إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

الفقه الزينبي بين الفن والواقع

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفقه الزينبي بين الفن والواقع

    المحاور التي ينبغي أن يدور عليها البحث حول السيدة زينب (عليها السلام) محاور متشعبة وإن بدت للوهلة الأولى منحصرة بنقاط محدودة ولعل من أهم ما يجدر التنويه به في هذه الرؤية الوجيزة هو أننا نشاهد السيدة زينب (عليها السلام) من خلال صورتين.


    - الأولى الصورة الفنية

    وهي تعرض لنا الحوراء زينب كامرأة مفجوعة باكية لاطمة قد تشق جيبها وتلطم رأسها كلما تنظر إلى ما حولها فلا ترى إلا ما يدل على الذل بعد العز فكل شيء يخاطبها بلسان الحال:

    ذهــــب المـانعون عنـك فقومي والبـــسي بــــعد عـزك الإذلالا

    أنـــت مسبـــية عـــلى كل حال

    ويزداد الحال مأساوية عند مطالعة الشعر الشعبي الملئ بالمصائب الزينبية إلى حد التوتر الجزوع، ويبدو لنا أن أكثر من تناول هذه الجوانب الفجائعية هم شعراء العراق والخليج باعتبارهم ضمن منطقة التفاعل الأبرز بالواقعة الحسينية، ونحن لابدّ هنا أن نقر بحقيقة أدبية تفرضها الأمانة هي أن اللون المأساوي هو المتناسب إلى حد كبير مع طبيعة الفن الشاعري، فحين نحذف من الفن طابعه المأساوي في زينب (عليها السلام) فإننا بذلك نتكلف حذف أهم سمات الشعر، ولهذا نتحفظ على ما أبداه بعض المنظرين على البيت القائل:

    بأبي التي ورثت مصائب أمها فغدت تقابلها بصبر أبيها

    حين استبدل ذلك بالقول: (بأبي التي ورثت مواقف أمها) فهذا الكلام يبدو جميلاً على مستوى التنظير لكنه ليس بذات قيمة في المنظور الفني الأدبي، فالشاعر لن يختار مفردة (مواقف) ليترك الإيحاءات الجمالية لمفردة (مصائب) خصوصاً عند المقابلة بذيل البيت، نعم في مجال البحث نقول أن زينب ورثت مواقف أمها لكن الفنّيات تختلف عن البحث تمام الاختلاف فالفن بطبيعته يرجح الانفعالات الساخنة على برودة أعصاب البحث، نعم إن تخطئة الشعراء تحدد بالإغراق في الفجائعية الزينبية دون حدود، فقد يطغى العويل على جمالية القصيدة، وتتحول هذه الإشكالية الأدبية إلى مشكلة اجتماعية حين يتركز هذا الخطاب الفجائعي في الوعي الجماهيري على أنه حقيقة يؤثر مفعولها بما يفوق تأثير التحقيق والبحث، فالجمهور يتصور أهل البيت بما فيهم زينب (عليها السلام) من خلال هذا التصوير الشاعري فيأخذ المجازات أخذ الحقائق والمسلمات، أما حين نحذف هذه الركائز الشعرية من الأذهان فإن المشكلة قد تتحول إلى خطر فكري بحيث لا يبقى أي تصور للسيدة الحوراء إلا عند المثقفين الذين قرأوها من غير الصورة الفنية.

    أما الجمهور فلا يكاد يتصورها إلا من خلال اللوحة الشعرية وبالخصوص الشعبية منها، إذن لا يمكن الخطأ في تناول الشعر بهذه الأساليب المفجعة، وإنما يكمن الخطأ في ارتكاز الصورة الفنية في العقل الشعبي واختلاط المجاز بالحقيقة وتحويل أخيلة الشعراء إلى وثائق تاريخية يعتمدها الناس، هذه هي الصورة الأولى التي نشاهد السيدة من خلالها.


    - الثانية ـ زينب الواقعية

    التي تجاوزت هذه الخلفيات الخيالية عندما نتأملها كباحثين لا كشعراء أو قصّاصين، فنرى أن للمرأة عاطفة طبعية لم تتجاوزها أنوثة الحوراء مهما تحدت ضعف الأنوثة وتغلبت على ما يعتبر طبيعة تكوينية عندما كانت المرأة في الرأي العام هي الضلع القاصر المهمّش التي تأتي دائماً في الدرجة الثانية من بعد الرجل لا على مستوى الدور فقط بل حتى في المنزلة عند التقييم التفاضلي، إلى درجة أن الخطاب الإسلامي على عظمته لم يتمكن من نزع هذه الرؤية البدائية فقد استمرت إلى عصور متأخرة لم يخل هذا العصر من ترسباتها، ولا تعجبوا إذا قلنا أن هناك من لا يزال يروج لعورية المرأة لا للتشديد على الحجاب فحسب بل حتى في صوت المرأة، فبالرغم من المجوزات الشرعية لا يزال يوجد الآن من يستنكر وقوف المرأة للخطاب على مسمع الرجال، وكأن هؤلاء لا يريدون تعريف زينب (عليها السلام) بالأحكام أو أنها تجاوزت التشريع، ولأن هذا النقد لا يمكن توجيهه إلى زينب فيبرز عملها التبليغي بأنه اضطرار حتى يتفق مع القاعدة الفقهية (الضرورات تبيح المحظورات) ويظن أنه بذلك يرتفع الإشكال، إلا أن الحقيقة غير هذه الفذلكات، لأن الحوراء (عليها السلام) لم تكن مضطرة ـ بالمعنى الفقهي للاضطرار ـ أن تلقي خطاباتها الجماهيرية في شوارع الكوفة مع بقية عقائل النبوة من النساء، ولم تضطر إلى محاججة ابن زياد جلاّد الكوفة كما لم تضطر أيضاً لتأنيب رأس السلطة لتفقده نشوة الانتصار كل هذه البيانات الزينبية لا تدخل ضمن قاعدة الضرورات الاستثنائية المقررة عند الفقهاء إنما هي أحكام أولية (أي مشروعية بذاتها) لا ثانوية مشروعة باضطرار أو غيره من متغيرات الأحكام.

    إن دور المرأة لا يزال مستنكراً في الرؤية السلفية المعاصرة، فكيف هو الحال بعصر زينب (عليها السلام) القريب من خلفيات الجاهلية؟ لذلك كان الناس مبهورين بهذه الجرأة الخارقة إلى درجة تهديد الطاغية يزيد أمام عرشه مباشرة بالقول: (كد كيدك وناصب جهدك واسع سعيك) قد تقف امرأة موتورة مثل هذا الموقف فترد بالسباب فيستغرب الناس لا، المفروض أن تخاف لكنها تتجرأ لغياب وعيها بجرأة غير عقلانية بل مستميتة ثائرة يائسة زاهدة في الحياة!! وقد تأمل أن تتمكن فيما بعد فتهدد، بهذا قد يتصرف كل مأسور حتى لو لم يكن قادراً وإنما سلاحه الوحيد ردة الفعل عند شراسة الاضطهاد، أو هل كان الخطاب الزينبي من قبيل ردة الفعل النفسي؟ هذه زينب تقول افعل ما بوسعك لكنها لم توحي أنها سترد بذات العنف، ولم تهدد أنها ستنتقم بتحريض العشيرة كما يصوّرها الشعر الفصيح أو الشعبي الملئ إلى حد التخمة بالنعرات العشائرية المستوحاة من المحيط العشائري المسيطر على أجواء شعراء العراق والخليج، وهذه العشائرية ذاتها غير مبتورة لجذور بل طبعت مساحة كبيرة من الشعر العربي على اختلاف المقاصد خلال مراحل التاريخ ـ الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي ـ، وإذا كانت العشائرية قد ضمرت في العصر الإسلامي فإنها عادت فيما بعد أشد ضراوة وأكثر هيمنة على الشعر العربي إلى وقت متأخر كما هو السيد حيدر الحلي.

    لكن زينب (عليها السلام) تبتعد عن ذلك كله إذا قرأناها برؤية الواقع لا بأخيلة الفن، لقد كان الانتقام الزينبي من نوع آخر، هو انتقام المستقبل، وكان نظرها بعيد المدى يترفع على المأساة ويتجاوز أسلاك المرحلة ليتحقق ما أكدته بصلابة اليقين فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا)، وحتى تتم المعادلة عندما ينتصر الشهيد يكون مصير القاتل كما تؤكده (وهل رأيك إلا فند وجمعك إلا بدد وأيام وأيامك إلا عدد). من هذا المنظور العرفاني يستلهم الأحرار روح النصر كلما اشتدت المحنة فتتجلى الحقائق غير ما يراها السطحيون، وتأتي النتائج عكس ما يريد الطغاة بل كلما اشتد الاضطهاد كلما كبر النصر المستقبلي حتى صارت هذه المعادلة من سنن التاريخ المنطبقة على خط مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) التي لم يزدها الكبت (عليها السلام) سمواً مهما كان الثمن غالياً، وبهذه العرفانية مثلت الحوراء زينب (عليها السلام) الموقف الإنساني المتغلب على المنظور الأنثوي الشائع فأثبتت أن المرأة إنسان فاعل بإتقان مهما تمسك بالحدود الشرعية في فقه المرأة. وقد يشكل على الفكر الإسلامي المعاصر أنه رغم تطور آلياته ما زال يلتزم طريقة قديمة هي التمسك بالحجاب ممّا يحول دون ممارسة المرأة لدورها وسط فعاليات الحياة العامة!

    بيد أن احصائياتإحصائيات الواقع تفند هذا الإشكال عد التأمل في أدوار المرأة ضمن مجتمع النظام الإسلامي المعاصر، حيث تمارس المرأة إلى جانب الرجل دور النائبة والوزيرة وقد تصبح عن قريب رئيسة دولة بالإضافة إلى الأدوار الأخرى التي أثبتت تفوقها العلمي والعملي ليصبح السفور مجرد موضة شهوات لا علاقة له بالأدوار، ونحن لا ننكر وجود تعصبات هنا أو هناك تمارسها بعض العصابات المتلبسة بالإسلام لكنها في الحقيقة ذات مضمون متخلف من بقايا الجاهلية المتعصبة ضد دور المرأة المؤمنة.


    - الجاهلية مصطلح فيه نظر

    نحن حين نعبر هنا ببقايا الجاهلية في الوسط الإسلامي نتحفظ على تشدد سيد قطب بوصم هذا العصر بأنه جاهلية حديثة لا نتبنى هذا التشدد على اطلاقه، فقد نظر الرجل من زاوية واحدة تحصر الإسلام في ممارسة الحاكمية، وأن المجتمع المسلم بدون حاكمية إسلامية هو مجتمع جاهلي كما يزعم قطب في كتابه المثير (معالم في الطريق) الذي أصبح فيما بعد دستوراً تتبناه بعض التيارات المتطرفة، كالتفكير والهجرة.. لكن من قال أن الإسلام ينحصر بأدواره في الحاكمية؟ أين أبعاد الإسلام الحضارية والفكرية والروحية؟ صحيح أن للإسلام تشريعات محددة للحاكمية لكن الحاكمية ليست الركيزة الأساسية الوحيدة بحيث لو انتفت انتفى الإسلام عن المجتمع، وعند القول أن هذا العصر هو جاهيلة فمعنى ذلك هو الاحباط لجهود الرساليين المصلحين بل ربما يكون تهميشاً لجهود رسالية الإسلام نفسه، فهذا المفهوم القطبي لابدّ من إيقافه عند حده وحده أنه وجهة نظر أو تعبير خاص بمن أطلقه.

    ثم إن الجاهلية ـ كما تبدو لنا من خلال القرآن والتاريخ ـ لا تمثل فكراً ولا حضارة ولا عقيدة... نعم هي مجرد تقاليد وتصورات بدائية ما زالت تتسرب إلى عصرنا حتى أنها قد تكتسي ثوباً دينياً يتوغل إلى الحركات المعاصرة لتكفير الرأي الآخر. بينما لا نجد في الخطاب الزينبي ـ الكوفي أو الشامي ـ أي وصم للمجتمع بالجاهلية إنما خاطبته كمجتمع مسلم ذمت انحرافه وغدره دون وصفه بالجاهلية التي أنهاها ظهور الإسلام الأول، بل لا نجد ذلك حتى في كلامها لاشديد مع يزيد وإنما عاملته على أساس الإسلام الظاهري حين هددها بأن يعطي إحدى بنات الحسين (عليه السلام) للشامي، فقالت السيدة زينب: كلا والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج عن ملتنا وتدين بغير ديننا. فاستشاط يزيد غضباً وقال: إياي تستقبلين بهذا الكلام إنما خرج عن الدين أبوك وأخوك. فقالت: بدين الله ودين جدي وأبي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً.. إنه كلام جرئ لم يتجاوز الوعي ولم يسقط في طيش التعبير كما في اتهام المسلمين بالجاهلية التي لم تطلقها زينب (عليها السلام) بوجه المجتمع وإن استحقها القتلة.


    - نتائج

    نخلص من كل ما تقدم إلى النتائج التالية:


    - أولاً: ضرورة التجرد من الرؤية الأنثوية للمرأة إلى الرؤية الإنسانية العامة على أساس أن (النساء شقائق الرجال) كما في الحديث الشريف.


    - ثانياً: التفريق بين نسقين عند قراءة التاريخ الفني الغارق في الانفعالات والواقعي الباحث عن المواقف الحقيقية دون إغفال العاطفة.


    - ثالثاً: لسنا بصدد نقد الفن الشعري الذي لا يخضع لمعايير محددة فهو ممّا لا عيب فيه وإنما الخطأ هو الاعتماد على انفعالات الشعر كوثائق تاريخية بينما قد تكون زينب في الشعر غيرها في الواقع.


    - رابعاً: النتائج الفقهية من مواقف زينب في مشروعية حركة المرأة الاجتماعية في التبليغ والإدلاء بصوتها في الوقائع. ثم بقي الإشارة إلى مسألتين: الأولى: إن استقراء أحداث النهضة الحسينية يدل على أن لزينب (عليها السلام) الدور الثاني بعد الإمام الحسين (عليه السلام) بلا فصل، ولولا دورها التبليغي لكانت الفرصة متاحة للمحرفين من أجل التغطية على النهضة بما يمتلكوه من قوة النفوذ الإعلامي والنفاق.. ولا نريد بذلك إقصاء دور الإمام زينب العابدين (عليه السلام) كما اعترض بعض الحضور، لأنّ هذا الدور في نهضة كربلاء كان منوطاً بالسيدة الحوراء مخصّص لها لا ينهض به سواها، فلو قام به زين العابدين (عليه السلام) لقضي عليه ولحق بشباب آل محمد الشهداء، ومن ناحية أخرى لم تنفصل زينب عن توجيهات الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي كان يكرر القول لها: (أنت بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهّمة) لتكون بذلك شريكة الحسين (عليه السلام) حقاً وتصبح القدوة للمرأة الإنسانة المناضلة امتثالاً لتكليف شرعي حسب الفقه أولي لا ثانوي.



    منقول عن

    الشيخ يحيى الراضي
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
x

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

صورة التسجيل تحديث الصورة

اقرأ في منتديات يا حسين

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

يعمل...
X