قبل الدخول في تفاصيل البحث نرى من الضروري أن نشير إلى ثلاثة أمور كمدخل لأصل البحث، وهي:
1 ـ إمكان علم الغيب ووقوعه
إنّ الإدراك والعلم بالأمور الغائبة والخافية ممكنٌ بشهادة القرآن الكريم والسنة المطهّرة، والتاريخ، والتجارب المتعدِّدة، بل هو واقع ومتحقِّق أيضاً.
هناك من الآيات ما يرى اختصاص علم الغيب بالله سبحانه وتعالى([1])، وفي الوقت نفسه هناك آيات أخرى تتوسّع في علم الغيب، وتثبته لبعض الشخصيات الممتازة، من قبيل: الأنبياء، والأولياء الربانيين عليهم السلام. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً﴾ (الجن: 26). و﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ (آل عمران: 179).
من خلال التأمل في الآيات النافية لعلم الغيب عن الآخرين، والآيات المثبتة لعلم الآخرين بالغيب، يتضح أنّ المراد من الآيات النافية هو علم الغيب الاستقلالي، بمعنى العلم الذي يحصل عليه الإنسان دون إعلام من الله عز وجل، وأنّ المراد من الآيات المثبتة هو علم الغيب التبعي، بمعنى أن يعلم الإنسان الغيب بتعليم من الله سبحانه وتعالى. وقد وردت في هذا المضمون روايات، منها: ما روي عن الإمام علي عليه السلام أنه أخبر بفتنة المغول والترك، فقال له بعض أصحابه متعجّباً: «لقد أَعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب»! فأجابه الإمام: «لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْب، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ»([2]).
ليس هناك من علماء الشيعة، من المتقدِّمين والمتأخِّرين، مَنْ يشكِّك في علم الأئمة بالغيب، وإخبارهم ببعض المغيّبات، بل هناك من المفكرين من أهل السنة مَنْ يقول بهذا المعنى أيضاً([3]). وأدلّ دليل وخير شاهد على ثبوت علم الغيب للأئمة هو صدق ما أخبروا به من حوادث المستقبل، ومن بينها: نبوءات الإمام علي عليه السلام التي دوّنت في كتب التأريخ([4]).
وأما فيما يتعلق بدلالة التجربة والتاريخ على إمكان ووقوع علم الغيب فيجب القول: إنه ليس هناك مَنْ يشكِّك حالياً في أصل هذا النوع من العلوم، بل يتمّ التحقيق في شأنه من قبل المفكرين والعلماء في العالم الغربي تحت عنوان علم الإدراكات الميتافيزيقية (Ex – sensory perception). وهناك بحثٌ متفرّع عن الإدراكات غير الحسية، والتنبؤ بالمستقبل (البصيرة = laivoyance). وقد عبّر عنه بعض المتخصِّصين، مثل: ألكسيس كاريل، وهانس يورغن آيزنك: «إنّ البصر المغناطيسي، وتراسل الأفكار، معلومات أولية للملاحظة العلمية. وفي استطاعة مَنْ وهبوا هذه القوّة أن يستشفّوا أفكار الأشخاص الآخرين السرّيّة، دون أن يستخدموا أعضاءهم الحسّيّة… كما أنهم يحسّون أيضاً بالأحداث السحيقة، سواء من الناحية الفراغية أم من الناحية الزمنيّة»([5]).
وهنا يمكننا أن نشير إلى المتنبئ الغربي الشهير نوستردامس (1503 ـ 1566م)؛ إذ تنبّأ بما سيحدث بعد عصره بقرون([6]).
وبالتالي فإنّ أصل إمكان علم الغيب ووقوعه مسألة متسالم عليها، وقطعية لا غبار عليها.
2 ـ سابقة البحث وجذوره
إنّ الروايات التي تمّ التصريح فيها بعلم الأئمة عليهم السلام بزمان وفياتهم واستشهادهم، وكذلك بإخبارهم بالغيب والأمور الماضية والآتية، تشكل منشأ البحث. وعلاوة على الروايات فإنّ الآيات التي تثبت علم الغيب لبعض الأولياء، والأسئلة والأجوبة المتبادلة بين الناس والأئمة، تحكي عن سابقة البحث، ورجوعها إلى صدر الإسلام. فمثلاً: قد أخبر الإمام علي عليه السلام أنّ قاتله هو عبد الرحمن بن ملجم المرادي([7]). الأمر الذي أثار بعض التساؤلات الكلامية لدى البعض، ومن ذلك: ذهاب الإمام علي عليه السلام إلى مسجد الكوفة في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان من سنة أربعين للهجرة؛ وتناول الإمام الحسن عليه السلام للطعام الذي دست السمّ فيه زوجه جعدة بنت الأشعث؛ وثورة الإمام الحسين عليه السلام التي انتهت باستشهاده. إنّ هذه المسائل الثلاث المتقدمة طرحت من قبل حمران على الإمام الباقر عليه السلام، وأراد منه جوابها([8]). وقد استمرّت المناقشات والتساؤلات المختلفة بشأن تفاصيل علم الأئمة للغيب بعد عصر الأئمة، وحتى عصرنا الراهن، وهذا ما سنتناوله في الصفحات التالية.
3 ـ كيفية علم الأئمة بالغيب
بعد اتضاح إمكان ووقوع علم الغيب بالنسبة للإنسان، وبالنسبة للأئمة بشكل واضح، نشير فيما يأتي إلى بيان مختصر بكيفية علمهم للغيب، في إطار النظريات الأربع التالية:
أـ فعلية علم الإمام بلوح المحو والإثبات، وكذلك اللوح المحفوظ.
ب ـ فعلية علم الإمام بلوح المحو والإثبات فقط.
ج ـ توقف العلم الفعلي للإمام بسؤال الإمام لله سبحانه وتعالى([9]).
دـ التوقف في الذهاب إلى رأي بعينه، وتفويض الأمر إلى الأئمة أنفسهم([10]).
إنّ تحليل وتبيين هذه النظريات الأربعة بحاجة إلى موضع آخر، إلا أننا نكتفي هنا بالتوضيح التالي، وهو: إنه بناءً على النظرية الأولى يكون علم الإمام بزمان ومكان استشهاده أمراً قطعياً ومسلماً؛ وذلك لأنّ اللوح المحفوظ يحتوي على جميع ما يحدث في الكون، دون تغيير أو تبديل، وإنّ اتصال روح الإمام عليه السلام بهذا اللوح يعني علمه بما سيقع في المستقبل من الحوادث، بما في ذلك مكان وزمان استشهاده. وأما النظريتان الثانية والثالثة فإنهما ساكتتان عن علم الإمام عليه السلام بزمان استشهاده؛ وذلك لتحديد علم الإمام ـ طبقاً للنظرية الثانية ـ بلوح المحو والإثبات، وكما هو واضح من اسم هذا اللوح فإنّ ما هو مثبت فيه قابل للمحو، وعليه يحتمل التغيير في الأحداث الواردة فيه، بما في ذلك وقت ومكان استشهاد الإمام. من هنا فقد كان الأئمة عليهم السلام يخبرون في بعض الروايات بساعة موت بعض الأشخاص، فلا يحدث الموت في الوقت المحدَّد، الأمر الذي يثير اعتراضاً لدى البعض، فكان الأئمة يجيبون عن ذلك بقولهم: إنّ أجلهم الطبيعي قد حان، ولكنهم قد أُمهلوا بسبب عمل خير صدر عنهم، من قبيل: الصدقة، التي تزيد في الأعمار.
أما النظرية الثالثة فإنها ترجع علم الإمام بالغيب إلى سؤال الإمام، فيعود البحث إلى تحقُّق السؤال والطلب، بمعنى: هل سأل الإمام الحسين عليه السلام الله تعالى أن يلهمه هذا العلم؟
المسألة الأخرى أنّ أنصار النظريات الثلاث الأخيرة يتمسّكون ـ في خصوص علم الإمام الحسين عليه السلام بزمان استشهاده ـ بأدلة وقرائن خاصة تثبت علم الإمام باستشهاده. وهذا ما سنشير إليه في الصفحات القادمة.
علم الإمام الحسين بزمان استشهاده
بعد بيان النظريات الثلاث المتقدمة، كمدخل لأصل البحث، ندخل في تبيين وتحليل علم الإمام عليه السلام بالزمان الدقيق لاستشهاده.
الرؤية الأولى: رؤية المخالفين للعلم بالشهادة
كان بعض المتقدّمين من علماء الإمامية، والغالبية من علماء أهل السنة، يرفضون علم الإمام الدقيق بزمان استشهاده، ويقولون: إنّ الإمام يعلم باستشهاده على نحو الإجمال، دون معرفة تفاصيل ذلك، فلا يعلم بالزمان الدقيق لاستشهاده (الذي هو اليوم العاشر من محرم الحرام عام 60هـ)، فلم يكشف الله تعالى له ذلك.
أما في القرون المتأخِّرة فقد أصبح القائلون بهذا الرأي يمثِّلون الأقلّية، خلافاً للقرون المتقدّمة؛ إذ كان القائلون به كثراً، وهم من العلماء البارزين، نذكر منهم:
1ـ الشيخ المفيد (413هـ)
فقد خالف علم الإمام بالغيب على نحو مطلق، بحيث يشمل الأسرار والضمائر، وحصر علم الإمام بالغيب بموارد الإعلام الإلهي في بعض الموارد الخاصة، كما في الإجابة عن علم الإمامين علي والحسين عليهما السلام بالغيب، وعدم تبرير ذهاب الإمام علي إلى مسجد الكوفة، وذهاب الإمام الحسين إلى الكوفة وكربلاء، قائلاً: إنّ إجماع الشيعة قائم على علم الإمام بأحكام الشرع فقط. وإليك نصّ عبارته: «إنّ الإمام يعلم ما يكون بإجماعنا: أنّ الأمر خلاف ما قال. وما أجمعت الشيعة قطّ على هذا القول، وإنما إجماعهم ثابتٌ على أنّ الإمام يعلم الحكم في كلّ ما يكون، دون أن يكون عالماً بأعيان ما يحدث، ويكون على التفصيل والتمييز، وهذا يسقط الأصل الذي بنى عليه الأسئلة بأجمعها»([11]).
وفي معرض إنكاره علم الإمام علي عليه السلام بالوقت الدقيق لاستشهاده تحدّث عن علم الإمام الحسين عليه السلام، فقال: «فأما علم الحسين عليه السلام بأنّ أهل الكوفة خاذلوه فلسنا نقطع على ذلك؛ إذ لا حجّة عليه من عقل ولا سمع»([12]).
2ـ السيد المرتضى (436هـ)
فقد اعتبر أنّ تحرّك الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة ناشئ عن ثقة الإمام بوفاء الناس له؛ إذ قال: «أبو عبد الله عليه السلام لم يسِرْ طالباً للكوفة إلا بعد توثُّق من القوم وعهود وعقود، ولم يكن في حسابه أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف أهل الحق عن نصرته، ويتفق بما اتفق من الأمور الغريبة»([13]).
3ـ الشيخ الطوسي (460هـ)
فقد تأثَّر في مسألة علم الإمام الحسين عليه السلام بالسيد المرتضى، ونقل نص عباراته في مؤلَّفاته. فمثلاً: قال في معرض جوابه عن الدافع وراء حركة الإمام الحسين وثورته، رغم علمه بكثرة الأعداء، وقلة الناصر، وغدر أهل الكوفة وخيانتهم: «قد علمنا أنّ الإمام متى غلب على ظنه أنه يصل إلى حقه، والقيام بما فوّض إليه بضرب من الفعل، وجب عليه ذلك، وإن كان فيه ضرب من المشقة يحتمل مثلها تحملها. وأبو عبد الله عليه السلام لم يسِرْ إلى الكوفة إلا بعد توثق من القوم وعهود وعقود…، ولم يكن في حسابه أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف بعضهم عن نصرته، ويتفق من الأمور الطريقة الغريبة»([14]).
وقد قرر الشيخ الطوسي انقسام موقف الإمامية في ما يتعلق بعلم الإمام عليه السلام بزمان استشهاده إلى موافق ومخالف، فقال: «اختلف أصحابنا في ذلك؛ فمنهم مَنْ أجاز ذلك؛ ومنهم مَنْ قال: إن ذلك لا يجوز»([15]).
4ـ الشيخ الطبرسي
فقد توسل في تبريره عدم اعتبار ثورة الإمام الحسين عليه السلام واستشهاده إلقاءً للنفس في التهلكة بأمرين: الأول: إنّ الإمام كان يغلب عليه الظن بأن الأعداء لن يقدموا على قتله؛ والثاني: إنه كان يتصوّر أنه إذا لم يواجه العدو في ساحة المعركة فإن ابن زياد سيدبّر له محاولة اغتيال، ويغدر به، فاختار الاستشهاد والقتل بشجاعة، فقال ما نصّه: «إنّ فعله عليه السلام يحتمل وجهين: أحدهما: إنه ظنّ أنهم لا يقتلونه؛ لمكانه من رسول الله صلى الله عليه وآله؛ والآخر: إنه غلب على ظنه أنه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبراً، كما فعل بابن عمّه مسلم، فكان القتل مع عزّ النفس مع الجهاد أهون عليه»([16]).
إنّ تعبير الشيخ الطبرسي عن رأي الإمام عليه السلام بالظنّ صريح في أنه لا يرى أنّ الإمام كان على يقين من استشهاده.
ومن بين المعاصرين عمد مؤلف كتاب (شهيد جاويد) إلى شرح هذه النظرية بالتفصيل([17]).
أدلة المخالفين
بعد التعرف إجمالاً إلى الرأي المتقدِّم نشير فيما يلي إلى أدلة القائلين به:
1 ـ إلقاء النفس في التهلكة
إنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام وخروجه من المدينة إلى الكوفة إذا كانت مقرونة بعلمه بمآلها، وما ستنتهي إليه من عدم وفاء أهل الكوفة، واستشهاد مبعوثه (مسلم بن عقيل)، واستشهاد الإمام نفسه وأصحابه، وأسر أهل بيت النبوّة، لن يكون له من تفسير سوى إلقاء النفس إلى التهلكة والموت المحتم، وهو ما نهى عنه القرآن الكريم بشدّة؛ إذ قال تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة: 195).
كانت هذه الشبهة مطروحة في عصر الأئمة الأطهار عليهم السلام، وعصر الشيخ المفيد والسيد المرتضى، وكان يروّج لها المتطرّفون من أهل السنة؛ إذ يهدفون من ورائها إلى سلب القداسة عن حركة الإمام الحسين عليه السلام. وهنا يمكن أن نشير إلى ابن العربي المالكي([18])(540 هـ)، ومن المعاصرين: محبّ الدين الخطيب المصري([19])، والشيخ محمد الطنطاوي([20])، وعبد الوهاب النجار([21]). وحيث كان الشيخ المفيد والسيد المرتضى وغيرهما معاصرين لأهل السنة، الذين كانوا يرددون هذه الشبهة باستمرار، عمدوا إلى إنكار علم الإمام عليه السلام التفصيلي باستشهاده دفعاً لهذه الشبهة، وبذلك لا تكون ثورة الإمام مصداقاً لإلقاء النفس إلى التهلكة.
تحليل ودراسة
أـ الآثار المباركة المترتبة على ثورة الإمام الحسين
حيث كان لثورة الإمام الحسين عليه السلام في وجه دولة الجور والفسق والفجور ـ التي كانت تبرر أعمالها بوصفها مظهراً من مظاهر الحكومة الدينية والخلافة النبوية ـ من الآثار أنها كشفت النقاب عن الوجه الحقيقي لحكومة يزيد، وأثبتت أنّ هذا الكمّ الهائل من الظلم والجور لا ينبغي أن يمرَّر على صفحات التأريخ باسم الإسلام، لا تكون ثورة الإمام عليه السلام إلقاءً للنفس في التهلكة.
ب ـ ضرورة الإمام عليه السلام واضطراره
إنّ وجود الإمام عليه السلام وبقاءه نعمةٌ لا تقيّم، وإنّ الإمام نفسه مسؤول عن المحافظة على هذه النعمة، إلا أنه عليه السلام كان قد تنبّه إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الأمويين يخططون لاغتياله خفية([22])، فإنْ تحقَّق لهم ونجحوا في ذلك لن تكون نتيجة ذلك عدم انتفاع الإسلام من استشهاد الإمام فحسب، بل يكون الظلمة والجائرون من حكام بني أمية المستفيد الأكبر؛ إذ نجحوا في إزاحة أكبر سدّ من أمامهم، دون أن يتركوا أثراً يدلّ على ارتكابهم هذه الجريمة الشنعاء. وعليه إذا بادر الإمام وأعلن الثورة، ورفع لواء المعارضة ضد حكم يزيد، فإنه رغم مواجهة الاستشهاد والمصير ذاته يكون قد كسب الكشف عن زيف الأمويين، وأزاح النقاب عن الوجه الكريه لبني أمية. ولذلك بعد أن وجد الإمام الحسين عليه السلام نفسه على مفترق طريقين: عدم الثورة والقتل غيلة؛ والثورة والاستشهاد في ساحة القتال، اختار الطريق الثاني. أو بعبارة أخرى: لم يكن له مندوحة من اختيار هذا الطريق.
ج ـ عدم ضرورة الالتزام بمؤدى علم الغيب
يعتقد القائلون بعلم الأئمة ـ وكذلك الأنبياء ـ بالغيب بأنّ العالمين بالغيب يعتمدون في حياتهم العادية والدنيوية على علمهم العادي والظاهري. ومن باب المثال: إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله رغم علمه الغيبي بعدم إيمان أبي جهل ملزمٌ بدعوته إلى الإسلام. وهكذا الإمام الحسين عليه السلام رغم علمه بما سيؤول إليه مصيره في نهضته وثورته، وما سيصدر عن أهل الكوفة من الخيانة، كان يعتمد في سلوكه العلم الظاهري، وهو تلبية آلاف الكتب التي جاءته من أهل الكوفة، فأرسل إليهم مبعوثه مسلم بن عقيل، ثم استجاب لطلب مبعوثه بالقدوم؛ ليكون قد راعى بذلك ظاهر الحال والعلم العادي.
قال العلامة الطباطبائي في شأن سلوك النبي والأئمة العادي على أساس من العلم الظاهري: «إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بنصّ القرآن الكريم ـ وكذلك الإمام عليه السلام من عترته ـ بشرٌ كسائر أفراد البشرية الآخرين، وإنّ الأعمال التي تصدر عنه في مسيرته في هذه الحياة الدنيا مثل أعمال سائر أفراد الناس، تقع في مسار الاختيار، وطبقاً للعلم العادي والظاهري»([23]).
ثمّ تحدث العلاّمة عن سبب إيفاد الإمام الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وتلبيته لكتب أهل الكوفة، فقال: «إنّ الإمام عليه السلام قد عمل في هذه الموارد ونظائرها طبقاً للعلوم التي يحصل عليها من خلال مجاري العادة والشواهد والقرائن الظاهرية، ولم يقُمْ بأيّ عمل من شأنه دفع الخطر الحقيقي الذي كان يعلم به؛ إذ يعلم أيضاً أن ذلك لن يجديه شيئاً؛ إذ هو من القضاء المحتوم الذي لا يغيّر ولا يُبدّل»([24]).
د ـ إتمام الحجّة
بغية تكميل المسألة المتقدّمة نشير إلى أنّ الإمام إذا لم يستجب لمضمون الكتب التي بعث بها إليه آلاف الكوفيين لسجلوا أنفسهم ـ رغم ما هم عليه من الخيانة وعدم الوفاء ـ أبطالاً على طول التأريخ، ولأمكنهم الاحتجاج على الإمام الحسين عليه السلام عند الله تعالى بأنهم قد دعَوْه لقيادتهم، ولكنه رفض دعوتهم في الثورة على يزيد ونظام حكمه الجائر. وبعبارة أخرى: كي تتمّ الحجّة عليه وعلى الناس كان الإمام ملزماً برعاية ظاهر الحال والعلم العادي، وأما إذا سلكوا الطريق الذي يقتضيه علمهم بالغيب فسوف تترتب على ذلك الكثير من المحاذير والمشاكل.
وهذا ما تؤيِّده رواية مأثورة عن الإمام علي عليه السلام، حيث قال فيها: إنه كان على علم بأنّ أبا موسى الأشعري سوف ينخدع بمسألة التحكيم، ولما سأله أحد أصحابه عن سبب قبوله باختيار الناس له حَكَماً ما دام يعلم بذلك أجابه الإمام عليه السلام قائلاً: «يا بني، لو عمل الله في خلقه بعلمه ما أقبل عليهم بالرسل»([25]).
وحاصل القول: إنّ الدليل الأول الذي أقامه المخالفون لا يمكن أن يُثبت مدَّعاهم. وأما ما ذهب إليه بعض المعاصرين من توجيه رأي الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي بأنّ مرادهم إنكار العلم بحسب الظاهر، بمعنى أنّ الإمام عليه السلام بحسب الظاهر والعلم العادي لم يكن عالماً بزمن استشهاده، وأما بحسب الباطن فكان يعلم بذلك([26])، فهو مخالف لظواهر عباراتهم.
2 ـ القرائن والشواهد التاريخية
وأما ثاني أدلة المخالفين فيتمثل في الشواهد والقرائن التاريخية، بمعنى أننا عندما ننظر في أسلوب حركة الإمام الحسين عليه السلام وتخطيطه ندرك أنه في سفره هذا لم يكن ليعلم بالتوقيت الدقيق لاستشهاده؛ إذ بعد موت معاوية، وتسنّم يزيد وتربُّعه على دست الحكم، وهو شخص شارب للخمر، ملاعب للقرود، معروف لدى الصحابة باستهتاره وتهتكه، وجد الإمام الحسين عليه السلام الفرصة مناسبة لإقامة الحكومة الدينية. كما كان رفض أهل المدينة البيعة ليزيد، ووصول آلاف الكتب من أهل الكوفة تدعوه إلى القدوم إليهم، والتي كانت بمنزلة البيعة له، عاملاً وعنصراً مشجِّعاً للإمام الحسين على المبادرة بثورته المسلحة ضدّ يزيد. من هنا رحّب الإمام الحسين بدعوة أهل الكوفة له، فأرسل ابن عمّه (مسلم بن عقيل) بوصفه سفيراً له؛ بغية التمهيد للثورة، والوقوف على حقيقة الأمر، وإبلاغه بما عليه واقع الناس هناك.
والشاهد الثاني عدم حركة الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة إلا بعد وصول كتاب مسلم يخبره بتوفُّر الأرضية المناسبة للثورة وإقامة الحكومة.
وما إلى ذلك من الشواهد الأخرى التي تثبت قصد الإمام إلى إقامة حكومة إسلامية، وهذا لا ينسجم مع الرؤية القائلة بعلم الإمام التفصيلي بزمان استشهاده([27]).
تحليل ودراسة
1ـ تناغم الشواهد التاريخية مع العلم الظاهري والعادي للإمام
إنّ أقصى ما يُثبته هذا الدليل اهتمام الإمام بالشواهد التاريخية. وهذا لا ينكره الموافقون؛ فإنّ القائلين بعلم الإمام عليه السلام بالغيب ـ كما سبق أن ذكرنا ـ يعتقدون بأنّ الإمام مأمور في تحرّكه وسلوكه بالعلم على طبق علمه العادي والظاهري. وعليه فإنّ ما قام به الإمام الحسين من استجابته لأهل الكوفة، وإرسال سفيره مسلم بن عقيل، يستند إلى علمه العادي والظاهري. وهذا لا ينافي علم الإمام بالغيب.
2ـ تكافؤ الشواهد التاريخية
هذا عدا عن وجود أدلة وشواهد تاريخية أخرى تعارض وتتكافأ مع الشواهد المذكورة في نصّ الدعوى المتقدمة. فطبقاً لهذه الشواهد نجد الإمام قد عزم على التوجّه إلى كربلاء، لا من أجل إقامة الحكومة، بل امتثالاً لما هو مأمور به ضمن خطّة مقرَّرة في علم الله، وهو ما أكّد عليه الإمام نفسه في أكثر من مناسبة. وعليه تكون الشواهد التاريخية متعارضة، ولا يمكن ترجيح بعض الشواهد على الشواهد الأخرى. ولكي نتخذ الموقف المناسب والصحيح يجب الرجوع إلى غير الشواهد التاريخية([28]).
وخلاصة القول: إنّ أدلة الذاهبين إلى إنكار علم الإمام عليه السلام بزمان استشهاده لا تنهض لإثبات ما ذهبوا إليه.
الرؤية الثانية: الموافقون للعلم بالشهادة
إنّ القائلين بعلم الإمام عليه السلام بالغيب ـ رغم الاختلاف في تفسير علم الأئمة بالغيب، وقد تقدم ذكر أربعة منها ـ مجمعون على علم الإمام الحسين عليه السلام بزمان استشهاده، ويسوقون لذلك بعض الشواهد الخاصّة. وفيما يلي سنعمد أولاً إلى ذكر بعض القائلين بهذه الرؤية، وهم:
1ـ الشيخ الصدوق
فقد ذهب هذا العَلَم إلى القول بعلم الإمام المطلق بجميع الأمور المرتبطة بشخصه، سواء في ذلك ما كان وما سوف يكون. ويشمل هذا الرأي علم الإمام الحسين عليه السلام بزمان استشهاده. فقد قال الشيخ الصدوق في ذلك: «اعتقادنا فيهم أنهم معصومون، موصوفون بالكمال والتمام، والعلم من أوائل أمورهم وأواخرها، لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص، ولا عصيان، ولا جهل»([29]).
2ـ ابن طاووس
قال: «والذي حقَّقناه أنّ الحسين عليه السلام كان عالماً بما انتهت حاله إليه، وكان تكليفه ما اعتمد عليه»([30]).
3ـ المحدّث البحراني
قال: «إنّ رضاهم بما ينزل بهم من القتل والسيف أو السم، وكذا ما يقع من الهوان على الدين من أعدائهم الظالمين، مع كونهم عالمين، قادرين على دفعه، إنما هو لما علموه من كونه مرضيّاً له سبحانه وتعالى، مختاراً بالنسبة إليهم، وموجباً للقرب من حفرة قدسه»([31]).
4ـ المحقق اللاهيجي
قال: «إنهم يعلمون متى يموتون»([32]).
5ـ العلامة المجلسي
قال: «الحسين عليه السلام كان عالماً بغدر أهل العراق، وإنه سيستشهد هناك مع أولاده وأقاربه وأصحابه… الظاهر من الأخبار أنه عليه السلام كان عالماً بشهادته، ووقتها، وكان ينتظرها، ويُخبر بوقوعها»([33]).
إنّ هذا الرأي هو مذهب أكثر العلماء والمفكِّرين من المعاصرين. وفيما يلي نشير إلى بعض هؤلاء العلماء المعاصرين:
6ـ الشيخ جعفر الشوشتري
قال: «قد علم عليه السلام بأنه يقتل؛ فقال لأصحابه: أشهد أنكم تقتلون جميعاً…»([34]).
7ـ المحقق الإصفهاني
قال: «إنّ الإمام قبل حركته من مكة، وحتى عندما خرج من المدينة، كان يعلم بجميع أحداث كربلاء، بل وحتى أحداث ما بعد كربلاء من سبي أهل بيت العصمة، ولذلك فقد حمل معه عياله وحرمه»([35]).
8ـ العلامة الطباطبائي
قال: «إنّ للإمام ـ طبقاً للأخبار الكثيرة ـ مقاماً من القرب الإلهي، ولذلك يستطيع العلم بكلّ ما يريد علمه بإذن من الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك علمه التفصيلي باستشهاده، وجميع ما سيجري عليه وعلى أهل بيته»([36]).
9ـ الشهيد مرتضى مطهري
يذهب الأستاذ الشهيد مطهري إلى عدم التمكّن من إثبات علم الإمام أو عدم علمه عليه السلام بزمان استشهاده من ناحية الأحداث التاريخية. وعليه فقد مال في إثبات علم الإمام عليه السلام بالغيب إلى البعد المعنوي والعلمي لشخصية الإمام عليه السلام، فقال: «إنّ الإمام على المستوى الآخر المتمثّل بمستوى الإمامة كان يعلم بأنه سينتهي إلى كربلاء، وأنه سوف يستشهد هناك»([37]).
10ـ الشيخ محمد تقي الجعفري
قال العلامة الشيخ محمد تقي الجعفري، بعد إشارته إلى المراتب العلمية والمعنوية للأئمة عليهم السلام: «إنّ مجموع ما تقدّم يمكنه بوضوح أن يُثبت إمكان علم الإمام الحسين باستشهاده في واقعة كربلاء ـ كما كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يعلم بقاتله، واللحظة التي سيضرب فيه على رأسه بالسيف، وهي ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك ـ، إلا أنه لا يرقى إلى ذلك العلم المطلق الذي هو مختصّ بذات الله تعالى»([38]).
كما كان كلٌّ من الشيخ محمد صالح المازندراني([43])، والشيخ كاشف الغطاء([44])، والعلامة الأميني([45])، والميرزا حبيب الله الخوئي([46])، والشهيد القاضي الطباطبائي([47])، والشيخ علي پناه الاشتهاردي([48])، ومراجع الدين، مثل: السيد حسين البروجردي، والسيد محمد رضا الگلبايكاني، والشيخ محمد علي الأراكي، والسيد المرعشي النجفي([49])، ممَّن ذهب من المعاصرين إلى القول بعلم الإمام عليه السلام بالغيب.
وقد ألَّف الشيخ صافي الگلبايكاني كتاب (شهيد آكاه)([50]) في نقد كتاب (شهيد جاويد)([51])، وهو أكثر الكتب تفصيلاً في هذا المجال.
تعليق