دروس في العقيـدة الإسلاميَّة
سماحة الشيخ إبراهيم الأنصاري
الدرس الأول : الحكمة النظرية و الحكمة العملية
بسم الله الرحمن الرحيم
كل مدرسة متكاملة وأيديولوجيةٍ صحيحة تفتقر إلى أمرين رئيسين:
الأول : نظامٌ فكريٌّ وفلسفيٌّ مُستدَلٌ عليه، قائم على أساس البرهان والدليل الذي لا تعتريه شبهة ولا تتخلله أوهام.
الثاني: إيمانٌ كامل وعقيدة راسخة بحيث يمكنها أن توجد العلاقة الوثيقة والحب الشديد لأهدافها المنشودة المقدسة التي تكمن في أمورٍ غيبية خارجة عن نطاق الأشخاص والأفراد والأشياء ومرتبطة بعالمٍ آخر له قدسية وسموّ.
النظام الفكري نظري و عملي:
والنظام الفكري ينقسم إلى قسمين : نظامٌ نظري ونظام عملي.
النظام الفكري النظري: هو أسلوب من التفكر عما هو موجود.
والنظام الفكري العملي: هو أسلوب من التفكر عمّا ينبغي أن يُفعل أو لا يفعل.
فالأوّل يسمى الرؤية الكونية والثاني يسمى الأيديولوجية، وقد عُرِّفا بالتعريف التالي:
الرؤية الكونية:
"مجموعة من المعتقدات والنظريات الكونية المتناسقة حول الكون والإنسان بل حول الوجود بصورة عامة".
الأيديولوجية:
"مجموعه من الآراء الكلية المتناسقة حول سلوك الإنسان وأفعاله".
وهناك تعبير آخر في عرف الحكماء حيث يعبرون عن الرؤية الكونية بالحكمة النظرية وعن الأيديولوجية بالحكمة العملية.
ومن أركان المدرسة الفكرية أن تكون هناك منظومة متكاملة ومتناسقة تشكل مجموعة واحدة، فهي كالبناء المشتمل على المرافق التي هدفها وغرضٍها واحد فكل واحدة منها مكملة للأخرى، ومن هنا نستنتج أن الأفكار غير المتناسقة وغير المترابطة لا يمكن أن تشكل مدرسة فكرية ولا ينبغي أن يُطلق عليها اسم المدرسة.
النظرية روح العمل:
إن كل عملٍ لا يَبتني على نظرية فهو كالجسم الذي لا روح فيه، فكما أن الجسم من غير الرّوح ليس له أي أثر إيجابي أو سلبي ولا فائدة فيه، كذلك العمل من غير نظرية فهو ليس إلاّ حركات عشوائية غير مترابطة وغير منصبّة في غايةٍ واحدة وهدفٍ واحد.
ومن هنا نقول أن الجانب العملي من المدرسة المتكاملة ليس هو إلاّ كالجسم المتكون من أعضاء وجوارح بعضها ضروري لازم وبعضها غير لازم، فنشاهد أنّ في جسم الإنسان هناك بعض الأعضاء لها دور رئيسي وبعضها تعتبر أمور ثانوية وتشكل زينة للجسم فقط، فلليد والرجل والعين أدوار رئيسية ولكن الشعر والحاجب يشكلان زينة للإنسان، نفس الأمر يجري على الجانب العملي من تلك المدرسة، فهناك واجبات ومحرمات ومكروهات ومستحبات ومباحات، فالواجبات والمحرمات لها الأهميّة البالغة دون المكروهات والمستحبات فهما في المرحلة الثانية من الأهميّة، وأما المباحات فهي تقع في المرحلة الثالثة لأنَّها تمنح الحريَّة للإنسان إن أراد فعل وإن أراد لم يفعل.
القدسّـية:
إن القوَّة المُحرّكة للرؤية الكونية هي أمرٌ واحد فقط وذلك الأمر هو القُدسيَّة والرَّوْحانية المتواجدة فيها، فليس هناك ما يجعلها نافذة ومؤثِّرة إلا تلك القدسية فقط، فلو لم تكن للرؤية الكونية قدسِيَّةً لا يمكنها أن تنجح ولا يمكنها أن تكسِب أُناساً يتبَنَّوْنَها ، لأنّ الرؤية الكونية تريد أن تخطِّط مسيرةَ الإنسان نحو الكمال بمستوى تجعله يفعل أو لا يفعل وتتوقع من الإنسان أن يخطو طِبْقاً للضوابط والقوانين المرسومة وطِبقاً للنظام الفكري الخاص، ومن الواضح أن هذا الأمر يحتاج إلى دافع قوي ولا قدرة للأمور الحسيَّة أن تكون دافعاً لذلك بل لا بدَّ وأن يكون أمراً غيبياً خارجاً عن إطار المادة والماديات .
التوحيـد:
التوحيد هو أقوى دافع للإنسان كأساس وقاعدة للرؤية الكونية، لأنّه يشكل رؤيةً متكاملةً بالنسبة للوجود والإنسان، وفي نفس الوقت يشتمل على قدَّسية ونورانيَّة تضيء روح الإنسان وجسده بل تنوِّر كلَّ شيءٍ فهو كالشمس المشعَّة يسطع بالنور في زوايا الوجود في جميع مراحله من عالم الغيب إلى عالم الشهود .
مراتب التوحيد:
ولذلك صار التوحيد في أمور أربعة وهي:
التوحيد في الذّات المتمثِّل في التكبير (الله أكبر)، والتوحيد في الصفات المتجلِّي في التسبيح (سبحان الله)، والتوحيد في الأفعال الظاهر في الحَمد (الحمد لله)، والتوحيد في العبادة المتجسِّد في التهليل (لا إله إلا الله).
فالتكبير هو التوحيد الذاتي، الذي هو أعلى مستوى من التوحيد، ومنه ينتقل الإنسان إلى مرحلة نازلة وهي التوحيد الصفاتي، فيرى أنَّ صفاته تعالى هي عين ذاته، فيتهيأ للمرحلة الثالثة وهي التوحيد في الأفعال {لا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم} {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}(الأنفال/17).، "لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى" ولا تكتفي المدرسة التوحيدية بهذه المراحل الثلاثة، بل ترى أنَّ هناك مرحلة تمسُّ أفعال الإنسان وجوارحه وهي المرحلة العملية أعني التوحيد في العبادة، فلا يجوز أن يُعبد غير الله تعالى فيجب نفي جميع المعبودين وإثبات معبودٍ واحد فقط (لا إله إلا الله).
فالمرحلة الأخيرة هي مرحلة العمل كما أن المرحلة الأولى هي مرحلة أساس الرؤية الكونية، فالتوحيد في الذّات هو مصدر ومعدن التوحيد الذي من خلاله توحَّد كلُّ شيء في عالمي التكوين والتشريع.
فنشاهد بأن الجانب العملي والأيديولوجية تنبثق من نفس التوحيد، فيَلزَم للإنسان الموَحِّد أن يعبد الله تعالى ويُسلّم أمرَه إليه ويحسّ بالفقر في قباله، فعبادة الله إذاً قد ركَّزت جذورها في عمق روح الإنسان بل في كل شيئ.
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}(آل عمران/83).
ومن هنا نستنتج بأن التوحيد يشتمل على خصوصيتين:
أحدُهما: رؤية كونية وفهمٌ كوني متكامل.
ثانيهما: أنه هدفٌ وقضية مقدّسة للإنسان.
من خلال ما ذكرنا نصل إلى نتيجة مهمة جداً وهي:
أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الرؤية الكونية الإلهية والأيديولوجية الإسلامية، وهذه الخصوصية لا نجدها في أية مدرسة من المدارس المادية وكذلك المسيحية واليهودية وغيرهما.
الرؤية التوحيدية:
وهذه الرؤية لها خصوصيات:
1-تخلق الشعور بالمسئولية في الإنسان.
2-تهدي وتبيّن الطريق للوصول إلى الأهداف المقدسة.
3-تخلق النشاط في الإنسان والحيوية وروحية الفداء.
بل هي عنصر من عناصر جميع التعاليم، كاجتماع النقيضين الذي هو أساس جميع القضايا العقلية، فلا يمكن للإنسان أن يتيقَّن بأصلٍ من الأصول إلا بعد أن يذعن بهذا الأصل، كذلك أصل التوحيد فهو كالماء للشجرة فلولا الماء لما نمَت الشجرة ولما بَقيت على ساقها، وهو كالدَّم للإنسان ولولا الدّم لما تمكن الإنسان أن يبقى ولو لحظة واحدة، بل هو كالرُّوح للبدن فالذي يُسيِّر البدن ليس هو إلاَّ الرّوح والذي يجعل البدن حيّاً ونَشِطاً هو الرّوح، ولا توجد رؤية كالتوحيد تمتلك هذه الخصوصية وتشتمل على هذه الميزة.
الهدف من التّوحيد:
الهدف من التوحيد هو الوصول إلى الله سبحانه وتعالى والسّير إليه والتّقرُّب إليه والسلوك نحوه، وهذا السير ليس هو سيرٌ مادي وحسي إنما هو سيرٌ معنوي وباطني، فيمكن للإنسان أن يصل إلى الله سبحانه وتعالى بروحه لا بجسمه وإلى ذلك تشير آيات كثيرة وروايات متواترة، ومَرْكب السير في هذا السفر هو العشق والمحبّة والأُنس والطريق الذي لابد أن يسلك السالك من خلاله هو طريق القلب.
الإسلام مدرسة متكاملة
الإسلام مدرسة واقعيّة وليست مجرَّد نظرية، فقد نظر الإسلام إلى جميع جوانب وأبعاد حاجيات الإنسان من الدنيوية والأخروية والجسمية والروحية والعقلية والفكرية والعاطفية والفردية والاجتماعية .
ومجموع تعاليم الإسلام من وجهة نظر خاصة تنقسم إلى أقسام ثلاثة :
القسم الأول: أصول العقائد
وهي الأمور التي ينبغي للإنسان الاعتقاد بها ويتوصل إليها من خلال الدليل والبرهان، والعمل الذي تتطلبه هذه الأمور هو التحقيق العلمي الدقيق.
القسم الثاني : الأخلاق الإسلامية
وهي الصّفات والخصال التي يلزم على المسلم أن يتحلَّى بها ويُبعِد نفسه عن أضدادها، والعمل الذي يتطلبه هذا الأمر هو المراقبة وبناء النفس.
القسم الثالث : أحكام الإسلام
وهي القوانين التي ترتبط بأعمال الإنسان الخارجية والعينية من أعماله المعاشية والمعادِيَّة الدنيوية والأخروية الفردية والإجتماعية.
ثم إن أصول العقائد الإسلامية على حسب مذهب الشيعة هي خمسة: التوحيد، العدل، النبّوة، الإمامة والمعاد.
الإسلام لا يرى صحّة التّقليد والتّعبُّد في مثل هذه الأمور بل يرى بأن كلّ إنسان وبكمال الحرية والاستقلال ينبغي له أن يصل بنحو اليقين إلى الإِذعان بصحة هذه الأمور، وأمّا بالنسبة للعبادات، فالإسلام لا يرى أن العبادات منحصرة بالعبادات البدنية كالصلاة والصوم، أو المالية كالخمس والزكاة، بل هناك نوع آخر من العبادات وهي العبادات الفكرية كما ورد في الحديث:
((أنَّ أكثر عبادة أبي ذر التفكر))
قال الإمام الخميني قدِّس سرُّه:
"فصل في بيان فضيلة التفكر: اعلم أن للتفكر فضائل كثيرة. فالتفكر هو مفتاح أبواب المعارف وخزائن الكمالات والعلوم، وهو مقدمة لازمة وحتمية للسلوك الإنساني، وله في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تعظيم بليغ وتمجيد كامل، كما أن تاركه معيّر ومذموم. وقد جاء في (الكافي) الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: "فضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته" (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب التفكر، ح3). وفي حديث آخر: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة". وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن تفكر ساعة خير من عبادة سنة". وفي حديث غيره: "إن تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة"، وفي رواية: "سبعين سنة"، وعن بعض علماء الفقه والحديث: "ألف سنة" (الأربعون حديثاً ص222،223).
يتبع...............عن الكوثر
سماحة الشيخ إبراهيم الأنصاري
الدرس الأول : الحكمة النظرية و الحكمة العملية
بسم الله الرحمن الرحيم
كل مدرسة متكاملة وأيديولوجيةٍ صحيحة تفتقر إلى أمرين رئيسين:
الأول : نظامٌ فكريٌّ وفلسفيٌّ مُستدَلٌ عليه، قائم على أساس البرهان والدليل الذي لا تعتريه شبهة ولا تتخلله أوهام.
الثاني: إيمانٌ كامل وعقيدة راسخة بحيث يمكنها أن توجد العلاقة الوثيقة والحب الشديد لأهدافها المنشودة المقدسة التي تكمن في أمورٍ غيبية خارجة عن نطاق الأشخاص والأفراد والأشياء ومرتبطة بعالمٍ آخر له قدسية وسموّ.
النظام الفكري نظري و عملي:
والنظام الفكري ينقسم إلى قسمين : نظامٌ نظري ونظام عملي.
النظام الفكري النظري: هو أسلوب من التفكر عما هو موجود.
والنظام الفكري العملي: هو أسلوب من التفكر عمّا ينبغي أن يُفعل أو لا يفعل.
فالأوّل يسمى الرؤية الكونية والثاني يسمى الأيديولوجية، وقد عُرِّفا بالتعريف التالي:
الرؤية الكونية:
"مجموعة من المعتقدات والنظريات الكونية المتناسقة حول الكون والإنسان بل حول الوجود بصورة عامة".
الأيديولوجية:
"مجموعه من الآراء الكلية المتناسقة حول سلوك الإنسان وأفعاله".
وهناك تعبير آخر في عرف الحكماء حيث يعبرون عن الرؤية الكونية بالحكمة النظرية وعن الأيديولوجية بالحكمة العملية.
ومن أركان المدرسة الفكرية أن تكون هناك منظومة متكاملة ومتناسقة تشكل مجموعة واحدة، فهي كالبناء المشتمل على المرافق التي هدفها وغرضٍها واحد فكل واحدة منها مكملة للأخرى، ومن هنا نستنتج أن الأفكار غير المتناسقة وغير المترابطة لا يمكن أن تشكل مدرسة فكرية ولا ينبغي أن يُطلق عليها اسم المدرسة.
النظرية روح العمل:
إن كل عملٍ لا يَبتني على نظرية فهو كالجسم الذي لا روح فيه، فكما أن الجسم من غير الرّوح ليس له أي أثر إيجابي أو سلبي ولا فائدة فيه، كذلك العمل من غير نظرية فهو ليس إلاّ حركات عشوائية غير مترابطة وغير منصبّة في غايةٍ واحدة وهدفٍ واحد.
ومن هنا نقول أن الجانب العملي من المدرسة المتكاملة ليس هو إلاّ كالجسم المتكون من أعضاء وجوارح بعضها ضروري لازم وبعضها غير لازم، فنشاهد أنّ في جسم الإنسان هناك بعض الأعضاء لها دور رئيسي وبعضها تعتبر أمور ثانوية وتشكل زينة للجسم فقط، فلليد والرجل والعين أدوار رئيسية ولكن الشعر والحاجب يشكلان زينة للإنسان، نفس الأمر يجري على الجانب العملي من تلك المدرسة، فهناك واجبات ومحرمات ومكروهات ومستحبات ومباحات، فالواجبات والمحرمات لها الأهميّة البالغة دون المكروهات والمستحبات فهما في المرحلة الثانية من الأهميّة، وأما المباحات فهي تقع في المرحلة الثالثة لأنَّها تمنح الحريَّة للإنسان إن أراد فعل وإن أراد لم يفعل.
القدسّـية:
إن القوَّة المُحرّكة للرؤية الكونية هي أمرٌ واحد فقط وذلك الأمر هو القُدسيَّة والرَّوْحانية المتواجدة فيها، فليس هناك ما يجعلها نافذة ومؤثِّرة إلا تلك القدسية فقط، فلو لم تكن للرؤية الكونية قدسِيَّةً لا يمكنها أن تنجح ولا يمكنها أن تكسِب أُناساً يتبَنَّوْنَها ، لأنّ الرؤية الكونية تريد أن تخطِّط مسيرةَ الإنسان نحو الكمال بمستوى تجعله يفعل أو لا يفعل وتتوقع من الإنسان أن يخطو طِبْقاً للضوابط والقوانين المرسومة وطِبقاً للنظام الفكري الخاص، ومن الواضح أن هذا الأمر يحتاج إلى دافع قوي ولا قدرة للأمور الحسيَّة أن تكون دافعاً لذلك بل لا بدَّ وأن يكون أمراً غيبياً خارجاً عن إطار المادة والماديات .
التوحيـد:
التوحيد هو أقوى دافع للإنسان كأساس وقاعدة للرؤية الكونية، لأنّه يشكل رؤيةً متكاملةً بالنسبة للوجود والإنسان، وفي نفس الوقت يشتمل على قدَّسية ونورانيَّة تضيء روح الإنسان وجسده بل تنوِّر كلَّ شيءٍ فهو كالشمس المشعَّة يسطع بالنور في زوايا الوجود في جميع مراحله من عالم الغيب إلى عالم الشهود .
مراتب التوحيد:
ولذلك صار التوحيد في أمور أربعة وهي:
التوحيد في الذّات المتمثِّل في التكبير (الله أكبر)، والتوحيد في الصفات المتجلِّي في التسبيح (سبحان الله)، والتوحيد في الأفعال الظاهر في الحَمد (الحمد لله)، والتوحيد في العبادة المتجسِّد في التهليل (لا إله إلا الله).
فالتكبير هو التوحيد الذاتي، الذي هو أعلى مستوى من التوحيد، ومنه ينتقل الإنسان إلى مرحلة نازلة وهي التوحيد الصفاتي، فيرى أنَّ صفاته تعالى هي عين ذاته، فيتهيأ للمرحلة الثالثة وهي التوحيد في الأفعال {لا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم} {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}(الأنفال/17).، "لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى" ولا تكتفي المدرسة التوحيدية بهذه المراحل الثلاثة، بل ترى أنَّ هناك مرحلة تمسُّ أفعال الإنسان وجوارحه وهي المرحلة العملية أعني التوحيد في العبادة، فلا يجوز أن يُعبد غير الله تعالى فيجب نفي جميع المعبودين وإثبات معبودٍ واحد فقط (لا إله إلا الله).
فالمرحلة الأخيرة هي مرحلة العمل كما أن المرحلة الأولى هي مرحلة أساس الرؤية الكونية، فالتوحيد في الذّات هو مصدر ومعدن التوحيد الذي من خلاله توحَّد كلُّ شيء في عالمي التكوين والتشريع.
فنشاهد بأن الجانب العملي والأيديولوجية تنبثق من نفس التوحيد، فيَلزَم للإنسان الموَحِّد أن يعبد الله تعالى ويُسلّم أمرَه إليه ويحسّ بالفقر في قباله، فعبادة الله إذاً قد ركَّزت جذورها في عمق روح الإنسان بل في كل شيئ.
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}(آل عمران/83).
ومن هنا نستنتج بأن التوحيد يشتمل على خصوصيتين:
أحدُهما: رؤية كونية وفهمٌ كوني متكامل.
ثانيهما: أنه هدفٌ وقضية مقدّسة للإنسان.
من خلال ما ذكرنا نصل إلى نتيجة مهمة جداً وهي:
أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الرؤية الكونية الإلهية والأيديولوجية الإسلامية، وهذه الخصوصية لا نجدها في أية مدرسة من المدارس المادية وكذلك المسيحية واليهودية وغيرهما.
الرؤية التوحيدية:
وهذه الرؤية لها خصوصيات:
1-تخلق الشعور بالمسئولية في الإنسان.
2-تهدي وتبيّن الطريق للوصول إلى الأهداف المقدسة.
3-تخلق النشاط في الإنسان والحيوية وروحية الفداء.
بل هي عنصر من عناصر جميع التعاليم، كاجتماع النقيضين الذي هو أساس جميع القضايا العقلية، فلا يمكن للإنسان أن يتيقَّن بأصلٍ من الأصول إلا بعد أن يذعن بهذا الأصل، كذلك أصل التوحيد فهو كالماء للشجرة فلولا الماء لما نمَت الشجرة ولما بَقيت على ساقها، وهو كالدَّم للإنسان ولولا الدّم لما تمكن الإنسان أن يبقى ولو لحظة واحدة، بل هو كالرُّوح للبدن فالذي يُسيِّر البدن ليس هو إلاَّ الرّوح والذي يجعل البدن حيّاً ونَشِطاً هو الرّوح، ولا توجد رؤية كالتوحيد تمتلك هذه الخصوصية وتشتمل على هذه الميزة.
الهدف من التّوحيد:
الهدف من التوحيد هو الوصول إلى الله سبحانه وتعالى والسّير إليه والتّقرُّب إليه والسلوك نحوه، وهذا السير ليس هو سيرٌ مادي وحسي إنما هو سيرٌ معنوي وباطني، فيمكن للإنسان أن يصل إلى الله سبحانه وتعالى بروحه لا بجسمه وإلى ذلك تشير آيات كثيرة وروايات متواترة، ومَرْكب السير في هذا السفر هو العشق والمحبّة والأُنس والطريق الذي لابد أن يسلك السالك من خلاله هو طريق القلب.
الإسلام مدرسة متكاملة
الإسلام مدرسة واقعيّة وليست مجرَّد نظرية، فقد نظر الإسلام إلى جميع جوانب وأبعاد حاجيات الإنسان من الدنيوية والأخروية والجسمية والروحية والعقلية والفكرية والعاطفية والفردية والاجتماعية .
ومجموع تعاليم الإسلام من وجهة نظر خاصة تنقسم إلى أقسام ثلاثة :
القسم الأول: أصول العقائد
وهي الأمور التي ينبغي للإنسان الاعتقاد بها ويتوصل إليها من خلال الدليل والبرهان، والعمل الذي تتطلبه هذه الأمور هو التحقيق العلمي الدقيق.
القسم الثاني : الأخلاق الإسلامية
وهي الصّفات والخصال التي يلزم على المسلم أن يتحلَّى بها ويُبعِد نفسه عن أضدادها، والعمل الذي يتطلبه هذا الأمر هو المراقبة وبناء النفس.
القسم الثالث : أحكام الإسلام
وهي القوانين التي ترتبط بأعمال الإنسان الخارجية والعينية من أعماله المعاشية والمعادِيَّة الدنيوية والأخروية الفردية والإجتماعية.
ثم إن أصول العقائد الإسلامية على حسب مذهب الشيعة هي خمسة: التوحيد، العدل، النبّوة، الإمامة والمعاد.
الإسلام لا يرى صحّة التّقليد والتّعبُّد في مثل هذه الأمور بل يرى بأن كلّ إنسان وبكمال الحرية والاستقلال ينبغي له أن يصل بنحو اليقين إلى الإِذعان بصحة هذه الأمور، وأمّا بالنسبة للعبادات، فالإسلام لا يرى أن العبادات منحصرة بالعبادات البدنية كالصلاة والصوم، أو المالية كالخمس والزكاة، بل هناك نوع آخر من العبادات وهي العبادات الفكرية كما ورد في الحديث:
((أنَّ أكثر عبادة أبي ذر التفكر))
قال الإمام الخميني قدِّس سرُّه:
"فصل في بيان فضيلة التفكر: اعلم أن للتفكر فضائل كثيرة. فالتفكر هو مفتاح أبواب المعارف وخزائن الكمالات والعلوم، وهو مقدمة لازمة وحتمية للسلوك الإنساني، وله في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تعظيم بليغ وتمجيد كامل، كما أن تاركه معيّر ومذموم. وقد جاء في (الكافي) الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: "فضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته" (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب التفكر، ح3). وفي حديث آخر: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة". وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن تفكر ساعة خير من عبادة سنة". وفي حديث غيره: "إن تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة"، وفي رواية: "سبعين سنة"، وعن بعض علماء الفقه والحديث: "ألف سنة" (الأربعون حديثاً ص222،223).
يتبع...............عن الكوثر
تعليق