نموذج من الأحداث التي أعادت إلى الأذهان زمن الأشباح في لبنان
قصة اصبحت تتكرر كل يوم في بلادنا !!
الثالثة فجر الأربعاء. كورنيش المنارة خال إلا من رجل يمشي حاملا سلة فيها ورد. هو الآن يتمشى عائدا إلى بيته في برج البراجنة بعدما أمضى الليل يبيع الورود عند عين المريسة. تتوقف سيارة سوداء إلى طرف الرصيف. يصرخ الجالس في مقعدها الأمامي بالرجل: <<تعا ولا>>! يقترب بائع الورد. يقف أمام سيارة فيها أربعة شبان. السائق والجالسان في الخلف صامتون. المتكلم هو الذي يجلس في المقعد الأمامي. الواقف على قدميه أمام السيارة بائع ورد.. يدور حوار قصير بينهما:
من أين أنت؟ يسأل الشاب البائع فيجيب: <<من الجنوب>>. يشتم الشاب البائع ويشتم الجنوب. من بيروت إذا كنت تفضل هذا، يقول البائع. يشتم الشاب البائع ويشتم بيروت.
أنت سوري؟ يسأله الشاب. <<لا.. أنا من الجنوب>>، يعيد عليه البائع عبارته. ثمة خوف في قلب هذا الرجل يجعله حذرا في كل كلمة يقولها ويجعله يبتلع الشتائم واحدة بعد أخرى. يجعله يتوجس شرا من الشاب الذي يتحدث معه بكل هذا الهدوء.
<<طالع على بالي قوّصك في إجرك>>. يقول الشاب للبائع ببطء فيجيبه هذا بود مبتسما: معقول تقوص هيدا الوجه الحلو.. وعندي ثلاث ولاد..>>. يقاطعه بأنه <<طالع على بالي قوصك بإجرك>> ويفتح باب السيارة ويمد ساعده بالمسدس ثم يطلق النار على كاحل بائع الورد.. يصرخ هذا: آخ.
مهلا. هذا ليس مجرد بائع ورد يجول على الكورنيش ليلا وتختلط على الآخرين جنسيته أو طائفته أو ما إلى هنالك. هذا رجل اسمه توفيق ناصر. عمره اثنان وثلاثون سنة. متزوج وله ثلاثة أولاد: علي وعباس وحسين. يقطن وعائلته في برج البراجنة في بيت صغير. يبيع الورد منذ عشرين عاما. يعيش حياته. يمكنه أن يكون أي واحد منا. يمشي على الكورنيش فيأتيه أربعة أحدهم مسلح ويطلق النار عليه لسبب بسيط وهو أنه يريد ان يطلق النار عليه. فعل إطلاق النار كفعل احتساء فنجان قهوة. مجرم لمتعة شخصية في لبنان 2005. هل وجّه إليك أحد النصيحة المتعارف عليها في الأيام الأخيرة هنا؟ <<لا تتجول كثيرا. عد إلى البيت مبكرا>>. هذه النصيحة ليست نكتة ولا ترسل عبر أجهزة الخلوي. هذه حقيقة بيروتية هذه الأيام. لك أن تكمل قصة بائع الورد..
بعد إطلاق النار الأول، يقرر الشاب أنه الآن <<طالع على بالي قوّصك بمعدتك>>. يرى بائع الورد المسدس وقد صار في بطنه. لا يقول شيئا لأنه لا يرى في هذه اللحظة المخيفة إلا الموت. من أطلق النار أول مرة لن يتردد في إطلاق النار ثانية. لكن الجالس في المقعد الخلفي يدفع يد صديقه القاتل إلى أعلى ويطلب من السائق أن ينطلق فيفعل. تذهب السيارة. تترك خلفها على الكورنيش رجلا مصابا يجلس أرضا وحده ولا مخلوق في المكان غيره. يخلع حذاءه لينظر إلى جرحه. يشعر بألم كبير ويعرف أنه عاجز عن الهروب بإصابته لأن السيارة إذا ما قررت أن تعود إليه لتقتله فلا مفر منه. ينتظر نحو ساعة قبل أن تمر سيارة فيسأل صاحبها أن يقله في طريقه فيفعل. يشتد الألم عليه في السيارة فيخبر السائق بحكايته فيصدم هذا. يصر بائع الورد على النزول عند السفارة الكويتية حيث سيمشي هناك لأمتار قبل أن ينزلق أرضا فيشعر بنار تجتاح ساقه.. يصرخ بكل ما أوتي من ألم.. لا يعود قادرا على الوقوف. يزحف أرضا لأمتار وهو يصرخ فينتبه إليه عناصر الجيش في المكان.. وتغادر به سيارة نحو مستشفى الرسول الأعظم. عند الكورنيش كانت سلة الورد مرمية أرضا وورودها مرمية، لم يشترها أحد.
في المستشفى يقولون له إنه بحاجة إلى طبيب متخصص في العظم وإلى صورة أشعة ليعلموا مقدار الإصابة. يسأل عن كلفة الصورة ويعلم أنه قادر على الدفع. ويذهب أحد الحراس في المستشفى لإيقاظ زوجته وإعلامها بما حدث. تأتي هذه بكل ما في البيت من مال: 70 ألف ليرة فقط. مال مركون كأجرة بيت. وتأتي من والد توفيق بخمسين ألف ليرة. تذهب إلى المستشفى بالمال. هذه حاجات لا بد منها. توفيق ناصر ليس مضمونا ولا يتمتع بتأمين بالطبع. هل يعلم الشاب على من أطلق النار؟ هل يعلم لماذا أطلق النار؟
توفيق لا يتذكر ملامح الشاب ولا يتذكر نوع السيارة. لا يتذكر أي رموز أو شعارات من أي نوع كانت على زجاجها أو مرآة الرؤية الخلفية فيها. يتذكر أنه رأى الموت فقط. ويتذكر أن الاختصاصي في جراحة العظم والمفاصل الدكتور محمد باقر عز الدين الذي وضع الجبس في قدمه قال له إن الطلقة ما زالت بين مفصلين في كاحل القدم ومن الصعوبة إزالتها، وإنها ما لم تلتهب فإنها لن تُزال من مكانها. الطلقة التي يشرح الدكتور عز الدين أنها بحجم حبة عدس أطلقت من مسدس بضغط كبير مما جعلها تخترق الجلد واللحم وصولا إلى حيث استقرت في جسد توفيق.
الطلقة ستبقى في بائع الورد إلى الأبد. استقرت في نفسه. هو الآن ممدد في بيته في برج البراجنة وحوله أولاده وزوجته وشقيقه وآخرون. الورد كان يطعم خمسة أفواه قبل أن تقتحم حياة بائعه الهستيريا التي يمر فيها لبنان اليوم. يفكر توفيق بالبحث عن عمل آخر إلى أن تهدأ الأمور. لكن ماذا يعمل؟ منذ عشرين سنة وهو يبيع الورد ولا يجيد عملا آخر. حتى في الحرب لم يتعرض لاعتداء مثل هذا. من كان يظن أن لدى بائع الورد عدوا كهذا؟ من كان يظن أن بائع ورد قد يجد من يطلق النار عليه؟ من كان يظن أن ثمة مخلوقا في هذا العالم يكره الورد؟
نقلاً عن جريدة السفير بتاريخ اليوم 26-3-2005
قصة اصبحت تتكرر كل يوم في بلادنا !!
الثالثة فجر الأربعاء. كورنيش المنارة خال إلا من رجل يمشي حاملا سلة فيها ورد. هو الآن يتمشى عائدا إلى بيته في برج البراجنة بعدما أمضى الليل يبيع الورود عند عين المريسة. تتوقف سيارة سوداء إلى طرف الرصيف. يصرخ الجالس في مقعدها الأمامي بالرجل: <<تعا ولا>>! يقترب بائع الورد. يقف أمام سيارة فيها أربعة شبان. السائق والجالسان في الخلف صامتون. المتكلم هو الذي يجلس في المقعد الأمامي. الواقف على قدميه أمام السيارة بائع ورد.. يدور حوار قصير بينهما:
من أين أنت؟ يسأل الشاب البائع فيجيب: <<من الجنوب>>. يشتم الشاب البائع ويشتم الجنوب. من بيروت إذا كنت تفضل هذا، يقول البائع. يشتم الشاب البائع ويشتم بيروت.
أنت سوري؟ يسأله الشاب. <<لا.. أنا من الجنوب>>، يعيد عليه البائع عبارته. ثمة خوف في قلب هذا الرجل يجعله حذرا في كل كلمة يقولها ويجعله يبتلع الشتائم واحدة بعد أخرى. يجعله يتوجس شرا من الشاب الذي يتحدث معه بكل هذا الهدوء.
<<طالع على بالي قوّصك في إجرك>>. يقول الشاب للبائع ببطء فيجيبه هذا بود مبتسما: معقول تقوص هيدا الوجه الحلو.. وعندي ثلاث ولاد..>>. يقاطعه بأنه <<طالع على بالي قوصك بإجرك>> ويفتح باب السيارة ويمد ساعده بالمسدس ثم يطلق النار على كاحل بائع الورد.. يصرخ هذا: آخ.
مهلا. هذا ليس مجرد بائع ورد يجول على الكورنيش ليلا وتختلط على الآخرين جنسيته أو طائفته أو ما إلى هنالك. هذا رجل اسمه توفيق ناصر. عمره اثنان وثلاثون سنة. متزوج وله ثلاثة أولاد: علي وعباس وحسين. يقطن وعائلته في برج البراجنة في بيت صغير. يبيع الورد منذ عشرين عاما. يعيش حياته. يمكنه أن يكون أي واحد منا. يمشي على الكورنيش فيأتيه أربعة أحدهم مسلح ويطلق النار عليه لسبب بسيط وهو أنه يريد ان يطلق النار عليه. فعل إطلاق النار كفعل احتساء فنجان قهوة. مجرم لمتعة شخصية في لبنان 2005. هل وجّه إليك أحد النصيحة المتعارف عليها في الأيام الأخيرة هنا؟ <<لا تتجول كثيرا. عد إلى البيت مبكرا>>. هذه النصيحة ليست نكتة ولا ترسل عبر أجهزة الخلوي. هذه حقيقة بيروتية هذه الأيام. لك أن تكمل قصة بائع الورد..
بعد إطلاق النار الأول، يقرر الشاب أنه الآن <<طالع على بالي قوّصك بمعدتك>>. يرى بائع الورد المسدس وقد صار في بطنه. لا يقول شيئا لأنه لا يرى في هذه اللحظة المخيفة إلا الموت. من أطلق النار أول مرة لن يتردد في إطلاق النار ثانية. لكن الجالس في المقعد الخلفي يدفع يد صديقه القاتل إلى أعلى ويطلب من السائق أن ينطلق فيفعل. تذهب السيارة. تترك خلفها على الكورنيش رجلا مصابا يجلس أرضا وحده ولا مخلوق في المكان غيره. يخلع حذاءه لينظر إلى جرحه. يشعر بألم كبير ويعرف أنه عاجز عن الهروب بإصابته لأن السيارة إذا ما قررت أن تعود إليه لتقتله فلا مفر منه. ينتظر نحو ساعة قبل أن تمر سيارة فيسأل صاحبها أن يقله في طريقه فيفعل. يشتد الألم عليه في السيارة فيخبر السائق بحكايته فيصدم هذا. يصر بائع الورد على النزول عند السفارة الكويتية حيث سيمشي هناك لأمتار قبل أن ينزلق أرضا فيشعر بنار تجتاح ساقه.. يصرخ بكل ما أوتي من ألم.. لا يعود قادرا على الوقوف. يزحف أرضا لأمتار وهو يصرخ فينتبه إليه عناصر الجيش في المكان.. وتغادر به سيارة نحو مستشفى الرسول الأعظم. عند الكورنيش كانت سلة الورد مرمية أرضا وورودها مرمية، لم يشترها أحد.
في المستشفى يقولون له إنه بحاجة إلى طبيب متخصص في العظم وإلى صورة أشعة ليعلموا مقدار الإصابة. يسأل عن كلفة الصورة ويعلم أنه قادر على الدفع. ويذهب أحد الحراس في المستشفى لإيقاظ زوجته وإعلامها بما حدث. تأتي هذه بكل ما في البيت من مال: 70 ألف ليرة فقط. مال مركون كأجرة بيت. وتأتي من والد توفيق بخمسين ألف ليرة. تذهب إلى المستشفى بالمال. هذه حاجات لا بد منها. توفيق ناصر ليس مضمونا ولا يتمتع بتأمين بالطبع. هل يعلم الشاب على من أطلق النار؟ هل يعلم لماذا أطلق النار؟
توفيق لا يتذكر ملامح الشاب ولا يتذكر نوع السيارة. لا يتذكر أي رموز أو شعارات من أي نوع كانت على زجاجها أو مرآة الرؤية الخلفية فيها. يتذكر أنه رأى الموت فقط. ويتذكر أن الاختصاصي في جراحة العظم والمفاصل الدكتور محمد باقر عز الدين الذي وضع الجبس في قدمه قال له إن الطلقة ما زالت بين مفصلين في كاحل القدم ومن الصعوبة إزالتها، وإنها ما لم تلتهب فإنها لن تُزال من مكانها. الطلقة التي يشرح الدكتور عز الدين أنها بحجم حبة عدس أطلقت من مسدس بضغط كبير مما جعلها تخترق الجلد واللحم وصولا إلى حيث استقرت في جسد توفيق.
الطلقة ستبقى في بائع الورد إلى الأبد. استقرت في نفسه. هو الآن ممدد في بيته في برج البراجنة وحوله أولاده وزوجته وشقيقه وآخرون. الورد كان يطعم خمسة أفواه قبل أن تقتحم حياة بائعه الهستيريا التي يمر فيها لبنان اليوم. يفكر توفيق بالبحث عن عمل آخر إلى أن تهدأ الأمور. لكن ماذا يعمل؟ منذ عشرين سنة وهو يبيع الورد ولا يجيد عملا آخر. حتى في الحرب لم يتعرض لاعتداء مثل هذا. من كان يظن أن لدى بائع الورد عدوا كهذا؟ من كان يظن أن بائع ورد قد يجد من يطلق النار عليه؟ من كان يظن أن ثمة مخلوقا في هذا العالم يكره الورد؟
نقلاً عن جريدة السفير بتاريخ اليوم 26-3-2005