إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

تساؤلات حول النهضة الحسينيَّة ** للشيخ محمد صنقور البحراني **

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تساؤلات حول النهضة الحسينيَّة ** للشيخ محمد صنقور البحراني **

    بسم الله الرحمن الرحيم

    اللهم صلى على محمد و ال محمد

    نبدأ سلسلة لبعض الشبهات و الرد عليها بقلم سماحة الشيخ محمد صنقور البحراني

    المقدمة





    بسم الله الرحمن الرحيم

    والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

    وبعد:

    فهذه مجموعة من المقالات المقتضبة عالجت فيها بعض الإشكالات والتساؤلات حول النهضة الحسينية والتي وصلتنا من بعض الأخوة والأعزاء في فترات متفاوته، وقد اقتضى الرأي بعد ذلك نشرها وذلك لتعميم الفائدة والمساهمة في تأصيل الوعي العقائدي في الوسط الاجتماعي.

    هذا وقد أجبنا في هذه المقالات عن التساؤلات التالية:

    الأول: لماذا استجاب الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة رغم علمه بحالهم؟ ولماذا لم يقبل بنصيحة من نصحه بعدم الخروج على يزيد؟

    الثاني: لماذا لم يستجب الإمام الصادق (ع) للرسائل التي دعته للثورة واستجاب الإمام الحسين لذلك ؟

    الثالث: لماذا لم يقبل الإمام الحسين (ع) بنصيحة من نصحه بالهجرة إلى اليمن رغم ان ذلك مطابق لسنة الرسول (ص) والذي هاجر إلى المدينة المنورة.

    الرابع: ما هي الخيارات التي اعتمدها الحسين (ع) في نهضته؟ ولماذا ظل خيار الرجوع مطروحاً ؟

    الخامس: هل كان لبني عقيل دور في قرار الثورة؟

    السادس: لماذا لم يعمل الحسين (ع) بالتقية؟ ألم تكن ثورته إلقاء للنفس في التهلكة؟

    السابع: هل انَّ الشيعة هم من قتل الحسين (ع)!!

    الثامن: ما هو الجواب على من ادَّعى أنَّ رأس الحسين (ع) لم يُحمل إلى يزيد!!

    التاسع: هل صحيح ما يتناقله الخطباء من أنَّ رأس الحسين (ع) تكلَّم وهو على الرمح؟

    العاشر: هل صحيح أنَّ المعسكر الأمويَّ قتل طفلاً رضيعًا للحسين (ع) في كربلاء؟

    الحادي عشر: كيف عَرض الخِطاب الشيعيُّ الإمام الحسين (ع) للعالم وهل صحيح أنَّه قدَّمه للعالم على أنَّه رجل حرب وعنف؟

    الثاني عشر: لماذا لم يعتمد الحسين (ع) خيارًا سلميًّا في مواجهته للنظام الأموي؟

    هذا وقد أجبنا عن هذه التساؤلات بإجابات مقتضبة حتَّى لا يشقَّ على القارئ مراجعتها.

    أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يكون هذا الجهد خالصًا لوجهه الكريم وأن يجعلنا ممن ينتصر به لدينه وأن يحشرنا يوم القيامة مع الحسين الشهيد والعترة الطاهرة من ذرِّيته (ع).



    والحمد لله ربِّ العالمين

    محمد صنقور

    25ذو الحجَّة 1425هـ

  • #2
    السؤال الأوَّل:

    لماذا استجاب الحسين (ع) لأهل الكوفة وأرسل إليهم سفيره مسلم بن عقيل مع علمه بحالهم ومع نصح بعض أصحابه له بعدم التوجّه إلى هناك؟



    الجواب:

    لو لم يستجب الإمام الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة لأدانه التاريخ ولقال إنَّ الحسين –والعياذ بالله- قد فرَّط في المسئوليّة الإلهيّة المناطة به وذلك لأنَّ الظروف قد تهيَّأت له بعد أنْ راسله الآلاف مِن أهل الكوفة وجمع كبير مِن الوجهاء ورؤساء العشائر، وأكّدوا له أنّهم على استعداد تامّ لمناصرته وأنَّ الكوفة متهيِّئة لاحتضان ثورته، وأنَّه ليس مِن العسير عليهم طرد الوالي الأموي مِنها، وحينئذ وعندما تسقط الكوفة فإنَّ ذلك يُنتج سقوط القرى والمدن المجاورة لها نظرًا لارتباطها سياسيًّا وأمنيًّا بأمارة الكوفة بل وحتّى بلاد فارس والأهواز وبعض المدن الإيرانيَّة وقراها كانت تابعة سياسيًّا لإمارة الكوفة بل إنَّ سقوط الكوفة بِيَد الثوّار يُنتج سهولة الهيمنة على مدينة البصرة والمدن المجاورة لها، وذلك لأنَّ الثقل العسكري والسياسي في العراق آنذاك كان في مدينة الكوفة، وكلّ مَن له معرفة بالتاريخ يدرك هذه النتيجة.

    ومِن هنا يكون إهمال الإمام الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة يعدُّ تفريطًا وتفويتًا لفرصة استثنائيّة خصوصًا وأنَّ الحسين يُدرك أنَّ الأمّة ما كانت لتستجيب ليزيد لولا قوّته وسطوته، فإذا ما استطاع أنْ يوهن هذه القوّة فإنَّ الحواضر الإسلاميّة سوف تتداعى واحدة تلو الأخرى، إذ ليس ثمّة حاضرة مِن الحواضر الإسلاميّة تكنّ الولاء الحقيقي ليزيد وللنظام الأموي إذا ما استثنَيْنا بلاد الشام، هذا بالإضافة إلى عنصر آخر يؤكّد المسئوليّة التاريخيّة على الحسين (ع) وهو احترام وتقدير الأمّة له نظرًا لقرابته مِن رسول الله (ص) ونظرًا لإيمانها بنزاهته وكفاءته وليس مِن عائق يحول دون مؤازرته سوى بطش السلطة الأمويّة الذي أصاب الأمّة بالإحباط واليأس، فلو أنَّ الحسين (ع) استطاع إدخال الوهن على النظام الأموي فإنَّ الأمّة ستهبُّ لا محالة لمؤازرته.

    مِن هنا كان سقوط الكوفة مع ملاحظة الاعتبارات الأخرى مساوقًا لضعف النظام الأموي وعجزه عن بسط هيمنته على الحواضر الإسلاميّة. ذلك لأنَّ مركز القوّة للنظام الأموي متمثِّلاً في بلادَيِ الشام والكوفة، لهذا تمكّن الثوّار في المدينة المنوّرة وكذلك مكّة الشريفة مِن طرد بني أميّة بكلّ سهولة أيّام يزيد بن معاوية، ولولا أن بعث إليهم يزيد بن معاوية جيش الشام بعد أنْ رفض ابن زياد واليه على الكوفة الذهاب إليهم لما تمكّن مِن استرجاع هاتَيْن المدينتَيْن مِن يد الثوّار.

    وهو ما يعبّر عن أنَّ الكوفة والشام هما مركز القوّة للنظام الأموي، وأنَّ سرّ هيمنته وانبساط سلطته هو ما يدركه الناس مِن أنَّ عاقبة التمرُّد هو أنْ يسلّط عليهم النظامُ الأموي جيشَ الشام أو الكوفة.

    ومِن هنا نؤكّد أنَّ سقوط الكوفة بِيَد الثوّار معناه أنَّ النظام الأموي يصبح أمام قوّة مكافئة لقوّته، وهو ما كنّا نقصده مِن دخول الوهن على النظام الأموي المستوجب لتداعي الحواضر الإسلاميّة بعد أنْ لم يكن خضوعها له ناشئًا عن ولائها وإيمانها بجدارته واستحقاقه، وإنّما كان ناشئًا عن خوفها مِن بطشه وشدّة بأسه.

    وبما ذكرنا اتّضح المنشأ لاستجابة الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة فقد تواترت عليه كتبهم حتّى تجاوزت الاثني عشر كتابًا كلّ كتاب مختوم مِن اثنين أو ثلاثة أو أكثر، وكتب إليه رؤساء العشائر والوجهاء وأوفدوا إليه الرسل، ورغم كلّ ذلك بعث إليهم مسلم بن عقيل ليقف على واقع حالهم، فجاءه كتاب مسلم بن عقيل أنْ أقدم فإنَّ الكوفة مهيّئة لاحتضان نهضتك، فما كان يسعه التخلُّف ولم يكن يسعه الاعتذار عن المصير إليهم بدعوى أنَّ لهم سوابق توجب عدم الوثوق بجدّيّة دعواتهم بعد أن بايعوا مسلم بن عقيل وأبدَوْا جدّيّتهم وصدق نواياهم، وأمَّا عدم رجوع الحسين بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل فلأنَّ الخيار الذي اتّخذه الإمام الحسين هو الاستشهاد وذلك حينما ينكشف للأمّة وللتاريخ أنَّ المسلمين لم يكونوا حينذاك مؤهّلين للجهاد ولمقارعة النظام الأموي، فقد عقد العزم على أنْ يقدِّم نفسه قربانًا لله عزّ وجلّ مِن أجل أنْ تستفيق الأمّة مِن سباتها، وتدرك أنَّ النظام الأموي مريدٌ لتقويض بُنَى الإسلام، وأنّه لا يرعى حرمة لرسول لله (ص) وأنّه على استعداد لفعل كلّ عظيم مِن أجل أن يبقى سلطانه وتبقى هيمنته، وأنّه لا يهمّه كثيرًا أنْ يعصى الله في الأرض بل يمارس هو دور التضليل والإفساد.

    وإذا ما أدركت الأمّة كلّ ذلك واستفاقت على وقع فاجعة هي بحجم قتل الحسين (ع)، وقتل ذرِّيّته وسبي بنات رسول الله (ص) فإنّ مِن المفترض أنْ تنبعث فيها روح جديدة قادرة ولو بعد حين على أنْ تجهز على هذا النظام الفاسد.

    أراد الحسين بنهضته وتضحيته أنْ يكسر حاجز الخوف وأنْ يبدّد حالة اليأس والخنوع الذي أصاب الأمّة نتيجة البطش والتعسّف اللذين مارستهما السلطة الأمويّة معها، وأراد أنْ يؤسّس لفهم إسلامي أصيل هو شرعيّة المواجهة للسلطان الجائر، وشرعيّة السعي لتقويض سلطانه ذلك لأنّ النظام الأموي عمل وفي غضون عقدَيْن مِن الزمن على ترويج دعوى هي حرمة الخروج على النظام الحاكم حتّى ولو كان فاسدًا جائرًا، وسخّر لذلك المأجورين ممّن ينسبون لصاحبة رسول الله وغيرهم ليضعوا مِن عند أنفسهم روايات تؤكّد على عدم شرعيّة الخروج والثورة على السلطان وإنْ كان فاسقًا مستحلاًّ لحرمات الله عزّ وجلّ، وأنَّ وظيفة المسلم هي النصيحة والدعاء له بالهداية، فإن ثاب إلى رشده وإلاّ فعلى كلّ مكلّف الصبر، وإنْ جلد السلطان ظهره وأخذ ماله.

    وهذه الثقافة الخطيرة التي سادتْ وتجذّرت بفعل السياسة الأمويّة لم يكن مِن الممكن تصحيحها لو لم يتصدَّ لذلك رجل هو بحجم الحسين (ع) ولم يكن التصدّي بنحو التضحية، فالحسين قدّم نفسه قربانًا لله عزّ وجلّ مِن أجل أن يعيد الأمّة إلى المسار الصحيح، يقول (ع): "أيّها الناس إنّ رسول الله (ص) قال: مَنْ رأى منكم سلطانًا جائرًا مستحلاًّ لِحُرَمِ الله ناكثًا عهده مخالفًا لسنَّة رسول الله (ص)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول كان حقًّا على الله أنْ يدخله مدخله، ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطَّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله وحرَّموا حلاله وأنا أحقُّ مَنْ غيَّر...".

    وأمّا نصيحة بعض أصحابه له بعدم الخروج على يزيد أو بعدم التوجّه إلى الكوفة فلأنّ حساباتهم كانت سياسيّة، ولأنّهم أنفسهم ممّن شملهم الداء وأصابهم الوهن واستبدّ بهم اليأس والإحباط، لذلك فهم لا يفهمون لغة الحسين (ع) ولا يدركون أبعاد خروجه ونهضته.

    فهذا ابن عبّاس الذي لا نشكّ في إخلاصه للإمام الحسين (ع) يتمنّى لو كان يتمكّن مِن حبس الحسين (ع) والحيلولة دون خروجه، ذلك لأنّه لم يكن قادرًا على استيعاب معنى التضحية والاستشهاد، إذ هي لغة لا يفهما إلاّ أهل البصائر ولا يقف على أبعادها إلاّ مَن تجرّدت روحه عن كلّ علائق الدنيا، فكم هو غريب قول الحسين: "إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما" فهو يأنس بالموت والآخرون تؤنسهم الحياة.

    وقد تمكّن الإمام الحسين (ع) مِن تحقيق غايته ولم يتمكّن النظام الأموي مِن إرغام الحسين على خياره رغم ما بذله مِن وسع، وما اعتمده مِن وسائل لا تصمد أمامها أقوى الإرادات، وهذا هو معنى انتصار الدم على السيف.

    وهكذا تبخّر النظام الأموي وتلاشت أطروحته الرامية لتقويض بُنَى الإسلام
    وخلد الحسين وخلدت مبادؤه.

    تعليق


    • #3
      منشأ رفض الصادق لكل الرسائل واستجابة الحسين لها





      السؤال الثاني:

      لماذا رفض الإمام الصادق (ع) كلّ الرسائل الّتي وصلته والتي كانت تدعوه للثورة؟ ولماذا استجاب الإمام الحسين لرسائل أهل الكوفة؟



      الجواب:

      لم تصل للإمام الصادق (ع) –في حدود اطّلاعي- سوى رسالتَيْن؛ الأولى مِن أبي مسلم الخراساني، والثانية مِن أبي سلمة الخلاّل.

      أمّا الرسالة الأولى فأجاب عنها الإمام الصادق (ع) بقوله: "إنَّ أبا مسلم ليس مِن رجالي ولا الزمان زماني".

      أمّا أنّه ليس مِن رجاله ذلك لأنّه كان مِن القادة العبّاسيِّين وهو مبعوثهم إلى خراسان ليوطّئ لهم الأمر هناك، وقد كان بعثه لهذا الشأن كلّ مِن إبراهيم الإمام وأبو العبّاس السفّاح وأبو جعفر المنصور، وقد حقّق لهم انتصارات كثيرة في خراسان قبل أن يبعث إلى الإمام بهذه الرسالة، ومِن هنا لا يمكن الاطمئنان بجديّة الدعوة الذي دعا بها الإمام في الرسالة، ولو كانت جادّة فهي غير نافعة بعد أن استوثق الأمر للعبّاسيِّين وأوشكت السلطة أن تسقط بأيديهم وهذا هو معنى "أنَّ الزمان ليس زماني".

      على أنّه يمكن تأكيد الفقرة الأولى مِن جواب الإمام الصادق (ع) مِن ملاحظة سيرة الرجل الذاتيّة، فقد ذكر المؤرِّخون أنّه كان رجلاً فاسقًا سفّاحًا يقتل على الظنّة والتهمة، وقد أحصى عليه المؤرِّخون ستّة آلاف قتيل هذا والأمر لم يصفُ لهم بعد!

      وأمّا الرسالة الثانية فقد أحرقها الإمام الصادق (ع) بالسراج وقال لحامل الرسالة: "هذا هو جوابي". والجدير بالذكر أنَّ أبا سلمة الخلاّل بعث برسالة مشابهة إلى عبد الله بن الحسن المحض، واستبشر الأخير بالرسالة وأخبر حامل الرسالة بأنّه على استعداد للاستجابة، وقد فات السيد عبد الله المحض أنَّ الأمر قد خرج مِن يد أبي سلمة الخلاّل، ولهذا لم يصل جوابه إلى أبي سلمة، لأنّه قُتل قبل أنْ يصله جواب السيّد عبد الله المحض.

      ومقتله كما يقول المؤرِّخون كان بتدبير مِن أبي مسلم الخراساني حيث كان بينهما تحاسد وتنافس على المناصب العسكريّة والسياسيّة، حيث كانا مِن القادة العبّاسيِّين وكان لهما دور بالغ الأهميّة في توطئة الأمر لبني العبّاس في خراسان والعراق.

      وقد ذكر المؤرِّخون أنَّ أبا سلمة الخلاّل قد أنجز انتصارات كبيرة لصالح بني العبّاس وكان يدعو إليهم في العراق وفي خراسان، ثمَّ رأى أنْ يُرجع الأمر إلى الطالبيِّين وليس للإمام الصادق (ع) بالتحديد، إلاَّ أنَّه لم يكن يُدرك أنَّ الأمر قد خرج مِن يده كما اشرنا إلى ذلك قبل قليل، ولعلّ رسالتَيْه قد اطّلعت عليها عيون بني العبّاس أو أبو مسلم الخراساني ولهذا تعجّل حتفه.

      وبهذا العرض التاريخي يتبيّن منشأ رفض الإمام الصادق (ع) لما ورد في رسالتَيْ هذَيْن القائدَيْن العبّاسيَّيْن.

      ثمّ إنَّ هنا أمرًا لا بدّ مِن التنبيه عليه وهو أنَّ مِن المحتمل قويًّا أنَّ هذَيْن القائدَيْن لم يكونا يقصدان تسليم الأمر بتمامه للإمام الصادق وينسلخان هما عنه، وإنّما كانا يُدركان أنّهما عندما ينفصلان عن بني العبّاس فإنّهما يحتاجان لغطاء يتحرَّكان وراءه إذ لم يكن لهما بشخصَيْهما قاعدة اجتماعيّة يصولان بها.

      فلأنَّ الإمام الصادق كان يحظى بشعبيَّة واسعة في الأوساط الاجتماعيّة لذلك كان مِن المناسب –بنظرهما- اتّخاذه واجهة للنفوذ والهيمنة لا أقلّ أنّهما لم يقدِّما تطمينات تؤكّد عزمهما على الطاعة المطلقة للإمام (ع) وأنّهما أرادا مِن دعوتهما للإمام وضع الأمر في موضعه، فلعلّ دعوتهما للإمام نشأت عن شعورهما بأنَّ بني العبّاس سوف لن يحفظوا لهما جهودهما التي بذلاها وسوف لن يكون لهما نصيب في الأمر، وهو ما دعاهما للبحث عن جهة أخرى يتمكّنان بواسطتها استثمار الجهد المبذول للمآرب الشخصيّة.

      ولو كان هذا هو ما دفعهما لمراسلة الإمام (ع) فإنّ مِن غير المناسب استجابة الإمام لدعوتهما إذ أنَّ منهج الأنبياء والأولياء يتنافى ولغة المساومات السياسيّة على المراكز وتقاسم الغنائم، ونحن لا نعلم بفحوى الرسالتَيْن إذ لم يكشف لنا التاريخ ذلك.

      ولو افترض أنَّ الرسالتَيْن لم تكونا معبِّرتَيْن عن هذا الغرض إلاّ أنّه يكفي لرفض الدعوتَيْن أن يحتمل الإمام ذلك احتمالاً معتدًّا به نظرًا لمعرفته بواقع الرجُلَيْن وحينئذ لا يكون مِن التعقّل استجابة الإمام لهما إذ أنَّ عدم الاطمئنان في مثل هذه المسائل يقتضي التوثّق وعدم الاستجابة كيف الحال أنَّ الظروف ومقتضياتها تنحو نحو الاطمئنان بعدم خلوص دعواهما عن المآرب الشخصيّة.

      على أنَّ تأكيد الإمام في موارد عديدة على أنّه لو وجد أنصارًا يعتمد عليهم لما تأخّر عن القيام بالتغيير الجذري بواقع الأمّة، هذا التأكيد يعبّر عن سوء ظنّ بالرجُلَيْن أو بقدرتهما على المساهمة في هذه المهمّة.

      هذا ما يتّصل بالشقّ الأوّل مِن السؤال، أمّا الشقّ الثاني وهو ما يتّصل بمنشأ قبول الإمام الحسين (ع) بدعوات أهل الكوفة فقد أجبنا عنه في السؤال الأول، ونضيف هنا أنَّ الكتب التي بلغتِ الإمام مِن أهل الكوفة وهو في مكّة المكرّمة تصل إلى اثني عشر ألف كتاب، كلّ كتاب يشتمل على ختم الواحد، والاثنَيْن، والثلاثة، والأربعة، وكلّها تؤكّد الاستعداد التامّ على مؤازرة الإمام (ع) في مواجهة النظام الأموي، وأنّه ليس لهم إمام غيره، وأنّهم جند له مجنَّدة، وأنّهم لا يحضرون لعامل بني أميّة جمعة ولا جماعة، وأنّهم على استعدادٍ لطرده، وأنَّ ذلك ليس عسيرًا عليهم، ورغم كلّ هذه التطمينات استوثق مِن جدِّيّة دعواهم عندما بعث إليهم مسلم بن عقيل ليستطلع حالهم فبايعه على أقلّ التقادير ثمانية عشر ألف رجل وفيهم الأعيان ورؤساء العشائر، وفي بعض النقولات أنَّ المبايعين للحسين (ع) على يد مسلم بن عقيل أربعون ألفًا.

      ولذلك لم يسع الإمام الحسين (ع) التلكّأ في الاستجابة لهم بعد كلّ هذه التطمينات، ولو أهمل الإمام الحسين (ع) هذه الدعوات لأدانه التاريخ ولاتّهمه بالتقاعس عن القيام بمسئوليَّته الرساليّة.



      والحمد لله ربِّ العالمين

      تعليق


      • #4
        منشأ عدم قبوله باقتراح الهجرة إلى اليمن





        السؤال الثالث:

        لماذا لم يقبل الإمام الحسين بما اقتُرِح عليه مِن الهجرة إلى بلاد اليمن اقتداءً بسنّة رسول الله (ص)، والذي هاجر إلى المدينة المنوّرة وأمر بعض أصحابه بالهجرة إلى بلاد الحبشة؟



        الجواب:

        ثمّة فرق كبير بين الأمرَيْن إذ أنَّ اقتراح اللجوء إلى اليمن والاختباء بها وتحصين نفسه مِن بطش بني أميّة نشأ عن توهّم أنَّ الحسين (ع) لم يكن له مشروع إصلاحي وإنّما كان رافضًا للبيعة وحسب، ولأنّ رفض الحسين (ع) للبيعة يُنتج ملاحقة بني أميّة له ولإرغامه عليها أو قتله فإنَّ مِن المناسب لو كان الأمر كذلك هو البحث عن بلد يتمكّن فيها مِن الاختباء إلاّ أنّ الأمر لم يكن كذلك، فقد كان للحسين (ع) مشروع إصلاحي أعلن عنه في مواضع كثيرة فقد أفاد أنّه خرج لطلب الإصلاح في أمّة جدّه (ص)، وأنّه يريد أنْ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويسير بسيرة جدّه وأبيه (ع).

        وإذا كان هذا هو غرضه فإنّ مِن غير المناسب الاختباء عن ساحة الأحداث لينتظر ما تتمخّض عنه الظروف فإنْ جاءت وفق ما يتمنّاه مِن تمرّد الأمّة على النظام الأموي ثمّ إسقاطه وإعلانهم الولاء والبيعة له خرج إليهم واستلم زمام الحكم، وإنْ لم تتمكّن الأمّة مِن ذلك فإنّه يكون قد نجا بنفسه وبعياله، ولم يصبه مِن بطش بني أميّة شَيْء.

        هذا النوع مِن التفكير يناسب القادة النفعيِّين الذين يقطفون ثمار غيرهم ولا يهمّهم أنْ تطحن جماجم الشعوب إذا كان ذلك هو وسيلة الوصول إلى مآربهم.

        أمّا القادة الرساليّون الذين يبتغون وجه الله وخلاص الشعوب مِن كلّ ألوان الظلم، والفساد والتضليل فوسيلة التغيِّير التي يعتمدونها هي الوقوف مع الأمّة وفي الصفّ الأوّل لمقارعة الظلم فيكتوُون بالنار لتي يكتوي بها الناس بل يكونون على استعداد لتحمّل أعباء الدور الأصعب فتكون الوطأة عليهم أشدّ والظلم عليهم أقسى، وهكذا كان الحسين الشهيد (ع) حيث هو الرجل الإلهي الذي منحته السماء لأهل الأرض وأناطت به مسئوليّة الأمانة الإلهيّة ولذلك لم يصغِ لأيّ ناصح، لأنّه ما مِن أحد يسعى لثنيِ الحسين (ع) عن عزمه على تصحيح مسار الأمّة إلاّ وهو غافل عمّا يرومه الحسين (ع) أو غير قادر على استيعاب موقف الحسين وقد أوضحنا ذلك في جواب السؤال الأول.

        وأمّا هجرة رسول الله (ص) للمدينة المنوّرة فلم تكن انسحابًا مِن ساحة العمل الرسالي كما لم تكن لغرض الاختباء والتحصّن مِن بطش قريش والمشركين بل هي هجرة قد خُطِّط لها كما تشهد لذلك بيعة العقبة وبعث مصعب بن عمير قبل هجرته إلى المدينة ليوطّئ له المناخ هناك، فكانت هجرته تستهدف تأسيس دولة قادرة على حماية دعوته ومنجزاته وحماية المؤمنين بها بعد أنْ لم يكن ذلك متاحًا في مكّة المكرّمة وكانت تستهدف للامتداد وتوسيع نطاق التبليغ والدعوة.

        وقد كانت هجرة الحسين الشهيد (ع) إلى العراق تستهدف الغرض الذي مِن أجله هاجر الرسول (ص) إلى المدينة المنوّرة بعد أنْ أصبحت مكّة والمدينة المنوّرة غير قادرتَيْن على احتضان ثورته.

        وأمّا هجرة المسلمين إلى الحبشة فهي وإنْ كانت لغرض النجاة بأنفسهم مِن بطش المشركين إلاّ أنّ الظرف كان مختلفًا عمّا كانت عليه ثورة الحسين (ع) فهؤلاء كانوا يخشَوْن الاستئصال أو الافتتان عن دينهم ولم يكونوا يطمحون في التغيّير بقدر ما كانوا يطمحون في التحفّظ على دينهم، فليس مِن وسيلة سوى الهجرة لحماية لأنفسهم ودينهم، وأمّا الحسين (ع) فلم يكن يخشى الافتتان عن دينه، كما لم يكن يطمح في حماية نفسه وعياله ولو شاء لكان ذلك متاحًا.

        فالحسين كما قلنا له مشروع إصلاحي، وكان يبتغي وجه الله عزّ وجلّ مِن نهضته، وذلك يقتضي الحضور لغرض التعبئة وإيقاف الناس على مناشئ النهضة وأهدافها.

        وهذا هو المناسب لسنّة رسول الله (ص) فقد أفاد الحسين (ع) فيما أفاد: "أيّها الناس قال رسول الله (ص): مَن رأى مِنكم سلطانًا جائرًا مستحلاًّ لِحُرَمِ الله ناكثًا عهده مخالفًا لسنَّة رسول الله (ص)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول كان حقًّا على الله أنْ يدخله مدخله، ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطَّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله وحرَّموا حلاله وأنا أحقُّ مَنْ غيَّر...".



        والحمد لله ربِّ العالمين

        تعليق


        • #5
          الخيارات التي اعتمدها الحسين في نهضته





          السؤال الرابع:

          عرض الإمام الحسين على معسكر ابن سعد الرجوع بعد أنْ أوضح لهم منشأ قدومه عليهم، وأنّه إنّما جاء لهم استجابة لدعواتهم وأنّهم سيؤازرونه فيما عزم عليه مِن مواجهة ليزيد بن معاوية. والسؤال هو أنّه لماذا ظلّ خيار الرجوع مطروحًا؟



          الجواب:

          الجواب عن هذا الاستفهام يتّضح مِن خلال هذا البيان، وهو أنَّ الإمام الحسين (ع) اتّخذ لنفسه خيارات ثلاثة مترتّبة وليست عرضيّة.

          الخيار الأوّل: الاستعانة بأهل الكوفة لأجل مقارعة النظام الأموي، وتبنّي هذا الخيار كان نتيجة الاستعداد الذي أبداه أهل الكوفة للإمام الحسين (ع) وأنّهم سيؤازرونه ويقفون معه، وهذا لا يعني أنَّ اتّخاذ خيار الخروج على بني أميّة كان نتيجة الاستعداد للمؤازرة الذي أبداه أهل الكوفة.

          فالحسين كان قد أعلن الخروج والرفض للبيعة قبل أنْ تصله كتب الكوفة حيث لم تصله كتبهم إلاّ في مكّة المكرّمة، والحال أنّه أعلن الخروج والرفض والبيعة وهو في المدينة المنوَّرة كما تؤكّد ذلك النصوص التاريخيّة الكثيرة، نعم اتّخاذ الخروج إلى العراق دون غيرها كان بسبب ما وصله من كتب أهل الكوفة ورسلهم وأنّهم جند له مجنّدة، وأنّهم لن يسلّموه ولن يخذلوه، وأنّهم ضاقوا ذرعًا مِن حكم بني أميّة، وأنّهم عقدوا العزم على عدم مبايعة يزيد بن معاوية. ورغم كلّ هذه التطمينات إلاّ أنّه لم يتّخذ خيار المسير إليهم إلاّ بعد أنْ بعث إليهم مسلم بن عقيل ليتعرّف على واقع حالهم، وبعد أن وصل كتاب مسلم بن عقيل يؤكّد صدق نواياهم قرّر الحسين (ع) الخروج إليهم ليقود حركته الإصلاحيّة مِن هناك.

          وهذا لا يعني أنّ الحسين (ع) لم يخطّط لخيار آخر لو تبيّن أنَّ الخيار الأوّل ليس متاحًا فإنَّ ذلك هو شأن العقلاء في معالجة القضايا فهم يضعون لكلّ ظرف محتمل خيارًا مناسبًا بنظرهم حتّى لا تفاجئهم الظروف بما لم يتوقّعوه فتلتبس عليه الحلول.

          وهذا هو الطريق الذي سلكه الحسين (ع) حينما جعل لنفسه خيارات مترتّبة.

          الخيار الثاني: هو الرجوع مِن حيث جاء أو إلى أيّ بقعة مِن بقاع الأرض، وهذا الخيار كان عقلائيًّا جدًّا بعد أنْ لم يكن الخيار الأوّل متاحًا نظرًا لما تمخّضت عنه الظروف والتي أوضحت للتاريخ أنَّ أهل الكوفة ليسوا مؤهّلين لاحتضان ثورته، وحينئذٍ لم يكن مِن خيار مناسب سوى الرجوع، ذلك لأنَّ خيار البيعة ليزيد كان خطًَّا أحمرًا بالنسبة للحسين الشهيد.

          وكان النظام الأموي يُدرك أنَّ خيار الرجوع دون بيعة معناه أنّ الخطر مِن وجود الحسين يظلّ ماثلاً، وأنَّ مِن المحتمل قويًّا أنْ يتمكَّن الحسين مِن تعبئة أنصار له قادرين على تقويض ملكهم أو زعزعة أمنهم واستقرارهم، وهذا ما كان يرومه الحسين (ع) حينما عرض على النظام الأموي خيار الرجوع دون بيعة.

          الخيار الثالث: هو الاستشهاد والتضحية، فقد كان واضحًا مِن كلمات الإمام الحسين (ع) أنّه كان على استعداد تامّ لاتّخاذ هذا الخيار إذا لم تتأهّل الأمّة للوقوف معه في حركته الإصلاحيّة، وكان الحسين (ع) يدرك أنّ هذا الخيار هو الذي ستقتضيه الظروف إلاّ أنّه كان مضطرًا لمواكبة الظروف، إذ أنّ ذلك هو السبيل لاستيعاب الأمّة والتاريخ دوافع هذا الخيار، فليس مِن الممكن أنْ يتفهّم التاريخ مغزى الاستشهاد لو كان الخيار الأوّل متاحًا، لذلك كان على الحسين (ع) أنْ يكشف للتاريخ سقوط الخيار الأوّل، وهكذا لو كان الخيار الثاني متاحًا فإنّ الأمّة والتاريخ لن يستوعبا موقفه واعتماده لخيار الاستشهاد، ذلك لأنّهما يحتملان قبول النظام الأموي بخيار الانصراف عن الكوفة دون بيعة، وحينئذ يتمكّن الحسين مِن استجماع قوّته معتمدًا على وجاهته ومركزه الديني والاجتماعي في الأمّة، ولذلك لم يكن مِن الممكن أن يتفهّم أحد العمليّة الفدائيّة التي أقدم عليها الحسين (ع) لو لم يسقط الخيار الثاني أيضًا.

          وبعد أن سقط الخيار الثاني لم يبقَ سوى خيارَيْن أحدهما يصرُّ عليه النظام الأموي ويصرُّ الحسين على رفضه وهو البيعة، والآخر يبتغيه الإمام الحسين ليضع بني أميّة في طريقٍ خاتمته الزوال والاندثار.

          والحمد لله ربِّ العالمين

          تعليق


          • #6
            ما هو دور بني عقيل في قرار الثورة





            السؤال الخامس:

            هل كان لبني عقيل دور في قرار الحرب؟



            الجواب:

            لم يكن لبني عقيل رضوان الله عليهم أيُّ دور في قرار الحرب، ومنشأ هذا الاستفهام هو ما نقله بعض المؤرِّخين من أن الحسين (ع) لما بلغه في "زرود" مقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة قال عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل الأسديان "ننشدك الله يا ابن رسول الله (ص) إلاَّ انصرفت مِن مكانك هذا فإنَّه ليس لك بالكوفة ناصر". فقام آل عقيل وقالوا لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا، فنظر إليهم الحسين (ع) وقال "لا خير في العيش بعد هؤلاء".

            هذا الحدث كما توهم البعض هو منشأ القرار باستمرار السير إلى الكوفة بعد أنْ لم يكن مِن مبرِّرٍ لذلك نظرًا لانكشاف خذلان أهل الكوفة للحسين (ع).

            إلاَّ أنَّه نقول إن هذا الخبر لو ثبت فإنَّه لا يعبِّر عن أن قرار استمرار المسير إلى الكوفة كان لغرض الانتقام لمقتل مسلم بن عقيل، وذلك يتضح من ملاحظة ما سبق هذا الحدث مِن أحداث ومواقف وملاحظة ما لحقته من أحداث ومواقف.

            فالحسين قد بلغه خذلان أهل الكوفة قبل أنْ يبلغه مقتل ابن عقيل ومع ذلك استمرَّ في عزمه على المسير إلى الكوفة، فقد بلغه في "الصفاح" أنَّ قلوب الناس معه وأنَّ سيوفهم مع بني أميَّة، أخبره بذلك الفرزدق ثمَّ أنَّه لمَّا بلغ "ذات عرق" لقيه بشر بن غالب فسأله الإمام عن أهل الكوفة فقال له: "السيوف مع بني أميَّة والقلوب معك" فعلَّق الإمام (ع) على ذلك بقوله: "صدقت".

            ونقل ابن كثير في البداية والنهاية عن محمَّد بن سعيد قال حدَّثنا موسى بن اسماعيل ثنا جعفر بن سليمان عن يزيد الرشك قال: حدَّثني مَن شافه الحسين قال: "رأيت أخبية مضروبة بفلاة مِن الأرض فقلت لمَن هذه؟ قالوا: هذه لحسين، قال: فأتيته فإذا شيخ يقرأ القرآن والدموع تسيل على خدَّيه ولحيته قال: قلت بأبي وأمِّي يا ابن بنت رسول الله (ص) ما أنزلك هذه الفلاة التي ليس بها أحد؟ فقال: هذه كتب أهل الكوفة إليَّ ولا أراهم إلا قاتلي.

            هذه بعض النصوص المؤكدة على أنَّ الحسين (ع) قد بلغه خذلان أهل الكوفة أو عدم قدرتهم على مؤازته ورغم ذلك استمرَّ في مسيره إليهم وهو ما يعبِّر عن أن المسير إليهم لم يكن لغرض الانتقام لمقتل مسلم بن عقيل لأنّه لم يُقتل بعدُ حينذاك، فلا بدَّ إذن مِن البحث عن المبرِّر الحقيقي لاستمرار الحسين (ع) في السير إلى أهل الكوفة رغم معرفته بخذلانهم أو عجزهم عن مؤازرته ومناصرته.

            هذا أوّلاً وثانيًا:

            إنّ ملاحظة المواقف والمحاورات والخطابات التي ألقاها الإمام الحسين (ع) في طريقه بعد "زرود" وفي كربلاء تؤكّد أنّ مقتل مسلم بن عقيل لم يكن له أيّ دور في قرار الاستمرار في المسير إلى العراق ومواجهة بني أميّة.

            فلم يكن مِنْ أثرٍ أو ذكر لهذا الغرض في جميع المحاورات والخطابات التي نقلها المؤرِّخون والرواة فلو كان الانتقام وأخذ الثأر لمسلم هو الدافع للحسين وأهل بيته على مواصلة السير إلى الكوفة أو كان هذا الغرض هو أحد الدوافع لظهر ذلك على لسان الإمام الحسين (ع) ولو بنحو مقتضب في حين أنّ المؤرِّخين لم ينقلوا لنا شيئًا مِن ذلك في حين أنّهم نقلوا لنا الكثير مِن كلمات الإمام الحسين المعبِّرة عن أهدافه مِن متابعة المسير إلى الكوفة وليس فيها ما يدلّ ولو بنحو الإشارة على أنّ الانتقام لمسلم هو أحد الدوافع.

            ولتوثيق ما ذكرناه ننقل لك بعض النصوص الموضِّحة لأهداف النهضة ومتابعة المسير إلى الكوفة.

            النصّ الأوّل: ذكر المؤرِّخون أنّ الحسين (ع) لمّا التقى بجيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ استقبلهم بعدما سقاهم فحمد الله وأثنى عليه وقال:

            "إنّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم وإنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت بها عليَّ رسلكم أنْ أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام، ولعلّ الله أن يجعلنا بك على الهدى، فإنْ كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئنّ به مِن عهودكم ومواثيقكم وإنْ كنتم لمقدمي كارهين انصرفتُ عنكم إلى المكان الذي جئتُ مِنه إليكم".

            ثمَّ أذّن المؤذِّن لصلاة الظهر فصلّى بهم الحسين (ع) صلاة الظهر وبعد أنْ فرغ مِن الصلاة قام فيهم خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ محمّد (ص) وقال:

            "أيّها الناس إنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل بيت محمّد (ص) أولى بولاية هذا الأمر مِن هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين بالجور والعدوان، وإنْ أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا وكان رأيكم على غير ما أتتني به كتبكم انصرفتُ عنكم".

            فقال الحرّ: "ما أدري ما هذه الكتب التي تذكرها"، فأمر الحسين عقبة بن سمعان فأخرج خرجَيْن مملوءَيْن كتبًا.

            فقال الحرّ إنّي لستُ مِن هؤلاء وإنّي أمرتُ أنَّ لا أفارقك إذا التقيت بك حتّى أقدمك الكوفة على ابن زياد. فقال الحسين: "الموت أدنى لك…".

            هذا النصّ يكشف لنا عن دوافع المسير إلى الكوفة وعن دوافع النهضة والخروج على بني أميّة.

            أمّا دوافع اختيار المصير إلى الكوفة دون غيرها مِن الأمصار فهي دعوة أهل الكوفة له وتأكيدهم له بواسطة رسلهم ورسائلهم أنّهم على استعداد تامّ لمؤازرته والوقوف معه في وجه النظام الأمويّ وأنّه جاء ليعتذر إلى الله عزّ وجلّ بعد تماميّة الحجّة لوجود الناصر حيث أنَّ الإمام مسئول أمام الله عزّ وجلّ عن مقارعة الظلم والفساد والسعي لاجتثاث أصوله عندما يتهيَّأ مَنْ بهم الكفاية لمؤازرته ومناصرته، فهو إنّما جاء لأداء وظيفته الإلهيّة، وهذا هو معنى قوله "معذرة إلى الله عزّ وجلّ".

            على أنَّ ثمّة غرض آخر لمجيء الإمام إلى أهل الكوفة وهو الاعتذار للأمّة والتاريخ، إذ لو لم يستجب لدعوات أهل الكوفة وكتبهم لأدانته الأمّة ولاتّهمه التاريخ بالتقاعس عن مسئوليّته الإلهيّة، فحتّى لو كان الحسين معذورًا عند الله عزّ وجلّ إلاّ أنّ الأمّة لن تقبل له عذرًا بعد أنْ تواترتْ عليه الكتب تلحُّ عليه بالنهوض لمواجهة الانحراف الخطير الذي داهم الأمّة نتيجة ما أحدثه النظام الأموي مِن عظائم الأمور، ولأنّه أراد أن يؤكّد لهم مشروعيّة النهوض وضرورته سعى إليهم رغم ما يُدركه مِن واقع حال أهل الكوفة، فلقد أفاد في موضع عندما نصحه عمرو بن لوذان بالرجوع إلى المدينة لأنَّ أهل الكوفة أهل غدر وخيانة قال (ع): "ليس يخفى عليَّ الرأي وأنَّ الله لا يغلب على أمره".

            فالحسين رغم معرفته بواقع حالهم ورغم ما بلغه مِن أخبارهم إلاّ أنّه أصرّ على إتمام الحُجّة لنفسه أمام الأمّة والتاريخ، وهذا هو معنى قوله: "إنّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم". وبعد أنْ تمّت له الحجّة عليهم أفاد (ع): "إنْ كنتم لمقدمي كارهين انصرفتُ عنكم". وذلك لا يعني الانصراف عن أصل المواجهة لبني أميّة وإنّما يعني استبدال هذا الخيار وهو الانتصار بأهل الكوفة إلى خيار آخر.

            وأمّا دوافع النهضة والخروج على بني أميّة فهي السياسة التي اعتمدتها في الأمّة، حيث كانت تعتمد الجور والعدوان وسيلة للهيمنة على رقاب الأمّة ومقدّراتها، وذلك يفرض على الأمّة مسئوليّة السعي مِن أجل القضاء على هذه الطغمة الفاسدة والعابثة بحقوق العباد ومصائرهم.

            ثمّ إنّ الإمام (ع) في هذا الخطاب يؤكّد أنَّ حقّ الولاية والإمامة ثابت لأهل بيت محمّد (ص) وإنَّ ذلك يعرف عندما تلتزم الأمّة طريق الاستقامة والتقوى وتتحرّى مواطن الرضوان الإلهي وأنَّ الأمّة عندما تتنكّب هذا الطريق تكون قد انحرفت عن مسار التقوى وتجاهلت حقًّا كان قد جعله الله عزّ وجلّ لأهل هذا البيت الطاهر، فلو كان للأمّة أنْ تعتذر عن تجاهلها لهذا الحقّ بأنّها لم تكن تدرك خطورة ما سيئول إليه الأمر نظرًا لما كان عليه القادة قبل بني أميّة مِن ظاهر الصلاح فإنَّ العذر بعد أنِ استبدّ بنو أميّة بالحكم قد انقطع، والرشد قد أصبح بيِّنًا فلم يبقَ عذر يُعتذر به عن السعي لإعادة الأمور إلى نصابها.

            وبهذا الخطاب يكون الحسين (ع) قد أوضح دوافع نهضته وأنّها تستهدف التصحيح لمسار الأمّة بالنحو الذي أراده الإسلام وأنَّ على الأمّة أنْ تقف معه في هذا السبيل.

            النصّ الثاني: ذكر المؤرّخون أنَّ الإمام الحسين (ع) خطب في أصحاب الحرّ في منطقة البيضة فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: "أيّها الناس إنَّ رسول الله (ص) قال: مَنْ رأى سلطانًا جائرًا مستحلاًّ لحرام الله ناكثًا عهده مخالفًا لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيِّر عليه بعمل ولا قول كان حقًّا على اله أن يدخله مدخله، ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ مَنْ غيّر، وقد أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم إنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني فإنْ أتممتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم ولكم فيّ أسوة، وإنْ لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخلعتم بيعتي مِن أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم، فالمغرور مَن اغترّ بكم فحظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيّعتم، ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

            في هذا الخطاب أوضح الحسين (ع) ما كان أجمله في خطابه الأوّل وأنَّ خروجه على بني أميّة لم يكن استجابة لدعوات الكوفة وإنّما هو امتثال لأمر الله ورسوله (ص)، ولذلك استشهد بقول رسول الله (ص) ثمَّ طبّق الفرضيّة التي جاءت في حديث رسول الله (ص) على واقع الأمّة، وأفاد بأنّه أجدر الناس بامتثال ما جاء في كلام رسول الله (ص) مِن الأمر بالتصدّي للتغيير.

            فإذن هذا هو ما استهدفه الإمام الحسين (ع) حين عقد العزم على مواجهة بني أميّة فلم يكن خروجه على بني أميّة استجابة لدعوات أهل الكوفة نعم خيار المصير إلى أهل الكوفة دون غيرهم كان نتيجةً لدعوتهم إيّاه وزعمهم له أنّهم على استعداد لمؤازرته ومناصرته ولهذا قصدهم وألحّ في المسير إليهم لِيُتمَّ لنفسه الحجّة عليهم وليعتذر لنفسه أمام الله عزّ وجلّ وأمام الأمّة والتاريخ، وبعدئذٍ يختطّ لنفسه طريقًا لم يكن سواه سبيلاً لتصحيح مسار الأمّة ألا وهو الاستشهاد.

            وبهذا النصّ والذي قبله ونصوص أخرى كثيرة صدرت بعده تُبيِّن دوافع النهضة ودوافع المصير إلى أهل الكوفة، وتلاحظون أنّه ليس فيما بيَّنه الإمام مِن دوافع أيّ أثر أو ذكر كما توهّمه البعض مِن أنَّ منشأ إصراره على المصير إلى أهل الكوفة هو الانتقام لمقتل مسلم بن عقيل.

            وحتّى تتوثّق مِن صحّة ما ذكرناه يمكن مراجعة جميع الخطب التي ألقاها الإمام الحسين (ع) قبيل يوم العاشر وفي اليوم العاشر ولولا خشية الإطالة لاستعرضناها بكاملها. هذا ثانيًا.

            وأمّا ثالثًا: فمِن السفاهة بمكان توهّم هذا الأمر، حيث هو يعبِّر عن الجهل بسموّ نفسيّة الحسين وحصافة عقله والذي هو مورد وفاق بين الأمّة، وإذا كان الأمر كذلك فهل يتعقّل أن يسفك الحسين دمه ودم أولاده وإخوته وبني عمومته ويعرِّض نساءه وبناته لكلّ هذه الصعوبات ثمّ يكون غرضه مِن كلّ ذلك الانتقام لمقتل مسلم بن عقيل، فهل فقد الحسين صوابه أم لم يكن متشرِّعًا وعارفًا بحرمة إلقاء النفس في التهلكة ألم تكن الإخبارات الكثيرة التي بلغته بخذلان أهل الكوفة له أو بعجزهم عن مناصرته كافية ليصدّه عن المصير إليهم لو لم يكن ثمّة هدف سامٍ دفع بالحسين نحو تعريض نفسه وعيالاته للموت، وقد صرّح الحسين أنَّ الأمر لم يكن ليخفى عليه إلاّ أنّه "لم يعتد مَن كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته".

            ثمّ إنّه وبعد أنْ تبيّن فساد ما توهّمه البعض مِن أنَّ منشأ الإصرار على المسير إلى الكوفة هوالانتقام لمقتل مسلم بن عقيل نرى مِن المناسب الوقوف قليلاً مع النصّ التاريخي الذي كان هو منشأ التوهّم المذكور فنقول:

            إنّ الشيء الذي لا ريب فيه هو أنَّ بني عقيل حينما خرجوا مع الحسين (ع) إلى الكوفة كانت غايتهم واقعة في صراط الغايات التي مِن أجلها خرج الحسين (ع) وإلاّ لما كانوا قد خرجوا معه، فبنو هاشم كانوا كثيرين إلاّ أنّهم لم يخرجوا مع الحسين (ع) وتخلّفوا عنه في مكّة والمدينة بعذر وبغير عذر فالذين رحلوا مع الحسين (ع) مِن بني هاشم كانوا على يقين بسلامة موقف الحسين فلم يجعلوا لأنفسهم خيارًا في مقابل الخيار الذي اختاره لهم الحسين (ع) فهم طوعُ أمره ورهن إشارته.

            هكذا كان بنو هاشم وهكذا كان بنو عقيل، وأمّا قيامهم عند سماعهم بمقتل أخيهم وقولهم أنّهم لا يبرحون حتّى يأخذوا بثأره أو يذوقون الموت دون ذلك فهو قد نشأ عن شدّة تأثّرهم بالخبر، فقد كان مفاجئًا بالنسبة لهم ومفجعًا ومهولاً حيث بلغهم أنّ جسده قد رُمي به مِن أعلى القصر ثمّ طافوا به في الأسواق وبعد ذلك احتزَّ بنو أميّة رأسه وبعثوا به إلى الشام.

            ولهذا كان وقع الخبر على قلوبهم شديدًا فقد ارتجّت له مشاعرهم وتحرّكت به حميّتهم، وذلك هو الذي أنتج ردّة الفعل الجامحة التي عبّر عنها بنو عقيل بهذه الكلمات، ولم يكن مِن المناسب في مثل هذه اللحظة القاسية سوى تسليتهم والتعبير عن مواساتهم بالنحو الذي يتناسب وحجم الغيظ الذي انتابهم، مِن هنا جاءت كلمات الحسين متناغمة ومستوى الشعور الذي تملّكهم وأفاد "أنّه لا خير في العيش بعد هؤلاء".

            فما أفاده الحسين (ع) كان لغرض التعبير عن موقع بني عقيل مِن قلبه وأنّهم لحمته وخاصّته، وأنّ دمهم مِن دمه فهو لا يشحّ به عليهم، وبذلك سكنتْ خواطرهم، إذ هم أحوج ما يكون في تلك اللحظة إلى هذه المؤازرة والمشاطرة مِن شيخهم ومصدر عزِّهم.

            هذا كلّ ما في الأمر وظلَّ الهدف مِن الخروج على بني أميّة وإلى أهل الكوفة بعد الخبر –بعد خبر مسلم- هو عينه الهدف الذي مِن أجله خرج الحسين (ع) إلى العراق ولهذا لا تجد اختلافًا في خطابات الحسين المتصدِّية لبيان أهداف النهضة والمتصدِّية لبيان أهداف المصير إلى العراق، فهي على نسق واحد منذ أنْ خرج مِن مكّة وإلى أنْ وصل كربلاء وهي بمرأى ومسمع مِن بني عقيل فلم يستدرك عليه أحد ليذكِّره بأنَّ واحدًا مِن دوافع المصير إلى الكوفة هو الانتقام لمسلم ممّا يعبِّر عن أنَّ ذلك لم يكن غرضهم فضلاً عن كونه غرضًا للحسين (ع) فلم يكن موقفهم حينذاك إلاّ انسياقًا مع مقتضيات العاطفة والشعور بالألم. ويمكن تأكيد ذلك بنصّ ذكره المؤرِّخون وهو أنَّ الحسين في ليلة العاشر أذن لبني عقيل بالانصراف وقال لهم حسبكم مِن القتل بمسلم، فلم يكن جوابهم أنّنا لا نبرح حتّى ندرك ثارنا أو نذوق الموت دون ذلك بل كان جوابهم معبِّرًا عن انقيادهم لشيخهم وسيِّدهم ولم يكن لقضيّة مسلم أيّ ذكر في كلامهم، وكلّ ما أفادوه هو أنّهم على استعدادٍ للتضحية بأرواحهم وأموالهم وأهليهم وأنّهم يطمحون في أنْ يردوا مورده ثمّ قالوا قبّح الله العيش بعدك.

            والحمد لله ربِّ العالمين

            تعليق


            • #7
              لماذا لم يعمل الحسين بالتقية





              السؤال السادس:

              لماذا لم يعمل الإمام الحسين (ع) بالتقيَّة؟ أليست ثورته إلقاءً للنفس في التهلكة؟



              الجواب:

              لم يكن الظرف الذي عايشه الإمام الحسين (ع) موردًا للتقيَّة، ذلك لأنَّ تشريع التقيَّة منوط بأمورٍ كثيرة مذكورةٍ في كتب الفقه أهمُّها هو أنْ لا يترتَّب على التزام التقيَّة مفسدة أكبر مِن عدم التزامها.

              بمعنى أنَّه لو كان في التزام التقيَّة مفسدة تفوق المفسدة المترتِّبة على ترك التقيَّة فإنَّ التقيَّة حينئذٍ لا تكون مشروعة.

              فلو دار الأمر بين التحفُّظ على النفس مِن الهلاك وبذلك تنطمسُ معالمُ الإسلام أو يدخلُ الوهن الشديد عليه، وبين تعريض النفس للموت فتبقى معالم الإسلام واضحة دون أنْ يمسَّها اندثار أو يدخلها الوهن فإنَّ التحفُّظ على النفس تقيَّة في الفرض المذكور غيرُ مشروع بضرورة الفقه، ذلك لأنَّ أبرز ملاكات جعل التقيَّة وتشريعها هو حفظ معالم الإسلام عن أنْ تكون في معرض الاندثار أو أنْ يدخل عليها أو على حملتها الوهن الشديد، فإذا لزم مِن التقيَّة ذلك فإنَّ تشريعها يكون مِن نقض الغرض.

              لذلك لا يصحُّ الاستدلال بحكومة أدلَّة التقيَّة على الأدلَّة الأوليَّة القاضية بوجوب حماية الشريعة ، لأنَّ أدلَّة التقيَّة الحاكمة على الأدلَّة الأوَّليَّة قاصرة عن الشمول لمورد البحث. لاستلزام القول بحكومتها في مورد البحث لنقض الغرض مِن تشريع التقيَّة.

              ولذلك يكون وجوب حماية الشريعة غير محكوم بأدلَّة التقيَّة كما هو ليس محكومًا بقاعدة نفي الضرر والحرج بنفس التقريب، وهو قصور القاعدة عن الشمول للفرض المذكور، إذ أنَّ قاعدة نفي الضرر والحرج سيقت لغرض التحفُّظ على ما هو أهمّ ملاكًا، فإذا كان التحفُّظ على النفس أو المال يُفضي لفوات ما هو أهمّ ملاكًا فإنَّ تشريع القاعدة يكون مِن نقض الغرض، وهذا هو ما يوجب استظهار قصور القاعدة عن الشمول للمورد المذكور حيث افترضنا فيه أنَّ ملاحظة الضرر أو الحرج أو التقيَّة يُنتج فوات ما هو أهمّ ملاكًا بنظر الشريعة والذي هو التحفُّظ على معالم الإسلام وأصوله عن أنْ تكون في معرض الاندثار.

              إذا اتَّضح ما ذكرناه يتَّضح أنَّ موقف الإمام الحسين (ع) لم يكن منافيًا للتقيَّة لأنَّ ظرفه لم يكن موردًا للتقيَّة، إذ أنَّه لو عمل بالتقيَّة فقبل البيعةَ ولم يخرج على يزيد فإنَّ النتيجة المترتِّبة على ذلك هي استمرار النظام الأموي في مخطَّطه الرامي لطمس معالم الإسلام الأساسيَّة، وذلك تحت غطاءٍ شرعي دثَّر به نفسه.

              وبيان ذلك:

              إنَّ النظام الأموي قد روَّج – وبواسطة المتزلِّفين مِن الرواة - أحاديث عن الرسول (ص) مفادها وجوب طاعة أولي الأمر وإنْ جاروا وظلموا وأظهروا الفسوق والمعاصي واستأثروا بالفيء وعبثوا في مقدَّرات الناس، وإنَّه لا يجوز الخروج عليهم وشقّ عصا الطاعة بل يجب أداء حقّهم دون مطالبتهم بالحقّ الذي عليهم وإنَّما هو الصبر والاحتساب.

              هذا ما روَّجه بنو أُميَّة لغرض تخدير الأمَّة ليضمنوا بذلك بقاء سلطانهم، وحينئذٍ يتهيَّأُ لهم تمرير مخطَّطاتهم الرامية لإعادة الأمَّة إلى الجاهليَّة الأولى.

              لذلك لم يكن مِن طريق لإيقاظ الأمَّة وحماية خطِّها الرسالي الذي يراد له الامتداد والاستمرار إلاَّ أنْ ينبري رجل هو بحجم الحسين (ع) ليعلن أنَّ ما يروِّجه الجهاز الأموي مِن وجوب طاعة السلطان الجائر ليس مِن الإسلام في شيء، فلقد كانت الأمَّة تثق في الحسين (ع) وبمعرفته التامَّة بمبادئ الإسلام وبسنَّة رسول الله (ص)، فلو كان الأمر كما ينقله الرواة المتزلِّفون عن رسول الله (ص) لكان الحسين (ع) هو أعرف الناس بذلك، فإعلانه الثورة على النظام الأموي تعبير واضح عن تكذيب ما يتناقله الرواة عن رسول الله (ص).

              ولم يكن بوسع الحسين (ع) أنْ يوصل صوته لجميع الأمَّة ولمستقبلها لو اكتفى بالتكذيب القولي، ذلك لأنَّ مِن اليسير على الطغمة الأمويَّة التعتيم على الحقائق بعد أنْ كانت مقدَّرات الأمَّة كلّها بأيديهم، فالحواضر الإسلاميَّة بأسرها كانت تحت نظارتهم وفي قبضتهم، فَهُم الذين يختارون الولاة وإمام الحاج والقضاة والوعّاظ، وقد كانوا يبذلون الأموال الكثيرة للذين يضعون الأحاديث المناسبة لهواهم ومصالحهم.

              فليس ثمَّة مِن وسيلة قادرة على الوصول لجميع مسامع الأمَّة وقادرة على الصمود أمام التعتيم الإعلامي سوى ثورة مجلجلة ومدوِّيَّة يكون رائدها رجل هو ألصق الناس برسول الله (ص) وأعلمهم بما جاء عنه.

              أعتقد أنَّ القارئ الكريم يدرك مستوى الخطورة المترتِّبة على تأصيل المفهوم الذي روَّج له بنو أميَّة، وهو وجوب الطاعة للسلطان وإنْ جار وظلم وأشاع الفساد والضلال، ذلك لأنَّ هذا المفهوم يهدِّد بتقويض كلّ بُنَى الإسلام وقيمه، حيث أنَّ للسلطان ممارسة دور التضليل والتجهيل وترويج المفاهيم المنافية للدين وتأصيلها بواسطة الوسائل الكثيرة المتاحة له ولا يجد مَنْ يقف في وجهه، ذلك لأنَّ المفترض أنَّ الوقوف في وجهه ينافي وجوب الطاعة المفروضة على الأمَّة. وبذلك يسير النظام الفاسد بالأمَّة نحو الانحدار تدريجيًّا حتًّى يصل الأمر إلى حدٍّ تكون الأمَّة قد فقدت هويَّتها ولم يبقَ عندها مِن الإسلام إلاَّ اسمه.

              وهكذا الحال فيما يتَّصل بالجانب القيمي والأخلاقي فإنَّه لمَّا كان قادرًا على تسخير كلّ وسائل الإغراء والانحلال والتفسيق وإشاعة الفاحشة مع تعطيل الحدود والتعزيرات في الوقت الذي لا يخشى مِن المواجهة بعد افتراض وجوب الطاعة فإنَّ مصير الأمَّة عندئذٍ هو التحلُّل تدريجيًّا مِن كلِّ القيم والمبادئ الأخلاقيَّة التي حرص الإسلام على تمثُّلها والعمل وفق ضوابطها.

              وإذا قيل أنَّ وجوب الطاعة لا يعني إلغاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنَّ للعلماء أنْ يمارسوا هذا الدور ويعرِّفوا الناس معالم الإسلام.

              قلنا: إنَّ العلماء مهما بذلوا مِن جهد فإنَّهم لن يمتلكوا الوسائل التي يمتلكها السلطان بعد أنْ كان زمام الأمور بيده وخزائن الأمَّة في قبضته، وبعد أنْ كان على الناس أنْ توفِّيه حقَّه دون أنْ تكون لهم المطالبة بحقوقهم، فالزكوات والخراج وموارد البلاد إنَّما تجبى للسلطان، فله أنْ يعطي مَنْ يشاء ويمنع مَنْ يشاء، على أنَّ له أنْ يمنع العلماء عن الجأر بالحقِّ أو يضيِّق عليهم، وليس لهم حينئذٍ أنْ يشقُّوا عصا الطاعة.

              فلو أنَّ السلطان أغفلهم بل لو أذن لهم أنْ يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ومارس في المقابل دور التضليل والتجهيل وإشاعة الفساد فإنَّ أثر دوره سيكون أبلغ، ذلك لامتلاكه كلَّ منابع القوَّة القادرة على تمرير كلِّ مخطَّطاته ومآربه، كيف والحال أنَّ له أنْ يمنع العلماء عن ممارسة دورهم أو يُضيِّق عليهم في ذلك.

              إذن فالنتيجة أنَّ بني أميَّة لو لم يمارسوا سوى دور التأصيل لمفهوم وجوب الطاعة للسلطان واعتبار ذلك مِن الدين لكان ذلك كافيًا في تعريض كلِّ مبادئ الإسلام وقيمه للخطر الحتمي.

              فلو أنَّهم لم يكذبوا على رسول الله (ص) إلاَّ هذه الكذبة والتزموا في المقابل بكلِّ ما جاء به الإسلام مِن قيم ومبادئ فلم يختلقوا على رسول الله (ص) الأباطيل، ولم يسيئوا إلى مقامه ولم يحرِّفوا عقائد الإسلام، ولم يعبثوا في أحكام الله عزَّ وجلَّ، ولم يستأثروا بالفيء لهم ولأعوانهم، ولم يعطِّلوا الحدود، ولم يشيعوا الفاحشة والفسوق بين الناس، ولم يثيروا الفتن والأضغان القبليَّة، ولم يمكِّنوا ولاتهم مِن رقاب المسلمين، ولم يسفكوا الدم الحرام، لو لم يفعلوا كلَّ ذلك واكتفوا بالتأكيد على أنَّ رسول الله (ص) قد نهى عن الخروج على السلطان الجائر وألزم الأمَّة بوجوب طاعته واختلقوا لذلك الأحاديث الكثيرة بواسطة الرواة الذين يظهرون التديَّن والنسك واستطاعوا أنْ يؤصِّلوا هذا المفهوم في نفوس الأمَّة.

              لو لم يكن إلاَّ ذلك لكان الأمر مستوجبًا لتصحيح هذا الانحراف الذي يُهدِّد بتقويض كلِّ معالم الإسلام، كيف والحال أنَّهم اقترفوا كلَّ هذه العظائم التي أشرنا إليها متخندقين بأسطورة زعموا أنَّ رسول الله (ص) قد أكَّد عليها واعتبر الخارج عليها باغيًا وشاقًّا لعصا المسلمين ومريدًا لإحداث فتنة في الأمَّة، وهي أعظم جناية يمكن أنْ يرتكبها مسلم في حقِّ ربِّه ودينه، لذلك لم يكن ليجرأ أحد على أنْ يوصم بكلِّ هذه الخصال.

              فلا بدَّ وأنْ ينهض بهذا الأمر رجل يصعب على بني أميَّة وصمه بذلك كما يصعب على الأمَّة أنْ تسِمه بذلك، وحينئذٍ تتبدَّد الأسطورة وينفتح بذلك طريق النضال الذي أوصده النظام الأموي بذريعةٍ هي بالغة في الاستحكام.

              وبنظري أنَّ أعظم أثرٍ ترتَّب عن ثورة الحسين (ع) هو هذا الأثر، إذ لولاها لتمكَّن بنو أميَّة مِن تمرير كلِّ مخطَّطاتهم الرامية لطمس معالم الإسلام، ذلك لأنَّ نهضته (ع) أوهنت القاعدة التي اعتمدها النظام الأموي لغرض استمرار هيمنته على مقدَّرات الأمَّة، وانفتح بذلك الطريق أمام المناضلين والثوَّار، فليس عليهم مِن حرج عندما يزمعون الخروج على أيِّ نظام فاسد.

              وإذا اتَّضح ما ذكرناه يتبيَّن أنَّ ظرف الحسين (ع) لم يكن موردًا للتقيَّة وأنَّ إيقاع النفس في التهلكة وإنْ كان متحقِّقًا في مثل نهضته إلاَّ أنَّه ليس مِن غضاضة في ذلك بعد أنْ كان بقاء الإسلام حيًّا نابضًا في ضمير الأمَّة هو الأثر المترتِّب على إيقاع النفس في التهلكة.

              والحمد لله ربِّ العالمين

              تعليق


              • #8
                هل الشيعة هم مَن قتل الحسين (ع) !!





                السؤال السابع:

                ما هو ردُّكم على مَنْ يدَّعي أنَّ مَنْ قتل الحسين (ع) هم الشيعة؟



                الجواب:

                لم يكن فيمَن ساهم في قتل الحسين (ع) أحد مِن الشيعة، فإنَّ لمفهوم التشيُّع معنى واضحًا ومحدَّدًا ولم يكن هذا المفهوم ينطبق على واحدٍ ممَّن شارك في قتل الحسين (ع) فضلاً عن دعوى أنَّ كلّ مَنْ شارك في قتله كان مِن الشيعة.

                فهذه الدعوى تعدُّ جناية على التاريخ ومجافاة للحقيقة وتضليلاً للرأي العامّ، ولا يخفى على كلِّ مَنْ له أدنى معرفة بوقائع التاريخ أنَّ منشأ هذه الدعوى هو الأضغان الكامنة في القلوب والحيرة في تفسير واقع استعصى على القوم تبريره بما يتناسب والمتبنَّيات التي تمسَّكوا بها وجهدوا مِن أجل الانتصار لها فجنحت بهم عن الحقِّ فظهروا في مظهرٍ يأبى كلُّ عاقل أنْ يظهر به، فلا لمآربهم بلغوا ولا بصوابهم احتفظوا، فهم كالتي نقضت غزلها مِن بعد قوَّة أنكاثًا.

                فتلك كمائن القلوب لا تدع لواجدها سبيلاً لإخفائها، ورغم ذلك فنحن سنجيب عن هذه الشبهة وذلك بواسطة إيقاف القارئ على هويَّة مَنْ شارك في قتل الحسين (ع) فنقول إنَّه يمكن تصنيفهم إلى أربع طوائف:

                الطائفة الأولى: كانوا مٍِن الخوارج أو مَن ينحو نحوهم في الاعتقاد بخروج الحسين (ع) عن الإسلام أو أنَّه كان مخطئًا وعاصيًا –والعياذ بالله-، ويتَّضح ذلك مِن ملاحظة كلمات بعض مَنْ شارك في المعسكر الأموي الذي قاتل الحسين (ع) يوم العاشر، ونذكر لذلك بعض النماذج:

                النموذج الأوَّل: ما ذكره ابن الأثير في الكامل وذكره آخرون أيضًا أنَّ القوم لمَّا أقبلوا يزحفون نحو الحسين (ع) كان فيهم عبد الله بن حوزة التميمي، فصاح أفيكم حسين؟ وفي الثالثة قال أصحاب الحسين (ع): هذا الحسين فما تريد منه؟ قال: يا حسين أبشر بالنار، قال الحسين (ع): كذبت بل أقدم على ربٍّ غفور كريم مطاع شفيع فمَن أنت؟ قال أنا ابن حوزة فرفع الحسين (ع) يديه حتَّى بان بياض إبطيه وقال: اللهمَّ حزه إلى النار، فغضب ابن حوزة وأقحم الفرس إليه...".

                هذا نموذج يعبِّر عن رأي بعض مَن كان في معسكر عمر بن سعد في الحسين (ع) وأنَّه بنظرهم مستحقٌّ للنار. وليس ثمَّة أحد مِن المسلمين يرى هذا الرأي سوى الخوارج ومَن ينحو نحوهم.

                النموذج الثاني: ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية "وكان عمرو بن الحجَّاج –وهو مِن القوَّاد في المعسكر الأموي الذي قاتل الحسين (ع)- قال لأصحابه يوم العاشر "قاتلوا مَن مرق عن الدين وفارق الجماعة، فصاح الحسين (ع) "ويحك يا عمرو أعليَّ تحرِّض الناس؟ أنحن مرقنا مِن الدين وأنت تقيم عليه؟ ستعلمون إذا فارقت أرواحنا أجسادنا مَن أولى بصلي النار".

                وهذا النموذج أبلغ مِن الأوَّل حيث صرَّح فيه ابن الحجَّاج عن رأيه في الحسين (ع) وأصحابه وأنَّهم مرقوا مِن الدين، ويبدو أنَّ هذا الشعار كان يستهوي القوم وإلاَّ لما استعمله ابن الحجَّاج لتحفيز العزائم، وهو ما يعبِّر عن أنَّ شريحة كبيرة في المعسكر الأموي كانت ترى هذا الرأي في الحسين (ع).

                النموذج الثالث: ما ذكره الطبري في تاريخه وروى عن الضحَّاك المشرقي قال: لمَّا أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنَّا ألهبنا فيه النار.. إذ أقبل رجل يركض على فرس كامل الأداة.. فنادى بأعلى صوته: "يا حسين استعجلت النار في الدنيا قبل نار القيامة" فقال الحسين (ع): "مَن هذا كأنَّه شمر بن ذي الجوشن فقالوا نعم أصلحك الله هو هو...".

                وهذا النموذج يعبِّر عمَّا ذكرناه مِن أنَّ رأي بعض مَن شارك في قتل الحسين (ع) هو رأي الخوارج.

                النموذج الرابع: وروي عن الضحَّاك بن عبد الله المشرقي قال: "فلمَّا أمسى حسين وأصحابه قاموا الليل كلّه يصلُّون ويستغفرون ويدعون ويتضرَّعون قال فتمرُّ بنا خيل لهم تحرسنا وأنَّ حسينًا ليقرأ (( ولا يحسبنَّ الذين كفروا أنَّما نملي لهم خير لأنفسهم إنَّما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذاب مهين، ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتَّى يميز الخبيث مِن الطيِّب )) فسمعها رجل مِن تلك الخيل التي كانت تحرسنا فقال نحن وربِّ الكعبة الطيِّبون ميزنا منكم..."

                وهذا النموذج يعبِّر عن أنَّ بعض مَنْ كان في المعسكر الأموي يرون أنَّهم على صوابٍ في موقفهم وأنَّهم الطيِّبون وأنَّ مَنْ يواجهونهم هم الخبيثون وهو ما يعبِّر عن رؤيتهم في قتل الحسين (ع) وأنَّه مِن الطاعات والقربات.

                النموذج الخامس: قال حميد بن مسلم: "... فلمَّا رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي قال للحسين: يا أبا عبد الله نفسي لك الفداء... وأحبُّ أنْ ألقى ربِّي وقد صلَّيتُ هذه الصلاة التي دنا وقتها قال فرفع الحسين رأسه ثمَّ قال ذكرت الصلاة جعلك الله مِن الذاكرين نعم هذا أوَّل وقتها ثمَّ قال سلوهم أنْ يكفُّوا عنَّا حتَّى نصلِّي فقال لهم الحصين بن تميم إنَّها لا تقبل فقال له حبيب بن مظاهر لا تقبل! زعمت الصلاة مِن آل رسول الله لا تقبل...".

                هذا نموذج آخر يعبِّر عن رأيهم في الحسين (ع) وموقفه.

                النموذج السادس: ما رواه الطبري أنَّ حميد بن مسلم قال: ثمَّ أنَّ عمر بن سعد نهض إليه عشيَّة الخميس لتسع مضين مِن المحرَّم ونادى: يا خيل الله اركبي وأبشري...".

                وهذا النصُّ مِن أبلغ النصوص على ما ندَّعيه، فعمر بن سعد وإنْ لم يكن يعتقد بما يقول إلاَّ أنَّه استخدم هذا الشعار لتعبئة جيشه واستنهاض عزائمهم لمعرفته بما انطوت عليه ضمائرهم مِن اعتقاد بأنَّ حرب الحسين (ع) يقع في سياق الطاعات والقربات، وليس مَنْ يعتقد ذلك إلاَّ الخوارج أو مَنْ ينحو نحوهم.

                وثمَّة نماذج أخرى يقف عليها مَن يطَّلع على المصادر التي تصدَّت لتفاصيل مقتل الحسين (ع).

                الطائفة الثانية: كانوا ممَّن غرَّتهم الدنيا وطمعوا في الحظوة مِن يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد، وهؤلاء وإنْ كان منهم مَن يعرف مقام الحسين (ع) وأنَّه لا يحلُّ لهم استباحة دمه إلاَّ أنَّهم لا يكترثون بذلك، ويمكن الاستشهاد لذلك بمجموعة مِن المواقف التي ذكرها المؤرِّخون:

                الموقف الأوَّل: ما ذكره الطبري وابن الأثير في الكامل وابن الجوزي في المنتظم، وغيرهم "إنَّ عمر بن سعد تقدَّم نحو عسكر الحسين (ع) ورمى بسهم وقال: اشهدوا لي عند الأمير أنِّي أوَّل مَن رمى ثمَّ رمى الناس...".

                هذا الموقف يعبِّر أبلغ تعبير عن مدى حرص ابن سعد على أنْ يكون في الموقع القريب مِن ابن زياد وأيَّ شيء يبتغيه ابن سعد مِن ذلك غير الدنيا التي توهَّم أنَّ أزمَّتها بيد ابن زيادٍ وأميره يزيد بن معاوية، فهو يخشى أنْ يتَّهمه ابن زياد بالتلكُّؤ ويطمح بأنْ يبلغ أكمل الرضا بموقفه هذا.

                ولذلك بالغ في أنْ يتمثَّل أوامر ابن زياد على أكمل وجه، حيث أمره فيما أمره "أمَّا بعد... فإنْ قتل حسينًا فأوطئ الخيل صدره وظهره ولست أرى أنَّه يضرُّ بعد الموت ولكن عليَّ قول قلته لو قتلته لفعلت هذا به فإنْ أنت فعلت هذا به جزيناك جزاء السامع المطيع، وإنْ أبيت فاعتزل عملنا...".

                وقد امتثل ابن سعد ذلك، فقد ذكر المؤرِّخون منهم الطبري وابن الأثير وابن كثير "ونادى ابن سعد ألا مَن ينتدب إلى الحسين فيوطئ الخيل صدره وظهره فقام عشرة... فداسوا بخيولهم جسد الحسين "(ع) ثمَّ أمر بقطع رأسه ورؤوس أصحابه وسرح بهم إلى ابن زياد...".

                كلُّ ذلك حرصًا مِنه على الدنيا وخشيةً مِن زوال حطامها مِنه.

                ولقد ذكر المؤرِّخون الحوار الذي دار بين ابن سعد وابن زياد حيث كان قد أمَّره على أربعة آلاف يسير بهم إلى "دستبي" لأنَّ الديلم قد غلبوا عليها وكتب له عهدًا بولاية الري وثغر دستبي والديلم، فلمَّا بلغ الحسين (ع) كربلاء أمره بأنْ يخرج بالجيش إلى كربلاء فاستعفاه فاستردَّ ابن زياد العهد مِنه واستمهله ليلته... وعند الصباح أتى بان زياد وقال إنَّك وليتني هذا العمل وسمع به الناس فأنفذني له وابعث إلى الحسين مَن لست أغنى في الحرب مِنه، فقال ابن زياد لست أستأمرك فيمَن أريد أنْ أبعث فإنْ سرت بجندنا وإلاَّ فابعث إلينا عهدنا فلمَّا رآه ملحًّا قال إنِّي سائر".

                الموقف الثاني: ذكره ابن الأثير في الكامل قال: قال مسروق بن وائل الحضرمي: "كنت في أوَّل الخيل التي تقدَّمت لحرب الحسين لعلِّي أصيب رأس الحسين (ع) فأحظى به عند بان زياد...".

                الموقف الثالث: ما ذكره الطبري أنَّ خولِّي جاء برأس الحسين (ع) إلى القصر فوجد باب القصر مغلقًا فأتى منزله فوضعه تحت اجَّانه، وكانت له زوجة اسمها النوار بنت مالك فقالت له ما الخبر؟ ما عندك؟! قال خولِّي: "جئتك بغنى الدهر هذا رأس الحسين معك في الدار...".

                الموقف الرابع: وفي العقد الفريد أنَّ خولي بن يزيد الأصبحي جاء بالرأس الشريف إلى ابن زياد وقال له:

                املأ ركابي فضَّة أو ذهبـا



                إنِّي قتلتُ السيِّد المحجَّبــا


                وذكر ابن الأثير أنَّ الذي قال ذلك هو سنان بن أنس، وفي كشف الغمَّة ومقتل الخوارزمي هو بشر بن مالك، وفي بعض المصادر أنَّ القائل هو الشمر.

                الموقف الخامس: ذكره الخوارزمي في مقتل الحسين أنَّ الذين وطأوا جسد الحسين (ع) وهم عشرة أقبلوا إلى ابن زياد يقدمهم أسير بن مالك وهو يرتجز:

                نحن رضننا الصدر بعد الظهر

                بكلِّ يعبوبٍ شديد الأسـر


                فأمر لهم بجائزة يسيرة.

                الموقف السادس: ذكره الطبري وجمع مِن المؤرِّخين قال: " ولمَّا قتل الحسين بن علي (ع) جيء برأسه وبرؤوس مَن قتل معه مِن أهل بيته وشيعته وأنصاره إلى عبيد الله بن زياد فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسًا وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسًا وجاءت بنو أسد بستَّة أرؤس، وجاءت مذحج بسبعة أرؤس، وجاء سائر الجيش بسبعة أرؤس فذلك سبعون رأسًا...".

                تقسيم الرؤوس بهذه الطريقة يعبِّر عن حرص القبائل التي شاركت في قتل الحسين (ع) على أنْ تحظى بالرضا مِن ابن زياد.

                وكيف يكون هؤلاء مِن الشيعة؟! هل لأنَّهم مِن الكوفة أو لأنَّهم كانوا في جيش علي (ع) عندما كان خليفة؟

                سيتَّضح فيما سنذكره لاحقًا أنَّ أكثريَّة أهل الكوفة لم يكونوا مِن الشيعة آنذاك وأنَّ مشاركة الكثير مِنهم في جيش علي (ع) كان منشؤه أنَّ عليًّا (ع) كان في موقع الخلافة.

                الطائفة الثالثة: كانوا ممَّن يحملون ضغنًا وحقدًا على الحسين (ع) فكانت مشاركتهم بدافع التشفِّي والانتصار لأضغانٍ كانوا يكتوون بها.

                ويمكن الاستشهاد لذلك بمجموعة مِن المواقف تناقلتها كتب التأريخ:

                النموذج الأوَّل: ما ذكره الطبري وغيره أنَّ عليّ بن الحسين الأكبر لمَّا كان في المعركة أبصره مرَّة بن منقذ العبدي فقال: "عليَّ آثام العرب إنْ لم أثكل أباه به فطعنه بالرمح في ظهره وضربه بالسيف على رأسه ففلق هامته".

                هذا الموقف كما تلاحظون يعبِّر عن مستوى الغيظ الذي يحمله هذا الرجل على الحسين (ع)، فكان الدافع مِن اغتياله لعلي الأكبر هو إدخال الحزن والأسى في قلب الحسين (ع).

                النموذج الثاني: ذكره الطبري وآخرون أنَّ شمر بن ذي الجوشن حمل حتَّى طعن فسطاط الحسين برمحه ونادى عليَّ بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله قال فصاح النساء وخرجن مِن الفسطاط، قال وصاح به الحسين يا ابن ذي الجوشن أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي! حرَّقك الله بالنار.

                ولم يكن عمر بن سعد أحسن حالاً مِن الشمر، فقد أمر كما يذكر الطبري وغيره بإحراق خيم الحسين (ع) فأحرِقت.

                ولا أظنُّ أنَّنا بحاجة للتعليق على هذا الموقف فَقَدْ فَقَدَ القوم صوابهم فأخذوا يعبِّرون عمَّا اكتوت به ضمائرهم بأقبح تعبير.

                النموذج الرابع: ذكر أبو الفرج الأصفهاني "أنَّ الحسين جعل يطلب الماء وشمر يقول له والله لا ترده أو ترد النار، فقال له رجل ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنَّه بطون الحيَّات! والله لا تذوقه أو تموت عطشًا، فقال: الحسين اللهمَّ أمته عطشًا".

                هذه بعض النماذج المعبِّرة عن ما كان يكنُّه قتلة الحسين (ع) مِن ضغن بلغ مداه فأفصحت عنه قسوة لم يعرف التأريخ لها نظير، فلم تكن بشاعة ما ارتكبوه تكافئ مقدار ما انطوت عليه قلوبهم، فكلَّما أوغلوا في القسوة وجدوا أنَّ غليلهم يزداد التهابًا، فعمد بعضهم إلى أطفال الحسين (ع) يذبحونهم ذبحًا، وقصد آخرون جسده الذي أعياه النزف لينهالوا عليه بسيوفهم وهو صريع، فلم يكن لها مِن أثرٍ غير أنَّ وقعها يُبلسم أرواحهم المهترئة فكان بعضهم يركله برجله، وآخر يقطع إصبعه، وثالث يحزُّ معصمه، ورابع يقطع رأسه، وخامس يسلب ثيابه، وآخرون يوطئون الخيل ظهره وصدره ولم يجد بعضهم غير الحجارة يرضخون بها جسده.

                فما وجدوا لكلِّ ذلك رواءً لغليلهم فقصدوا حرمه وروَّعوا بناته ونساءه بعد أنْ أحرقوا خيامه وسلبوا متاعه، فكان أحدهم يخرم أذن الطفلة ليلبسها قرطها، ويعدو آخرون بخيولهم خلف أطفال الحسين (ع) ليطأوهم بحوافرها.

                فأيُّ منصفٍ يقف على كلِّ هذه المشاهد ثمَّ يجرؤ فينسب هؤلاء إلى شيعة الحسين (ع)، هؤلاء لم يكونوا يتديَّنوا بدين كما أفاد الإمام الحسين (ع) حينما قصدوا رحله وحالوا بينه وبين أهله"ويلكم إنْ لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا في أمر دنيا كم أحرارًا ذوي أحساب...".

                الطائفة الرابعة: كانوا ممَّن استبدَّ بهم الخوف مِن بطش يزيد وعبيد الله بن زياد، ونذكر لذلك بعض الأمثلة:

                الأوَّل: ما ذكره الدينوري في الأخبار الطوال قال: إنَّ ابن زياد بعث إلى الحصين بن نمير وحجار بن أبجر وشمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي وأمرهم بمعاونة ابن سعد فاعتلَّ شبث بالمرض فأرسل إليه أنَّ رسولي يخبرني بتمارضك وأخاف أنْ تكون مِن الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنَّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنَّا معكم إنَّما نحن مستهزئون فإنْ كنت في طاعتنا فأقبل مسرعًا فأتاه بعد العشاء لئلاَّ ينظر إلى وجهه فلا يجد عليه أثر العلَّة ووافقه على ما يريد.

                الثاني: روى البلاذري في أنساب الأشراف وقال: لمَّا سرَّح ابن زياد عمر بن سعد أمر الناس فعسكروا في النخيلة وأمر أنْ لا يتخلَّف أحد منهم وصعد المنبر فقرَّض معاوية... ثمَّ قال فأيَّما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلِّفًا عن العسكر برئت منه الذمَّة... ثمَّ خرج ابن زياد فعسكر... ثمَّ إنَّ ابن زياد استخلف على الكوفة عمرو بن حرث وأمر القعقاع بن سويد بالتطواف بالكوفة فوجد رجلاً مِن همدان قد قدم يطلب ميراثًا له بالكوفة فأتى به ابن زياد فقتله فلم يبقَ محتلم إلاَّ خرج إلى العسكر بالنخيلة.

                هذا النصُّ ونصوص أخرى كثيرة تعبِّر عن أنَّ واحدًا مِن دوافع المساهمة في حرب الحسين (ع) هو الهلع الذي انتاب جمعًا مِن أبناء الكوفة مِن بطش ابن زياد ولم يكن هؤلاء مِن الشيعة بل كانوا ممَّن يطمع في العافية، فلو كانت بجنب الحسين لوقفوا معه، ولأنَّها كانت بجانب عبيد الله بن زياد آثروا أنْ يقفوا معه طمعًا في العافية رغم يقينهم بعدم لياقته للإمارة ورغم إدراكهم بجدارة الحسين للزعامة والرياسة.

                فهؤلاء لم يكونوا مِن الشيعة إذ أنَّ الشيعة هم مَن اعتقدوا إمامة الحسين (ع) وأنَّه مفترض الطاعة مِن الله عزَّ وجلَّ وأمَّا مجرَّد الميل الذي يكنُّه بعضهم للحسين (ع) أو اعتقادهم بلياقته لإدارة شئون الحكم فهو لا يعبِّر عن تشيُّعهم وإلاَّ كان أكثر المسلمين في عصر يزيد بن معاوية مِن الشيعة، وهذا ما لا يلتزم به مثيروا هذه الشبهة.

                وأمَّا أنَّ كثيرًا مِن أبناء الكوفة كانوا قد راسلوا الحسين (ع) ووعدوه بالمؤازرة فهذا وإنْ كان قد وقع إلاَّ أنَّ ذلك لا يعبِّر عن إيمانهم بإمامة الحسين (ع) بالنحو الذي يؤمن به الشيعة، وإنَّما لأنَّهم وجدوا في سياسة معاوية معهم قسوة وضيقًا ولم يكن بنظرهم أحد قادر على تخليصهم مِن سطوة بني أميَّة سوى الحسين (ع)، ذلك لأنَّهم قد عرفوا أنَّ الحسين (ع) قد رفض أشدَّ الرفض دعوة معاوية لمبايعة يزيد على ولاية العهد ثمَّ رفض البيعة ليزيد بعد هلاك معاوية وخرج مِن المدينة إلى مكَّة الشريفة معلنًا رفضه للبيعة، كما أنَّهم يدركون التقدير الذي يحظى به الحسين (ع) في قلوب الناس نظرًا لقرابته مِن رسول الله (ص) ونظرًا لسجاياه المتميِّزة، فهذا هو ما برَّر اختياره دون غيره مِن الصحابة، فالحسين بنظرهم أليق الناس بمنصب الخلافة مِن بني أميَّة وأنَّه لو استلم الحكم لسار فيهم بالعدل والإحسان.

                وذلك لا يعبِّر عن إيمانهن بإمامته بالمعنى الذي يؤمن به الشيعة، فالتشيُّع لا يعني الحبَّ للحسين ولأهل البيت (ع) كما لا يعني الإدراك أو الاعتقاد بأنَّ الحسين أليق بالخلافة مِن يزيد ومِن بني أميَّة وإلاَّ لكان أكثر المسلمين شيعة.

                نعم التشيُّع يعني الاعتقاد بأنَّ الحسين (ع) هو الإمام المفترض الطاعة مِن قبل الله عزَّ وجلَّ وأنَّه الأليق بمنصب الخلافة على الإطلاق بعد أخيه الحسن (ع) وبعد أبيه عليّ بن أبي طالب (ع)، وأنَّ رسول الله (ص) هو الذي أخبر عن الله عزَّ وجلَّ بأهليَّته وباستحقاقه لذلك كما أخبر عن أهليَّة واستحقاق أبيه عليّ بن أبي طالب (ع) وأخيه الإمام الحسن (ع).

                هذا هو معنى التشيُّع وهذا ما يؤمن به الشيعة، ولا يوجد أيُّ نصٍّ تاريخي يشير إلى أنَّ الذين شاركوا في قتل الحسين (ع) هم ممَّن يؤمن بذلك بل إنَّ النصوص التاريخيَّة صريحة في غير ذلك كما اتَّضح بعض ذلك ممَّا بيَّنَّاه.

                والحمد لله ربِّ العالمين

                تعليق


                • #9
                  بحول الله و قوته يرفع باذن الله

                  تعليق

                  المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                  حفظ-تلقائي
                  x

                  رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                  صورة التسجيل تحديث الصورة

                  اقرأ في منتديات يا حسين

                  تقليص

                  المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                  أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, اليوم, 07:21 AM
                  ردود 2
                  11 مشاهدات
                  0 معجبون
                  آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                  بواسطة ibrahim aly awaly
                   
                  يعمل...
                  X