إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

تحدي موجه لكل شيعي لينقذ ما تبقى من دينه الاثني عشري

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #46
    صلاة التراويح




    العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي



    التراويح: هي النافلة جماعة في ليالي شهر رمضان وإنما سميت (تراويح) للاستراحة فيما بعد كل أربع ركعات.

    ونحن الإمامية لا تفوتنا نوافل رمضان والحمد لله ولكنا نؤديها كما كان يؤديها رسول الله (صلى الله عليه وآله) كماً وكيفاً، عملاً بقوله (صلى الله عليه وآله): صلوا كما رأيتموني أصلي.

    وموضوع هذا البحث بيان وجهة نظر الإمامية في الاجتماع على صلاة التراويح فنقول:

    شرع الله الاجتماع في الصلوات الواجبة كالفرائض الخمس اليومية وفي صلاة الاستسقاء والعيدين والآيات وعلى الجنائز.

    وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقيم ليالي رمضان بأداء سننها في غير جماعة، وكان يحض على قيامها، فكان الناس يقيمونها على نحو ما رأوه (صلى الله عليه وآله) يقيمها.

    وهكذا كان الأمر على عهد أبي بكر حتى مضى لسبيله سنة ثلاث عشرة للهجرة(1) وقام بالأمر بعده عمر بن الخطاب، فصام رمضان من تلك السنة لا يغير من قيام الشهر شيئاً، فلما كان شهر رمضان سنة أربع عشرة أتى المسجد ومعه بعض أصحابه فرأى الناس يقيمون النوافل وهم ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد وقارئ ومسبح ومحرم بالتكبير ومحل بالتسليم في منظر لم يرقه، ورأى من واجبه إصلاحه فسن لهم التراويح أوائل الليل من الشهر وجمع الناس عليها حكماً مبرماً، وكتب بذلك إلى البلدان ونصب للناس في المدينة إمامين يصليان بهم التراويح إماماً للرجال وإماماً للنساء وفي هذا كله أخبار متواترة.

    وحسبك منها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما(2) من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من قام رمضان – أي بأداء سننه - إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، وأنه (صلى الله عليه وآله) توفي والأمر كذلك – أي وأمر القيام في شهر رمضان لم يتغير عما كان قبل وفاته (صلى الله عليه وآله) – ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمراً.

    وأخرج البخاري في كتاب التراويح أيضاً من الصحيح عن عبد الرحمن بن عبد القاري(3) قال: خرجت مع عمر ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاً متفرقون. إلى أن قال: فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد كان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب (قال) ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر: نعمت البدعة هذه. الحديث.

    قال العلامة: القسطلاني في أول الصفحة الرابعة من الجزء الخامس من إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري عند بلوغه إلى قول عمر في هذا الحديث: نعمت البدعة هذه، هذا لفظه: سماها بدعة لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يسن لهم الاجتماع لها، ولا كانت في زمن الصديق. ولا أول الليل، ولا هذا العدد الخ. وفي تحفة الباري وغيره من شروح البخاري مثله فراجع.

    وقال العلامة أبو الوليد محمد بن الشحنة حيث ذكر وفاة عمر في حوادث سنة 33 من تاريخه – روضة المناظر-: هو أول من نهى عن بيع أمهات الأولاد وجمع الناس على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز، وأول من جمع الناس على إمام يصلي بهم التراويح. الخ. ولما ذكر السيوطي في كتابه – تاريخ الخلفاء - أوليات عمر نقلاً عن العسكري(4) قال: هو أول من سمي أمير المؤمنين، وأول من سن قيام شهر رمضان – بالتراويح - وأول من حرم المتعة، وأول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات. الخ. وقال محمد بن سعد – حيث ترجم عمر في الجزء الثالث من الطبقات-: وهو أول من سن قيام شهر رمضان – بالتراويح - وجمع الناس على ذلك، وكتب به إلى البلدان، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة، وجعل للناس بالمدينة قارئين قارئاً يصلي التراويح بالرجال وقارئاً يصلي بالنساء. الخ...

    وحسبناً في حكمة عدم تشريع الجماعة في سنن شهر رمضان وغيرها: انفراد مؤديها جوف؟ الليل في بيته- بربه عز وعلا يشكو إليه بثه وحزنه، ويناجيه بمهماته مهمة حتى يأتي على آخرها ملحاً عليه، متوسلاً بسعة رحمته إليه، لاجئاً، راهباً راغباً منيباً تائباً، معترفاً لائذاً عائذاً، لا يجد ملجأ من الله إلا إليه، ولا منجى منه إلا به.

    لهذا ترك الله السنن حرة من قيد الجماعة ليتزودوا فيها من الإنفراد بالله ما أقبلت قلوبهم عليه، ونشطت أعضاؤهم له، يستقل منهم من يستقل، ويستكثر من يستكثر، فإنها خير موضو، كما في الأثر عن سيد البشر أما ربطها بالجماعة فيحد من هذا النفع، ويقلل من جدواه.

    أضف إلى هذا أن إعفاء النافلة من الجماعة يمسك على البيوت حظها من البركة والشرف بالصلاة فيها، ويمسك عليها حظها من تربية الناشئة على حبها والنشاط لها، ذلك لمكان القدوة في عمل الآباء والأمهات والأجداد والجدات، وتأثيره في شد الأبناء إليها شداً يرسخها في عقولهم وقلوبهم، وقد سأل عبد الله بن مسعود رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيما أفضل: الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال (صلى الله عليه وآله): ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة. رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه كما في باب الترغيب في صلاة النافلة من كتاب الترغيب والترهيب للإمام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، وعن زيد بن ثابت أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة، رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم. وعنه (صلى الله عليه وآله) قال: مثل الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت، أخرجه البخاري ومسلم وعن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا قضى أحد الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، وإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً.

    رواه مسلم وغيره ورواه ابن خزيمة في صحيحه بالإسناد إلى أبي سعيد. والسنن في هذا المعنى لا يسعها هذا الإملاء.

    لكن الخليفة قصد بما أمر به إلى التنظيم وجمع الناس، فإنه رجل تنظيم وحزم، وقدراته من صلاة الجماعة ما يتجلى فيها من الشعائر بأجلى المظاهر إلى ما لا يحصى من فوائدها الاجتماعية التي أشبع القول فيها علماؤنا الأعلام ممن عالجوا هذه الأمور بوعي المسلم الحكيم.

    وأنت تعلم أن الشرع الإسلامي لم يهمل هذه الناحية. بل اختص الواجبات من الصلوات بها، وترك النوافل للنواحي الأخر من مصالح البشر.






    الهوامش:

    1- وكان ذلك ليلة لثمان بقين ما جمادى الآخرة وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام.

    2- فراجع من صحيح البخاري في كتاب صلاة التراويح ص333 من جزئه الأول. وراجع من صحيح مسلم باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح من كتاب صلاة المسافرين وقصرها ص283 والتي بعدها من جزئه الأول.

    3- القاري بتنوين عبد وتشديد ياء القاري نسبة إلى قارة وهو ابن ديش بن ملحم ابن غالب المدني. كان عامل عمر على بيت المال وهو حليف بني زهرة. روى عن عمر وأبي طلحة وأبي أيوب، وأبي هريرة، وروى عن ابنه محمد، والزهري، ويحيى ابن جعدة بن هبيرة. مات سنة ثمانين. وله ثمان وسبعون سنة.

    4- العسكري هو الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى يكنى أبا هلال اللغوي، له كتاب الأوائل فرغ من تأليفه يوم الأربعاء لعشر خلت من شعبان سنة 395.






    هل كان المصطفى يصلي التراويح

    محمد محسن العيد

    لم يخلق الله تعالى الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدى، ولم يكن الدين الذي أنزله على رسوله المصطفى ناقصاً حتى يتفضل زيد أو عمر ويأتوا بما يتمه، ولذا فإن كل من يأتي بما أتاه الرسول متبعاً وموالياً فهو بعيد عن العبث والعبثية، وكل من أتى بما لم يأتي من الرسول فهو عبثي مضل. كما جاء في قوله تعالى:

    (أفحسبتم أنما خلقكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) [المؤمنون: الآية115].

    (أيحسب الإنسان أن يترك سدى)[القيامة: الآية 36].

    (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)[المائدة: الآية 3].

    فنحن إنما خلقنا لمهمة ولم يتركنا ربنا سدى وديننا نزل كاملاً ومفصلاً.. ثم هو سبحانه جل شأنه غني حميد ليس به حاجة لزيادة في عبادة من أحد من خلقه، بل إن كفر جميع الناس لم يضره شيء، وإن تعبّد كل من في الكون لا ينفعه شيء ولكنه جل وعلا لا يرضى لعبادة الكفر.. قال تعالى:

    (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم )[الزمر: الآية 7]. ومن أجل أن يحسن الآدمي كما احسن الله إليه عليه أن يتجنب العبث إذ للآدمي مهمة سامية على ظهر هذا الكوكب لا تنجز إلا من خلال خيار الله تعالى له في الطاعات التي بينها في رسالته لا زيادة ولا نقصان.. حيث قضاء مهمة الآدمي التي خلقه الله تعالى من اجلها هي رهن خيارات خالقة له وحسب. فإذا رأى الآدمي في خياراته حسناً على خيارات المحسن كفر... قال تعالى:

    (إني جاعل في الأرض خليفة)[البقرة: الآية 30].

    وتلك هي المهمة الآدمية التي انتدبه ربه لها: الخلافة في الأرض.

    وقال تعالى:

    (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا، حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)[البقرة: الآية 35].

    وهذا هو خيار الله تعالى لآدم في مهمته، فأما الطاعة لأمر الله ونهيه فالجنة، وأما الرفض لخيار الله تعالى فالوقوع في الظلم والخسران.

    والجنة ليست حديقة، وإنما الجنة نظام حياة كريمة وراغدة وموسعة كما يصفها الله تعالى، فالأصل في الأشياء الحلية ـ كما يقول الفقهاء ـ وإنما المحرم محصور وضيق.

    ولقد تميز الإنسان بالقدرة على الاختيار بملكة العقل، وقد جعل الله تعالى طاعة الإنسان خياراً لعقله، وهي ميزة ممكن أن تجعل الإنسان إذا تمسك بخيارات الله تعالى له، في أحسن تقويم، ويمكن أيضا أن تروه أسفل سافلين إذا تجاوز بخياراته على خيارات ربه.

    فالعقل خلق يميز به بين الحق والباطل وبين الظلم والعدل وبين الحسن والسوء. وبذا صار الإنسان خليفة في قدرته لخيار الحق سبحانه وتجسيده عدلاً يلمس وينظر، وخيار الحسن وتجسيده فعلاً وقولاً.. وهذا يعني إنما العقل يبرز من خلال ثوابت الوجود، حيث هي مواقع الصدق فيه، وهي الحق... وإن من سنن الله الحسنة وكلها حسنة التي مضت وتحكمت، هي سنة العدل والحق، وشواهد هذه السنة في الواقع بادية ثابتة واضحة، يستشفها العقل وبها يعلم ويتعلم ويعلّم، وبها يجسد العدل ويرتب الجزاء على من يتجاوزه، قال تعالى:

    (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)[الأعراف: الآية 181].

    وفي هذه الآية إشارة إلى خلق من ذرية آدم، هم المقصودين في معرفة الحق وبمواقع تجسيده عدلاً.. وقد قال تعالى:

    (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم)[آل عمران: الآية 33].

    وهؤلاء المصطفون يرتبطون بالحق والنور بالوحي الذي يرفع عن عقولهم القصور ويوضحون لأقوامهم بالتفصيل حقائق خيارات الله تعالى.

    (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة، فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده، قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين)[الأنعام: الآية 90].

    لذا فهو واضح من قول الله تعالى، أن العبثي واضح جداً من خلال تجاوزه لخيارات الله تعالى بالبدع، والذي يبدع في الدين بغير ما انزل الله تعالى، إنما هو عنوان للضلالة والكفر ومؤاخاة إبليس.

    وعلى الذي يؤمن بأنه آدمي وله مهمة وعليه رسالة ولله في خلقه خيار، هو نفس خياره في آدم، عليه أن يتجنب كل مبدع مظل، ويبحث عمن اختارهم الله سبحانه وتعالى منقذين لعباده من العبث الذي يجانب خيارات الله ويجانب العابثين من الذين أنهم يحسنون صنعا.

    فالأصل في مهام الإنسان وإمضاء رسالته هي الطاعة لله تعالى واجتناب معاصيه.. فعلى سبيل المثال لا الحصر، الذي يصوم في موضع الإفطار، أو يفطر في موضع الصيام إنما هو عاص، فليس المطلوب غير الطاعة، وليس لله حاجة في صيام الإنسان أو إفطاره إنما خيار الله تعالى هو في الطاعة وحسب.

    وقد يصلي أحدهم الصبح أربع ركع ويظن أنه متفضل على الله لأنه يزيد في الطاعة ويحسن صنع فالناس أقل منه إذ يصلون ركعتين فقط.. وهذا في الواقع وعند الله تعالى ليس بمسلم، إنما هو مبدع ومضل وكافر.. وهذا الكلام ليس افتراضي إنما هو واقع، فهذا ما فعله الوليد الذي ولاه عثمان بن عفان الكوفة إبان خلافته.

    فقد جاء في الكامل لابن الأثير الجزء 3، ص53.. ومثله في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، الجزء 17، ص230 وص254: (إن الوليد تقيأ في المحراب لما شرب الخمر في الكوفة وصلى الصبح أربعاً وقرأ بالمأمومين رافعاً صوته:

    علق القلب الربابا***بعد ما شابت وشابا)

    إن مثل هؤلاء ممن ولي أمور المسلمين ولاية عبثية، وأبدعوا خيارات عبثية، إنما هم في ذاتهم لا يعلمون معاني خلقهم ومعاني الدين ومعاني خيارات الله المنجية ولم يعوا مهامهم كبشر وكمسلمين، فضلاً عن كونهم ولاة لأمور المسلمين، فالولاية عندهم درة يضربون بها وسلطة مطلقة على كل بني آدم، ورفاه ما دونه عنت، وإمرة دون أية طاعة لله، ثم هي الحسن فيما يستحسنون والقبح فيما يستقبحون دون دين الله تعالى وخياراته والويل لمن يرفض، وهم بالحق الأئمة الذين يدعون إلى النار حيث لا خيار بعد خيار الحق سبحانه إلا الضلال.. قال تعالى:

    (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال)[يونس: الآية 32].

    وبعد الإيمان بكمال الدين وتمام النعمة حتى ولو بالمعنى العام.. وبعد الإيمان بعدم عبثية خلق الآدمي، وأنه متابع وغير متروك سدى.. بعد هذا كله فإن الذي يأتي بأمر يظن أن الدين يتم به ويكون أحسن، إنما هو مبدع ومضل.

    روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال:

    (أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة بدعة فلا تجمعوا ليلاً في شهر رمضان في النافلة ولا تصلوا صلاة الضحى فإن قليلاً في سنة خير من كثير في بدعة إلا وإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار)(1).

    وهذا توجيه صريح من رسول الله تعالى بكون الجماعة في النافلة بدعة والتراويح لا تخرج عن هذا المعنى.

    ولكن السؤال هل يعلم الخليفة أن التراويح بدعة؟

    روي أنه عندما أمر عمر بن الخطاب بصلاة التراويح، وقيل أنها بدعة قال عمر: (بدعة ونعمة البدعة)(2).

    أعوذ بالله تعالى من هذه الجرأة على دين الله تعالى، وإنه لغرور وطغيان ما بعده غرور!

    فقد أورد القسطلاني في (إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري) الجزء الخامس ص5، وقال سماها بدعة لأن رسول الله صلى الله عليه [وآله] لم يسن الاجتماع لها ولا كانت في زمن الصديق ولا أول الليل ولا هذا العدد.

    وروى البخاري(3) ومسلم(4) في صحيحيهما وابن الأثير(5) في جامع الأصول عن أبي سلمة أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه [وآله] في رمضان؟ فقالت:

    (ما كان يزيد في رمضان ولا في غيرها على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسألوا عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً، فقلت يا رسول الله! أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة أن عيني تنامان ولا ينام قلبي)(6).

    وروى في ذلك روايات أخرى قريبة كما في مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين باب صلاة الليل.

    وروى ابن الأثير في جامع الأصول عن زيد بن ثابت قال:

    (احتجر النبي صلى الله عليه [وآله] حجيرة بخصفه أو حصير، قال عفاف في المجد وقال عبد الأعلى في رمضان، فخرج رسول الله صلى الله عليه [وآله] يصلي فيها، قال: فتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته قال ثم جاءوا إليه فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه [وآله] عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه [وآله] مغضباً، فقال لهم: ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه ستكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)(7).

    روى النسائي: إن رسول الله صلى الله عليه [وآله]، اتخذ حجرة في المسجد من حصير فصلى رسول الله صلى الله عليه [وآله] فيها ليالي فاجتمع إليه ناس ثم فقد صوته ليلة فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج فلم يخرج، فلما خرج للصبح قال: ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)(8).

    وفي مسلم في صحيحه عن أنس، قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلي في رمضان، فجئت فقمت إلى جنبه وجاء رجل فقام أيضا، حتى كنا رهط، فلما أحس النبي (صلى الله عليه وآله) أنّا خلفه جعل يتجوز في الصلاة، ثم دخل رحله فصلى صلاة لا يصليها عندنا، قال قلنا له حين خرج: أفطنت بنا الليلة؟ قال: نعم، ذلك الذي حملني على ما صنعت)(9).

    ومثل هذه الأحاديث الصحيحة كثيرة جداً في كتب أرباب الحديث، ولكن الغريب أن بعضهم قال أن النبي (صلى الله عليه وآله) أتى بها ثم تركها من غير نسخ، وهو يتعارض مع قوله عليكم بالصلاة في بيوتكم، وقوله (صلى الله عليه وآله) ذلك الذي حملني على ما صنعت، وغضبه لاجتماعهم في النافلة، لا يعني مطلقاً أن التراويح كانت عملاً جائزاً.

    والأغرب من هذا كله أن كل كتب الحديث وكتب التاريخ على الإطلاق تقول أن صلاة التراويح من مبدعات عمر بن الخطاب.. فلماذا هذه الدعاوى وهذه التعاليل؟! ولمزيد من المصادر التي تصرح بأن التراويح من مبدعات عمر انظر:

    ـ تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص54.

    ـ وتاريخ ابن سمنه، حوادث سنة 23هـ.

    ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي.

    ـ طبقات ابن سعد، ج3، ص281، وجاء فيها:

    (وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة، وجعل للناس بالمدينة قارئين، قارئاً يصلي بالرجال وقارئاً يصلي بالنساء).

    ـ والطبري في تاريخه، ج5، ص22.

    ـ والكامل لابن الأثير، ج2، ص41.

    وقد تقدم في البحث عن محاضرات الأوائل وإرشاد الساري في شرح صحيح البخاري وغيرهما.

    ولذا فإن صلاة التراويح لم يشرعها الشارع المقدس، بل هي بدعة.. وقد روى البخاري ومسلم عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (من رغب عن سنتي فليس مني)(10).




    الهوامش

    1 ـ نصّ الباجي والسيوطي، والسكتواري على أن أول من سن التراويح عمر بن الخطاب، كما في محاضرات الأوائل، ص149، في طبع 1311هـ وفي ص98، طبع سنة 1300هـ. وفي شرح المواهب للزرقاني، ج7، ص149 وجاء في الشافي، ج4، ص219، وسنن أبي داود، ج2، ص261، ومقدمة سنن ابن ماجة، ص46.

    2 ـ في صحيح البخاري، الجزء الرابع، ص218، في صلاة التراويح باب فضل من قام رمضان وفي موطأ مالك الجزء الأول، ص114، في الصلاة في رمضان باب ما جاء في قيام رمضان.

    وفي جامع الأصول لابن الأثير الجزء 6، ص122، حديث 4222.

    3 ـ صحيح البخاري، الجزء 3، ص16، (كتاب التهجد، باب كيفية صلاة النبي (صلى الله عليه وآله)).

    4 ـ صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد لركعات النبي (صلى الله عليه وآله)، حديث 736، 738، الجزء الأول، ص509.

    5 ـ جامع الأصول لابن الأثير، الحديث 4198، الجزء 6، ص93.

    6 ـ روي الحديث في كتب الصحاح في:

    7 ـ جامع الأصول لابن الأثير، الحديث 4218، الجزء 6، ص118-119.

    ومعنى حصبوا الباب رموه بالحصى ليدقوه كي يخرج إليهم النبي (صلى الله عليه وآله) ـ وهو مما لا يليق بخلق الإنسان المؤمن ـ إلا أنهم كما يبدوا كانوا ممن وصفهم الله تعالى في سورة الحجرات، وهم الذين ينادونه من وراء الحجرات.

    8 ـ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وكما يلي:

    ـ في صحيح البخاري الجزء 10، ص430، كتاب الأدب باب ما يجوز من الغضب، وجاء أيضا في كتاب الجماعة باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة، وفي كتاب الاعتصام باب ما يكره من كثرة السؤال.

    ـ وفي صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، حديث 781.

    ـ وفي سنن أبي داود كتاب الصلاة باب فضل التطوع في البيت حديث 1447.

    ـ سنن النسائي، ج3، ص198، كتاب قيام الليل باب الحث على الصلاة في البيوت.

    ـ وجاء في جامع الأصول لابن الأثير الجزء 6، ص119، ذيل حديث 4218.

    9 ـ أورده مسلم في صحيحه كتاب الاعتصام باب النهي عن الوصال في الصوم حديث 1104، وأخرجه ابن الأثير في جامع الأصول الحديث 4216 ومعنى قوله جعل يتجوز في الصلاة، أي خففها (صلى الله عليه وآله).

    10 ـ ورد في:

    ـ صحيح البخاري، كتاب النكاح، ج6، ص112، الحديث الأول.

    ـ صحيح مسلم، ج5، ص13.

    تعليق


    • #47
      المذاهب الأربعة والتقليد


      • توطئة

      إنّ أكبر طائفة من المسلمين الآن يقلدون أحد المذاهب الأربعة: (الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي).

      ولكن، هل الإسلام محصور بهم، ومن أين اكتسبت الشرعية لتكون هي الناطقة عن السماء؟! بمعنى آخر: هل تبرئ ذمتي أمام الله عز وجل؟


      • أين الدليل

      إنّ الباحث في الكتاب والسنة لا يجد أدنى دليل يلزم المسلمين باتباع أحد المذاهب الأربعة، وإلى هذا ذهب شيخ الأزهر الراحل جاد الحق علي جاد الحق(1).


      • نهي الأئمة عن تقليدهم

      كيف أتبع أحد المذاهب الأربعة وقد نهوا الناس عن تقليدهم؟!

      أقوال أبي حنيفة:

      1 - لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف من أين أخذناه(2).

      2 - قيل لأبي حنيفة: يا أبا حنيفة هذا الذي تفتي فيه هو الحق الذي لاشك فيه؟ فقال: (لا أدري لعلّه الباطل الذي لاشك فيه...)(3).

      أقوال مالك بن أنس:

      1 - إنّما أنا بشرٌ أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه(4).

      وقد استفاد ابن حزم(5) والشوكاني(6) من هذا القول نهي مالك عن التقليد.

      2 - قال مالك: (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين)(7).

      3 - دخل القعنبي على مالك فرآه يبكي فسأله: ما الذي يبكيك؟ - يقول - فقال لي: (يا ابن قعنب ومالي لا أبكي! ومن أحقُّ بالبكاء مني! لوددتُ أني ضربتُ سوطاً وقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفتِ بالرأي)(8).

      أقوال الشافعي:

      1 - (ما قلتُ وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد قال بخلاف قولي، فما صحّ من حديث النبي أولى ولا تقلدوني)(9).

      2 - (لا يُقلّدُ أحد دون رسول الله (صلى الله عليه وآله) )(10).

      3 - قال الشافعي للمزني: (يا إبراهيم، لا تقلدني في كل ما أقول! وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين)(11).

      أقول أحمد بن حنبل:

      1 - لا تقلدني!! ولا تقلد مالكاً!! ولا الشافعي!! ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا)(12)

      2 - قال أبو داود: قلت لأحمد: (الأوزاعي أتبع أم مالكاً؟ قال:

      (لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء!! ما جاء عن النبي فخذ به)(13).

      3 - (لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا)(14).


      • الأئمة أموات

      قبل أكثر من ألف سنة مات الأئمة الأربعة وتركوا فتاوى لأحداث عصرهم، وبعدهم استجدت أمورٌ كثيرة خاصة في عصرنا الحاضر كيف أقلدهم في المسائل المستحدثة وهم في قبورهم؟!


      • الأئمة لم يروا النبي (صلى الله عليه وآله)

      لقد ولد أول الأئمة سنة 80 هـ وهكذا بقية الأئمة ولدوا متأخرين عن عصر الرسالة، فكيف حُصِرَ الإسلام بهم، وإذا لا تكون النجاة إلا بهم فكيف عاش الناس قبلهم، ومن قلّد الأئمة قبل أن يجتهدوا؟!


      • صراع الأئمة

      عن الوليد بن مسلم قال: قال لي مالك بن أنس: أيذكر أبو حنيفة ببلدكم، قلتُ: نعم، قال: ما ينبغي لبدلكم أن يسكن)(15).

      وكان الأوزاعي يقول: إنّا لا ننقم على أبي حنيفة أنه رأى، كلنا يرى، ولكننا ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) فيخالفه إلى غيره(16).

      وقد ضعّف البخاري أبا حنيفة(17).

      أما مالك بن أنس فقد تكلّم فيه ابن أبي ذئب وتحامل عليه الشافعي(18).

      والشافعي تكلم فيه يحيى بن معين - إمام الجرح والتعديل - وقال عنه (ليس بثقة)(19).

      وامتد الصراع في القرون اللاحقة إلى اتباع المذاهب نفسها فقد أحرق الحنابلة مسجداً للشافعية، وقام خطباء الحنفية يلعنون الحنابلة والشوافع على المنابر، ووقعت فتنة بين الحنفية والشافعية فحرقت الأسواق والمدارس(20).

      يقول ابن حاتم الحنبلي: (من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم)(21).

      وكفّر أبو بكر المقري جميع الحنابلة(22).


      • خلاصة الكلام

      إنّ السياسة هي التي فرضت على الناس اتباع هذه المذاهب وفي زمن السلطان بيبرس أفتى الفقهاء بوجوب اتباع المذاهب الأربعة وتحريم ما عداها(23).

      وكمثال على دور السياسة في تثبيت المذاهب، تجد الدولة العثمانية تتّبع المذهب الحنفي لا لشيء إلا لأنّ أبا حنيفة كان يجوّز أن يكون الإمام من غير قريش بعكس الأئمة الثلاث. فوجدوا في فتواه ما يثبت عرشهم!


      الهوامش

      1 - الدروس الحسينية.

      2 - الانتقاء: ابن عبد البر: ص 145.

      3 - أبو حنيفة: أبو زهرة.

      4 - جامع بيان العلم: ابن عبد البر: ج 1 ص 775.

      5 - الإحكام في أصول الأحكام: ج 6 ص 294.

      6 - القول المفيد: ص 50.

      7 - جامع بيان العلم: ج 2 ص 33.

      8 - جامع بيان العلم: ج 2 ص 1072، الإحكام: ج 5 ص 224.

      9 - آداب الشافعي ومناقبه: ابن أبي حاتم الرازي: ص 93.

      10- الرد على من أخلد إلى الأرض: السيوطي: ص 138.

      11- حجة الله البالغة: ج 1 ص 157، الإنصاف: الدهلوي: ص 105.

      12- إعلام الموقعين: ج 2 ص 201.

      13- إعلام الموقعين: ج 2 ص 200

      14- مجموع فتاوى ابن تيمية: ج 20 ص 212.

      15- العلل ومعرفة الرجال: أحمد بن حنبل: ج 2 ص 547.

      16- تأويل مختلف الحديث: ابن قتيبة: ص 52.

      17- الانتقاء: ابن عبد البر: ص 150.

      18- جامع بيان العلم: ج 2 ص 1115.

      19- جامع بيان العلم: ج 2 ص 1114.

      20- البداية والنهاية: ج 14 ص 76.

      21- تذكرة الحفاظ: ج 3 ص 375.

      22- شذرات الذهب: ج 3 ص 252.

      23- الخطط المقريزية: ج 2 ص 333.

      تعليق


      • #48
        محنة السنة النبوية

        الأستاذ مروان خليفات

        السنة هي المصدر الثاني الذي يعتمد عليه المسلمون بعد القرآن، ففيها تفصيلاً لمجمله، وتخصيصا لعامه وتقييداً لمطلقه، وتحوي كثيراً من التشريعات والآداب ...

        وبالرغم من أهميتها إلاّ إنها مرّت بأزمات بعد رحيل صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله).


        • السنة في عهد الخلفاء

        عن ابن أبي مليكة: (إنّ الصديق - يقصد أبا بكر - جمع النّاس بعد وفاة نبيهم، فقال: إنكم تحدّثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحاديث تختلفون فيها، والنّاس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرّموا حرامه.[تذكرة الحفاظ 1/ 2 و3].

        وجمع أبو بكر خمسمائة من الأحاديث ثمّ أحرقها ولما سألته عائشة لما أحرقها؟ قال: (خشيت أن أموت وهي عندي، فيكون فيها أحاديث عن رجل أئتمنته ووثقت، ولم يكن كما حدثني)[تذكرة الحفاظ: ص 5].

        فأبو بكر منع الناس من نشر الحديث كما في الرواية الأولى وأحرق خمسمائة حديث!

        عن يحيى بن جعدة أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب في الأمصار من كان عنده شيء فليمحه.[جامع بيان العلم: ج 1 ص 64].

        وعن عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم يملي عليّ أحاديث، فقال: (إنّ الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها أمر بتحريفها..).[طبقات ابن سعد ج 5 ص 188].

        وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ أنّ عمر حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري فقال: (قد أكثرتم الحديث عن رسول الله...).[تذكرة الحفاظ ص 1 ، ص 7].

        عن محمود بن لبيد قال: سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: (لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر...).[منتخب كنز العمال ج 4 ص 64].

        هذه روايات قليلة تبين تعامل الخلفاء مع السنة فقد منعوا الرواية وأحرقوا الأحاديث التي بين أيديهم وبالرغم من أنّ عدد الصحابة يتجاوز مائة ألف صحابي إلا أنّ عدد الرواة عنه يبلغ 1500 راو، راجع كتاب بقي بن مخلد القرطبي الدكتور أكرم ضياء العمري.


        • السنة في عهد التابعين

        لم يكن حال السنة بجيد في هذا العهد فقد بقيت عرضة للمحو والنسيان والضياع وهذه بعض الأمثلة.

        قال الشعبي - وهو أحد كبار التابعين - (ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه أحد لكان به عالماً!!).[تذكرة الحفاظ].

        وأحرق الحسن البصري الكتب التي كانت بحوزته.[طبقات ابن سعد ج1 ص 127].

        قال الأوزاعي: (جالست يحيى بن أبي كثير، وكتبت عنه أربعة عشر كتاباً أو ثلاثة عشر، فاحترق كله!!).[تاريخ تدوين الحديث النبوي: للأعظمي ج 1 ص 321].

        كان عبيدة بن عمرو السلماني المرادي من فقهاء الكوفة وكانت عنده كتب كثيرة، فدعا بها عند موته فمحاها! وقال: (أخشى أن يليها أحد بعدي فيضعوها في غير موضعها).[طبقات أبن سعد ج 6 ص 630].


        • السنة في عهد المحدثين

        إن الأحاديث الصحيحة الموجودة حالياً دون تكرار لا تتجاوز أربعين ألف حديث. في حين كان المحدثون في هذا العهد يحفظون أضعاف هذا الرقم!!

        قال البخاري: (أحفظ مائة ألف حديث صحيح) (وما تركت من الصحاح أكثر) راجع ترجمة البخاري في كتب الرجال المختلفة!

        لقد أخرج البخاري في صحيحة 8000 حديث وهو يحفظ مائة ألف حيث، فأين ذهب العدد الباقي؟!

        لقد دونت كتب الحديث في هذه الفترة وكان يطلق على بعض الكتب الموطآت، ذكر الدكتور نور الدين إنّ عدد الموطآت في هذا العهد أربعون موطأ - أجل وليس بين أيدينا سوى موطأ مالك!! فأين ذهبت الموطآت الأخرى.

        أمّا المسانيد: وهي كتب الحديث التي تورد الأحاديث حسب رواتها من الصحابة كمسند أحمد الذي يحوي ثلاثين ألف حديث فقد دونت في هذا العصر وأحصينا في كتابنا (وركبت السفينة) خمسين مسنداً مفقوداً!! لقد كانت السنة عرضة للضياع والمحو والحرق وفقدنا الكثير منها.


        • شهادات في ضياع السنة

        1- قال ابن تيمية: (اللذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين كانوا أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير لأنّ كثيراً ممّا بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول أو إسناد منقطع، أو لا يبلغنا بالكلية! فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين، وهذا الأمر لا يشك فيه من علم القضية.[رفع الملام من الأئمة الأعلام ص 18- 19].

        إنّ صدور المحدثين تحوي أضعاف ما في الدواوين باعتراف ابن تيمية وهذه الأضعاف في صدور المحدثين فقط لا غير وليست بين أيدينا!

        2- حين تعرض السيوطي لحديث (اختلاف أمتي رحمة) قال: (ولعلّه خرّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا!)[ضعيف الجامع الصغير وزياراته، الألباني ج 1 ص 111].

        وكلامه صريح في ضياع كتب الحفاظ ولم يسلم منها إلا ما هو بين أيدينا.

        3- ويعترف رشيد رضا بضياع الأحاديث. قال: (ونحن نجزم بأننا نسينا وأضعنا من حديث بنينا (صلى الله عليه وآله) حظاً عظيماً!! لعدم كتابة علماء الصحابة كل ما سمعوه ولكن ليس منه ما هو بيان للقرآن أو من أمور الدين)[ذكر قول أبو ريّه في: أضواء على السنة المحمدية ص 50].

        تعليق


        • #49
          مروان خليفات

          كان النبي (صلى الله عليه وآله) يشعر بدنو أجله وأحسّ المسلمون بذلك في حجة الوداع، وكان (صلى الله عليه وآله) يعلم أن الكتاب والسنة دون مبين لهما غير كافيين لمواصلة المسيرة المباركة التي ابتدأها، لذلك أعلن في حجة الوداع على مرأى ومسمع الألوف من الحجّاج مرجعية أهل البيت(1) (عليهم السلام) الفكرية والسياسية(2).

          وقد نقل لنا مسلم هذه الوصية التاريخية في صحيحه وبعدة طرق: قال زيد بن أرقم ـ أحد رواة الحديث ـ: « قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوماً فينا خطيباً بماء يُدعى خُمّاً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكَّر، ثم قال: أمّا بعد ألا أيُّها الناسُ فإنّما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به »، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثمّ قال: « وأهلُ بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي »(3).

          وفي صحيح الترمذي ومستدرك الحاكم ـ وصححه ـ: « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، لن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما »(4).

          ولقد روى هذا الحديث عن النبي خمسة وثلاثون صحابياً(5)، وصحّحه كثير من علماء الحديث، منهم: الحاكم في المستدرك، الذهبي في تلخيص المستدرك، الهيثمي في مجمع الزوائد، وابن كثير في تاريخه، والسيوطي في الجامع الصغير(6)، وابن تيمية ذكره في منهاج السنة عدّة مرات، وصححه من المعاصرين الالباني المحدّث السلفي(7)، والمحدث الاشعري الحسن السقّاف(8).

          وبالرغم من أنّ الحديث صريح في وجوب إتباع الثقلين معاً الكتاب وأهل البيت (عليهم السلام)، إلاّ أنّ البعض ـ كابن تيمية ـ شكك فيه وعندما اصطدم برواية مسلم قال: « الحديث الذي في مسلم إذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد قاله!! فليس فيه إلاّ الوصية بإتباع الكتاب، وهو لم يأمر بإتّباع العترة، ولكن قال: «أذكركم الله في أهل بيتي»(9).

          ومن الطبيعي إنّ الذي يعتصر مخيلته ليصرف أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) في أهل بيته (عليهم السلام) عن معانيها يقع في هذه المطبات، فإذا كان الأمر مجرد تذكير، فلماذا يقرنهم بالقرآن فيقول: « إني تارك فيكم الثقلين » و« لن يفترقا » و« حتّى يردا ».

          وقد أسعفنا الالباني برواية صحّحها، ترد على ابن تيمية وكل من كرر كلامه، فعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): « إني تارك فيكم الخليفتين من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتّى يردا عليَّ الحوض »(10).

          أمّا حديث «كتاب الله وسنتي» فهو غير صحيح، فقد قال فيه أحمد سعد حمدون: « سنده ضعيف » فيه « صالح بن موسى الطلحي »، قال فيه الذهبي: ضعيف، وقال يحيى: ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وقال البخاري: منكر

          الحديث، وقال النسائي: متروك»(11).

          وذهب الحسن السقّاف ـ وهو المحدث الخبير ـ إلى أنّ لفظ « وسنتي » موضوع(12).

          أمّا في مصادر الحديث، فقد ورد في موطأ مالك بدون سند(13)، ورواه الحاكم في مستدركه(14) بسندين أحدهما فيه ابن أبي أُويس وهو ضعيف(15) والآخر فيه صالح بن موسى الطلحي وهو مجروح(16).

          ورواهُ البيهقي بإسنادين، واحد: فيه ابن أبي أُويس، والثاني: فيه صالح بن موسى الطلحي، وقد عرفت حالهما، ووصل ابن عبد البر في التمهيد(17) حديث الموطأ من حديث كثير بن عبد الله وهو مجمع على ضعفه فلا يحتج بحديثه.

          وهكذا أتضح الحق مبيناً لكل ذي بصيرة لم ينخرها العناد بالفساد.


          حديث السفينة

          ونصُّه: « مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك ».

          روى هذا الحديث ثمانية من الصحابة، وصححه كل من: الحاكم في مستدركه، والسيوطي في نهاية الافصال في تشريف الآل(18)، والطيبي في شرح المشكاة، وابن حجر الشافعي حيث قال: « جاء من طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً... »(19) الحديث.

          وصححه محمد بن يوسف المالكي المعروف بالكافي حيث قال بعد كلام له: « ويدلك على ذلك: الحديث المشهور المتفق على نقله: مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق »(20).

          وقد روى هذا الحديث حتّى القرن الرابع عشر أكثر من مائة وخمسين عالماً من علماء أهل السنة(21).

          ودلالة الحديث لا تخفى على أحد في وجوب إتباع أهل البيت (عليهم السلام) لتحصيل النجاة.


          حديث الأمان

          قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأُمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس »(22).

          وهذا الحديث صريح في أنّ أهل البيت (عليهم السلام) أمان الأمة من الاختلاف.


          نصوص قرآنية

          - قال تعالى: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعاً وَلا تَفَرَقُوا ) (سورة آل عمران: الآية 102).

          وحبل الله فسّرته الروايات بآل البيت (عليهم السلام)(23).

          - وقد أمر الله الأمة بسؤال أهل الذكر، قال تعالى: ( فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون )( سورة النحل: الآية 43) وهم آل البيت (عليهم السلام)(24).

          - وهم الصادقون الذين أمرنا الله بأن نكون معهم: ( يَا أيُّها الَّذِيْنَ آمَنوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ( سورة التوبة: الآية 119)(25).

          - وقد وصف الله أتباع هذا الخط بخير البرية فحينما نزل قول الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ )( سورة البينة: الآية 7) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): « يا علي هم أنت وشيعتك »(26).


          مقارنة بين النظريتين:

          سبق لنا إثبات بطلان النظرية الأولى التي تزعم بترك النبي (صلى الله عليه وآله) للقرآن محفوظاً في صدور الصحابة وفي بعض الصحف، ونَهْيه عن تدوين السنة، أو قل تركها بلا جمع، لمن يذهب إلى أن حديث النهي قد نسخ.

          فلا يمكننا أن نتصور صدور هذا من نبي الله، لأننا نروي عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلاّ هالك»(27).

          ونفهم من هذا النص أنّ المحجة البيضاء كانت موجودة بالفعل وقت قول النبي (صلى الله عليه وآله) لهذا النص، قبل أن يشير عمر على أبي بكر بجمع القرآن، وقبل أن يأمر عمر بن عبد العزيز ابن حزم بجمع الحديث.

          والمحجة البيضاء التي تركهم (صلى الله عليه وآله) عليها هي إتِّباع آل البيت (عليهم السلام) وأخذ الإسلام منهم، لأنّهم أعرف من غيرهم بالكتاب والسنة.

          ولو دققنا النظر في قول النبي (صلى الله عليه وآله): « تركتكم على المحجة البيضاء... »

          وقوله: « تركت فيكم... كتاب الله وعترتي » تتضح ملاحظة التوافق بينهما، وأن حديث الثقلين يبيّن المقصود بالمحجة البيضاء، ففي كلا الحديثين يقول النبي (صلى الله عليه وآله): « تركت... ».

          ويستحيل أن يترك النبي (صلى الله عليه وآله) الناس على طريقين مختلفين، فالمحجة البيضاء هي إتّباع الكتاب والعترة !

          وانظر إلى آخر حديث المحجة: « لا يزيغ عنها إلاّ هالك» وآخر حديث السفينة: « ومن تخلف عنها هلك »، فكلمتي « هالك » و« هلك » في الحديثين تبيّنان المقصود بالمحجة البيضاء، وهي ركوب سفينة آل البيت (عليهم السلام)والنجاة بهديهم من مهلكة الضلالة، فمن لم يسر على المحجة البيضاء هالك كما أنّ من عدل عن سفينة آل محمّد هلك !

          والرواية التالية تلقي مزيداً من الضوء على المحجة البيضاء:

          عن جابر قال: خط لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطاً فقال: « هذا سبيل » ثم خط خططاً فقال: « هذه سبل الشيطان فما منها سبيل إلاّ عليها شيطان يدعو الناس إليه، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأُجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله عزّ وجلّ فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن تركه وأخطأه كان على الضلالة، وأهل بيتي أذكركم الله عزّ وجلّ في أهل بيتي، ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعَاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) »(28).

          ولو قال النبي (صلى الله عليه وآله) حديث المحجة مع عدم جمعه للكتاب والسنة وعدم إرجاع الناس إلى شخص ينطق بحكم الله الواقعي لكان ـ حاشاه ـ كحال أستاذ قال لتلاميذه ـ بعد أن أطفأ أنوار غرفة الدرس وتركها مظلمة ـ سأترككم في هذه الغرفة التي ظلامها كنورها ومن يرسب في الامتحان فهو هالك!

          كيف سيجيب هؤلاء التلاميذ على أسئلة الامتحان وهم لا يرون أكفّهم ؟ ونحن مسلمي هذا القرن، كيف سنصلي، نصوم، نحج... مع عدم وجود دليل لنا ؟

          لقد جعل الله للإنسان الحاجب والرموش لحماية عينيه وهذه من الأمور البسيطة جداً إذا ما قيست بضرورة وجود حجة لله سبحانه على خلقه يبين لهم تعاليم الإسلام، فهل يعقل أن يجعل الله لنا حاجباً ورموشاً لحفظ عيوننا، ولا يضع لنا دليلاً على دينه !

          ولذلك لا نجد مصداقاً لقول النبي (صلى الله عليه وآله): « تركتكم على المحجة البيضاء... » إلاّ في مدرسة آل البيت (عليهم السلام).

          فالكتاب والسنة مدوّنان، ويتجسّدان في سلوك أئمة آل البيت (عليهم السلام) وأقوالهم، والإسلام حي يمارس عملياً أمام الناس، فيكون أدعى للفهم والقبول لوجود الشخصية الإسلامية النموذجية الماثلة أمامهم في الحياة اليومية.

          وبهذا يعرف الناس الإسلام من هؤلاء الأئمة (عليهم السلام)، بدلاً من النظر في كتب الحديث والرجال والأصول... وبدلاً من أن يدب الخلاف بين أبناء الإسلام ويكفّر بعضهم بعضاً، وقد يقتتلون.

          فترى فقيهاً يقول: الحكم في هذه المسألة كذا والدليل هذه الآية، وآخر يقول: بل الحكم كذا والآية نفسها تؤيدني، حتّى أنّ الخلاف وصل بين فقهاء السنة إلى وحدة الأصول الفقهية وأصالتها، فهذا يقول بحجية القياس، وأهل الظاهر أنكروه، وأجاز مالك بن أنس الاستحسان، وقال الشافعي: « من استحسن فقد شرّع »...، حتّى جعلوا الإسلام حيص بيص، فكل واحد في جهة، ويقول دليلي من الكتاب والسنة.

          فبدلاً من هذا كله، ومن أن يصبح الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين ـ والذي يعبر عن حكم واقعي واحد ـ مذاهب وأحزاباً، يعادي بعضها البعض.. هنالك مراجع جعلهم الله تعالى حججاً على خلقه، أئمّة هداة، لا يصعب علينا أن نأخذ الإسلام صافياً منهم، دون الخوض في الكتب المختلفة، وبعيداً عن هذه التعقيدات التي توهن المسلمين وترجعهم إلى الوراء.

          يقول الأستاذ عبد الوهاب خلاّف: « مما لا يعرف فيه خلاف بين جمهور المسلمين، أنّ الله سبحانه لم يترك الناس سدى، وأنّ له حكماً في كل ما يحدث للمسلم من الوقائع، غير أنه سبحانه لحكمة بالغة لم ينص على كل أحكامه في مواد قانونية جامعه »(29).

          لا ندري كيف اتفقت كلمة جمهور المسلمين على عدم ترك الله عباده سدى، مع ما هو موجود عندهم من ترك الله لكتابه مفرّقاً، ونهيه عن تدوين السنة على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله)، وعدم وضعه مرجعية تزود الناس بحاجاتهم المستجدة ؟ !

          والعجيب قوله: « أنه سبحانه لحكمة بالغة لم ينص على كل أحكامه في مواد قانونية جامعة » !

          فهل الحكمة في أن ينص الله على كل أحكامه، ليطمئن المسلم إلى حكم الله، وتستقيم تربيته التشريعية ؟ أم الحكمة في ترك أحكامه للاجتهاد المبني على الظن، الذي يؤدي إلى تعدد الآراء والمذاهب والقتال والتكفير فيما بين أتباعها ؟!

          نعم هذه هي الحكمة التي أشار إليها الأستاذ خلاف، ولا يوجد غيرها وقد عاشها المسلمون، وما زالوا يعيشونها من تكفير لبعضهم البعض، وأنا أجزم أنّ انقسام هذه الأمة إلى فرق ومذاهب لم يحدث إلاّ بسبب إقصاء النخبة التي تمثل النبي (صلى الله عليه وآله) عن مواقعهم التي خَصَّهم الله سبحانه بها، فلو بقي النبي (صلى الله عليه وآله) حيّاً إلى يوم القيامة مع طاعة الناس له لما حدث أي انقسام أو خلاف بينهم، وهكذا لو أطاع الناس خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله) من آل بيته (عليهم السلام) لما تمزقت أمته (صلى الله عليه وآله) شيعاً متنافرة في دينه الذي جاء ليؤلف بين قلوب الناس وليس لتشتيتهم.

          أتى رجل من أهل الشام ليناظر الإمام الصادق (عليه السلام)(30) وأصحابه، فتصدى له هشام بن الحكم (31) فقال له: « يا هذا أربّك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم ؟

          فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه.

          قال: ففعل بنظره لهم ماذا ؟

          قال: أقام لهم دليلاً كي لا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربهم.

          قال: فمن هو ؟

          قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله).

          فقال هشام: فبعد رسول الله ؟

          قال: الكتاب والسنة.

          قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة في رفع الاختلاف عنّا ؟

          قال الشامي: نعم.

          قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرتَ إلينا من الشام في مخالفتنا إياك ؟

          فسكت الشامي.

          فقال أبو عبد الله (عليه السلام): مالك لا تتكلم ؟

          قال الشامي: إن قلتُ: لم نختلف كذبتُ، وإن قلتُ: إنّ الكتاب والسنة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلتُ لانهما يحتملان الوجوه، وإن قلتُ: قد اختلفنا وكل واحد منّا يدعي الحق فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنة، إلاّ أنّ لي على هذا حجة.

          فقال أبو عبد الله (عليه السلام): سله تجده ملياً.

          فقال الشامي: يا هذا من أنظر للخلق أربهم أم أنفسهم ؟

          فقال هشام: ربّهم أنظر لهم منهم لأنفسهم.

          فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقهم من باطلهم ؟

          قال هشام:نعم.

          قال الشامي: من هو ؟

          قال هشام: أمّا في ابتداء الشريعة فرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأما بعد النبي فعترته...»(32).

          وقال هشام بن الحكم لأحد خصومه الذين ينكرون وجود مبيّن للإسلام:

          « أتقول أن الله عدل لا يجور ؟

          قال: نعم هو عدل لا يجور.

          قال هشام: فلو كلّف الله المقعد المشي إلى المساجد والجهاد في سبيل الله، وكلّف الأعمى قراءة المصحف والكتب، أتراه كان عادلاً ؟

          قال: ما كان الله ليفعل ذلك.

          قال هشام: علمت أنّ الله لا يفعل ذلك، ولكن على سبيل الجدل والخصومة أن لو فعل ذلك أليس كان في فعله جائراً إذا كان تكليفاً لا يكون السبيل إلى إقامته وإقامة أدامه ؟

          قال: لو فعل ذلك لكان جائراً.

          قال هشام: فأخبرني عن الله عزّ وجلّ كلّف العباد ديناً واحداً لا اختلاف فيه، ولم يقبل إلاّ أن يأتوا به كما كلّفهم ؟ فجعل لهم دليلاً على وجود ذلك الدين ؟ أو كلفهم ما لا دليل لهم على وجوده، فيكون بمنزلة من كلف الأعمى قراءة المصحف والكتب والمقعد المشي إلى الجهاد والمساجد ؟

          فسكت خصمه ساعة ثمّ قال: لا بدّ من دليل، وليس بصاحبك.

          فتبسّم هشام وقال: تشيّع شطرك وصرت إلى الحق ضرورة، ولا خلاف بيني وبينك إلاّ في التسمية »(33).

          نعم لقد أخبر الرسول (صلى الله عليه وآله) بافتراق أُمته ثلاثاً وسبعين فرقة، واحدة

          منها في الجنة، فهل كان يعلم هذا ولا يضع دليلاً على دين الله الصحيح ؟

          إن قيل: الكتاب والسنة هما الدليل.

          قلنا: الكتاب والسنة مدعاة للاختلاف لاختلاف العقول في فهمهما، ونحن نريد المقصود الشرعي، وهو واحد لا يتعدد، إضافة إلى أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) ربط بين الكتاب وآل بيته (عليهم السلام) ولذلك يلزمنا الجمع بينهما.

          وإن قيل: الاشعري والمذاهب الأربعة.

          قلنا: وأي عقيدة للأشعري تقصدون ؟ أعقيدة المعتزلة أم الاشاعرة أم أهل الحديث ؟ ولا أحد من الأئمة الأربعة كان قد رأى النبي (صلى الله عليه وآله) وسمع منه، وقد نهوا الناس عن تقليدهم(34)!!

          لم يدعْ من أموره أولاها قد علمتم أنّ النبي حكيمٌ ترجع الناس في اختلاف نهاها كيف تخلو من حجة وإلى من

          إنّ ترك الأمة دون مبيّن للشرع، يدل على قصور النظام الإسلامي، فالفقهاء كانوا يطرحون مسائل لم تقع، ويجتهدون في معرفة أحكامها، واشتهر الفقه الحنفي بالفقه الافتراضي، فهل هؤلاء الفقهاء أكمل وأبعد نظراً من التشريع الإلهي؟!

          يقول الإمام علي (عليه السلام): « اللهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مستوراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته »(35).

          قال هشام بن الحكم لاحد العلماء الذين ينكرون وجود الإمام:

          « ألك عين ؟

          قال: يا بني أي شيء هذا السؤال ؟

          فقال: هذه مسألتي

          قال: سل وإن كانت مسألتك حمقاء.

          قال: أجبني فيها.

          فقال: سل.

          فقال: ألك عين ؟

          قال: نعم.

          قال: فما تصنع بها ؟

          قال: أرى الألوان والأشخاص.

          قال: ألك أنف ؟

          قال: نعم.

          قال: فما تصنع به ؟

          قال: أشم به الرائحة.

          قال: ألك لسان ؟

          قال: نعم.

          قال: فما تصنع به ؟

          قال أتكلم به.

          قال: ألك أذن ؟

          قال: نعم.

          قال: ما تصنع بها ؟

          قال: أسمع بها الأصوات.

          قال: ألك يدان ؟

          قال: نعم.

          قال: فما تصنع بهما ؟

          قال: أبطش بهما وأعرف اللين من الخشن.

          قال: ألك رجلان ؟

          قال: نعم.

          قال: فما تصنع بهما ؟

          قال أنتقل بهما من مكان إلى مكان.

          قال: ألك فم ؟

          قال: نعم.

          قال: فما تصنع به ؟

          قال: أعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها.

          قال: ألك قلب ؟

          قال: نعم.

          قال: فما تصنع به ؟

          فقال: أميز به كل ما ورد على هذه الجوارح.

          قال: أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب ؟

          قال: لا.

          قال: وكيف ذاك وهي صحيحة سليمة ؟

          قال: يا بني إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته ردّته إلى القلب فيتقين بها اليقين ويبطل الشك.

          قال: فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح ؟

          قال: نعم.

          قال: إن الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يصحح لها الصحيح وينفي ما شكّت فيه، ويترك هذا الخلق كله في حيرتهم وشكِّهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكهم ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك...(36)؟!! ».


          النتيجة:

          إن الله لم يقبض نبيه (صلى الله عليه وآله) حتّى أكمل على يديه الدين وأتم النعمة وذلك بجعل آل البيت (عليهم السلام) خلفاء للنبي (صلى الله عليه وآله) في القيادة والتبليغ، فكما يختار الله الأنبياء كذلك يختار أوصياءهم، وكما يحتاج الناس للنبي، يحتاجون للإمام، ولا يعقل أن يترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) دينه دون مرجع يبينه للناس، فهاهو يستخلف علياً (عليه السلام) على أمانات خاصة(37)، فهل كانت هذه الأمانات أعظم من الأمانة الإلهية حتّى يتركها دون وصي، ويضع وصياً على أمانات دنيوية ؟!

          بعد الذي قدمنا هل يبقى شك في أحقية مدرسة آل البيت (عليهم السلام) بالإمامة وقيادة الأمة الإسلامية إلى طريق الله سبحانه ؟

          المدرسة السنية تقول: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أهمل أمر المرجعية بعده فلم يجعل للأجيال إلاّ قرآناً مفرقاً في الصحف والصدور.

          والمدرسة الشيعية تقول بجمع النبي (صلى الله عليه وآله) للقرآن والسنة، وأقام بأمر الله تعالى الأئمة الأطهار ترجماناً لهما.

          إن من يقف متأملاً بين النظريتين السابقتين لمستقبل الدعوة، فإنه سيهتدي إلى الحقيقة:

          فالنظرية الأولى ترى أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) وبعد ثلاث وعشرين سنة من الجهاد وتحمل الأذى والصعاب لنشر دينه، ترك معجزته الخالدة مفرقة، ونهى عن تدوين سنته المبينة للقرآن، والتي لا يستغنى عنها، وهو يعلم بحاجة الناس إليها، ولم يشر للمستجدات وكيفية التعامل معها...

          هذا ما وجدته في النظرية الأولى، وأي منصف يتأملها جيداً سيجد نفس الشيء، وأي محاولة تبريرية لهذه الحقيقة فهي فاشلة، وتغطية على الواقع.

          هذا من جانب، ومن جانب آخر لا نرى على المدرسة الشيعية أي مؤاخذة في حق النبي (صلى الله عليه وآله)، فهو ذلك القائد البصير الذي نظر للأمد البعيد فلم يترك الأمر بعده مهملاً فارغاً بل رتّبه أروع ترتيب، فالكتاب والسنة مدونان، ولحسم الخلاف في فهمهما جعل ناطقاً عنهما لا يخلو منه زمن.

          إنّ الفكر الذي يقدم هذه الاطروحات لصيانة الإسلام من التحريف وإدامته، لهو فكر عظيم، فلا يمتلك المرء إلاّ أن ينحني أمامه، وبهذا التصوّر نرى المفارقة العجيبة بين النظريتين.


          الهوامش:

          1- ونعني بأهل البيت إضافة للنبي (صلى الله عليه وآله) والزهراء (عليها السلام) الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) أولهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثم الحسن (عليه السلام) والحسين (عليه السلام) وآخرهم المهدي المنتظر عجل الله فرجه، لمزيد من التفصيل انظر كتابنا « وركبت السفينة »533 ـ 596.

          2- ولسنا الآن بصدد التعرض للنص الذي يعلن مرجعية أهل البيت (عليهم السلام) السياسية ـ أعني نص الغدير ـ أجل فلندع أمر الخلافة قليلاً ولنرى الآن أمر ديننا فمن أين نأخذه ؟

          3- صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام).

          4- « صحيح الترمذي » ج5 كتاب المناقب 663/3788، « المستدرك » 3/148.

          5- وكل رواياتهم من طرق أهل السنة فراجعها في: « عبقات الانوار » ج1 وج2 و« ملحق المراجعات » 327.

          6- راجع: « حديث الثقلين: تواتره ـ فقهه » لعلي الحسيني الميلاني.

          7- « صحيح الجامع الصغير » 2 / 217، رقم 2454.

          8- « صحيح صفة صلاة النبي » 289.

          9- « منهاج السنة » 4 / 85.

          10- «السنة» لابن أبي عاصم 337، رقم الحديث 754، «مسند أحمد» 5/182.

          11- « شرح أصول اعتقاد أهل السنة » لابي القاسم اللالكائي السلفي 8، تخريج أحمد سعد حمدون.

          12- راجع كلامه في « صحيح صفة صلاة النبي » 289 ـ 294.

          13- « الموطأ » كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر.

          14- « مستدرك الحاكم » 1/93.

          15- راجع ترجمته في: « تهذيب التهذيب » 1/271. 6) راجع ترجمته في « تهذيب الكمال » 13/96، و« تهذيب التهذيب » 4/355.

          16- « السنن الكبرى » 10 / 114.

          17- « التمهيد » 24 / 331.

          18- « خلاصة عبقات الأنوار » 43.

          19- « الصواعق المحرقة » 150.

          20- راجع « خلاصة العبقات » 247.

          21- فراجع « مستدرك الحاكم » 3 / 150، « المعجم الكبير » للطبراني 130، « مجمع الزوائد » للهيثمي... انظر « وركبت السفينة » 407.

          22- « مستدرك الحاكم » 3 / 149 قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، « الصواعق المحرقة » 91 و140 وصححه، « مجمع الزوائد » 9 / 147.

          23- « روح المعاني » للالوسي 4 / 16، « الصواعق المحرقة » 149.

          24- راجع: « تفسير الطبري » 14 / 109، « تفسير ابن كثير » 2 / 591 ـ 592، « تفسير القرطبي » 11 / 272...

          25- راجع « الدر المنثور » 3/290، « فتح القدير » للشوكاني 2/295، « روح المعاني » 11/41، « تذكرة الخواص » 10.

          26- « تفسير الطبري » 3/146، « فتح القدير » 5/477، « الدر المنثور » 6/379، « روح المعاني » 30/207، « الصواعق المحرقة » 96...

          27- « مسند أحمد » 4/126.

          28- قال أحمد سعد حمدان: رواه أحمد 1 / 87، « الفتح الرباني »، والمروزي في « السنة » 6، ورواه ابن ماجة موجزاً وابن أبي عاصم في « السنة » موجزاً ـ 16، وصحّح الالباني هذا الحديث، فراجع « شرح أصول اعتقاد أهل السنة » لابي القاسم الطبري، تحقيق أحمد سعد حمدان.

          29- « مصادر التشريع فيما لا نص فيه » 8.

          30- هو الإمام السادس من أئمة آل البيت الاثني عشر (عليهم السلام)، وهو أستاذ أبي حنيفة رغم أنّه يصغره بسنتين، أنظر كتابنا « وركبت السفينة » 554 ـ 564.

          31- أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) المقربين، وقد نسبت إليه كثير من الاتهامات الباطلة.

          32- « الاحتجاج » 2 / 277 ـ 281.

          33- « الكشكول » ليوسف البحراني.

          34- وهذا أثبتناه فراجع « وركبت السفينة » 29 ـ 36 و« نحو الإسلام الأصيل » للمؤلف.

          35- « ينابيع المودة » في الباب المائة 523، « إحياء علوم الدين » 1/54، « حلية الأولياء » بإيجاز 1/8، وقريب منه في « مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب » 3/32 نقلاً عن « إعلام الموقعين » لابن القيم.

          36- « الأصول من الكافي » 1 / 169 ـ 171.

          37- قبل موته الشريف كان قد أوصى (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) بأن يسلّم بعض الأمانات لأصحابها.

          تعليق


          • #50
            مصادر التشريع عند الشيعة الإمامية

            وأحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام)

            العلامة الشيخ جعفر سبحاني

            إن الإمامية ـ كما تصدر عن كتاب والسنة في مجالي العقيدة والشريعة ـ كذلك تصدر عن أحاديث أئمة أهل البيت وترى قولهم وفعلهم وتقريرهم حجة، وهذا لا يعني أن أحاديثهم حجة ثالثة، في عرض الكتاب والسنة أو أنهم أنبياء يوحى إليهم كما ربما يتخيله من ليس له إلمام بعقائدهم وأُصولهم، بل العترة الطاهرة لما كانوا وعاة علمه (صلى الله عليه وآله) وحفظة سنته، وخلفاءه بعده، يحكون بقولهم وأفعالهم وتقريرهم، سنة النبي الأكرم، فالاحتجاج بأحاديثهم احتجاج في الحقيقة بحديث النبي (صلى الله عليه وآله) وكلامه، ولأجل إيضاح الموضوع، نأتي بتفصيل ذلك:




            أئمة الشيعة أوصياء الرسول

            اتفقت الشيعة على أن الأئمة الأثني عشر أوصياء الرسول، وأنهم أئمة الأُمة وأحد الثقلين اللذين أوصى بهما رسول الله في غير موقف من المواقف، وقال: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) والحديث من التواتر بمكان أغنانا عن ذكر مصادره ويكفي في ذلك ما نشرته دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة في هذا المجال.

            إن الشيعة الإمامية كسائر المسلمين مؤمنون بعالمية رسالة النبي الأكرم كما هم مؤمنون بخاتمية رسالته، مستدلين بقوله سبحانه: (ما كان محمداً أبا أحداً من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً)[سورة الأحزاب: الآية 40].

            وقوله سبحانه: (وإنه لكتاب عزيز* لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد)[سورة فصلت: الآية 41 و 42]. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.

            إن خاتمية رسالة النبي الأكرم من الأمور الدينية الضرورية تكفل لبيانها الذكر الحكيم والأحاديث المتضافرة التي بلغت حد التواتر، منها قوله (صلى الله عليه وآله) عندما خرج إلى غزوة تبوك فقال له علي: أأخرج؟ فقال: لا. فبكى علي، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)(1).

            وهذا علي أمير المؤمنين أول الأئمة الأثني عشر قال وهو يلي غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله): بأبي أنت وأمي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء)(2).

            وفي كلام آخر له: (أما رسول الله فخاتم النبيين ليس بعده نبي ولا رسول، وختم رسول الله الأنبياء إلى يوم القيامة)(3).

            ونكتفي في هذه العجالة بهذا المقدار من النصوص فمن أراد أن يقف على نصوص الأئمة الأثني عشر على ختم النبوة وانقطاع الوحي وسد باب التشريع بعد رحلة الرسول، فعليه الرجوع إلى الجزء الثالث من كتابنا (مفاهيم القرآن) فقد جاء فيه قرابة (134) نصّاً من النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين في ذلك المجال.

            إن فقهاء الشيعة حكموا بارتداد من أنكر عالمية الرسالة، أو خاتميتها، ولأجل ذلك فالبابية والبهائية وهكذا القاديانية مرتدون عندهم ارتداد فطرياً أو ملّيّاً(4) أحياناً، وهذه كتبهم الفقهية في باب الحدود وأحكام المرتد وغير ذلك.

            هذا قليل من كثير اكتفينا به لتبيين عقيدة الشيعة في حق الرسول الأعظم وأنهم عن بكرة أبيهم معتقدون بعالمية رسالة الرسول وخاتميته، ولم ينحرفوا عن هذا الخط قيد شعرة، ويظهر ذلك من المرور على الكتب الاعتيادية المدونة من بداية القرن الثالث الهجري إلى عصرنا هذا، فقد ألّفوا مئات الكتب والرسائل، بل الموسوعات الكبيرة حول العقائد الإسلامية وهي بين مخطوطة ومطبوعة منتشرة في العالم وهذه كتبهم ومكتباتهم وجامعاتهم العلمية، وخطباؤهم ومنشوراتهم الرسمية لا تجد فيها كلمة تشير إلى نبوة غير النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أو بنزول الوحي على غيره فلا محيص عن القول بأن هذه النظرية الخاطئة، استنبطها البعض من خلال أمور لا دلالة لها على ما يرتئيه ولا بأس بالإشارة إلى بعض هذه الأمور التي كانت سبباً لهذا الوهم، وقد ألمح إليها بعض دكاترة العصر من المستهترين وهي لا تتجاوز أمرين:


            1- حجية أحاديثهم وأفعالهم.

            2- القول بعصمتهم من الإثم والخطأ.

            وإليك تحليل هذين الأمرين:




            الأول: الشيعة وحجية أقوال العترة الطاهرة

            إن الشيعة يتعاملون مع أحاديث العترة الطاهرة كالتعامل مع أحاديث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فلولا كونهم أنبياء أو طرفاً للوحي فكيف تكون أحاديثهم حجة؟

            الجواب: إن الشيعة الإمامية تأخذ بأقوالهم للأمور التالية:


            ألف: إن النبي الأكرم هو الذي أمر المسلمين قاطبة بالأخذ بأقوال العترة حيث قال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي...(5) فالتمسك بأحاديثهم وأقوالهم امتثال لقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهو لا يصدر إلا عن الحق، فمن أخذ بالثقلين فقد تمسك بما ينقذه من الضلالة ومن أخذ بواحد منهما فقد خالف الرسول.


            ب: نرى أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يأمر الأمة بالصلاة على آل محمد في الفرائض والنوافل، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يذكرون العترة بعد النبي الأكرم في تشهدهم ويصلون عليهم مثل الصلاة عليه، والفقهاء وإن اختلفوا في صيغة التشهد ولكنهم لا يختلفون في لزوم الصلاة على النبي وآله وفيها يقول الإمام الشافعي:

            يا أهــــــل بيت رسول الله حبكم*** فرضٌ من الله في القرآن أنزله

            كفاكــــم من عظيم الشأن أنكـم*** من لم يصل عليكم لا صلاة لـه

            فلو لم يكن للعترة شأن ومقام في مجال هداية الأمة ولزوم الاقتفاء بهم، فما معنى جعل الصلاة عليهم فريضة في التشهد وتكرارها في جميع الصلوات ليلاً ونهاراً، فريضة ونافلة؟

            وهذا يعرب عن سرٍ نقف عليه من خلال أمر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في هذا المجال، وهو أن لآل محمد شأناً خاصاً في الأمور الدينية والقيادة الإسلامية أظهرها: أن أقوالهم وآراءهم حجة على المسلمين، وأن لهم المرجعية الكبرى بعد رحلة الرسول، سواء أكان في مجال العقيدة والشريعة أم في مجال آخر.


            ج: إن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) شبّه العترة الطاهرة بسفينة نوح، وأنه من ركبها نجا، وأن من تخلف عنها غرق(6). وهو يدل على حجية أقوالهم وأفعالهم.

            إلى غير ذلك من الوصايا الواردة في حق العترة التي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد ومن أراد فليرجع إلى مصادرهم.

            فالمسلم المؤمن بصحة هذه الوصايا لا يشك في حجية أقوال العترة سواء أعلم مصدر علومهم أم لم يعلم. قال سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً)[سورة الأحزاب: الآية 36].

            ومع ذلك كله نحن نشير إلى بعض مصادر علومهم حتى يتضح أن حجية أقوالهم لا تدل على أنهم أنبياء أو فوّض إليهم أمر التشريع:



            1- السماع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):

            إن الأئمة يروون أحاديث رسول الله سماعاً منه (صلى الله عليه وآله)، إما بلا واسطة أو بواسطة آبائهم، ولأجل ذلك ترى في كثير من الروايات أن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: حدثني أبي، عن زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي، عن علي أمير المؤمنين، عن رسول الأكرم (صلى الله عليه وآله). وهذا النمط في الروايات كثير في أحاديثهم وقد تضافر عن الإمام الصادق أنه كان يقول: (حدثني، حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي)، فعن هذا الطريق تحملوا أحاديث كثيرة عن الرسول الأكرم وبلغوها، من دون أن يعتمدوا على الأحبار والرهبان، أو على أُناس مجاهيل، أو شخصيات متسترة بالنفاق وهذا النوع من الأحاديث ليس بقليل.




            2- كتاب علي (عليه السلام):

            يرجع قسم آخر من أحاديثهم إلى ما أخذوه عن كتاب الإمام أمير المؤمنين بإملاء رسول الله وخط علي وقد أشار أصحاب الصحاح والمسانيد إلى بعض هذه الكتب(7).

            فقد كان لعلي كتاب خاص بإملاء رسول الله وقد حفظته العترة الطاهرة وصدرت عنه في مواضع كثيرة ونقلت نصوصه في موضوعات مختلفة، وقد بثَّ الحر العاملي في موسوعته الحديثية، أحاديث ذلك الكتاب حسب الكتب الفقهية من الطهارة إلى الديات ومن أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة.

            وقال الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سئل عن الجامعة؟ فقال: (فيها كل ما يحتاج الناس إليه وليس من قضية إلا فيها حتى ارش الخدش).

            وكان كتاب علي مصدراً لأحاديث العترة الطاهرة يرثونه واحداً بعد آخر وينقلون عنه ويستدلون به على السائلين.

            وهذا هو أبو جعفر الباقر (عليه السلام) يقول لأحد أصحابه ـ أعني حمران بن أعين ـ وهو يشير إلى بيت كبير: يا حمران إن في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخط علي (عليه السلام) وإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) لو ولّيناه الناس لحكمنا بما أنزل الله لم نعد ما في هذه الصحيفة.

            وهذا هو الإمام الصادق (عليه السلام) يعرف كتاب علي (عليه السلام) بقوله: فهو كتاب طوله سبعون ذراعاً إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) من فلق فيه وخط علي بن أبي طالب (عليه السلام) بيده، فيه والله ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة حتى أن فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة.

            ويقول سليمان بن خالد: سمعت أبا عبد الله يقول: (إن عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخط علي (عليه السلام) بيده، ما من حلال ولا حرام إلا وهو فيها حتى أرش الخدش.

            ويقول أبو جعفر الباقر (عليه السلام) لبعض أصحابه: (يا جابر إنا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنا بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)(8).




            3- الاستنباط من الكتاب والسنة:

            المصدر الثالث لأقوالهم، هو إمعانهم في الكتاب والسنة وتدبرهم فيهما، فاستخرجوا من المصدرين الرئيسيين ما يخص العقيدة والشريعة بصورة يقصر عنها أكثر الأفهام، وهذا هو الذي جعلهم متميزين بين المسلمين بالوعي والدقة والفهم، وخضع لهم أئمة الفقه في مواقف شتى حتى قال الإمام أبو حنيفة بعد تتلمذه على يد الإمام الصادق (عليه السلام)«سنتين»: لولا السنتان لهلك النعمان. ولأجل ذلك كانوا يستدلون على كثير من الأحكام عن طريق الكتاب والسنة ويقولون: (ما من شيء إلا وله أصل في كتاب الله وسنة نبيه).

            أخرج الكليني بإسناده عن عمر بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله وجعل لكل شيء حداً. وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً).

            أخرج الكليني بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة).

            وأخرج عن سماعة بن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قلت له: أكل شيء في كتاب الله وسنة نبيه أو تقولون فيه؟ قال: (بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه)(9).

            ومن وقف على الأحاديث المروية عنهم يقف على أنهم كيف يستدلون على الأحكام الإلهية عن المصدرين بفهم خاص ووعي متميز يبهر العقول، ويورث الحيرة. ولولا الخوف من الإطالة لنقلت في المقام نماذج من ذلك ونكتفي ببيان موردين:


            1- قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: يُضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي يسأله، فلما قرأ الكتاب، كتب: يُضرب حتى يموت، فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلة، فكتب:

            بسم الله الرحمن الرحيم: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين* فلم يكُ ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون)[سورة غافر: الآية 84 و85]، فأمر به المتوكل فضرب حتى مات(10).

            إن الإمام الهادي ببيانه هذا شق طريقاً خاصاً لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره، وكانوا يزعمون أن مصادر الأحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه التي لا تتجاوز ثلاثمائة آية، وبذلك أبان للقرآن وجهاً خاصاً لدلالته، لا يلتفت إليه إلا من نزل القرآن في بيته، وليس هذا الحديث غريباً في مورده، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه (عليهم السلام).


            2- لما سم المتوكل نذر لله: إن رزقه الله العافية أن يتصدق بمال كثير، أو بدراهم كثيرة. فلما عوفي اختلف الفقهاء في مفهوم (المال الكثير) فلم يجد المتوكل عندهم فرجاً، فبعث إلى الإمام علي الهادي فسأله؟ قال: يتصدق بثلاثة وثمانين ديناراً، فقال المتوكل: من أين لك هذا؟ فقال: من قوله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة...)[سورة التوبة: الآية 25].

            والمواطن الكثيرة: هي هذه الجملة، وذلك لأن النبي (صلى الله عليه وآله) غزا سبعاً وعشرين غزوة، وبعث خمساً وخمسين سرية، وآخر غزواته يوم حنين، وعجب المتوكل والفقهاء من هذا الجواب(11).

            وقد ورد عن طريق آخر أنه قال (بثمانين) مكان (ثلاثة وثمانين) وذلك لأن عدد المواطن التي نصر الله المسلمين فيها إلى يوم نزول هذه الآية كان اقل من ثلاثة وثمانين(12).



            4- الإشراقات الإلهية:

            إن هناك مصدراً رابعاً لأحاديثهم نعبر عنه بالإشراقات الإلهية، وأي وازع من أن يخص سبحانه بعض عباده بعلوم خاصة يرجع نفعها إلى العامة من دون أن يكونوا أنبياء، أو معدودين من المرسلين، والله سبحانه يصف مصاحب موسى بقوله: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً) ولم يكن المصاحب نبياً بل كان ولياً من أولياء الله سبحانه وتعالى بلغ في العلم والمعرفة مكاناً حتى قال له موسى ـ وهو نبي مبعوث بشريعة ـ: (هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً)[سورة الكهف: الآية 66].

            يصف سبحانه وتعالى جليس سليمان ـ الذي نسميه آصف بن برخيا ـ بقوله: (قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي)[سورة النمل: الآية 40].

            وهذا الجليس لم يكن نبياً، ولكن كان عنده علم من الكتاب، وهو لم يحصله من الطرق العادية التي يتدرج عليه الصبيان والشبان في المدارس والجامعات، بل كان علماً إلهياً أفيض إليه لصفاء قلبه وروحه ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربه ويقول: (هذا من فضل ربي).

            تضافرت الروايات على أن في الأمة الإسلامية ـ مثل الأمم السابقة ـ رجالاً مخلصين محدثين تفاض عليهم حقائق من عالم الغيب من دون أن يكونوا أنبياء، وإن كنت في شك من ذلك فارجع إلى ما رواه أهل السنة في هذا الموضوع.


            روى البخاري في صحيحه: لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر(13).

            قال القسطلاني ليس قوله: (فإن يكن) للترديد بل للتأكيد كقولك: إن يكن لي صديق ففلان، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء.

            وإذا ثبت أن هذا وجد في غير هذه الأمة المفضولة فوجوده في هذه الأمة الفاضلة أحرى(14).

            وأخرج البخاري في صحيحه بعد حديث الغار: عن أبي هريرة مرفوعاً: أنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر ابن الخطاب(15).

            قال القسطلاني في شرحه: قال المؤلف: يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوة(16).

            وقال الخطابي: يلقي الشيء في روعه، فكأنه قد حدث به يظن فيصيب، ويخطر الشي بباله فيكون، وهي منزلة رفيعة من منازل الأولياء.

            وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله): قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم.

            ورواه ابن الجوزي في صفة الصفوة وقال: حديث متفق عليه(17).

            وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في (مشكل الآثار) بطرق شتى عن عائشة وأبي هريرة، وأخرج قراءة ابن عباس: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث. قال: معنى قوله محدثون أي ملهمون، فكان عمر ـ رضي الله عنه ـ ينطق بما كان ينطق ملهماً(18).

            قال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلفت تفسير العلماء للمراد بمحدثون فقال ابن وهب: ملهمون، وقيل: مصيبون إذا ظنوا فكأنهم حدثوا بشيء فظنوه. وقيل: تكلمهم الملائكة، وجاء في رواية: مكلمون. وقال البخاري: يجري الصواب على ألسنتهم وفيه إثبات كرامات الأولياء.

            وقال الحافظ محب الدين الطبري في (الرياض): ومعنى المحدثون ـ والله أعلم ـ أي يلهمون الصواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدثهم الملائكة لا بوحي إنما بما يطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلة عظيمة)(19).

            قال القرطبي: محدثون ـ بفتح الدال ـ اسم مفعول جمع محدث ـ بالفتح ـ أي ملهم أو صادق الظن، وهو من أُلقي في نفسه شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى، أو من يجري على لسانه بلا قصد، أو تكلمه الملائكة بلا نبوة، أو من إذا رأى رأياً أو ظن ظناً أجاب كأنه حدث به، أُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له، وهذه كرامة يكرم الله بها من شاء من عباده، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء.

            فإن يكن من أمتي منهم أحد فإنه عمر، كأنه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنه نبي، فلذلك أتى بلفظ (إن) بصورة التردد. قال القاضي: ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والاختصاص قولك: إن كان لي صديق فهو زيد، فإن قائله لا يريد به الشك في صداقته بل المبالغة في أن الصداقة مختصة به لا تتخطاه إلى غيره(20).

            فإذا كان في الأمم السالفة رجال بهذا القدر والشأن فلِمَ إذاً لا يكون بين الأمة الإسلامية رجال شملتهم العناية الإلهية فأحاطوا بالكتاب والسنة إحاطة كاملة يرفعون حاجات الأمة في مجال العقيدة والتشريع.

            فمن زعم أن مثل هذه الإفاضة تساوي النبوة والرسالة، فقد خلط الأعم بالأخص فالنبوة منصب إلهي يقع طرفاً للوحي يسمع كلام الله تعالى ويرى رسول الوحي، ويكون إما صاحب شريعة مستقلة أو مروجاً لشريعة من قبله.

            وأما الإمام: وهو الخازن لعلوم النبوة في كل ما تحتاج إليه الأمة من دون أن يكون طرفاً للوحي أو سامعاً كلامه سبحانه أو رائياً للملك الحامل له. ولإحاطته بعلوم النبوة طرقاً أشرنا إليها.

            ومن التصور الخاطئ: الحكم بأن كل من أُلهم من الله سبحانه أو كلمه الملك فهو نبي ورسول، مع أن الذكر الحكيم يعرف أُناساً، أُلهموا أو رأوا الملك ولم يكونوا بالنسبة إلى النبوة في حل ولا مرتحل.

            هذه أم موسى يقول في حقها سبحانه: (وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين)[سورة القصص: الآية 7].

            أفصارت أم موسى بهذا الإلهام نبيّة من الأنبياء؟

            وهذه مريم البتول، تكلمها الملائكة من دون أن تكون نبيّة قال سبحانه: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين* يا مريم اقنتي لربك..)[سورة آل عمران: الآية 42 و43].

            بلغت مريم العذراء مكاناً شاهدت رسول ربها المتمثل لها بصورة البشر قال سبحانه: (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً* قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا* قال إنما أنا رسول ربك لأهبك لك غلاماً زكياً* قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا* قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً)[سورة مريم: الآية 17 ـ 21].

            نرى إن مريم البتول رأت الملك وسمعت كلامه ولم تصبح نبيّة ولا رسولة، فمن تدبر في الكتاب والسنة يقف على أبدال شملتهم العناية الإلهية وقفوا على أسرار الشريعة ومكامن الدين بفضل من الله سبحانه من دون أن يصيروا أنبياء.




            الثاني: عصمة الأئمة الأثني عشر

            إن القول بعصمة الأئمة الأثني عشر وقعت ذريعة لتخيل أنهم أنبياء، زاعمين بأن العصمة تساوي النبوة، غافلين عن أنها أعم من النبوة وإليك البيان:

            العصمة: قوة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ، حيث لا يترك واجباً، ولا يفعل محرماً مع قدرته على الترك والفعل، وإلا لم يستحق مدحاً ولا ثواباً، وإن شئت قلت: إن المعصوم قد بلغ في التقوى حداً لا تتغلب عليه الشهوات والأهواء، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبة لا يخطأ معها أبداً.

            وليست العصمة شيئاً ابتدعته الشيعة وإنما دلهم عليها في حق العترة الطاهرة كتاب الله وسنة رسوله:


            أما الكتاب:

            فقد قال سبحانه: (إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)[سورة الأحزاب: الآية 33]، وليس المراد من الرجس إلا الرجس المعنوي وأظهره الفسق.


            وأما السنة فنذكر بعضها:

            1- قال الرسول (صلى الله عليه وآله): (علي مع القرآن والقرآن مع علي يدور معه كيفما دار)(21). ومن دار معه الحق كيفما دار محال أن يعصي أو أن يخطئ.

            2- وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حق العترة: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً)(22) فإذا كانت العترة عدل القرآن، تصبح معصومة كالكتاب، لا يخالف أحدهما الآخر وليس القول بعصمة العترة بأعظم من القول بكون الصحابة كلهم عدول.

            ولا أظن أن يرتاب فيما ذكرنا أحد، إلا أن اللازم التعرف على أهل بيته عن طريق نصوص الرسول الأكرم فنقول:




            من هم العترة وأهل البيت؟

            لا أظن أن أحداً، قرأ الحديث والتاريخ، يشك في أن المراد من العترة وأهل البيت لفيف خاص من أهل بيته، ويكفي في ذلك مراجعة الأحاديث التي جمعها ابن الأثير في جامعة عن الصحاح، ونكتفي بالقليل من الكثير منها.

            روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم..) الآية، دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً، وفاطمة، وحسناً وحسيناً، فقال: (اللهم هؤلاء أهلي).

            وروى أيضاً عن أم سلمة (رضي الله عنها): أن هذه الآية نزلت في بيتي: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).

            قالت: وأنا جالسة عند الباب، فقلت: يا رسول الله، ألستُ من أهل البيت؟ فقال: إنك إلى خير، أنت من أزواج رسول الله، قال: وفي البيت رسول الله، وعلي، فاطمة، وحسن، وحسين، فجللهم بكسائه وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي، فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا).

            وروى أيضاً عن أنس بن مالك: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريباً من ستة أشهر، يقول: (الصلاة أهل البيت: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً).

            وروى مسلم عن زيد بن أرقم قال: قال يزيد بن حيان: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم، إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

            قال: يا ابن أخي والله، لقد كبر سني، وقدم عهدي، فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفونيه. ثم قال: قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً، بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر ثم قال:

            (أما بعد، ألا أيها الناس، إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأُجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ـ فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: ـ وأهل بيتي، أُذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم في أهل بيتي).

            فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: وأيم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده(23).


            3- روى المحدثون عن النبي الأكرم أنه قال: (إنما مثل أهل بيتي في أمتي، كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)(24).

            فشبه (صلى الله عليه وآله) أهل بيته بسفينة نوح في أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ أصوله وفروعه منهم نجا من عذاب النار، ومن تخلف عنهم كان كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله غير أن ذاك غرق في الماء وهذا في الحميم.

            فإذا كانت هذه منزلة علماء أهل البيت (فأنى تصرفون)؟

            يقول ابن حجر في صواعقه: (ووجه تشبيههم بالسفينة: أن من أحبهم وعظمّهم، شكراً لنعمة مشرّفهم وأخذاً وأخذاَ بهدي علمائهم، نجا من ظلمة المخالفات. ومن تخلف عن ذلك، غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيان)(25).




            عصمة الإمام في الكتاب

            ومما يدل على عصمة الإمام على وجه الإطلاق قوله سبحانه: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولوا الأمر منكم) [سورة النساء: الآية 59].

            والاستدلال مبني على دعامتين:

            1- إن الله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر على وجه الإطلاق، أي في جميع الأزمنة والأمكنة وفي جميع الحالات والخصوصيات، ولم يقيد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشيء كما هو مقتضى الآية.

            2- إن من البديهي أنه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان: (ولا يرضى لعباده الكفر)[سورة الزمر: الآية 7].

            من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخل أمر آمر أو نهي ناهٍ، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من أولي الأمر.

            فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين: وجوب إطاعة أولي الأمر على وجه الإطلاق وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان، وأن يتصف أولوا الأمر الذين وجبت إطاعتهم على وجه الإطلاق، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربانية، تصدهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس هذا إلا عبارة أخرى عن كونهم معصومين، وإلا فلو كانوا غير واقعين تحت العناية، لما صح الأمر بإطاعتهم على وجه الإطلاق ولما صح الأمر بالطاعة بلا قيد وشرط. فيستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة اشتمال المتعلق على خصوصية تصده عن الأمر بغير الطاعة.

            هذه الآية تدل على عصمة من أمر الله بطاعتهم ولا تحدد مصداق المعصوم الواجب طاعته. ولكن اتفقت الأمة على عدم عصمة غير النبي والأئمة الأثني عشر، فلا محيص عن انطباقه عليهم لئلا تخلو الآية عن المصداق.

            وممن صرح بدلالة الآية على العصمة الإمام الرازي في تفسيره ويطيب لي أن أذكر نصه حتى يمعن فيه من يعشق الحقيقة قال:

            (إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع، لا بد وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهيٌ عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنه محال فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوماً(26).

            وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..




            الهوامش:

            1- أمالي الصدوق: 29، معاني الأخبار: 94، وغيرها من المصادر الشيعية ولاحظ صحيح البخاري: 6/3 باب غزوة تبوك.

            2- نهج البلاغة: الخطبة 129.

            3- نهج البلاغة: الخطبة 230، مجالس المفيد: 527، بحار الأنوار: 22/ 527.

            4- المرتد الملي: عبارة عن من لم يكن أحد والديه مسلماً حين انعقاد نطفته، كما إذا كان الوالدان كتابيين فأسلم الولد بعد البلوغ ثم ارتد.

            5- ربما يروى عنه (صلى الله عليه وآله): إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وسنتي. ولا تعارض بين الخبرين، غير أن الأول متواتر دون الثاني والأول مسند، والثاني مرسل نقله الإمام ملك في موطئه، وأين هو من حديث العترة الذي أطبق المحدثون على نقله. والتفصيل موكول إلى محله.

            6- الحاكم المستدرك: 2/151، السيوطي: الخصائص الكبرى: 2/266، ابن حجر: الصواعق: 191 الباب 12.

            7- الإمام أحمد: المسند: 1/81، صحيح مسلم: 4/217، البيهقي: السنن الكبرى: 8/26 نقلاً عن الإمام الشافعي.

            8- وقد جمع العلامة المجلسي ما ورد من الأثر حول كتب الإمام علي في موسوعته (بحار الأنوار): 26/8 ـ 66 تحت عنوان (باب جهات علومهم وما عندهم من الكتب)، فلاحظ الباب، الحديث 12،1،10،30.

            9- راجع الكافي: (باب الرد إلى الكتاب والسنة): 1/59-62، تجد فيه أحاديث تصرح بما ذكر، والمراد منها أصول الأحكام وجذورها لا فروعها وجزئياتها.

            10- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب: 4/405.1

            11- ابن الجوزي: تذكرة الخواص: 202.

            12- ابن شهرآشوب: مناقب آب أبي طالب: 4/402.

            13- البخاري: الصحيح: 2/149.

            14- القسطلاني: إرشاد الساري في شرخ صحيح البخاري: 6/99.

            15- البخاري: الصحيح: 2/171.

            16- القسطلاني: إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: 5/431.

            17- ابن الجوزي صفة الصفوة: 1/104.

            18- مشكل الآثار: 2/257.

            19- الطبري: الرياض: 1/199.

            20- لاحظ للوقوف على سائر الكلمات حول المحدث، كتاب الغدير: 5/42- 49.

            21- حديث مستفيض، رواه الخطيب في تاريخه: 14/321، والهيثمي في مجمعه: 7/236.

            22- حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه والدارمي في فضائل القرآن وأحمد في مسنده: 2/114 وغيرهم.

            23- لاحظ فيما نقلناه من الأحاديث، جامع الأصول: 1/100/103 الفصل الثالث، من الباب الرابع.

            24- الحاكم: المستدرك: ج2/151، السيوطي: الخصائص الكبرى: 2/266 وللحديث طرق ومسانيد كثيرة من أراد الوقوف عليها، فعليه بتعاليق إحقاق الحق: 9/270-293.

            25- الصواعق: 191 الباب 11. يقول سيدنا شرف الدين في مراجعاته:

            إلا أني مسائل ابن حجر أنه إذا هذا مقام أهل البيت، فلماذا لم يأخذ هو بهدي أئمتهم في شيء من فروع الدين وعقائده، ولا في شيء من علوم السنة والكتاب ولا في شيء من الأخلاق والسلوك والآداب؟ ولماذا تخلف عنهم، فأغرق نفسه في بحار كفر النعم، وأهلكها في مفاوز الطغيان؟!.

            26- مفاتيح الغيب: 10/144.

            تعليق


            • #51
              الإمامة عقيدة ومنهج حياة



              الإمامة هي (زمام الدين ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين) لقد أجمع علماء الإسلام على ضرورة وجود حكومة عادلة تلتزم الإسلام عقيدة ونظاماً وتعمل على إقامة أحكام الله تعالى وتسوس المجتمع بأحكام الشريعة المقدسة. يقول بن حزم: (اتفق جميع أهل السنة، وجميع المرجئة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة…

              حاشا- أي باستثناء- النجدات نسبة إلى نجدة بن عامر 36-69هـ من الخوارج فإنهم قالوا لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم)

              فالحكومة المتجسدة بالإمامة ضرورة لابد منها دفعا للهرج والفوضى وحفظا لمصالح الأمة وحراسة لأمور الدين، ومكان القيم من الأمر (حسب تشبيه الإمام علي (عليه السلام) في النهج) مكان النّظام من الخرز، يجمعه ويضمّه فإذا انقطع النّظام وتفرّق وذهب، لم يجتمع بحذافيره أبدا. وبصورة عامة فإنا (لا نجد فرقة من الفرق ولا مّلة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقّيم ورئيس لا بد لهم منه، ولا قوام لهم إلا به… وفي هذا الصدد يقول الجاحظ وهو من معتزلة البصرة: (إن الناس يتظالمون فيما بينهم بالشرّه والحرص المركّب في أخلاقهم، فلذلك احتاجوا إلى الحكّام).

              على أن القضية التي أثارت جدلاً عاصفاً وكانت موضع خلاف شديد أدى إلى الاختلاف والتمزق وأحيانا إلى التناحر بين المسلمين هي طبيعة الإمامة والسلطة هل هي دينية أم دنيوية ومدنية؟… ثم تشعب إلى مسائل أخرى منها هل أن مصدر وجوب الإمامة هو النص والوصية من الله تعالى أو رسوله (صلى الله عليه وآله) أم أن مصدرها التعيين والاختيار من قبل الأمة وأصحاب الحل والعقد فيها؟…

              وبطبيعة الحال أخذ كل فريق يسوق أدلته ويدلي بالحجج والبراهين التي تؤيد وجهة نظره ونحن في هذه الدراسة المقارنة نرسم الخطوط العامة لاتجاهات الرأي حول الإمامة جادين للوصول إلى القول الفصل وجاهدين لتقريب وجهات النظر بين المذاهب على صعيد الواقع الموضوعي الذي يحتاج إلى كيان إسلامي موحد حتى يقف شامخاً أمام الكتل السياسية الملحدة الساعية إلى إبقائه مجزءً سياسياً ومتناحراً مذهبياً من أجل تحقيق أطماعها والاحتفاظ بهيمنتها.


              الإمامة منصب ديني أم مدني؟

              ترى مدرسة آل البيت (عليهم السلام) بأن الإمام إنما ينصب لمصالح الدين من حيث الأساس، ولذلك يوجبون عصمته فالدين ـ حسب نظرهم - هو ميدان سلطته وسلطانه ومن هنا يتشددون في مسألة اختياره ويركزون على عصمته يقول الشيخ محمد رضا المظفر: (نعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سن الطفولة إلى الموت، عمداً وسهواً. كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان، لأن الأئمة حفظة الشرع والقوّامون عليه حالهم في ذلك حال النبي، والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة، بلا فرق).

              أما الطرف الآخر ـ وخاصة المعتزلة ـ فعندهم أن الإمام منصب أساساً لمصالح الدنيا فحسب فهو مجرد منفذ للأحكام ومقيم للحدود وناظر في مصالح الأمة الدنيوية وليس قيماً على الدين، بلاغاً أو حفظاً كما أنه ليس منصباً من قبل الله تعالى لإزالة العلل عن المكلفين في التكليف، وهذا الاتجاه يقلص مقام الإمام ويعتبر مجرد (موظف سياسي) ليس إلا، وليس له سلطة روحية بل حتى المهام الدينية التي يضلع بها مثل إمامة الصلاة وغيرها لا تضمن له أي سلطة دينية. ومن الجدير بالذكر أن هذا التيار يدعوا إلى فصل السلطتين: الدينية والزمنية وفي تصوره أن الإسلام ينكر الصفة الدينية للسلطة، ويرى بأن عهد السلطة الدينية قد انتهى بإكمال الرسالة وموت الرسول (صلى الله عليه وآله). وعليه فإن السلطة بعد رحيله غدت مدنية. والملاحظات على هؤلاء أنهم في الوقت الذي يعتبرون فيه الإمامة منصباً دنيوياً ومدنياً ويعتبرونها ـ كما سيأتي ـ حكماً فرعياً يمنحونها في تعريفهم صبغة دينية واضحة! ويدرجونها عند التصنيف للأحكام الإسلامية مع أصول العقائد وليس مع فروعها كما يذهبون!… (فقسم منهم يقول: أن الإمامة سياسة عامة في أمور الدين فيسوي بينها وبين النبوة. ومنهم من يقول: أنها خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملّة). ويتوهم أنه يختلف مع التعريف الأول على حين أنه يستمر في إعطاء الإمام اختصاصات النبي والرسول... ويرى ابن خلدون: أنها نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا.


              أصل أم فرع؟

              تذهب مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) إلى كون الإمامة استمراراً للنبوة، فكما أن الناس بدون النبوة يتيهون في صحراء الحيرة والضلال ويتخبطون حيارى على غير هدى كذلك الحال في الإمامة الهادية التي تكمل دور النبوة وتسلك بأفراد الأمة سواء السبيل. ومن هنا فهي أصل كالنبوة. وحول هذه الفقرة يقول المجتهد المجدد الشيخ المظفر: (نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، ولا يجوز فيها تقليد الآباء والمربين مهما عظموا وكبروا، بل يجب النظر فيها كما يجب في التوحيد والنبوة). (عقائد الإمامية - مصدر سابق - ص65).

              أما أهل السنة فلا يعتبرون الإمامة أصلا من أصول الدين والعقائد، بل هي ـ عندهم - من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين وعلى سبيل الاستشهاد يقول إمام الحرمين (الجويني): أن الكلام فيها ـ أي الإمامة ـ ليس من أصول الاعتقاد. والغزالي يقرر: أن النظر في الإمامة ليس من المهمات، وليس أيضا في فن المعقولات بل من الفقهيات - أي من الفروع.

              وابن خلدون ينهج ذات النهج ويقول: شبهة الإمامية إنما هي كون الإمامة من أركان الدين وليس كذلك، وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق. فمحور الخلاف إذن بعبارة أخرى أن أهل السنة يعتبرون مسألة الإمامة من الفروع ولذا فهي شأن من شؤون الناس، يولون هذا المنصب لمن تتوفر فيه شروط محددة فإن أخل بها أو ببعضها تمت محاسبته أو عزله. بدليل أنه (لما أحدث عثمان تلك الأحداث خلعوه، فلما لم ينخلع قتلوه) بينما ترى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بأن الإمامة ركن من أركان الدين لكونها لطف إلهي ـ كما سيأتي ـ وبالتالي فهي من شؤون السماء ولا دخل للبشر فيها يقول الشيخ الكليني (أن الإمامة منزلة الأنبياء، وأرث الأوصياء أن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول… فمن الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟ هيهات…هيهات).


              وجوب الإمامة: عقلي أم نقلي؟

              من فمن موارد الاختلاف بين المدارس والمذاهب الإسلامية أنه هل وجوب الإمامة المتفق عليه عقلي أم شرعي؟

              مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) مع استشهادها بالنصوص المنقولة عن طريق النبي (صلى الله عليه وآله) الدالة على وجوب الإمامة بل وانحصارها في أهل البيت (عليهم السلام)، تذهب إلى وجوب نصب الإمام من جهة العقل، لأنه لا بد للشريعة من حافظ معصوم يؤمن من جهته التغيير والتبديل والسهو، ولا شأن للناس ولا قدرة على معرفة الإمام. فالإمامة ـ عند هذه المدرسة ـ كالنبوة لطف إلهي فكما لا يمكن الاستغناء عن النبوة لا يمكن الاستغناء عن الإمامة، فكلاهما لطف وإن كان لطف الإمامة عاماً ولطف النبوة خاصاً.

              وبعبارة أخرى فإن حفظ الشريعة الذي وعد تعالى به يجب على الله عقلاً إيجاد الإمام وتنصيبه، والدلالة عليه، وإيجاد طاعته على رعيته.

              أما السنة ومعهم المعتزلة فيرفضون مقولة (اللطف الإلهي) عند الإمامية وبذلك فهم ينكرون الأساس أو الأصل العقلي لوجوب الإمامة وعندهم أن العقل لا يعلم به فرض شيء ولا إباحته، ولا تحليل شيء ولا تحريمه، ولا حسن شيء ولا قبحه وأن هذه الأمور طريقها السمع، وإنما العقول يتوصل بها إلى حدوث العالم وإثبات محدثه، وأنه على صفاته التي هو عليها، فعلم وجوب الإمامة – عندهم - من جهة السمع ـ أي النقل .

              وهنا نتساءل: لماذا وقع الخلاف؟ وكيف نشأ الانقسام في الأمة؟

              إن من يتبع المرحلة الأولى من حياة الأمة الإسلامية في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) يجد أن اتجاهين رئيسيين مختلفين قد رافقا نشوء الأمة، وبداية التجربة الإسلامية منذ السنوات الأولى وكانا يعيشان معا داخل إطار الأمة الوليدة التي أنشأها الرسول القائد وقد أدى هذا الاختلاف بين الاتجاهين إلى انقسام عقائدي عقيب وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) مباشرة، شطر الأمة الإسلامية إلى شطرين قدر لأحدهما أن يحكم، فاستطاع أن يمتد ويستوعب أكثرية المسلمين، بينما أقصي الشطر الأخر عن الحكم وقدر له أن يمارس وجوده كأقلية معارضة ضمن الإطار الإسلامي العام، وكانت هذه الأقلية هي الشيعة في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) منذ البدء هما:

              أولاً: الاتجاه الذي يؤمن بالتعبد بالدين وتحكيمه والتسليم المطلق للنص الديني في كل جوانب الحياة.

              ثانياً: الاتجاه الذي لا يرى أن إيمانه بالدين يتطلب منه التعبد إلا في نطاق خاص من العبادات والغيبيات ويؤمن بإمكانية الاجتهاد، وجواز التصرف على أساسه بالتغيير والتعديل في النص الديني وفقا للمصالح التي يرتئيها.. وقد قدر لهذا الاتجاه ممثلون جريئون من قبيل عمر بن الخطاب الذي ناقش الرسول (صلى الله عليه وآله) واجتهد في مواضع عديدة خلافا للنص، إيمانا منه بأن له مثل هذا الحق. وبهذا الصدد يمكن أن نلاحظ، موقفه من (صلح الحديبية) واحتجاجه على هذا الصلح، وموقفه من الآذان وتصرفه فيه بإسقاط (حي على خير العمل)، وموقفه من النبي (صلى الله عليه وآله) حين شرع متعه الحج… إلى غير ذلك من مواقفه الاجتهادية. وقد انعكس كلا الاتجاهين في مجلس الرسول (صلى الله عليه وآله) في آخر يوم من أيام حياته فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي عباس، قال (لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة وفي البيت رجال، فيهم عمر بن الخطاب قال النبي: هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده، فقال عمر: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قد غلب عليه الوجع، وعدنكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تظلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم قوموا: لا ينبغي عند نبي نزاع) وهذه الواقعة وحدها كافية للتدليل على عمق الاتجاهين ومدى التناقض والصراع بينهما ويمكن أن نضيف إليها لتصوير عمق الاتجاه ورسوخه ـ ما حصل من نزاع وخلاف بين الصحابة حول تأمير (أسامة بن زيد) على الجيش بالرغم من النص النبوي الصريح على ذلك، حتى خرج الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو مريض، وخطب في الناس، وقال: (يا أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم من تأمير أسامة، ولئن طعنتم في تأمير أبيه من قبل، وأيم الله إنه كان لخليقاً بالإمارة وإن ابنه بعده لخليق بها). وهذان الاتجاهان اللذان، بدأ الصراع بينهما في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) قد انعكس على موقف المسلمين من قضية زعامة الإمام علي (عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله).

              فعلى الرغم من النصوص النبوية المستفيضة التي تؤكد على إناطة الإمامة بأهل البيت (عليهم السلام) ومنها حديث (الثقلين) إذ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي… إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)( انظر الحاكم في مستدركه على الصحيحين: الترمذي والنسائي) … وعلى الرغم من الحديث النبوي الجلي (حديث الغدير) الذي نص بالولاية والإمامة لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) حيث خطب وقال (صلى الله عليه وآله): أيها الناس يوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول وإنكم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا نشهد إنك قد بلغت وجاهدت ونصحت فجزاك الله خيراً. فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حق، وأن ناره حق وان الموت حق، وأن البعث حق بعد الموت، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ فقالوا بلى نشهد بذلك. قال: اللهم اشهد، ثم قال:

              (يا أيها الناس إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا مولاه ـ يعني عليّ ـ اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).

              خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) هذه الخطبة في أواسط السنة العاشرة للهجرة أثناء رجوعه من حجة الوداع، حين وصلت جموع الحجاج (والتي قدرها كبار المؤرخين بما يزيد على مائة ألف شخص) إلى غدير خم، وكان ذلك يوم الخميس في الثامن عشر من ذي الحجة… وهذه خلاصة لسند الحديث: ذكر واقعة الغدير من المؤرخين(24) شخصاً من كبار المؤرخين منهم: ابن قتيبة والطبري والبلاذري وابن عساكر وابن الأثير وابن خلدون وابن خلكان والعسقلاني والسيوطي الخ.. ومن المحدثين ذكر الواقعة (27) شخصاً منهم الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وابن ماجه والترمذي والنسائي والحاكم والقسطلاني وصاحب كنز العمال. ومن أئمة المفسرين ذكر الواقعة (11) شخصاً منهم الطبري والثعلبي والقرطبي والفخر الرازي والنيسابوري الآلوسي والسيوطي. ومن أئمة المتكلمين ذكرها (11) شخصاً منهم الباقلاني والجرجاني والبيضاوي والكوشي.. ومن أئمة اللغة ذكر الواقعة ابن دريد في الجمهرة، وابن الأثير في النهاية والحموي في معجم البلدان. أما رواة الحديث من الأصحاب (106) صحابي منهم أبو بكر وعمر ومنهم فاطمة الزهراء (عليها السلام) وعائشة ومنهم أبو هريرة ومن التابعين نقل الواقعة (84) رجلا… الخ أما المّدعون لتواتر الحديث فهم جماعة منهم (الفخر الرازي) فلا مجال إذن للتشكيك في صحة السند. فعلى الرغم من كل ذلك رأى الاتجاه الآخر أن بإمكانه أن يتحرر عن الصيغة المعينة من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) وطرح صيغة بديلة أكثر انسجاما في تصوره مع الظروف، وفقا لاعتبارات متغيرة ومتحركة ومرنة. وعلى هذا الأساس تسلم أبو بكر السلطة بعد وفاة النبي مباشرة على أساس ما تم من تشاور محدود في مجلس السقيفة ثم تولى عمر بنص (محدد) من أبي بكر، وأدت المرونة بعد ثلث قرن من وفاة الرسول إلى تسلل أبناء الطلقاء الذين حاربوا الإسلام بالأمس إلى مراكز السلطة.


              خلاف متوقع

              ولابد من القول بأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يتوقع حصول مثل هذا الخلاف بين المسلمين بعد وفاته، ولهذا فقد وضع (صلى الله عليه وآله) مخططا تشريعيا وسياسياً واسعاً للمنع من وقوع أمثال ذلك، فوضع النبي (صلى الله عليه وآله) خططا وقائية وعلاجية للمنع من الاختلاف قبل أن يحصل الخلاف، فمن الخطط الوقائية التي رسمها الإسلام توجيهات عامة كان يسديها القرآن الكريم والنبي (صلى الله عليه وآله) في التحذير عن الاختلاف: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً)[سورة آل عمران: الآية 99].

              (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[سورة الأنفال: الآية 49]، وانسياقاً مع هذا الجانب وضع النبي قبيل وفاته خطة محكمة لمنع وقوع الاختلاف بين المسلمين فقد قدر (صلى الله عليه وآله) إن الاختلاف سيقع بعد وفاته بشأن الخلافة، فحاول أن يقصي وجوه الأصحاب ساعة وفاته عن المدينة المنورة، إلى من عليّ (عليه السلام) ليخلو جو المدينة من المعارضة التي يثيرها وجوه الأصحاب بعد وفاته، ويفرغ علي (عليه السلام) للأمر من دون معارض ولكن لم يقدر لهذه الخطة أن تنفذ، فتوفى النبي (صلى الله عليه وآله) ووجوه الأصحاب في المدينة.( بحث حول الولاية للسيد الشهيد محمد باقر الصدر).

              ومن هذا المنطق نرى بأن عملية الإعداد النبوي لإمامة علي (عليه السلام) محددة سلفا يراد من خلالها إكمال مهمة التغيير الكبرى التي بدأها الرسول (صلى الله عليه وآله) لا سيما وأن الأمة آنذاك غير مؤهلة لاختيار الحاكم أو الخليفة بسبب حداثة عهدها بالجاهلية ولدخول جموع غفيرة في الإسلام لا تفهم منه إلا الشهادة اللفظية، من أجل ذلك وقع الاختيار على الإمام علي (عليه السلام) ليقوم بتأهيل الأمة إلى درجة عالية من الاستقامة والفهم والوعي.

              والشواهد الدالة على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يعد الإمام علي (عليه السلام) إعداداً رسالياً خاصا كثير جداً، فقد كان يتبع الرسول (صلى الله عليه وآله) اتباع الفصيل إثر أمه! وكان أول من أسلم ولم يسبقه سابق، وكان أول من أعلن مناصرته ومؤازرته للنبي (صلى الله عليه وآله) حينما نزلت الآية: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)[سورة الشعراء: الآية 214]، وعندما شهر الكفار سيف الغدر وخططوا لاغتيال النبي (صلى الله عليه وآله) نام علي (عليه السلام) في مكانه، وضحى بنفسه، كما خاض معارك الإسلام الكبرى فجندل الأبطال وفتح القلاع. علاوة على ذلك: (فقد كان الرسول يخصه بكثير من مفاهيم الدعوة وحقائقها ويبدأه بالعطاء الفكري ويختلي به الساعات الطوال يفتح عينيه على مفاهيم الرسالة ومشاكل الطريق ومناهج العمل إلى آخر يوم من حياته الشريفة. روى الحاكم في المستدرك بسنده عن أبي إسحاق، سألت قثم بن العباس، كيف ورث علي رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال (لأنه كان أولنا به لحوقاً وأشدنا به ازوقاً). وروى النسائي عن الإمام أنه كان يقول كنت إذا سألت رسول الله أعطيت وإذا سكت ابتدأني… كما أن في حياة الإمام علي (عليه السلام) بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) حقائقاً تكشف عن آثار ذلك الإعداد الخاص ونتائجه، فقد كان الإمام هو المفزع والمرجع لحل أي مشكلة يستعصي حلها على القيادة الحاكمة وقتئذ ولا نعرف في تاريخ التجربة الإسلامية على عهد الخلفاء الأربعة واقعة واحدة رجع فيها الإمام (عليه السلام) إلى غيره لكي يتعرف رأي الإسلام وطريقة علاجه للموقف بينما نعرف في التاريخ عشرات الوقائع التي أحست القيادة الحاكمة فيها بضرورة الرجوع إلى الإمام (عليه السلام). هذا الإعداد النبوي الدؤوب… وهذه المواصفات الفريدة التي اجتمعت في شخصية الإمام علي (عليه السلام)، أهلته ليتبؤا بجدارة واستحقاق أعلى مقام إسلامي بعد النبوة ألا وهو الإمامة.

              أجل فما أحوجنا اليوم إلى الإمامة الهادية التي أقر الجميع بوجوبها وضرورتها، حتى تنقذنا من طوفان الفتن وتعيد لنا الوحدة بعد التمزق والفرقة، وترجعنا للعدالة بعد استشراء الظلم والجور… ففي الإمامة صلاح ديننا ودنيانا معاً.

              تعليق


              • #52
                و شكرا لكم جميعا
                والسلام على من اتبع الهدى
                لا تنسونا من دعاء الخير

                تعليق


                • #53
                  المشاركة الأصلية بواسطة لواء الحسين
                  و شكرا لكم جميعا
                  والسلام على من اتبع الهدى
                  لا تنسونا من دعاء الخير
                  السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                  مشكور أخي الكريم ..
                  أحسنت وجعله الله في ميزان حسناتك !!

                  أخي ..حنا إن شاء الله ماننساك من الدعاء ..لكن ...

                  لكن الخوف ..ان يجيك صاحب الموضوع ...ويهمش مشاركتك ..

                  ولا ترى منه أنك لسعيــك مشكورا ..






                  إن شاء الله يقرأ كلامك اخي الكريم ..ويستوعبه ؟؟

                  مع اني أشك في ذلك ..إذا كان كتهامة مثلاً أو كمحب ابن معين ...مراوغين فقط لاغير ...



                  سمعت يا أخ أبو عاصم ..


                  أنت لاتريد إلا الحقيقة ...و ونحن لا نريد عناداً ..











                  أكره الظلم واهله

                  تعليق


                  • #54
                    السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة

                    بارك الله فيك اخي لوااء الحسين


                    مشكور حبيبي ماقصرت جزاك الله الف خير

                    تعليق


                    • #55
                      أحسنتم مولانا لواء الحسين ...... وليتك تحفظ هذه الوثائق المهمة بترتيبها كرد لكل من يعوي من الجهلة.

                      تعليق


                      • #56
                        ارجو تثبيت الموضوع

                        وجزاك الله اخي لواء الحسين خيرا وجعلك كلواء الحسين مشعلا ينير طريق الاسلام المحمدي الاصيل وسنة رسوله الكريم صلوات ربي عليه واله

                        تعليق


                        • #57
                          السلام على من اتبع الهدى
                          السلام على شيعة علي حيدر

                          شكرا جزيلا لكل الاخوة
                          وهذا الجهد ليس مني ان هو الا شذرة من بركات وجود الحجة عليه السلام . و شكرا

                          تعليق


                          • #58
                            فعلا شكرا جزيلا على هذه الوثائق المهمه

                            تعليق


                            • #59
                              يصراحة انا رايي ان اي سؤال يسال من قبل السنه والجماعه يجب لرد عليه مهما اكان سخيفا لازم نا خذهم على قد عقلهم اذا كان اصلا في عقل

                              تعليق


                              • #60
                                شكراً أخي لواء الحسين

                                جعلها الله بميزان حسناتك وما قصرت



                                ونتمنى من الأخ ابو عاصم يكون غير تعصب

                                فالتعصب شيطان يجعل صاحبه في عداد الهالكين

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                x

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة

                                اقرأ في منتديات يا حسين

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                أنشئ بواسطة وهج الإيمان, يوم أمس, 03:07 AM
                                ردود 0
                                10 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة وهج الإيمان
                                بواسطة وهج الإيمان
                                 
                                أنشئ بواسطة وهج الإيمان, يوم أمس, 03:04 AM
                                ردود 0
                                5 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة وهج الإيمان
                                بواسطة وهج الإيمان
                                 
                                يعمل...
                                X