إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

العقيـدة الإسلاميَّة

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • العقيـدة الإسلاميَّة

    دروس في العقيـدة الإسلاميَّة
    سماحة الشيخ إبراهيم الأنصاري

    الدرس الأول : الحكمة النظرية و الحكمة العملية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    كل مدرسة متكاملة وأيديولوجيةٍ صحيحة تفتقر إلى أمرين رئيسين:

    الأول : نظامٌ فكريٌّ وفلسفيٌّ مُستدَلٌ عليه، قائم على أساس البرهان والدليل الذي لا تعتريه شبهة ولا تتخلله أوهام.

    الثاني: إيمانٌ كامل وعقيدة راسخة بحيث يمكنها أن توجد العلاقة الوثيقة والحب الشديد لأهدافها المنشودة المقدسة التي تكمن في أمورٍ غيبية خارجة عن نطاق الأشخاص والأفراد والأشياء ومرتبطة بعالمٍ آخر له قدسية وسموّ.

    النظام الفكري نظري و عملي:

    والنظام الفكري ينقسم إلى قسمين : نظامٌ نظري ونظام عملي.

    النظام الفكري النظري: هو أسلوب من التفكر عما هو موجود.

    والنظام الفكري العملي: هو أسلوب من التفكر عمّا ينبغي أن يُفعل أو لا يفعل.

    فالأوّل يسمى الرؤية الكونية والثاني يسمى الأيديولوجية، وقد عُرِّفا بالتعريف التالي:

    الرؤية الكونية:

    "مجموعة من المعتقدات والنظريات الكونية المتناسقة حول الكون والإنسان بل حول الوجود بصورة عامة".

    الأيديولوجية:

    "مجموعه من الآراء الكلية المتناسقة حول سلوك الإنسان وأفعاله".

    وهناك تعبير آخر في عرف الحكماء حيث يعبرون عن الرؤية الكونية بالحكمة النظرية وعن الأيديولوجية بالحكمة العملية.

    ومن أركان المدرسة الفكرية أن تكون هناك منظومة متكاملة ومتناسقة تشكل مجموعة واحدة، فهي كالبناء المشتمل على المرافق التي هدفها وغرضٍها واحد فكل واحدة منها مكملة للأخرى، ومن هنا نستنتج أن الأفكار غير المتناسقة وغير المترابطة لا يمكن أن تشكل مدرسة فكرية ولا ينبغي أن يُطلق عليها اسم المدرسة.

    النظرية روح العمل:

    إن كل عملٍ لا يَبتني على نظرية فهو كالجسم الذي لا روح فيه، فكما أن الجسم من غير الرّوح ليس له أي أثر إيجابي أو سلبي ولا فائدة فيه، كذلك العمل من غير نظرية فهو ليس إلاّ حركات عشوائية غير مترابطة وغير منصبّة في غايةٍ واحدة وهدفٍ واحد.

    ومن هنا نقول أن الجانب العملي من المدرسة المتكاملة ليس هو إلاّ كالجسم المتكون من أعضاء وجوارح بعضها ضروري لازم وبعضها غير لازم، فنشاهد أنّ في جسم الإنسان هناك بعض الأعضاء لها دور رئيسي وبعضها تعتبر أمور ثانوية وتشكل زينة للجسم فقط، فلليد والرجل والعين أدوار رئيسية ولكن الشعر والحاجب يشكلان زينة للإنسان، نفس الأمر يجري على الجانب العملي من تلك المدرسة، فهناك واجبات ومحرمات ومكروهات ومستحبات ومباحات، فالواجبات والمحرمات لها الأهميّة البالغة دون المكروهات والمستحبات فهما في المرحلة الثانية من الأهميّة، وأما المباحات فهي تقع في المرحلة الثالثة لأنَّها تمنح الحريَّة للإنسان إن أراد فعل وإن أراد لم يفعل.

    القدسّـية:

    إن القوَّة المُحرّكة للرؤية الكونية هي أمرٌ واحد فقط وذلك الأمر هو القُدسيَّة والرَّوْحانية المتواجدة فيها، فليس هناك ما يجعلها نافذة ومؤثِّرة إلا تلك القدسية فقط، فلو لم تكن للرؤية الكونية قدسِيَّةً لا يمكنها أن تنجح ولا يمكنها أن تكسِب أُناساً يتبَنَّوْنَها ، لأنّ الرؤية الكونية تريد أن تخطِّط مسيرةَ الإنسان نحو الكمال بمستوى تجعله يفعل أو لا يفعل وتتوقع من الإنسان أن يخطو طِبْقاً للضوابط والقوانين المرسومة وطِبقاً للنظام الفكري الخاص، ومن الواضح أن هذا الأمر يحتاج إلى دافع قوي ولا قدرة للأمور الحسيَّة أن تكون دافعاً لذلك بل لا بدَّ وأن يكون أمراً غيبياً خارجاً عن إطار المادة والماديات .

    التوحيـد:

    التوحيد هو أقوى دافع للإنسان كأساس وقاعدة للرؤية الكونية، لأنّه يشكل رؤيةً متكاملةً بالنسبة للوجود والإنسان، وفي نفس الوقت يشتمل على قدَّسية ونورانيَّة تضيء روح الإنسان وجسده بل تنوِّر كلَّ شيءٍ فهو كالشمس المشعَّة يسطع بالنور في زوايا الوجود في جميع مراحله من عالم الغيب إلى عالم الشهود .

    مراتب التوحيد:

    ولذلك صار التوحيد في أمور أربعة وهي:

    التوحيد في الذّات المتمثِّل في التكبير (الله أكبر)، والتوحيد في الصفات المتجلِّي في التسبيح (سبحان الله)، والتوحيد في الأفعال الظاهر في الحَمد (الحمد لله)، والتوحيد في العبادة المتجسِّد في التهليل (لا إله إلا الله).

    فالتكبير هو التوحيد الذاتي، الذي هو أعلى مستوى من التوحيد، ومنه ينتقل الإنسان إلى مرحلة نازلة وهي التوحيد الصفاتي، فيرى أنَّ صفاته تعالى هي عين ذاته، فيتهيأ للمرحلة الثالثة وهي التوحيد في الأفعال {لا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم} {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}(الأنفال/17).، "لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى" ولا تكتفي المدرسة التوحيدية بهذه المراحل الثلاثة، بل ترى أنَّ هناك مرحلة تمسُّ أفعال الإنسان وجوارحه وهي المرحلة العملية أعني التوحيد في العبادة، فلا يجوز أن يُعبد غير الله تعالى فيجب نفي جميع المعبودين وإثبات معبودٍ واحد فقط (لا إله إلا الله).

    فالمرحلة الأخيرة هي مرحلة العمل كما أن المرحلة الأولى هي مرحلة أساس الرؤية الكونية، فالتوحيد في الذّات هو مصدر ومعدن التوحيد الذي من خلاله توحَّد كلُّ شيء في عالمي التكوين والتشريع.

    فنشاهد بأن الجانب العملي والأيديولوجية تنبثق من نفس التوحيد، فيَلزَم للإنسان الموَحِّد أن يعبد الله تعالى ويُسلّم أمرَه إليه ويحسّ بالفقر في قباله، فعبادة الله إذاً قد ركَّزت جذورها في عمق روح الإنسان بل في كل شيئ.

    {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}(آل عمران/83).

    ومن هنا نستنتج بأن التوحيد يشتمل على خصوصيتين:

    أحدُهما: رؤية كونية وفهمٌ كوني متكامل.

    ثانيهما: أنه هدفٌ وقضية مقدّسة للإنسان.

    من خلال ما ذكرنا نصل إلى نتيجة مهمة جداً وهي:

    أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الرؤية الكونية الإلهية والأيديولوجية الإسلامية، وهذه الخصوصية لا نجدها في أية مدرسة من المدارس المادية وكذلك المسيحية واليهودية وغيرهما.

    الرؤية التوحيدية:

    وهذه الرؤية لها خصوصيات:

    1-تخلق الشعور بالمسئولية في الإنسان.

    2-تهدي وتبيّن الطريق للوصول إلى الأهداف المقدسة.

    3-تخلق النشاط في الإنسان والحيوية وروحية الفداء.

    بل هي عنصر من عناصر جميع التعاليم، كاجتماع النقيضين الذي هو أساس جميع القضايا العقلية، فلا يمكن للإنسان أن يتيقَّن بأصلٍ من الأصول إلا بعد أن يذعن بهذا الأصل، كذلك أصل التوحيد فهو كالماء للشجرة فلولا الماء لما نمَت الشجرة ولما بَقيت على ساقها، وهو كالدَّم للإنسان ولولا الدّم لما تمكن الإنسان أن يبقى ولو لحظة واحدة، بل هو كالرُّوح للبدن فالذي يُسيِّر البدن ليس هو إلاَّ الرّوح والذي يجعل البدن حيّاً ونَشِطاً هو الرّوح، ولا توجد رؤية كالتوحيد تمتلك هذه الخصوصية وتشتمل على هذه الميزة.

    الهدف من التّوحيد:

    الهدف من التوحيد هو الوصول إلى الله سبحانه وتعالى والسّير إليه والتّقرُّب إليه والسلوك نحوه، وهذا السير ليس هو سيرٌ مادي وحسي إنما هو سيرٌ معنوي وباطني، فيمكن للإنسان أن يصل إلى الله سبحانه وتعالى بروحه لا بجسمه وإلى ذلك تشير آيات كثيرة وروايات متواترة، ومَرْكب السير في هذا السفر هو العشق والمحبّة والأُنس والطريق الذي لابد أن يسلك السالك من خلاله هو طريق القلب.

    الإسلام مدرسة متكاملة

    الإسلام مدرسة واقعيّة وليست مجرَّد نظرية، فقد نظر الإسلام إلى جميع جوانب وأبعاد حاجيات الإنسان من الدنيوية والأخروية والجسمية والروحية والعقلية والفكرية والعاطفية والفردية والاجتماعية .

    ومجموع تعاليم الإسلام من وجهة نظر خاصة تنقسم إلى أقسام ثلاثة :

    القسم الأول: أصول العقائد

    وهي الأمور التي ينبغي للإنسان الاعتقاد بها ويتوصل إليها من خلال الدليل والبرهان، والعمل الذي تتطلبه هذه الأمور هو التحقيق العلمي الدقيق.

    القسم الثاني : الأخلاق الإسلامية

    وهي الصّفات والخصال التي يلزم على المسلم أن يتحلَّى بها ويُبعِد نفسه عن أضدادها، والعمل الذي يتطلبه هذا الأمر هو المراقبة وبناء النفس.

    القسم الثالث : أحكام الإسلام

    وهي القوانين التي ترتبط بأعمال الإنسان الخارجية والعينية من أعماله المعاشية والمعادِيَّة الدنيوية والأخروية الفردية والإجتماعية.

    ثم إن أصول العقائد الإسلامية على حسب مذهب الشيعة هي خمسة: التوحيد، العدل، النبّوة، الإمامة والمعاد.

    الإسلام لا يرى صحّة التّقليد والتّعبُّد في مثل هذه الأمور بل يرى بأن كلّ إنسان وبكمال الحرية والاستقلال ينبغي له أن يصل بنحو اليقين إلى الإِذعان بصحة هذه الأمور، وأمّا بالنسبة للعبادات، فالإسلام لا يرى أن العبادات منحصرة بالعبادات البدنية كالصلاة والصوم، أو المالية كالخمس والزكاة، بل هناك نوع آخر من العبادات وهي العبادات الفكرية كما ورد في الحديث:

    ((أنَّ أكثر عبادة أبي ذر التفكر))

    قال الإمام الخميني قدِّس سرُّه:

    "فصل في بيان فضيلة التفكر: اعلم أن للتفكر فضائل كثيرة. فالتفكر هو مفتاح أبواب المعارف وخزائن الكمالات والعلوم، وهو مقدمة لازمة وحتمية للسلوك الإنساني، وله في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تعظيم بليغ وتمجيد كامل، كما أن تاركه معيّر ومذموم. وقد جاء في (الكافي) الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: "فضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته" (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب التفكر، ح3). وفي حديث آخر: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة". وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن تفكر ساعة خير من عبادة سنة". وفي حديث غيره: "إن تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة"، وفي رواية: "سبعين سنة"، وعن بعض علماء الفقه والحديث: "ألف سنة" (الأربعون حديثاً ص222،223).



    يتبع...............عن الكوثر

  • #2

    دروس في العقيدة الإسـلامية
    سماحة الشيخ إبراهيم الأنصاري

    الدرس الثاني : أنـواع المعـرفة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    1 المعرفة التجريبيَّة :

    هي التي تعتمد على التجربة وتستفاد من خلال الحواس الخمسة (السامعة، الباصرة، الشامَّة، الذائقة واللاّمسة) وذلك بانعكاس الصور الخارجية في الذهن.

    وقد شرحنا كيفيَّة حصول ذلك في كتابنا الدروس في المنطق فراجع.

    هل يمكن الاعتماد على مثل هذه العلوم بنحو مستقل ؟

    وهل يمكن التوصل إلى رؤية كونية متكاملة حول الوجود انطلاقاً من معطيات العلوم التجريبية أو القضايا العلمية (المقصود من هذا المصطلح أعني العلمية هو معناه الخاص لا العام حيث يطلق في عصرنا على التجريبيات)؟

    في الجواب نقول:

    لا يمكن الاعتماد على التجربة في مجال المعرفة الشاملة أصلاً وذلك لأمرين رئيسيين:

    الأوَّل: إنَّ التجربة مجالها محدود لأنَّها تتحدد وتنحصر في نطاق ضيِّق أعني الظواهر الماديَّة البحتة ومسائل الطبيعة.

    الثاني: إنَّ الرؤية الكونية لها صبغة غيبيَّة ما وراء الطبيعة وتشتمل على مسائل خارجة عن إطار المادة كإثبات وجود الله وصفاته والملائكة والقيامة وغيرها، ومن الواضح أنّه ليس من شأن التجربة الورود في هذا الميدان أصلاً، وعليه ليست الرؤية التجربيَّة إلاّ سرابٌ خادع يحسبه الضمآن ماءاً، فالأولى أن لا يطلق عليها كلمة "رؤية" بل لا تتجاوز عن "معرفة العالم المادِّي" وهي معرفة مؤطَّرة جداً لا قيمة لها.

    نعـم: لو استخدمت التجربة كوسيلة تمهيدية فحينئذٍ لا بأس بها، بل تكون ضروريَّة لأنَّ التجربة تكوِّن المقدَّمة الأولى للاستدلال وهي ما تسمَّى -صغرى- وهناك مقدَّمة ثانية تعتمد على القضايا العقلية البحتة وتؤول إلى البديهيّات الأوَّلية وهي قضيَّة عامَّة مجرَّدة تسمَّى -كبرى- وهي التِّي لها الدور الرئيسي في الاستدلال وبها يكون الدليل دليلاً وقاعدةً وقانوناً .

    مثـال:

    "كلُّ نار محرقة" هي ليست قانون مستنبط من التجربة كما يتصوَّر الماديُّون ،بل هو قانون يعتمد على أساس العقل ويبتني على الأمور البديهيَّة التِّي تمثِّل القاعدة الأولى لفكر البشر.

    توضيحه:

    الإنسان عندما يشاهدً النار الخاص على الموقد فيتقرَّب إليه ويعلم بأنَّه يحرق ثمَّ يجرب ناراً أخرى وهكذا ، فلا يحقُّ له أن يحكم على جميع نيران العالم بهذا الحكم فيقول "كلُّ نار تُحرق" لأنَّه لم يستقرأ جميعها و لا يمكنه ذلك .

    ولكن الواقع خلاف ذلك حيث أنَّه قد حكمت على جميع النيران بأنَّها تحرق من غير استثناء لا من حيث المكان ولا من حيث الزمان فكيف حصل هذا الحكم؟ أليس هو بالتجربة؟

    أقـول:

    إنَّ هذا الحكم غير مستنبط من التجربة بل لم تكن للتجربة دور غير تشخيص موارد جزئيَّة و مصاديق خارجيَّة للنار بأنَّها تحرق ، وبعبارة أوضح قد عرف الإنسان من خلال التجربة أنَّ النار هي (علَّة) والإحراق هو (معلول) .وهذه القضيَّة قد شكَّلت القاعدة الأولى للاستدلال فقط وهي "الصغرى" .

    وأمَّا القاعدة الثانية "الكبرى" وهي "كلّما تحقَّقت العلَّة تحقَّق المعلول" وهي الأهمّ فلا علاقة لها بالتجربة أصلاً بل تبتني على أساس آخر وهو "استحالة اجتماع النقيضين" وهو من البديهيات الأوَّلية، والإنسان مفطور على معرفتها ، فرجعت التجربة بالأخير إلى العقل.

    هـذا:

    والدليل على ما قلنا هو أنَّه لو لم نستنتج من التجارب المختلفة الارتباط العلِّي والمعلول لكانت النتيجة سقيمة لا محالة ومثال ذلك: لو قيل بأنَّ أهالي بلدة من بلاد إفريقيا قد ابتلوا بالعمى جرّاء التسمم الحاصل في جوِّ بلادهم ، فلو ذهبنا واستقرينا عدداً منهم وعرفنا بالفعل أنَّهم كذلك فهل لنا أن نحكم بأن جميعهم كذلك؟ ونحن نحتمل أنَّ هناك من صان نفسه من ذلك أو أنَّه كان خارج بلده حين ذاك؟!

    فمادام لم نعلم بأنَّ هناك علاقة العلية والمعلولية بين الأمرين أعنى "الكون في تلك البلاد" و"العمى" فلا يحق لنا أن نحكم على جميع الناس بالعمى لأنَّه لم نتمكَّن من تطبيق تلك القاعدة العامَّة "قاعدة العلِّية" على هذه المورد الخاص.

    والحاصل أنَّ التجربة لا قيمة مستقلَّة لها في إثبات مسائل الرؤية الكونيَّة.

    2 المعرفة التعبُّديَّة:

    وهي التي تعتمد على التعبُّد بالمصادر والوسائط المعتمدة الناقلة للرسالة من الله سبحانه وتعالى وهم الأنبياء و كتبهم والأئِّمة وحتّى علماء الشريعة المعتمدين ، فالإيمان بهم هو الدليل على صحَّة تلك المعتقدات الأساسيَّة فمثلاً الإعتماد على القرآن الكريم هو الذي يدعوا الإنسان إلى قبول كلَّ ما فيه من المعتقدات حتَّى إثبات وجود الله و النبوَّة العامة والخاصة والمعاد وغيرها.

    فهل من الصحيح أن نكوِّن رؤية كونية من خلال التعبد ؟ وما هو نطاق التعبُّد إذاً؟

    أقول في الجواب:

    إنَّ التعبُّد يتوقَّف على إثبات صدق المصدر مثل القرآن الكريم والأحاديث النبوية وأحاديث أهل البيت عليهم السلام بالنسبة إلى دين الإسلام .

    فلو أردنا إثبات وجود الله مثلاً عن طريق القرآن الكريم فيجب أن نعتقد بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن نعتقد بوجود الله تعالى والمفروض أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم نبيٌ من قِبل الله فينبغي أن نعتقد بوجوده تعالى قبل الاعتقاد بنبوَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم،وهل هذا إلاّ التناقض المحال حيث أننا نعتقد بوجود الله ولا نعتقد في آن واحد ونعتقد بنبوَّة محمد ولا نعتقد في آن واحد.

    وعليه لا يمكن أن نعتمد على مثل هذه الطريقة للوصول إلى رؤية كونيَّة صحيحة .

    قال الإمام الخميني قدِّس سرُّه:

    "باب إثبات الصانع والتوحيد والتقديس واثبات المعاد والنبوّة بل مطلق المعارف حقٌ طِلقٌ للعقول، ومن مختصاتها وإن ورد في كلام بعض المحدثين من ذوي المقام العالي أنّ الاعتماد في إثبات التوحيد على الدليل النقلي فمن غرائب الأمور بل من المصيبات التي لابد أن يستعاذ بالله منها "

    ولذلك أكَّد علماؤنا على أنَّ أمر القرآن الكريم بالإطاعة في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ...}(النساء/59). ليس هو أمرٌ تعبُّدي بل إرشاد إلى حكم العقل بوجوب الإطاعة كأوامر الطبيب التِّي ليست هي إلا لتنبيه المريض على أمورٍ لها أثر إيجابي أو سلبي فيه، لا يعرفها بنفسه، لا أنَّ أوامره تعبدُّية أي أنَّها واجبة التنفيذ لكونها من الطبيب بما هو طبيب لا بما هو كاشف عن أمر واقع خارجي.

    وكذلك بالنسبة إلى الأوامر الإلهيَّة فلا بد من وجود مصدر غير الشرع يحكم بوجوب إطاعة الشارع في أوامره ونواهيه وإلا سوف نعيد السؤال مرة أخرى ما هو الدليل على وجوب امتثال الشارع في أمره بإطاعة أوامره وعليه قالوا بأنَّه من أطاع هذا الأمر (أعني أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فصلَّى وصام وحجَّ بيت الله الحرام فهو قد اكتسب أجرَ تلك الأعمال باعتبارها مصاديق لإطاعة الله والرسول لا أنَّ له أجرين، أحدهما للإطاعة وثانيها للأعمال التِّي مارسها. فالنتيجة أنَّه ليست هناك معرفة تعبدِّية مستقلَّة عن العقل في مجال أصول العقائد، نعم بالنسبة إلى التفصيلات في العقائد ، مثلاً خصوصيات الحشر والنشر والقيامة فلا مانع من التمسك بالآيات الكريمة بل يلزم ذلك حيث لا وسيلة أخرى غيرها على أنَّ قوامها ثابت بالعقل وذلك بعد إثبات الخالق و إثبات نبوَّة الأنبياء والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.

    تنبـيه

    نحن سوف نعتمد على كثير من الآيات والروايات لإثبات أصول العقائد ، وذلك لما قلنا من أنَّها إرشاد لحكم العقل كقوله {…أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ…}(إبراهيم/10). حيث تثير عقل البشر إلى ما يستبطنه وهذا هو دور الأنبياء كما في كلام أمير المؤمنين عليه السلام :

    ((فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ))(بحار الأنوار ج 11 ص60)

    وبعبارة أخرى نقول:

    إنَّنا سوف نعتبر الشارع المقدَّس من العقلاء فهو كأيِّ من يتعقَّل و يفكِّر يستعرض لنا أدلَّة عقلية لإثبات الصانع و صفاته وغيره من العقائد ، كيف لا وهو أعقل القلاء بل هو خالق العقل والعقلاء ، ولذلك نراه يؤكِّد على التعقُّل و التفكير"أفلا تعقلون" "أفلا تتدبَّرون".

    3 المعرفة العقليَّة:

    ونعني بالعقل هنا الفكر الذي تحدَّثنا عنه في المنطق حيث ينتقل الإنسان من المعلومات المخزونة لديه إلا المجهولات وله أن يتوسَّع في المفاهيم العقلية فيعمِّمها أو ينتزع منها مفاهيم أخرى لا واقع لها في عالم العين أصلاً وهي التِّي يطلق عليها المفاهيم الإنتزاعية التي يتطرق إليها الفلاسفة كمفهوم: "الوحدة" "الكثرة" "العليَّة " "الإمكان" "الوجوب" "القوَّة" "العدم" فهذه ليس لها واقع في الخارج فلا علاقة للتجربة والحس بها أصلاً.

    نعم منشأ إنتزاعها هو في الخارج "كالواحد" الذي هو منشأ انتزاع "الوحدة" و"الكثير" الذي هو منشا انتزاع "الكثرة" و"العلة" التي هي منشأ انتزاع "العلِّية".

    فالسؤال المطروح هنا هو:

    هل يمكن الإعتماد على العقل لإثبات ما وراء الطبيعة؟

    وهل الرؤية الكونية العقلية و الفلسفيَّة يمكنها أن تشكِّل معتمداً للإيديولوجية الصحيحة، أم هي كالتجربة والتعبُّد لا يمكنها أن تتخطى إلى تلك الساحات المقدَّسة؟

    والجواب على هذا السؤال يتطلَّب نوعاً من التأمُّل و الدقَّة لأنّه قد اختلف القوم في الأمر اختلافاً كبيراً وهناك رأي هو الجادة الوسطى وهو نابع من القرآن الكريم وأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام.

    فنقول:

    في البداية ينبغي لنا أن نحدِّد بدقة ما نريده من البحث والإستدلال في مجال المعرفة ، هل هو مجرَّد تصوُّر بأنَّ هناك عالم ماوراء الطبيعة ، واثبات صانعٍ متَّصفٍ بالصفات الجماليَّة و منزَّه عن العيوب و النواقص؟ وأنَّه يجب أن يرسل الرسل و ينزل الكتب و يجازي على الخير و يعاقب على الشرّ ؟

    من الواضح أنَّ إثبات هذه الأمور لا يتمُّ إلا بالاستدلالات الفلسفيَّة المتقنة والبراهين الواضحة، وقد سلك المتكِّلمون هذا المسلك وهذا من الوجوه التي من أجله سمُّوا بهذا الإسم فهم كانوا يخوضون في الاستدلال ويتكلَّمون كثيراً لإثبات مدَّعاهم، وأيضاً الفلاسفة الذين جمدوا على الفلسفة يميلون إلى هذا الأسلوب.

    وأمّا لو قلنا بأنَّ الأمر هو أعظم من هذا المستوى من العلم بل ينبغي أن ينتقل الإنسان من العقل إلى العرفان ومن العلم العقلي إلى الشهود القلبي، فحينئذٍ لا يمكن لنا أن نحصر الرؤية بالعقلية بل ينبغي أن نوافق بينها وبين رؤية أخرى وهي الرؤية العرفانية والمعرفة الشهودديَّة ، ولهذا سوف نتطرَّق إليها ونشرحها ونبيِّن موقفنا من المعرفة العقليَّة معتمدين على حقائق تطرَّق إليها الإمام الخميني في مختلف كتبه.

    4 المعرفة الشهوديَّة:

    وهذه حقيقةً معرفةٌ في قبال العلم حيث يتعلَّق العلم فيها بعين المعلوم وذاته دون أن تكون للصورة والمفهوم الذهني وساطة للوصول إلى المعلوم أصلاً وهو العلم الحضوري الذي شرحناه في المنطق وهو الكشف والشهود و الإشراق، وهذه الحالة إنَّما تتطلب خطوةً واحدة وهي ترك "الأنا" ولوازمها، وإن كان الوصول إليها تفصيلاً يستدعي السعي المتواصل والسير والسلوك و الجهاد الباطني وهو الجهاد الأكبر.

    ولكن يجب أن يسلك الإنسان في من خلال الاستدلالات العقلية ليتصوَّر مفاهيم عامَّة حول الوجود والكون والخلق وغيرها ومن ثَمَّ يجعلها جسراً ليمرَّ عليها إلى منزلة الشهود فالرؤية هي شهودية وإن كان الطريق هو العقل ، وعليه لا يصل الإنسان إلى العرفان حقيقةً إلا بالعلم والحكمة، وبهذا يتميَّز العارف الحقيقي من الإنسان الخيالي الذي يتوهَّم الوصول إلى مدارج العرفان، هذا وليس كلُّ عالم عارف بل العلم ربَّما يوجب الركود والجمود بل يؤدِّي إلى الجهل المركب فيكون حينئذٍ وسيلةً للشيطان.

    قال الإمام الخميني قدِّس سرُّه:

    "حتى العلوم العقلية البرهانية الراجعة إلى توحيد الحق وتقديسه كل ذلك من حبائل إبليس التي تمنع الإنسان عن الحق والأنس به والخلوة معه وتشغله بذلك"(الآداب المعنوية للصلاة ص382)

    الألفاظ حجـب

    العلوم العقلية بما أنَّها علوم حصوليَّة، فلا محالة تدرك من خلال الألفاظ، ولا يمكن للّفظ، مهما بلغ من الجمال، أن يشير إلى صفات الله وأسمائه الجلالية، فكيف بصفاته وأسمائه الجماليَّة واسمه الأعظم!

    يقول الإمام قدِّس سرُّه:

    " ألا إن ثوباً خيط من نسـج تسعة وعشرين حرفاً من معاليه قـاصر، بل ليس فهم هذه الحقايق بالبراهين المشائية والقياسات الفلسفية والمجادلات الكلامية"(شرح دعاء السحر)

    الإيمان لا العلـم

    ليس المطلوب هو مجرَّد العلم، بل ينبغي الوصول إلى الإيمان بالله تعالى وسائر المعتقدات، والاستدلال مهما كان قوياً لا فجوة فيه، إلا أنَّه لا ينتقل من القناعة العقلية إلى القلب إلا بالإيمان.

    قال الإمام قدِّس سرُّه:

    "باي استدلاليان جوبين بود باي جوبين سخت بي تمكين بود (وهذا البيت من الشعر للمولى الرومي يقول : " ان للاستدلالّيين رِجلاً من خشب ولا يمكن الاعتماد على الرجل الخشبية ") ، ونعم ما قال العارف الشيرازي قدس سره: مدعى خواست كـه آيـد بـه تـماشـاكَه راز دسـت غيب آمـد وبر سـيـنهء نامحرم زد عقل ميخواست كزآن شعله جراغ افروزد بـرق غيرت بـدرخشـيد و جـهان بـر هـم زد (فهناك من اراد المجئ إلى محل تفرج الأسرار، ليتفرج إليها ، فجاءت يد غيبية وضربت على صدره لأنَّه ليس بمحرم لذلك العالم ولا يجوز له أن ينظر إليه، والعقل أراد أن يوقد مصباحاً من ذلك المشعل الغيبي، فالغيرة أشعلت برقها الشديد وتشعشعت وخربت العالم دفاعاً عن نفسه في قبال العقل.) وهذا العلم مختص بأصحاب القلوب من المشايخ المستفيدين من مشكوة النبوة ومصباح الولاية بالرياضات والمجاهدات . هيهات نحن وأمثالنا لانعرف من العلم إلاّ مفهومه، ولا من مرموزات الأنبياء والأولياء ورواياتهم إلاّ سوادها وقشرها"(شرح دعاء السحر).

    وعلى هذا الأساس نقول:

    إنَّ الوصول إلى رؤية صحيحة يتوقَّف على الإستدلال الفلسفي كمقدَّمة، الشهود كغاية ينبغي للإنسان أن يصل إليها، ولذلك يجب أن نميِّز بين العارف الحقيقي والمدَّعي للعرفان (وفي عصرنا هذا قد ظهر الكثير ممن يدَّعي العرفان وتبعهم الهمج الرعاع جهلاً بالواقع) ، فالعارف الحقيقي لا يصل إلى العرفان إلا بالوصول إلى المدارج العلميَّة والتعمُّق في المفاهيم الفلسفيَّة والوصول إلى حقائقها.

    هذا، وعرض المفاهيم العرفانية من خلال الألفاظ، إن كان للوصول إلى الشهود فهو مطلوب، وإلا فهي كغيرها من المفاهيم الذهنيَّة، سوف يكون لها أثر سلبي والعلم هو الحجاب الأكبر .

    وعلى ضوء ما ذكرنا، نبيِّن أسلوبنا في بيان المعتقدات الإسلاميَّة، وهو أسلوب فلسفي عرفاني، وحيث أنَّ من أبرز من وصل إلى هذا المستوى وكتب في هذا المجال هو الإمام الخميني قدِّس سرُّه، مضافاً إلى خطورة الأمر وأهميته، فنرى من اللازم الاعتماد على منهج الإمام في بيان العقائد فإنَّ منهجه وبحق أفضل منهج وأسلوبه أبلغ الأساليب، فلم نشاهد قولاً قد لبس لباس العمل غير قوله، ولا منطقاً أظهر نفسه في المجتمع إلا منطقه، فسلام عليه يوم ولد ويوم ارتحل إلى ربِّه ويوم يبعث حياً.


    يتبع.........عن الكوثر

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    x

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

    صورة التسجيل تحديث الصورة

    اقرأ في منتديات يا حسين

    تقليص

    لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

    يعمل...
    X