لازلنا نعيش مشكلة المنهج العلمي في البحث والتقييم (التقويم)، ولا زال الكثير منا يفضل الارتجال، ليس فقط في الحديث بل في التحليل والمتابعة للأحداث المهمة وللقيادات الكبيرة التي تصنع المنعطفات المصيرية في حياة الوطن والشعب.
فالمقوم الأساس الذي تهتم به مراكز الرصد والبحث والتحليل الدولية، وهو توفير المعلومات التفصيلية اللازمة عن الحدث أو عن الشخصية موضع التقييم، لا يهتم به الكثيرون منا.. وكذلك إهمال المعايير العلمية في التحليل والاستنتاج ومن ثم التقييم.
وسوف تكون النتائج بالطبع بحسب مقدماتها..فالمعلومات الناقصة والمعايير الخاطئة تؤدي بالتأكيد الى نتائج غير صحيحة أو غير منصفة وربما مضلّلة.
وسوف تزداد خطورة مثل هذه النتائج إذا تأثرت نفوس الباحثين بمصالح ذاتية أو فئوية نابعة عن هوى النفس.
وهذا ما يفسّر وجود عدد قليل من المراقبين الذين أنصفوا الشهيد السيد محمداً الصدر قبل استشهاده بسبب حملة التضليل والتعتيم والمحاربة التي مارستها أجهزة السلطة الحاكمة في بغداد وكذلك ـ للأسف الشديد ـ مارستها عناصر وقيادات محسوبة على الصف الإسلامي تجاه السيد محمد الصدر (رض) وتجاه مرجعيته وحركته السياسية والاجتماعية.
المنصفون من المراقبين أو المحللين لم ينطلقوا فقط من حسن ظن وعاطفة إسلامية وإنسانية صادقة تجاه الفقيه الفقيد وإنما اعتمدوا على :
1/ معرفة تفصيلية وافية بالنتاجات الفكرية للصدر الثاني، وخاصة فكره السياسي الراقي المبثوث في صفحات كتب موسوعته الرائدة عن الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، والتي توالت بالصدور منذ بداية سبعينات القرن الماضي.. إضافة الى ما صدر عنه من كتب وبيانات وخطب جمعة في السنوات القليلة التي سبقت شهادته.
2/ معرفه دقيقة مباشرة وغير مباشرة بخصائص شخصيته الأخلاقية العالية وسيرته الذاتية منذ شبابه وحتى سنوات عمره الأخيرة، تلك السيرة التي لم تعرف إلا ما هو خير من خصال المسلم المؤمن المجاهد والعالم الرباني الزاهد.. وأما الدعابة التي في شخصيته، فقد سبقه جده أمير المؤمنين(ع) بها، عندما حاول البعض اقصاءه عن موقعه الشرعي لأن فيه دُعابة.
3/ وعي عال بطبيعة الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية السائدة في العراق، وفهم واستيعاب أوضاع داخل العراق، خاصة في الفترة التي تلت هزيمة نظام صدام في الكويت وبعد توقف الانتفاضة الشعبية، وطبيعة المخاطر المحدقة ليس فقط بالمعارضين بل بوجود التيار الإسلامي عامة وأتباع أهل البيت عليهم السلام خاصة... وفي ظل تواطؤ دولي مريب وتقاعس مخزي للأشقاء والحلفاء وإخوة الدين والمذهب..!! إضافة الى عجز قيادات المعارضة العراقية في خارج الوطن.
منهج متميز في التحرك السياسي:
يُمكن اعتبار منهج التحرك السياسي الذي اعتمده الفقيه الشهيد السيد محمد الصدر (رض)، سواء في مجال تربية الأمة وتعبئتها ايمانياً وسياسياً وإدارة حركتها السياسية والاجتماعية.. أم في مجال مواجهة النظام القمعي العميل الحاكم والعمل على إفشال مخططاته المعادية للدين والوطن والشعب ولخط أهل البيت عليهم السلام.. والمحافظة على الوجود او الكيان الإسلامي والشيعي العريق...
يُمكن اعتباره منهجاً متميزاً وجديداً في الواقع العراقي عامة وفي الواقع الحوزوي والمرجعي بشكل خاص، بالمقارنة مع مناهج التحرك التي اعتمدها فقهاء ومراجع دين آخرون خلال الفترة الواقعة بين العشرينات (حيث توقفت ثورة العشرين الوطنية الإسلامية التي قادها علماء دين مجاهدون وزعماء وطنيون) والتسعينات من القرن السابق...
فعلى حين غرة وبخلاف ما هو مألوف في أوساط النجف، تصدى فقيه وعالم دين معروف الى إقامة صلاة الجمعة في مسجد الكوفة (ذي الرمزية التاريخية والعقائدية الخاصة) وشجع ودعم إقامتها في مختلف مدن العراق، واعتمد أدعية أئمة أهل البيت عليهم السلام في خطب الجمعة للتربية والتعبئة وتحريك الجماهير.
وأهم من ذلك سياسته الخاصة في التعامل مع مبدأ التقية أو الهدنة مع النظام الحاكم، فأغلب مراجع الدين السابقين (ربما باستثناء المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه الذي تصدّى لمقارعة النظام في زمن مبكر) كانوا يعيشون ولاسباب ومبررات مختلفة في وضع هدنة فعلية مع الأنظمة الحاكمة في زمانهم، بمعنى انهم كانوا غير متبنين قضية إسقاط النظام أو قضية النزول الى ساحة المواجهة السياسية والجهادية معه.
بل وغالباً ما كنا نشاهد وجود عناصر بارزة في حواشي أولئك المراجع أو من أبنائهم، لهم صلات منتظمة مع أجهزة أو بعض مسؤولي النظام بغرض متابعة حل المشكلات والمعوقات التي تعترض الحوزات وطلبة العلوم الدينية وربما أحياناً لدفع بعض المظالم التي تقع على أبناء الطائفة... بل وحتى لتحقيق بعض المصالح الشخصية والفئوية أحياناً، الجديد في سياسة الصدر الثاني تجاه موضوع الهدنة، يتمثل في ان الشهيد سعى وبكل ما في وسعه لاخراج استحقاقات الهدنة من الدائرة الضيقة المرتبطة بمصالح المرجع او حوزته الدينية الخاصة الى الدائرة الأوسع المتعلقة بمصالح الأمة والوطن...والتحرك السريع والواسع لبناء قواعد شعبية وأجهزة لوكلاء المناطق وقضاة الشرع، وبالتالي بناء واقع سياسي واجتماعي وثقافي ضخم يوازن سلبيات السكوت عن السلطة لعدة سنوات، ومن ثم العمل على توظيف هذا الواقع الجديد لاستكمال شروط المسيرة النضالية للشعب العراقي باتجاه تحقيق الحرية والاستقلال والعدالة...واحترام القيم الدينية.
النظام الحاكم والمرجعية الدينية المتصدية (من المواجهة الى الهدنة ثم المواجهة)
لاشك في ان قيام نظام صدام خلال عامي 1998-1999 باعتقال عدد كبير من وكلاء وتلاميذ واتباع المرجع السيد محمد الصدر(الثاني) والتصدي لمنع إقامة صلوات الجمعة في الكوفة ومناطق أخرى في العراق والتضييق على المؤسسات والفعاليات المرتبطة بهذه المرجعية المتصدية، واستهداف العناصر النشطة من القيادات التي تمثل حلقة الوصل او القناة الوسطية بين المرجع وبين أبناء الشعب...وانتهاء ً باغتيال المرجع مع اثنين من أبنائه في أحد شوارع مدينة النجف (شباط 1999).
كل ذلك يعبر عن ذروة التصعيد في سياسة المواجهة التي بدأ النظام ينتهجها أواخر التسعينات ضد القيادات الإسلامية الشيعية المتصدية بعد سنوات قليلة من الهدنة والتسامح المحدود...
ان سياسة المواجهة الحالية التي ينتهجها النظام ضد الحالة الإسلامية الشيعية إنما تجري في إطار بيئة داخلية وأخرى خارجية (إقليمية ودولية) تتضمن كل منها العديد من القضايا والمتغيرات ذات التأثيرات المباشرة وغير المباشرة على علاقة النظام الحاكم بالشعب و بالحالة الإسلامية بل وبحركة المعارضة العراقية بصفة عامة.
على الصعيد الداخلي: يواجه الشعب العراقي جملة من المشكلات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والسياسية التي تراكمت عبر فترة طويلة من الزمن وأصبحت تفرض نفسها على الدولة والمجتمع بصورة مزمنة وحادة.
- هناك مشكلة الفجوة بين الإطار السياسي الرسمي من ناحية والواقع الاجتماعي بقواه وتفاعلاته من ناحية أخرى وهو الأمر الذي يؤدي الى تلغيم العلاقة بين الدولة والمجتمع وجعلها عرضة للتأزم بصفة شبه مستمرة.. والنظام يبحث عن أوساط وقوى تحالفه دون ان تهدده.
- النظام يتعامل من منطلق يقوم على أساس تهدئة وتسكين المشكلات وليس تقديم حلول جذرية، بل ويقوم على أساس اللاسياسات واللامسؤولية عن هذه المشكلات والقاء تبعتها على العوامل الخارجية مستغلاً ظرف الحصار والعقوبات والاكتفاء بالقيام بما يؤدي فقط الى حفظ أجهزة السلطة وعدم سقوطها.
- النظام يعيش هاجساً يومياً حاداً لاحتمال تكرر الانتفاضة الشعبية، فالمجموعة الحاكمة والجهاز الحاكم يعلم بأن كل الشعب يرفضه.
على الصعيد الإقليمي: استمرار التوتر عموماً بين الحالة الإسلامية في اغلب الدول او الشيعية في بعض الدول وبين نظم الحكم في عدد من الأقطار المجاورة او القريبة واستمرار تأثير العقدة الإيرانية المؤثرة في سياسات تلك الأقطار تجاه بعض مفردات الواقع السياسي والاجتماعي في مجتمعاتها، واستمرار مخاوف تأثيرات دور الشيعة في الحياة السياسية في العراق على تلك البلدان.
إضافة الى العزلة شبة التامة بين النظام الحاكم في بغداد والمحيط العربي والإسلامي المجاور.
واستمرار عزل النظام عن لعب اي دور إقليمي في الحاضر والمستقبل المنظور بسبب نتائج غزوه العسكري لدولة الكويت مع وجود محاولات محمومة لدى السلطة ودوائر سياسية إقليمية مستفيدة لكسر تلك العزلة.
على الصعيد الدولي: أهمها وجود إشارات دولية بدائية لدور اكثر جذرية وحيوية للشيعة في نظام الحكم المستقبلي في العراق- الى جانبه استمرار سياسات دولية قديمة للمحافظة على نفس المعادلة السياسية (خاصة في بعدها الطائفي) في العراق مهما كان الثمن، بل وتهيؤ قوى دولية مؤثرة لإجراء سياسات عزل طائفي وجغرافي واسع يضمن حفظ مصالحها الاستراتيجية البعيدة: أما لمخاوفها من التغيير وعدم التمكن من مسك خيوطه ... وضعف البدائل أو لمخاوفها من الدور الإيراني .. لعدم حسم ازدواجية القيادة في إيران.
او لعدم بلوغ القيادات العراقية الإسلامية الشيعية / حتى الآن / لمرحلة الواقعية الذرائعية في العمل السياسي وفي تحديد الأهداف التي تنسجم مع قواعد اللعبة السياسية الدولية، او هناك مخاوف من تكرار التجربة الإيرانية في العراق، ببعدها الداعم للحركات المعادية لإسرائيل وللولايات المتحدة الأمريكية وما يسمى بعملية السلام.
هناك مخاوف من حصول انسجام وتكامل بين إيران وبين العراق المستقل المحكوم من قبل الإسلاميين الشيعة مما يؤدي الى نشوء محور دولي كبير مدعوم بطاقات اقتصادية وبشرية كبيرة.
هناك الأطماع الدولية بالثروات الخيالية الموجودة في العراق.
- كما ان هناك نمواً في العلاقات السياسية وربما الميدانية بين قيادات عراقية إسلامية شيعية وبين الولايات المتحدة الأمريكية وان كانت لحد الآن تقوم على أساس العلاقات والحوارات السرية (بالطبع اغلب القيادات السياسية غير الإسلامية وغير الشيعية رتبت علاقاتها مع أمريكا مباشرة أو بواسطة وسطاء اقليميين منذ زمن غير قصير).
- وبالتالي هناك مخاوف عند النظام من إمكانية بلوغ تلك العلاقة لمستويات تهدده بالصميم بالرغم من ان منطلق أغلب القيادات الشيعية في العلاقة هو إزالة مخاوف الدوائر الدولية منها وطمأنتها تجاه المستقبل إضافة للسعي من اجل دفع الدوائر الدولية لإيقاف انتهاكات حقوق الإنسان المروعة خاصة في مناطق الجنوب العراقي.
حتى لا نكون من أصحاب فرض القناعات المسبقة على التحليل، نعود قليلاً إلى الوراء لمحاولة فهم خلفية أزمة النظام الحاكم في بغداد مع المرجعيات الدينية ومع الحوزة العلمية العريقة في النجف الأشرف التي يعود تأسيسها إلى أكثر من ألف عام على يد الشيخ أبي جعفر بن الحسن بن علي الطوسي (485 ـ 560 هجرية).
نظام البعث العلماني الذي وصل إلى الحكم بانقلاب غامض (يعتقد الكثير من الوطنيين بدور أساسي لشركات النفط الغربية في تدبيره) في 17 تموز 1968، كان لا يخفي خطه الفكري والسياسي المضاد للأطروحة الإسلامية وكان ينشر علناً في تقارير مؤتمرات الحزب القطرية نظرته السلبية إلى الإسلام والوجودات الإسلامية.. وأفضل نموذج ما جاء في تقرير المؤتمر القطري التاسع الذي صدر أواسط الثمانينات وما كتبه صدام في كراسه الدين والتراث، لنتذكر بأن أول نظام حكم منذ عهد الاستقلال في العشرينات، قام بإعدام وقتل علماء دين في العراق، الأمر الذي لم يفعله حتى البريطاني المحتل أوائل القرن، وقام بتأسيس شعبة خاصة في مديرية الأمن العامة لمكافحة النشاط الديني في العراق (تأسيس الشعبة الخامسة في بداية السبعينات) هو النظام القائم في بغداد. وإذا كانت ملابسات الحرب الإيرانية العراقية وتداعيات غزو الكويت ثم تحريرها قد دفعت النظام إلى رفع الشعارات الدينية وإطلاق برنامج دعائي تحت عنوان حملة الإيمان الكبرى ومنع الخمور في بعض الفترات وإضافة (الله أكبر) إلى العلم الوطني.. إلاّ أنّ المواقف الحقيقية من الوجود الإسلامي بقيت على حالها... وبقيت المؤسسات الدينية وفعالياتها تمثل الهاجس الأول لدى السلطة، ذاكرة العراقيين لم تنس قتل الشيخ عبدالعزيز البدري والشيخ ناظم العاصي والشيخ الشهرزوري والشيخ عمر شقلاوة وكل هؤلاء من علماء السنّة المعروفين في العراق، كما لم تنس المرجع الديني السيد محسن الحكيم الذي توفي عام 1970 وهو في صراع مرير مع السلطة، والمرجع السيد محمد باقر الصدر الذي تم قتله في أروقة القصر الجمهوري (9/4/1980)، والمرجع السيد الخوئي الذي اقتادته قوات صدام الخاصة بعد قصف المنطقة المحيطة بمنزله في النجف الأشرف بواسطة الهليوكوبترات، إلى مقر المخابرات العامة في بغداد (1991) ثم ليموت كمداً بعد ذلك بأشهر... مشكلة العقلية الحاكمة في بغداد، أنها تعتمد الإرهاب والقمع والاستئصال كاستراتيجية وحيدة في التعامل مع خصومها في الداخل والخارج، بالرغم من وجود بدائل سياسية اخرى للتعامل... كما تقوم بذلك انظمة حكم عديدة في العالم العربي والإسلامي.
لا يصعب على سلطة حاكمة أن توظف الإمكانات الضخمة التي يختزنها الوجود الحوزوي والمرجعي في العراق لبناء دور إقليمي وإسلامي وعالمي للعراق فضلاً عن بناء كيان اجتماعي سياسي داخلي متين، هذا إن كانت السلطة حريصة فعلاً على استقلال وازدهار الوطن وان كانت تعتبر نفسها ممثلة لأوساط الشعب كافة.
فالتراث العلمي الضخم ونخبة العلماء المتخصصين في الحقول المتنوعة، ومنها الاقتصاد والقانون (أهم حقلين في العصر الراهن) وانتماء طلاب العلوم الدينية واساتذتها إلى جنسيات وقوميات مختلفة، توفر مثل تلك الفرص، خاصة ولم يكشف التاريخ البعيد والمعاصر عن دليل واحد يشير إلى تحرك حوزات ومرجعيات العراق باتجاهات تتعارض والانتماء الوطني العراقي، بل (وهنا المفارقة) ان حركة الجهاد والدور السياسي النشط للمرجعية الدينية في أوائل هذا القرن ساهما بشكل حاسم في بلورة الكيان السياسي الحالي للعراق وفي إنهاء الانتداب البريطاني واستبعاد مشروع تهنيد العراق أي (إلحاقه بالهند).
يصعب علينا تصديق ان السلطة في العراق لم تدرك استحالة استئصال وجود علمي وسياسي عريق ذي جذور حضارية تمتد لقرون في بيئة العراق كالحوزة العلمية في النجف وكالمرجعيات الدينية في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء وسابقاً في الحلة..
فهل كانت دوائر سياسية خارجية معروفة بدعمها للنظام، تسعى بالضبط إلى تحقيق هذه النتائج القائمة حالياً في العراق: عزلة رهيبة بين النظام الحاكم ومؤسساته من جهة وبين أبناء الشعب من جهة اخرى مع إصرار النظام على البقاء بأي ثمن... بذور صراعات طائفية وقومية وعشائرية قابلة للنمو والتطور واستعداد سلطوي غير معقول لتمزيق نسيج المجتمع القائم... ودفع الأغلبية الشعبية بكل الوسائل للانفجار بأمل استقطاب الاقليات بمبرر دفاع النظام عن مصالحها وبأمل إجهاض جنين التحرك الشعبي الثوري قبل استكمال شروطه الموضوعية.
العوامل التي دفعت النظام الحاكم لاعتماد سياسة التسامح والمهادنة تجاه الإسلاميين الشيعة والمرجعية المتصدية في بداية التسعينات:
1- رغبة النظام في تثبيت دعائم حكمه بعد الهزة الكبيرة بعد الانتفاضة الشعبية وبعد مضاعفات غزو الكويت وتحريرها والعزلة السياسية شبه الكاملة إقليمياً ودولياً.
2- وجود قيادة مرجعية تنطلق من مقولة عدم التدخل في شؤون النظام بشرط عدم التدخل في شؤون الحوزة والمرجعية (يچفّونا شرهم ونچفيهم شرّنا).
3- احتفاظ النظام بورقة عدم المشروعية القانونية (الرسمية) لحركة المرجعية والتنظيمات الإسلامية، لرفعها في وجهها متى تجاوزت الخطوط الحمراء (من وجهة نظره).
4- الحرص على استيعاب قطاعات ومراكز قوى ضمن الحالة الإسلامية الشيعية القائمة لتحييد موقفها من عملية المواجهة مع قوى المعارضة المسلحة او التي تطرح شعار إسقاط السلطة بكل الوسائل ولمنع انخراط قاعدة تلك الحالة في صفوف القوى المضادة للسلطة، فوضع المعتدلين والمتشددين في الحالة الإسلامية الشيعية في سلة واحدة منذ البداية والتعامل معها بنفس الأسلوب سيؤدي الى خلق تقارب بين الطرفين او على الأقل بين أوساطها الشبابية.
5- محاولة منع استخدام القوى الإقليمية والدولية لورقة اضطهاد الشيعة في العراق وورقة محاربة النظام للمرجعية الدينية.
6- محاولة التعرف على الحجم الحقيقي والنفوذ الحقيقي لقوى الحالة الإسلامية الشيعية، من خلال إتاحة الفرصة لها للظهور على السطح والعمل في العلن.. لكي يتم أخذ ذلك في الاعتبار عند التخطيط لصياغة مستقبل الأوضاع.
بالطبع لم تكن هذه هي المرة الأولى في سياسة المهادنة من قبل السلطة تجاه المرجعية، فقد كان لها سياسة مماثلة في بداية الثمانينات مع مرجعية السيد الخوئي رحمه الله، وذلك عند مواجهتها لحركة الصدر الأول وللحركة الإسلامية العراقية وللجمهورية الإيرانية الإسلامية ولكن الفرق بين الهدنتين كبير.
هذه العوامل وغيرها التي دفعت النظام الى تبني سياسة مرحلية متسامحة تجاه الحالة الإسلامية الشيعية وتجاه المرجعية الدينية، هي بالضبط ما كانت تنتظره قيادة مرجعية كامنة متمثلة بالسيد محمد محمد صادق الصدر رضوان الله عليه : فالشهيد السيد الصدر الثاني:
- من آل الصدر المعروفة في الفقه والسياسة في العراق.
- وهو تلميذ السيد الشهيد الصدر الأول رضوان الله عليه.
- وهو المعتقل في السبعينات بتهمة الانتماء لتنظيم إسلامي سري.
- وهو العالم والفقيه والباحث في سيرة الأئمة وصاحب أفضل موسوعة معاصرة عن الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف.
والمستوعب لأدق قوانين وسنن التحرك السياسي والاجتماعي في عصر الغيبة الكبرى التي نعيش مرحلة متقدمة فيها...
(بالطبع فهم سمات عصر الغيبة الكبرى هو المنطلق الصحيح لتحرك إسلامي معاصر ينطلق من خط أهل البيت عليهم السلام، وليس سقوط الخلافة العثمانية وغياب الكيان السياسي الإسلامي كما طرحت ذلك حركات إسلامية متأثرة بالفكر الخلافي).
- هو ذو الشخصية ذات الجنبة العرفانية البسيطة والبعيدة عن الطقوس التشريفاتية للمرجعيات التقليدية، والمحبة للجماهير او ما يسمى بالعوام لدى البعض والمتجاوز للكثير من الخطوط الحمراء الوهمية التي لا ندري من أين جاءت... التي تعزل الفقهاء والمراجع عن هموم الأمة وآلامها وآمالها.
وهنا يجب ان نستذكر السياق العام لحركة الصدر الثاني، فالرجل لا يتحرك خارجه، فالحالة الإسلامية الشيعية والمرجعية الدينية الرشيدة:
- تُعتبر واحدة من اقدم واكبر الحركات الإسلامية ذات النفوذ في العراق وفي العالم الاسلامي، وهي الأم لأكثر تنظيمات الساحة الإسلامية العراقية (وحتى غير العراقية)، بل ويمتد تأثيرها الى صفوف الحركة الوطنية العراقية غير الإسلامية ودورها معروف في نشأة الدولة العراقية المعاصرة ومواجهة الاحتلال الأجنبي.
- وتمتلك القدرة التعبوية العالية لتعبئة الجماهير، إذا تصدّت للتحرك والعمل.
- وتتميز بسعة قاعدتها الجماهيرية بالرغم من كل جوانب عزلة بعض رموزها عن حركة المجتمع.
- كما إنها تعبّر عن حالة متماسكة بمجملها وذات نظرية سياسية واجتماعية وثقافية متكاملة.
- إضافة الى اكتفائها الاقتصادي نسبياً وارتباط العديد من المؤسسات الاجتماعية والثقافية والتعليمية بها.
وتبرز أهمية هذه الخصائص بالمقارنة مع ضعف وهشاشة القوى السياسية الأخرى، وخاصة في مجال انعدام حصانتها العقائدية والاخلاقية.
إذا جاز لنا ان نستقرئ حركة الأفكار في عقلية الفقيه الشهيد (الصدر الثاني) فربما تكون العوامل التالية هي التي شكلت رؤيته لطبيعة المرحلة القائمة وما هو مطلوب تجاهها:
1- طبيعة فهمه لدور الفقيه او المرجع الديني في الأمة.
2- تقييمه وفهمه لتجربة قيادة المرجعية لثورة العشرين الوطنية، والدروس التي يُمكن الخروج بها من تلك الحركة الرائدة.
3- طبيعة وعيه لخطورة النفوذ الاستكباري الخارجي في البلد.
4- طبيعة وعيه للأدوار المناط تحقيقها بالنظام البعثي(الأداة المتقدمة للقوى الخارجية) الذي وصل الى السلطة في العراق بانقلاب 17-30 تموز 1968م.
5- وعيه لقوانين التحرك وسنن التغيير السياسي او الاجتماعي في المجتمعات المسلمة في هذه المرحلة التاريخية (وهي مرحلة متقدمة في عصر الغيبة الكبرى).
6- ملابسات الواقع القائم للمرجعية الدينية في العراق ومضاعفات واقعها في العقود الأخيرة الماضية.
7- فهم وتقييم تجربة حركة المعارضة العراقية عموماً وحركة المعارضة الإسلامية خاصة، وبالأخص بعد استشهاد المرجع السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه وبعد مضاعفات غزو النظام للكويت ومنها فشل الانتفاضة الشعبية (آذار 1991).
8- فهم ووعي واقع السلطة القائم (عناصر قوتها وعناصر ضعفها وموقف الشعب منها وموقف الدوائر الإقليمية والدولية منها... سياساتها العامة وسياساتها المرحلية... مواقفها الراهنة من القيادات الدينية... استحقاقات حملها للشعارات الإسلامية وشعار مواجهة القوى الخارجية).
كيف قرأ الصدر الثاني الواقع العراقي عند تصديه:
1- مجازر وحشية ينفذها النظام تجاه الشيعة دون أن تتمكن قوى المقاومة والمعارضة من إيقافها، ودون أن تبدي أية قوة إقليمية او دولية استعدادها لإيقافها.
2- فراغ شبه كامل في ساحة قيادة المرجعية للامة(باستثناء إعطاء الأجوبة الفقهية على المسائل العبادية الفردية).
3- تكتفي المعارضة الإسلامية (المعارضة العراقية عموماً) بالعمل المنظم السري في ظل ظروف صعبة جداً او تكتفي بعمليات مسلحة غير محكومة بخطة سياسية وذلك ضمن مرحلة اضرب واهرب، وهذه الفعاليات بطبيعتها لا تناسب قطاعات واسعة من الأمة لصعوبة شروطها.
4- يكاد محور متطرف في النظام يرفع شعار (لاشيعة بعد اليوم) ان يفرض هذا الشعار كسياسة حكومية رسمية، وربما بسكوت وتواطؤ مريب من قبل بعض الدوائر الإقليمية والدولية.
5- عدم وضوح معالم خطة سياسية متكاملة تعتمدها القوى المعارضة في الخارج لإطاحة نظام صدام.
6- لا يمكن تحقيق تغيير حقيقي في أوضاع العراق دون مشاركة شعبية واسعة، ولا يمكن تحقيق هذه المشاركة دون ان تتطور حركة الجماهير ضمن أجواء عمل علنية وطبيعية...
من وظّف الهدنة لصالحه: النظام أم المرجع المتصدي؟
كما ذكرنا فيما سبق، ان اهم ما يميز سياسة الصدر الثاني في تعامله مع مبدأ (الهدنة) مع النظام الحاكم في بغداد، هو:
- التحرك الجاد لجعل استحقاقات الهدنة تصب في مصلحة قضايا الامة والدين وعدم الاكتفاء بالاستحقاقات الضيقة الفئوية أو الذاتية.
- بناء قاعدة شعبية واسعة تدعم تحركه الديني والثقافي وحتى السياسي، لكي لا يتم الصراع مع النظام لاحقاً بمعزل عن الجماهير.
- تثبيت وترسيخ أعراف ومؤسسات لها قابلية الاستمرار حتى بعد تغير الشروط التي ادت الى حصول الهدنة، من قبيل صلاة الجمعة وقضاة الشرع ومواكب المشاة في الخامس عشر من شعبان وغيرها.
- العمل على توظيف نتائج الهدنة في المدى المنظور ضمن خطط المعارضة لتغيير نظام الحكم وتمكين الشعب المسلم في العراق من تقرير مصيره بنفسه(وصلت اشارات من الصدر الثاني الى بعض زعامات المعارضة في الخارج بهذا الاتجاه، اضافة الى ارسال السيد جعفر الصدر(نجل الشهيد الصدر الاول) الى الخارج وسعيه لفتح ممثلية للصدر الثاني هناك ومحاولة فتح قنوات حوار وتفاهم مع قيادات المعارضة الاسلامية والكيان السياسي الاسلامي القائم لدعم خطة تغيير مقترحة تنفذها قوى الداخل، فيه الكثير من الدلالات على ذلك...).
لا نحتاج الى جهد كبير لاثبات نجاح الصدر الثاني في مساعيه لاستثمار الهدنة لصالح الاسلام والشعب المسلم في العراق، بل ولصالح مصالح العراقيين عموماً ...
فصلوات الجمعة التي يشارك فيها مئات الآلاف اسبوعياً وانخراط قطاعات شعبية واسعة في ممارسات دينية وسياسية خارج نطاق هيمنة السلطة والمحافظة على وجود الكيان الاسلامي والشيعي الشعبي بعد عقود من الزمن من برامج السلطة المنظمة لنشر الالحاد واللاتدين، واجهاض خطط السلطة المضادة للحالة الاسلامية ولمدرسة أهل البيت عليهم السلام، خاصة بعد الصدام الشامل والحاد في الثمانينات، واستئصال بذور الصراعات الطائفية التي تغذيها السلطة وتنشيط الدور السياسي والاجتماعي للحوزة العلمية والمرجعية الدينية واعادة الصراع الى محوره الحقيقي بدلاً من المحاور الكاذبة التي تطرحها السلطة...
بينما عبر التوجه الرسمي للسلطة الحاكمة في السنتين الاخيرتين(98- 1999)، لعرقلة جهود الصدر الثاني واضطهاد وكلائه وأتباعه وقتل العشرات منهم ومن ثم تنفيذ جريمة اغتياله مع اثنين من ابنائه وباشراف مركزي من اعلى سلطة امنية في البلاد، كل ذلك عبّر عن خوف النظام الحاكم من استمرار حركة الصدر الثاني واحساسه بأن نتائج استمرار الهدنة لا تصب في خدمة مصالح النظام وأهدافه.
لم ينجح النظام الحاكم في استغلال الهدنة لاسباغ الشرعية الدينية أو القانونية على وضعه القائم، أو استغلالها لكسب تأييد ودعم القواعد الشعبية الاسلامية الواسعة في الداخل، كما لم يوفق بالرغم من بعض مناوراته ومؤامراته السرية خلف الكواليس (ومنها قتله لاثنين من مراجع الدين- البروجردي والغروي) في اشعال الصراعات الجانبية بين رموز الحوزة الدينية والمرجعية الدينية في النجف الاشرف، كما لم ينجح في احداث صراع حقيقي بين الكيان الاسلامي الشيعي في النجف الاشرف وبين المرجعية او الحوزة في ايران، ولم يسجل ولو دليل واحد على قيام الصدر الثاني بمنح النظام ما يريده من شهادات تزكيه ومواقف تأييد في صراعاته الخاصة مع خصومه، بل ان الدوائر القريبة من الشهيد كانت تنقل نصوصاً واضحة عن سياسات ومواقف الصدر الثاني من النظام.
ان لجوء النظام الى الاغتيال وبتلك الطريقة الخسيسة والمفضوحة هو الدليل القاطع على فشل النظام في توظيف الهدنة مع المرجعية لصالحه، وعلى عجزه السياسي وضعفه الميداني في المواجهة وذلك لعدم قدرته على ادارة الصراع بالوسائل السلمية والسياسية والثقافية.
بل وان لجوء النظام في الاشهر الاولى التي تلت جريمة الاغتيال الدنيئة، الى اتهام القوى المعارضة للسلطة والى تكريم وتمجيد الصدر الثاني في بعض وسائل اعلامه والسماح لآلاف العراقيين باتخاذ قبر الشهيد مزاراً وغير ذلك... يدل على ضخامة الوجود والنتائج التي بناها الصدر الثاني في الواقع العراقي الداخلي.
وحتى هذا التعامل المنافق الذي تعامل به النظام لاشهر، لم يصر عليه النظام وعادت اجهزته الاعلامية والحزبية والامنية الى سياسة تشويه شخصية الشهيد وتسقيط صورته الدينية والسياسية والوطنية..بعد ان تأكد ان نفاقه السياسي لا يصب في مصالحه...وان حركة الصدر الثاني (رض) وما حققته من وجود وانجازات وما تملكه من قواعد شعبية لا يمكن مصادرتها بهذا النفاق السمج.
وتأكد ايضاً بأن استحقاقات تلك السياسة الاعلامية المنافقة التي اتبعها النظام ستكون في المدى المتوسط والبعيد كبيرة ولصالح الحالة الاسلامية الشيعية السائدة وكذلك لصالح تنامي وتطور حالة النهوض الشعبي في الداخل وهي الحالة التي تمثل أرضية التغيير الجذري الشامل في العراق.
بالطبع لا نستغرب من المواقف العدائية لنظام صدام والدوائر الخارجية التي تدعمه من تحرك الصدر الثاني، وانما الاستغراب.. كل الاستغراب من ذلك الموقف السلبي الشاذ وأحياناً المضاد أو المعادي لتحرك الصدر الثاني الذي وقفته شخصيات وفئات تطرح نفسها كقيادات اسلامية معارضة للنظام الحاكم في بغداد ومدافعة عن مصالح الشعب المسلم في العراق.
واذا ما اهملنا مسألة تشخيص وتقييم النوايا (مع اهميتها الكبيرة في التقييم) واكتفينا بمعايير التحليل والتقويم الظاهرة...فاننا نسأل:
ألا تصب مجمل مفردات حركة مرجعية الصدر الثاني وحركة قواعدها ووكلائها في خدمة اهداف الحركة الاسلامية العراقية واهداف تحرك علماء الدين العراقيين المجاهدين خارج الوطن وفي خدمة المعارضة الاسلامية العراقية... بل وكل حركة المعارضة بمختلف توجهاتها وألوانها الفكرية والسياسية..؟.
ألا تكفي معرفة الموقف الحقيقي لنظام صدام من حركة الصدر الثاني لاكتشاف الموقف المطلوب من تلك الحركة؟
عجباً لمن يمتلك كل ذلك التراث الاصيل والغني (في القرآن الكريم وفي نصوص وسيرة المعصومين من اهل البيت عليهم السلام وسيرة اتباعهم المخلصين ومنهم نواب الامام الحجة(عجل الله فرجه الشريف) رضوان الله عليهم وخاصة رابعهم) حول مبدأ ومنهج التقية، ثم لا يحاول ان يفهم اسباب تلك المواقف الحكيمة التي اتخذها الصدر الثاني رحمه الله تجاه بعض المفردات الحساسة في الواقع السياسي العراقي الراهن؟.واسباب تلك التقية الواضحة تجاه اكثر الانظمة دموية ودجلاً؟
وعجباً لمن قرأ ودرس النتاج الفكري للصدر الثاني الذي بدأ بالصدور للامة منذ اواخر الستينات واوائل السبعينات من القرن الماضي، خاصة تحليله السياسي والاجتماعي المعمق للعصور العباسية المتأخرة التي عاصرت كل مرحلة الغيبة الصغرى وبدايات الغيبة الكبرى وبضمنها الفصل المهم عما هو مطلوب خلال الغيبة الكبرى... اتخاذ مسلك السلبية والعزلة او المبادرة الى الجهاد وارتباط الاحكام الاسلامية الخاصة بها بالتخطيط الالهي العام للبشرية...
عجباً لمن يعرف كل هذا التراث الفكري للصدر الثاني ثم يحكم بسذاجته السياسية والاجتماعية!!
وقضية هامة اخرى:
ان من اكبر واخطر الامراض التي يمكن ان تصيب قيادة تحرك سياسي وجهادي معارض، هو مرض محورية الذات او محورية الفئة..بمعنى ان تفترض تلك القيادة ان منهجها في العمل هو وحده الصحيح وان كل من يريد العمل ضد النظام يجب ان يكون عمله من خلالها (اي خلال هذه القيادة) ولاخيارات بديلة اخرى.. وان من لا يرى رؤيتها ويلتزم بتعليماتها ويعمل من خلال قنواتها هو ساذج سياسياً او مشكوك في اخلاصه او مفرق لوحدة العاملين..الخ.
ثم اذا كانت هناك ظروف موضوعية ارغمت شخصيات ومجموعات معارضة على ترك الوطن واتخاذ دول مجاورة او بعيدة قاعدة لنشاطاتها واجهزتها وتشكيلاتها، وارغمتهم الشروط الموضوعية الجديدة في البلدان البديلة على اتخاذ شعارات وسياسات معينة في نشاطهم...الا ان هذا لا يعني عدم وجود شخصيات وقوى واوساط معارضة حقيقية تعمل داخل الوطن لنفس الاهداف الكبرى ولكن بشعارات وسياسات ووسائل اخرى .. وهو ما اثبتته حركة الصدر الثاني..التي كشفت كم ان بعض القيادات المتحركة في الخارج والتي تبالغ في رفع شعار اعتماد الشعب داخل الوطن للتغيير.. كم هي بعيدة في واقعها عن هذا الشعب وتفاعلاته اليومية الواقعية وقواه الميدانية.
ان الصيغة السليمة التي يجب ان يعتمدها جميع العاملين من اجل التغيير في العراق هو التعاون والتكامل والتنسيق والاحتكام الى آراء وتوجهات الاغلبية من ابناء العراق في الداخل والخارج.
نصوص تُعرّف بنماذج من الفكر السياسي للصدر الثاني
كتاب الغيبة الصغرى:
فصل الاتجاهات العامة في هذه الفترة من صفحة 367 الى 393 ويتضمن دراسة الاتجاه العام للامام المهدي (ع) والاتجاه العام للشعب الموالي والاتجاه العام للسفراء والاتجاه العام للدولة.
كتاب الغيبة الكبرى:
- التخطيط الالهي لليوم الموعود من صفحة 233 الى 279.
- في التكليف الاسلامي الصحيح خلال عصر الغيبة الكبرى - من صفحة 336 الى 372 وضمن هذا الفصل بحث عن السلبية والعزلة او المبادرة الى الجهاد / من صفحة 372 الى 395.
- شروط الظهور - من صفحة 476 الى 485 .
تمت الاستعانة بالمصادر التالية عند كتابة البحث:
1/ تاريخ الغيبة الصغرى - محمد الصدر- دار التعارف للمطبوعات- الطبعة الثانية 1980.
2/ تاريخ الغيبة الكبرى - محمد الصدر - دار التعارف للمطبوعات - الطبعة الاولى 1975.
3/ النظام السياسي والاخوان المسلمون في مصر من التسامح الى المواجهة د. حسين توفيق ابراهيم - دار الطليعة بيروت - الطبعة
فالمقوم الأساس الذي تهتم به مراكز الرصد والبحث والتحليل الدولية، وهو توفير المعلومات التفصيلية اللازمة عن الحدث أو عن الشخصية موضع التقييم، لا يهتم به الكثيرون منا.. وكذلك إهمال المعايير العلمية في التحليل والاستنتاج ومن ثم التقييم.
وسوف تكون النتائج بالطبع بحسب مقدماتها..فالمعلومات الناقصة والمعايير الخاطئة تؤدي بالتأكيد الى نتائج غير صحيحة أو غير منصفة وربما مضلّلة.
وسوف تزداد خطورة مثل هذه النتائج إذا تأثرت نفوس الباحثين بمصالح ذاتية أو فئوية نابعة عن هوى النفس.
وهذا ما يفسّر وجود عدد قليل من المراقبين الذين أنصفوا الشهيد السيد محمداً الصدر قبل استشهاده بسبب حملة التضليل والتعتيم والمحاربة التي مارستها أجهزة السلطة الحاكمة في بغداد وكذلك ـ للأسف الشديد ـ مارستها عناصر وقيادات محسوبة على الصف الإسلامي تجاه السيد محمد الصدر (رض) وتجاه مرجعيته وحركته السياسية والاجتماعية.
المنصفون من المراقبين أو المحللين لم ينطلقوا فقط من حسن ظن وعاطفة إسلامية وإنسانية صادقة تجاه الفقيه الفقيد وإنما اعتمدوا على :
1/ معرفة تفصيلية وافية بالنتاجات الفكرية للصدر الثاني، وخاصة فكره السياسي الراقي المبثوث في صفحات كتب موسوعته الرائدة عن الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، والتي توالت بالصدور منذ بداية سبعينات القرن الماضي.. إضافة الى ما صدر عنه من كتب وبيانات وخطب جمعة في السنوات القليلة التي سبقت شهادته.
2/ معرفه دقيقة مباشرة وغير مباشرة بخصائص شخصيته الأخلاقية العالية وسيرته الذاتية منذ شبابه وحتى سنوات عمره الأخيرة، تلك السيرة التي لم تعرف إلا ما هو خير من خصال المسلم المؤمن المجاهد والعالم الرباني الزاهد.. وأما الدعابة التي في شخصيته، فقد سبقه جده أمير المؤمنين(ع) بها، عندما حاول البعض اقصاءه عن موقعه الشرعي لأن فيه دُعابة.
3/ وعي عال بطبيعة الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية السائدة في العراق، وفهم واستيعاب أوضاع داخل العراق، خاصة في الفترة التي تلت هزيمة نظام صدام في الكويت وبعد توقف الانتفاضة الشعبية، وطبيعة المخاطر المحدقة ليس فقط بالمعارضين بل بوجود التيار الإسلامي عامة وأتباع أهل البيت عليهم السلام خاصة... وفي ظل تواطؤ دولي مريب وتقاعس مخزي للأشقاء والحلفاء وإخوة الدين والمذهب..!! إضافة الى عجز قيادات المعارضة العراقية في خارج الوطن.
منهج متميز في التحرك السياسي:
يُمكن اعتبار منهج التحرك السياسي الذي اعتمده الفقيه الشهيد السيد محمد الصدر (رض)، سواء في مجال تربية الأمة وتعبئتها ايمانياً وسياسياً وإدارة حركتها السياسية والاجتماعية.. أم في مجال مواجهة النظام القمعي العميل الحاكم والعمل على إفشال مخططاته المعادية للدين والوطن والشعب ولخط أهل البيت عليهم السلام.. والمحافظة على الوجود او الكيان الإسلامي والشيعي العريق...
يُمكن اعتباره منهجاً متميزاً وجديداً في الواقع العراقي عامة وفي الواقع الحوزوي والمرجعي بشكل خاص، بالمقارنة مع مناهج التحرك التي اعتمدها فقهاء ومراجع دين آخرون خلال الفترة الواقعة بين العشرينات (حيث توقفت ثورة العشرين الوطنية الإسلامية التي قادها علماء دين مجاهدون وزعماء وطنيون) والتسعينات من القرن السابق...
فعلى حين غرة وبخلاف ما هو مألوف في أوساط النجف، تصدى فقيه وعالم دين معروف الى إقامة صلاة الجمعة في مسجد الكوفة (ذي الرمزية التاريخية والعقائدية الخاصة) وشجع ودعم إقامتها في مختلف مدن العراق، واعتمد أدعية أئمة أهل البيت عليهم السلام في خطب الجمعة للتربية والتعبئة وتحريك الجماهير.
وأهم من ذلك سياسته الخاصة في التعامل مع مبدأ التقية أو الهدنة مع النظام الحاكم، فأغلب مراجع الدين السابقين (ربما باستثناء المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه الذي تصدّى لمقارعة النظام في زمن مبكر) كانوا يعيشون ولاسباب ومبررات مختلفة في وضع هدنة فعلية مع الأنظمة الحاكمة في زمانهم، بمعنى انهم كانوا غير متبنين قضية إسقاط النظام أو قضية النزول الى ساحة المواجهة السياسية والجهادية معه.
بل وغالباً ما كنا نشاهد وجود عناصر بارزة في حواشي أولئك المراجع أو من أبنائهم، لهم صلات منتظمة مع أجهزة أو بعض مسؤولي النظام بغرض متابعة حل المشكلات والمعوقات التي تعترض الحوزات وطلبة العلوم الدينية وربما أحياناً لدفع بعض المظالم التي تقع على أبناء الطائفة... بل وحتى لتحقيق بعض المصالح الشخصية والفئوية أحياناً، الجديد في سياسة الصدر الثاني تجاه موضوع الهدنة، يتمثل في ان الشهيد سعى وبكل ما في وسعه لاخراج استحقاقات الهدنة من الدائرة الضيقة المرتبطة بمصالح المرجع او حوزته الدينية الخاصة الى الدائرة الأوسع المتعلقة بمصالح الأمة والوطن...والتحرك السريع والواسع لبناء قواعد شعبية وأجهزة لوكلاء المناطق وقضاة الشرع، وبالتالي بناء واقع سياسي واجتماعي وثقافي ضخم يوازن سلبيات السكوت عن السلطة لعدة سنوات، ومن ثم العمل على توظيف هذا الواقع الجديد لاستكمال شروط المسيرة النضالية للشعب العراقي باتجاه تحقيق الحرية والاستقلال والعدالة...واحترام القيم الدينية.
النظام الحاكم والمرجعية الدينية المتصدية (من المواجهة الى الهدنة ثم المواجهة)
لاشك في ان قيام نظام صدام خلال عامي 1998-1999 باعتقال عدد كبير من وكلاء وتلاميذ واتباع المرجع السيد محمد الصدر(الثاني) والتصدي لمنع إقامة صلوات الجمعة في الكوفة ومناطق أخرى في العراق والتضييق على المؤسسات والفعاليات المرتبطة بهذه المرجعية المتصدية، واستهداف العناصر النشطة من القيادات التي تمثل حلقة الوصل او القناة الوسطية بين المرجع وبين أبناء الشعب...وانتهاء ً باغتيال المرجع مع اثنين من أبنائه في أحد شوارع مدينة النجف (شباط 1999).
كل ذلك يعبر عن ذروة التصعيد في سياسة المواجهة التي بدأ النظام ينتهجها أواخر التسعينات ضد القيادات الإسلامية الشيعية المتصدية بعد سنوات قليلة من الهدنة والتسامح المحدود...
ان سياسة المواجهة الحالية التي ينتهجها النظام ضد الحالة الإسلامية الشيعية إنما تجري في إطار بيئة داخلية وأخرى خارجية (إقليمية ودولية) تتضمن كل منها العديد من القضايا والمتغيرات ذات التأثيرات المباشرة وغير المباشرة على علاقة النظام الحاكم بالشعب و بالحالة الإسلامية بل وبحركة المعارضة العراقية بصفة عامة.
على الصعيد الداخلي: يواجه الشعب العراقي جملة من المشكلات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والسياسية التي تراكمت عبر فترة طويلة من الزمن وأصبحت تفرض نفسها على الدولة والمجتمع بصورة مزمنة وحادة.
- هناك مشكلة الفجوة بين الإطار السياسي الرسمي من ناحية والواقع الاجتماعي بقواه وتفاعلاته من ناحية أخرى وهو الأمر الذي يؤدي الى تلغيم العلاقة بين الدولة والمجتمع وجعلها عرضة للتأزم بصفة شبه مستمرة.. والنظام يبحث عن أوساط وقوى تحالفه دون ان تهدده.
- النظام يتعامل من منطلق يقوم على أساس تهدئة وتسكين المشكلات وليس تقديم حلول جذرية، بل ويقوم على أساس اللاسياسات واللامسؤولية عن هذه المشكلات والقاء تبعتها على العوامل الخارجية مستغلاً ظرف الحصار والعقوبات والاكتفاء بالقيام بما يؤدي فقط الى حفظ أجهزة السلطة وعدم سقوطها.
- النظام يعيش هاجساً يومياً حاداً لاحتمال تكرر الانتفاضة الشعبية، فالمجموعة الحاكمة والجهاز الحاكم يعلم بأن كل الشعب يرفضه.
على الصعيد الإقليمي: استمرار التوتر عموماً بين الحالة الإسلامية في اغلب الدول او الشيعية في بعض الدول وبين نظم الحكم في عدد من الأقطار المجاورة او القريبة واستمرار تأثير العقدة الإيرانية المؤثرة في سياسات تلك الأقطار تجاه بعض مفردات الواقع السياسي والاجتماعي في مجتمعاتها، واستمرار مخاوف تأثيرات دور الشيعة في الحياة السياسية في العراق على تلك البلدان.
إضافة الى العزلة شبة التامة بين النظام الحاكم في بغداد والمحيط العربي والإسلامي المجاور.
واستمرار عزل النظام عن لعب اي دور إقليمي في الحاضر والمستقبل المنظور بسبب نتائج غزوه العسكري لدولة الكويت مع وجود محاولات محمومة لدى السلطة ودوائر سياسية إقليمية مستفيدة لكسر تلك العزلة.
على الصعيد الدولي: أهمها وجود إشارات دولية بدائية لدور اكثر جذرية وحيوية للشيعة في نظام الحكم المستقبلي في العراق- الى جانبه استمرار سياسات دولية قديمة للمحافظة على نفس المعادلة السياسية (خاصة في بعدها الطائفي) في العراق مهما كان الثمن، بل وتهيؤ قوى دولية مؤثرة لإجراء سياسات عزل طائفي وجغرافي واسع يضمن حفظ مصالحها الاستراتيجية البعيدة: أما لمخاوفها من التغيير وعدم التمكن من مسك خيوطه ... وضعف البدائل أو لمخاوفها من الدور الإيراني .. لعدم حسم ازدواجية القيادة في إيران.
او لعدم بلوغ القيادات العراقية الإسلامية الشيعية / حتى الآن / لمرحلة الواقعية الذرائعية في العمل السياسي وفي تحديد الأهداف التي تنسجم مع قواعد اللعبة السياسية الدولية، او هناك مخاوف من تكرار التجربة الإيرانية في العراق، ببعدها الداعم للحركات المعادية لإسرائيل وللولايات المتحدة الأمريكية وما يسمى بعملية السلام.
هناك مخاوف من حصول انسجام وتكامل بين إيران وبين العراق المستقل المحكوم من قبل الإسلاميين الشيعة مما يؤدي الى نشوء محور دولي كبير مدعوم بطاقات اقتصادية وبشرية كبيرة.
هناك الأطماع الدولية بالثروات الخيالية الموجودة في العراق.
- كما ان هناك نمواً في العلاقات السياسية وربما الميدانية بين قيادات عراقية إسلامية شيعية وبين الولايات المتحدة الأمريكية وان كانت لحد الآن تقوم على أساس العلاقات والحوارات السرية (بالطبع اغلب القيادات السياسية غير الإسلامية وغير الشيعية رتبت علاقاتها مع أمريكا مباشرة أو بواسطة وسطاء اقليميين منذ زمن غير قصير).
- وبالتالي هناك مخاوف عند النظام من إمكانية بلوغ تلك العلاقة لمستويات تهدده بالصميم بالرغم من ان منطلق أغلب القيادات الشيعية في العلاقة هو إزالة مخاوف الدوائر الدولية منها وطمأنتها تجاه المستقبل إضافة للسعي من اجل دفع الدوائر الدولية لإيقاف انتهاكات حقوق الإنسان المروعة خاصة في مناطق الجنوب العراقي.
حتى لا نكون من أصحاب فرض القناعات المسبقة على التحليل، نعود قليلاً إلى الوراء لمحاولة فهم خلفية أزمة النظام الحاكم في بغداد مع المرجعيات الدينية ومع الحوزة العلمية العريقة في النجف الأشرف التي يعود تأسيسها إلى أكثر من ألف عام على يد الشيخ أبي جعفر بن الحسن بن علي الطوسي (485 ـ 560 هجرية).
نظام البعث العلماني الذي وصل إلى الحكم بانقلاب غامض (يعتقد الكثير من الوطنيين بدور أساسي لشركات النفط الغربية في تدبيره) في 17 تموز 1968، كان لا يخفي خطه الفكري والسياسي المضاد للأطروحة الإسلامية وكان ينشر علناً في تقارير مؤتمرات الحزب القطرية نظرته السلبية إلى الإسلام والوجودات الإسلامية.. وأفضل نموذج ما جاء في تقرير المؤتمر القطري التاسع الذي صدر أواسط الثمانينات وما كتبه صدام في كراسه الدين والتراث، لنتذكر بأن أول نظام حكم منذ عهد الاستقلال في العشرينات، قام بإعدام وقتل علماء دين في العراق، الأمر الذي لم يفعله حتى البريطاني المحتل أوائل القرن، وقام بتأسيس شعبة خاصة في مديرية الأمن العامة لمكافحة النشاط الديني في العراق (تأسيس الشعبة الخامسة في بداية السبعينات) هو النظام القائم في بغداد. وإذا كانت ملابسات الحرب الإيرانية العراقية وتداعيات غزو الكويت ثم تحريرها قد دفعت النظام إلى رفع الشعارات الدينية وإطلاق برنامج دعائي تحت عنوان حملة الإيمان الكبرى ومنع الخمور في بعض الفترات وإضافة (الله أكبر) إلى العلم الوطني.. إلاّ أنّ المواقف الحقيقية من الوجود الإسلامي بقيت على حالها... وبقيت المؤسسات الدينية وفعالياتها تمثل الهاجس الأول لدى السلطة، ذاكرة العراقيين لم تنس قتل الشيخ عبدالعزيز البدري والشيخ ناظم العاصي والشيخ الشهرزوري والشيخ عمر شقلاوة وكل هؤلاء من علماء السنّة المعروفين في العراق، كما لم تنس المرجع الديني السيد محسن الحكيم الذي توفي عام 1970 وهو في صراع مرير مع السلطة، والمرجع السيد محمد باقر الصدر الذي تم قتله في أروقة القصر الجمهوري (9/4/1980)، والمرجع السيد الخوئي الذي اقتادته قوات صدام الخاصة بعد قصف المنطقة المحيطة بمنزله في النجف الأشرف بواسطة الهليوكوبترات، إلى مقر المخابرات العامة في بغداد (1991) ثم ليموت كمداً بعد ذلك بأشهر... مشكلة العقلية الحاكمة في بغداد، أنها تعتمد الإرهاب والقمع والاستئصال كاستراتيجية وحيدة في التعامل مع خصومها في الداخل والخارج، بالرغم من وجود بدائل سياسية اخرى للتعامل... كما تقوم بذلك انظمة حكم عديدة في العالم العربي والإسلامي.
لا يصعب على سلطة حاكمة أن توظف الإمكانات الضخمة التي يختزنها الوجود الحوزوي والمرجعي في العراق لبناء دور إقليمي وإسلامي وعالمي للعراق فضلاً عن بناء كيان اجتماعي سياسي داخلي متين، هذا إن كانت السلطة حريصة فعلاً على استقلال وازدهار الوطن وان كانت تعتبر نفسها ممثلة لأوساط الشعب كافة.
فالتراث العلمي الضخم ونخبة العلماء المتخصصين في الحقول المتنوعة، ومنها الاقتصاد والقانون (أهم حقلين في العصر الراهن) وانتماء طلاب العلوم الدينية واساتذتها إلى جنسيات وقوميات مختلفة، توفر مثل تلك الفرص، خاصة ولم يكشف التاريخ البعيد والمعاصر عن دليل واحد يشير إلى تحرك حوزات ومرجعيات العراق باتجاهات تتعارض والانتماء الوطني العراقي، بل (وهنا المفارقة) ان حركة الجهاد والدور السياسي النشط للمرجعية الدينية في أوائل هذا القرن ساهما بشكل حاسم في بلورة الكيان السياسي الحالي للعراق وفي إنهاء الانتداب البريطاني واستبعاد مشروع تهنيد العراق أي (إلحاقه بالهند).
يصعب علينا تصديق ان السلطة في العراق لم تدرك استحالة استئصال وجود علمي وسياسي عريق ذي جذور حضارية تمتد لقرون في بيئة العراق كالحوزة العلمية في النجف وكالمرجعيات الدينية في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء وسابقاً في الحلة..
فهل كانت دوائر سياسية خارجية معروفة بدعمها للنظام، تسعى بالضبط إلى تحقيق هذه النتائج القائمة حالياً في العراق: عزلة رهيبة بين النظام الحاكم ومؤسساته من جهة وبين أبناء الشعب من جهة اخرى مع إصرار النظام على البقاء بأي ثمن... بذور صراعات طائفية وقومية وعشائرية قابلة للنمو والتطور واستعداد سلطوي غير معقول لتمزيق نسيج المجتمع القائم... ودفع الأغلبية الشعبية بكل الوسائل للانفجار بأمل استقطاب الاقليات بمبرر دفاع النظام عن مصالحها وبأمل إجهاض جنين التحرك الشعبي الثوري قبل استكمال شروطه الموضوعية.
العوامل التي دفعت النظام الحاكم لاعتماد سياسة التسامح والمهادنة تجاه الإسلاميين الشيعة والمرجعية المتصدية في بداية التسعينات:
1- رغبة النظام في تثبيت دعائم حكمه بعد الهزة الكبيرة بعد الانتفاضة الشعبية وبعد مضاعفات غزو الكويت وتحريرها والعزلة السياسية شبه الكاملة إقليمياً ودولياً.
2- وجود قيادة مرجعية تنطلق من مقولة عدم التدخل في شؤون النظام بشرط عدم التدخل في شؤون الحوزة والمرجعية (يچفّونا شرهم ونچفيهم شرّنا).
3- احتفاظ النظام بورقة عدم المشروعية القانونية (الرسمية) لحركة المرجعية والتنظيمات الإسلامية، لرفعها في وجهها متى تجاوزت الخطوط الحمراء (من وجهة نظره).
4- الحرص على استيعاب قطاعات ومراكز قوى ضمن الحالة الإسلامية الشيعية القائمة لتحييد موقفها من عملية المواجهة مع قوى المعارضة المسلحة او التي تطرح شعار إسقاط السلطة بكل الوسائل ولمنع انخراط قاعدة تلك الحالة في صفوف القوى المضادة للسلطة، فوضع المعتدلين والمتشددين في الحالة الإسلامية الشيعية في سلة واحدة منذ البداية والتعامل معها بنفس الأسلوب سيؤدي الى خلق تقارب بين الطرفين او على الأقل بين أوساطها الشبابية.
5- محاولة منع استخدام القوى الإقليمية والدولية لورقة اضطهاد الشيعة في العراق وورقة محاربة النظام للمرجعية الدينية.
6- محاولة التعرف على الحجم الحقيقي والنفوذ الحقيقي لقوى الحالة الإسلامية الشيعية، من خلال إتاحة الفرصة لها للظهور على السطح والعمل في العلن.. لكي يتم أخذ ذلك في الاعتبار عند التخطيط لصياغة مستقبل الأوضاع.
بالطبع لم تكن هذه هي المرة الأولى في سياسة المهادنة من قبل السلطة تجاه المرجعية، فقد كان لها سياسة مماثلة في بداية الثمانينات مع مرجعية السيد الخوئي رحمه الله، وذلك عند مواجهتها لحركة الصدر الأول وللحركة الإسلامية العراقية وللجمهورية الإيرانية الإسلامية ولكن الفرق بين الهدنتين كبير.
هذه العوامل وغيرها التي دفعت النظام الى تبني سياسة مرحلية متسامحة تجاه الحالة الإسلامية الشيعية وتجاه المرجعية الدينية، هي بالضبط ما كانت تنتظره قيادة مرجعية كامنة متمثلة بالسيد محمد محمد صادق الصدر رضوان الله عليه : فالشهيد السيد الصدر الثاني:
- من آل الصدر المعروفة في الفقه والسياسة في العراق.
- وهو تلميذ السيد الشهيد الصدر الأول رضوان الله عليه.
- وهو المعتقل في السبعينات بتهمة الانتماء لتنظيم إسلامي سري.
- وهو العالم والفقيه والباحث في سيرة الأئمة وصاحب أفضل موسوعة معاصرة عن الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف.
والمستوعب لأدق قوانين وسنن التحرك السياسي والاجتماعي في عصر الغيبة الكبرى التي نعيش مرحلة متقدمة فيها...
(بالطبع فهم سمات عصر الغيبة الكبرى هو المنطلق الصحيح لتحرك إسلامي معاصر ينطلق من خط أهل البيت عليهم السلام، وليس سقوط الخلافة العثمانية وغياب الكيان السياسي الإسلامي كما طرحت ذلك حركات إسلامية متأثرة بالفكر الخلافي).
- هو ذو الشخصية ذات الجنبة العرفانية البسيطة والبعيدة عن الطقوس التشريفاتية للمرجعيات التقليدية، والمحبة للجماهير او ما يسمى بالعوام لدى البعض والمتجاوز للكثير من الخطوط الحمراء الوهمية التي لا ندري من أين جاءت... التي تعزل الفقهاء والمراجع عن هموم الأمة وآلامها وآمالها.
وهنا يجب ان نستذكر السياق العام لحركة الصدر الثاني، فالرجل لا يتحرك خارجه، فالحالة الإسلامية الشيعية والمرجعية الدينية الرشيدة:
- تُعتبر واحدة من اقدم واكبر الحركات الإسلامية ذات النفوذ في العراق وفي العالم الاسلامي، وهي الأم لأكثر تنظيمات الساحة الإسلامية العراقية (وحتى غير العراقية)، بل ويمتد تأثيرها الى صفوف الحركة الوطنية العراقية غير الإسلامية ودورها معروف في نشأة الدولة العراقية المعاصرة ومواجهة الاحتلال الأجنبي.
- وتمتلك القدرة التعبوية العالية لتعبئة الجماهير، إذا تصدّت للتحرك والعمل.
- وتتميز بسعة قاعدتها الجماهيرية بالرغم من كل جوانب عزلة بعض رموزها عن حركة المجتمع.
- كما إنها تعبّر عن حالة متماسكة بمجملها وذات نظرية سياسية واجتماعية وثقافية متكاملة.
- إضافة الى اكتفائها الاقتصادي نسبياً وارتباط العديد من المؤسسات الاجتماعية والثقافية والتعليمية بها.
وتبرز أهمية هذه الخصائص بالمقارنة مع ضعف وهشاشة القوى السياسية الأخرى، وخاصة في مجال انعدام حصانتها العقائدية والاخلاقية.
إذا جاز لنا ان نستقرئ حركة الأفكار في عقلية الفقيه الشهيد (الصدر الثاني) فربما تكون العوامل التالية هي التي شكلت رؤيته لطبيعة المرحلة القائمة وما هو مطلوب تجاهها:
1- طبيعة فهمه لدور الفقيه او المرجع الديني في الأمة.
2- تقييمه وفهمه لتجربة قيادة المرجعية لثورة العشرين الوطنية، والدروس التي يُمكن الخروج بها من تلك الحركة الرائدة.
3- طبيعة وعيه لخطورة النفوذ الاستكباري الخارجي في البلد.
4- طبيعة وعيه للأدوار المناط تحقيقها بالنظام البعثي(الأداة المتقدمة للقوى الخارجية) الذي وصل الى السلطة في العراق بانقلاب 17-30 تموز 1968م.
5- وعيه لقوانين التحرك وسنن التغيير السياسي او الاجتماعي في المجتمعات المسلمة في هذه المرحلة التاريخية (وهي مرحلة متقدمة في عصر الغيبة الكبرى).
6- ملابسات الواقع القائم للمرجعية الدينية في العراق ومضاعفات واقعها في العقود الأخيرة الماضية.
7- فهم وتقييم تجربة حركة المعارضة العراقية عموماً وحركة المعارضة الإسلامية خاصة، وبالأخص بعد استشهاد المرجع السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه وبعد مضاعفات غزو النظام للكويت ومنها فشل الانتفاضة الشعبية (آذار 1991).
8- فهم ووعي واقع السلطة القائم (عناصر قوتها وعناصر ضعفها وموقف الشعب منها وموقف الدوائر الإقليمية والدولية منها... سياساتها العامة وسياساتها المرحلية... مواقفها الراهنة من القيادات الدينية... استحقاقات حملها للشعارات الإسلامية وشعار مواجهة القوى الخارجية).
كيف قرأ الصدر الثاني الواقع العراقي عند تصديه:
1- مجازر وحشية ينفذها النظام تجاه الشيعة دون أن تتمكن قوى المقاومة والمعارضة من إيقافها، ودون أن تبدي أية قوة إقليمية او دولية استعدادها لإيقافها.
2- فراغ شبه كامل في ساحة قيادة المرجعية للامة(باستثناء إعطاء الأجوبة الفقهية على المسائل العبادية الفردية).
3- تكتفي المعارضة الإسلامية (المعارضة العراقية عموماً) بالعمل المنظم السري في ظل ظروف صعبة جداً او تكتفي بعمليات مسلحة غير محكومة بخطة سياسية وذلك ضمن مرحلة اضرب واهرب، وهذه الفعاليات بطبيعتها لا تناسب قطاعات واسعة من الأمة لصعوبة شروطها.
4- يكاد محور متطرف في النظام يرفع شعار (لاشيعة بعد اليوم) ان يفرض هذا الشعار كسياسة حكومية رسمية، وربما بسكوت وتواطؤ مريب من قبل بعض الدوائر الإقليمية والدولية.
5- عدم وضوح معالم خطة سياسية متكاملة تعتمدها القوى المعارضة في الخارج لإطاحة نظام صدام.
6- لا يمكن تحقيق تغيير حقيقي في أوضاع العراق دون مشاركة شعبية واسعة، ولا يمكن تحقيق هذه المشاركة دون ان تتطور حركة الجماهير ضمن أجواء عمل علنية وطبيعية...
من وظّف الهدنة لصالحه: النظام أم المرجع المتصدي؟
كما ذكرنا فيما سبق، ان اهم ما يميز سياسة الصدر الثاني في تعامله مع مبدأ (الهدنة) مع النظام الحاكم في بغداد، هو:
- التحرك الجاد لجعل استحقاقات الهدنة تصب في مصلحة قضايا الامة والدين وعدم الاكتفاء بالاستحقاقات الضيقة الفئوية أو الذاتية.
- بناء قاعدة شعبية واسعة تدعم تحركه الديني والثقافي وحتى السياسي، لكي لا يتم الصراع مع النظام لاحقاً بمعزل عن الجماهير.
- تثبيت وترسيخ أعراف ومؤسسات لها قابلية الاستمرار حتى بعد تغير الشروط التي ادت الى حصول الهدنة، من قبيل صلاة الجمعة وقضاة الشرع ومواكب المشاة في الخامس عشر من شعبان وغيرها.
- العمل على توظيف نتائج الهدنة في المدى المنظور ضمن خطط المعارضة لتغيير نظام الحكم وتمكين الشعب المسلم في العراق من تقرير مصيره بنفسه(وصلت اشارات من الصدر الثاني الى بعض زعامات المعارضة في الخارج بهذا الاتجاه، اضافة الى ارسال السيد جعفر الصدر(نجل الشهيد الصدر الاول) الى الخارج وسعيه لفتح ممثلية للصدر الثاني هناك ومحاولة فتح قنوات حوار وتفاهم مع قيادات المعارضة الاسلامية والكيان السياسي الاسلامي القائم لدعم خطة تغيير مقترحة تنفذها قوى الداخل، فيه الكثير من الدلالات على ذلك...).
لا نحتاج الى جهد كبير لاثبات نجاح الصدر الثاني في مساعيه لاستثمار الهدنة لصالح الاسلام والشعب المسلم في العراق، بل ولصالح مصالح العراقيين عموماً ...
فصلوات الجمعة التي يشارك فيها مئات الآلاف اسبوعياً وانخراط قطاعات شعبية واسعة في ممارسات دينية وسياسية خارج نطاق هيمنة السلطة والمحافظة على وجود الكيان الاسلامي والشيعي الشعبي بعد عقود من الزمن من برامج السلطة المنظمة لنشر الالحاد واللاتدين، واجهاض خطط السلطة المضادة للحالة الاسلامية ولمدرسة أهل البيت عليهم السلام، خاصة بعد الصدام الشامل والحاد في الثمانينات، واستئصال بذور الصراعات الطائفية التي تغذيها السلطة وتنشيط الدور السياسي والاجتماعي للحوزة العلمية والمرجعية الدينية واعادة الصراع الى محوره الحقيقي بدلاً من المحاور الكاذبة التي تطرحها السلطة...
بينما عبر التوجه الرسمي للسلطة الحاكمة في السنتين الاخيرتين(98- 1999)، لعرقلة جهود الصدر الثاني واضطهاد وكلائه وأتباعه وقتل العشرات منهم ومن ثم تنفيذ جريمة اغتياله مع اثنين من ابنائه وباشراف مركزي من اعلى سلطة امنية في البلاد، كل ذلك عبّر عن خوف النظام الحاكم من استمرار حركة الصدر الثاني واحساسه بأن نتائج استمرار الهدنة لا تصب في خدمة مصالح النظام وأهدافه.
لم ينجح النظام الحاكم في استغلال الهدنة لاسباغ الشرعية الدينية أو القانونية على وضعه القائم، أو استغلالها لكسب تأييد ودعم القواعد الشعبية الاسلامية الواسعة في الداخل، كما لم يوفق بالرغم من بعض مناوراته ومؤامراته السرية خلف الكواليس (ومنها قتله لاثنين من مراجع الدين- البروجردي والغروي) في اشعال الصراعات الجانبية بين رموز الحوزة الدينية والمرجعية الدينية في النجف الاشرف، كما لم ينجح في احداث صراع حقيقي بين الكيان الاسلامي الشيعي في النجف الاشرف وبين المرجعية او الحوزة في ايران، ولم يسجل ولو دليل واحد على قيام الصدر الثاني بمنح النظام ما يريده من شهادات تزكيه ومواقف تأييد في صراعاته الخاصة مع خصومه، بل ان الدوائر القريبة من الشهيد كانت تنقل نصوصاً واضحة عن سياسات ومواقف الصدر الثاني من النظام.
ان لجوء النظام الى الاغتيال وبتلك الطريقة الخسيسة والمفضوحة هو الدليل القاطع على فشل النظام في توظيف الهدنة مع المرجعية لصالحه، وعلى عجزه السياسي وضعفه الميداني في المواجهة وذلك لعدم قدرته على ادارة الصراع بالوسائل السلمية والسياسية والثقافية.
بل وان لجوء النظام في الاشهر الاولى التي تلت جريمة الاغتيال الدنيئة، الى اتهام القوى المعارضة للسلطة والى تكريم وتمجيد الصدر الثاني في بعض وسائل اعلامه والسماح لآلاف العراقيين باتخاذ قبر الشهيد مزاراً وغير ذلك... يدل على ضخامة الوجود والنتائج التي بناها الصدر الثاني في الواقع العراقي الداخلي.
وحتى هذا التعامل المنافق الذي تعامل به النظام لاشهر، لم يصر عليه النظام وعادت اجهزته الاعلامية والحزبية والامنية الى سياسة تشويه شخصية الشهيد وتسقيط صورته الدينية والسياسية والوطنية..بعد ان تأكد ان نفاقه السياسي لا يصب في مصالحه...وان حركة الصدر الثاني (رض) وما حققته من وجود وانجازات وما تملكه من قواعد شعبية لا يمكن مصادرتها بهذا النفاق السمج.
وتأكد ايضاً بأن استحقاقات تلك السياسة الاعلامية المنافقة التي اتبعها النظام ستكون في المدى المتوسط والبعيد كبيرة ولصالح الحالة الاسلامية الشيعية السائدة وكذلك لصالح تنامي وتطور حالة النهوض الشعبي في الداخل وهي الحالة التي تمثل أرضية التغيير الجذري الشامل في العراق.
بالطبع لا نستغرب من المواقف العدائية لنظام صدام والدوائر الخارجية التي تدعمه من تحرك الصدر الثاني، وانما الاستغراب.. كل الاستغراب من ذلك الموقف السلبي الشاذ وأحياناً المضاد أو المعادي لتحرك الصدر الثاني الذي وقفته شخصيات وفئات تطرح نفسها كقيادات اسلامية معارضة للنظام الحاكم في بغداد ومدافعة عن مصالح الشعب المسلم في العراق.
واذا ما اهملنا مسألة تشخيص وتقييم النوايا (مع اهميتها الكبيرة في التقييم) واكتفينا بمعايير التحليل والتقويم الظاهرة...فاننا نسأل:
ألا تصب مجمل مفردات حركة مرجعية الصدر الثاني وحركة قواعدها ووكلائها في خدمة اهداف الحركة الاسلامية العراقية واهداف تحرك علماء الدين العراقيين المجاهدين خارج الوطن وفي خدمة المعارضة الاسلامية العراقية... بل وكل حركة المعارضة بمختلف توجهاتها وألوانها الفكرية والسياسية..؟.
ألا تكفي معرفة الموقف الحقيقي لنظام صدام من حركة الصدر الثاني لاكتشاف الموقف المطلوب من تلك الحركة؟
عجباً لمن يمتلك كل ذلك التراث الاصيل والغني (في القرآن الكريم وفي نصوص وسيرة المعصومين من اهل البيت عليهم السلام وسيرة اتباعهم المخلصين ومنهم نواب الامام الحجة(عجل الله فرجه الشريف) رضوان الله عليهم وخاصة رابعهم) حول مبدأ ومنهج التقية، ثم لا يحاول ان يفهم اسباب تلك المواقف الحكيمة التي اتخذها الصدر الثاني رحمه الله تجاه بعض المفردات الحساسة في الواقع السياسي العراقي الراهن؟.واسباب تلك التقية الواضحة تجاه اكثر الانظمة دموية ودجلاً؟
وعجباً لمن قرأ ودرس النتاج الفكري للصدر الثاني الذي بدأ بالصدور للامة منذ اواخر الستينات واوائل السبعينات من القرن الماضي، خاصة تحليله السياسي والاجتماعي المعمق للعصور العباسية المتأخرة التي عاصرت كل مرحلة الغيبة الصغرى وبدايات الغيبة الكبرى وبضمنها الفصل المهم عما هو مطلوب خلال الغيبة الكبرى... اتخاذ مسلك السلبية والعزلة او المبادرة الى الجهاد وارتباط الاحكام الاسلامية الخاصة بها بالتخطيط الالهي العام للبشرية...
عجباً لمن يعرف كل هذا التراث الفكري للصدر الثاني ثم يحكم بسذاجته السياسية والاجتماعية!!
وقضية هامة اخرى:
ان من اكبر واخطر الامراض التي يمكن ان تصيب قيادة تحرك سياسي وجهادي معارض، هو مرض محورية الذات او محورية الفئة..بمعنى ان تفترض تلك القيادة ان منهجها في العمل هو وحده الصحيح وان كل من يريد العمل ضد النظام يجب ان يكون عمله من خلالها (اي خلال هذه القيادة) ولاخيارات بديلة اخرى.. وان من لا يرى رؤيتها ويلتزم بتعليماتها ويعمل من خلال قنواتها هو ساذج سياسياً او مشكوك في اخلاصه او مفرق لوحدة العاملين..الخ.
ثم اذا كانت هناك ظروف موضوعية ارغمت شخصيات ومجموعات معارضة على ترك الوطن واتخاذ دول مجاورة او بعيدة قاعدة لنشاطاتها واجهزتها وتشكيلاتها، وارغمتهم الشروط الموضوعية الجديدة في البلدان البديلة على اتخاذ شعارات وسياسات معينة في نشاطهم...الا ان هذا لا يعني عدم وجود شخصيات وقوى واوساط معارضة حقيقية تعمل داخل الوطن لنفس الاهداف الكبرى ولكن بشعارات وسياسات ووسائل اخرى .. وهو ما اثبتته حركة الصدر الثاني..التي كشفت كم ان بعض القيادات المتحركة في الخارج والتي تبالغ في رفع شعار اعتماد الشعب داخل الوطن للتغيير.. كم هي بعيدة في واقعها عن هذا الشعب وتفاعلاته اليومية الواقعية وقواه الميدانية.
ان الصيغة السليمة التي يجب ان يعتمدها جميع العاملين من اجل التغيير في العراق هو التعاون والتكامل والتنسيق والاحتكام الى آراء وتوجهات الاغلبية من ابناء العراق في الداخل والخارج.
نصوص تُعرّف بنماذج من الفكر السياسي للصدر الثاني
كتاب الغيبة الصغرى:
فصل الاتجاهات العامة في هذه الفترة من صفحة 367 الى 393 ويتضمن دراسة الاتجاه العام للامام المهدي (ع) والاتجاه العام للشعب الموالي والاتجاه العام للسفراء والاتجاه العام للدولة.
كتاب الغيبة الكبرى:
- التخطيط الالهي لليوم الموعود من صفحة 233 الى 279.
- في التكليف الاسلامي الصحيح خلال عصر الغيبة الكبرى - من صفحة 336 الى 372 وضمن هذا الفصل بحث عن السلبية والعزلة او المبادرة الى الجهاد / من صفحة 372 الى 395.
- شروط الظهور - من صفحة 476 الى 485 .
تمت الاستعانة بالمصادر التالية عند كتابة البحث:
1/ تاريخ الغيبة الصغرى - محمد الصدر- دار التعارف للمطبوعات- الطبعة الثانية 1980.
2/ تاريخ الغيبة الكبرى - محمد الصدر - دار التعارف للمطبوعات - الطبعة الاولى 1975.
3/ النظام السياسي والاخوان المسلمون في مصر من التسامح الى المواجهة د. حسين توفيق ابراهيم - دار الطليعة بيروت - الطبعة