استحضار للذاكرة
هاني سليمان
أثناء اجتماعنا، كمنبر للوحدة الوطنية، الذي يرأسه الدكتور سليم الحص بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. قال السيد نصر الله ما يلي: لا يمكنني أن أقرأ حركة الداخل اللبناني بمعزل عمّا يجري في فلسطين والعراق وعلى حدود العراق أيضاً.
وقد أكد ذلك في الحديث المتلفز على شاشة المنار.
لقد شرح السيد نصر الله وجهة نظره بشيء من التفصيل مستعيناً بالتاريخ، هذا الرجل، وهو أحد أبرز صانعي تاريخ لبنان الحالي، ما كان له ربما، ان يكون كذلك، اضافة الى عوامل اخرى، لولا قراءته الدقيقة لتاريخ لبنان الحديث حيث بداية تشكيل <<دولة لبنان الكبير>>.
لمحة تاريخية:
في المراجع التاريخية <<إن الانكليز نصحوا الامير فيصل بوجوب التفاهم مع فرنسا، لأنها دولة كبرى، ولها مصالح في الشرق، فوقّع فيصل اتفاقاً مع كليمنصو، اعترف فيه بالتنازل عن لبنان ووضعه تحت الانتداب الفرنسي، لقاء اعتراف فرنسا به ملكاً على سوريا الداخلية>>.
في 18 آذار 1920 قامت المظاهرات في دمشق تتهم فيصل بالخيانة، وبأنه باع آمال الوطنيين مقابل التاج، ودُعيَ المؤتمر السوري العام الى الانعقاد فقرر <<إعلان المملكة السورية والتي تضمّ لبنان ويكون له فيها استقلال ذاتي ويكون فيصل ملكاً عليها>>.
اغتاظ الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الاولى، من مقررات المؤتمر السوري العام التي اعتبروها تحدّياً لهم، ودُعيَ <<المجلس الأعلى للحلفاء>> الى الاجتماع في سان ريمو في ايطاليا واتخذوا المقررات التالية:
1 فرض الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان.
2 فرض الانتداب الانكليزي على فلسطين والعراق.
3 تقاسم بترول العراق بحيث تأخذ انكلترا 70% وتأخذ فرنسا 25% أما الباقي 5% فيبقى للدولة العراقية وكان صاحب الامتياز آنذاك رجل أعمال أرمني..
4 التزام المجتمعين بتنفيذ وعد بلفور.
كان من نتائج <<مؤتمر سان ريمو>> أن أُطلقت يد فرنسا في لبنان وسوريا، فأمرت قائدها في الشرق الجنرال غورو <<بفرض الانتداب بالقوة العسكرية>>.
وبالفعل فقد جرَّد الجنرال غورو جيشه وقام بأبشع المجازر ضد أبناء المنطقة، وكانت معركة <<ميسلون>> في ضواحي دمشق، التي استُشهد فيها القائد يوسف العظمة، وانتهت هذه المجازر ببسط سيطرة فرنسا على سوريا.
بعد ذلك جاء الجنرال غورو الى قصر الصنوبر في بيروت <<وقف خطيباً يدعو اللبنانيين الى القبول بالأمر الواقع... والا أصابهم ما أصاب السوريين في ميسلون>>.
ومن المفارقات ان <<فرض الانتداب>> الذي أقرّه <<المجلس الاعلى للحلفاء>> آنذاك، جاء تحت عنوان <<مساعدة شعبي لبنان وسوريا على اتباع الطرق الحديثة للحكم والتعوّد على الممارسة الديمقراطية>>.
هل تصحّ المقارنة؟
هل تصحّ المقارنة بين ما جرى غداة الحرب العالمية الاولى، وبين ما يجري اليوم بعد احتلال العراق؟
في إطار هذه المقارنة أتوقف عند الملاحظات التالية:
اولاً يستوقفني الدور المحدود ظاهرا لانكلترا في احداث لبنان وسوريا. وكأن الانكليز بعد ان أخذوا <<حصتهم>> في جنوب العراق (البصرة وتوابعها) فإنهم قد تركوا لفرنسا ان تتدبر امرها مع سوريا ولبنان.
ثانيا بعد احتلال العراق صرّح كولن باول وزير خارجية اميركا آنذاك، ووزير دفاعها رامسفيلد، داعيين سوريا الى <<الاتعاظ من درس العراق>>.
بعد خمس وثمانين سنة... اللغة واللهجة والاسلوب نفسه.
ثالثاً بعد الاستقلالات التي شهدتها بلدان المنطقة منتصف القرن الماضي، تبدو فرنسا واميركا وكأنهما تعودان بالمنطقة إلى <<سايكس بيكو>> جديدة، تقوم هذه المرة، لا على تقسيم المنطقة الى دول متعددة، بل على تقسيم هذه الدول الى اثنيات ومذهبيات وعصبيات مختلفة.
هذا طبعاً مع وجوب تمييز فرنسا بصورة نسبية لجهة رؤيتها الخاصة بالمنطقة. أما أميركا المتفاهمة مع إسرائيل والمتفهّمة دوماً لمطالبها، فإنها ليست بريئة الى الحد الذي يميّزها عن رغبات إسرائيل ففي لقاء لجورج بوش أثناء الانتخابات، صرّح قائلاً: لا امانع في تفجير الشرق الاوسط. ولما سئل عن إعادة تشكيله أجاب: <<فليُعد تشكيل نفسه بنفسه>>. وطبعاً سيكون ذلك على قاعدة الاثنيات والمذهبيات. وفي هذا السياق تأتي المحاولات المحمومة لإحداث الفتن الطائفية والمذهبية في العراق وبعض دول المنطقة.
رابعاً يشهد الوضع الفلسطيني مشروعاً جديداً وخريطة جديدة، وهي ليست بالطبع خريطة الطريق التي أقرّتها المجموعة الرباعية (اوروبا، واميركا وروسيا والامم المتحدة). إن انقلاباً على هذه الخريطة، يتمثّل بالتنصّل منها لمصلحة خريطة جديدة، تقوم على تقسيم المقسم وغير المحرّر. فالجدار العازل هو النموذج الصارخ لهذه السياسة، وكل دول العالم لم تستطع أن تمنع بناءه، هذا مع العلم أن بعضها يشجع هذه السياسة أصلاً.
بين الأخطاء والجرائم
استعيد حواراً جرى بيني وبين صديق لي حول الأحداث الراهنة، فذكّرته بأن الانفصال الذي حصل سنة 1961، كان تدميراً لمشروع الوحدة بين مصر وسورية تحت ذريعة تحرّر الوضع السوري من حكم المخابرات المصرية، فأجاب متسائلاً بشيء من الحدة المبررة، ألا تعتقد انه ما كان للأجنبي ان يمرر مشروعه الا عبر النفاذ إلى اوضاعنا الداخلية...؟ سجل نقطة... اعترفتُ له بها.
طال بنا الحديث وصولاً الى خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت سنة 1982، فذكّرته كيف خرج الفلسطينيون فوق ألغام أخطائهم وتحت وابل الحقد الإسرائيلي؟ لقد حملوا أخطاءهم معهم، وشهد لبنان بعدهم، أبشع صراع للطوائف والاحزاب والميليشيات تمثّل بالتصفيات والحروب وعمليات الالغاء المتبادلة، لقد سجلت عليه نقطة... اعترف لي بها.
هل يصحّ تسجيل النقاط حول العلاقة بين الشأن القومي والشأن الديمقراطي، وأرجحية أحدهما على الآخر، في وقت تستحوذ الانظمة على الجماهير باسم الشأن القومي، فتلغي دورها؟ بقدر ما نحن الآن في مرحلة تجاوزت أطرافها جميعاً، وبات كل طرف وطني مدعوّاً للنظر بعين الآخر، والرؤية من زاوية مشتركة معه، وحتى الاستعداد للتنازل له، قبل أن يتنازل الطرفان للأجنبي وتحديداً لإسرائيل للأسف.
بيروت:
بالعودة الى بيروت، هذه المدينة المتلألئة كدرة في لجة محيط عاصف.
من سيظفر بها؟
هذه المدينة يُراد لها:
ان تستخدم حزنها باستشهاد الرئيس رفيق الحريري، فتكفر بما كان يؤمن به هذا الرجل الكبير.
هذه المدينة يُراد لها أن تنزلق إلى ما دأب على التحذير منه هذا الشهيد العظيم.
يُراد لها أن تصفّق لأعدائها، وان تنسى تاريخها، وان تهتف بحياة الاستعمار.
قريباً، ولعله الآن، فقد أنصف التاريخ رفيق الحريري، الذي ما وفّر جهداً إلا بذله من أجل بيروت، التي علّمته أنها لا تبدل لون عيونها.
قريباً، ولعله الآن، فقد أنصف التاريخ رفيق الحريري، الذي أحبّ بيروت التي علّمتنا أنها لا تبدّل سحنتها مع كل ريح آتية مهما كانت عاتية.
() أستاذ جامعي
هاني سليمان
أثناء اجتماعنا، كمنبر للوحدة الوطنية، الذي يرأسه الدكتور سليم الحص بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. قال السيد نصر الله ما يلي: لا يمكنني أن أقرأ حركة الداخل اللبناني بمعزل عمّا يجري في فلسطين والعراق وعلى حدود العراق أيضاً.
وقد أكد ذلك في الحديث المتلفز على شاشة المنار.
لقد شرح السيد نصر الله وجهة نظره بشيء من التفصيل مستعيناً بالتاريخ، هذا الرجل، وهو أحد أبرز صانعي تاريخ لبنان الحالي، ما كان له ربما، ان يكون كذلك، اضافة الى عوامل اخرى، لولا قراءته الدقيقة لتاريخ لبنان الحديث حيث بداية تشكيل <<دولة لبنان الكبير>>.
لمحة تاريخية:
في المراجع التاريخية <<إن الانكليز نصحوا الامير فيصل بوجوب التفاهم مع فرنسا، لأنها دولة كبرى، ولها مصالح في الشرق، فوقّع فيصل اتفاقاً مع كليمنصو، اعترف فيه بالتنازل عن لبنان ووضعه تحت الانتداب الفرنسي، لقاء اعتراف فرنسا به ملكاً على سوريا الداخلية>>.
في 18 آذار 1920 قامت المظاهرات في دمشق تتهم فيصل بالخيانة، وبأنه باع آمال الوطنيين مقابل التاج، ودُعيَ المؤتمر السوري العام الى الانعقاد فقرر <<إعلان المملكة السورية والتي تضمّ لبنان ويكون له فيها استقلال ذاتي ويكون فيصل ملكاً عليها>>.
اغتاظ الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الاولى، من مقررات المؤتمر السوري العام التي اعتبروها تحدّياً لهم، ودُعيَ <<المجلس الأعلى للحلفاء>> الى الاجتماع في سان ريمو في ايطاليا واتخذوا المقررات التالية:
1 فرض الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان.
2 فرض الانتداب الانكليزي على فلسطين والعراق.
3 تقاسم بترول العراق بحيث تأخذ انكلترا 70% وتأخذ فرنسا 25% أما الباقي 5% فيبقى للدولة العراقية وكان صاحب الامتياز آنذاك رجل أعمال أرمني..
4 التزام المجتمعين بتنفيذ وعد بلفور.
كان من نتائج <<مؤتمر سان ريمو>> أن أُطلقت يد فرنسا في لبنان وسوريا، فأمرت قائدها في الشرق الجنرال غورو <<بفرض الانتداب بالقوة العسكرية>>.
وبالفعل فقد جرَّد الجنرال غورو جيشه وقام بأبشع المجازر ضد أبناء المنطقة، وكانت معركة <<ميسلون>> في ضواحي دمشق، التي استُشهد فيها القائد يوسف العظمة، وانتهت هذه المجازر ببسط سيطرة فرنسا على سوريا.
بعد ذلك جاء الجنرال غورو الى قصر الصنوبر في بيروت <<وقف خطيباً يدعو اللبنانيين الى القبول بالأمر الواقع... والا أصابهم ما أصاب السوريين في ميسلون>>.
ومن المفارقات ان <<فرض الانتداب>> الذي أقرّه <<المجلس الاعلى للحلفاء>> آنذاك، جاء تحت عنوان <<مساعدة شعبي لبنان وسوريا على اتباع الطرق الحديثة للحكم والتعوّد على الممارسة الديمقراطية>>.
هل تصحّ المقارنة؟
هل تصحّ المقارنة بين ما جرى غداة الحرب العالمية الاولى، وبين ما يجري اليوم بعد احتلال العراق؟
في إطار هذه المقارنة أتوقف عند الملاحظات التالية:
اولاً يستوقفني الدور المحدود ظاهرا لانكلترا في احداث لبنان وسوريا. وكأن الانكليز بعد ان أخذوا <<حصتهم>> في جنوب العراق (البصرة وتوابعها) فإنهم قد تركوا لفرنسا ان تتدبر امرها مع سوريا ولبنان.
ثانيا بعد احتلال العراق صرّح كولن باول وزير خارجية اميركا آنذاك، ووزير دفاعها رامسفيلد، داعيين سوريا الى <<الاتعاظ من درس العراق>>.
بعد خمس وثمانين سنة... اللغة واللهجة والاسلوب نفسه.
ثالثاً بعد الاستقلالات التي شهدتها بلدان المنطقة منتصف القرن الماضي، تبدو فرنسا واميركا وكأنهما تعودان بالمنطقة إلى <<سايكس بيكو>> جديدة، تقوم هذه المرة، لا على تقسيم المنطقة الى دول متعددة، بل على تقسيم هذه الدول الى اثنيات ومذهبيات وعصبيات مختلفة.
هذا طبعاً مع وجوب تمييز فرنسا بصورة نسبية لجهة رؤيتها الخاصة بالمنطقة. أما أميركا المتفاهمة مع إسرائيل والمتفهّمة دوماً لمطالبها، فإنها ليست بريئة الى الحد الذي يميّزها عن رغبات إسرائيل ففي لقاء لجورج بوش أثناء الانتخابات، صرّح قائلاً: لا امانع في تفجير الشرق الاوسط. ولما سئل عن إعادة تشكيله أجاب: <<فليُعد تشكيل نفسه بنفسه>>. وطبعاً سيكون ذلك على قاعدة الاثنيات والمذهبيات. وفي هذا السياق تأتي المحاولات المحمومة لإحداث الفتن الطائفية والمذهبية في العراق وبعض دول المنطقة.
رابعاً يشهد الوضع الفلسطيني مشروعاً جديداً وخريطة جديدة، وهي ليست بالطبع خريطة الطريق التي أقرّتها المجموعة الرباعية (اوروبا، واميركا وروسيا والامم المتحدة). إن انقلاباً على هذه الخريطة، يتمثّل بالتنصّل منها لمصلحة خريطة جديدة، تقوم على تقسيم المقسم وغير المحرّر. فالجدار العازل هو النموذج الصارخ لهذه السياسة، وكل دول العالم لم تستطع أن تمنع بناءه، هذا مع العلم أن بعضها يشجع هذه السياسة أصلاً.
بين الأخطاء والجرائم
استعيد حواراً جرى بيني وبين صديق لي حول الأحداث الراهنة، فذكّرته بأن الانفصال الذي حصل سنة 1961، كان تدميراً لمشروع الوحدة بين مصر وسورية تحت ذريعة تحرّر الوضع السوري من حكم المخابرات المصرية، فأجاب متسائلاً بشيء من الحدة المبررة، ألا تعتقد انه ما كان للأجنبي ان يمرر مشروعه الا عبر النفاذ إلى اوضاعنا الداخلية...؟ سجل نقطة... اعترفتُ له بها.
طال بنا الحديث وصولاً الى خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت سنة 1982، فذكّرته كيف خرج الفلسطينيون فوق ألغام أخطائهم وتحت وابل الحقد الإسرائيلي؟ لقد حملوا أخطاءهم معهم، وشهد لبنان بعدهم، أبشع صراع للطوائف والاحزاب والميليشيات تمثّل بالتصفيات والحروب وعمليات الالغاء المتبادلة، لقد سجلت عليه نقطة... اعترف لي بها.
هل يصحّ تسجيل النقاط حول العلاقة بين الشأن القومي والشأن الديمقراطي، وأرجحية أحدهما على الآخر، في وقت تستحوذ الانظمة على الجماهير باسم الشأن القومي، فتلغي دورها؟ بقدر ما نحن الآن في مرحلة تجاوزت أطرافها جميعاً، وبات كل طرف وطني مدعوّاً للنظر بعين الآخر، والرؤية من زاوية مشتركة معه، وحتى الاستعداد للتنازل له، قبل أن يتنازل الطرفان للأجنبي وتحديداً لإسرائيل للأسف.
بيروت:
بالعودة الى بيروت، هذه المدينة المتلألئة كدرة في لجة محيط عاصف.
من سيظفر بها؟
هذه المدينة يُراد لها:
ان تستخدم حزنها باستشهاد الرئيس رفيق الحريري، فتكفر بما كان يؤمن به هذا الرجل الكبير.
هذه المدينة يُراد لها أن تنزلق إلى ما دأب على التحذير منه هذا الشهيد العظيم.
يُراد لها أن تصفّق لأعدائها، وان تنسى تاريخها، وان تهتف بحياة الاستعمار.
قريباً، ولعله الآن، فقد أنصف التاريخ رفيق الحريري، الذي ما وفّر جهداً إلا بذله من أجل بيروت، التي علّمته أنها لا تبدل لون عيونها.
قريباً، ولعله الآن، فقد أنصف التاريخ رفيق الحريري، الذي أحبّ بيروت التي علّمتنا أنها لا تبدّل سحنتها مع كل ريح آتية مهما كانت عاتية.
() أستاذ جامعي
تعليق