعيد، فقد بعثها والي مكة عمرو بن سعيد لصدّ الإمام (عليه السّلام) عن السّفر، وجرت بينهما مناوشات حتّى تدافع الفريقان، واضطربوا بالسّياط، وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قويّاً(٣) .
              في التنعيم


              ومضى ركب الإمام الحسين (عليه السّلام) لا يلوي على شيء، وفي طريقهم بمنطقة التنعيم(٤) صادفوا إبلاً قد يَمَّمت وَجْهَها شطرَ الشّام، وهي تحمل

              ____________________

              (١) مناقب آل أبي طالب ٤ / ٧٦، وبصائر الدرجات / ٤٨١، ودلائل الإمامة / ٧٧.

              (٢) راجع تأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام).

              (٣) الإرشاد ٢ / ٦٨.

              (٤) التنعيم: موضع بمكة في الحلّ يقع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة، جاء ذلك في معجم البلدان ٢ / ٤٩.

              ١٦٩



              الهدايا ليزيد بن معاوية قادمةً من اليمن، فاستأجر من أهلها جِمالاً لرحله وأصحابه، وقال لأصحابها( مَنْ أحبّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كِراءه وأحسنّا صحبته، وَمَنْ أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراءه على ما قطع من الطريق )) . فمضى معه قوم وامتنع آخرون(١) .
              في الصّفاح


              وواصل الإمام مسيره حتّى وصل الصّفاح(٢) فالتقى الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر النّاس خلفه، فقال الفرزدق: قلوبُهم معك والسّيوف مع بني اُميّة، والقضاء ينزل من السّماء. فقال أبو عبد الله(عليه السّلام)( صدقت، للهِ الأمر، واللهُ يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشّكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدَّ مَنْ كان الحقُّ نيّتَه والتقوى سريرَتَه )) (٣) .

              ثمّ واصل الإمام (عليه السّلام) مسيرته بعزم وثبات، ولم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل النّاس عنه وتجاوبهم مع الاُمويّين.
              كتاب الإمام (عليه السّلام) لأهل الكوفة


              ولمّا وافى الإمام الحسين (عليه السّلام) الحاجر من بطن ذي الرُّمّة - وهو أحد منازل الحجّ من طريق البادية - كتب كتاباً لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم إليهم، ولم يكن (عليه السّلام) قد وصله خبر ابن عقيل،

              ____________________

              (١) الإرشاد ٢ / ٦٨.

              (٢) الصّفاح: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش... جاء ذلك في معجم البلدان ٣ / ٤١٢.

              (٣) مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٠٣، البداية والنهاية - ابن كثير ٨ / ١٨٠، صفة مخرج الحسين (عليه السّلام) إلى العراق.

              ١٧٠



              هذا نصّه( من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم. فإنّي أحْمَدُ إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو.

              أمّا بعد، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع مَلَئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يُحسن لنا الصّنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شَخَصْتُ إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا (١) في أمركم وجِدّوا؛ فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته )) (٢) .

              وقد بعث (عليه السّلام) الكتاب بيد قيس بن مُسهر الصيداوي.
              إجراءات الاُمويّين


              سرى نبأ مسير الإمام (عليه السّلام) نحو الكوفة بين النّاس فاضطرب الموقف الاُموي، وشعرت السّلطات بالخوف والحرج، وتحدّثت الركبان بأنباء الثائر العظيم، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد، فأعدّ رجاله وجنده، ووضع خطّة لقطع الطريق أمام الحسين (عليه السّلام)، والحيلولة دون وصوله إلى الكوفة، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي، مكلّفاً إيّاه بتنفيذ المهمّة، فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر من خلاله على طريق مرور الإمام (عليه السّلام)، فنزل بالقادسية واتّخذها مقرّاً لقيادته.

              ____________________

              (١) انكمشوا: بمعنى أسرعوا.

              (٢) الإرشاد ٢ / ٧٠، والبداية والنهاية ٨ / ١٨١، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٩.

              ١٧١


              اعتقال الصيداوي وقتله


              انطلق قيس بن مُسهر الصيداوي برسالة الإمام نحو الكوفة، وحينما وصل القادسية اعتقله الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله: اصعد فسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ.

              فصعد قيس، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها النّاس، إنَّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته في الحاجر فأجيبوه. ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب وصلّى عليه، فأمر عبيد الله أن يُرمى به من فوق القصر، فرموا به فتقطّع(١) .

              وروي أنّه وقع على الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق، فجاء رجل يُقال له: عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فقيل له في ذلك وعِيبَ عليه، فقال: أردتُ أن اُريحه.
              مع زهير بن القين


              وانتهت قافلة الإمام إلى « زرود » فأقام (عليه السّلام) فيها بعض الوقت، وقد نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي وكان عثمانيّ الهوى، وقد حجّ بيت الله في تلك السّنة، وكان يُساير الإمام في طريقه ولا يُحبّ أن ينزل معه؛ مخافةَ الاجتماع به إلاّ إنّه اضطرّ إلى النزول قريباً منه، فبعث الإمام (عليه السّلام) إليه رسولاً يدعوه إليه، وكان زهير مع جماعته يتناولون الطعام، فأبلغه الرّسول مقالة الحسين فذُعر القوم وطرحوا ما في أيديهم من طعام، وكأنَّ على رؤوسهم الطير.

              فقالت له امرأته: سبحانَ الله! أيبعث إليك ابنُ بنت رسول الله ثمّ لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثمّ انصرفتَ.

              فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه، فأمر بفسطاطه وثقله وراحلته ومتاعه

              ____________________

              (١) الإرشاد ٢ / ٧١، ومثير الأحزان / ٤٢، والبداية والنهاية ٨ / ١٨١.

              ١٧٢



              فقُوِّضَ وحُمِل إلى الحسين (عليه السّلام)، ثمّ قال لامرأته: أنتِ طالق، الحقي بأهلك؛ فإنّي لا اُحبّ أن يُصيبَكِ بسببي إلاّ خير.

              وقال لأصحابه: مَنْ أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد. إنّي سأحدّثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنايم، فقال لنا سلمان الفارسي (رحمة الله عليه): أَفَرِحْتُم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قلنا: نعم. فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثمّ - والله - ما زال في القوم مع الحسين (عليه السّلام) حتّى قُتل (رحمة الله عليه)(١) .
              أنباء الانتكاسة تتوارد على الإمام (عليه السّلام)


              ها هي الكوفة تضطرب وتموج، والانتكاسة الخطيرة قد لاحت ملامحها، وبدأ ميزان القوى يميل لصالح السّلطة الاُمويّة، والوهن بدأ يدبّ والانحلال يسري في أوساط المعارضة، وبدأ الإرهاب والتجسس والرشوة تفعل فعلتها، فتلاشت المعارضة ونكص المبايعون، وقُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وقيس بن مُسهر الصيداوي، وسُجِنَ المختار بن عبيدة الثقفي، وانقلبت أوضاع الكوفة على أعقابها.

              وواصل الإمام الحسين (عليه السّلام) المسير، وليس لديه معلومات جديدة عن تطوّر الأحداث، فأرسل عبد الله بن يقطر إلى مسلم بن عقيل؛ ليستجلي الموقف، إلاّ إنّ الحسين اُخبرَ في الطريق في موضع يُدعى « الثعلبية » بانتكاسة الثورة واستشهاد مسلم بن عقيل، أمّا رسوله الثاني هذا إلى مسلم فقد وقع أسيراً أيضاً بيد جنود الحصين فنُقل إلى ابن زياد في الكوفة، وكان كرسول الحسين (عليه السّلام) السّابق مثالاً للصلابة والجرأة والإخلاص.

              ____________________

              (١) الإرشاد ٢ / ٧٢ - ٧٣، والكامل في التأريخ ٣ / ١٧٧، والأخبار الطوال / ٢٤٦.

              ١٧٣



              ووصل خبر أسر الرّسول واستشهاده إلى الإمام (عليه السّلام) في موضع يُدعى « زُبالة »، وهكذا راحت تتوارد على الإمام أنباء الانتكاسة، ولاحت له بوادر النكوص الخطير، وشعر بالخذلان ونقض العهد، فوقف في أصحابه وأهل بيته يبلغهم بما استجدّ من الحوادث، ويضع أمامهم الحقائق؛ ليكونوا على بصيرة من الأمر، فقال لهم( بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فإنَّه قد أتانا خبر فظيع قتلُ مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتُنا، فمَنْ أحبَّ منكم الانصراف فلينصرفْ في غير حرج ليس معه ذمام )) .

              فتفرّق النّاس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً، حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه، وإنَّما فعل ذلك لأنّه (عليه السّلام) علم أنّ الأعراب الذين اتّبعوه إنّما اتّبعوه وهم يظنّون أنَّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعةُ أهله، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون(١) . فلمّا كان السَحَر أمر أصحابَه فاستقَوْا ماءً وأكثروا، ثمّ ساروا.
              لقاء الإمام الحسين (عليه السّلام) مع الحرّ


              تعليق


              • #22

                لقاء الإمام الحسين (عليه السّلام) مع الحرّ


                وبينما كان الإمام (عليه السّلام) يسير بمَنْ بقي معه من أصحابه المخلصين وأهل بيته وبني عمومته إذا بهم يرون أشباحاً مقبلة من مسافات بعيدة، وظنّها بعضهم أشباح نخيل، ولكن لم يكن الذي شاهدوه أشجار النخيل ولكنّها جيوش زاحفة، فبعد قليل تبيّن لهم أنّ تلك الأشباح المقبلة عليهم هي ألف فارس من جند ابن زياد بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، أرسلها ابن زياد لتقطع الطريق على الحسين (عليه السّلام) وتسيّره كما يريد، ولمّا اقتربوا من ركب الحسين(عليه السّلام) سألهم عن المهمّة التي جاؤوا من أجلها، فقال لهم الحرّ: لقد

                ____________________

                (١) الإرشاد ٢ / ٧٥ - ٧٦، والبداية والنهاية ٨ / ١٨٢، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٥.

                ١٧٤



                اُمرنا أن نلازمكم، ونجعجع بكم حتّى ننزلكم على غير ماء ولا حصن، أو تدخلوا في حكم يزيد وعبيد الله بن زياد(١) .

                وجرى حوار طويل بين الطرفين وجدال لم يتوصّلا فيه إلى نتيجة حاسمة ترضي الطرفين، فلقد أبى الحرّ أن يمكِّنَ الحسينَ من الرجوع إلى الحجاز، أو سلوك الطريق المؤدّية إلى الكوفة، وأبى الحسين (عليه السّلام) أن يستسلم ليزيد وابن زياد(٢) .

                وكان ممّا قاله الحسين (عليه السّلام) وهو واقف بينهم خطيباً( أيّها النّاس، إنّي لم آتِكم حتّى أتتني كتبُكم وقدمِتْ عليّ رُسُلُكُم أنِ اقدم علينا؛ فإنّه ليس لنا إمام، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهُدى والحقِّ. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئنُ إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين اِنْصَرَفْتُ عنكم إلى المكانِ الذي جئتُ مِنه إليكم )) .

                فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحد منهم بكلمة، فقال للحرّ( أتريد أن تصلّيَ بأصحابك؟ )) .

                قال: لا، بل تُصلّي أنت ونصلّي بصلاتك، فصلّى بهم الحسين (عليه السّلام)(٣) .

                وبعد أن صلّى الإمام (عليه السّلام) بهم العصر خاطبهم بقوله( أمّا بعد، فإنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله تكونوا أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمّد، وأولى بولاية هذا الأَمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرينَ فيكم بالجوْرِ والعدوانِ، وإنْ أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم، وقدمت به عليَّ

                ____________________

                (١) تأريخ الطبري ٣ / ٣٠٥، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ٢٢٩، والبداية والنهاية ٨ / ١٨٦، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٧٥.

                (٢) تأريخ الطبري ٣ / ٣٠٥، مقتل الحسين (عليه السّلام) - للخوارزمي ١ / ٢٢٩، البداية والنهاية ٨ / ١٨٦، بحار الأنوار ٤٤ / ٣٧٥.

                (٣) الإرشاد ٢ / ٧٩، والفتوح - لابن أعثم ٥ / ٨٥، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ٥٩٦.

                ١٧٥



                رُسُلُكُم انصرفت عنكم )) (١) .

                فقال له الحرّ: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر.

                فقال الحسين (عليه السّلام) لبعض أصحابه( يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللّذين فيهما كتبهم إليَّ )) .

                فأخرجَ خرجين مملوءين صُحُفاً فنُثرت بين يديه. فقال له الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمِرْنا إذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتّى نُقدِمَكَ الكوفة على عبيد الله.

                فقال له الحسين (عليه السّلام)( الموت أدنى إليك من ذلك )) . ثمّ قال لأَصحابه( قوموا فاركبوا )) . فركبوا وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه( انصرفوا )) . فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين (عليه السّلام) للحرّ( ثَكَلَتْكَ اُمُّك! ما تريد؟! )) .

                قال له الحرّ: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر اُمّه بالثكل كائناً مَنْ كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر اُمِّك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه(٢) .
                النزول في أرض الميعاد


                أقلقت الأخبار عن تقدّم الإمام الحسين (عليه السّلام) نحو الكوفة ابن زياد وأعوان السّلطة الاُموية، فأسرع بكتابه إلى الحرّ بن يزيد الرياحي يطلب فيه أن لا يسمح بتقدّم الإمام حتّى تلتحق به جيوش بني اُميّة، وتلتقي به بعيداً عن الكوفة؛ خشية أن يستنهض أهلها ثانية، وليستغلّ ابن زياد ظروف المنطقه الصّعبة للضغط على الإمام (عليه السّلام) واستسلامه.

                ____________________

                (١) الفتوح - لابن أعثم ٥ / ٨٧، وتأريخ الطبري ٣ / ٢٠٦، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ٣٣٢.

                (٢) الإرشاد ٢ / ٨٠، تاريخ الطبري ٣ /٣٠٦.

                ١٧٦



                وبغباء المنحرف السّاذج، وجهالته ردّ حامل كتاب ابن زياد على أحد أصحاب الحسين (عليه السّلام) - يزيد بن مهاجر - مدافعاً عمّا جاء به قائلاً: أطعت إمامي ووفيت ببيعتي. فقال له ابن مهاجر: بل عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك، وكسبت العار والنار، وبئس الإمام إمامك، قال الله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ) (١) .

                وحالت جنود ابن زياد قافلة الإمام الحسين (عليه السّلام) دون الاستمرار في المسير، فقد منعهم جيش الحرّ بن يزيد، وأصرّوا على أن يدفعوا الإمام (عليه السّلام) نحو عراء لا خضرة فيها ولا ماء.

                وكان زهير بن القين متحمّساً لقتال جيش الحرّ قبل أن يأتيهم المدد من قوات بني اُميّة، فقال للحسين (عليه السّلام): « إنّ قتالهم الآن أيسر علينا عن قتال غيرهم »، ولكنّ الإمام (عليه السّلام) رفض هذا الرأي؛ لأنّ القوم لم يعلنوا حرباً عليه بعد، وما كان ذلك الموقف النبيل إلاّ لما كان يحمله الإمام من روح تتسع للاُمّة جمعاء، وأيضاً لعظيم رسالته التي يدافع عنها وقِيَمهِ التي كان يسعى إلى بنائها في الاُمّة رغم أنّها بدت تظهر العداء سافراً ضدّه، فقال (عليه السّلام)( ما كنت لأبدأهم بقتال )) .

                وكان نزول الإمام في كربلاء في يوم الخميس الثاني من محرّم سنة إحدى وستين(٢) ، ثمّ اقترح زهير على الإمام (عليه السّلام) أن يلجأوا إلى منطقة قريبة يبدو فيها بعض ملامح التحصين لمواجهة الجيش الاُموي لو نشبت المعركة.

                وسأل الإمام (عليه السّلام) عن اسم هذه المنطقة فقيل له: كربلاء، عندها دمعت

                ____________________

                (١) سورة القصص / ٤١.

                (٢) تأريخ الطبري ٣ / ٣٠٩، ومعجم البلدان ٤ / ٤٤٤، وإعلام الورى ١ / ٤٥١، والأخبار الطوال / ٢٥٢، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٨٠.

                ١٧٧



                عيناه وهو يقول( اللهمّ أعوذ بك من الكرب والبلاء )) .

                ثمّ قال( ذات كرب وبلاء، ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا معه فوقف، فسأل عنه فاُخبر باسمه فقال: ها هنا محطّ ركابهم، وها هنا مهراق دمائهم. فسُئل عن ذلك فقال: ثقل لآل بيت محمّد ينزلون ها هنا )) (١) .

                وقبض الإمام الحسين (عليه السّلام) قبضةً من ترابها فشمّها وقال( هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله أننّي اُقتل فيها، أخبرتني اُمّ سلمة )) (٢) .

                فأمر الإمام (عليه السّلام) بالنزول ونصب الخيام إلى حين يتّضح الأمر، ويتّخذ القرار النهائي لمسيرته.
                جيش الكوفة ينطلق بقيادة عمر بن سعد


                وفي تلك الأثناء خرج عمر بن سعد من الكوفة في جيش قدّرته بعض المصادر بثلاثين ألفاً، وبعضها بأكثر من ذلك، وفي رواية ثالثة: إنّ ابن زياد قد استنفر الكوفة وضواحيها لحرب الحسين، وتوعّد كلّ مَنْ يقدر على حمل السّلاح بالقتل والحبس إن لم يخرجْ لحرب الحسين.

                وكان من نتائج ذلك أن امتلأت السّجونُ بالشّيعة واختفى منهم جماعة، وخرج مَنْ خرج لحرب الحسين من أنصار الاُمويّين، وأهل الأطماع والمصالح الذين كانوا يشكّلون أكبر عدد في الكوفة، أمّا رواية الخمسة آلاف مقاتل التي تبنّاها بعض المؤرّخين فمع أنّها من المراسيل، لا تؤيّدها الظروف والملابسات التي تحيط بحادث من هذا النوع الذي لا يمكن لأحد

                ____________________

                (١) مجمع الزوائد ٩ / ١٩٢، والأخبار الطوال / ٢٥٣، وحياة الحيوان - للدميري ١ / ٦٠.

                (٢) تذكرة الخواص / ٢٦٠، ونفس المهموم / ٢٠٥، وناسخ التواريخ ٢ / ١٦٨، وينابيع المودّة / ٤٠٦.

                ١٧٨



                أن يقدِمَ عليه إلاّ بعد أن يُعِدَّ العُدَّة لكلّ الاحتمالات، ويتّخذ جميعاً لاحتياطات، وبخاصّة إذا كان خبيراً بأهل الكوفة وتقلّباتهم وعدم ثباتهم على أمر من الأُمور(١) .

                وتوالت قطعات الجيش الأموي بزعامة عمر بن سعد فأحاطت بالحسين (عليه السّلام) وأهله وأصحابه، وحالت بينهم وبين ماء الفرات القريب منهم، وقد جرت مفاوضات محدودة بين عمر بن سعد والإمام الحسين (عليه السّلام) أوضح فيها الإمام (عليه السّلام) لهم عن موقفه وموقفهم ودعوتهم له، وألقى عليهم كلّ الحجج في سبيل إظهار الحقّ، وبيّن لهم سوء فعلهم هذا وغدرهم ونقضهم للوعود التي وعدوه بها من نصرته وتأييده، وضرورة القضاء على الفساد.

                ولكن عمر بن سعد كان أداة الشرّ المنفّذة للفساد والظلم الاُموي، فكانت غاية همّته هي تنفيذ أوامر ابن زياد بانتزاع البيعة من الإمام (عليه السّلام) ليزيد أو قتله وأهل بيته وأصحابه(٢) ، متجاهلاً حرمة البيت النبوي، بل وحاقداً عليه كما جاء في رسالته لعمر: أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان(٣) .

                ____________________

                (١) سيرة الائمّة الاثني عشر القسم الثاني / ٦٨.

                (٢) الإرشاد - للمفيد ٢ / ٨٥، الفتوح ٥ / ٩٧، بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨٤، إعلام الورى ١ / ٤٥١، البداية والنهاية ٨ / ١٨٩، مقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ٢٤٥.

                (٣) إعلام الورى ١ / ٤٥٢.

                ١٧٩



                ١٨٠



                البحث السادس: ماذا جرى في كربلاء؟
                ليلة عاشوراء


                نهض عمر بن سعد إلى الحسين (عليه السّلام) عشية يوم الخميس لتسع مضين من المحّرم، وجاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين (عليه السّلام) فقال: أين بنو اُختنا؟ - يعني العباس وجعفر وعبد الله وعثمان أبناء عليّ (عليه السّلام) -. فقال الحسين (عليه السّلام)( أجيبوه وإن كان فاسقاً؛ فإنّه بعض أخوالكم )) . وذلك أنّ اُمّهم اُمّ البنين كانت من بني كلاب وشمر بن ذي الجوشن من بني كلاب أيضاً.

                فقالوا له: ما تريد؟

                فقال لهم: أنتم يا بني اُختي آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين والزموا طاعة يزيد.

                فقالوا له: لعنك الله ولعن أمانك! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟

                وناداه العباس ابن أمير المؤمنين: تبّت يداك، ولعن ما جئتنا به من أمانك يا عدوّ الله! أتأمرنا أن نترك أخانا وسيّدنا الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟!

                ثمّ نادى عمر بن سعد: يا خيل الله اركبي وبالجنّة أبشري. فركب النّاس ثمّ زحف ابن سعد نحوهم بعد العصر والحسين (عليه السّلام) جالس أمام بيته محتبٍ بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت اُخته زينب الصّيحة، فدنت من أخيها وقالت: يا أخي، أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟

                فرفع الحسين (عليه السّلام) رأسه فقال( إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) السّاعة في المنام فقال: إنّك تروح إلينا )) .

                فلطمت اُخته وجهها، ونادت بالويل، فقال لها الحسين (عليه السّلام)( ليس لكِ الويل يا اُخيّة، اسكتي رحمك الله )) .

                وقال له العباس: يا أخي، أتاك القوم.

                فنهض، ثمّ قال( يا عباس، اركب - بنفسي يا أخي أنت - حتّى تلقاهم وتقول لهم: ما بالكم، وما بدا لكم؟ وتسألهم

                ١٨١



                عمّا جاء بهم )) .

                فأتاهم في نحو من عشرين فارساً، منهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فسألهم، فقالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم.

                قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم.

                فوقفوا ورجع العباس إليه بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم، ويكفّونهم عن قتال الحسين (عليه السّلام).

                فلمّا أخبره العباس بقولهم قال له( ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة، وتدفعهم عنّا العشية؛ لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة، وندعوه ونستغفره؛ فهو يعلم أنّي كنت اُحبّ الصّلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار )) .

                فسألهم العباس ذلك، فتوقف ابن سعد، فقال له عمرو بن الحجّاج الزبيدي: سبحان الله! والله لو أنّهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم، فكيف وهم آل محمّد؟!

                وقال له قيس بن الأشعث بن قيس: أجبهم، لعمري ليصبحنّك بالقتال. فأجابوهم إلى ذلك.

                وجمع الحسين (عليه السّلام) أصحابه عند قرب المساء. قال الإمام زين العابدين (عليه السّلام)( فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: اُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا لك من الشّاكرين.

                أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً، ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يُريدون غيري .

                فقال له إخوته وأبناؤه، وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: ولِمَ نفعل

                ١٨٢



                ذلك؟! لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول أخوه العباس ابن أمير المؤمنين واتّبعه الجماعة عليه فتكلموا بمثله ونحوه .

                ثمّ نظر إلى بني عقيل فقال: حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم اذهبوا قد أذنت لكم.

                قالوا: سبحان الله! فما يقول النّاس لنا، وما نقول لهم؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرِب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا! لا والله ما نفعل ذلك، ولكنّنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتّى نردَ موردك؛ فقبّح الله العيش بعدك.

                وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدّو؟! وبِمَ نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟! لا والله لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي، وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ولم اُفارقك أو أموت معك.

                وقام سعيد بن عبد الله الحنفي فقال: لا والله يابن رسول الله، لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله)، والله لو علمت أنّي اُقتل فيك ثمّ أُحيا ثمّ اُحرق ثمّ اُذرّى يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونَك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟

                وقام زهير بن القين وقال: والله يابن رسول الله، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ألف مرّة وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن نفس هؤلاء الفتيان من إخوانك وولدك وأهل بيتك.

                وتكلّم بقيّة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً وقالوا: أنفسنا لك الفداء، نقيك بأيدينا ووجوهنا، فإذا نحن قُتلنا بين يديك نكون قد وفينا

                ١٨٣



                لربّنا، وقضينا ما علينا )) (١) .

                وأمر الحسين (عليه السّلام) أصحابه أن يُقرّبوا بين بيوتهم، ويُدخلوا الأطناب بعضها في بعض، ويكونوا بين يدي البيوت؛ كي يستقبلوا القوم من وجه واحد، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم إلاّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم.

                وقام الحسين (عليه السّلام) وأصحابه الّليل كلّه يُصلّون ويستغفرون ويدعون، وباتوا ولهم دويّ كدويّ النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً.

                قال بعض أصحاب الحسين (عليه السّلام): مرّت بنا خيل لابن سعد تحرسنا، وكان الحسين (عليه السّلام) يقرأ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) ، فسمعها رجل من تلك الخيل يُقال له: عبد الله بن سمير، فقال: نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم.

                فقال له برير بن خضير: يا فاسق، أنت يجعلك الله من الطيبين؟!

                فقال له: مَنْ أنت ويلك؟!

                قال: أنا برير بن خضير. فتسابّا، فلمّا كان وقت السّحر خفق الحسين (عليه السّلام) برأسه خفقة ثمّ استيقظ، فقال( رأيت كأنّ كلاباً قد جهدت تنهشني، وفيها كلب أبقع رأيته أشدّها عليّ، وأظنّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجلٌ أبرص )) (٢) .
                يوم عاشوراء


                انقضت ليلة الهدنة، وطلع ذلك اليوم الرهيب يوم عاشوراء، يوم الدم والجهاد والشّهادة، وطلعت معه رؤوس الأسنّة والرماح والأحقاد وهي مشرعة لتلتهم جسد الحسين (عليه السّلام)، وتفتك بدعاة الحقّ والثوّار من أجل الرسالة والمبدأ.

                ____________________

                (١) الإرشاد ٢ / ٩٣.

                (٢) راجع أعيان الشّيعة ١ / ٦٠١.

                ١٨٤



                نظر الحسين (عليه السّلام) إلى الجيش الزاحف، ولم يزل (عليه السّلام) كالطود الشّامخ، قد اطمأنت نفسه، وهانت دنيا الباطل في عينه، وتصاغر جيش الباطل أمامه، ورفع يديه متضرّعاً إلى الله تعالى قائلاً( اللهمّ أنت ثقتي في كلّ كَرْب، وأنت رَجائي في كلّ شِدّة، وأنت لي في كلّ أمر نَزَلَ بي ثقةٌ وعدَّةٌ، كم مِنْ همٍّ يَضْعَفُ فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذُلُ فيه الصّديق، ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك؛ رغبة منّي إليك عمّن سواك ففرّجته عنّي وكشفته، فأنت وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة )) (١) .
                خطاب الإمام (عليه السّلام) في جيش الكوفة


                تعليق


                • #23

                  خطاب الإمام (عليه السّلام) في جيش الكوفة


                  أخذ جيش عمر بن سعد يشدِّد الحصار على الإمام (عليه السّلام)، ولمّا رأى الحسين (عليه السّلام) كثرتهم وتصميمهم على قتاله إذا لم يستسلم ليزيد بن معاوية، تعمّم بعمامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وركب ناقته، وأَخذ سلاحه، ثمّ دنا من معسكرهم بحيث يسمعون صوته وراح يقول( يا أهل العراق - وجُلُّهُمْ يسمعون - فقال:أيّها النّاس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا؛ حتّى أعظَكم بما يحقّ لكم عليَّ، وحتى أُعْذَرَ إليكم، فإن أعطيتموني النّصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النّصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غُمَّةً، ثمّ اْقضوا إليَّ ولا تُنظِرونِ ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) )) .

                  ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وذكر الله تعالى بما هو أهله، وصلّى على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وعلى ملائكته وأنبيائه، فَلَمْ يُسْمَعْ متكلمٌ قطّ قبلَه ولا بعدَه أبلغُ في منطق منه.

                  ثمّ قال( أمّا بعد، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاكُ حُرمتي؟! ألَسْتُ ابنَ بنتِ نبيّكم وابنَ وصيِّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما جاء به من عند ربّه؟! أوَ ليس حمزةُ سيدُ الشهداء [عمّ أبي]؟! أوَ ليس جعفر الطيار في الجّنة بجناحين عَمّي؟! أو لم يبلغكم ما قال رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله)

                  ____________________

                  (١) الإرشاد ٢ / ٩٦.

                  ١٨٥



                  لي ولأخي: هذانِ سيّدا شباب أهل الجّنة؟ فإنْ صدقتموني بما أقول - وهو الحق - فوالله ما تعمدتُ كذباً منذ علمت أن الله يَمْقُتُ عليه أهله، وإنْ كذبتموني فإنَّ فيكم مَنْ إذا سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخِدْري، وسهل بنَ سعد السّاعدي، وزيد بن أرقم، وأنسَ بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟! ))

                  ثمّ قال لهم الإمام الحسين (عليه السّلام)( فإن كنتم في شكّ من هذا فتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟! فوالله ليس ما بين المشرق والمغرب ابنُ بنتِ نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبونني بقتيل منكم قَتَلْتُه، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟! ))

                  فأخذوا لا يكلمونه، فنادى( يا شبث بن ربعي، ويا حجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألَمْ تكتبوا إليَّ أنْ قد أينعت الثمار، واْخضرّ الجَنابُ، وإنما تقدِم على جند لك مجندة؟! )) .

                  فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن اِنزل على حكم بني عمّك. فقال له الحسين (عليه السّلام)( لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرُّ فِرار العبيد )) .

                  ثمّ نادى( يا عبادَ الله، إنّي عذْتُ بربّي ورَبِّكم أنْ ترجمُونِ. أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب )) (١) .

                  لقد أبى القوم إلاّ الإصرار على حربه والتمادي في باطلهم، وأجابوه بمثل ما أجاب به أهل مدين نبيَّهم كما حكى الله (عزّ وجلّ) عنهم في كتابه الكريم مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ) (٢) .
                  الحرّ يُخيّر نفسه بين الجّنة والنّار


                  وتأثر الحرّ بن يزيد الرياحي بكلمات الإمام الحسين (عليه السّلام) وندم على ما سبق منه معه، وراح يدنو بفرسه من معسكر الحسين تارة ويعود إلى موقفه أخرى، وبدا عليه القلق والاضطراب. وعند ما سُئل عن السّبب في ذلك قال:

                  ____________________

                  (١) الإرشاد ٢ / ٩٨، إعلام الورى ١ / ٤٥٩.

                  (٢) سورة هود / ٩١.

                  ١٨٦



                  والله، إنّي أُخيِّرُ نفسي بين الجّنة والنّار، وبين الدنيا والآخرة، ولا ينبغي لعاقل أن يختار على الآخرة والجنّة شيئاً.

                  ثمّ ضرب فرسه والتحق بالحسين (عليه السّلام)، ووقف على باب فسطاطه، فخرج إليه الحسين (عليه السّلام)، فانكبَّ عليه الحرّ يُقبّل يديه ويسأله العفو والصّفح، فقال له الحسين (عليه السّلام)( نعم، يتوب الله عليك وهو التّواب الرحيم )) .

                  فقال له الحرّ: والله لا أرى لنفسي توبة إلاّ بالقتال بين يديك حتّى أموتَ دونك.

                  وخطب الحرّ في أهل الكوفة، فوعظهم وذكّرهم موقفهم من الإمام (عليه السّلام)، ودعوتهم له، وحثّهم على عدم مقاتلة الإمام (عليه السّلام)، ثمّ مضى إلى الحرب فتحاماه النّاس، ثمّ تكاثروا عليه حتّى استشهد(١) .
                  المعركة الخالدة


                  حصّن الإمام (عليه السّلام) مخيّمه، وأحاط ظهره بخندق أوْقَد فيه النار؛ ليمنع المباغتة والالتفاف عليه من الخلف، وليحميَ النساء والأطفال من العدوان المحقّق.

                  نظر شمر بن ذي الجوشن إلى النار في الخندق فصاح: يا حسينُ، تعجّلت النار قبل يوم القيامة.

                  فردّ عليه( أنت أولى بها صِلِيّاً )) (٢) .

                  وحاول صاحب الحسين (عليه السّلام) مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فاعترضه الإمام ومنعه قائلاً( لا ترمه؛ فإنّي أكره أن أبدأهم )) (٣) .

                  ويقول المؤرخون: إنّ بعض أصحاب الإمام خطب بالقوم بعد خطبة الإمام الاُولى، وإنّ الإمام (عليه السّلام) أخذ مصحفاً ونشره على رأسه ووقف بإزاء القوم، فخاطبهم للمرّة الثانية بقوله( يا قوم، إنّ بيني وبينكم كتاب الله، وسنّة جدّي

                  ____________________

                  (١) الإرشاد ٢ / ٩٩، الفتوح ٥ / ١١٣، بحار الأنوار ٥ / ١٥.

                  (٢) مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٧٧.

                  (٣) مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٧٧، تاريخ الطبري ٣ / ٣١٨.

                  ١٨٧



                  رسول الله (صلّى الله عليه وآله) )) . ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة وما عليه من سيف النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ودرعه وعمامته، فأجابوه بالتصديق، فسألهم عمّا أقدمهم على قتله، قالوا: طاعةً للأمير عبيد الله ابن زياد.

                  فقال (عليه السّلام)( تبّاً لكم أيتها الجماعَةُ وترحاً! أحين استصرختمونا (١) والهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحَشَشْتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً (٢) لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلاّ - لكم الويلاتُ! - تركتمونا والسيفُ مشيم، والجأش طامن، والرأي لمّا يستحصفْ، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدَّبا (٣) ، وتداعيتم عليها كتهافُتِ الفراش، ثمّ نقضتموها، فسُحْقاً لكم يا عبيدَ الأُمّة، وشُذّاذَ الأحزابِ، ونبذة الكتابِ، ومحرّفي الكلِمِ، وعصبة الإثمِ، ونفثةَ الشّيطان، ومطفئي السُنَنِ،

                  ويْحَكم! أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟! أجل والله، غدرٌ فيكم قديم، وشجت عليه اُصولكم، وتأزّرت فروعكم، فكنتم أخبثَ ثمر شجىً للناظر، وأكلةً للغاصب. ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السِّلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطَهُرَتْ، واُنوفٌ حميةٌ، ونفوسٌ أبيّةٌ من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد، وخذلان الناصر )) .

                  ثمّ أنشدَ أبياتِ فروة بن مسيك المرادي:

                  [TR]
                  [TD="width: 236"](( فاِنْ نَهْزِمْ فهزّامون قِدْماً
                  [/TD]
                  [TD="width: 18"][/TD]
                  [TD="width: 233"]وإن نُهْزَمْ فغيْرُ مهزَّمينا
                  [/TD]
                  [/TR]
                  [TR]
                  [TD="width: 236"]وما إن طبَّنا جُبْنٌ ولكن
                  [/TD]
                  [TD="width: 18"][/TD]
                  [TD="width: 233"]منايانا ودولةُ آخرينا
                  [/TD]
                  [/TR]
                  [TR]
                  [TD="width: 236"]فَقُلْ للشامتين بنا أفيقوا
                  [/TD]
                  [TD="width: 18"][/TD]
                  [TD="width: 233"]سَيَلْقى الشامتون كما لقينا
                  [/TD]
                  [/TR]
                  [TR]
                  [TD="width: 236"]إذا ما الموتُ رَفَّعَ عن اُناس
                  [/TD]
                  [TD="width: 18"][/TD]
                  [TD="width: 233"]كلاكله أناخ بآخرينا (٤)
                  [/TD]
                  [/TR]
                  أما والله، لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يُركبُ الفرس حتّى تدور بكم دور الرَّحى، وتقلق بكم قلق المحور؛ عهد عهده إليّ أبي عن جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ

                  ____________________

                  (١) استصرختمونا: طلبتم نجدتنا.

                  (٢) إلباً: مجتمعين متضامنين ضدّنا.

                  (٣) الدَّبا: الجراد الصغير.

                  (٤) تاريخ ابن عساكر ٦٩ / ٢٦٥، اللهوف في قتلى الطفوف - ابن طاووس / ٥٩ و ١٢٤.

                  ١٨٨



                  وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ) (١) ،( تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٢) )) .

                  ثمّ رفع يديه نحو السّماء وقال( اللهمّ احبس عنهم قطر السّماء، وابعث عليهم سنينَ كسنيّ يوسف، وسلِّطْ عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبَّرةً؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربّنا عليك توكلّنا وإليك المصير )) (٣) .

                  كلّ ذلك وعمر بن سعد مُصرّ على قتال الحسين (عليه السّلام)، والإمام الحسين (عليه السّلام) يحاور وينصح ويدفع القوم بالتي هي أحسن. ولمّا لم يجدِ النصح مجدياً قال لا ابن سعد( أيْ عمر، أتزعم أنّك تقتلني ويولّيك الدعيّ بلاد الرّيّ وجرجان؟ والله لا تتهنّأ بذلك، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع؛ فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة، ويتخذونه غرضاً بينهم )) .

                  فصرف ابن سعد وجهه عنه مغضباً(٤) .

                  واستحوذَ الشّيطان على ابن سعد فوضع سهمه في كبد قوسه ثمّ رمى باتجاه معسكر الحسين (عليه السّلام) وقال: اشهدوا أنّي أوّلُ مَنْ رمى. ثمّ ارتمى النّاس وتبارزوا(٥) .

                  فخاطب الإمام (عليه السّلام) أصحابه قائلاً( قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه؛ فإنّ هذه السّهام رسل القوم إليكم )) (٦) .

                  ____________________

                  (١) سورة يونس / ٧١.

                  (٢) سورة هود / ٥٦.

                  (٣) مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٨٩ - ٢٨٦، مقتل الحسين - للخوارزمي ٢ / ٦، تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) / ٢١٦، راجع إعلام الورى ١ / ٤٥٨.

                  (٤) مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٨٩.

                  (٥) الإرشاد ٢ / ١٠١، اللهوف / ١٠٠، إعلام الورى ١ / ٤٦١.

                  (٦) مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٩٢.

                  ١٨٩



                  فتوجهوا إلى القتال كالأُسود الضارية لا يبالون بالموت، مستبشرين بلقاء الله (جلّ جلاله)، وكأنّهم رأوا منازلهم مع النّبيين والصّديقين وعباده الصّالحين، وكان لا يُقتل منهم أحد حتّى يقول: السّلام عليك يا أبا عبد الله، ويوصي أصحابه بأن يفدوا الإمام بالمهج والأرواح، واحتدمت المعركة بين الطرفين، ( فكان لا يُقْتَلُ الرجل من أنصار الحسين (عليه السّلام) حتّى يَقْتل العشرة والعشرين )(١) .

                  استمرت رحى الحرب تدور في ساحة كربلاء، واستمر معه شلاّل الدم المقدّس يجري ليتّخذ طريقه عبر نهر الخلود، وأصحابُ الحسين (عليه السّلام) يتساقطون الواحد تلو الآخر، وقد أثخنوا جيش العدو بالجراح، وأرهقوه بالقتل، فتصايح رجال عمر بن سعد: لو استمرت الحرب برازاً بيننا وبينهم لأتوا على آخِرنا، لنهجم عليهم مرّة واحدة، ولنرشقهم بالنّبال والحجارة.

                  فبدأ الهجوم والزحف نحو مَنْ بقي مع الحسين (عليه السّلام)، وأحاطوا بهم من جهات متعدّدة، مستخدمين كلّ أدوات القتل وأساليبه الدنيئة حتّى قتلوا أكثر جنود المعسكر الحسيني من الصحابة.

                  وزالت الشّمس وحضر وقت الصلاة، وها هو الحسين (عليه السّلام) ينادي للصّلاة، وقد تحوّل الميدان عنده محراباً للجهاد والعبادة، ولم يكن في مقدور السّيوف والأسنّة أن تحول بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة والعروج إلى حظائر القدس وعوالم الجمال والجلال.

                  ولم يزل يتقدّم رجل رجل من أصحابه فيقتل حتّى لم يبقَ مع الحسين (عليه السّلام) إِلاّ أهل بيته خاصّةً؛ فتقدّم ابنه عليّ بن الحسين (عليه السّلام) - واُمّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثّقفيّ - وكان من أصبح النّاس وجهاً،

                  ____________________

                  (١) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٧٦.

                  ١٩٠



                  فشدَّ على النّاس وهو يقول:

                  [TR]
                  [TD="width: 236"]أنا عليُّ بن الحسين بن علي
                  [/TD]
                  [TD="width: 18"][/TD]
                  [TD="width: 233"]نحن وبيت الله أولى بالنَّبي
                  [/TD]
                  [/TR]
                  تالله لا يحكم فينا ابنُ الدَّعي

                  ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتَّقون قتله، فبصر به مرّة بن منقذ العبديّ فقال: عليَّ إثم العرب إن مرَّ بي يفعل مثل ذلك إن لم أثكل أباه. فمرَّ يشدُّ على النّاس كما مرَّ في الأوّل، فاعترضه مرّة بن منقذ فطعنه فصُرع، واحتوشه القومُ فقطّعوه بأسيافهم، فجاء الحسين (عليه السّلام) حتّى وقف عليه فقال( قتل الله قوماً قتلوك يا بُنيَّ، ما أجرأَهم على الرّحمن وعلى انتهاك حرمة الرّسول! )) . وانهملت عيناه بالدُّموع، ثمّ قال( على الدُّنيا بعدك العفا! )) .

                  وخرجت زينب أخت الحسين مسرعةً تنادي: يا أُخيّاه وابن أُخيّاه، وجاءت حتّى أكبّت عليه، فأخذ الحسينُ برأسها فردَّها إلى الفسطاط، وأمر فتيانه فقال( احملوا أخاكم )) . فحملوه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط الّذي كانوا يقاتلون أمامه.

                  ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يُقال له: عمرو بن صبيح عبد الله بن مسلم بن عقيل (رحمه الله) بسهم، فوضع عبد الله يده على جبهته يتّقيه، فأصاب السّهم كفَّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها به فلم يستطع تحريكها، ثمّ انتحى عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله.

                  وحمل عبد الله بن قُطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) فقتله.

                  وحمل عامر بن نهشل التّيميّ على محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) فقتله.

                  وشدَّ عثمان بن خالد الهمدانيّ على عبد الرّحمن بن عقيل بن أبي طالب (رضي الله عنه) فقتله.

                  قال حميد بن مسلم: فإنّا لكذلك إذ خرج علينا غلام كأنَّ وجهه شقَّة

                  ١٩١



                  قمر، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع إحداهما، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ: والله لأشدَّنَّ عليه. فقلت: سبحان الله! وما تريد بذلك؟! دعه يكفيكه هؤلاء القوم الّذين ما يبقون على أحد منهم. فقال: والله لأشدَّنَّ عليه، فشدَّ عليه فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسّيف ففلقه، ووقع الغلام لوجهه فقال: يا عمّاه، فجلى(١) الحسين (عليه السّلام) كما يجلي الصقر، ثمّ شدَّ شدّة ليث أُغضب، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسّيف فاتّقاها بالسّاعد فأطنَّها من لدن المرفق، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر، ثمّ تنحّى عنه الحسين (عليه السّلام)، وحملت خيل الكوفة لتستنقذه فوطأته بأرجلها حتّى مات.

                  وانجلت الغبرة فرأيت الحسين (عليه السّلام) قائماً على رأس الغلام وهو يفحص برجله، والحسين يقول( بُعداً لقوم قتلوك، ومَنْ خصمهم يوم القيامة فيك جدُّك )) . ثمّ قال( عزَّ - والله - على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك، صوت - والله - كثرَ واتروه، وقلَّ ناصروه )) .

                  ثمّ حمله على صدره، فكأنِّي أنظر إلى رجلي الغلام تخطّان الأرض، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه عليِّ بن الحسين والقتلى من أهل بيته، فسألت عنه فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السّلام).

                  ثمّ جلس الحسين (عليه السّلام) أمام الفسطاط، فاُتي بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقّى الحسين (عليه السّلام) دمه، فلمّا ملأ كفَّه صبَّه في الأرض ثمّ قال( ربّ إن تكن حبست عنّا النّصر من السّماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظّالمين )) .

                  ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهله.

                  ____________________

                  (١) جلّى ببصره: إذا رمى به كما ينظر الصقر إلى الصيد. « الصحاح - جلا - ٦: ٢٣٠٥ ».

                  ١٩٢



                  ورمى عبد الله بن عقبة الغنويّ أبا بكر بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السّلام) فقتله.

                  فلمّا رأى العبّاس بن عليّ (رحمة الله عليه) كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من اُمِّه، وهم عبد الله وجعفر وعثمان: يا بني اُمِّي، تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله...

                  فتقدّم عبد الله فقاتل قتالاً شديداً، فاختلف هو وهانئ بن ثبيت الحضرميّ ضربتين فقتله هانئ (لعنه الله). وتقدّم بعده جعفر بن عليّ (عليه السّلام) فقتله أيضاً هانئ. وتعمّد خوليُّ بن يزيد الأصبحيّ عثمان بن عليّ (عليه السّلام) وقد قام مقام إخوته، فرماه بسهم فصرعه، وشدَّ عليه رجل من بني دارم فاحتزَّ رأسه.

                  وحملت الجماعة على الحسين (عليه السّلام) فغلبوه على عسكره، واشتدَّ به العطش، فركب المسنّاة(١) يريد الفرات وبين يديه العبّاس أخوه، فاعترضته خيل ابن سعد، وفيهم رجل من بني دارم، فقال لهم: ويلكم! حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكِّنوه من الماء.

                  فقال الحسين (عليه السّلام)( اللهمّ أظمئه )) .

                  فغضب الدّارميُّ ورماه بسهم فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين (عليه السّلام) السّهم وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدَّم، فرمى به ثمّ قال( اللهمَّ إنِّي أشكو إليك ما يُفعل بابن بنت نبيِّك )) . ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدَّ به العطش.
                  استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام)


                  لم يبقَ مع الإمام الحسين (عليه السّلام) سوى أخيه العباس الذي تقدّم إليه يطلب منه الإذن في قتال القوم فبكى الحسين وعانقه، ثمّ أذن له فكان يحمل على أهل الكوفة فينهزمون بين يديه كما تنهزم المعزى من الذئاب الضارية

                  _____________________

                  (١) المسناة: تراب عال يحجز بين النهر والأرض الزراعية. « تاج العروس - سنى - ١٠: ١٨٥ ».

                  ١٩٣



                  وضجّ أهل الكوفة من كثرة مَنْ قُتل منهم، ولمّا قُتل قال الحسين (عليه السّلام)( الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي )) (١) .

                  وفي رواية اُخرى: إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) اتجه إلى نهر الفرات وبين يديه أخوه العباس، فاعترضته خيل ابن سعد (لعنه الله)، وفيهم رجل من بني دارم، فقال لهم: ويلكم! حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكّنُوهُ من الماء.

                  فقال الحسين (عليه السّلام)( اللهمّ أظمئه )) .

                  فغضب الدارمي ورماه بسهم فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين (عليه السّلام) السّهم، وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه من الدم، فرمى به ثمّ قال( اللهمّ إنّي أشكو إليك ما يُفعل بابن بنت نبيّك )) .

                  ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدّ به العطش، وأحاط القوم بالعبّاس (عليه السّلام) فاقتطعوه عنه، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتل (رحمة الله عليه)(٢) .

                  ونظر الحسين (عليه السّلام) إلى ما حوله، ومدّ ببصره إلى أقصى الميدان فلم يرَ أحداً من أصحابه وأهل بيته إلاّ وهو يسبح بدم الشهادة، مقطّعَ الأوصال والأعضاء.

                  وهكذا بقي الإمام (عليه السّلام) وحده يحمل سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبين جنبيه قلب علي (عليه السّلام)، وبيده راية الحقّ البيضاء، وعلى لسانه كلمة التقوى.
                  الحسين (عليه السّلام) وحيداً في الميدان


                  حينما التفت أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) يميناً وشمالاً ولم يرَ أحداً يذبّ عن حرم رسول الله أخذ ينادي( هل من ذابٍّ يذبّ عنا؟ )) فخرج الإمام زين العابدين (عليه السّلام) من الفسطاط، وكان مريضاً لا يقدر أن يحمل سيفه واُمّ كلثوم تنادي خلفه: يا بُني ارجع. فقال( يا عمّتاه، ذريني اُقاتل بين يدي ابن

                  ____________________

                  (١) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٧٧، بحار الأنوار ٤٥ / ٤٤٠، المنتخب - للطريحي / ٤٣١.

                  (٢) الإرشاد ٢ / ١٠٩.

                  ١٩٤



                  رسول الله (صلّى الله عليه وآله) )) .

                  وإذا بالحسين (عليه السّلام) ينادي( يا اُمّ كلثوم، خذيه لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) )) (١) .

                  ويقول المؤرخون: إنّه لما رجع الحسين (عليه السّلام) من المسنّاة إلى فسطاطه تقدّم إليه شمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه فأحاطوا به، فأسرع منهم رجل يُقال له: مالك بن النسر الكندي فشتم الحسين (عليه السّلام)، وضربه على رأسه بالسيف، وكان عليه قلنسوة فقطعها حتّى وصل إلى رأسه فأدماه، فامتلأت القلنسوة دماً، فقال له الحسين (عليه السّلام)( لا أكلت بيمينك ولا شربت بها، وحشرك الله مع القوم الظالمين )) .

                  ثمّ ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشدَّ بها رأسَه، واستدعى قلنْسوة اُخرى فلبسها واعتمّ عليها، ورجع عنه شمر بن ذي الجوشن ومَنْ كان معه إلى مواضعهم، فمكث هنيئة ثمّ عاد وعادوا إليه وأحاطوا به(٢) .

                  حمل الإمام الحسين (عليه السّلام) سيفه وراح يرفع صوته على عادة الحروب ونظامها في البراز، وراح ينازل فرسانهم، ويواجه ضرباتهم ببسالة نادرة وشجاعة فذّة، فما برز إليه خصم إلاّ وركع تحت سيفه ركوع الذلّ والهزيمة.

                  قال حميد بن مسلم: فوالله، ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه! أَن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدَّ عليها بسيفه فتنكشف عن شماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب(٣) .

                  ولمّا عجزوا عن مقاتلته لجأوا إلى أساليب الجبناء ؛ فقد استدعى شمر الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة، وأمر الرماة أنْ يرموه، فرشقوه بالسّهام حتّى صار جسمُه كالقنفذ فأحجم عنهم، فوقفوا بإزائه، وخرجت أُخته زينب

                  ____________________

                  (١) بحار الأنوار ٤٥ / ٤٦.

                  (٢) الإرشاد ٢ / ١١٠، إعلام الورى ١ / ٤٦٧.

                  (٣) الإرشاد ٢ / ١١١، إعلام الورى ١ / ٤٦٨.

                  ١٩٥



                  إلى باب الفسطاط فنادت عمر بن سعد بن أبي وقاص: ويلك يا عمر! أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟!

                  فلم يجبها عمر بشيء، فنادت: ويحكم! أما فيكم مسلم؟! فلم يجبها أحد بشيء، ونادى شمر بن ذي الجوشن الفرسان والرجّالة فقال: ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ ثكلتكم أُمهاتكم!

                  فحملوا عليه من كلّ جانب؛ فضربه زُرعة بن شريك على كتفه اليسرى فقطعها، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه، وطعنه سنان بن أنس النخعي بالرمح فصرعه، وبدر إليه خُولى بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتزّ رأسه فأرعد، فقال له شمر: فتَّ الله في عضدك، ما لك ترعد؟!

                  ونزل شمر إليه فذبحه، ثمّ رفع رأسه إلى خولى بن يزيد فقال: احمله إلى الأمير عمر بن سعد.

                  ثمّ أقبلوا على سلب الحسين (عليه السّلام) فأخذ قميصه إِسحاق بن حَيْوَة الحضرمي، وأخذ سراويله أبجر بن كعب، وأخذ عمامته أخنس بن مرثد، وأخذ سيفه رجل من بني دارم، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله وسلبوا نساءه(١) .
                  امتداد الحمرة في السّماء


                  تعليق


                  • #24
                    امتداد الحمرة في السّماء


                    ومادت الأرض، واسودَّتْ آفاق الكون، وامتدت حمرة رهيبة في السّماء كانت نذيراً من الله لاُولئك السفّاكين المجرمين الذين انتهكوا جميع حُرُماتِ الله(٢) .

                    وصبغ فرس الحسين (عليه السّلام) ناصيته بدم الإمام الشّهيد المظلوم، وأقبل يركض مذعوراً نحو خيام الحسين (عليه السّلام)؛ ليعلم العيال بمقتله واستشهاده.

                    ____________________

                    (١) الإرشاد ٢ / ١١٢، إعلام الورى ١ / ٤٦٩.

                    (٢) راجع كشف الغمة ٢ / ٩، سير أعلام النبلاء ٣ / ٣١٢، تاريخ الإسلام - للذهبي / ١٥، حوادث سنة ٦١، إعلام الورى ١ / ٤٢٩.

                    ١٩٦



                    وقد صوّرت زيارة الناحية المقدّسة هذا المشهد المأساوي كما يلي( فلمّا نظرت النساء إلى الجواد مخزيّاً، والسّرج عليه ملويّاً؛ خرجن من الخدور ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات، وللوجوه سافرات، وبالعويل داعيات، وبعد العزّ مذَلَّلات، وإلى مصرع الحسين مبادرات )) .

                    ونادت عقيلة بني هاشم زينب بنت عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) وهي ثكلى: وا محمداه! وا أبتاه! وا علياه! وا جعفراه! وا حمزتاه! هذا حسين بالعراء، صريع بكربلاء، ليت السّماء أُطبقت على الأرض! وليت الجبال تدكدكت على السّهل(١) !
                    حرق الخيام وسلب حرائر النبوة


                    وعمد المجرمون اللئام إلى حرق خيام الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) غير حافلين بمَنْ في الخيام من بنات الرسالة وعقائل النبوّة. قال الإمام زين العابدين (عليه السّلام)( والله، ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة، وتذكّرت فرارهن يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين )) (٢) .

                    وعمد أراذل جيش الكوفة إلى سلب حرائر النبوّة وعقائل الرسالة، فنهبوا ما عليهنّ من حليّ وحلل، كما نهبوا ما في الخيام من متاع.
                    الخيل تدوس الجثمان الطاهر


                    لقد بانت خِسّة الاُمويّين لكلّ ذي عينين، وعبّرت عن مسخفي الوجدان الذي كانوا يحملونه، وماتت الإنسانيّة فتحوّلت الأجساد المتحركة إلى وحوش دنيئة لا تملك ذرّة من رحمة، ولا يزعها وازعٌ من بقيّة ضمير إنساني.

                    ____________________

                    (١) مقتل الحسين - للمقرم / ٣٤٦.

                    (٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام)، نقلاً عن تاريخ المظفري / ٢٣٨.

                    ١٩٧



                    فحين حاصرت جيوش الضلالة أهل بيت النبوّة (عليهم السّلام) في عرصات كربلاء كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد كتاباً وهو يبيّن له ما يستهدفه من نتيجة للمعركة، وما تنطوي عليه نفسه الشّريرة من حقد دفين على الرسالة والرسول (صلّى الله عليه وآله)، وكلّ ما يمتّ إليهما بصلة أو قرابة، وقد جاء فيه ما يلي:

                    أما بعد، فإنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السّلامة والبقاء، ولا لتعقد له عندي شافعاً، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم؛ فإنّهم لذلك مستحقّون، فإن قُتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره؛ فإنّه عاقّ مشاقّ، قاطع ظلوم، وليس في هذا أن يضرّ بعد الموت شيئاً، ولكن عليّ قول، لو قد قتلته فعلت هذا به(١) .

                    على أنّ ابن زياد كان من أعمدة الحكم الاُموي. ولا نعلم أوامر صدرت من أحد أفراده بحيث كانت ترعى حرمة أو تقديراً لمقام ابن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الذي لم يكن خافياً على أحد من الاُمويّين.

                    وهكذا انبرى ابن سعد بعد مقتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لينفّذ أوامر سيّده الحاقد ابن زياد، فنادى في أصحابه: مَنْ ينتدب للحسين فيوطئه فرسه؟

                    فانتدب عشرة، فداسوا جسد الحسين (عليه السّلام) بخيولهم حتّى رضّوا ظهره(٢) .
                    عقيلة بني هاشم أمام الجثمان العظيم


                    ووقفت حفيدة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) وابنة أمير المؤمنين (عليه السّلام) العقيلة زينب (عليها السّلام) على جثمان أخيها العظيم، وهي تدعو قائلةً: « اللهمّ تقبّل

                    ____________________

                    (١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٤، إعلام الورى ١ / ٤٥٣.

                    (٢) إعلام الورى ١ / ٤٧٠، مقتل الحسين - للخوارزمي ٢ / ٣٩.

                    ١٩٨



                    هذا القربان »(١) .

                    إنَّ الإنسانيّة لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ الوحيد في خلود تضحية الحسين (عليه السّلام) وأصحابه (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين).

                    ____________________

                    (١) حياة الإمام الحسين بن علي (عليه السّلام) ٣ / ٣٠٤.

                    ١٩٩



                    الفصل الثالث: نتائج الثورة الحسينيّة

                    تعليق


                    • #25
                      الفصل الثالث: نتائج الثورة الحسينيّة

                      انبعثت ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) من ضمير الاُمّة الحيّ، ومن وحي الرسالة الإسلاميّة المقدّسة، ومن البيت الذي انطلقت منه الدعوة الإسلاميّة للبشرية جمعاء، البيت الذي حمى الرسالة والرسول ودافع عنهما حتّى استقام عمود الدين. وأحدثت هذه الثورة المباركة في التأريخ الإنساني عاصفة تقوّض الذلّ والاستسلام، وتدكّ عروش الظالمين، وأضحت مشعلاً ينير الدرب لكلّ المخلصين من أجل حياة حرّة كريمة في ظلّ طاعة الله تعالى.

                      ولا يمكن لأحد أن يغفل عمّا تركته هذه الثورة من آثار في الأيام والسّنوات التي تلتها، رغم كلّ التشويه والتشويش الذي يحاول أن يمنع من سطوع الحقيقة لناشدها. وبالإمكان أن نلحظ بوضوح آثاراً كثيرة لهذه الثورة العظيمة عبر الأجيال وفي حياة الرسالة الإسلاميّة، بالرغم من أنّا لا نحيط علماً بجميعها طبعاً، وأهم تلك الآثار هي:
                      ١ - فضح الاُمويّين وتحطيم الإطار الديني المزيّف


                      بفعل ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) تكشّفت للناس حقيقة النزعة الاُموية المتسلّطة على الحكم، ونسفت تضحيات الثائرين كلّ الاُطر الدينية المزيّفة

                      ٢٠٠



                      التي استطاع الاُمويّون من خلالها تحشيد الجيوش للقضاء على الثورة، مستعينين بحالة غياب الوعي، وشيوع الجهل الذي خلّفته السّقيفة.

                      ونلمس هذا الزيف في قول مسلم بن عمرو الباهلي يؤنّب مسلم بن عقيل ربيب بيت النبوّة، والعبد الصالح لخروجه على يزيد الفاسق، ويفتخر بموقفه قائلاً: أنا مَنْ عرف الحقّ إذ تركته، ونصح الأُمّة والإمام إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته(١) .

                      وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي - من قادة الجيش الأموي - يحفّز النّاس لمواجهة الإمام الحسين (عليه السّلام) حين وجد منهم تردّداً وتباطؤاً عن الأوامر قائلاً: يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَنْ مرق من الدين وخالف الإمام(٢) .

                      فالدين في دعوى الاُمويّين طاعة يزيد ومقاتلة الحسين (عليه السّلام).

                      ولكن حركة الإمام الحسين (عليه السّلام) ورفضه البيعة وتضحياته الجليلة نبّهت الاُمّة، وأوضحت لها ما طُمس بفعل التضليل؛ فقد وقف الإمام الحسين (عليه السّلام) يخاطبهم ويوضّح مكانته في الرسالة والمجتمع الإسلامي( أمّا بعد، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها، وانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيّكم (صلّى الله عليه وآله)، وابن وصيه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟! )).

                      هذا بالإضافة إلى كلّ الخطب والمحاورات التي جرت في وضع متوتّر حسّاس أوضح للناس مكانة طرفي النزاع. ثمّ ما آلت إليه نتيجة المعركة من بشاعة في السّلوك والفكر؛ فاتّضحت خسّة الاُمويّين ودناءتهم ودجلهم.

                      ____________________

                      (١) تاريخ الطبري ٤ / ٢٨١.

                      (٢) المصدر السابق ٤ / ٣٣١.

                      ٢٠١



                      وكان الأثر البالغ في مواصلة الثورة الحسينيّة بدون سلاح دمويّ حين واصلت العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين (عليه السّلام) فضح الجرائم التي ارتكبها بنو اُميّة، ومن ثمّ توضيح رسالة الإمام الحسين (عليه السّلام).

                      إنّ جميع المسلمين متّفقون - على اختلاف مذاهبهم وآرائهم - بأنّ الموقف الحسيني كان يمثّل موقفاً إسلامياً شرعيّاً، وأنّ يزيد كان مرتدّاً ومتمردّاً على الإسلام والشّرع الإلهي والموازين الدينية.
                      ٢ - إحياء الرسالة الإسلاميّة


                      لقد كان استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) هزّة لضمير الاُمّة، وعامل بعث لإرادتها المتخاذلة، وعامل انتباه مستمر للمنحدَر الذي كانت تسير فيه بتوجيه من بني اُميّة، ومَنْ سبقهم من الحكّام الذين لم يحرصوا على وصول الإسلام نقيّاً إلى مَنْ يليهم من الأجيال.

                      لقد استطاع سبط الرّسول (صلّى الله عليه وآله) أن يُبيّن الموقف النظري والعملي الشّرعي للاُمّة تجاه الانحراف الذي يصيبها حينما يستبدّ بها الطّغاة، فهل انتصر الحسين (عليه السّلام) في تحقيق هذا الهدف؟

                      لعلّنا نجد الجواب فيما قاله الإمام زين العابدين (عليه السّلام) حينما سأله إبراهيم بن طلحة بن عبد الله قائلاً: مَنْ الغالب؟ قال (عليه السّلام)( إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم تعرف الغالب )) (١) .

                      لقد كان الحسين (عليه السّلام) هو الغالب إذ تحقق أحد أهم أهدافه السّامية بعد محاولات الجاهليّة لإماتته وإخراجه من معترك الحياة.

                      ____________________

                      (١) حياة الإمام الحسين بن علي (عليهما السّلام) ٣ / ٤٤٠ عن أمالي الشيخ الطوسي.

                      ٢٠٢


                      ٣ - الشعور بالإثم وشيوع النقمة على الاُمويّين


                      اشتعلت شرارة الشّعور بالإثم في نفوس النّاس، وكان يزيدها توهجاً واشتعالاً خطابات الإمام عليّ بن الحسين (عليهما السّلام)، وزينب بنت عليّ بن أبي طالب، وبقية أفراد عائلة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) التي ساقها الطّغاة الاُمويّون كسبايا من كربلاء إلى الكوفة فالشام.

                      فقد وقفت زينب (عليها السّلام) في أهل الكوفة حين احتشدوا يُحدّقون في موكب رؤوس الشهداء والسّبايا، ويبكون ندماً على ما فرّطوا وما حصل لآل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)؛ فأشارت إليهم أن اسكتوا فسكتوا، فقالت:

                      « أما بعد، يا أهل الكوفة أتبكون؟ فلا سكنت العبرة، ولا هدأت الرّنة، إنّما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا ساء ما تزرون، أي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، فلن ترحضوها بغسل أبداً، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، ومدار حجّتكم، ومنار محجّتكم، وهو سيد شباب أهل الجّنة؟ ».

                      وتكلّم عليّ بن الحسين (عليهما السّلام) فقال( أيّها النّاس، ناشدتكم الله، هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه؟ فتبّاً لكم لما قدمتم لأنفسكم، وسوأة لرأيكم! بأيّ عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي فلستم من اُمّتي؟ )) (١) .

                      وروي أيضاً أنّ يزيد بن معاوية فرح فرحاً شديداً، وأكرم عبيد الله بن زياد، ولكن ما لبث أن ندم، ووقع الخلاف بينه وبين ابن زياد حين علم بحال

                      ____________________

                      (١) حياة الإمام الحسين بن علي (عليهما السّلام) ٣ / ٣٤١ عن مثير الأحزان.

                      ٢٠٣



                      النّاس وسخطهم عليه، ولعنهم وسبّهم(١) .

                      ولقد كان الشّعور بالإثم يمثّل موقفاً عاطفياً مفعماً بالحرارة والحيوية والرغبة الشديدة بالانتقام من الحكم الاُموي؛ ممّا دفع بالكثير في الجماعات الإسلاميّة إلى العمل للتكفير عن موقفهم المتخاذل عن نصرة الإمام الحسين (عليه السّلام) بصيغة ثورة مسلحة لمواجهة الحكم الاُموي الظالم.

                      صحيح إنّه لا يمكننا أن نعتبر موقف المسلمين هذا موقفاً عقلياً نابعاً من إدراك فساد الحكم الاُموي وبعده عن الرسالة الإسلاميّة، إلاّ إنّه كان موقفاً صادقاً يصعب على الحاكمين السّيطرة عليه كالسيطرة على الموقف العقلاني، فكان الحكّام الظلمة وعبر مسيرة العداء لأهل البيت النبوي (عليهم السّلام) يحسبون له ألف حساب.
                      ٤ - إحياء إرادة الاُمّة وروح الجهاد فيها (٢)


                      كانت ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) السّبب في إحياء الإرادة لدى الجماهير المسلمة وانبعاث الروح النضالية، وهزّة قويّة في ضمير الإنسان المسلم الذي ركن إلى الخنوع والتسليم، عاجزاً عن مواجهة ذاته ومواجهة الحاكم الظالم الذي يعبث بالاُمّة كيف يشاء، مؤطّراً تحرّكه بغطاء ديني يحوكه بالدجل والنفاق، وبأيدي وعّاظ السّلاطين أحياناً، واُخرى بحذقه ومهارته في المكر والحيلة.

                      فتعلّم الإنسان المسلم من ثورة الحسين (عليه السّلام) أن لا يستسلم ولا يساوم، وأن يصرخ معبّراً عن رأيه ورغبته في حياة أفضل في ظلّ حكم يتمتّع بالشّرعية، أو على الأقل برضى الجماهير.

                      ____________________

                      (١) تأريخ الطبري ٤ / ٣٨٨، تأريخ الخلفاء / ٢٠٨.

                      (٢) للمزيد من التفصيل راجع ثورة الحسين ( النظرية، الموقف، النتائج ) - للسيّد محمّد باقر الحكيم / ١٠٠.

                      ٢٠٤



                      ونجد انطلاقات عديدة لثورات على الحكم الأموي وإن لم يُكتب لها النجاح إلاّ إنّها توالت حتّى سقط النظام. ورغم أنّ أهدافها كانت متفاوتة إلاّ إنّها كانت تستلهم من معين ثورة الحسين (عليه السّلام)، أو تستعين بالظرف الذي خلقته.

                      فمن ذلك ثورة التوّابين(١) التي كانت ردّة فعل مباشرة للثورة الحسينيّة، وثورة المدينة(٢) ، وثورة المختار الثقفي(٣) الذي تمكّن من محاكمة المشاركين في قتل الحسين (عليه السّلام)، ومجازاتهم بأفعالهم الشنيعة وجرائمهم الفضيعة، ثمّ ثورة مطرف بن المغيرة، وثورة ابن الأشعث، وثورة زيد بن عليّ بن الحسين (عليهما السّلام)(٤) ، وثورة أبي السّرايا(٥) .

                      لقد أحيت الثورة الحسينيّة روح الجهاد وأجّجتها، وبقي النبض الثائر في الاُمّة حيّاً رغم توالي الفشل اللاحق ببعض تلكم الثورات، إلاّ إنّ الاُمّة الإسلاميّة أثبتت حيويّتها، وتخلّصت من المسخ الذي كاد أن يطيح بها بأيدي الاُمويّين وأسلافهم.

                      ____________________

                      (١) تاريخ الطبري ٤ / ٤٢٦، ٤٤٩.

                      (٢) المصدر السابق ٤ / ٤٦٤.

                      (٣) المصدر السابق ٤ / ٤٨٧.

                      (٤) مقاتل الطالبيين / ١٣٥.

                      (٥) المصدر السابق / ٥٢٣.

                      ٢٠٥



                      من تراث الإمام الحسين (عليه السّلام)

                      تعليق


                      • #26
                        من تراث الإمام الحسين (عليه السّلام)
                        نظرة عامّة في تراث الإمام الحسين (عليه السّلام)


                        الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهما السّلام) قائد مبدئي، وأحد أعلام الهداية الربّانية الذين اختارهم الله لحفظ دينه وشريعته، وجعلهم اُمناء على تطبيقها، وطهّرهم من كلّ رجس ليصونوها من أيّ تحريف أو تحوير.

                        إنّ المحنة التي عاشها الأئمّة الثلاثة عليّ والحسن والحسين (عليهم السّلام) كانت أكبر محنة للعقيدة والأُمّة ؛ لأنّها قد بدأت بانحراف القيادة عن خطّ الرسالة، ولكنها لم تقتصر على الانحراف عن المبدأ الشّرعي في ممارسة الحكم فحسب، وإنّما كانت تمتد أبعادها إلى أعماق الأُمّة والشّريعة.

                        إنّ هذا الانحراف الخطير قد زاد في عزيمة هؤلاء الأئمّة الهداة، ممّا جعلهم يهتمّون بإحكام قواعد الشّريعة في الاُمّة وتعليمها وتربيتها بما يحول دون تسرّب الانحراف إليها بسرعة، وبما يحول دون تفتيتها وتمزيق قواها.

                        ومن هنا كانت تربية الجماعة الصّالحة، والسّهر على تنشئتها والاهتمام بقضاياها أمراً في غاية الأهمّية، ويظهر للمتتبع والمحقّق عظمة ذلك فيما لو أراد أن يقارن بين مواقف المسلمين تجاه أهل بيت الرّسول (صلّى الله عليه وآله) خلال خمسين عاماً بعد وفاة الرّسول (صلّى الله عليه وآله).

                        ٢٠٦



                        ومن هنا كان التراث الذي تركه لنا كلّ من الإمام المرتضى والحسن المجتبى والحسين الشّهيد بكربلاء تراثاً عظيماً ومهمّاً جدّاً.

                        حيث نلمس الغناء في هذه الثروة الفكرية والعلمية التي وصلتنا عنهم (عليهم السّلام).

                        وللمتتبع أن يراجع موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السّلام)، ووثائق الثورة الحسينيّة، وبلاغة الحسين، ومجموعة خطبه ورسائله ؛ ليقف على عظمة هذه الثروة الكبرى وقفة متأمّل ومستفيد.

                        وها نحن نستعرض صوراً من اهتمامات هذا الإمام العظيم فيما يلي من بحوث:
                        في رحاب العقل والعلم والمعرفة


                        قال (عليه السّلام):

                        ١ -(( خمس مَنْ لم تكن فيه لم يكن فيه كثير مستمتع؛ العقل، والدين، والأدب، والحياء، وحسن الخلق )) (١) .

                        ٢ - وسُئل عن أشرف النّاس، فقال( مَنْ اتّعظ قبل أن يوعَظ، واستيقظ قبل أن يوقِظ )) (٢) .

                        ٣ - وقال (عليه السّلام)( لا يكملُ العقلُ إلاّ باتّباع الحقّ )) (٣) .

                        ٤ -(( العاقل لا يُحدِّث مَنْ يخاف تكذيبَه، ولا يَسأل مَنْ يخاف منعَه، ولا يثِقُ بمَنْ يخافُ غدرَه، ولا يرجو مَنْ لا يوثقُ برجائه )) (٤) .

                        ٥ -(( العلم لقاحُ المعرفة، وطول التجارب زيادةٌ في العقل، والشّرف التقوى،

                        ____________________

                        (١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٧٤٣ عن حياة الإمام الحسين ١ / ١٨١.

                        (٢) المصدر السابق / ٧٤٣ عن إحقاق الحق ١١ / ٥٩٠.

                        (٣) المصدر السابق / ٧٤٢ عن أعلام الدين / ٢٩٨. وورد هذا النص عن الإمام علي (عليه السّلام) أيضاً.

                        (٤) المصدر السابق / ٧٤٢ عن حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ١٨١.

                        ٢٠٧



                        والقنوعُ راحةُ الأبدان، ومَنْ أحبَّكَ نهاكَ، ومَنْ أبغضك أغراك )) (١) .

                        ٦ -(( من دلائل العالم انتقادُه لحديثهِ، وعلمه بحقائق فنونِ النظر )) (٢) .

                        ٧ -(( لو أنّ العالِمَ كلّ ما قال أحْسَنَ وأصابَ لأوْشَكَ أن يجنّ من العُجْبِ، وإنّما العالِمُ مَنْ يكثرُ صَوابُه )) .

                        ٨ - وفي دعاء عرفةَ للإمام الحسين (عليه السّلام) مقاطع بديعة ترتبط بالمعرفة البشرية وسُبُل تحصيلها، وقيمة كلّ سبيل وما ينبغي للعاقل أن يسلكه من السبل الصحيحة والموصلة إلى المقصود، نختار منها نماذج ذات علاقة ببحثنا هذا.

                        قال (عليه السّلام):

                        أ -(( إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟ إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي؟! )) .

                        ب -(( إلهي علمتُ باختلاف الآثار وتنقّلات الأطوار أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليَّ في كلّ شيء حتّى لا أجهلك في شيء )) .

                        ج -(( إلهي تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار؛ فَاجمعني عليك بحذمة توصلني إليك، كيف يُستَدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكونُ لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكونَ هو المظهِرَ لك؟! متى غبتَ حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بَعُدْتَ حتّى تكونَ الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً )) .

                        د -(( إلهي أمرتَ بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليك بكسوةِ الأنوار وهداية الاستبصار؛ حتّى أرجعَ إليك منها كما دخلتُ إليك منها، مَصونَ السرِّ عن النظرِ إليها، ومرفوع الهمّة عن الاعتمادِ عليها )) .

                        هـ -(( منك أطلُبُ الوصول إليك، وبك استدلُّ عليك، فاهدني بنورك إليك، وأقمني

                        ____________________

                        (١) موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السّلام) / ٧٤٢ و ٧٤٣ عن بحار الأنوار ٧٨ / ١٢٨ ح ١١.

                        (٢) المصدر السابق.

                        ٢٠٨



                        بصدْق العبودّية بين يديك )) .

                        و -(( إلهي علّمني من علمك المخزون، وصُنّي بستْرك المصون. إلهي حققّني بحقايق أهلِ القُرب )) .

                        ز -(( إلهي أخرِجني من ذُلِّ نفسي، وطهّرني مِن شكّي وشركي قبل حلول رمسي )) .

                        ح -(( إلهي إنّ القضاء والقدر يُمنيّني، وإنّ الهوى بوثائق الشهوة أسرني، فكن أنت النصير لي حتّى تنصرني وتبصرني )).

                        ط -(( أنتَ الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوْليائك حتّى عرفوك ووحَّدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سِواك ولم يلجأوا إلى غيرك، أنت المُؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم. ماذا وجد مَنْ فقدكَ؟! وما الذي فقد مَنْ وجدك؟! )) .

                        ي -(( أنت الذي لا إله غيرك، تعرّفت لكلّ شيء فما جهلك شيءٌ، وأنت الذي تعرّفت إليَّ في كلّ شيء فرأيْتُك ظاهراً في كلّ شيء. كيف تخفى وأنت الظاهرُ؟ أم كيف تغيبُ وأنت الرقيبُ الحاضِرُ؟! )) (١) .
                        في رحاب القرآن الكريم


                        لقد اعتنى أهل البيت الطاهرون (عليهم السّلام) بالقرآن الكريم اعتناءً وافراً، فعكفوا على تعليمه وتفسيره، وفقه آياته وتطبيقه وصيانته عن أيدي العابثين والمحرّفين، وتجلّت عنايتهم به في سلوكهم وهديهم وكلامهم.

                        وقد اُثرت عن الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) كلمات جليلة حول التفسير والتأويل والتطبيق، وهي جديرة بالمطالعة والتأمّل نختار نماذج منها:

                        أ - قال (عليه السّلام)( كتاب الله (عزّ وجلّ) على أربعة أشياء؛ على العبارة والإشارة، واللطائف والحقائق؛ فالعبارةُ للعوام، والإشارة للخواص، واللطائفُ للأولياء،

                        ____________________

                        (١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٨٠٣ - ٨٠٦ عن إقبال الأعمال / ٣٣٩.

                        ٢٠٩



                        والحقائق للأنبياء )) (١) .

                        ب -(( مَنْ قرأ آيةً من كتاب الله في صلاته قائماً يُكتَب له بكلّ حرف مِئةُ حَسَنَة، فإن قَرَأها في غير صلاة كتب اللهُ له بكلّ حرف عَشْراً، فإن استمَعَ القرآنَ كان له بكلّ حرف حَسَنةٌ، وإن خَتَمَ القرآنَ ليلاً صلّت عليه الملائكة حتّى يُصبِحَ، وإن ختَمَه نهاراً صلّت عليه الحفَظَةُ حتّى يُمسيَ، وكانت له دعوةٌ مستجابَةٌ، وكان خيراً له ممّا بين السّماء والأرضِ )) (٢) .

                        ج - وعنه (عليه السّلام) في تفسير قوله تعالى تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ ) يعني بها(( أرض لم تُكتسب عليها الذنوب، بارزة ليست عليها جبال ولا نبات كما دحاها أوّل مرّة )) (٣) .

                        د - وسأله رجل عن معنى (كهيعص)، فقال له( لو فسّرتُها لك لمشيت على الماء )) (٤) .

                        هـ - وقال النصرُ بن مالك له: يا أبا عبد الله، حَدِّثني عن قول الله (عزّ وجلّ)( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) .

                        قال( نحن وبنو اُمية اختصمنا في الله (عزّ وجلّ)؛ قلنا: صدق الله، وقالوا: كذب اللهُ. فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة )) (٥) .

                        و - وفي قوله تعالى الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ ) ، قال (عليه السّلام)( هذه فينا أهل البيت )) (٦) .

                        ز - في قوله تعالى قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، قال (عليه السّلام)( إنّ القرابة الّتي أمَرَ اللهُ بصلتها، وعظم حقّها، وجعل الخير فيها قرابتنا أهل البيت

                        ____________________

                        (١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٥١ عن جامع الأخبار / ٤٨.

                        (٢) المصدر السابق / ٥٥١، عن الكافي ٢ / ٦١١ ح ٣.

                        (٣) المصدر السابق / ٥٦٠ عن تفسير البرهان ٢ / ٣٢٣.

                        (٤) المصدر السابق / ٥٦١ عن ينابيع المودّة / ٤٨٤.

                        (٥) المصدر السابق / ٥٦٣ عن حياة الحسين ٢ / ٢٣٤.

                        (٦) المصدر السابق / ٥٦٤ عن بحار الأنوار ٢٤ / ١٦٦.

                        ٢١٠



                        الذين أوجب حقَّنا على كلّ مسلم )) (١) .

                        ح - وفسّر النعمة في قوله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (( بما أنعم الله على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من دينهِ )) (٢) .

                        ط - وفسّر الصَمَد بقوله( إنّ الله قد فَسَّرَهُ بقوله: ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) )) (٣) .

                        ي - وقال( الصمد: الذي لا جوف له. والصمد: الذي قد انتهى سؤدده. والصمد: الذي لا يأكل ولا يشرب. والصمد: الذي لا ينام. والصمد: الدائم الذي لم يزل ولا يزال )) (٤) .

                        ك - وروي أنّ عبد الرحمن السلمي علّم ولد الحسين (عليه السّلام) سورة الحمد، فلمّا قرأها على أبيه أعطاه (عليه السّلام) ألف دينار، وألف حُلّة، وحشا فاه دُرّاً، فقيل له في ذلك، فقال (عليه السّلام)( وأين يقع هذا من عطائه؟ )) ، يعني بذلك تعليمه القرآن(٥) .
                        في رحاب السُنّة النبويّة المباركة


                        لقد عاصر الحسين جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وعاش في كنف الوحي والرسالة، وارتضع من ثدي الإيمان، فحمل هموم الرسالة الخاتمة كاُمّه وأبيه وأخيه، وعلم أنّ سنة الرّسول وسيرته هي المصدر الثاني للإشعاع الرسالي، وأيقن بضرورة الاهتمام بهما، وضرورة الوقوف أمام مؤامرات التحريف والتضييع، ومنع التدوين التي تزعّمها جملة من كبار الصّحابة، وكيف واجهوا

                        ____________________

                        (١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٦٥ عن بحار الأنوار ٢٣ / ٢٥١ ح ٣٧.

                        (٢) المصدر السابق / ٥٦٧ عن المحاسن ١ / ٣٤٤ ح ١١.

                        (٣) المصدر السابق / ٥٦٨ عن التوحيد / ٩٠ ح ٥، ثمّ نقل تفسيرها بشكل تفصيلي فراجع.

                        (٤) المصدر السابق / ٥٦٩ عن معادن الحكمة ٢ / ٥١.

                        (٥) المصدر السابق / ٨٢٧ عن بحار الأنوار ٤٤ / ١٩١.

                        ٢١١



                        جدّه بكلّ صلف؛ حذراً من انكشاف الحقائق التي تحول دون وصولهم للسّلطة، أو تعكّر عليهم صفوها.

                        ومن هنا نجد الحسين (عليه السّلام) يقف بكلّ شجاعة أمام هذا التآمر على الدين، ويُضحّي بأغلى ما لديه من أجل إحياء شريعة جدّه سيّد المرسلين، محقّقاً شهادة جدّه الخالدة في حقّه( حسين منّي وأنا من حسين )) ،(( ألا وإنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النّجاة )) .

                        وهكذا نجد في تراثه الرائع اعتناءه البليغ بنقل السّيرة النبويّة الشّريفة، والتحديث بسنّته والعمل بها وإحيائها، ولو بلغ مستوى الثورة على مَنْ يتسلّح بها لمسخها وتشويهها(*) .

                        قال (صلوات الله عليه):

                        ١ -(( كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحسن ما خلق اللهُ خلْقاً )) (١) .

                        ٢ - وروى الحسين (عليه السّلام) - كأخيه الحسن (عليه السّلام) - وصفاً دقيقاً للرسول (صلّى الله عليه وآله)، وهديه في سيرته مع نفسه وأهل بيته وأصحابه، ومجلسه وجلسائه، أخذاه من أبيهما علي (عليه السّلام) وهو الذي ربّاه الرّسول (صلّى الله عليه وآله) منذ نعومة أظفاره حتّى التحاقه بالرفيق الأعلى. ونشير إلى مقطع من هذه السّيرة:

                        قال الحسين (عليه السّلام)( فسألته عن سكوت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: كان سكوته على أربع؛ على الحلم والحذر، والتقدير والتفكّر؛ فأمّا التقدير ففي تسوية النظر والاستماع بين النّاس؛ وأمّا تفكّره ففيما يبقى أو يفنى. وجمع له الحلم في الصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزّه، وجُمع له الحذر في أربع؛ أخذه بالحَسَن ليُقتدى به، وتركه القبيح ليُنتهى عنه، واجتهاده الرأي في صلاح اُمّته، والقيام في ما جُمع له من خير

                        ____________________

                        (*) هكذا وردت هذه العبارة الأخيرة من المقطع الأخير هنا، ولم يتضح المراد منها، ولعلها كانت ضمن جملة في مكان آخر ولكنها جاءت هنا سهواً أثناء النسخ.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

                        (١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٧١، عن كنز العمّال ٧ / ٢١٧.

                        ٢١٢



                        الدنيا والآخرة ) )) (١) .

                        ٣ - وروى أيضاً أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أصبح وهو مهموم، فقيل له: ما لَكَ يا رسول الله؟ فقال( إنّي رأيت في المنام كأنّ بني اُميّة يتعاورون منبري هذا )). فقيل: يا رسول الله، لا تهتم؛ فإنّها دُنيا تنالهُمُ. فأنزل الله: ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ... ) (٢) .

                        ٤ - وروى أيضاًأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان إذا أكل طعاماً يقول: (( اللهمّ بارك لنا فيه، وارزقنا خيراً منه ))، وإذا أكل لَبَناً أو شَرِبَه يقول( اللهمّ بارك لنا فيه وارزقنا منه )) (٣) .

                        وكان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا يفصل بينهما كما يَستَطْعِمُ المسكينُ(٤) .

                        ٥ - وسُئل عن الأذان وما يقول النّاس فيه، قال( الوحي ينزل على نبيّكم وتزعمون أنّه أخَذَ الأذانَ عن عبد الله بن زيد؟! بل سمعت أبي عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) يقول: أهبَطَ الله (عزّ وجلّ) ملكاً حين عُرِج برسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأذّن مثنى مثنى، وأقامَ مثنى مثنى، ثمّ قال له جبرئيل: يا محمّد، هكذا أذان الصلاة )) (٥) .

                        ٦ - وروى أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعث مع عليّ (عليه السّلام) ثلاثين فرساً في غزاة السلاسل، فقال( يا عليّ، أتلو عليك آيةً في نفقة الخيل: ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً ) .يا علي، هي النفقة على الخيل ينفق الرجلُ سّراً وعلانيةً )) (٦) .

                        وقد نقل (عليه السّلام) حوادث عصر الرّسول (صلّى الله عليه وآله) ممّا رآه مباشرة، أو سمعه

                        ____________________

                        (١) موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السّلام) / ٥٧١ - ٥٧٥ عن مجمع الزوائد ٨ / ٢٧٤، ومعاني الأخبار / ٧٩.

                        (٢)المصدر السابق / ٥٧٥ عن الغدير ٨ / ٢٤٨.

                        (٣) المصدر السابق / ٥٧٨ عن عيون أخبار الرضا ٢ / ٤٢.

                        (٤) المصدر السابق عن بحار الأنوار ١٦ / ٢٨٧.

                        (٥) المصدر السابق / ٦٨٣ عن مستدرك الوسائل ٤ / ١٧.

                        (٦) موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السّلام) / ٧١٠ عن مستدرك الوسائل ٨ / ٢٠٣.

                        ٢١٣



                        عن اُمّه أو أبيه، وهما المعصومان من الزلل والمعتمدان في النقل(١) .
                        في رحاب أهل البيت (عليهم السّلام)


                        تعليق


                        • #27

                          في رحاب أهل البيت (عليهم السّلام)


                          لقد دلّ حديث الثقلين - المتواتر والمقبول لدى عامّة المسلمين - على أنّ خلود الإسلام رهن الأخذ بركنين مُتلازمين وهما؛ القرآن الكريم وعترة النبيّ المختار (صلوات الله عليهم أجمعين)؛ فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا الحوض على النبيّ (صلّى الله عليه وآله). فلا بدّ للمسلمين من التمسّك بهما ليصونوا أنفسهم عن الضلال في كلّ عصر وزمان.

                          ومن هنا جهد أعداء الإسلام القدامى على التفريق بين هذين الركنين ؛ تارةً بدعوى تحريف القرآن لفظاً أو معنىً، واُخرى بالمنع عن تفسيره أو تطبيقه، وثالثةً بانتقاص العترة، ورابعةً بعزلهم عن ممارسة دورهم السّياسي والاجتماعي التثقيفي، وخامسةً بطرح البديل عنهم ورفع شعار الاستغناء عنهم وعن علمهم ودرايتهم.

                          والأئمّة المعصومون المأمونون - على سلامة الرسالة الإسلاميّة بنص من الوحي الإلهي - كثّفوا جهودهم، وركّزوا جهادهم على صيانة هذين الأساسين من أيدي العابثين وإن كلّفهم ذلك أنفسهم وأموالهم، بل كلّ ما يملكون تقديمه فداءً للرسالة المحمّدية.

                          ونشير إلى جملة من النصوص المأثورة عن الحسين بن عليّ (عليهما السّلام) في هذا الصدد:

                          ١ - لمّا قضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مناسكه من حجة الوداع ركب راحلته وأنشأ يقول( لا يدخل الجّنة إلاّ مَنْ كان مُسلماً )) . فقام إليه أبو ذرّ الغفاري (رحمه الله) فقال: يا رسول الله، وما الإسلام؟ فقال (صلّى الله عليه وآله)( الإسلام عريان، ولباسه التقوى،

                          ____________________

                          (١) راجع موسوعة كلمات الإمام الحسين، وتتبع ما نقله عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

                          ٢١٤



                          وزينته الحياء، وملاكه الورع، وكماله الدين، وثمرته العمل، ولكلّ شيء أساس، وأساس الإسلام حبنّا أهل البيت )) (١) .

                          ٢ - وجاء عنه (عليه السّلام) أنّه قال( مَنْ أحبّنا كان منّا أهل البيت )) . واستدلّ على ذلك بقوله تعالى - تقريراً لقول العبد الصالح- فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) (٢) . وواضح أنّ مَنْ أحبّهم فسوف يتّبعهم، ومَنْ تبعهم كان منهم.

                          ٣ - وقال (عليه السّلام)( أحِبّونا حُبَّ الإسلام؛ فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: لا ترفعوني فوق حقّي ؛ فإنّ الله تعالى اتخّذني عبداً قبل أن يتخّذني رسولاً )) (٣) .

                          ٤ - وقال (عليه السّلام)(*) : ما كُنّا نعرفُ المنافقين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلاّ ببغضهم عليّاً وولده (عليهم السّلام)(٤) .

                          ٥ - وروي أنّ المنذر بن الجارود مرّ بالحسين (عليه السّلام) فقال: كيف أصبحت - جعلني الله فداك - يابن رسول الله؟ فقال (عليه السّلام)( أصبَحَتْ العربُ تعتدّ على العَجَم بأنّ محمّداً منها، وأصَبَحَتْ العَجَمُ مُقِرَّةً لها بذلك، وأصبَحْنا وأصبَحَتْ قريشٌ يعرفون فضلَنا ولا يَرَوْنَ ذلكَ لنا، ومن البلاء على هذِهِ الاُمّةِ أنّا إذا دعوناهُم لم يُجيبونا، وإذا تركناهم لم يهتدوا بغيرِنا )) (٥) .
                          بشائر الحسين (عليه السّلام) بالمهدي (عليه السّلام) ودولته


                          تراكمت البشائر النبويّة حول غيبة الإمام المهدي المنتظر وظهوره، وخصائص دولته وأوصافه ونسبه الشّريف، كما توضّح الصّحاح والمسانيد

                          ____________________

                          (١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٨٢ عن أمالي الطوسي ١ / ٨٢.

                          (٢) المصدر السابق / ٥٨٢ عن نزهة الناظر وتنبيه الخاطر / ٨٥.

                          (٣) المصدر السابق عن مجمع الزوائد ٩ / ٢١.

                          (*) هكذا ورد، والصحيح أنه قد ورد على لسان الإمام (عليه السّلام) عن جابر بن عبد الله، وليس هو من قول الإمام (عليه السّلام) مباشرة.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

                          (٤) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٨٥ عن عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) ٢ / ٧٢.

                          (٥) المصدر السابق / ٥٨٦ عن نزهة الناظر / ٨٥.

                          ٢١٥



                          هذه الحقيقة في أبواب الملاحم والفتن، وأشراط السّاعة وغيرها.

                          واعتنى الأئمّة من أهل البيت (عليهم السّلام) بهذه القضية اعتناءً لا يقلّ عن عناية الرّسول الخاتم (صلّى الله عليه وآله)، واستمراراً للخطّ الذي اختطّه، والمنهج الذي سلكه في التمهيد لدولة الحقّ التي تتكفّل تحقيق آمال الأنبياء والأوصياء جميعاً وعلى مدى التاريخ.

                          وقد كثرت النصوص الواصلة إلينا عن أبي الأئمّة التسعة من ولد الحسين (عليه السّلام). فروى عن جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وعن أبيه أمير المؤمنين (عليه السّلام) مجموعة فريدة من التصريحات المهمّة بشأن المهدي (عليه السّلام)، نختار نماذج منها:

                          ١ - قال (عليه السّلام)( دخلت على جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأجلسني على فخذه، وقال لي: إنّ الله اختار من صُلبك يا حسين تسعة أئمّة تاسعهم قائمهم، وكلّهم في الفضل والمنزلة عند الله سواء )) (١) .

                          ٢ - وسأله شعيب بن أبي حمزة قائلاً: أنت صاحبُ هذا الأمر؟ فأجابه( لا )) . فقال له: فمَنْ هو؟ فأجاب (عليه السّلام)( الذي يملؤها عدلاً كما مُلئِت جَوْراً، على فترة من الأئمّة تأتي كما إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بُعِث على فترة من الرسل )) (٢) .

                          ٣ - وقال (عليه السّلام)( لصاحب هذا الأمر غيبتان؛ إحداهما تطول حتّى يقول بعضهم: مات، وبعضهم: قُتِل، وبعضهم: ذهب، ولا يطّلعُ على موضعه أحدٌ مِن وليّ ولا غيرهِ إلاّ المولى الذي يلي أمره )) (٣) .

                          ٤ - وقال (عليه السّلام)( لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوَّلَ الله (عزّ وجلّ) ذلك اليوم

                          ____________________

                          (١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٦٥٩ عن ينابيع المودّة / ٥٩٠.

                          (٢) المصدر السابق / ٦٦٠ عن عقد الدرر / ١٥٨.

                          (٣) موسوعة كلمات الإمام الحسين عن عقد الدرر / ١٣٤.

                          ٢١٦



                          حتى يخرجَ رجلٌ من ولدي فيملأها عدلاً وقسطاً كما مُلئِت جوراً وظُلماً، كذلك سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول )) (١) .

                          ٥ - وقال (عليه السّلام)( للمهدي خمسُ علامات؛ السفياني، واليماني، والصيحةُ من السّماء، والخسفُ بالبيداء، وقتل النفسِ الزكيّة )) (٢) .

                          ٦ - وقال (عليه السّلام) أيضاً( لو قام المهديّ لأنكره النّاس ؛ لأنّه يرجع إليهم شابّاً موفّقاً، وإنّ من أعظم البليّة أن يخرج إليهم صاحبُهم شابّاً وهم يحسبونَه شيخاً كبيراً )) (٣) .

                          ٧ - وقال (عليه السّلام)( في التاسع من ولدي سُنّة من يوسف، وسنّة من موسى بن عمران (عليه السّلام)، وهو قائمنا أهل البيت، يُصلح الله تبارك وتعالى أمرَه في ليلة واحدة )) (٤) .

                          ٨ - وقال (عليه السّلام)( إذا خرج المهدي (عليه السّلام) لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلاّ السّيف، وما يستعجلون بخروج المهديّ؟ والله ما لباسُه إلاّ الغليظُ، ولا طعامه إلاّ الشعيرُ، وما هو إلاّ السّيفُ، والموتُ تحت ظِلِّ السّيْفِ )) (٥) .
                          في رحاب العقيدة والكلام


                          ونختار من هذه البحوث نماذج ممّا وصلنا عن أبي الشّهداء الحسين بن عليّ (عليهما السّلام).

                          ١ - وممّا قاله عن توحيد الله سبحانه(... ولا يقدّر الواصِفون كنه عظمته، ولا يخطر على القلوبِ مبلَغَ جبروته ؛ لأنّه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلاّ بالتحقيق إيقاناً بالغيبِ ؛ لأنّه لا يوصَفُ بشيء من صفات

                          ____________________

                          (١) المصدر السابق / ٦٦١ عن كمال الدين / ٣١٧.

                          (٢) المصدر السابق / ٦٦٢ عن عقد الدرر / ١١١.

                          (٣) المصدر السابق / ٦٦٥ عن عقد الدرر / ٤١.

                          (٤) المصدر السابق عن كمال الدين / ٣١٧.

                          (٥) المصدر السابق / ٦٦٣ عن عقد الدرر / ٢٢٨.

                          ٢١٧



                          المخلوقين وهو الواحد الصمدُ، ما تُصُوِّر في الأوهامِ فَهُوَ خلافُه... يوجِدُ المفقودَ ويُفقِدُ الموْجُودَ، ولا تجتمع لغيره الصفتانِ في وقت، يصيب الفكرُ منه الإيمانَ به موجوداً، ووجودَ الإيمانِ لا وجودَ صِفَة، به توصف الصّفاتُ لا بها يوصَفُ، وبه تُعرَفُ المعارِفُ لا بها يُعرَف، فذلك الله، لا سَميَّ لَهُ، سبحانه! ليس كمثلِهِ شيء، وهو السّميعُ البصيرُ )) (١) .

                          وممّا قاله أيضاً لابن الأزرق( أصف إلهي بما وصف به نفسَه، وأُعرِّفُه بما عرّف به نفسَه. لا يُدْرَك بالحواس، ولا يُقاس بالنّاسِ، فهو قريبٌ غير ملتصِق، وبعيدٌ غير مُتَقَصّ (تقص)، يُوَحَّدُ ولا يُبَعَّضُ، مَعروف بالآيات، موصوف بالعلاماتِ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعالُ )) (٢) .

                          ٢ - وخرج على أصحابه فقال( أيّها النّاس، إنّ اللهَ (جَلَّ ذكرهُ) ما خَلَقَ العباد إلاّ ليعرفوهُ، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنَوْا بعبادته عن عبادة ما سواهُ )) . ثمّ سأله رجل عن معرفة الله فقال: معرفةُ أهل كلّ زمان إمامَهُم الذي يجب عليهم طاعَتُه»(٣) .

                          ٣ - وتكلّم عن ملاك التكليف قائلاً( ما أخَذَ الله طاقة أحد إلاّ وضع عنه طاعتَه، ولا أخذ قدرته إلاّ وضع عنهُ كُلْفَتَه )) (٤) .

                          ٤ - وكتب للحسن بن أبي الحسن البصري جواباً عن سؤاله حول القدر( إنّه مَنْ لم يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه فقد كفر، ومَنْ حمل المعاصي على الله (عزّ وجلّ) فقد افترى على الله افتراءً عظيماً. إنّ الله تبارك وتعالى لا يُطاع بإكراه، ولا يُعصى بغَلَبَة، ولا يُهملُ العبادَ في الهلكة، لكنّه المالك لما ملّكهم، والقادرُ لما عليه أقدَرَهُم، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن الله صادّاً عنها مُبطِئاً، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء أن يمن عليهم فيحولَ بينهَم وبين ما ائتمروا به فعل، وإن لم يفعل فليس هو حَمَلَهم عليها قسراً ولا كلّفهم جبراً، بل بتمكينهِ إيّاهم بعد إعذاره وإنذاره لهم واحتجاجه عليهم طوّقَهُم ومكّنهم، وجعل لهم السبيل إلى أخذ ما إليه

                          ____________________

                          (١) موسوعة كلمة الإمام الحسين / ٥٣٠ عن تحف العقول / ١٧٣.

                          (٢) المصدر السابق / ٥٣٣ عن التوحيد / ٧٩.

                          (٣) المصدر السابق / ٥٤٠ عن علل الشّرايع / ٩.

                          (٤) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٤٢ عن تحف العقول / ١٧٥.

                          ٢١٨



                          دعاهم، وترك ما عنه نهاهم )) (١) .

                          ٥ - واشتملت أدعيته (عليه السّلام) على دُرر باهرة في التوحيد والمعرفة والهداية الإلهية، ولاسيما دعاء العشرات المرويّ عنه(٢) ، ودعاء عرفة الذي عُرِف به ؛ لِما يسطع به من معارف زاخرة وعلوم جمّة، بل هو دورة عقائدية كاملة. وإليك مطلعه:

                          (( الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع، ولا لعطائه مانعٌ، ولا كصنعه صنعُ صانِع، وهو الجوادُ الواسِعُ. فَطَر أجناسَ البدائعِ، وأتقنَ بحكمتِهِ الصنائعَ. لا تخفى عليه الطلائعُ، ولا تضيع عنده الودائعُ. أتى بالكتابِ الجامعِ، و (بشرع السّلام) النور السّاطعِ، وهو للخليقة صانعٌ، وهو المستعانُ على الفجائِع )) (٣) .
                          في رحاب الأخلاق والتربية الروحية


                          ١ - سُئل عن خير الدنيا والآخرة فكتب (عليه السّلام)( بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعدُ، فإنّه مَنْ طلب رضى الله بسخط النّاس كفاه الله اُمور النّاس، ومَنْ طلب رضى النّاس بسخط الله وكلّه الله إلى النّاس. والسّلام )) (٤) .

                          ٢ - بيّن (عليه السّلام) أقسام العبادة، ودرجات العُبّاد، قائلاً( إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادةُ العبيد، وإنّ قوماً عبدوا اللهَ شُكراً فتلك عبادةُ الأحرار، وهي أفضل العبادة )) (٥) .

                          ٣ - قال (عليه السّلام) عن آثار العبادة الحقيقية( مَنْ عَبَدَ الله حقَّ عبادته آتاه الله فوق

                          ____________________

                          (١) المصدر السابق / ٥٤٠ - ٥٤١ عن معادن الحكمة ٢ / ٤٥.

                          (٢) البلد الأمين - للكفعمي / ٢٤.

                          (٣) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٧٩٣ - ٨٠٦ عن إقبال الأعمال / ٣٣٩.

                          (٤) أمالي الصدوق / ١٦٧.

                          (٥) تحف العقول / ١٧٥.

                          ٢١٩



                          أمانيه وكفايتهِ )) (١) .

                          ٤ - سُئل عن معنى الأدب فقال( هو أن تخرج من بيتك فلا تَلقى أحداً إلاّ رأيت له الفضلَ عليك )) (٢) .

                          ٥ - قال الإمام الحسين (عليه السّلام)( مالُك إن يكن لك كنتَ له فلا تبقِ عليه ؛ فإنّه لا يُبقي عليك، وكلُه قبل أن يأكلك )) (٣) .
                          في رحاب مواعظه الجليلة


                          ١ - كتب إليه رجل: عِظني بحرفين. فكتب إليه( مَنْ حاوَل أمراً بمعصية الله تعالى كانَ أفْوَتَ لما يَرجو، وأسْرَعَ لمجي ما يحذَرُ )) (٤) .

                          ٢ - وجاءه رجل فقال له: أنا رجل عاصٍ ولا أصبر عن المعصية، فعظني بموعظة.

                          فقال (عليه السّلام)( افعل خمسةَ أشياءَ واذنب ما شئتَ؛ فأوّل ذلك: لا تأكل رزقَ اللهِ واذنب ما شئِتَ. والثاني: اخرج من ولاية الله واذنِب ما شئت. والثالث: اطلُبْ موضِعاً لا يراكَ اللهُ واذنب ما شِئتَ. والرابع: إذا جاء ملَكُ الموتِ ليقبِضَ روحَكَ فادفَعْهُ عن نفسِكَ واذنب ما شئتَ. والخامِسُ: إذا أدخَلَكَ مالكُ النارَ فلا تدخُلْ في النارِ واذنِب ما شئتَ )) (٥) .

                          ٣ - وممّا جاء عنه (عليه السّلام) في الموعظة( يابن آدمَ، تفكَّرْ وقل: أينَ ملوكُ الدنيا وأربابُها الذين عَمّروا واحتفَروا أنهارها، وغَرَسوا أشجارها، ومدّنوا مدائِنَها، فارقوها وهم كارهون، وورثها قوم آخرون، ونحن بهم عمّا قليل لاحقونَ.

                          يابن آدم، اذكر مصرعك، وفي قبرك مضجعَك، وموقفَك بين يَدَي اللهِ تشهَدُ جوارحُكَ عليكَ يوم تَزِلُّ فيه الأقدامُ، وتبلغُ القلوبُ الحناجِرَ، وتبيضّ وجوهٌ وتسوَدُّ وجوهٌ، وتبدو السرائرُ، ويوضَعُ الميزانُ القِسط.

                          يابن آدمَ، اذكُر مصارعَ آبائك وأبنائك، كيف كانوا، وحيثُ حَلّوا، وكأنّك عن قليل قد حَلَلْتَ

                          ____________________

                          (١) بحار الأنوار ٧١ / ١٨٤.

                          (٢) ديوان الإمام الحسين / ١٩٩.

                          (٣) بحار الأنوار ٧١ / ٣٥٧.

                          (٤) الكافي ٢ / ٣٧٣.

                          (٥) بحار الأنوار ٧٨ / ١٢٦.

                          ٢٢٠



                          مَحَلَّهُم، وصِرتَ عِبرَةً للمعتَبِر )) (١) .

                          ٤ - وخطب (عليه السّلام) فقال( يا أيّها النّاس، نافسِوا في المكارم، وسارِعوا في المغانِم، ولا تحتسِبوا بمعروف لم تُعجّلوا، واكسبوا الحمدَ بالنُجح، ولا تكتسِبوا بالمطلِ ذَمّاً؛ فمهما يكنْ لأحد عند أحد صنيعةٌ له رأى أنّه لا يقومُ بشكرِها، فالله له بمكافاتهِ؛ فإنّه أجْزَلُ عطاءً، وأعظمُ أجراً. واعلموا أنّ حوائج النّاس إليكم من نعم الله عليكم، فلا تملّوا النّعم فتُحوّر نقماً )) (٢) .
                          في رحاب الفقه والأحكام الشّرعية


                          تعليق


                          • #28
                            في رحاب الفقه والأحكام الشّرعية


                            لقد أثبت أهل البيت المعصومون (عليهم السّلام) جدارتهم للمرجعية الدينية بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المجالين العلمي والسّياسيّ معاً.

                            وقد عمل خطّ الخلافة بشكل مدروس على حذف هذا الخطّ النّبويّ وعزله عن السّاحة السّياسية والاجتماعية، وخطّط أهل البيت (عليهم السّلام) لمواجهة هذه المؤامرة، كما عرفت.

                            غير أنّ البُعْد العلمي قد برز وطغى على البعد السّياسي حتّى اتُّهِمَ أهل البيت (عليهم السّلام) باعتزالهم السّاحة السّياسية بعد الحسين (عليه السّلام)، ولكنّ العجز العلمي للخطّ الحاكم بالرغم من كلّ ما أوتي من إمكانات ماديّة وبشرية هو الذي قد بانَ على مدى التاريخ، وتميّزت مرجعيّة الأئمّة الأطهار على مَنْ سواها من المرجعيات السّائدة آنذاك. وكانت حاجة الاُمة الإسلاميّة إلى تفاصيل الأحكام الشّرعية نظراً للمستجدّات المستمرّة هي السّبب الآخر في ظهور علم أهل البيت (عليهم السّلام) وفضلهم وكمالهم.

                            وما سجّلته كتب التاريخ من حقائق لا تخفى على اللبيب، مثل حقيقة عدم عجزهم أمام الأسئلة المُثارة، وعدم اكتسابهم العلم من أحد من أهل

                            ____________________

                            (١) إرشاد القلوب ١ / ٢٩.

                            (٢) كشف الغمة ٢ / ٢٩.

                            ٢٢١



                            الفضل سوى الرّسول (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين(عليهم السّلام) لدليل واضح على تميّزهم عمّن سواهم.

                            وهنا نختار نماذج ممّا يرتبط بالفقه بمعناه المصطلح بمقدار ما يسمح به المجال.

                            ١ - ممّا يرتبط بباب الصّلاة، ذكر الإمام محمّد الباقر (عليه السّلام) جواز الصّلاة بثوب واحد، مستشهداً بأنّه قد حدّثه مَنْ رأى الحسين بن عليّ (عليهما السّلام) وهو يصلّي في ثوب واحد، وحدّثه أنّه رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يُصلّي في ثوب واحد(١) .

                            ٢ - وجاء أنّ الأئمّة (عليهم السّلام) كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم فيما يجهر فيه بالقراءة من الصّلوات في أوّل فاتحة الكتاب، وأوّل السّورة في كلّ ركعة، وجاء عن الحسين (عليه السّلام) قوله( اجتمعنا ولد فاطمة (عليها السّلام) على ذلك )) (٢) .

                            ٣ - وكان الحسين بن عليّ (عليهما السّلام) يصلّي فمرّ بين يديه رجل، فنهاه بعض جلسائه، فلمّا انصرف من صلاته قال له( لِمَ نَهَيْتَ الرَجُلَ؟ )) فقال: يابن رسول الله، خطر فيما بينك وبين المحراب.

                            فقال (عليه السّلام)( ويحك! إنّ الله (عزّ وجلّ) أقربُ إليَّ من أن يخطرَ فيما بيني وبين أحد )) (٣) .

                            ٤ - وكان الحسين (عليه السّلام) جالساً فمرّت عليه جنازةٌ، فقام النّاس حين طلعت الجنازة، وهنا أوضح الإمام (عليه السّلام) للناس ما تصوّروه خطأً من أنّ القيام عند مرور الجنازة من السنّة؛ باعتبار ما سمعوه من قيام رسول الله عند مرور الجنازة، فقال الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)( مرَّت جنازة يهودي ّفكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على طريقها جالساً، فكره أن تعلو رأسَه جنازةُ يهوديّ

                            ____________________

                            (١) دعائم الإسلام ١ / ١٧٥.

                            (٢) مستدرك الوسائل ٤ / ١٨٩.

                            (٣) وسائل الشّيعة ٣ / ٤٣٤ ح ٤.

                            ٢٢٢



                            فقامَ لِذلك )) (١) .

                            وقد أحصى مؤلّف موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السّلام) ما يُقارب من مئتين وخمسين رواية في الأحكام الشّرعية وردت عن الإمام الحسين (عليه السّلام) في مختلف أبواب الفقه الإسلامي.

                            على أنّ سيرة الإمام الحسين (عليه السّلام) مثل سيرة سائر الأئمّة الأطهار تعتبر مصدراً من مصادر استلهام الأحكام الشّرعية؛ لتنظيم السّلوك الفردي والاجتماعي للإنسان المسلم وللمجتمع الإسلامي.
                            في رحاب أدعية الإمام الحسين (عليه السّلام)


                            لقد تميّز تراث أهل البيت (عليهم السّلام) بظاهرة الدعاء تميّزاً فريداً في جانبي الكمّ والكيف معاً.

                            فالاهتمام بالدعاء في جميع الحالات والظروف التي يمرّ بها الإنسان في الحياة، كما قال تعالى قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ) (٢) ، هو المظهر الذي ميّز سلوك أهل البيت (عليهم السّلام) عمّن سواهم، وعلى ذلك ساروا في تربيتهم لشيعتهم.

                            والمسلمون بشكل عام يلمسون هذه الظاهرة بوضوح في موسم الحجّ وغيره من مواسم العبادة عند أتباع أهل البيت (عليهم السّلام) وشيعتهم.

                            وتفرّدت أدعية أهل البيت (عليهم السّلام) في المحتوى والمقاصد، والمعاني التي اشتملت عليها أدعيتهم ؛ فإنّها تُفصح بوضوح عن البون الشاسع بينهم وبين غيرهم. فأين الثرى وأين الثريّا؟

                            وتدلّنا بعض النصوص المأثورة عن الإمام الحسين (عليه السّلام) على سرّ هذا

                            ____________________

                            (١) الكافي ٣ / ١٩٢.

                            (٢) سورة الفرقان / ٧٧.

                            ٢٢٣



                            الاهتمام البليغ منهم بالدعاء.

                            ١ - قال (عليه السّلام)( أعجز النّاس مَنْ عجز عن الدعاء، وأبخل النّاس مَنْ بخل بالسّلام )) (١) .

                            ٢ - وجاء عنه أنّه كان يدعو في قنوت الوتر بالدعاء الذي علّمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو( اللهمّ إنّك تَرى ولا تُرى، وأنت بالمنظر الأعلى، وإنّ إليك الرجعى، وإنّ لك الآخرة والاُولى. اللهمّ إنّا نعوذ بك من أن نَذِلّ ونخزى )) (٢) .

                            ٣ - من الأدعية القصيرة المأثورة عنه قوله (عليه السّلام)( اللهمّ لا تستدرِجني بالإحسانِ، ولا تؤدِّبني بالبلاء )) (٣) .

                            وقال في معنى الاستدراج( الاستدراج من الله لعبده أن يُسبغ عليه النِعَمَ ويَسْلُبَه الشُكرَ )) (٤) .

                            ٤ - ومن أدعيته في قنوته( اللهمّ مَنْ آوى إلى مأوى فأنتَ مأوايَ، ومَنْ لجأ إلى مَلجَأ فأنتَ مَلجايَ. اللهمّ صلّ على محمّد وآلِ محمّد، واسمع ندائي، وأجب دُعائي، واجعل مآبي عندك ومثوايَ، واحرُسني في بَلواي من افتتانِ الامتحان، ولُمَّةِ الشّيطانِ بعظمتك التي لا يشوبُها وَلَعُ نفس بِتَفتين، ولا واردُ طيف بتظنين، ولا يلُمُّ بها فَرَجٌ حتّى تقلبني إليك بإرادتك غير ظنين ولا مظنون، ولا مُراب ولا مُرتاب، إنّك أنت أرحمُ الراحِمينَ )) (٥) .

                            ٥ - وله دعاء آخر كان يدعو به في قنوته هو( اللهمّ منك البدءُ ولك المشيئةُ، ولك الحولُ ولك القوّةُ، وأنت اللهُ الذي لا إله إلاّ أنتَ. جَعَلْتَ قلوبَ أوليائك مسكناً لمَشِيّتِكَ، ومكمَناً لإرادتكَ، وجَعَلتَ عُقولَهُم مَناصِبَ أوامِركَ ونواهيكَ، فأنتَ إذا شِئت ما نشاءُ حرّكتَ مِن أسرارهم كوامِن ما أبطَنْتَ فيهم، وأبَدأتَ من إرادتك على ألسنتِهِم ما

                            ____________________

                            (١) بحار الأنوار ٩٣ / ٢٩٤.

                            (٢) كنز العمال ٨ / ٨٢، ومسند الإمام أحمد ١ / ٢٠١.

                            (٣) بحار الأنوار ٧٨ / ١٢٨.

                            (٤) تحف العقول / ١٧٥.

                            (٥) نهج الدعوات / ٤٩.

                            ٢٢٤



                            أفهَمْتَهُم به عنكَ في عقودِهم بعقول تدعوك، وتدعو إليك بحقائقِ ما مَنَحتَهُم به، وإنّي لأعلَمُ ممّا علّمتني ممّا أنت المشكورُ على ما منه أريتني، وإليه آوَيتني )) .

                            ٦ - وله دعاء يُسمّى بـ (العشرات).

                            ٧ - وله دعاء كان يدعو به حين كان يمسك الركن اليماني ويناجي ربّه هو( إلهي، أنعمتني فلم تجدني شاكراً، وأبليتني فلم تجدني صابراً، فلا أنت سلَبْتَ النعمة بترك الشكر، ولا أدَمْتَ الشدّةَ بترك الصبرِ. إلهي، ما يكونُ من الكريمِ إلاّ الكرَمُ )) (١) .

                            ٨ - وروي أن شُريحاً دخل مسجد الرّسول (صلّى الله عليه وآله) فوجد الحسين (عليه السّلام) في المسجد ساجداً يُعفِّر خدّه على التراب وهو يقول( سيّدي ومولاي، ألِمقامِعِ الحديد خَلَقْتَ أعضائي؟ أم لِشُربِ الحميمِ خَلَقْتَ أمعائي؟ إلهي، لئن طالبتني بذنوبي لاُطالبنّك بكرمك، ولئن حَبَستني مع الخاطئينَ لأخبِرنَّهُم بحُبّي لك. سيّدي، انّ طاعَتي لا تنفعُك، وَمعصيتي لا تضرّك، فهب لي ما لا ينفعُك، واغفر لي ما لا يضرّك؛ فإنّك أرحم الراحمين )) (٢) .

                            ٩ - وكان من دعائه إذا دخل المقابِرَ( اللهمّ ربَّ هذه الأرواح الفانيةِ، والأجساد البالية، والعِظامِ النَخِرةِ، التي خرجتْ من الدنيا وهي بك مؤمنة، أدخِل عليهم رَوْحاً منك وسلاماً مِنّي )) .

                            وقال (عليه السّلام)( إذا دعا أحد بهذا الدعاء كتب الله له بعدد الخلق من لدن آدم إلى أن تقوم السّاعةُ حسنات )) (٣) .

                            ١٠ - ومن دعائه في الصّباح والمساء قوله( بسم الله الرحمن الرحيم. بسم الله وبالله، ومن الله وإلى الله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله، وتوكّلت على الله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم. اللهمّ إنّي أسلمْتُ نفسي إليك، ووجّهت وجهي إليك، وفوّضت أمري إليك، إياك أسألُ العافية من كلّ سوء في الدنيا والآخرة. اللهمّ إنّك تكفيني من كلّ

                            ____________________

                            (١) إحقاق الحق ١١ / ٥٩٥.

                            (٢) المصدر السابق ١١ / ٤٢٤.

                            (٣) مستدرك الوسائل ٢ / ٣٧٣ ح ٢٣٢٣.

                            ٢٢٥



                            أحد ولا يكفيني أحد منك، فاكفني من كلّ أحد ما أخاف وأحذرُ، واجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً؛ إنّك تعلمُ ولا أعلم، وتقدرُ ولا أقدِر، وأنت على كلّ شيء قدير، برحمتك يا أرحم الراحمين » (١) .

                            وأمّا دعاء عرفة المرويّ عن الإمام الحسين (عليه السّلام) فهو من غرر الأدعية المطوّلة، والتي تستدرّ الرحمة الإلهية بما تمليه على الإنسان من أسباب الإنابة والتوبة وشموخ المعرفة، وقد أشرنا إلى مقاطع منه في بحوث سابقة.

                            وإليك مقطعاً آخر من هذا الدعاء( الحمد لله الّذي لم يتّخذ ولداً فيكون موروثاً، ولم يكن له شريك في الملك فيضادّه فيما ابتدع، ولا وليّ من الذلّ فيرفده فيما صنع، سبحانه سبحانه سبحانه! لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا وتفطّرتا، فسبحان الله الواحد الحقّ الأحد الصمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد!

                            الحمد لله حمداً يعدل حمد ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وصلّى الله على خيرته من خلقه محمّد خاتم النبّيّين وآله الطّاهرين المخلصين. اللهمَّ اجعلني أخشاك كأنّي أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وخرْ لي في قضائك، وبارك لي في قدرك حتّى لا اُحبّ تعجيل ما أخّرت، ولا تأخير ما عجّلت )) (٢) .
                            في رحاب أدب الإمام الحسين (عليه السّلام)


                            لا ريب في أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) يُعدّ امتداداً لجدّه وأبيه وأخيه من حيث المعرفة، ومن حيث الاقتدار الفني في التعبير. وقد جاء على لسان خصومهم أنّهم أهل بيت قد زقّوا العلم زَقّاً، وأنّها ألسِنَةُ بني هاشم التي تفلق الصّخر، وتغرف من البحر(٣) .

                            وعلّق عمر بن سعد يوم عاشوراء على خطبة للإمام الحسين (عليه السّلام): « إنّه

                            ____________________

                            (١) مهج الدعوات / ١٥٧.

                            (٢) بحار الأنوار ٩٨ / ٢١٨ - ٢١٩.

                            (٣) المجالس السنية / ٢١، ٢٨، ٣٠.

                            ٢٢٦



                            ابن أبيه، ولو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولما حُصِر »(١) .

                            وقال أصحاب المقاتل عن كلماته وخطبه في كربلاء ويوم عاشوراء: إنّه لم يُسمع متكلّم قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطقه من الحسين (عليه السّلام)(٢) .

                            وبالرغم من قصر المدّة الزمنيّة لإمامته، وعدم إتاحة الفرصة السّياسيّة التي تفرض صياغة الخطب عادةً، بخاصّة أنّه (عليه السّلام) التزم بالهدنة التي عقدها أخوه (عليه السّلام) في زمن معاوية، فقد اُثر عنه (عليه السّلام) في ميدان الخطبة وغيرها أكثر من نموذج، فضلاً عن أنّه (عليه السّلام) في زمن أبيه (عليه السّلام) قد ساهم في خطب المشاورة والحرب(٣) ، وحشَد فيها كلّ السّمات الفنّية التي تتناسب والغرض الذي استهدف توصيله إلى الجمهور(٤) .

                            وأمّا خطب المعركة التي خاضها في الطفّ أو كربلاء، حيث فجّرت هذه المناسبة عشرات الخطب منذ بدايتها إلى نهايتها، فقد تنوّعت صياغةً ومضموناً، وتضمّنت التذكير بكتبهم التي أرسلوها إليه، وبطاعة الله وبنصرته وبالتخليّ عن قتاله.

                            وممّا جاء في أحدها( تبّاً لكم أيّتها الجماعة وتَرَحاً! أحين استصرختمونا والهِين فأصرخناكم موجِفين، مؤدّين مستعدّين، سَلَلْتُم علينا سيفاً لنا في أيْمانِكم، وحششتُم علينا ناراً قدحناها على عدوّكم وعدوّنا، فأصبحتم إلبْاً على أوليائكم، ويداً عليهم لأعدائكم، بغيرِ عدلٍ أفشوه فيكُم، ولا أمل أصبح لكم فيهم إلاّ الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيش طمعتم فيه )) .

                            واحتشدت هذه الخطبة بعناصر الفنّ المتنوعة بالإضافة إلى عنصرَي المحاكمة والعاطفة. وبمقدور المتذوّق الفني الصّرف أن يلحظ ما تتضمّنه

                            ____________________

                            (١ و ٢) المجالس السنية / ٢١، ٢٨، ٣٠.

                            (٣) راجع حياة الإمام الحسين في عهد أبيه، في هذا الكتاب.

                            (٤) تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي / ٣٠٧ - ٣١١.

                            ٢٢٧



                            من دهشة فنّية مثيرة كلّ الإثارة(١) .

                            والأشكال الأدبيّة الاُخرى التي طرقها أدب الإمام الحسين (عليه السّلام) هي الرسائل والخواطر، والمقالة والأدعية والشّعر(٢) والحديث الفني.

                            ونشير إلى نموذجين من شعره بما يتناسب مع المجال هنا:

                            - ١ –

                            [TR]
                            [TD="width: 236"]تباركَ ذو العلا والكبرياءِ
                            [/TD]
                            [TD="width: 18"][/TD]
                            [TD="width: 233"]تفرّد بالجلالِ وبالبقاءِ
                            [/TD]
                            [/TR]
                            [TR]
                            [TD="width: 236"]وسوّى الموتَ بين الخلقِ طُرّاً
                            [/TD]
                            [TD="width: 18"][/TD]
                            [TD="width: 233"]وكلّهُمُ رهائنُ للفناءِ
                            [/TD]
                            [/TR]
                            [TR]
                            [TD="width: 236"]ودنيانا وإن ملنا إليها
                            [/TD]
                            [TD="width: 18"][/TD]
                            [TD="width: 233"]وطالَ بها المتاعُ إلى انقضاءِ
                            [/TD]
                            [/TR]
                            [TR]
                            [TD="width: 236"]ألا إنّ الركونَ على غرورٍ
                            [/TD]
                            [TD="width: 18"][/TD]
                            [TD="width: 233"]إلى دارِ الفناءِ من الفناءِ
                            [/TD]
                            [/TR]
                            [TR]
                            [TD="width: 236"]وقاطنها سريعُ الظعنِ عنها
                            [/TD]
                            [TD="width: 18"][/TD]
                            [TD="width: 233"]وإن كان الحريصُ على الثَّواءِ (٣)
                            [/TD]
                            [/TR]
                            - ٢ –

                            [TR]
                            [TD="width: 236"]اغنَ عن المخلوق بالخالقِ
                            [/TD]
                            [TD="width: 18"][/TD]
                            [TD="width: 233"]تَغنَ عن الكاذبِ والصادقِ
                            [/TD]
                            [/TR]
                            [TR]
                            [TD="width: 236"]واسترزق الرحمنَ من فضله
                            [/TD]
                            [TD="width: 18"][/TD]
                            [TD="width: 233"]فليس غيرُ الله من رازقِ
                            [/TD]
                            [/TR]
                            [TR]
                            [TD="width: 236"]مَنْ ظنّ أنّ النّاس يغنونَه
                            [/TD]
                            [TD="width: 18"][/TD]
                            [TD="width: 233"]فليس بالرحمنِ بالواثقِ
                            [/TD]
                            [/TR]
                            [TR]
                            [TD="width: 236"]أو ظنَّ أنّ المالَ من كسبِه
                            [/TD]
                            [TD="width: 18"][/TD]
                            [TD="width: 233"]زلّت بهِ النعلان من حالقِ (٤)
                            [/TD]
                            [/TR]
                            والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين

                            ____________________

                            (١) تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي / ٣١١ - ٣٠٣.

                            (٢) للاطلاع التفصيلي على خصائص كلّ شكل في أدب الحسين (عليه السّلام) راجع تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي - للدكتور محمود البستاني.

                            (٣) عن ديوان الإمام الحسين ٤ / ١١٥.

                            (٤) عن البداية والنهاية ٨ / ٢٢٨.

                            ٢٢٨



                            الفهرس

                            الباب الأول. ١٤

                            الفصل الأول: الإمام الحسين الشهيد (عليه السّلام) في سطور ١٥

                            الفصل الثاني: انطباعات عن شخصيّة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢٢

                            [ أوّلاً ] مكانة الإمام الحسين (عليه السّلام) في آيات الذكر الحكيم. ٢٢

                            [ ثانياً ] مكانة الإمام الحسين (عليه السّلام) لدى خاتم المرسلين (صلّى الله عليه وآله) ٢٥

                            [ ثالثاً ] مكانة الإمام الحسين (عليه السّلام) لدى معاصريه ٢٦

                            [ رابعاً ] الإمام الحسين (عليه السّلام) عبر القرون والأجيال. ٢٩

                            الفصل الثالث: مظاهر من شخصية الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣٣

                            [ أوّلاً ] تواضعه (عليه السّلام) ٣٤

                            [ ثانياً ] حلمه وعفوه (عليه السّلام) ٣٤

                            [ ثالثاً ] جوده وكرمه (عليه السّلام) ٣٥

                            [ رابعاً ] شجاعته (عليه السّلام) ٣٧

                            [ خامساً ] إباؤه (عليه السّلام) ٣٨

                            [ سادساً ] الصراحة والجرأة في الإصحار بالحقّ. ٣٩

                            [ سابعاً ] عبادته وتقواه (عليه السّلام) ٤١

                            صور من عبادته (عليه السّلام) ٤٢

                            الباب الثاني. ٤٥

                            الفصل الأول: نشأة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٤٧

                            تأريخ الولادة ٤٧

                            رؤيا اُمّ أيمن. ٤٧

                            الوليد المبارك. ٤٨

                            اهتمام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالحسين (عليه السّلام) ٤٩

                            كنيته وألقابه ٥١

                            ٢٢٩



                            الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٥٢

                            الفصل الثالث: الإمام الحسين (عليه السّلام) من الولادة إلى الإمامة ٥٤

                            الإمام الحسين (عليه السّلام) في عهد الرّسول (صلّى الله عليه وآله) ٥٤

                            ميراث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لسبطيه (عليهما السّلام) ٥٧

                            وصيّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالسّبطين (عليهما السّلام) ٥٧

                            لوعة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على الحسين (عليه السّلام) ٥٧

                            الإمام الحسين (عليه السّلام) في عهد الخلفاء ٥٩

                            الحسين (عليه السّلام) في عهد أبي بكر ٥٩

                            لوعة شهادة الزهراء (عليها السّلام) ٥٩

                            الحسين (عليه السّلام) في عهد عمر بن الخطاب.. ٦١

                            الحسين (عليه السّلام) في عهد عثمان. ٦٣

                            موقف مع أبي ذرّ الغفاري. ٦٥

                            الإمام الحسين (عليه السّلام) في عهد الدولة العلوية ٦٦

                            مع أبيه (عليه السّلام) في إصلاح الاُمة ٦٨

                            حرص الإمام عليّ (عليه السّلام) على سلامة الحسنين (عليهما السّلام) ٦٩

                            وصايا أمير المؤمنين (عليه السّلام) للإمام الحسين (عليه السّلام) ٧٠

                            الإمام الحسين مع أبيه (عليهما السّلام) في لحظاته الأخيرة ٧٣

                            الإمام الحسين في عهد أخيه الإمام الحسن (عليهما السّلام) ٧٥

                            حالة الاُمّة قبل الصلح مع معاوية ٧٥

                            احترام الإمام الحسين (عليه السّلام) لبنود صلح الإمام الحسن (عليه السّلام) ٧٩

                            رسالة جعدة بن هبيرة إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) ٨٠

                            استشهاد الإمام الحسن (عليه السّلام) ٨١

                            الباب الثالث.. ٨٣

                            الفصل الأول: عصر الإمام الحسين (عليه السّلام) ٨٥

                            البحث الأوّل: حكومة معاوية ودورها في تشويه الإسلام ٨٥

                            منهج معاوية لمحاربة الإسلام ٨٦

                            ٢٣٠



                            معاوية ٨٨

                            ١ - سياسته الاقتصادية ٨٨

                            أ - الحرمان الاقتصادي. ٨٨

                            ب - استخدام المال لتثبيت ملكه ٨٩

                            ج - شراء الذمم. ٨٩

                            د - ضريبة النيروز ٩٠

                            ٢ - سياسة التفرقة ٩٠

                            أ - اضطهاد الموالي. ٩١

                            ب - العصبية القبلية ٩١

                            ٣ - سياسة البطش والجبروت.. ٩١

                            ٤ - الخلاعة والمجون والاستخفاف بالقيم الدينية ٩٢

                            ٥ - إظهار الحقد على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والعداء لأهل بيته (عليهم السّلام) ٩٣

                            ٦ - العنف مع شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) ٩٤

                            ٧ - فرض البيعة بالقوّة ليزيد الفاجر ٩٥

                            البحث الثاني: من هو يزيد بن معاوية؟ ٩٦

                            ولادة يزيد ونشأته وصفاته ٩٧

                            ولع يزيد بالصيد. ٩٨

                            شغفه بالقرود ٩٨

                            إدمانه على الخمر ٩٩

                            إلحاد يزيد وحقده على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ١٠١

                            جرائم حكم يزيد. ١٠٢

                            السرّ الكامن وراء نزعات يزيد الشرّيرة ١٠٣

                            ٢٣١



                            مواقف الإمام الحسين (عليه السّلام) وإنجازاته ١٠٥

                            البحث الأوّل: موقفه (عليه السّلام) من البيعة ليزيد. ١٠٥

                            ١ - دعوة انتهازية وخطّة شيطانية ١٠٥

                            ٢ - أساليب معاوية لإعلان بيعة يزيد. ١٠٨

                            ٣ - محاولات الإمام الحسين (عليه السّلام) لإيقاظ الاُمّة ١٠٩

                            مواجهةُ معاوية وبيعة يزيد. ١٠٩

                            محاولة جمع كلمة الاُمّة والاستجابة لحركة الجماهير. ١١١

                            فضح جرائم معاوية ١١٢

                            استعادة حقّ مضيّع. ١١٤

                            تذكير الاُمّة بمسؤوليّتها ١١٦

                            موت معاوية ١١٨

                            البحث الثاني: حكومة يزيد ونهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١١٩

                            بدايات النهضة ١١٩

                            رسالة يزيد إلى حاكم المدينة ١٢٠

                            الوليد يستشير مروان بن الحكم. ١٢٠

                            الإمام (عليه السّلام) في مجلس الوليد. ١٢١

                            الإمام (عليه السّلام) مع مروان. ١٢٣

                            حركة الإمام (عليه السّلام) في الليلة الثانية ١٢٣

                            وصايا الإمام الحسين (عليه السّلام) ١٢٥

                            توجّه الإمام إلى مكة ١٢٦

                            البحث الثالث: أسباب ودوافع الثورة ١٢٩

                            ١ - فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة ١٣٠

                            ٢ - مسؤولية الإمام تجاه الاُمّة ١٣١

                            ٣ - الاستجابة لرأي الجماهير الثائرة ١٣٢

                            ٤ - محاولة إرغامه (عليه السّلام) على الذلّ والمساومة ١٣٢

                            ٢٣٢



                            ٥ - نوايا الغدر الاُموي والتخطيط لقتل الحسين (عليه السّلام) ١٣٢

                            ٦ - انتشار الظلم وفقدان الأمن. ١٣٣

                            ٧ - تشويه القيم الإسلاميّة ومحو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام) ١٣٤

                            ٨ - الاستجابة لأمر الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله) ١٣٥

                            أهداف منظورة في ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١٣٦

                            ١ - تجسيد الموقف الشّرعي تجاه الحاكم الظالم. ١٣٦

                            ٢ - فضح بني اُميّة وكشف حقيقتهم. ١٣٧

                            ٣ - إحياء السنّة وإماتة البدعة ١٣٨

                            ٤ - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ١٣٩

                            ٥ - إيقاظ الضمائر وتحريك العواطف.. ١٤٠

                            لماذا لم ينهض الإمام الحسين (عليه السّلام) بالثورة في حكم معاوية؟ ١٤٠

                            ١ - حالة الاُمّة الإسلاميّة ١٤١

                            ٢ - شخصيّة معاوية وسلوكه المتلوّن. ١٤٢

                            ٣ - احترام صلح الإمام الحسن (عليه السّلام) ١٤٣

                            المواقف من ثورة الحسين (عليه السّلام) قبل انطلاقها ١٤٤

                            البحث الرابع: توجّه الإمام (عليه السّلام) إلى مكّة ١٤٧

                            رسائل أهل الكوفة إلى الإمام (عليه السّلام) ١٤٧

                            جواب الإمام (عليه السّلام) على رسائل الكوفيّين. ١٤٩

                            تحرّك مسلم بن عقيل نحو الكوفة ١٥٠

                            رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) ١٥١

                            رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى زعماء البصرة ١٥٢

                            جواب الأحنف بن قيس.. ١٥٣

                            جواب يزيد بن مسعود النهشلي. ١٥٣

                            موقف والي الكوفة ١٥٥

                            أنصار الاُمويّين يتداركون أُمورهم. ١٥٦

                            ٢٣٣



                            قلق يزيد واستشارة السيرجون. ١٥٦

                            توجّه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة ١٥٨

                            محاولات ابن زياد للسيطرة على الكوفة ١٥٩

                            موقف مسلم من اغتيال ابن زياد ١٦٠

                            الغدر بمسلم بن عقيل. ١٦١

                            المبحث الخامس: حركة الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى العراق. ١٦٣

                            لماذا اختار الإمام الحسين (عليه السّلام) الهجرة إلى العراق؟ ١٦٤

                            تصريحات الإمام (عليه السّلام) عند وداعه مكة ١٦٦

                            خلاصة الثورة في رسالة ١٦٨

                            ملاحقة السلطة للإمام (عليه السّلام) ١٦٩

                            في التنعيم. ١٦٩

                            في الصّفاح. ١٧٠

                            كتاب الإمام (عليه السّلام) لأهل الكوفة ١٧٠

                            إجراءات الاُمويّين. ١٧١

                            اعتقال الصيداوي وقتله ١٧٢

                            مع زهير بن القين. ١٧٢

                            أنباء الانتكاسة تتوارد على الإمام (عليه السّلام) ١٧٣

                            لقاء الإمام الحسين (عليه السّلام) مع الحرّ ١٧٤

                            النزول في أرض الميعاد ١٧٦

                            جيش الكوفة ينطلق بقيادة عمر بن سعد. ١٧٨

                            ٢٣٤



                            البحث السادس: ماذا جرى في كربلاء؟ ١٨١

                            ليلة عاشوراء ١٨١

                            يوم عاشوراء ١٨٤

                            خطاب الإمام (عليه السّلام) في جيش الكوفة ١٨٥

                            الحرّ يُخيّر نفسه بين الجّنة والنّار ١٨٦

                            المعركة الخالدة ١٨٧

                            استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ١٩٣

                            الحسين (عليه السّلام) وحيداً في الميدان. ١٩٤

                            امتداد الحمرة في السّماء ١٩٦

                            حرق الخيام وسلب حرائر النبوة ١٩٧

                            الخيل تدوس الجثمان الطاهر ١٩٧

                            عقيلة بني هاشم أمام الجثمان العظيم. ١٩٨

                            الفصل الثالث: نتائج الثورة الحسينيّة ٢٠٠

                            ١ - فضح الاُمويّين وتحطيم الإطار الديني المزيّف.. ٢٠٠

                            ٢ - إحياء الرسالة الإسلاميّة ٢٠٢

                            ٣ - الشعور بالإثم وشيوع النقمة على الاُمويّين. ٢٠٣

                            ٤ - إحياء إرادة الاُمّة وروح الجهاد فيها ٢٠٤

                            ٢٣٥



                            من تراث الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢٠٦

                            نظرة عامّة في تراث الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢٠٦

                            في رحاب العقل والعلم والمعرفة ٢٠٧

                            في رحاب القرآن الكريم. ٢٠٩

                            في رحاب السُنّة النبويّة المباركة ٢١١

                            في رحاب أهل البيت (عليهم السّلام) ٢١٤

                            بشائر الحسين (عليه السّلام) بالمهدي (عليه السّلام) ودولته ٢١٥

                            في رحاب العقيدة والكلام ٢١٧

                            في رحاب الأخلاق والتربية الروحية ٢١٩

                            في رحاب مواعظه الجليلة ٢٢٠

                            في رحاب الفقه والأحكام الشّرعية ٢٢١

                            في رحاب أدعية الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢٢٣

                            في رحاب أدب الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢٢٦



                            ٢٣٦
                            جميع الحقوق محفوظة لموقع الحسنين عليهما السلام مؤسسة الإمام حسين عليه السلام


                            تعليق

                            المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                            حفظ-تلقائي
                            x

                            رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                            صورة التسجيل تحديث الصورة

                            اقرأ في منتديات يا حسين

                            تقليص

                            لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                            يعمل...
                            X