من نيويورك إلى بيروت: زلزالان متلازما الأهداف
ياسين سويد
نيويورك، 11 ايلول 2001... بيروت، في 14 شباط 2005... الزلزالان متلازما الأهداف والنتائج.
بدأت القصة في مطلع التسعينات من القرن المنصرم، حين أدى السقوط المريع للاتحاد السوفياتي الى صعود باهر للولايات المتحدة كي تعتلي عرش الكون كله. وبدأت <<الامبراطورية الكونية>> الجديدة تحوك المؤامرات لكي تبدأ مسيرتها الاستعمارية، وكانت <<آسيا>> اول اهدافها. في هذه الاثناء، كان <<جورج بوش الأب>> رئيسا لهذه الدولة الكبرى، وكانت عينه على النفط العربي في العراق والخليج، وكانت تراود الرئيس العراقي، صدام حسين، احلام السيطرة جنوبا، باتجاه الكويت التي كان يعتبرها جزءا من ارض العراق سلخه الاستعمار الغربي عنها. واغتنمت الولايات المتحدة الاميركية هذه الفرصة، فأرسلت سفيرتها في العراق <<ابريل غلاسبي>>، لكي توحي للرئيس العراقي بسهولة مغامرته، فكان <<غزو صدام للكويت>>، وكانت <<حرب الخليج الثانية>>.
في هذه الحرب، اعتمر <<جورج بوش الاب>> الكوفية والعقال الخليجيين، واستطاع ان يجمع العالم حوله، عربا وغير عرب، زاعما انه يريد انقاذ الكويت، ولم يكن همه، على الاطلاق، إنقاذ ذلك البلد العربي الصغير الذي لم يكن الرئيس الاميركي ليأبه له <<لو كان ينتج جزرا>> (كما قال الدكتور الرئيس سليم الحص)، بل كان همه الاستيلاء على نفط الخليج من جهة (منعا لتكرار تجربة عام 1973) وتدمير قوة العراق الاقتصادية والعسكرية المعززة للأمن القومي العربي، والمهددة لأمن الكيان الصهيوني، من جهة اخرى.
كل ذلك جرى عام 1991.
بعدها، فرض على العراق حصار دولي ظالم استمر عشر سنوات دفع خلالها الشعب العراقي، وكذلك <<النظام>> العراقي، ثمنا باهظا.
إلا أنه، رغم كل ما قدمه <<جورج بوش الاب>> من خدمات للكيان الصهيوني، بإضعاف القوة العسكرية للعراق وفرض الحصار عليه، بعد طرده من الكويت، فإن <<اللوبي الصهيوني>>، في الولايات المتحدة الاميركية، لم يكن راضيا عن <<خدمات>> بوش هذه، ولم يقف اليهود الاميركيون بجانبه، في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 1992، فخسر بوش الرئاسة لولاية ثانية، كما خسرها الجمهوريون، ودخل <<الديموقراطيون>> البيت الابيض، وبدأت رئاسة <<بل كلينتون>> لأميركا مطلع العام 1993، وجدد الشعب الاميركي الولاية له عام 1997، لكي يسلمها، من جديد، للجمهوريين، ممثلين <<بجورج بوش الابن>> في مطلع العام 2001.
لقد كان الإقرار بفوز <<جورج بوش الابن>> في الرئاسة صعبا للغاية، اذ تأخر اصدار نتائج الانتخابات نحو اربعين يوما (كما لو كانت اميركا بلدا متخلفا)، ولم يفز بوش الابن بالرئاسة الا بموجب حكم قضائي، وأغلب الظن انه فاز بها بعد مساومة مضنية مع <<اللوبي الصهيوني>> الذي فرض عليه مسارا محددا في الحكم. وتذكر بعض المصادر ان <<بوش الابن>> نفسه، ينتمي الى <<المسيحية الصهيونية>>، وقد انضم الى هذه الطائفة على يد القس الاميركي <<بيلي غراهام>>، بالاضافة الى ان لديه اعتقادا راسخا بأنه رسول مكلف نشر السلام والديموقراطية في العالم ولو بالقوة العسكرية.
ويتألف <<الجهاز الحاكم>> في ادارة <<بوش الابن>> من ثلاثة اركان:
الاول: المسيحية الصهيونية، ومن ابرز رجالاتها: جيري فالديل، وبات روبرتسون، وجون اشكروفت، ومايكل جرسون، وغيرهم.
والثاني: اليمين المتشدد (او المحافظون الجدد)، ومن ابرز رجالاته: ريتشارد بيرل، ودوغلاس فيث، وبول وولفوتيز، واليوت ابرامز، وغيرهم.
والثالث: <<اقتصاديو <<كارتل>> النفط والسلاح، وأبرز رجالاتهم: نائب الرئيس ديك تشيني(1).
ويبدو ان <<بوش الابن>> فهم تماما الدرس الذي لم يفهمه والده من قبل، فانحاز، كليا، لخدمة الكيان الصهيوني، وقد تقاضى الثمن بالتجديد له، لرئاسة ثانية، عام 2004. وليس خافيا ان في الادارة الاميركية الحالية، <<ادارة جورج بوش الابن>> نحو ثلاثين يهوديا صهيونيا اميركيا مرتبطين ارتباطا وثيقا بالكيان الصهيوني، وهم يخططون ويعملون لتأمين مصالح هذا الكيان(2).
ويبدو ان الادارة الاميركية، التي رافقت وصول <<بوش الابن>> الى سدة الرئاسة عام 2001، كانت قد وضعت استراتيجية كاملة لإحكام سيطرتها على العالم. ويمكن، من خلال سلوك هذه الادارة، ان نستكشف <<الخطوط الرئيسية>> لهذه الاستراتيجية:
لقد انقسم العالم، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، الى ثلاثة تكتلات كبيرة:
الاول: الولايات المتحدة الاميركية، الامبراطورية الأقوى في عالم اليوم.
والثاني: الاتحاد الاوروبي، الذي يسعى الى منافسة الامبراطورية الاميركية.
والثالث: آسيا، التي تضم دولا كبيرة مهمة، الا انها لم تبلغ، بعد، درجة من القوة، تثير الانتباه، بسبب تفككها وعدم تضامن دولها.
ويبدو ان <<استشرافات>> الادارة الاميركية تشير الى صراع قادم (في القرن الحادي والعشرين) بين قارتين تتمتع كل منهما بإمكانات <<القوة العظمى>>، وهما: اميركا الشمالية (الولايات المتحدة الاميركية) وآسيا. ففي آسيا نجد:
الاتحاد الروسي، الذي ورث <<الاتحاد السوفياتي>> الا انه لم يرث قوته وعظمته. لقد سقط الاتحاد السوفياتي، بالضربة القاضية، على يد <<جورج بوش الاب>>، وعادت روسيا الى حجمها العادي الذي لم يعد، بأي حال، منافسا للجبار الاميركي. وإذا كانت روسيا قد حاولت الحفاظ على بعض هيبتها بتشكيل ما سمي <<بالاتحاد الروسي>>، فقد جاءت احداث ايلول 2001 واحتلال اميركا لأفغانستان، وإقامة قواعد لها في الدول التي انسلخت عن الاتحاد السوفياتي (تركمانستان واوزبكستان وطاجكستان وقيرغزستان)، على الحدود الجنوبية لروسيا نفسها، وفي محاذاة بحر قزوين الذي اصبح بحيرة اميركية، جاء ذلك، كله، لكي يزيد روسيا ضعفا، خصوصا اذا ما استمرت في حربها ضد الشيشان التي اسهمت اميركا، ولا تزال تسهم، في تأجيجها.
الصين. لا شك في ان الولايات المتحدة الاميركية تدرك جيدا انه <<عندما تستيقظ الصين، سوف يرتعد العالم>> (وهو عنوان كتاب بالفرنسية وضعه <<آلان بيرفت>> Alain Peyerfitte: Qd la chine s'veillera, le monde tremblera) ذلك ان هذا البلد، الذي يعد مليارا ونصف مليار نسمة، والذي يكتنز من الطاقات والامكانات ما لا يكتنزه اي بلد آخر، والذي تقوم بينه وبين الولايات المتحدة الاميركية <<مشكلة>> تعتبرها الصين تدخلا اميركيا وقحا في شؤونها الداخلية، وتعتبرها اميركا امتدادا لطموحها التوسعي، وتحقيقا لرغبتها المتأصلة في الهيمنة، وهي <<مشكلة تايوان>>، هذه <<الصين>> لن ترضى بأن يكون لاميركا نفوذ عليها او على اي جزء من ارضها، وهي تسعى لاستعادة <<تايوان>>، وستحقق ذلك رغم كل ما تبذله اميركا من جهد لمنعه.
اليابان، التي انصرفت الى الارتقاء بوضعها الاقتصادي والصناعي الى درجة تنافس ما وصلت اليه اميركا نفسها، متغاضية عن احتلال <<جيوش اميركية>> لمياهها واراضيها، الى ان يحين الوقت للتخلص من هذه الجيوش.
كوريا، التي قسمتها اميركا، بعد الحرب العالمية الثانية، الى قسمين: شمالي وجنوبي، فمارست وضع اليد على <<كوريا الجنوبية>>، بينما انطلقت <<كوريا الشمالية>> في تقدمها الصناعي حتى استطاعت امتلاك <<القنبلة النووية>> وهي السلاح الذي يمنع الامبراطورية الاميركية من التحرش بأية دولة تمتلكه، مهما كانت صغيرة، ورغم تصنيف <<كوريا الشمالية>> هذه في محور الشر كما يحلو لبوش الابن ان يصنفها.
الهند وباكستان، البلدان الكبيران، الا انهما، بسبب كشمير، عدوان لدودان، وقد استطاع كل منهما ان يمتلك السلاح النووي. ولا بد من ان يأتي يوم قريب تحل فيه مشكلة <<كشمير>>، ويعود الوئام والوفاق بين البلدين الآسيويين.
ايران، التي اضحت على اهبة امتلاك السلاح النووي، وسوف تمتلكه في وقت قريب جدا، على ما يبدو، وهو ما يثير غضب الولايات المتحدة الاميركية.
العراق، الذي كان يشكل، بجيشه القوي، وإمكاناته العلمية (خمسمئة عالم نووي وكيميائي) تهديدا مباشرا للكيان الصهيوني الذي تحرص الادارة الاميركية الحالية على حمايته اكثر من اية ادارة اميركية سابقة.
سوريا، التي، رغم امكاناتها المحدودة، بل الضعيفة، تجاه العدو الصهيوني المدعوم بكل القوة الاميركية الطاغية، تظل حجر عثرة في استقرار هذا الكيان، كما في طموح اميركا للسيطرة على الشرق الاوسط العربي.
والآن، كيف تفكر الادارة الاميركية في ادارة هذا الصراع؟
لا شك في ان الصراع القادم سيكون بين الولايات المتحدة، كأقوى وأعظم قوة في الكون، وبين آسيا (وهو ما دعوناه: صراع القارات، في بحث لنا في كتابنا: في الدين والحرب والسياسة، ص 553 561)، وستكون اوروبا <<بيضة القبان>> في هذا الصراع. الا ان الروابط التي تربط اوروبا بآسيا (وهي روابط تاريخية وجغرافية وانسانية الخ...) تجعلها اقرب الى التحالف مع آسيا، منها الى التحالف مع اميركا (عبر الاطلسي). ويبدو ان الادارة الاميركية قد تنبهت لهذا الأمر عندما وقفت اوروبا تعارض حربها على العراق، فقررت استمالتها، كما يبدو من الغزل الدائر، حاليا، بينها وبين فرنسا وألمانيا وبلجيكا حول سوريا ولبنان.
تمتد <<آسيا الاسلامية>> من البحر المتوسط (تركيا وسوريا ولبنان وفلسطين) غربا، الى حدود الصين (مع أفغانستان) شرقا، ومن بحر العرب (شبه الجزيرة العربية) جنوبا، الى بحر قزوين والبحر الاسود والحدود الجنوبية لروسيا شمالا، وتقع العراق وإيران وافغانستان وباكستان في قلب هذه القارة، وهي تشكل، مع سوريا وتركيا، حاجزا يفصل بين شمال آسيا وجنوبها.
وتنضم الى آسيا الاسلامية دول آسيوية اخرى ذات اهمية كبرى، وعلى تقارب وطيد مع آسيا الاسلامية، وهي: الصين والهند وروسيا واليابان، بالاضافة الى دول آسيوية اخرى، اسلامية ايضا، هي: ماليزيا واندونيسيا.
والسؤال الذي يتبادر الى الذهن:
ماذا لو تضامنت الدول الآسيوية الكبرى (روسيا والصين واليابان وكوريا الشمالية وإيران) ثم (الهند وباكستان، بعد حل مشكلة كشمير)، في وجه القوة الاميركية الطاغية والزاحفة، بتؤدة، نحو القارة الآسيوية، تداركا لخطرها المقبل؟ سؤال لا بد ان مخططي الاستراتيجية الاميركية قد طرحوه على انفسهم، وكان الجواب: لا بد من ضرب هذا الخطر (المحتمل) قبل ان يضحى حقيقة واقعة.
لقد كان زلزال 11 ايلول المفتاح السحري الذي استطاعت الولايات المتحدة الاميركية، بواسطته، ان تهدد دول العالم بأسره، وكانت كلمة السر: مكافحة الارهاب، فباسم مكافحة الارهاب، هاجمت افغانستان واحتلتها، وأقامت قواعد لها في الدول المجاورة لحدود روسيا، ووضعت يدها على غاز قزوين ونفطه (وكان قد سبق لها ان وضعت يدها، في عهد جورج بوش الاب، وفي حرب الخليج الثانية، على نفط الخليج العربي)، وأصبحت، بمواقعها الجديدة، في وسط آسيا، تهدد اهم دولها، وهي: الصين وروسيا وإيران.
بعد 11 ايلول، ومع ادارة الرئيس جورج بوش الابن، اتحدت المصالح الاميركية والاسرائيلية، كما لم تتحد في عهد اية ادارة اخرى، خصوصا ان معظم اصحاب القرار، في هذه الادارة، يعتبرون من المتفانين في خدمة الكيان الصهيوني، وقد تفنن هؤلاء في نظرياتهم التي وضعت لتأمين المصلحتين معا، الاميركية والاسرائيلية، في العراق، وكانتا تتفقان على ضربه واحتلاله وتدمير قواته العسكرية وإسقاط نظام الحكم فيه.
في العام 1992، وفي عهد الرئيس <<جورج بوش الاب>> أعد <<بول وولفوتيز>> وثيقة سرية للبنتاغون تتضمن ضرورة استغلال <<الفرصة التاريخية>> التي وفرها سقوط الاتحاد السوفياتي لاميركا، وجعلها <<القوة الكبرى الوحيدة في العالم>>، وذلك <<عبر التواجد العسكري في جميع القارات>>. وقد ظلت هذه الوثيقة في أدراج البنتاغون حتى عام 2002 حين نشرها <<جورج بوش الابن>> تحت عنوان <<استراتيجية الامن القومي الاميركي>>، وهكذا اصبحت نظرية <<وولفوتيز>> للبنتاغون وبعد عشر سنوات من وضعها، وبعد زلزال 11 ايلول 2001، السياسة الخارجية الرسمية للولايات المتحدة الاميركية.
ويبدو ان الوثيقة التي وضعها <<ريتشارد بيرل>> ورفاقه (جايمس كولبرت وتشارلز فيربانكس جونيور ودوغلاس فيث وروبرت لوينبيرغ ودايفيد وورمسر وميراف وورمسر) كمقترحات قدموها لرئيس الوزراء الاسرائيلي <<بنيامين نتنياهو>> عام 1996، اضحت هي الاستراتيجية المعتمدة للشرق الاوسط، من قبل ادارة الرئيس جورج بوش الابن، خصوصا ان عددا من الذين وضعوا هذه الوثيقة اضحوا <<مشاركين ومؤثرين اساسيين>> في هذه الادارة.
وقد جاء في هذه الوثيقة المسماة: تغيير جذري، استراتيجيا جديدة لضمان أمن المملكة (والمقصود اسرائيل)، (A clean Break: A new Strategy for securing the Realm)
وتحت عنوان <<ضمان أمن الحدود الشمالية>> (لاسرائيل طبعا)، جاء ما يلي:
<<تتحدى سوريا اسرائيل على الارض اللبنانية، وقد تقضي مقاربة فاعلة، يستطيع الاميركيون التعاطف معها، بأن تستأثر اسرائيل بالمبادرة الاستراتيجية على حدودها الشمالية عبر حزب الله وسوريا وايران، بصفتها العوامل الاساسية للعدوان في لبنان>>.
وبعد ان تعدد الوثيقة الاهداف التي يمكن لاسرائيل، بغطاء اميركي، ان تضربها في لبنان، وهي اهداف سورية، وبعد ان تعدد الانتهاكات التي ترتكبها سوريا في لبنان، ومنها: <<اجراء انتخابات زائفة، وإقامة حكومة دمية، واستيطان لبنان عبر مئات الآلاف من السوريين، ودعم النظام السوري لمنظمات الارهاب في لبنان، وازدهار تجارة المخدرات في لبنان تحت الوصاية السورية>>، الخ...
ترسم الوثيقة لاسرائيل استراتيجية محددة هدفها <<اضعاف سوريا واحتواؤها، وحتى صدها>>، مع التركيز على <<إزالة صدام حسين من السلطة في العراق، وهو هدف استراتيجي اسرائيلي مهم ومحق، كوسيلة لاحباط طموحات سوريا الاقليمية>> ثم تؤكد (وهذا هو المهم) على ضرورة <<تحويل انتباه سوريا، عبر استعمال عناصر المعارضة اللبنانية، او زعزعة السيطرة السورية على لبنان>>(4).
وهكذا اتحدت اهداف اسرائيل واميركا ومصالحهما، فتدمير قوة العراق يريح اسرائيل لأن العراق اقوى دولة عربية عسكريا (تمتلك جيشا عديده اكثر من 400 الف مقاتل، واكثر من ستمئة الف في الاحتياط، وتمتلك من الاسلحة افضلها، ولديها من العلماء النوويين والكيميائيين ما ينوف على خمسمئة عالم)، واحتلال العراق يوفر لاميركا احتياطا نفطيا هائلا، هي بأمس الحاجة اليه.
وبذريعة كاذبة اختلقتها الادارة الاميركية، وهي ان العراق يمتلك اسلحة للتدمير الشامل، وتحت شعار <<مكافحة الارهاب>> ومحاربة <<محور الشر>> المتكون من العراق وإيران وكوريا الشمالية (ومحور الشر مصطلح توراتي)، وبالرغم من معارضة الامم المتحدة (مجلس الامن خصوصا)، وفي آذار/ مارس عام 2003، اجتاحت الجيوش الاميركية العراق وأسقطت نظام صدام حسين، ضاربة، عرض الحائط، بإرادة المجتمع الدولي ومعارضته لهذه الحرب.
وبعد ان احتلت الولايات المتحدة الاميركية العراق، واستقرت فيه، محققة اهدافها وأهداف حليفتها اسرائيل، بدأت تتطلع شرقا، نحو إيران، وغربا، نحو سوريا، لتستكمل مخططها المرسوم: من البحر المتوسط غربا، الى بحر قزوين شرقا، بحيرة أميركية بلا منازع.
وكان ذلك يستوجب زلزالا آخر شبيها بزلزال 11 ايلول 2001، فكان زلزال 14 شباط 2005.
يوم وضع <<وورمسر>> مخططه الذي سبق ان تحدثنا عنه، قال: <<الازمات هي الفرص التي ننتظرها لتنفيذ مخططاتنا>>.
وقد أتت اول فرصة لتحقيق الهدف الاول من المخطط، وهو احتلال العراق. فهل ان زلزال 14 شباط هو الفرصة التالية لتحقيق الهدف الثاني من المخطط، وهو إسقاط سوريا؟
ان اسقاط سوريا هدف ثمين يرضي العدو الاسرائيلي ويريحه، بالاضافة الى انه يؤمن لاميركا تحقيق مرحلة مهمة من مراحل مخططها، هو التمدد، غربا، حتى حوض البحر المتوسط. وبعدها، ليس عليها سوى ان تتخلص من عدو مشاكس وصلب وصعب المراس، هو: إيران.
وبسقوط ايران (هذا ان سقطت) تسيطر الامبراطورية الاميركية على <<الشرق الاوسط الاسلامي الكبير>> الممتد من البحر المتوسط غربا حتى بحر قزوين شرقا، اي على سوريا ولبنان والاردن والعراق وشبه الجزيرة العربية وإيران وأفغانستان، ولا بأس من ان تضم اليها باكستان، وتعزل تركيا إن لم تأت صاغرة. ثم تتوج على هذا <<الشرق الاوسط الاسلامي الكبير>>، حليفتها وربيبتها إسرائيل، باعتبار انها <<دولة ديموقراطية>> بامتياز، وتكلفها مهمة تلقيننا ألفباء الديموقراطية الاميركية، تماما كتلك التي لقنتها، ولا تزال تلقلنها، لشعب العراق.
ونتساءل، بعد كل هذا، هل ان الشرق الاوسط الاسلامي هو المقصود؟ لا نشك في ذلك.
لقد كان يوما اسود، ذلك اليوم، 14 شباط 2005.
وسيظل السؤال قائما:
من اغتال الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟ ومن له مصلحة في غيابه عن المسرح السياسي اللبناني والعربي والعالمي؟
ومن فتح لاميركا وإسرائيل الباب واسعا للتدخل في الشؤون الداخلية للبنان وسوريا؟
ومن أعطى المفتاح السحري لبوش، من جديد، لكي يستعيد مواقف والده، في مطلع التسعينات، يوم كان يصرخ، بملء جوارحه، طالبا من صدام حسين الخروج من الكويت.
ما أشبه اليوم بالأمس.
إن من يراقب <<جورج بوش الابن>> وهو يصرخ الصراخ نفسه، طالبا من بشار الاسد الخروج من لبنان، لا بد من ان يستنتج ان ما يجري، ضد سوريا، ليس سوى الفصل الثاني من المسرحية الاميركية الاسرائيلية المشتركة، بعد العراق، وعلينا ان ننتظر الفصل الثالث من المسرحية: إيران.
ثم: أوليس غريبا ان يطالب بوش بتحرير لبنان، وهو الذي يمارس أسوأ انواع الاحتلال في العراق؟
وأن يتحدث عن الديموقراطية، وهو الذي يدعم ويرعى أسوأ انواع الديكتاتوريات في الوطن العربي؟
وأن يتهم المقاومين الشرفاء، في فلسطين والعراق ولبنان، بالارهاب، وهو الذي يدعم ويرعى أسوأ انواع الارهاب في التاريخ، ارهاب الكيان الصهيوني المحتل والمعتدي؟
وأن يرفض اجراء انتخابات نيابية في لبنان تحت <<الاحتلال>> السوري (كما يزعم)، ثم يبارك ويتباهى بانتخابات عراقية وأخرى فلسطينية جرت تحت الاحتلالين (الاميركي والاسرائيلي)؟
وأن تثور ثائرته لوجود 14 الف عسكري سوري في لبنان، ويسكت عن وجود 140 الف عسكري اميركي في العراق، وعن وجود مثل ذلك العدد من الجيش الاسرائيلي في فلسطين؟
كلمة أخيرة:
ليس من مصلحة الحكم في لبنان، كما في سوريا، تمييع التحقيق باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وإن اي تأخير في جلاء الغموض عن اسرار هذا الحادث الزلزال يسيء الى الحكمين معا، ويصب في مصلحة الدولتين المستفيدتين منه: الولايات المتحدة وإسرائيل.
فإلى متى؟
() لواء ركن متقاعد
(1) من محاضرة للنائب الدكتور باسم يموت، بتاريخ 26/6/2003.
(2) أوردت جريدة النهار، بتاريخ 29/3/2003، أسماءهم ووظائفهم وعلاقتهم بإسرائيل.
(3) يموت، المحاضرة المذكورة آنفا.
(4) الوثيقة نفسها، باللغة الانكليزية، مع نصها معرّباً.
ياسين سويد
نيويورك، 11 ايلول 2001... بيروت، في 14 شباط 2005... الزلزالان متلازما الأهداف والنتائج.
بدأت القصة في مطلع التسعينات من القرن المنصرم، حين أدى السقوط المريع للاتحاد السوفياتي الى صعود باهر للولايات المتحدة كي تعتلي عرش الكون كله. وبدأت <<الامبراطورية الكونية>> الجديدة تحوك المؤامرات لكي تبدأ مسيرتها الاستعمارية، وكانت <<آسيا>> اول اهدافها. في هذه الاثناء، كان <<جورج بوش الأب>> رئيسا لهذه الدولة الكبرى، وكانت عينه على النفط العربي في العراق والخليج، وكانت تراود الرئيس العراقي، صدام حسين، احلام السيطرة جنوبا، باتجاه الكويت التي كان يعتبرها جزءا من ارض العراق سلخه الاستعمار الغربي عنها. واغتنمت الولايات المتحدة الاميركية هذه الفرصة، فأرسلت سفيرتها في العراق <<ابريل غلاسبي>>، لكي توحي للرئيس العراقي بسهولة مغامرته، فكان <<غزو صدام للكويت>>، وكانت <<حرب الخليج الثانية>>.
في هذه الحرب، اعتمر <<جورج بوش الاب>> الكوفية والعقال الخليجيين، واستطاع ان يجمع العالم حوله، عربا وغير عرب، زاعما انه يريد انقاذ الكويت، ولم يكن همه، على الاطلاق، إنقاذ ذلك البلد العربي الصغير الذي لم يكن الرئيس الاميركي ليأبه له <<لو كان ينتج جزرا>> (كما قال الدكتور الرئيس سليم الحص)، بل كان همه الاستيلاء على نفط الخليج من جهة (منعا لتكرار تجربة عام 1973) وتدمير قوة العراق الاقتصادية والعسكرية المعززة للأمن القومي العربي، والمهددة لأمن الكيان الصهيوني، من جهة اخرى.
كل ذلك جرى عام 1991.
بعدها، فرض على العراق حصار دولي ظالم استمر عشر سنوات دفع خلالها الشعب العراقي، وكذلك <<النظام>> العراقي، ثمنا باهظا.
إلا أنه، رغم كل ما قدمه <<جورج بوش الاب>> من خدمات للكيان الصهيوني، بإضعاف القوة العسكرية للعراق وفرض الحصار عليه، بعد طرده من الكويت، فإن <<اللوبي الصهيوني>>، في الولايات المتحدة الاميركية، لم يكن راضيا عن <<خدمات>> بوش هذه، ولم يقف اليهود الاميركيون بجانبه، في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 1992، فخسر بوش الرئاسة لولاية ثانية، كما خسرها الجمهوريون، ودخل <<الديموقراطيون>> البيت الابيض، وبدأت رئاسة <<بل كلينتون>> لأميركا مطلع العام 1993، وجدد الشعب الاميركي الولاية له عام 1997، لكي يسلمها، من جديد، للجمهوريين، ممثلين <<بجورج بوش الابن>> في مطلع العام 2001.
لقد كان الإقرار بفوز <<جورج بوش الابن>> في الرئاسة صعبا للغاية، اذ تأخر اصدار نتائج الانتخابات نحو اربعين يوما (كما لو كانت اميركا بلدا متخلفا)، ولم يفز بوش الابن بالرئاسة الا بموجب حكم قضائي، وأغلب الظن انه فاز بها بعد مساومة مضنية مع <<اللوبي الصهيوني>> الذي فرض عليه مسارا محددا في الحكم. وتذكر بعض المصادر ان <<بوش الابن>> نفسه، ينتمي الى <<المسيحية الصهيونية>>، وقد انضم الى هذه الطائفة على يد القس الاميركي <<بيلي غراهام>>، بالاضافة الى ان لديه اعتقادا راسخا بأنه رسول مكلف نشر السلام والديموقراطية في العالم ولو بالقوة العسكرية.
ويتألف <<الجهاز الحاكم>> في ادارة <<بوش الابن>> من ثلاثة اركان:
الاول: المسيحية الصهيونية، ومن ابرز رجالاتها: جيري فالديل، وبات روبرتسون، وجون اشكروفت، ومايكل جرسون، وغيرهم.
والثاني: اليمين المتشدد (او المحافظون الجدد)، ومن ابرز رجالاته: ريتشارد بيرل، ودوغلاس فيث، وبول وولفوتيز، واليوت ابرامز، وغيرهم.
والثالث: <<اقتصاديو <<كارتل>> النفط والسلاح، وأبرز رجالاتهم: نائب الرئيس ديك تشيني(1).
ويبدو ان <<بوش الابن>> فهم تماما الدرس الذي لم يفهمه والده من قبل، فانحاز، كليا، لخدمة الكيان الصهيوني، وقد تقاضى الثمن بالتجديد له، لرئاسة ثانية، عام 2004. وليس خافيا ان في الادارة الاميركية الحالية، <<ادارة جورج بوش الابن>> نحو ثلاثين يهوديا صهيونيا اميركيا مرتبطين ارتباطا وثيقا بالكيان الصهيوني، وهم يخططون ويعملون لتأمين مصالح هذا الكيان(2).
ويبدو ان الادارة الاميركية، التي رافقت وصول <<بوش الابن>> الى سدة الرئاسة عام 2001، كانت قد وضعت استراتيجية كاملة لإحكام سيطرتها على العالم. ويمكن، من خلال سلوك هذه الادارة، ان نستكشف <<الخطوط الرئيسية>> لهذه الاستراتيجية:
لقد انقسم العالم، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، الى ثلاثة تكتلات كبيرة:
الاول: الولايات المتحدة الاميركية، الامبراطورية الأقوى في عالم اليوم.
والثاني: الاتحاد الاوروبي، الذي يسعى الى منافسة الامبراطورية الاميركية.
والثالث: آسيا، التي تضم دولا كبيرة مهمة، الا انها لم تبلغ، بعد، درجة من القوة، تثير الانتباه، بسبب تفككها وعدم تضامن دولها.
ويبدو ان <<استشرافات>> الادارة الاميركية تشير الى صراع قادم (في القرن الحادي والعشرين) بين قارتين تتمتع كل منهما بإمكانات <<القوة العظمى>>، وهما: اميركا الشمالية (الولايات المتحدة الاميركية) وآسيا. ففي آسيا نجد:
الاتحاد الروسي، الذي ورث <<الاتحاد السوفياتي>> الا انه لم يرث قوته وعظمته. لقد سقط الاتحاد السوفياتي، بالضربة القاضية، على يد <<جورج بوش الاب>>، وعادت روسيا الى حجمها العادي الذي لم يعد، بأي حال، منافسا للجبار الاميركي. وإذا كانت روسيا قد حاولت الحفاظ على بعض هيبتها بتشكيل ما سمي <<بالاتحاد الروسي>>، فقد جاءت احداث ايلول 2001 واحتلال اميركا لأفغانستان، وإقامة قواعد لها في الدول التي انسلخت عن الاتحاد السوفياتي (تركمانستان واوزبكستان وطاجكستان وقيرغزستان)، على الحدود الجنوبية لروسيا نفسها، وفي محاذاة بحر قزوين الذي اصبح بحيرة اميركية، جاء ذلك، كله، لكي يزيد روسيا ضعفا، خصوصا اذا ما استمرت في حربها ضد الشيشان التي اسهمت اميركا، ولا تزال تسهم، في تأجيجها.
الصين. لا شك في ان الولايات المتحدة الاميركية تدرك جيدا انه <<عندما تستيقظ الصين، سوف يرتعد العالم>> (وهو عنوان كتاب بالفرنسية وضعه <<آلان بيرفت>> Alain Peyerfitte: Qd la chine s'veillera, le monde tremblera) ذلك ان هذا البلد، الذي يعد مليارا ونصف مليار نسمة، والذي يكتنز من الطاقات والامكانات ما لا يكتنزه اي بلد آخر، والذي تقوم بينه وبين الولايات المتحدة الاميركية <<مشكلة>> تعتبرها الصين تدخلا اميركيا وقحا في شؤونها الداخلية، وتعتبرها اميركا امتدادا لطموحها التوسعي، وتحقيقا لرغبتها المتأصلة في الهيمنة، وهي <<مشكلة تايوان>>، هذه <<الصين>> لن ترضى بأن يكون لاميركا نفوذ عليها او على اي جزء من ارضها، وهي تسعى لاستعادة <<تايوان>>، وستحقق ذلك رغم كل ما تبذله اميركا من جهد لمنعه.
اليابان، التي انصرفت الى الارتقاء بوضعها الاقتصادي والصناعي الى درجة تنافس ما وصلت اليه اميركا نفسها، متغاضية عن احتلال <<جيوش اميركية>> لمياهها واراضيها، الى ان يحين الوقت للتخلص من هذه الجيوش.
كوريا، التي قسمتها اميركا، بعد الحرب العالمية الثانية، الى قسمين: شمالي وجنوبي، فمارست وضع اليد على <<كوريا الجنوبية>>، بينما انطلقت <<كوريا الشمالية>> في تقدمها الصناعي حتى استطاعت امتلاك <<القنبلة النووية>> وهي السلاح الذي يمنع الامبراطورية الاميركية من التحرش بأية دولة تمتلكه، مهما كانت صغيرة، ورغم تصنيف <<كوريا الشمالية>> هذه في محور الشر كما يحلو لبوش الابن ان يصنفها.
الهند وباكستان، البلدان الكبيران، الا انهما، بسبب كشمير، عدوان لدودان، وقد استطاع كل منهما ان يمتلك السلاح النووي. ولا بد من ان يأتي يوم قريب تحل فيه مشكلة <<كشمير>>، ويعود الوئام والوفاق بين البلدين الآسيويين.
ايران، التي اضحت على اهبة امتلاك السلاح النووي، وسوف تمتلكه في وقت قريب جدا، على ما يبدو، وهو ما يثير غضب الولايات المتحدة الاميركية.
العراق، الذي كان يشكل، بجيشه القوي، وإمكاناته العلمية (خمسمئة عالم نووي وكيميائي) تهديدا مباشرا للكيان الصهيوني الذي تحرص الادارة الاميركية الحالية على حمايته اكثر من اية ادارة اميركية سابقة.
سوريا، التي، رغم امكاناتها المحدودة، بل الضعيفة، تجاه العدو الصهيوني المدعوم بكل القوة الاميركية الطاغية، تظل حجر عثرة في استقرار هذا الكيان، كما في طموح اميركا للسيطرة على الشرق الاوسط العربي.
والآن، كيف تفكر الادارة الاميركية في ادارة هذا الصراع؟
لا شك في ان الصراع القادم سيكون بين الولايات المتحدة، كأقوى وأعظم قوة في الكون، وبين آسيا (وهو ما دعوناه: صراع القارات، في بحث لنا في كتابنا: في الدين والحرب والسياسة، ص 553 561)، وستكون اوروبا <<بيضة القبان>> في هذا الصراع. الا ان الروابط التي تربط اوروبا بآسيا (وهي روابط تاريخية وجغرافية وانسانية الخ...) تجعلها اقرب الى التحالف مع آسيا، منها الى التحالف مع اميركا (عبر الاطلسي). ويبدو ان الادارة الاميركية قد تنبهت لهذا الأمر عندما وقفت اوروبا تعارض حربها على العراق، فقررت استمالتها، كما يبدو من الغزل الدائر، حاليا، بينها وبين فرنسا وألمانيا وبلجيكا حول سوريا ولبنان.
تمتد <<آسيا الاسلامية>> من البحر المتوسط (تركيا وسوريا ولبنان وفلسطين) غربا، الى حدود الصين (مع أفغانستان) شرقا، ومن بحر العرب (شبه الجزيرة العربية) جنوبا، الى بحر قزوين والبحر الاسود والحدود الجنوبية لروسيا شمالا، وتقع العراق وإيران وافغانستان وباكستان في قلب هذه القارة، وهي تشكل، مع سوريا وتركيا، حاجزا يفصل بين شمال آسيا وجنوبها.
وتنضم الى آسيا الاسلامية دول آسيوية اخرى ذات اهمية كبرى، وعلى تقارب وطيد مع آسيا الاسلامية، وهي: الصين والهند وروسيا واليابان، بالاضافة الى دول آسيوية اخرى، اسلامية ايضا، هي: ماليزيا واندونيسيا.
والسؤال الذي يتبادر الى الذهن:
ماذا لو تضامنت الدول الآسيوية الكبرى (روسيا والصين واليابان وكوريا الشمالية وإيران) ثم (الهند وباكستان، بعد حل مشكلة كشمير)، في وجه القوة الاميركية الطاغية والزاحفة، بتؤدة، نحو القارة الآسيوية، تداركا لخطرها المقبل؟ سؤال لا بد ان مخططي الاستراتيجية الاميركية قد طرحوه على انفسهم، وكان الجواب: لا بد من ضرب هذا الخطر (المحتمل) قبل ان يضحى حقيقة واقعة.
لقد كان زلزال 11 ايلول المفتاح السحري الذي استطاعت الولايات المتحدة الاميركية، بواسطته، ان تهدد دول العالم بأسره، وكانت كلمة السر: مكافحة الارهاب، فباسم مكافحة الارهاب، هاجمت افغانستان واحتلتها، وأقامت قواعد لها في الدول المجاورة لحدود روسيا، ووضعت يدها على غاز قزوين ونفطه (وكان قد سبق لها ان وضعت يدها، في عهد جورج بوش الاب، وفي حرب الخليج الثانية، على نفط الخليج العربي)، وأصبحت، بمواقعها الجديدة، في وسط آسيا، تهدد اهم دولها، وهي: الصين وروسيا وإيران.
بعد 11 ايلول، ومع ادارة الرئيس جورج بوش الابن، اتحدت المصالح الاميركية والاسرائيلية، كما لم تتحد في عهد اية ادارة اخرى، خصوصا ان معظم اصحاب القرار، في هذه الادارة، يعتبرون من المتفانين في خدمة الكيان الصهيوني، وقد تفنن هؤلاء في نظرياتهم التي وضعت لتأمين المصلحتين معا، الاميركية والاسرائيلية، في العراق، وكانتا تتفقان على ضربه واحتلاله وتدمير قواته العسكرية وإسقاط نظام الحكم فيه.
في العام 1992، وفي عهد الرئيس <<جورج بوش الاب>> أعد <<بول وولفوتيز>> وثيقة سرية للبنتاغون تتضمن ضرورة استغلال <<الفرصة التاريخية>> التي وفرها سقوط الاتحاد السوفياتي لاميركا، وجعلها <<القوة الكبرى الوحيدة في العالم>>، وذلك <<عبر التواجد العسكري في جميع القارات>>. وقد ظلت هذه الوثيقة في أدراج البنتاغون حتى عام 2002 حين نشرها <<جورج بوش الابن>> تحت عنوان <<استراتيجية الامن القومي الاميركي>>، وهكذا اصبحت نظرية <<وولفوتيز>> للبنتاغون وبعد عشر سنوات من وضعها، وبعد زلزال 11 ايلول 2001، السياسة الخارجية الرسمية للولايات المتحدة الاميركية.
ويبدو ان الوثيقة التي وضعها <<ريتشارد بيرل>> ورفاقه (جايمس كولبرت وتشارلز فيربانكس جونيور ودوغلاس فيث وروبرت لوينبيرغ ودايفيد وورمسر وميراف وورمسر) كمقترحات قدموها لرئيس الوزراء الاسرائيلي <<بنيامين نتنياهو>> عام 1996، اضحت هي الاستراتيجية المعتمدة للشرق الاوسط، من قبل ادارة الرئيس جورج بوش الابن، خصوصا ان عددا من الذين وضعوا هذه الوثيقة اضحوا <<مشاركين ومؤثرين اساسيين>> في هذه الادارة.
وقد جاء في هذه الوثيقة المسماة: تغيير جذري، استراتيجيا جديدة لضمان أمن المملكة (والمقصود اسرائيل)، (A clean Break: A new Strategy for securing the Realm)
وتحت عنوان <<ضمان أمن الحدود الشمالية>> (لاسرائيل طبعا)، جاء ما يلي:
<<تتحدى سوريا اسرائيل على الارض اللبنانية، وقد تقضي مقاربة فاعلة، يستطيع الاميركيون التعاطف معها، بأن تستأثر اسرائيل بالمبادرة الاستراتيجية على حدودها الشمالية عبر حزب الله وسوريا وايران، بصفتها العوامل الاساسية للعدوان في لبنان>>.
وبعد ان تعدد الوثيقة الاهداف التي يمكن لاسرائيل، بغطاء اميركي، ان تضربها في لبنان، وهي اهداف سورية، وبعد ان تعدد الانتهاكات التي ترتكبها سوريا في لبنان، ومنها: <<اجراء انتخابات زائفة، وإقامة حكومة دمية، واستيطان لبنان عبر مئات الآلاف من السوريين، ودعم النظام السوري لمنظمات الارهاب في لبنان، وازدهار تجارة المخدرات في لبنان تحت الوصاية السورية>>، الخ...
ترسم الوثيقة لاسرائيل استراتيجية محددة هدفها <<اضعاف سوريا واحتواؤها، وحتى صدها>>، مع التركيز على <<إزالة صدام حسين من السلطة في العراق، وهو هدف استراتيجي اسرائيلي مهم ومحق، كوسيلة لاحباط طموحات سوريا الاقليمية>> ثم تؤكد (وهذا هو المهم) على ضرورة <<تحويل انتباه سوريا، عبر استعمال عناصر المعارضة اللبنانية، او زعزعة السيطرة السورية على لبنان>>(4).
وهكذا اتحدت اهداف اسرائيل واميركا ومصالحهما، فتدمير قوة العراق يريح اسرائيل لأن العراق اقوى دولة عربية عسكريا (تمتلك جيشا عديده اكثر من 400 الف مقاتل، واكثر من ستمئة الف في الاحتياط، وتمتلك من الاسلحة افضلها، ولديها من العلماء النوويين والكيميائيين ما ينوف على خمسمئة عالم)، واحتلال العراق يوفر لاميركا احتياطا نفطيا هائلا، هي بأمس الحاجة اليه.
وبذريعة كاذبة اختلقتها الادارة الاميركية، وهي ان العراق يمتلك اسلحة للتدمير الشامل، وتحت شعار <<مكافحة الارهاب>> ومحاربة <<محور الشر>> المتكون من العراق وإيران وكوريا الشمالية (ومحور الشر مصطلح توراتي)، وبالرغم من معارضة الامم المتحدة (مجلس الامن خصوصا)، وفي آذار/ مارس عام 2003، اجتاحت الجيوش الاميركية العراق وأسقطت نظام صدام حسين، ضاربة، عرض الحائط، بإرادة المجتمع الدولي ومعارضته لهذه الحرب.
وبعد ان احتلت الولايات المتحدة الاميركية العراق، واستقرت فيه، محققة اهدافها وأهداف حليفتها اسرائيل، بدأت تتطلع شرقا، نحو إيران، وغربا، نحو سوريا، لتستكمل مخططها المرسوم: من البحر المتوسط غربا، الى بحر قزوين شرقا، بحيرة أميركية بلا منازع.
وكان ذلك يستوجب زلزالا آخر شبيها بزلزال 11 ايلول 2001، فكان زلزال 14 شباط 2005.
يوم وضع <<وورمسر>> مخططه الذي سبق ان تحدثنا عنه، قال: <<الازمات هي الفرص التي ننتظرها لتنفيذ مخططاتنا>>.
وقد أتت اول فرصة لتحقيق الهدف الاول من المخطط، وهو احتلال العراق. فهل ان زلزال 14 شباط هو الفرصة التالية لتحقيق الهدف الثاني من المخطط، وهو إسقاط سوريا؟
ان اسقاط سوريا هدف ثمين يرضي العدو الاسرائيلي ويريحه، بالاضافة الى انه يؤمن لاميركا تحقيق مرحلة مهمة من مراحل مخططها، هو التمدد، غربا، حتى حوض البحر المتوسط. وبعدها، ليس عليها سوى ان تتخلص من عدو مشاكس وصلب وصعب المراس، هو: إيران.
وبسقوط ايران (هذا ان سقطت) تسيطر الامبراطورية الاميركية على <<الشرق الاوسط الاسلامي الكبير>> الممتد من البحر المتوسط غربا حتى بحر قزوين شرقا، اي على سوريا ولبنان والاردن والعراق وشبه الجزيرة العربية وإيران وأفغانستان، ولا بأس من ان تضم اليها باكستان، وتعزل تركيا إن لم تأت صاغرة. ثم تتوج على هذا <<الشرق الاوسط الاسلامي الكبير>>، حليفتها وربيبتها إسرائيل، باعتبار انها <<دولة ديموقراطية>> بامتياز، وتكلفها مهمة تلقيننا ألفباء الديموقراطية الاميركية، تماما كتلك التي لقنتها، ولا تزال تلقلنها، لشعب العراق.
ونتساءل، بعد كل هذا، هل ان الشرق الاوسط الاسلامي هو المقصود؟ لا نشك في ذلك.
لقد كان يوما اسود، ذلك اليوم، 14 شباط 2005.
وسيظل السؤال قائما:
من اغتال الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟ ومن له مصلحة في غيابه عن المسرح السياسي اللبناني والعربي والعالمي؟
ومن فتح لاميركا وإسرائيل الباب واسعا للتدخل في الشؤون الداخلية للبنان وسوريا؟
ومن أعطى المفتاح السحري لبوش، من جديد، لكي يستعيد مواقف والده، في مطلع التسعينات، يوم كان يصرخ، بملء جوارحه، طالبا من صدام حسين الخروج من الكويت.
ما أشبه اليوم بالأمس.
إن من يراقب <<جورج بوش الابن>> وهو يصرخ الصراخ نفسه، طالبا من بشار الاسد الخروج من لبنان، لا بد من ان يستنتج ان ما يجري، ضد سوريا، ليس سوى الفصل الثاني من المسرحية الاميركية الاسرائيلية المشتركة، بعد العراق، وعلينا ان ننتظر الفصل الثالث من المسرحية: إيران.
ثم: أوليس غريبا ان يطالب بوش بتحرير لبنان، وهو الذي يمارس أسوأ انواع الاحتلال في العراق؟
وأن يتحدث عن الديموقراطية، وهو الذي يدعم ويرعى أسوأ انواع الديكتاتوريات في الوطن العربي؟
وأن يتهم المقاومين الشرفاء، في فلسطين والعراق ولبنان، بالارهاب، وهو الذي يدعم ويرعى أسوأ انواع الارهاب في التاريخ، ارهاب الكيان الصهيوني المحتل والمعتدي؟
وأن يرفض اجراء انتخابات نيابية في لبنان تحت <<الاحتلال>> السوري (كما يزعم)، ثم يبارك ويتباهى بانتخابات عراقية وأخرى فلسطينية جرت تحت الاحتلالين (الاميركي والاسرائيلي)؟
وأن تثور ثائرته لوجود 14 الف عسكري سوري في لبنان، ويسكت عن وجود 140 الف عسكري اميركي في العراق، وعن وجود مثل ذلك العدد من الجيش الاسرائيلي في فلسطين؟
كلمة أخيرة:
ليس من مصلحة الحكم في لبنان، كما في سوريا، تمييع التحقيق باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وإن اي تأخير في جلاء الغموض عن اسرار هذا الحادث الزلزال يسيء الى الحكمين معا، ويصب في مصلحة الدولتين المستفيدتين منه: الولايات المتحدة وإسرائيل.
فإلى متى؟
() لواء ركن متقاعد
(1) من محاضرة للنائب الدكتور باسم يموت، بتاريخ 26/6/2003.
(2) أوردت جريدة النهار، بتاريخ 29/3/2003، أسماءهم ووظائفهم وعلاقتهم بإسرائيل.
(3) يموت، المحاضرة المذكورة آنفا.
(4) الوثيقة نفسها، باللغة الانكليزية، مع نصها معرّباً.