رحلة القبض علي الزمان الهارب:
اللحظة الخالدة.. والحاضر السرمدي
قد لا نستطيع التعبير عن الزمن، سنلجأ لتثبيته في كوادر وإشارات نعلم يقينا أنها لا تستطيع تعريفه أو تحجيم محيطاته وتدفقها. سيظل لغز الزمن مؤرقا للإنسان مع امتداد وجوده. هذا الوجود الذي لايقوم ولا يصبح له معني بغير وجودنا. بغير وجود الإنسان. سنظل عاجزين عن الإمساك بلحظة الحاضر، وممزقين بين أمل استرجاع الماضي والنفاذ إلي جوهر المستقبل الذي تحيطه هالة إلهية من الرهبة والجلال.. هذه الدراسة العميقة للدكتور عبد الغفار مكاوي أستاذ الفلسفة المبدع، كتبها كتعبير عن قلقه الوجودي، وقد ضمنها كتابه 'شعر وفكر .. دراسات في الأدب والفلسفة'، الذي صدر عن الهيئة العامة للكتاب ومضي في صمت شأن أعمال كثيرة جادة فيها يحاول الإجابة عن سؤال الزمن والوجود والسرمدية وارتباطها بالإنسان من خلال التركيز علي آراء هيد جر ووجهة نظر الشعر والأسطورة ومن خلال عشرات الإشارات التي وردت في أعمال فلاسفة ومفكرين وكتاب أرهقهم السؤال وألح عليهم في رحلة بحثهم المضنية من الإجابة، وفي سعيهم للقبض علي اللحظة الزمنية من أجل الوصول إلي هدف أسمي، الخلود!
'الزمن الماضي والزمن الآتي
لا يتيحان إلا القليل من الوعي
أن تكون واعيا هو ألا تكون في الزمان
لكن في الزمن وحده يمكن للحظة في حديقة الورد
ولحظة التعريشة التي ينقر عليها المطر،
واللحظة في الكنيسة التي يسري فيها
تيار الريح عند سقوط الدخان
أن يتذكرها المرء متضمنة الماضي والآتي
عبر الزمن وحده ينتصر علي الزمن
فقهر الزمان لا يكون إلا خلال الزمان
الحاضر والماضي
ربما كانا حاضرا في المستقبل،
وربما كان المستقبل طي الماضي.
لو كان الزمان كله حاضرا سرمديا
لما أمكن استرداد كل الزمان.
ألا أن ما كان يمكن حدوثه لتجريد
يبقي بمثابة الا مكان الدائم
في عالم من التأمل دون سواه.
ألا أن ما كان يمكن حدوثه وما قد حدث فعلا
ليشيرا إلي غاية واحدة
هي حاضر سرمدي...'
ت. س. اليوت
ما لغز الحاضر الذي حير عقل الإنسان وقلبه، منذ أن عاش بين الطقوس والأساطير إلي أن أطلق مركبات الفضاء؟. كيف واجه سره الذي يتسرب منه كما يتسرب الماء من بين كفيه وكما يفلت الهواء إذا حاول القبض عليه؟!
انه يشعر في حياته وتجربته اليومية الزمن موجود. فمن منا لا يذكر ماضيه ويحن إليه؟!، من منا لا يحلم بمستقبله ويخطط له؟!
مع ذلك فهو دائم القلق من زواله، دائم البكاء علي ضياع عمره ومجده، والشكوي من عبث كفاحه وتعبه. لو أرهفنا السمع قليلا، فربما هزتنا الأنات الآتية من أناشيد المغني الفرعوني الأعمي علي قيثارته، وزفرات أيوب في العهد القديم ومن قبله 'أيوب البابلي' المبتلي ظلما في الألواح الأربعة التي حملت شكواه وعرفت باسم 'لدلول بيل نيميقي' سأمجد رب الحكمة، وحسرات سليمان وداود في المزامير، وبكائيات الشاعر الجاهلي علي أطلال الأحباب، وأناشيد الجوقة في المسرح الاغريقي، ودعوة هوراس 'اقطف يومك'. ونقوش المقابر والمعابد، وربما انتهت الينا لعنات أبي العلاء التي صبها علي الزمان، مختلطة بآهات 'الخيام' و'دانتي' و 'ليوباردي' و 'هلدرلن' و 'اليوت'..
والانسان يحاول منذ القدم أن يستمهل هذا الضيف العزيز الذي لايزورنا الا لكي يودعنا، كما يحاول أن يعرف طبيعته، ويحدد موقعه بين ضيف سبقه ولن يعود، وضيف سيأتي بعده ولن يقيم.
من منا لايرثي أو يضحك للجهود التي بذلها المفكرون والفلاسفة لاصطياد اللحظة الحاضرة التي نحياها ولانمسك بها، ونحاول قياسها وتحديدها فتفلت منا، وتسرع بها دورة الفلك وعقارب الساعة كالشبح الهارب، بينما تدوم وتتمدد في أعماق الشعور، حتي توشك أن تضم 'الأزل والابد' في ومضة واحدة؟..
من منا لايحن لهذه اللحظة المواتية العابرة التي دعا أحد حكماء اليونان السبعة (بيتاكوس) لمعرفة قيمتها والقبض علي خصلات شعرها الذهبية المتدلية من جبينها قبل أن تعبر بنا ونحاول بعد ذلك أن نجري وراءها لنوقفها فاذا هي صلعاء الرأس من الخلف.
ومن منا لايؤثر عليه سعي 'فاوست' الدائب إلي لحظة الخلود التي يستريح علي صدرها حين يتحد بالمنبع الخالد؟ ومن منا لايتعاطف معه وهو يراه يجد في البحث عنها في لحظة 'الحب' أو 'المجد' أو 'العمل النافع لشعب حر علي أرض حرة'، فاذا به يتعثر في هاوية الخطيئة أو يسقط في حفرة الندم، بينما يتردد هتافه بها:
'تريثي قليلا فما أجملك؟!'.
ثم من منا لم يعش مع محاولات الفلاسفة لتثبيتها أو إنكارها؟!. من منا لم يدهش لمفارقات 'زينون' الايلي العنيدة التي تلغي الزمان والحركة لتثبت الأبدية؟ ومن منا لايعجب لتساؤلات 'أفلاطون' عن 'الآن' وجهود 'أرسطو' لتحديدها وجعلها وحدة قياس الزمان، وحيرة 'أوغسطين' أمام سرها حتي هداه الله إلي أنها 'توتر النفس التي تستجمع الماضي وتتأهب للمستقبل' و 'مواقف المتصوفة' ومواجدهم وأشواقهم إلي جعلها بيت السرمدية، واكتشاف 'ديكارت' لضوئها الخاطف وفعلها الحدسي في يقين 'الأنا' وكل يقين مترتب عليه، وفي فعل الخلق والحفظ الالهي المتصل للطبيعة والانسان!!
ومن منا لم يهزه جدل 'كيركيجارد' المعذب، وهو يفتش عنها داخل الزمان فاذا بها لا 'تتكرر' إلا في 'الأبدية'، والهام 'نيتشه' المحير بلحظة 'العود الأبدي' التي صعد معها فكره إلي القمة الخطرة ووجدها في لحظة التصميم علي مفترق الطرق إلي تحقيق الوجود الأصيل، وجمع فيها بين ماض كناه وعلينا أن نكرره فيها، ومستقبل علينا أن نصر عليه ونحققه فنحقق ذواتنا معه في وجه الموت المتربص المحتوم؟!
كلنا يحس سر الزمن. قد لا نتمكن من التعبير عنه، ولكنا نحسن بزمانيتنا في كل قول وكل تجربة وكل موقف نمر به. فالزمن قدرنا، والزمن ألمنا ويأسنا. وتجربة الانسان بزمانيته هي تجربته الحزينة بزواله وانقضائه وتناهيه. فالزمان شكوي أزلية، وأغلب الظن أنها ستبقي شكوي أبدية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تسجل شواهد التاريخ والحضارة والدين والفكر والادب هذه الشكوي المرة في صور مختلفة..
لم يكن البحث في سر الزمان عند مفكري اليونان قضية تفلسف مجرد، بل شعورا مأساويا ودينيا عميقا ترددت فيه أصداء الشكوي القديمة المتجددة. والا فما الذي دفع 'أنكسماندر' في شذرته الوحيدة الباقية إلي القول بأن الأشياء ينبغي أن ترجع لأصلها وأن تكفر عن ذنبها وفقا لنظام الزمان؟! وما الذي دفع 'زينون' الايلي لالغاء الزمان ومعه التغير والصيرورة؟ ألم يكن هو البحث عن ملجأ ثابت يتيح للانسان السكينة في حضن الابدية، وتجربة العناق بين الفكر والوجود الذي علمته الربة المجهولة 'أستاذة أستاذه بارمنيدز' أنهما متساويان وثابتان؟
وما الذي جعل 'أفلاطون' يقول 'ان الزمان هو صورة الأزل، إن لم يكن هو الفزع من الزمان؟! ثم ما الذي دفع أرسطو والمفكرين من بعده حتي 'برجسون' إلي 'تمكين' الزمن وقياسه، الا أن يكون هو الخوف من عضة نابه والسعي إلي قيمة أخري ترتفع فوقه كالفكر الثابت الذي يفكر في نفسه أو الأبد الساكن الذي يتعزي الانسان به ويأمل فيه.
ان صرخة 'باسكال'، التي ترددت في 'خواطره'، ستظل تطرق أبواب قلوبنا بشدة:
'أري هذا الفضاء الكوني المخيف الذي يحيط بي، وأجد نفسي مقيدا بركن من هذا الامتداد الهائل، دون أن أعرف لماذا وضعت في هذا الموضع دون سواه، ولا لماذا حددت هذه الفترة الزمنية القصيرة التي قدر لي أن أعيشها في هذه النقطة بعينها لا في نقطة غيرها من الأزلية التي سبقتني أو الأبدية التي ستأتي بعدي.
لست أري من كل ناحية الا هذه اللانهايات التي تحبسني وكأنني ذرة وظل لايدوم الا لحظة واحدة بلا عودة'.
وان 'كانط' ليقدم الزمان علي المكان، فيصف الأول بأنه الشرط الصوري القبلي لجميع الظواهر بوجه عام، وهذا عكس المكان المقصود علي الظواهر الخارجية وحدها، كما يحمل أحد الكتب المؤثرة علي الفكر المعاصر هذا العنوان المهم: 'الوجود والزمان'. ومع أن مشكلة المكان قد لاتقل أهمية عن مشكلة الزمان، بل ربما كانت أشمل منها وأقدر علي إلقاء الضوء علي طبيعة الانسان وماهيته التي تعلو علي المكان والزمان جميعا، وان ظلت أسيرة لها ، علي الرغم من هذا كله فان الحديث عن الزمانية كان علي الدوام هو الحديث عن تناهي الانسان الذي يظهر في صورته الحادة في زمانيته المنطوية علي فنائه وزواله وموته. ولهذا كان التفكير في الانسان من حيث هو كائن فان أو 'مائت' مساويا للتفكير فيه من جهة الزمان وفي أفق الزمان. ولهذا أيضا كثر الحديث في الفكر المعاصر عن كون الانسان ملقي أو مقذوفا به في هذا العالم، أي في مكان وزمن محددين كل التحديد. وهو يعيش فيه وهذا هو أوضح تعبير واقساه عن تناهيه دون أن يدري لماذا يحيا في هذا الزمن لا في زمن آخر. ولقد عبر 'بسكال' في ختام القطعة السابقة عن هذا أقوي تعبير حين أنهاها بقوله 'بلا عودة' معبرا بذلك عن واحدية البعد الزمني، وان اتجاهه لا يقبل أن يعكس. فالانسان يشبه ظلالا يدوم إلا لحظة واحدة، بلا عودة.
إن السر الأول للزمان هو انه يلتهم كل ما فيه ويلقي به في قبره الذي لايشبع. ولهذا ارتبط الزمان بالزوال والانقضاء. فالماضي لم يعد له وجود، والمستقبل لم يكن بعد، واذا أقبل فسرعان ما يتحول إلي ماض. والماضي والمستقبل كلاهما لا وجود لهما في وجدان الانسان الا من حيث هما حاضر، أي في تذكر الماضي وتوقع المستقبل. أما الحاضر فلا وجود له في تجربتنا اليومية. كلما مددنا أيدينا للتشبث به، تسربت منها حبات رمال الزمن (أو 'آناته')، وكلما حاولنا أن نمد في أجل هذه اللحظة الخالية من الامتداد في لحظات الصفاء والحب والأنس، أو في لحظات الرعب واليأس روعتنا الحقيقة المحتومة التي تقول ان كل مستقبل يصبح فيها ماضيا، وان حاضرها حد وهمي أرق ملمسا من الحد الفاصل بين نقطة البحر والنقطة التي تليها، أو نسمة الريح والنسمة الرفافة في ذيلها..
ولهذا ربما عذرنا 'أرسطو' الذي أغاظه 'الآن' فأخرجه من الزمان ليجعله وحدة قياسه...
أنعيش اذا بلا حاضر علي الاطلاق؟ أتكون حياتنا حلما؟ أنخطو علي الطريق بلا أرض نقف عليها؟! أتكون حياتنا حياة الأسري المغلوبين الذين يتعثرون في الهاوية باستمرار؟!
اكتب علينا الزوال والانقضاء في كل لحظة من لحظات مدتنا المحدودة، بلا عودة ولا سبيل للرجوع؟!
أهذه هي نهاية المطاف في تفكيرنا في الانسان؟! ألا يبقي أمامنا الا الاستسلام للبكاء أو الوثوب فوق جواد الزمن إلي حظيرة 'الأبدية' لنلتمس فيها الخلود والبقاء، ونجفف علي صدرها دموع السفر والشقاء، أو نتعلل بالسعادة والهناء؟
هنا نبلغ باب السر الثاني للزمن. فنحن زمانيون ولانملك الهروب من الزمان ولا المكان . ولكننا في نفس الوقت لازمانيون، لا بمعني الخروج من الزمن كما نري في لازمانية القوانين المنطقية مثلا ولكن بمعني أن الزمن هو المرآة التي نري عليها السرمدية... فنحن قادرون علي المشاركة فيما فوق الزمن، أي في السرمدية ولو للحظات كالبرق الخاطف. ومفهوم السرمدية شيء مختلف عن الزمانية، كما يختلف عن الديمومة الزمانية اللامتناهية ويتفوق عليها. والأولي بنا أن نفكر. ان علاقة السرمدية بالزمان لايمكن أن تتصور تصورا زمانيا، لانها ترتفع فوق الزمان وتشمله بصورة ما.
وسر الزمن الثاني هو قدرته علي أن يتلقي السرمدية فيه. ومادام الانسان بطبعه كائنا زمانيا فانه سيكون كذلك قادرا علي المشاركة في الأبد والسرمد، بل ربما كان من واجبه أن يسعي إلي هذه المشاركة حتي يكون انسانا بحق... ولهذا يمكننا القول ان شوكة فنائنا هي خلودنا، لأن الشيء الفاني لن يؤلمه فناؤه، ولأن ما يمكنه أن يحيا فقط، سيمكنه أن يموت فقط. أما من يشعر أن كل شيء لابد أن يفني ذات يوم، فإن شعوره هذا يرفعه فوق ذاته وفوق الكل. كل شيء سينقضي ويزول: أنا وأنت وكل ما يحيط بنا، ولكن فيك وفي شيئا يزيد علي الكل ويختلف عنه، وإلا ما عرفنا عنه شيئا..
ولكن بأي معني نفهم قدرة الزمن علي تلقي السرمدية ونفاذها فيه؟! بمعني أننا بغير هذه القدرة لن نجد أرضا نقف عليها، وأننا ونحن نندفع في مجري الزمان نفسه لن نجد الحاضر الحق، الحاضر الخالص الذي يهوي إلي وادي الماضي بمجرد وصوله من قمة جبل المستقبل.
إن الحاضر واقع نحياه دون أن ننتبه اليه في لحظات سنتحدث عنها بعد قليل ونحن نحياه في مجري الزمن وفوق الزمن، لأن السرمدية تنفذ في الزمن وتضفي عليه الحضور. كما أن الانسان يمكنه بل يجب، عليه أن يستحضرها فيه. فالسرمدية حاضرة دائما، وهي سبب احساسنا بالحاضر علي الاطلاق. لولاها ما أمكننا أن نقول 'الآن'، فهي التي ترفع الآن فوق مجري الزمن العابر . ونحن لانقصد هذا بالمعني الديني والصوفي وحده، بل نقصده بالمعني الفلسفي والحياتي، اذ يكفي ان نستغرق في الصلاة لحظات لنحسه، يكفي أن نطالع ما يقوله الكتاب الكريم عن الدار الآخرة، وما يقوله الانجيل الرابع عن الأبدية، وما يشكو به المزمور التسعون (بالغداة كعشب يزول، بالغداة: يزهر فيزول، عند المساء يجز فييبس) من زوال بني آدم اذا قورنت حياتهم بأبدية الله.
يكفي هذا كله لنعرف السرمدية والأبدية، 'فألف سنة عنده كيوم، أمس' هي التي تعطي 'للآن' معناها وواقعها اللانهائي، 'وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون' ..
بهذا تصبح الفلسفة سعيا دائبا إلي الحضور الخالص وقهرا مستمرا للزمان والزمانية. واذا كان أفلاطون قد علمنا تعريفين أساسيين من تعريفات الفلسفة عندما قال في أحدهما أنها التأمل الدائم للموت، فمن حقنا أن نغير هذا التعريف (الذي لاينطبق الا علي مرحلة فايدون وما قبلها!) فنقول ان الفلسفة هي تأمل دائم للحضور الحي. واذا كان قد قال في تعريفه الآخر الذي تبعه فيه فلاسفة العصر الوسيط من مسلمين ومسيحيين ان الفلسفة هي التشبه بالله بقدر الطاقة فبامكاننا أن نزيده وضوحا فنقول ان الفلسفة هي جهد دائب لكي يتشبه الكائن الزماني بالكيان السرمدي.
لن نقف عند هذه المعاني كلها بل سنتجاوزها إلي معني يتصل بوجودنا اليوم كأبناء أمة تسعي إلي اكتشاف هويتها وتحديد مكانها بين الأمم. أمة يعرف المخلصون من أبنائها أنها مهددة بالانقراض والانهيار ان لم تع حاضرها، وتؤد واجب لحظتها، وتستوعب قيمة ماضيها وتنهض، بأعبائها التي تفرضها عليها فلسفة جديدة حية للتاريخ، أي فلسفة للزمان. الذي لاغني عنه لفهم التاريخ.
ماذا أقول؟! أأقول اننا اليوم وأينما تلفت فسحب الاخطار تزحف وأهوال التحديات تنادي باليقظة للحاضر الذي ينبغي أن يكرر خير ما في، الماضي من تراث، ويتهيأ لخير ما في المستقبل من أمل وعمل.
أأقول اننا اليوم نعيش بداية انقراض تلوح نذره، أم نهاية انقراض، بدأنا نتخلص من آثاره؟!.. لن أستسلم للتفاؤل أو التشاؤم. حسبي أن أدعوك يا قارئي لواجب الحضور الحي وعبء اللحظة الخالدة. ليست دعوة صوفي، فأنا لم أبلغ أعتاب هذا الشرف،
والعلاقة بين الوعي بالحضور الحي لزمانيتنا وبين السرمدية 'مقام مهيب غامض'، انما هي دعوة انسان يقدر قيمة اللحظة الحاضرة ويعلم انها الفرصة الوحيدة للسرمدية، أو بلغة أقرب إلي واقعنا اليومي البائس هي الفرصة الوحيدة لكي 'نكون أو لانكون'..
واذا كانت الأسماء التي تكلمت عن الحضور في اللحظة الخالدة اكثر من أن تحصي أو تعد، واذا كانت هذه الأسماء تزدحم بها شواهد التصوف والفلسفة والفن والشعر والأساطير والطقوس مما لايجدي معه حصر للمراجع والنصوص، فلنختر أقصر الطرق وأشدها تواضعا، ولنكتف بالنظر في تأملات فيلسوف معاصر لم يمض علي وفاته أكثر من عام، نتلوها بخواطر مستمدة من واقع آخر ومجال مختلف قلما ننتبه إليه وهو واقع الشعر والاسطورة والطقوس، لنختم هذه النظرات بسطور قليلة عن الحضور في اللحظة الخالدة، لحظة نفاذ السرمدية في الزمانية، اللحظة التي يتعانقان فيها في لمسة هي أشبه بوميض الشمعة أو لمح البرق فنؤكد وجودنا وحاضرنا في 'الآن'. ونعي ذاتنا حين نتشبث بصخرة اللحظة ونقاوم طوفان الزمان الصاخب، ونثبت اننا جديرون بالنعمة السرمدية حين نكون أوفياء للحظة، مستعدين لتحمل مشقتها ومسئوليتها استعدادنا لترقب نورها وبريقها.
لماذا ارتبط الزمان دائما بالوجود؟ ولماذا لا نفكر في أحدهما دون أن نفكر في الآخر؟! الوجود منذ فجر الفكر الفلسفي مرادف للحضور. والحضور يكون في أفق الحاضر ويتكلم بصوته. والحاضر في التصور الشائع يعد من الأبعاد الثلاثة التي تلازم تصورنا للزمن الذي يسير علي طريق لا رجوع فيه من ماض إلي حاضر إلي مستقبل. والماضي في تصورنا الشائع أيضا هو الذي لم يعد له وجود كما أن المستقبل هو الذي لم يوجد بعد..
ونحن نذكر الزمان حين نقول: لكل شيء زمانه. فكل موجود يأتي عندما يجيء أوانه، ويذهب عندما يحين حينه ويبقي مدة الزمن التي قدرت له. ولكن هل الوجود شيء؟! هل يشبه الموجودات التي تكون في الزمن؟ وهل الزمان نفسه شيء، أم هو الذي يسع الأشياء والموجودات التي تكون فيه وتفسد، تولد ثم تموت بعضة نابه؟
عبثا نبحث عن الوجود نفسه بين الموجودات المحيطة بنا، فليس مثلها موجودا زمنيا. ومع ذلك فنحن نقول انه 'يحضر' في الزمان، يتحدد بكل ما يوجد فيه، يظهر بظهوره ثم لايلبث أن يحتجب ويخفي عنا سره.
عبثا نحاول أن نلقي الزمان بين الموجودات والأشياء التي تتزمن به وتنتهي فيه. فهو نفسه ليس موجودا ولاشيئا. انه ينقضي باستمرار، ولكنه في انقضائه يختلف عن كل ما يوجد فيه. والبقاء عكس التلاشي، أي هو الحضور، والحضور هو أسلوب الوجود.
الوجود والزمان اذن يتحددان بالتبادل، ولكنهما يتحددان علي نحو لايسمح لنا أن نصف أحدهما وهو الموجود بأنه شيء زمني، ولا أن نتحدث عن الآخر وهو الزمان كما لو كان أحد الموجودات والأشياء.
هل وقعنا بهذا في شباك العبارات المتناقضة؟ هل نلجأ إلي ما تلجأ اليه الفلسفة في مثل هذه الاحوال من تصعيد للتناقض، والجمع بين طرفيه في وحدة أشمل، نسميها بعد ذلك وحدة جدلية؟! أليست هذه الوحدة التي تهدف للمصالحة بين العبارتين المتناقضتين عن الزمان والوجود، هروبا منهما معا ومن العلاقة القائمة بينهما؟
وما الطريق الذي نسلكه كي ننظر في موضوع كل منهما علي حدة أعني في القضية التي يطرحانها أمام الفكر؟ فلنأخذ أنفسنا بالحذر الواجب، ولنواجه هذه القضية. بما يليق بالفكر من صبر وأناة.
نحن نقول علي الدوام: الوجود يكون، والزمان يكون. فلنجرب تغيير الصيغة اللغوية لنقول: الوجود يوجد والزمان يوجد (علي أن نفهم من كلمة يوجد معني الجود والعطاء الذي يجمع بينهما ويجود بهما.
إن الوجود يتيح للموجود أن 'يحضر' ويسمح له بأن يظهر ويكون. وإحضار الموجود بهذا المعني يساوي إخراجه من التحجب والخفاء إلي الانفتاح والجلاء، ومن ثم يكون الوجود نوعا من العطاء.
غير أن العطاء لايزال ملفوفا بالظلام، كما اننا لانزال نجهل كل شيء عمن يقوم به. لقد حاولت الميتافيزيقا في تاريخها كله، منذ بدايتها الساذجة عند طاليس وحتي اكتمالها في فلسفة 'نيتشه' أن تفكر في الوجود من ناحية الموجود، وتفسره باعتباره الأساس لهذا الأخير. فلنحاول أن نفكر فيه من جهة 'الحضور' والتكشف والظهور، أو كما قلنا الآن من جهة العطاء.
بهذا يتحول معني الوجود، ويصبح العطية أو الهبة التي يجود بها الكشف والاظهار من ثنايا التحجب والخفاء وبهذا أيضا يصبح هو الحضور. هذا الوصف للوجود بأنه حضور ليس بالأمر الذي نقرره من جانبنا أو نختاره بمشئيتنا. لقد تقرر منذ زمن طويل وليس لنا فضل فيه، والتزم به الانسان منذ طرح سؤاله القدري 'ما هو الوجود' حتي 'حضر' هذا الوجود في تفسيره الأخير له علي هيئة أقمار صناعية تجوب الفضاء وتدور حول الأرض، ومركبات تغزو القمر والزهرة والمريخ ... الخ.
لقد كان يحضر في كل مرة في صورة يعبر عنها الانسان بالقوة والفكر، ويلتزم بها في الفعل والسلوك، ويراها ماثلة في الكائنات المحيطة به والأشياء التي يحيا بالقرب منها ويستخدمها أدوات في شئون معاشه.
هكذا تغيرت صور الحضور، واختلفت باختلاف المفكرين وتعاقب العصور فكان الحاضر مرة هو 'الواحد'، أو 'اللجوس'، وكان هو الجوهر والمثال والفعل، والمونادة، والتصور والارادة، والروح المطلق، وارادة القوة، وارادة الارادة في عودة الشبيه الأبدية..
هذا شيء يشهد عليه التاريخ، حتي لقد طغي الوهم بأن تاريخ صور الحضور هو تاريخ الوجود. غير أن تاريخ الوجود شيء مختلف عن تاريخ المدن والحضارات والشعوب، فتاريخية الوجود لا تتحدد إلا بكيفية حدوثه، أي بأسلوب عطائه الوهاب، وتكشفه في نفس الوقت الذي يتواري فيه خلف حجاب. هذا العطاء نوع من 'التقدير' ، والوجود الذي يعطيه هو الذي نصفه بالمقدر.
كل التحولات في صورة الوجود المعطي هي مراحل في تاريخ الوجود، أو بالأحري تاريخ حدوثه. ومن قدر هذا التاريخ أن تفسيرات الوجود عن طريق الموجود كانت تحجب 'قدره' الأصلي شيئا فشيئا، بحيث تواري معني الحضور والعطاء بالتدريج وأسدل عليه ستار بعد ستار.
ان الارتباط بين الزمان والوجود يشير إلي الأخير بوصفه حضورا، أي إلي طابعه الزمني. فلنفكر الآن في الزمان لعلنا نهتدي إلي حقيقته.
كلنا يألف كلمة الزمان ويستخدمها في تصوراته الشائعة علي نحو ما يستخدم كلمة 'الوجود'. ولكن ما أسرع ما نكتشف جهلنا بهما عندما نتصدي لتحديد معنيهما.
وما أصدق عبارة القديس 'أوغسطين' عن الزمان:
'ان لم يسألني أحد عنه عرفته، وإذا طلب السائل مني أن أشرحه لم أعرفه'.
يتبين من كلامنا إذن أن الوجود في طابعه المميز مختلف عن كل ما يتسم به الموجود، وأنه في صميمه عطاء، والعطاء قدر تاريخي أعلن عن نفسه في صور وتحولات متنوعة.
كما يتبين مما قلناه أن ماهية الزمان لا توضحها التصورات الشائعة عنه، وأن الجمع بينه وبين الوجود ربما يقربنا منه: فالوجود كما عرفناه حضور أو هو بالأحري اتاحة الحضور.
ونحن لا نكاد نذكر الحضور حتي نذكر معه الماضي والمستقبل، أي المتقدم والمتأخر بالقياس للآن.
غير أننا إذا أردنا أن نفهم الزمان من جهة الحاضر، فلابد أن يكون هذا الحاضر هو 'الآن' الذي يختلف عن آن الماضي الذي لم يعد له وجود، وأن المستقبل الذي لم يأت بعد، وإذا كنا لم نتعود علي النظر إلي الزمان من جهة 'حضور' الحاضر، فالواقع أننا نتصور الزمان * أي وحدة الحاضر والماضي والمستقبل * علي أساس 'الآن'. وقديما قال أرسطو أن 'الآن' هو ما يكون من الزمان أو يحضر فيه. أما الماضي والمستقبل فهما شيء لا وجود له * صحيح أنهما ليسا عدما، بل هما وجود أو حضور ينقصه شيء نصفه بأنه هو 'الآن' التي لم يبق لها وجود، و'الآن' التي لم تأت بعد.
وبهذا يبدو 'الزمان' سلسلة من الآنات المتتابعة، بحيث لا نكاد نذكر احداها حتي يبتلعها لتوه ويطاردها علي الفور.
هذا 'الزمان' هو الذي يقصده كانط بقوله: 'انه ذو بعد واحد فحسب وهو الزمان الذي يتألف من آنات متعاقبة، ونعرفه جميعا عندما نخضعه للقياس والحساب، وعندما نتطلع للساعة، ساعة الحائط أو ساعة اليد، ونراقب عقاربها قبل أن نقول مثلا: الساعة الآن الخامسة وعشر دقائق. نقول 'الآن' ونعني بها الوقت أو الزمن. ولكننا لن نعثر علي الزمن نفسه مهما قلبنا في الساعة، وفحصنا آلاتها وفتشنا بين عقاربها!. بل لن نلمس له أثرا مهما حاولنا أن ندقق النظر في أجهزة قياسه الحديثة التي تسمي 'بالكرونومترات'. ولعلنا أن نبتعد عن جوهره الحق كلما أمعنا في هذا البحث.
أين الزمان إذا؟!. أهو موجود؟ ألة مكان يحل فيه؟ أهو وعاء يضم الانات والمكان الذي شبهه أرسطو بوعاء يسع العالم؟!
من الواضح أن الزمان ليس عدما، فكلنا يذكر اسمه، ويشعر بخطاه. فلنجرب أن نظر إليه من جهة 'الوجود'. الذي وصفناه بالحاضر أو الحضور. ولنعلم أن حضور هذا الحاضر مختلف كل الاختلاف عن حضور الأبد، بحيث لا يمكن أن يفهم هذا ابتداء من الآن. بل تفهم الآن وتحدد ابتداء منه'.
إذا صح هذا، فلابد أن يكون الزمان هو الحاضر بمعني الحضور، ولابد أن يختلف عن تصورنا المألوف له علي هيئة سلسلة من الآنات المتعاقبة التي تخضع للقياس، وإذا صح ما قلناه أيضا من أن الوجود حضور 'تكشف وعطاء' أصبح الحاضر بقاء وتريثا في مواجهة هذا التكشف والعطاء، كما أصبح 'الإنسان' هو الكائن الوحيد الذي يتلقاه وينتظر ظهوره، وينفتح عليه ويستجيبله. ولم لم يكن هو الذي يتلقي عليا لدوام هذه العطية لما بلغت إليه، ولبقي الوجود محجوبا مغلقا عليه، بل لما أصبح الإنسان هو الإنسان.
هل ابتعدنا بهذا عن موضوع الزمان وانصرفنا إلي الانسان؟!.
الواقع أننا لم نبتعد عنه كما نتصور، بل ربما ازددنا اقترابا منه. فطبيعة الزمان لا تتجلي إلا في الحاضر، بالمعني الذي قصدناه من الحضور، كما أن طبيعة الانسان لا تتحدد إلا عن طريق التعرض لهذا الحضور وتلقي عطاء الوجود الذي يتجلي له ويتخفي عنه في نفس الوقت. صحيح أنه يخاطبه علي الدوام. ولكن ما أندر ما 'ينتبه' لصوته، وصحيح أنه معرض لنوره الذي يظهر في هذا الموجود أو ذاك، ولكن ما أكثر ما ينشغل بظهور الموجود فيغيب عنه نور الوجود!
بيد أن 'الحضور' لا يكون بالضرورة في الحاضر وحده، بل قد يكون فيما انقضي وما هو آت، أي في الماضي والمستقبل. وإذا شئنا الدقة فأن العلاقة المتبادلة بين الآتي والمنقضي تتعانق في الحاضر، بل أن الثلاثة جميعا تسلم أيديها إلي بعضها البعض، بحيث تحضر في وحدة الزمن الواحدة.
ولكن ما الذي تسلمه إلي بعضها البعض؟!
ان هذا الذي تسلمه ليس إلا الحضور. وهذا الأخير هو الذي يلقي الضوء علي ما نسميه عادة بالمجال الزمني. غير أن الزمن هنا لم يعد سلسلة من الآنات متعاقبة الحلقات، ولا مسافة فاصلة بين نقطتين آنيتين مما نقيسه ونحسبه عندما نقول علي سبيل المثال: 'في مجال زمني يبلغ طوله خمسين سنة حدث كيت وكيت'. فالمجال الزمني الذي نقصده الآن هو الانفتاح، أو المجال المفتوح الذي تتحد فيه أبعاد الماضي والحاضر والمستقبل الثلاثة في عناق الحضور والعطاء، بل هو الذي يسبق ما نسميه بالمجال أو المكان ويجعله ممكنا، كما يسبق كل قياس وحساب للزمن إلي نقط آنية تتابع في خط ذي بعد واحد.
في هذه الوحدة التي تتلاقي فيها أبعاد الزمن الثلاثي، يحضر كل منها علي طريقته: الوافد المقبل الذي لم يصبح بعد حاضرا، والذاهب المنقضي الذي لم يعد حاضرا، ثم الحاضر نفسه. وقد يخطر علي بالنا أن هذا البعد الزمني الأخير هو أقرب الأبعاد إلي الحضور وأنسبها إليه.
ولكننا بذلك نخطيء معني 'الحضور' الذي يتجلي في الأبعاد الثلاثة جميعا، حتي أن 'هيدجر' ليذهب إلي أن تبادل العلاقة بينها بحيث تناول العطاء إلي بعضها البعض هو نفسه البعد الرابع للزمن.
وإذا كنا نسميه البعد الرابع، فالحقيقة أنه الأول من حيث الموضوع والرتبة.. فهو الذي يحدد الحضور، ويشد الأبعاد الأخري بعضها إلي بعض أو يباعد ما بينها.
ولهذا تقوم عليه وحدة الزمن التي نتحدث عنها ، بل أننا لنستطيع أن نسميه 'بالقرب': القرب الذي يقرب بقدر ما يباعد.
فهو يبقي علي الماضي مفتوحا عندما يحول بينه وبين أن يصبح حاضرا، وهو يدع باب المستقبل مفتوحا ويهييء الحاضر لتلقيه. وهو قبل هذا كله يجمع بين اتحاد صور الحضور المختلفة في الماضي 'الانقضاء' والمستقبل 'الوصول' والحاضر في وحدة واحدة.
علينا إذن ألا نتحدث عن كينونة الزمن أو جوده بل عن عطائه. هذا العطاء يتحدد بالقرب الذي يمنح ويهييء ويضمن انفتاح مجال الزمن، يحفظ فيه ما فتح من الماضي وحيل بينه وبين أن يصبح حاضرا وماهييء من المستقبل ليكون حاضرا. وهو بطبعه عطاء ينير ويحجب، يظهر الموجود من حيث يستر الوجود نفسه.
منذ بدأت الفلسفة وهي تتساءل عن الأصل في الزمن. وكان من الطبيعي أن تهتم في المقام الاول بالزمن المحسوب الذي يتتابع في آنات متعاقبة.
وعرفت الفلسفة منذ البداية أيضا أن الزمن الذي نحسبه مستحيل بغير النفس أو الروح أو الوعي، أي مستحيل بغير الإنسان.
ولكن ما معني هذا؟!. هل الانسان هو الذي يعطي الزمان أم هو الذي يتلقاه؟!. وإدا كان التلقي هو الأقرب إلي المعقول، فكيف يتلقاه؟! هل يفعل ذلك 'صدفة' بين الحين والحين؟!
ان الزمن الحقيقي هو القرب الذي يوحد بين أبعاده الثلاثة ويسلم أحدها للآخر في وحدة حضور حاضر وماض ومستقبل.
والانسان يصبح إنسانا بقدر ما يتعرض لهذا القرب وينفتح عليه، وبقدر ما يعايشه من داخله أو يواجهه من خارجه.
ليس الزمن من صنع الانسان، ولا الانسان من صنع الزمن، فليس هنا مجال للصنع أو الصنعة، وإنما هو عطاء بمعني التسليم المنير الذي يتيح كل حضور في مجال الزمن المفتوح.
قلنا الوجود 'يوجد' كما قلنا الزمان 'يوجد'. وفهمنا الفعل بمعني الجود والعطاء. والمعطي في الحالين واحد، ولعله شيء متميز، ولكنه يظل غامضا غير محدد، كما نظل ازاءه في حيرة 'فعبثا نحاول أن نفسر العبارتين علي أساس القضية العادية المؤلفة من موضوع ومحمول، عبثا نفتش عن المجهول في العبارة الأصلية التي تنطوي علي فاعل لا وجود له'.
وخير ما نفعله الآن أن نفهمه من ناحية عطائه وأسلوبه في العطاء علي نحو ما تجلي في 'قدر' الوجود و'تسليم' الزمان بالمعني الذي أشرنا إليه. فالعطاء قدر، والعطاء تسليم منير، وكلاهما متصل بالآخر من حيث أن القدر يقوم علي التسليم. والذي يجمع بينهما ويحفظ لهما ماهيتهما هو ما يسميه هيدجر بالحدث الذي يتم ويحتجب في نفس الوقت من خلالهما.
أيكون هذا الحدث هو المعطي الذي تعبنا في البحث عنه؟! لنؤخر هذا السؤال قليلا بحيث نجيب علي سؤال أسبق منه: ما الحدث؟! ولنعلم قبل الاجابة أن 'الحدث' هنا لا علاقة له بالمعني المألوف للكلمة، لأننا لن نفهمه إلا علي ضوء ما قلناه عن الوحدة الجامعة بين 'التقدير والتسليم'، وكلاهما أسلوب عطاء. بهذا نكون قد اقتربنا من الهدف الذي أخذنا ندور حوله منذ البداية: تحديد الوجود عن طريق الزمان.
وبهذا نأتي إلي العبارة الحاسمة التي اجتهدنا في القاء الضوء عليها: 'الوجود حدوث'.
هل انتهينا إلي تفسير جديد للوجود يضاف إلي التفسيرات العديدة التي قدمتها الفلسفة للوجود علي أساس الموجود، كالمثال والفعل والتصور المطلق والارادة؟!
أنكون بهذا قد خطونا خطوة أخري علي طريق 'الميتافيزيقا' الذي أردنا أن نحولها عنه؟! لن نخشي شيئا من هذا لو فهمنا الوجود بمعني الحضور، وفهمنا 'الحدوث' بمعني العطاء الذي يكلفه قدر الحضور.
فسوف يكون الوجود أسلوب حدوث ولا يكون الحدوث أسلوب وجود.
ولكن ما معني أن الوجود حدوث؟!
معناه أن الوجود والزمان كليهما يحدثان، والحدوث عطاء مقدر، والعطاء كما رأينا مرتبط بالتقدير والتسليم، وهذا بالحفظ والحيلولة والتهيئة. 'علي نحو ما رأينا عند الكلام عن أبعاد الزمان الأربعة'.
أي أن الحدث في نهاية الأمر مرتبط أيضا بما يسميه هيدجر هنا بالتمنع أو التراجع وما يسميه في مواضع أخري 'بالتستر والاحتجاب'.
ولما كان الوجود * بوصفه حضورا * إنما يعني الانسان ويخاطبه، فان جوهر الانسان يقوم علي الاستجابة له والانصات لندائه، كما يعتمد علي الدخول في المجال الزمني ذي الأبعاد الأربعة الذي يتم فيه الحضور، أي يتحقق العطاء والتسليم.
ومعني هذا أن الانسان مرتبط بالحدوث * اذ فيه وحدة يعطي الوجود والزمان. بل هو الذي يعيد الانسان إلي ماهيته وحقيقته، ولابد له في سبيل هذا أن يتلقي حضور الوجود لأنه يعنيه وحده، وأن يدخل كما كما قلنا في مجال 'التسليم' الذي هيأه الزمن الحقيقي الموحد ذو الأبعاد الأربعة.
هكذا ينتمي الإنسان انتماء أصيلا للحدث، ففيه وحده يعطي الوجود والزمان. ولأن هذا الانتماء يعتمد علي ما يقوم به الحدث من تأصيل 'أو توحيد' فان الانسان يتصل بالحدث عن هذا الطريق.
بهذا يؤكد هيدجر اننا لن نستطيع أن نضع الحدث كما لو كان شيئا يواجهنا مواجهة الشيء أو الموضوع. ولن نستطيع أن نتصوره كما لو كان هو الشامل المحيط بكل شيء. ولهذا أيضا يعجز العقل المفسر عن بلوغه، كما يخفق القول المعبر بالقضايا المألوفة عن الوصول إليه.
هل استطعنا أخيرا أن ندرك طبيعة الحدث؟ هل ساعدنا النظر إلي الوجود 'وقدره' والزمن 'وتسليمه' علي بلوغ معناه؟ هل اقتنعنا بما يفرضه علي الانسان من واجب ومسئولية؟ أم تمخض الأمر كله عن بناء فكري كسائر الأبنية التي يزخر بها تاريخ الفلسفة؟ وأن هذه الأسئلة جميعا تفترض أن الحدث لابد أن يكون موجودا كسائر الموجودات. والتسليم بهذا الفرض المعكوس أشبه بمحاولة اشتقاق المنبع من النهر!
ان الحدث ليس 'موجودا' فأقصي ما يمن قوله عنه انه يحدث. قد تبدو هذه العبارة مجرد تحصيل حاصل. ولو حاكمناها بمقاييس المنطق لما قالت شيئا. حتي إذا جعلناها موضوع التفكير والتأمل تبينا أنها لا تقول جديدا، وانما تعبر عن شيء قديم قدم الفكر الغربي نفسه، شيء منطو فيما اصطلح الاغريق علي تسميته 'الأليثيا' أي الحقيقة بمعني تجلي الوجود وتكشفه من طوايا التستر والاحتجاب، والتأمل في هذا المعني الأولي لايزال يلزم كل تفكير جاد.
بهذا يكون هيدجر قد حاول التفكير في الوجود بعيدا عن الاهتمام بالموجود، بعيدا عن الميتافيزيقا التي ما فتيء يبذل المحاولة تلو المحاولة لقهرها وتخطيها لكي يمهد للتفكير في الوجود نفسه. ولعله في هذه المحاضرة المتأخرة عن 'الزمان والوجود' قد نفض يديه من الميتافيزيقا وجرب أن يفكر في الوجود نفسه 'وحدوثه' أو حضوره وظهوره في الزمان. وهكذا وجد نفسه مضطرا للتخلي عن أرض الميتافيزيقا وطرح لغتها، والبحث عن لغة أخري تعذب في تطويعها للتعبير وعذبنا معه!
لقد أخذ يزيح العقبات عن طريقه وبقيت العقبة الكبري التي لم يقو عليها: اذ اضطر للكلام بالعبارات والقضايا التقليدية عن موضوع لا تصلح له ولا يصلح لها. لأنه ليس في الحقيقة موضوعا بل هو الأساس لكل موضوع!
عرضنا فيما سبق رأي فيلسوف معاصر، لم يمض علي موته أكثر من عام، عن الحاضر والحضور. ولاشك أنه متصل بفلسفة صاحبه عن الوجود، كما ينطوي علي قدر غير قليل من التعسف والغموض، وهو لم يصادف علي كل حال ما يستحقه من عناية واهتمام لاسيما من أصحاب العقل الذين يعولون عليه في شئون الحساب والقياس والتقدير.
لقد آمنت الأجيال السابقة كما يؤمن الجيل الحاضر بأن العلم الطبيعي والفلسفة المرتبطة به هما وحدهما القادران علي الكشف عن جوهر الأشياء وتحديد امكانات التجربة، أي أن العقل الذي يحسب ويقيس هو وحده القادر علي كشف معني الواقع، ولاشك أن معهم الحق في هذا ما بقوا في مجال العلم والعمل وتصريف شئون التقدم والمعاش.
غير أن الإنسان كان يحس علي الدوام بعالم آخر مختلف تمام الاختلاف تحرك شخصياته وصوره الوجدان، ويضفي علي الوجود كله كرامة وجلالا ومجدا يعجز عنه البحث العلمي ولا يكاد يعرف عنه شيئا.
ذلك هو عالم 'الشعراء' وعالم 'الأساطير' و'الطقوس' عند الشعوب القديمة والشعوب الفطرية.
فلنحاول أن نفسر ظاهرة الحضور من وجهة نظر الشعر والأسطورة والطقوس تفسيرا جديدا.
ترددت شكوي الانسان الدائمة * كما رأينا * من زوال وجوده وتناهيه وانقضائه، وليس من المحتمل أن تتوقف هذه الشكوي، وما ينبغي لها كذلك أن تتوقف. فليس من قبيل الصدفة أن يقول المتنبي:
'صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
عناهم من أمره ما عنانا'
ولم يكن من قبل الصدفة كذلك أن تتردد شكوي الزمان علي السنة الحساسين من الأدباء والمنشدين في الحضارات القديمة، غير أن شكوي الانسان كانت تقابلها علي الدوام معرفته بما لا يزول أو ينقضي، واحساسه بالأيدي غير الزمني، وشعوره بسكينة مقدسة، أشبه بصخرة تتدافع حولها أمواج الزمن والصاخب وتحطم عليها.
وقصيدة ليو باردي '1798 * 1837' التي جعل عنوانها 'اللامحدود' تعبر عن هذه المواجهة بين الأبدي والزماني:
'غاليا علي نفسي كان علي الدوام هذا التل الموحش
وهذا السياج الذي يسد منافذ الرؤية
من كل جانب من جوانب الأفق البعيد
غير انني عندما أجلس وأنظر،
تتمثل لفكري الأماكن الشاسعة هناك
والصمت وراءها يفوق قدرة البشر
والسكينة العميقة العميقة،
فيوشك قلبي أن يتزلزل من الرعب
وكلما سمعت الريح تعصف بهذه الاغصان
وجدتني أقارن بين الصمت العظيم هناك
وبين هذا الصوت،
وأتفكر في الأبدي،
في الأزمان التي ماتت ولا تزال الآن حية
وفي الصوت الذي يتردد منها.
وهكذا يغوص فكري في اللامحدود.
وأشعر بعذوبة الغرق في هذا البحر'.
الانسان اذن يعيش في الزمن والأبد معا، 'فالروح لها عينان' عين تتطلع للحاضر وتحن الأخري للأبد' كما يقول أشهر شعراء التصوف عند الألمان، وكلما ازداد حنين عين للأبدية، ازداد تألم العين الأخري لانقضاء الزمن وزواله، ازداد عذابها بيقين الموت المحتوم' فحتي الجميل يتحتم عليه أن يموت كما يقول 'شيلد'! ان الزمان يعيد إلي قبر الماضي كل مولود يولد، بعد أجل موقوت وحضور عابر.
ولقد حرك هذا الشعور * كما رأينا * وجدان الانسان منذ آلاف السنين، وأراد الكثيرون أن يحولوا أنظارهم عن الزمن كي يتطلعوا إلي الأبدية وحدها.
وتنافس الدين والفلسفة في سلب كل قيمة عن الزمني والمنقضي، والبحث عن الحقيقة والوجود في الأبدي واللازمني، ولقد شعر البعض بالراحة وتنفسوا الصعداء عندما قدمت لهم فلسفة 'كانط' الدليل تلو الدليل علي أن المكان والزمان لا شأن لهما بوجود الأشياء ذاتها، وانما هما من شأن الطبيعة البشرية، صورتان قبليتان للحدس أو العيان قائمتان في وجدان الانسان.
ومهما يكن من قوة هذه الادلة أو ضعفها، فقد احتجت التجربة الحية عند أصحاب الرؤية من الفنانين والشعراء أشد احتجاج علي ما قاله 'كانط' عن مثالية المكان.
أما مشكلة الزمان، فيبدو أنها كانت ولا تزال أقرب لوجود الانسان وأغني بالألغاز.
وهل هناك أشد ايلاما من اليقين بأن كل ما حولنا، ونحن أيضا، سنغوص ذات لحظة في الماضي لنصبح 'خبر كان'؟ أي شيء أبعث علي الحزن من العلم بأن 'الميت' في هذا العالم يزيد ملايين المرات عن 'الحي'، وأن وجودنا الذي يمتد الآن بجذوره في الماضي يسرع دون توقف نحو اللحظة التي سيتلاشي فيها؟!
أليس من حق الانسان أن يلتمس العزاء في حقيقة خالدة لا تمتد إليها يد الفناء، وأن يعد الزمانية من علامات النقص في وجوده الأرضي؟!
ألم يعمد الانسان منذ القدم إلي وصف أربابه بالخلود، في الوقت الذي كان يتبين له فيه عجز كل ما هو بشري وتبدده كالدخان!
غير أن هناك نظرة أخري للعلاقة بين الزمن والسرمدية: ان السرمدية نفسها تحضر في الزمان، وأبعاد الزمن الثلاثة يمكن أن تصبح كلها حضورا سرمديا في أزلية الماضي، وأبدية المستقبل، وخلود اللحظة الحاضرة.
اللحظة الخالدة.. والحاضر السرمدي
قد لا نستطيع التعبير عن الزمن، سنلجأ لتثبيته في كوادر وإشارات نعلم يقينا أنها لا تستطيع تعريفه أو تحجيم محيطاته وتدفقها. سيظل لغز الزمن مؤرقا للإنسان مع امتداد وجوده. هذا الوجود الذي لايقوم ولا يصبح له معني بغير وجودنا. بغير وجود الإنسان. سنظل عاجزين عن الإمساك بلحظة الحاضر، وممزقين بين أمل استرجاع الماضي والنفاذ إلي جوهر المستقبل الذي تحيطه هالة إلهية من الرهبة والجلال.. هذه الدراسة العميقة للدكتور عبد الغفار مكاوي أستاذ الفلسفة المبدع، كتبها كتعبير عن قلقه الوجودي، وقد ضمنها كتابه 'شعر وفكر .. دراسات في الأدب والفلسفة'، الذي صدر عن الهيئة العامة للكتاب ومضي في صمت شأن أعمال كثيرة جادة فيها يحاول الإجابة عن سؤال الزمن والوجود والسرمدية وارتباطها بالإنسان من خلال التركيز علي آراء هيد جر ووجهة نظر الشعر والأسطورة ومن خلال عشرات الإشارات التي وردت في أعمال فلاسفة ومفكرين وكتاب أرهقهم السؤال وألح عليهم في رحلة بحثهم المضنية من الإجابة، وفي سعيهم للقبض علي اللحظة الزمنية من أجل الوصول إلي هدف أسمي، الخلود!
'الزمن الماضي والزمن الآتي
لا يتيحان إلا القليل من الوعي
أن تكون واعيا هو ألا تكون في الزمان
لكن في الزمن وحده يمكن للحظة في حديقة الورد
ولحظة التعريشة التي ينقر عليها المطر،
واللحظة في الكنيسة التي يسري فيها
تيار الريح عند سقوط الدخان
أن يتذكرها المرء متضمنة الماضي والآتي
عبر الزمن وحده ينتصر علي الزمن
فقهر الزمان لا يكون إلا خلال الزمان
الحاضر والماضي
ربما كانا حاضرا في المستقبل،
وربما كان المستقبل طي الماضي.
لو كان الزمان كله حاضرا سرمديا
لما أمكن استرداد كل الزمان.
ألا أن ما كان يمكن حدوثه لتجريد
يبقي بمثابة الا مكان الدائم
في عالم من التأمل دون سواه.
ألا أن ما كان يمكن حدوثه وما قد حدث فعلا
ليشيرا إلي غاية واحدة
هي حاضر سرمدي...'
ت. س. اليوت
ما لغز الحاضر الذي حير عقل الإنسان وقلبه، منذ أن عاش بين الطقوس والأساطير إلي أن أطلق مركبات الفضاء؟. كيف واجه سره الذي يتسرب منه كما يتسرب الماء من بين كفيه وكما يفلت الهواء إذا حاول القبض عليه؟!
انه يشعر في حياته وتجربته اليومية الزمن موجود. فمن منا لا يذكر ماضيه ويحن إليه؟!، من منا لا يحلم بمستقبله ويخطط له؟!
مع ذلك فهو دائم القلق من زواله، دائم البكاء علي ضياع عمره ومجده، والشكوي من عبث كفاحه وتعبه. لو أرهفنا السمع قليلا، فربما هزتنا الأنات الآتية من أناشيد المغني الفرعوني الأعمي علي قيثارته، وزفرات أيوب في العهد القديم ومن قبله 'أيوب البابلي' المبتلي ظلما في الألواح الأربعة التي حملت شكواه وعرفت باسم 'لدلول بيل نيميقي' سأمجد رب الحكمة، وحسرات سليمان وداود في المزامير، وبكائيات الشاعر الجاهلي علي أطلال الأحباب، وأناشيد الجوقة في المسرح الاغريقي، ودعوة هوراس 'اقطف يومك'. ونقوش المقابر والمعابد، وربما انتهت الينا لعنات أبي العلاء التي صبها علي الزمان، مختلطة بآهات 'الخيام' و'دانتي' و 'ليوباردي' و 'هلدرلن' و 'اليوت'..
والانسان يحاول منذ القدم أن يستمهل هذا الضيف العزيز الذي لايزورنا الا لكي يودعنا، كما يحاول أن يعرف طبيعته، ويحدد موقعه بين ضيف سبقه ولن يعود، وضيف سيأتي بعده ولن يقيم.
من منا لايرثي أو يضحك للجهود التي بذلها المفكرون والفلاسفة لاصطياد اللحظة الحاضرة التي نحياها ولانمسك بها، ونحاول قياسها وتحديدها فتفلت منا، وتسرع بها دورة الفلك وعقارب الساعة كالشبح الهارب، بينما تدوم وتتمدد في أعماق الشعور، حتي توشك أن تضم 'الأزل والابد' في ومضة واحدة؟..
من منا لايحن لهذه اللحظة المواتية العابرة التي دعا أحد حكماء اليونان السبعة (بيتاكوس) لمعرفة قيمتها والقبض علي خصلات شعرها الذهبية المتدلية من جبينها قبل أن تعبر بنا ونحاول بعد ذلك أن نجري وراءها لنوقفها فاذا هي صلعاء الرأس من الخلف.
ومن منا لايؤثر عليه سعي 'فاوست' الدائب إلي لحظة الخلود التي يستريح علي صدرها حين يتحد بالمنبع الخالد؟ ومن منا لايتعاطف معه وهو يراه يجد في البحث عنها في لحظة 'الحب' أو 'المجد' أو 'العمل النافع لشعب حر علي أرض حرة'، فاذا به يتعثر في هاوية الخطيئة أو يسقط في حفرة الندم، بينما يتردد هتافه بها:
'تريثي قليلا فما أجملك؟!'.
ثم من منا لم يعش مع محاولات الفلاسفة لتثبيتها أو إنكارها؟!. من منا لم يدهش لمفارقات 'زينون' الايلي العنيدة التي تلغي الزمان والحركة لتثبت الأبدية؟ ومن منا لايعجب لتساؤلات 'أفلاطون' عن 'الآن' وجهود 'أرسطو' لتحديدها وجعلها وحدة قياس الزمان، وحيرة 'أوغسطين' أمام سرها حتي هداه الله إلي أنها 'توتر النفس التي تستجمع الماضي وتتأهب للمستقبل' و 'مواقف المتصوفة' ومواجدهم وأشواقهم إلي جعلها بيت السرمدية، واكتشاف 'ديكارت' لضوئها الخاطف وفعلها الحدسي في يقين 'الأنا' وكل يقين مترتب عليه، وفي فعل الخلق والحفظ الالهي المتصل للطبيعة والانسان!!
ومن منا لم يهزه جدل 'كيركيجارد' المعذب، وهو يفتش عنها داخل الزمان فاذا بها لا 'تتكرر' إلا في 'الأبدية'، والهام 'نيتشه' المحير بلحظة 'العود الأبدي' التي صعد معها فكره إلي القمة الخطرة ووجدها في لحظة التصميم علي مفترق الطرق إلي تحقيق الوجود الأصيل، وجمع فيها بين ماض كناه وعلينا أن نكرره فيها، ومستقبل علينا أن نصر عليه ونحققه فنحقق ذواتنا معه في وجه الموت المتربص المحتوم؟!
كلنا يحس سر الزمن. قد لا نتمكن من التعبير عنه، ولكنا نحسن بزمانيتنا في كل قول وكل تجربة وكل موقف نمر به. فالزمن قدرنا، والزمن ألمنا ويأسنا. وتجربة الانسان بزمانيته هي تجربته الحزينة بزواله وانقضائه وتناهيه. فالزمان شكوي أزلية، وأغلب الظن أنها ستبقي شكوي أبدية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تسجل شواهد التاريخ والحضارة والدين والفكر والادب هذه الشكوي المرة في صور مختلفة..
لم يكن البحث في سر الزمان عند مفكري اليونان قضية تفلسف مجرد، بل شعورا مأساويا ودينيا عميقا ترددت فيه أصداء الشكوي القديمة المتجددة. والا فما الذي دفع 'أنكسماندر' في شذرته الوحيدة الباقية إلي القول بأن الأشياء ينبغي أن ترجع لأصلها وأن تكفر عن ذنبها وفقا لنظام الزمان؟! وما الذي دفع 'زينون' الايلي لالغاء الزمان ومعه التغير والصيرورة؟ ألم يكن هو البحث عن ملجأ ثابت يتيح للانسان السكينة في حضن الابدية، وتجربة العناق بين الفكر والوجود الذي علمته الربة المجهولة 'أستاذة أستاذه بارمنيدز' أنهما متساويان وثابتان؟
وما الذي جعل 'أفلاطون' يقول 'ان الزمان هو صورة الأزل، إن لم يكن هو الفزع من الزمان؟! ثم ما الذي دفع أرسطو والمفكرين من بعده حتي 'برجسون' إلي 'تمكين' الزمن وقياسه، الا أن يكون هو الخوف من عضة نابه والسعي إلي قيمة أخري ترتفع فوقه كالفكر الثابت الذي يفكر في نفسه أو الأبد الساكن الذي يتعزي الانسان به ويأمل فيه.
ان صرخة 'باسكال'، التي ترددت في 'خواطره'، ستظل تطرق أبواب قلوبنا بشدة:
'أري هذا الفضاء الكوني المخيف الذي يحيط بي، وأجد نفسي مقيدا بركن من هذا الامتداد الهائل، دون أن أعرف لماذا وضعت في هذا الموضع دون سواه، ولا لماذا حددت هذه الفترة الزمنية القصيرة التي قدر لي أن أعيشها في هذه النقطة بعينها لا في نقطة غيرها من الأزلية التي سبقتني أو الأبدية التي ستأتي بعدي.
لست أري من كل ناحية الا هذه اللانهايات التي تحبسني وكأنني ذرة وظل لايدوم الا لحظة واحدة بلا عودة'.
وان 'كانط' ليقدم الزمان علي المكان، فيصف الأول بأنه الشرط الصوري القبلي لجميع الظواهر بوجه عام، وهذا عكس المكان المقصود علي الظواهر الخارجية وحدها، كما يحمل أحد الكتب المؤثرة علي الفكر المعاصر هذا العنوان المهم: 'الوجود والزمان'. ومع أن مشكلة المكان قد لاتقل أهمية عن مشكلة الزمان، بل ربما كانت أشمل منها وأقدر علي إلقاء الضوء علي طبيعة الانسان وماهيته التي تعلو علي المكان والزمان جميعا، وان ظلت أسيرة لها ، علي الرغم من هذا كله فان الحديث عن الزمانية كان علي الدوام هو الحديث عن تناهي الانسان الذي يظهر في صورته الحادة في زمانيته المنطوية علي فنائه وزواله وموته. ولهذا كان التفكير في الانسان من حيث هو كائن فان أو 'مائت' مساويا للتفكير فيه من جهة الزمان وفي أفق الزمان. ولهذا أيضا كثر الحديث في الفكر المعاصر عن كون الانسان ملقي أو مقذوفا به في هذا العالم، أي في مكان وزمن محددين كل التحديد. وهو يعيش فيه وهذا هو أوضح تعبير واقساه عن تناهيه دون أن يدري لماذا يحيا في هذا الزمن لا في زمن آخر. ولقد عبر 'بسكال' في ختام القطعة السابقة عن هذا أقوي تعبير حين أنهاها بقوله 'بلا عودة' معبرا بذلك عن واحدية البعد الزمني، وان اتجاهه لا يقبل أن يعكس. فالانسان يشبه ظلالا يدوم إلا لحظة واحدة، بلا عودة.
إن السر الأول للزمان هو انه يلتهم كل ما فيه ويلقي به في قبره الذي لايشبع. ولهذا ارتبط الزمان بالزوال والانقضاء. فالماضي لم يعد له وجود، والمستقبل لم يكن بعد، واذا أقبل فسرعان ما يتحول إلي ماض. والماضي والمستقبل كلاهما لا وجود لهما في وجدان الانسان الا من حيث هما حاضر، أي في تذكر الماضي وتوقع المستقبل. أما الحاضر فلا وجود له في تجربتنا اليومية. كلما مددنا أيدينا للتشبث به، تسربت منها حبات رمال الزمن (أو 'آناته')، وكلما حاولنا أن نمد في أجل هذه اللحظة الخالية من الامتداد في لحظات الصفاء والحب والأنس، أو في لحظات الرعب واليأس روعتنا الحقيقة المحتومة التي تقول ان كل مستقبل يصبح فيها ماضيا، وان حاضرها حد وهمي أرق ملمسا من الحد الفاصل بين نقطة البحر والنقطة التي تليها، أو نسمة الريح والنسمة الرفافة في ذيلها..
ولهذا ربما عذرنا 'أرسطو' الذي أغاظه 'الآن' فأخرجه من الزمان ليجعله وحدة قياسه...
أنعيش اذا بلا حاضر علي الاطلاق؟ أتكون حياتنا حلما؟ أنخطو علي الطريق بلا أرض نقف عليها؟! أتكون حياتنا حياة الأسري المغلوبين الذين يتعثرون في الهاوية باستمرار؟!
اكتب علينا الزوال والانقضاء في كل لحظة من لحظات مدتنا المحدودة، بلا عودة ولا سبيل للرجوع؟!
أهذه هي نهاية المطاف في تفكيرنا في الانسان؟! ألا يبقي أمامنا الا الاستسلام للبكاء أو الوثوب فوق جواد الزمن إلي حظيرة 'الأبدية' لنلتمس فيها الخلود والبقاء، ونجفف علي صدرها دموع السفر والشقاء، أو نتعلل بالسعادة والهناء؟
هنا نبلغ باب السر الثاني للزمن. فنحن زمانيون ولانملك الهروب من الزمان ولا المكان . ولكننا في نفس الوقت لازمانيون، لا بمعني الخروج من الزمن كما نري في لازمانية القوانين المنطقية مثلا ولكن بمعني أن الزمن هو المرآة التي نري عليها السرمدية... فنحن قادرون علي المشاركة فيما فوق الزمن، أي في السرمدية ولو للحظات كالبرق الخاطف. ومفهوم السرمدية شيء مختلف عن الزمانية، كما يختلف عن الديمومة الزمانية اللامتناهية ويتفوق عليها. والأولي بنا أن نفكر. ان علاقة السرمدية بالزمان لايمكن أن تتصور تصورا زمانيا، لانها ترتفع فوق الزمان وتشمله بصورة ما.
وسر الزمن الثاني هو قدرته علي أن يتلقي السرمدية فيه. ومادام الانسان بطبعه كائنا زمانيا فانه سيكون كذلك قادرا علي المشاركة في الأبد والسرمد، بل ربما كان من واجبه أن يسعي إلي هذه المشاركة حتي يكون انسانا بحق... ولهذا يمكننا القول ان شوكة فنائنا هي خلودنا، لأن الشيء الفاني لن يؤلمه فناؤه، ولأن ما يمكنه أن يحيا فقط، سيمكنه أن يموت فقط. أما من يشعر أن كل شيء لابد أن يفني ذات يوم، فإن شعوره هذا يرفعه فوق ذاته وفوق الكل. كل شيء سينقضي ويزول: أنا وأنت وكل ما يحيط بنا، ولكن فيك وفي شيئا يزيد علي الكل ويختلف عنه، وإلا ما عرفنا عنه شيئا..
ولكن بأي معني نفهم قدرة الزمن علي تلقي السرمدية ونفاذها فيه؟! بمعني أننا بغير هذه القدرة لن نجد أرضا نقف عليها، وأننا ونحن نندفع في مجري الزمان نفسه لن نجد الحاضر الحق، الحاضر الخالص الذي يهوي إلي وادي الماضي بمجرد وصوله من قمة جبل المستقبل.
إن الحاضر واقع نحياه دون أن ننتبه اليه في لحظات سنتحدث عنها بعد قليل ونحن نحياه في مجري الزمن وفوق الزمن، لأن السرمدية تنفذ في الزمن وتضفي عليه الحضور. كما أن الانسان يمكنه بل يجب، عليه أن يستحضرها فيه. فالسرمدية حاضرة دائما، وهي سبب احساسنا بالحاضر علي الاطلاق. لولاها ما أمكننا أن نقول 'الآن'، فهي التي ترفع الآن فوق مجري الزمن العابر . ونحن لانقصد هذا بالمعني الديني والصوفي وحده، بل نقصده بالمعني الفلسفي والحياتي، اذ يكفي ان نستغرق في الصلاة لحظات لنحسه، يكفي أن نطالع ما يقوله الكتاب الكريم عن الدار الآخرة، وما يقوله الانجيل الرابع عن الأبدية، وما يشكو به المزمور التسعون (بالغداة كعشب يزول، بالغداة: يزهر فيزول، عند المساء يجز فييبس) من زوال بني آدم اذا قورنت حياتهم بأبدية الله.
يكفي هذا كله لنعرف السرمدية والأبدية، 'فألف سنة عنده كيوم، أمس' هي التي تعطي 'للآن' معناها وواقعها اللانهائي، 'وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون' ..
بهذا تصبح الفلسفة سعيا دائبا إلي الحضور الخالص وقهرا مستمرا للزمان والزمانية. واذا كان أفلاطون قد علمنا تعريفين أساسيين من تعريفات الفلسفة عندما قال في أحدهما أنها التأمل الدائم للموت، فمن حقنا أن نغير هذا التعريف (الذي لاينطبق الا علي مرحلة فايدون وما قبلها!) فنقول ان الفلسفة هي تأمل دائم للحضور الحي. واذا كان قد قال في تعريفه الآخر الذي تبعه فيه فلاسفة العصر الوسيط من مسلمين ومسيحيين ان الفلسفة هي التشبه بالله بقدر الطاقة فبامكاننا أن نزيده وضوحا فنقول ان الفلسفة هي جهد دائب لكي يتشبه الكائن الزماني بالكيان السرمدي.
لن نقف عند هذه المعاني كلها بل سنتجاوزها إلي معني يتصل بوجودنا اليوم كأبناء أمة تسعي إلي اكتشاف هويتها وتحديد مكانها بين الأمم. أمة يعرف المخلصون من أبنائها أنها مهددة بالانقراض والانهيار ان لم تع حاضرها، وتؤد واجب لحظتها، وتستوعب قيمة ماضيها وتنهض، بأعبائها التي تفرضها عليها فلسفة جديدة حية للتاريخ، أي فلسفة للزمان. الذي لاغني عنه لفهم التاريخ.
ماذا أقول؟! أأقول اننا اليوم وأينما تلفت فسحب الاخطار تزحف وأهوال التحديات تنادي باليقظة للحاضر الذي ينبغي أن يكرر خير ما في، الماضي من تراث، ويتهيأ لخير ما في المستقبل من أمل وعمل.
أأقول اننا اليوم نعيش بداية انقراض تلوح نذره، أم نهاية انقراض، بدأنا نتخلص من آثاره؟!.. لن أستسلم للتفاؤل أو التشاؤم. حسبي أن أدعوك يا قارئي لواجب الحضور الحي وعبء اللحظة الخالدة. ليست دعوة صوفي، فأنا لم أبلغ أعتاب هذا الشرف،
والعلاقة بين الوعي بالحضور الحي لزمانيتنا وبين السرمدية 'مقام مهيب غامض'، انما هي دعوة انسان يقدر قيمة اللحظة الحاضرة ويعلم انها الفرصة الوحيدة للسرمدية، أو بلغة أقرب إلي واقعنا اليومي البائس هي الفرصة الوحيدة لكي 'نكون أو لانكون'..
واذا كانت الأسماء التي تكلمت عن الحضور في اللحظة الخالدة اكثر من أن تحصي أو تعد، واذا كانت هذه الأسماء تزدحم بها شواهد التصوف والفلسفة والفن والشعر والأساطير والطقوس مما لايجدي معه حصر للمراجع والنصوص، فلنختر أقصر الطرق وأشدها تواضعا، ولنكتف بالنظر في تأملات فيلسوف معاصر لم يمض علي وفاته أكثر من عام، نتلوها بخواطر مستمدة من واقع آخر ومجال مختلف قلما ننتبه إليه وهو واقع الشعر والاسطورة والطقوس، لنختم هذه النظرات بسطور قليلة عن الحضور في اللحظة الخالدة، لحظة نفاذ السرمدية في الزمانية، اللحظة التي يتعانقان فيها في لمسة هي أشبه بوميض الشمعة أو لمح البرق فنؤكد وجودنا وحاضرنا في 'الآن'. ونعي ذاتنا حين نتشبث بصخرة اللحظة ونقاوم طوفان الزمان الصاخب، ونثبت اننا جديرون بالنعمة السرمدية حين نكون أوفياء للحظة، مستعدين لتحمل مشقتها ومسئوليتها استعدادنا لترقب نورها وبريقها.
لماذا ارتبط الزمان دائما بالوجود؟ ولماذا لا نفكر في أحدهما دون أن نفكر في الآخر؟! الوجود منذ فجر الفكر الفلسفي مرادف للحضور. والحضور يكون في أفق الحاضر ويتكلم بصوته. والحاضر في التصور الشائع يعد من الأبعاد الثلاثة التي تلازم تصورنا للزمن الذي يسير علي طريق لا رجوع فيه من ماض إلي حاضر إلي مستقبل. والماضي في تصورنا الشائع أيضا هو الذي لم يعد له وجود كما أن المستقبل هو الذي لم يوجد بعد..
ونحن نذكر الزمان حين نقول: لكل شيء زمانه. فكل موجود يأتي عندما يجيء أوانه، ويذهب عندما يحين حينه ويبقي مدة الزمن التي قدرت له. ولكن هل الوجود شيء؟! هل يشبه الموجودات التي تكون في الزمن؟ وهل الزمان نفسه شيء، أم هو الذي يسع الأشياء والموجودات التي تكون فيه وتفسد، تولد ثم تموت بعضة نابه؟
عبثا نبحث عن الوجود نفسه بين الموجودات المحيطة بنا، فليس مثلها موجودا زمنيا. ومع ذلك فنحن نقول انه 'يحضر' في الزمان، يتحدد بكل ما يوجد فيه، يظهر بظهوره ثم لايلبث أن يحتجب ويخفي عنا سره.
عبثا نحاول أن نلقي الزمان بين الموجودات والأشياء التي تتزمن به وتنتهي فيه. فهو نفسه ليس موجودا ولاشيئا. انه ينقضي باستمرار، ولكنه في انقضائه يختلف عن كل ما يوجد فيه. والبقاء عكس التلاشي، أي هو الحضور، والحضور هو أسلوب الوجود.
الوجود والزمان اذن يتحددان بالتبادل، ولكنهما يتحددان علي نحو لايسمح لنا أن نصف أحدهما وهو الموجود بأنه شيء زمني، ولا أن نتحدث عن الآخر وهو الزمان كما لو كان أحد الموجودات والأشياء.
هل وقعنا بهذا في شباك العبارات المتناقضة؟ هل نلجأ إلي ما تلجأ اليه الفلسفة في مثل هذه الاحوال من تصعيد للتناقض، والجمع بين طرفيه في وحدة أشمل، نسميها بعد ذلك وحدة جدلية؟! أليست هذه الوحدة التي تهدف للمصالحة بين العبارتين المتناقضتين عن الزمان والوجود، هروبا منهما معا ومن العلاقة القائمة بينهما؟
وما الطريق الذي نسلكه كي ننظر في موضوع كل منهما علي حدة أعني في القضية التي يطرحانها أمام الفكر؟ فلنأخذ أنفسنا بالحذر الواجب، ولنواجه هذه القضية. بما يليق بالفكر من صبر وأناة.
نحن نقول علي الدوام: الوجود يكون، والزمان يكون. فلنجرب تغيير الصيغة اللغوية لنقول: الوجود يوجد والزمان يوجد (علي أن نفهم من كلمة يوجد معني الجود والعطاء الذي يجمع بينهما ويجود بهما.
إن الوجود يتيح للموجود أن 'يحضر' ويسمح له بأن يظهر ويكون. وإحضار الموجود بهذا المعني يساوي إخراجه من التحجب والخفاء إلي الانفتاح والجلاء، ومن ثم يكون الوجود نوعا من العطاء.
غير أن العطاء لايزال ملفوفا بالظلام، كما اننا لانزال نجهل كل شيء عمن يقوم به. لقد حاولت الميتافيزيقا في تاريخها كله، منذ بدايتها الساذجة عند طاليس وحتي اكتمالها في فلسفة 'نيتشه' أن تفكر في الوجود من ناحية الموجود، وتفسره باعتباره الأساس لهذا الأخير. فلنحاول أن نفكر فيه من جهة 'الحضور' والتكشف والظهور، أو كما قلنا الآن من جهة العطاء.
بهذا يتحول معني الوجود، ويصبح العطية أو الهبة التي يجود بها الكشف والاظهار من ثنايا التحجب والخفاء وبهذا أيضا يصبح هو الحضور. هذا الوصف للوجود بأنه حضور ليس بالأمر الذي نقرره من جانبنا أو نختاره بمشئيتنا. لقد تقرر منذ زمن طويل وليس لنا فضل فيه، والتزم به الانسان منذ طرح سؤاله القدري 'ما هو الوجود' حتي 'حضر' هذا الوجود في تفسيره الأخير له علي هيئة أقمار صناعية تجوب الفضاء وتدور حول الأرض، ومركبات تغزو القمر والزهرة والمريخ ... الخ.
لقد كان يحضر في كل مرة في صورة يعبر عنها الانسان بالقوة والفكر، ويلتزم بها في الفعل والسلوك، ويراها ماثلة في الكائنات المحيطة به والأشياء التي يحيا بالقرب منها ويستخدمها أدوات في شئون معاشه.
هكذا تغيرت صور الحضور، واختلفت باختلاف المفكرين وتعاقب العصور فكان الحاضر مرة هو 'الواحد'، أو 'اللجوس'، وكان هو الجوهر والمثال والفعل، والمونادة، والتصور والارادة، والروح المطلق، وارادة القوة، وارادة الارادة في عودة الشبيه الأبدية..
هذا شيء يشهد عليه التاريخ، حتي لقد طغي الوهم بأن تاريخ صور الحضور هو تاريخ الوجود. غير أن تاريخ الوجود شيء مختلف عن تاريخ المدن والحضارات والشعوب، فتاريخية الوجود لا تتحدد إلا بكيفية حدوثه، أي بأسلوب عطائه الوهاب، وتكشفه في نفس الوقت الذي يتواري فيه خلف حجاب. هذا العطاء نوع من 'التقدير' ، والوجود الذي يعطيه هو الذي نصفه بالمقدر.
كل التحولات في صورة الوجود المعطي هي مراحل في تاريخ الوجود، أو بالأحري تاريخ حدوثه. ومن قدر هذا التاريخ أن تفسيرات الوجود عن طريق الموجود كانت تحجب 'قدره' الأصلي شيئا فشيئا، بحيث تواري معني الحضور والعطاء بالتدريج وأسدل عليه ستار بعد ستار.
ان الارتباط بين الزمان والوجود يشير إلي الأخير بوصفه حضورا، أي إلي طابعه الزمني. فلنفكر الآن في الزمان لعلنا نهتدي إلي حقيقته.
كلنا يألف كلمة الزمان ويستخدمها في تصوراته الشائعة علي نحو ما يستخدم كلمة 'الوجود'. ولكن ما أسرع ما نكتشف جهلنا بهما عندما نتصدي لتحديد معنيهما.
وما أصدق عبارة القديس 'أوغسطين' عن الزمان:
'ان لم يسألني أحد عنه عرفته، وإذا طلب السائل مني أن أشرحه لم أعرفه'.
يتبين من كلامنا إذن أن الوجود في طابعه المميز مختلف عن كل ما يتسم به الموجود، وأنه في صميمه عطاء، والعطاء قدر تاريخي أعلن عن نفسه في صور وتحولات متنوعة.
كما يتبين مما قلناه أن ماهية الزمان لا توضحها التصورات الشائعة عنه، وأن الجمع بينه وبين الوجود ربما يقربنا منه: فالوجود كما عرفناه حضور أو هو بالأحري اتاحة الحضور.
ونحن لا نكاد نذكر الحضور حتي نذكر معه الماضي والمستقبل، أي المتقدم والمتأخر بالقياس للآن.
غير أننا إذا أردنا أن نفهم الزمان من جهة الحاضر، فلابد أن يكون هذا الحاضر هو 'الآن' الذي يختلف عن آن الماضي الذي لم يعد له وجود، وأن المستقبل الذي لم يأت بعد، وإذا كنا لم نتعود علي النظر إلي الزمان من جهة 'حضور' الحاضر، فالواقع أننا نتصور الزمان * أي وحدة الحاضر والماضي والمستقبل * علي أساس 'الآن'. وقديما قال أرسطو أن 'الآن' هو ما يكون من الزمان أو يحضر فيه. أما الماضي والمستقبل فهما شيء لا وجود له * صحيح أنهما ليسا عدما، بل هما وجود أو حضور ينقصه شيء نصفه بأنه هو 'الآن' التي لم يبق لها وجود، و'الآن' التي لم تأت بعد.
وبهذا يبدو 'الزمان' سلسلة من الآنات المتتابعة، بحيث لا نكاد نذكر احداها حتي يبتلعها لتوه ويطاردها علي الفور.
هذا 'الزمان' هو الذي يقصده كانط بقوله: 'انه ذو بعد واحد فحسب وهو الزمان الذي يتألف من آنات متعاقبة، ونعرفه جميعا عندما نخضعه للقياس والحساب، وعندما نتطلع للساعة، ساعة الحائط أو ساعة اليد، ونراقب عقاربها قبل أن نقول مثلا: الساعة الآن الخامسة وعشر دقائق. نقول 'الآن' ونعني بها الوقت أو الزمن. ولكننا لن نعثر علي الزمن نفسه مهما قلبنا في الساعة، وفحصنا آلاتها وفتشنا بين عقاربها!. بل لن نلمس له أثرا مهما حاولنا أن ندقق النظر في أجهزة قياسه الحديثة التي تسمي 'بالكرونومترات'. ولعلنا أن نبتعد عن جوهره الحق كلما أمعنا في هذا البحث.
أين الزمان إذا؟!. أهو موجود؟ ألة مكان يحل فيه؟ أهو وعاء يضم الانات والمكان الذي شبهه أرسطو بوعاء يسع العالم؟!
من الواضح أن الزمان ليس عدما، فكلنا يذكر اسمه، ويشعر بخطاه. فلنجرب أن نظر إليه من جهة 'الوجود'. الذي وصفناه بالحاضر أو الحضور. ولنعلم أن حضور هذا الحاضر مختلف كل الاختلاف عن حضور الأبد، بحيث لا يمكن أن يفهم هذا ابتداء من الآن. بل تفهم الآن وتحدد ابتداء منه'.
إذا صح هذا، فلابد أن يكون الزمان هو الحاضر بمعني الحضور، ولابد أن يختلف عن تصورنا المألوف له علي هيئة سلسلة من الآنات المتعاقبة التي تخضع للقياس، وإذا صح ما قلناه أيضا من أن الوجود حضور 'تكشف وعطاء' أصبح الحاضر بقاء وتريثا في مواجهة هذا التكشف والعطاء، كما أصبح 'الإنسان' هو الكائن الوحيد الذي يتلقاه وينتظر ظهوره، وينفتح عليه ويستجيبله. ولم لم يكن هو الذي يتلقي عليا لدوام هذه العطية لما بلغت إليه، ولبقي الوجود محجوبا مغلقا عليه، بل لما أصبح الإنسان هو الإنسان.
هل ابتعدنا بهذا عن موضوع الزمان وانصرفنا إلي الانسان؟!.
الواقع أننا لم نبتعد عنه كما نتصور، بل ربما ازددنا اقترابا منه. فطبيعة الزمان لا تتجلي إلا في الحاضر، بالمعني الذي قصدناه من الحضور، كما أن طبيعة الانسان لا تتحدد إلا عن طريق التعرض لهذا الحضور وتلقي عطاء الوجود الذي يتجلي له ويتخفي عنه في نفس الوقت. صحيح أنه يخاطبه علي الدوام. ولكن ما أندر ما 'ينتبه' لصوته، وصحيح أنه معرض لنوره الذي يظهر في هذا الموجود أو ذاك، ولكن ما أكثر ما ينشغل بظهور الموجود فيغيب عنه نور الوجود!
بيد أن 'الحضور' لا يكون بالضرورة في الحاضر وحده، بل قد يكون فيما انقضي وما هو آت، أي في الماضي والمستقبل. وإذا شئنا الدقة فأن العلاقة المتبادلة بين الآتي والمنقضي تتعانق في الحاضر، بل أن الثلاثة جميعا تسلم أيديها إلي بعضها البعض، بحيث تحضر في وحدة الزمن الواحدة.
ولكن ما الذي تسلمه إلي بعضها البعض؟!
ان هذا الذي تسلمه ليس إلا الحضور. وهذا الأخير هو الذي يلقي الضوء علي ما نسميه عادة بالمجال الزمني. غير أن الزمن هنا لم يعد سلسلة من الآنات متعاقبة الحلقات، ولا مسافة فاصلة بين نقطتين آنيتين مما نقيسه ونحسبه عندما نقول علي سبيل المثال: 'في مجال زمني يبلغ طوله خمسين سنة حدث كيت وكيت'. فالمجال الزمني الذي نقصده الآن هو الانفتاح، أو المجال المفتوح الذي تتحد فيه أبعاد الماضي والحاضر والمستقبل الثلاثة في عناق الحضور والعطاء، بل هو الذي يسبق ما نسميه بالمجال أو المكان ويجعله ممكنا، كما يسبق كل قياس وحساب للزمن إلي نقط آنية تتابع في خط ذي بعد واحد.
في هذه الوحدة التي تتلاقي فيها أبعاد الزمن الثلاثي، يحضر كل منها علي طريقته: الوافد المقبل الذي لم يصبح بعد حاضرا، والذاهب المنقضي الذي لم يعد حاضرا، ثم الحاضر نفسه. وقد يخطر علي بالنا أن هذا البعد الزمني الأخير هو أقرب الأبعاد إلي الحضور وأنسبها إليه.
ولكننا بذلك نخطيء معني 'الحضور' الذي يتجلي في الأبعاد الثلاثة جميعا، حتي أن 'هيدجر' ليذهب إلي أن تبادل العلاقة بينها بحيث تناول العطاء إلي بعضها البعض هو نفسه البعد الرابع للزمن.
وإذا كنا نسميه البعد الرابع، فالحقيقة أنه الأول من حيث الموضوع والرتبة.. فهو الذي يحدد الحضور، ويشد الأبعاد الأخري بعضها إلي بعض أو يباعد ما بينها.
ولهذا تقوم عليه وحدة الزمن التي نتحدث عنها ، بل أننا لنستطيع أن نسميه 'بالقرب': القرب الذي يقرب بقدر ما يباعد.
فهو يبقي علي الماضي مفتوحا عندما يحول بينه وبين أن يصبح حاضرا، وهو يدع باب المستقبل مفتوحا ويهييء الحاضر لتلقيه. وهو قبل هذا كله يجمع بين اتحاد صور الحضور المختلفة في الماضي 'الانقضاء' والمستقبل 'الوصول' والحاضر في وحدة واحدة.
علينا إذن ألا نتحدث عن كينونة الزمن أو جوده بل عن عطائه. هذا العطاء يتحدد بالقرب الذي يمنح ويهييء ويضمن انفتاح مجال الزمن، يحفظ فيه ما فتح من الماضي وحيل بينه وبين أن يصبح حاضرا وماهييء من المستقبل ليكون حاضرا. وهو بطبعه عطاء ينير ويحجب، يظهر الموجود من حيث يستر الوجود نفسه.
منذ بدأت الفلسفة وهي تتساءل عن الأصل في الزمن. وكان من الطبيعي أن تهتم في المقام الاول بالزمن المحسوب الذي يتتابع في آنات متعاقبة.
وعرفت الفلسفة منذ البداية أيضا أن الزمن الذي نحسبه مستحيل بغير النفس أو الروح أو الوعي، أي مستحيل بغير الإنسان.
ولكن ما معني هذا؟!. هل الانسان هو الذي يعطي الزمان أم هو الذي يتلقاه؟!. وإدا كان التلقي هو الأقرب إلي المعقول، فكيف يتلقاه؟! هل يفعل ذلك 'صدفة' بين الحين والحين؟!
ان الزمن الحقيقي هو القرب الذي يوحد بين أبعاده الثلاثة ويسلم أحدها للآخر في وحدة حضور حاضر وماض ومستقبل.
والانسان يصبح إنسانا بقدر ما يتعرض لهذا القرب وينفتح عليه، وبقدر ما يعايشه من داخله أو يواجهه من خارجه.
ليس الزمن من صنع الانسان، ولا الانسان من صنع الزمن، فليس هنا مجال للصنع أو الصنعة، وإنما هو عطاء بمعني التسليم المنير الذي يتيح كل حضور في مجال الزمن المفتوح.
قلنا الوجود 'يوجد' كما قلنا الزمان 'يوجد'. وفهمنا الفعل بمعني الجود والعطاء. والمعطي في الحالين واحد، ولعله شيء متميز، ولكنه يظل غامضا غير محدد، كما نظل ازاءه في حيرة 'فعبثا نحاول أن نفسر العبارتين علي أساس القضية العادية المؤلفة من موضوع ومحمول، عبثا نفتش عن المجهول في العبارة الأصلية التي تنطوي علي فاعل لا وجود له'.
وخير ما نفعله الآن أن نفهمه من ناحية عطائه وأسلوبه في العطاء علي نحو ما تجلي في 'قدر' الوجود و'تسليم' الزمان بالمعني الذي أشرنا إليه. فالعطاء قدر، والعطاء تسليم منير، وكلاهما متصل بالآخر من حيث أن القدر يقوم علي التسليم. والذي يجمع بينهما ويحفظ لهما ماهيتهما هو ما يسميه هيدجر بالحدث الذي يتم ويحتجب في نفس الوقت من خلالهما.
أيكون هذا الحدث هو المعطي الذي تعبنا في البحث عنه؟! لنؤخر هذا السؤال قليلا بحيث نجيب علي سؤال أسبق منه: ما الحدث؟! ولنعلم قبل الاجابة أن 'الحدث' هنا لا علاقة له بالمعني المألوف للكلمة، لأننا لن نفهمه إلا علي ضوء ما قلناه عن الوحدة الجامعة بين 'التقدير والتسليم'، وكلاهما أسلوب عطاء. بهذا نكون قد اقتربنا من الهدف الذي أخذنا ندور حوله منذ البداية: تحديد الوجود عن طريق الزمان.
وبهذا نأتي إلي العبارة الحاسمة التي اجتهدنا في القاء الضوء عليها: 'الوجود حدوث'.
هل انتهينا إلي تفسير جديد للوجود يضاف إلي التفسيرات العديدة التي قدمتها الفلسفة للوجود علي أساس الموجود، كالمثال والفعل والتصور المطلق والارادة؟!
أنكون بهذا قد خطونا خطوة أخري علي طريق 'الميتافيزيقا' الذي أردنا أن نحولها عنه؟! لن نخشي شيئا من هذا لو فهمنا الوجود بمعني الحضور، وفهمنا 'الحدوث' بمعني العطاء الذي يكلفه قدر الحضور.
فسوف يكون الوجود أسلوب حدوث ولا يكون الحدوث أسلوب وجود.
ولكن ما معني أن الوجود حدوث؟!
معناه أن الوجود والزمان كليهما يحدثان، والحدوث عطاء مقدر، والعطاء كما رأينا مرتبط بالتقدير والتسليم، وهذا بالحفظ والحيلولة والتهيئة. 'علي نحو ما رأينا عند الكلام عن أبعاد الزمان الأربعة'.
أي أن الحدث في نهاية الأمر مرتبط أيضا بما يسميه هيدجر هنا بالتمنع أو التراجع وما يسميه في مواضع أخري 'بالتستر والاحتجاب'.
ولما كان الوجود * بوصفه حضورا * إنما يعني الانسان ويخاطبه، فان جوهر الانسان يقوم علي الاستجابة له والانصات لندائه، كما يعتمد علي الدخول في المجال الزمني ذي الأبعاد الأربعة الذي يتم فيه الحضور، أي يتحقق العطاء والتسليم.
ومعني هذا أن الانسان مرتبط بالحدوث * اذ فيه وحدة يعطي الوجود والزمان. بل هو الذي يعيد الانسان إلي ماهيته وحقيقته، ولابد له في سبيل هذا أن يتلقي حضور الوجود لأنه يعنيه وحده، وأن يدخل كما كما قلنا في مجال 'التسليم' الذي هيأه الزمن الحقيقي الموحد ذو الأبعاد الأربعة.
هكذا ينتمي الإنسان انتماء أصيلا للحدث، ففيه وحده يعطي الوجود والزمان. ولأن هذا الانتماء يعتمد علي ما يقوم به الحدث من تأصيل 'أو توحيد' فان الانسان يتصل بالحدث عن هذا الطريق.
بهذا يؤكد هيدجر اننا لن نستطيع أن نضع الحدث كما لو كان شيئا يواجهنا مواجهة الشيء أو الموضوع. ولن نستطيع أن نتصوره كما لو كان هو الشامل المحيط بكل شيء. ولهذا أيضا يعجز العقل المفسر عن بلوغه، كما يخفق القول المعبر بالقضايا المألوفة عن الوصول إليه.
هل استطعنا أخيرا أن ندرك طبيعة الحدث؟ هل ساعدنا النظر إلي الوجود 'وقدره' والزمن 'وتسليمه' علي بلوغ معناه؟ هل اقتنعنا بما يفرضه علي الانسان من واجب ومسئولية؟ أم تمخض الأمر كله عن بناء فكري كسائر الأبنية التي يزخر بها تاريخ الفلسفة؟ وأن هذه الأسئلة جميعا تفترض أن الحدث لابد أن يكون موجودا كسائر الموجودات. والتسليم بهذا الفرض المعكوس أشبه بمحاولة اشتقاق المنبع من النهر!
ان الحدث ليس 'موجودا' فأقصي ما يمن قوله عنه انه يحدث. قد تبدو هذه العبارة مجرد تحصيل حاصل. ولو حاكمناها بمقاييس المنطق لما قالت شيئا. حتي إذا جعلناها موضوع التفكير والتأمل تبينا أنها لا تقول جديدا، وانما تعبر عن شيء قديم قدم الفكر الغربي نفسه، شيء منطو فيما اصطلح الاغريق علي تسميته 'الأليثيا' أي الحقيقة بمعني تجلي الوجود وتكشفه من طوايا التستر والاحتجاب، والتأمل في هذا المعني الأولي لايزال يلزم كل تفكير جاد.
بهذا يكون هيدجر قد حاول التفكير في الوجود بعيدا عن الاهتمام بالموجود، بعيدا عن الميتافيزيقا التي ما فتيء يبذل المحاولة تلو المحاولة لقهرها وتخطيها لكي يمهد للتفكير في الوجود نفسه. ولعله في هذه المحاضرة المتأخرة عن 'الزمان والوجود' قد نفض يديه من الميتافيزيقا وجرب أن يفكر في الوجود نفسه 'وحدوثه' أو حضوره وظهوره في الزمان. وهكذا وجد نفسه مضطرا للتخلي عن أرض الميتافيزيقا وطرح لغتها، والبحث عن لغة أخري تعذب في تطويعها للتعبير وعذبنا معه!
لقد أخذ يزيح العقبات عن طريقه وبقيت العقبة الكبري التي لم يقو عليها: اذ اضطر للكلام بالعبارات والقضايا التقليدية عن موضوع لا تصلح له ولا يصلح لها. لأنه ليس في الحقيقة موضوعا بل هو الأساس لكل موضوع!
عرضنا فيما سبق رأي فيلسوف معاصر، لم يمض علي موته أكثر من عام، عن الحاضر والحضور. ولاشك أنه متصل بفلسفة صاحبه عن الوجود، كما ينطوي علي قدر غير قليل من التعسف والغموض، وهو لم يصادف علي كل حال ما يستحقه من عناية واهتمام لاسيما من أصحاب العقل الذين يعولون عليه في شئون الحساب والقياس والتقدير.
لقد آمنت الأجيال السابقة كما يؤمن الجيل الحاضر بأن العلم الطبيعي والفلسفة المرتبطة به هما وحدهما القادران علي الكشف عن جوهر الأشياء وتحديد امكانات التجربة، أي أن العقل الذي يحسب ويقيس هو وحده القادر علي كشف معني الواقع، ولاشك أن معهم الحق في هذا ما بقوا في مجال العلم والعمل وتصريف شئون التقدم والمعاش.
غير أن الإنسان كان يحس علي الدوام بعالم آخر مختلف تمام الاختلاف تحرك شخصياته وصوره الوجدان، ويضفي علي الوجود كله كرامة وجلالا ومجدا يعجز عنه البحث العلمي ولا يكاد يعرف عنه شيئا.
ذلك هو عالم 'الشعراء' وعالم 'الأساطير' و'الطقوس' عند الشعوب القديمة والشعوب الفطرية.
فلنحاول أن نفسر ظاهرة الحضور من وجهة نظر الشعر والأسطورة والطقوس تفسيرا جديدا.
ترددت شكوي الانسان الدائمة * كما رأينا * من زوال وجوده وتناهيه وانقضائه، وليس من المحتمل أن تتوقف هذه الشكوي، وما ينبغي لها كذلك أن تتوقف. فليس من قبيل الصدفة أن يقول المتنبي:
'صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
عناهم من أمره ما عنانا'
ولم يكن من قبل الصدفة كذلك أن تتردد شكوي الزمان علي السنة الحساسين من الأدباء والمنشدين في الحضارات القديمة، غير أن شكوي الانسان كانت تقابلها علي الدوام معرفته بما لا يزول أو ينقضي، واحساسه بالأيدي غير الزمني، وشعوره بسكينة مقدسة، أشبه بصخرة تتدافع حولها أمواج الزمن والصاخب وتحطم عليها.
وقصيدة ليو باردي '1798 * 1837' التي جعل عنوانها 'اللامحدود' تعبر عن هذه المواجهة بين الأبدي والزماني:
'غاليا علي نفسي كان علي الدوام هذا التل الموحش
وهذا السياج الذي يسد منافذ الرؤية
من كل جانب من جوانب الأفق البعيد
غير انني عندما أجلس وأنظر،
تتمثل لفكري الأماكن الشاسعة هناك
والصمت وراءها يفوق قدرة البشر
والسكينة العميقة العميقة،
فيوشك قلبي أن يتزلزل من الرعب
وكلما سمعت الريح تعصف بهذه الاغصان
وجدتني أقارن بين الصمت العظيم هناك
وبين هذا الصوت،
وأتفكر في الأبدي،
في الأزمان التي ماتت ولا تزال الآن حية
وفي الصوت الذي يتردد منها.
وهكذا يغوص فكري في اللامحدود.
وأشعر بعذوبة الغرق في هذا البحر'.
الانسان اذن يعيش في الزمن والأبد معا، 'فالروح لها عينان' عين تتطلع للحاضر وتحن الأخري للأبد' كما يقول أشهر شعراء التصوف عند الألمان، وكلما ازداد حنين عين للأبدية، ازداد تألم العين الأخري لانقضاء الزمن وزواله، ازداد عذابها بيقين الموت المحتوم' فحتي الجميل يتحتم عليه أن يموت كما يقول 'شيلد'! ان الزمان يعيد إلي قبر الماضي كل مولود يولد، بعد أجل موقوت وحضور عابر.
ولقد حرك هذا الشعور * كما رأينا * وجدان الانسان منذ آلاف السنين، وأراد الكثيرون أن يحولوا أنظارهم عن الزمن كي يتطلعوا إلي الأبدية وحدها.
وتنافس الدين والفلسفة في سلب كل قيمة عن الزمني والمنقضي، والبحث عن الحقيقة والوجود في الأبدي واللازمني، ولقد شعر البعض بالراحة وتنفسوا الصعداء عندما قدمت لهم فلسفة 'كانط' الدليل تلو الدليل علي أن المكان والزمان لا شأن لهما بوجود الأشياء ذاتها، وانما هما من شأن الطبيعة البشرية، صورتان قبليتان للحدس أو العيان قائمتان في وجدان الانسان.
ومهما يكن من قوة هذه الادلة أو ضعفها، فقد احتجت التجربة الحية عند أصحاب الرؤية من الفنانين والشعراء أشد احتجاج علي ما قاله 'كانط' عن مثالية المكان.
أما مشكلة الزمان، فيبدو أنها كانت ولا تزال أقرب لوجود الانسان وأغني بالألغاز.
وهل هناك أشد ايلاما من اليقين بأن كل ما حولنا، ونحن أيضا، سنغوص ذات لحظة في الماضي لنصبح 'خبر كان'؟ أي شيء أبعث علي الحزن من العلم بأن 'الميت' في هذا العالم يزيد ملايين المرات عن 'الحي'، وأن وجودنا الذي يمتد الآن بجذوره في الماضي يسرع دون توقف نحو اللحظة التي سيتلاشي فيها؟!
أليس من حق الانسان أن يلتمس العزاء في حقيقة خالدة لا تمتد إليها يد الفناء، وأن يعد الزمانية من علامات النقص في وجوده الأرضي؟!
ألم يعمد الانسان منذ القدم إلي وصف أربابه بالخلود، في الوقت الذي كان يتبين له فيه عجز كل ما هو بشري وتبدده كالدخان!
غير أن هناك نظرة أخري للعلاقة بين الزمن والسرمدية: ان السرمدية نفسها تحضر في الزمان، وأبعاد الزمن الثلاثة يمكن أن تصبح كلها حضورا سرمديا في أزلية الماضي، وأبدية المستقبل، وخلود اللحظة الحاضرة.
تعليق