الحقيقة الغائبة عن هجرة الرسول
الشيخ عفيف النابلسي
المفارقة التي تتكرر لدى المسلمين في كل عام تكمن في ان فئة منهم يدخلون في الاول من محرم في اجواء الحزن واللوعة على استشهاد الامام الحسين (ع) واهله واصحابه، ويتذكرون التاريخ الدامي لبني امية وشخص يزيد بن معاوية وخصوصا ما افتعله من جرائم وفظائع كان الاسلام وكانت الامة ضحية اعماله وسلوكه الشاذ الذي كانت نتائجه انقلاب المعايير وتبدّل القيم واختلاط المفاهيم بشكل حاد وغير مسبوق.
اما الفئة الثانية من المسلمين، وهم اهل العامة والجماعة، فأنهم يدخلون في التاريخ نفسه اي الاول من محرم في اجواء فرح وعيد حيث تقام الاحتفالات في معظم الدول والمدن والقرى تعبيرا عن سعادتهم بهذا اليوم التاريخي العظيم الذي دخل فيه النبي (ص) المدينة المنورة (يثرب).
والحق اقول اني لا اريد من هذه المقالة ان تثير حساسية احد او ان تعرض بشخص احد او فئة بمقدار ما اتوخى ان اضع اصبعا على الحقيقة بطريقة بحثية علمية هادئة بعيدة عن التعصب المذهبي.
فلنا ان نتساءل بعد ذلك هل ان النبي (ص) وصل الى المدينة المنورة في الواحد من محرم الذي يشكل بداية السنة الهجرية لدى المسلمين؟ وبالتالي فإن الاحتفالات التي تقام في هذا اليوم هي احتفالات واعياد مشروعة ومطلوبة؟ الكل يعرف ان المسلمين حين قدوم النبي (ص) الى المدينة راحوا ينشدون الاناشيد ويهزجون بالاهازيج وهذا يفترض ان كل ما يعكر صفو هذا اليوم التاريخي هو امر غير مقبول على الاطلاق، وعليه فيكون الحزن الكربلائي الذي يفتعله "الشيعة" في نفس هذا اليوم خطأ كبيرا وموقفا سلبيا من الهجرة وقدسيتها وتاريخ النبي وسمو مقامه.
وحتى لا تشتد بنا جدلية الفرح والحزن، وتأخذنا الى مجال آخر وايهما المطلوب في هذا اليوم، فإن علينا اولا وقبل اي شيء آخر ان نعود الى التاريخ ونحدد حقيقة هذا اليوم.
اما ان هذا يوم وصول الحسين (ع) الى كربلاء، فهذا ما لا ينكره احد ولا يعترض عليه معترض، فالمشكلة عند اهل السنة والجماعة لم تكن تتركز يوما في اطار تحديد الزمن الذي قدم به الحسين (ع) الى كربلاء بقدر ما كان الخلاف مع الشيعة على مشروعية الحزن، واستمرار اقامة مجالس العزاء الحسينية حتى اليوم.
لكن في المقابل، هل هذا اليوم هو يوم وصول الرسول (ص) الى المدينة؟ فاذا اثبتنا ذلك فإن المعادلة تصبح معادلة صعبة ومعقدة ويصبح النقاش حينئذ في حال بقي كل طرف على موقفه نقاشا في مشروعية الحزن والفرح وفي اولوية تقدم الفرح على الحزن او بالعكس، او ان المعادلة تقتضي تساقط كلا الطرفين.
واعود فاتجه ببحثي الى التاريخ والى المصادر التي يعتمد عليها في هذا الخصوص لنقف على حقيقة الامر. ولنبدأ بما قاله الشيخ الكبير ابو عبدالله محمد بن اسماعيل البخاري الذي يعتبر كتابه من الكتب الصحيحة والمعتبرة عند اهل الجماعة لنرى ماذا يقول بالنسبة الى هذه الواقعة:
"قال البخاري (مختصر من حديث طويل، الجزء الخامس، المجلد الثاني، ص،77 دار الجيل بيروت) قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير ان رسول الله (ص) لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله (ص) وابا بكر ثيابا بيضا وسمع المسلمون بالمدينة فخرج رسول الله (ص) من مكة فكانوا يغدون كل غداة الى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يوما بعدما اطالوا انتظارهم فلما آووا الى بيوتهم اوفى رجل من يهود على اطم من آطامهم لامر ينظر اليه فبصر برسول الله (ص) واصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي ان قال بأعلى صوته يا معاشر العرب هذا جدكم الذين تنتظرون فثار المسلمون الى السلاح فتلقوا رسول الله (ص) بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الاول".
ما قاله الطبري في تاريخه (المجلد الاول ص 571): "وقدم دليلهما بهما قباء على بني عمر بن عوف اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول يوم الاثنين حين اشتد الضحى وكادت الشمس ان تعتدل" وما قاله المؤرخ الشهير اليعقوبي في الجزء الاول ص33 تحت عنوان قدوم رسول الله (ص) الى المدينة قال: "وقدم رسول الله (ص) المدينة يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الاول وقيل الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت منه والشمس يومئذ في السرطان ثلاثا وعشرين درجة وست دقائق والقمر في الاسد ست درجات وخمسا وثلاثين دقيقة".
وايضا ما قاله المسعودي في كتابه "مروج الذهب" الجزء الثاني ص 279 قال: "وكان دخوله عليه الصلاة والسلام الى المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الاول فأقام بها عشر سنوات كوامل... ثم قال: وكان نزوله عليه الصلاة والسلام في حال موافاته المدينة بقباء على سعد بن خيثمة وابتنى المسجد وسار يوم الجمعة ارتفاع النهار واتته الانصار حيا حيا يسأله كل فريق منهم النزول عليه ويتعلقون بزمام راحلته وهي تجذ به فيقول (ص) خلوا عنها فانها مأمورة".
ما نقله المؤرخ الشهير ابو محمد عبد الملك بن هشام في كتابه السيرة النبوية المطبوع في بيروت عن دار الجيل الجزء الثالث (ص19) قال: "ثم قدم بهما قباء على بني عمر بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل".
اذا هذا ما تناقلته كتب المحدثين والمؤرخين، وهذا ما تم اثباته والتأكيد عليه. فيكون حينها يوم قدوم الرسول الى المدينة هو يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول وليس كما ينقل ويقال من معلومات مغلوطة اصبحت شائعة بين الناس. وعلى هذا الاساس اذا كان المطلوب هو الاحتفاء بهذا اليوم التاريخي العظيم، فيجب ان
يكون في شهر ربيع الاول وليس في شهر محرم.
نعم، ان المسلمين يتساءلون بحيرة وغصة عن سبب هذه الحالة العربية التي تفرح فيها فئة منهم فيما فئة اخرى تعيش الحزن والعزاء.
واذا اردنا ان نفكر بطريقة علمية وموضوعية، فما علينا الا ان نقرأ التاريخ بعقل واع وبصيرة ثاقبة لنصل الى الحقيقة في هذه المسألة. لنكتشف بعدها ان اشاعة اجواء الفرح واقامة الاحتفالات في هذا اليوم بالتحديد انما كان بغرض قطع الطريق عن اهل البيت واتباعهم في مواصلة احياء هذه الذكرى التي تشكل واحدة من اهم المناسبات التاريخية التي تؤسس لقيم الحق وتدعو الى مناصرته، وتندد بالباطل وتدعو الى منابذته.
ولقد بات معروفا ان الامويين عملوا ما بوسعهم من اجل ان يزوّروا التاريخ الاسلامي وقد تبعهم على هذا النهج كثيرون. لكن التاريخ كثيرا ما يعود ويسترجع مكانته ويسرد حقائقه بطريقة جلية للناس، فإن الامويين من خلال استحداث هذه العادة كانوا يريدون ان يمحوا ذكر الحسين (ع) وكانوا يخافون من ان ينفضح حكمهم ونهجهم على مدى العصور والازمنة، ولذلك عملوا على تثبيت هذا الامر في اطار مواجهة اعلامية مضادة في مقابل ما بدأ اهل البيت وانصارهم يدعون اليه من ضرورة احياء المجالس الحسينية.
وهكذا انتقل الصراع بين بني امية والشيعة من الوجه العسكري ليأخذ طابعا ثقافيا واعلاميا. واصبح الترويج لاقامة الاحتفالات المعبرة عن الفرح امرا اساسيا لمواجهة ثقافة العزاء. وللأسف، فإن حالة الفرح بقدوم الرسول الى المدينة التي كان يفترض ان تقوم في شهر ربيع الاول ولجأ الامويون وغيرهم الى جعلها في الاول من محرم، ما زالت امتداداتها حتى اليوم.
المطلوب لا ان نقول ان الفرح مقبول والحزن غير مقبول او العكس، المطلوب اذا ان نعود الى التاريخ ونأخذ منه الحقائق ونتفحص دقائقه بعين الموضوعية لا بروحية مذهبية فنعمل على ازالة كل الشوائب التي تضر بوحدة المسلمين وكلمتهم. فهل نقرأ التاريخ من جديد فنقيم الافراح بهجرة الرسول في وقتها الصحيح لتسكن نفوسنا وتطمئن، ونعيش ثورة الحسين بصوره المأساة والفجيعة فنحزن ونعتبر، وبصور الجهاد والشهادة والعظمة لتكون امتنا امة الحق والشموخ والعظمة.
تعليق