إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

المفتي الجعفري الاول آية الله السيد الحسيني

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المفتي الجعفري الاول آية الله السيد الحسيني


    القسم الثقافي
    فرع الانترنيت
    جمعية بني هاشم العالمية
    www.banihashem.org

    بسم الله الرحمان الرحيم

    { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة:11)

    نبذة تاريخية عن:
    مفتي لبنان الجعفري الممتاز
    آية الله السيد حسين الحسيني{قدسره}

    المتولد سنة 1324 هـ ـ 1906 م
    المتوفي سنة 1390 ـ 1970 م

    في أواخر سني العشرينات شبت نار الفتنة وانقسمت طائفة الشيعة إلى قسمين حول شج الرؤوس بالسيوف فمنهم من كان يحرّمها ويحرّم معها الضرب بالسلاسل على الظهور والضرب على الطبول والصنوج في أيام المحرم حزناً على أبي عبد الله الحسين (ع) . ومنهم من كان يبيح للعوام مثل هذا العمل ولا يرى فيه بأساً وقد تبنى فكرة الصرخة بالتحريم المجتهد المصلح السيد محسن الأمين العاملي وهو في الشام، أما الذين ناوؤه أو الذي تحداه بسبب الخصومة الشخصية فقد كان في طليعتهم المجتهد الشهير السيد عبد الحسين شرف الدين بصور، والمجتهد الشيخ عبد الحسين صادق بالنبطية، والحقيقة أن السيد العاملي لم يكن أول من حرّم الضرب بالسيوف أو حلّل ذلك وإنما سبقه علماء قبله ومراجع دينية كبيرة، وكان المرجع الديني الكبير السيد أبو الحسن الأصفهاني في مقدمة أولئك المحرّمين، حتى أورد الجواب على السائل الذي سأله في رسالته الفارسية عما يقول في ضرب الرؤوس بالسيوف، والسلاسل ودق الطبول، والصنوج، وما جرت العادة عليه في محرم الحرام باسم الحزن على الحسين (ع) محرم كلياً وغير شرعي، ولكن هذا التحريم من لدن السيد أبي الحسن ومن لدن غيره في السنين السابقة لم يثر الناس ولم يحدث صدى في النفوس كما حدث يوم دعا السيد محسن الأمين إلى تحريمه ليمنع القائمين به في الشام وفي النبطية من عوام الشيعة.
    والتف حول كل واحد من السيد محسن الذي حرّم، وحول السيد عبد الحسين شرف الدين والشيخ عبد الحسين صادق اللذين حللا جماعات بل جماهير من الناس واتصل صدى المعارك الكلامية والدعوات بالعراق وهاجت النجف، وماجت، وهاجت معها المدن الشيعية وماجت، وتناولت الصحف هذه الاختلافات، وكتبت فيها كتب يؤيد بعضها دعوة التحريم، ويفند بعضها هذه الدعوة، وانقسم كبار العلماء بداعي الأغراض الشخصية والأحقاد إلى قسمين وبدأ خطباء المنابر من جانب أهل التحليل يثيرون الجماهير في وجوه أهل التحريم، ولما كانت الأكثرية المطلقة هي من العوام، فقد رجحت كفّتهم على كفّة الداعين بالتحريم حتى ضيّقوا الخناق عليهم، وحتى صار يتخفى الذين لم يجارهم في آرائهم، وقد نعت الذين يسوّغون شجّ الرؤوس بالسيوف أنفسهم : (بالعلويين) ووصفوا معارضيهم الذين كانوا ينادون بتحريم الضرب بالسيوف وما شاكل : (بالأمويين) ولم يبق في الميدان من هؤلاء الذين يعارضون السواد إلا القليل من الجريئين وقد تعرض غير واحد منهم للتنكيل والبطش مما مرّ بعض وصفه وأحواله في الجزء الأول والجزء الثاني من (هكذا عرفتهم) وكان هؤلاء المعارضون للعوام يعرف بعضهم بعضاً فكثيراً ما تضمّهم حلقات الدرس في النجف أو مجلس من مجالس البيوت فيتكاشفون، ويتسارون، ويتناقلون الأخبار التي تصل إليهم من مختلف الجهات فيعرفون من لهم، ومن عليهم، وما مكانة كل واحد من هذه الفتنة ، وكان من أبرز دعاة التحريم بعد طبقة العلماء الكبرى من النجفيين الشيخ محمد الكنجي، الذي سخّر قلمه ولسانه، وكل نشاطه، في شجب الضرب بالسيوف، وقد شجعت جرأته الكثيرين على الالتفاف حوله، أما البارزون من غير النجفيين فقد كان الشيخ محسن شرارة وكان من العناصر المليئة بالإيمان وحرارة الدعوة في تحريم هذه التقاليد وهو رجل لم ينل بعد يومذاك درجة الاجتهاد فالتفت حوله من أهل بلده من العامليين جماعة فيهم الجريء العامل والموالي المؤيد بالعقيدة، وكان من بين أولئك سيّد علوي قصير القامة، بشوش الوجه، لا تكاد تفارق الابتسامة ثغره، وكان يدعى بالسيد حسين البعلبكي، ولما كنت يومذاك من (الامويين) وكانت لي بهذه الجماعات صلات صداقة كان لا بد لي أن أعرف الكثير من هؤلاء فعرفت السيد حسين، وزادت معرفتي به حين علمت بأنه صهر لأخت السيد محسن الأمين صاحب الدعوة الإصلاحية ، ولكن هذه المعرفة لم تزد على تبادل التحية والالتقاء عرضاً في الطريق أو في أحد المجالس العامة أو الخاصة، وعندما أصدرت جريدة الفجر الصادق في النجف وكثر مرتادو مكتب الجريدة وزاروها كان السيد حسين ممن يزورني غبّاً مع زميل له يدعى الشيخ إسماعيل والذي يشغل اليوم مركز العالم الروحاني في جوار حلب، والذي قلما كان يفترق عن السيد حسين في الدرس، وفي زيارة الحرم، وفي دخول المآتم الحسينية ، فهما صنوان لا يفترقان يحبب بعضهما إلى بعض تقارب الآراء، وشظف العيش، فقد كان كلاهما مملقاً، وكان السيد حسين من أكثر من عرفت قناعة وصبراً على المكروه حتى لم أره شاكياً ولا مرة بعد أن اشتدت علاقتي به، وحتى لقد اعتبرت حياته مثلاً للمؤمنين الصابرين الذائبين في الله والراضين بقضائه.
    وإن مثل هذه الصور من الناس لتثير في نفسي الفضول بل الإعجاب وتجعل مني جهازاً كل همه أن يلتقط حتى الهمسة من الأصوات بل كثيراً ما ذُبت في الشخص وهو يحدثني عن حياته، واستبقت الحديث وتصورته كما لو كنت أنا الذي يقص القصة، ويتحدث عن نفسه، وفي أحد مجالسنا الخاصة وأنا أسأل السيد حسين البعلبكي قصته وكيفية انتقاله من بعلبك إلى النجف قص علي القصة التالية:
    قال ولدت في سنة 1324 هجرية أي ما يساوي سنة 1906 ميلادية بقرية (شمس طار) بلبنان التي نزلتها أسرتنا من آل الحسيني من قديم الزمان وتملكت فيها أراضي وبساتيناً، فهي أسرة كبيرة يرجع نسبها إلى الإمام الحسين (ع) ولما كانت هذه القصبة من توابع بعلبك أطلق عليّ أهل النجف. هذه النسبة وسميت بالبعلبكي.
    وكما أصاب الناس بلبنان جميعاً من شظف العيش والقحط بسبب الحرب العظمى الأولى وشتت الناس شذر مذر فقد أصاب بيتنا ما أصاب الناس ولقينا من عنت الزمان أشده وانسدت في وجوهنا جميع الأبواب وكنت يومها شاباً في نحو السادسة عشرة أو السابعة عشرة وكانت الحرب قد وضعت أوزارها ولكن مخلفاتها كانت لم تزل على حالها عدة سنين فنشدت العمل في كل جهة فلم أوفق بسبب ضيق المحيط على أنني قد زاولت تعليم الصبيان بعض الوقت وكنت قد ورثت عن أبوي وعن أهل بيتي الإيمان بالله ورسله وأوليائه، وقد لفتتني عقيدتي بأنه لم يلتجىء أحد إلى الإمام الثامن علي بن موسى الرضا ويتوسل إلى الله به إلا وفرج الله كربه، وكشف عنه غمّه وهمّه، ولكن كيف الوصول إلى خراسان وبين (شمس طار) وبينها نحو ثلاثة آلاف كيلومتر ثم كيف أستطيع أن أدبّر الزاد والراحلة ؟ ثم بمن أستطيع أن أستعين في رفقتي في هذا الطريق وأنا لم أزل شاباً لم يعجم الدهر عودي بعد، فلا أعرف طريق بيروت فكيف أعرف طريق خراسان ؟ ولم أكن يومذك أعرف هذا البيت من الشعر :
    كيف الوصول إلى سعاد ودونها قمم الجبال ودونهن حتوف
    وحين علمت الشعر وجدت أن هذا الشاعر إنما أرادني أنا بهذا البيت يوم كنت أفكر في زيارة الإمام علي بن موسى الرضا (ع) بخراسان .
    وبدأت أعلن رغبتي لأقربائي ولأصدقائي وأصور لهم شدة شوقي لتحقيق هذه الرغبة فيضحكون مني وقد يتخذون مني وهزواً.
    وذات يوم جاءني ابن عم لي يكبرني ببضع سنين، وكان قوي البنية، مفتول الساعد، وقد برم هو الآخر من تلك الحياة الضنكة الضيقة وسألني:
    هل لا تزال بتلك الرغبة العارمة في زيارة الإمام الرضا والدعاء عنده ؟
    قلت : كل الرغبة..
    قال: منذ أيام وأنا أفكر نفس فكرتك وقد صممت على تنفيذ هذه الفكرة طلباً للاستثابة.
    قلت: ولكن كيف يتم لنا تحقيق هذه الرغبة ؟ ونحن لا وسيلة لنا ولا مال يوصلنا؟
    قال: نقطع الطريق ماشيين على أقدامنا بين قرية وأخرى ، فإذا جنّ الليل استضفنا وجوه القرية ولا أظنهم سيبخلون علينا برغيف خبز ومساحة مترين مربعين من الأرض ننام فيها، وهكذا حتى نصل إلى العراق ثم نغادره إلى خراسان فماذا تقول ؟
    قلت: إنه والله الفرج، ولكن من يقنع أهلي وأعمامي بالموافقة على هذه الرحلة.
    قال : أنا …
    وكان كما قال: … بعد أن جرت مناقشات ومذاكرات طويلة تعهّد فيها ابن عمي بأن يكتب لأهلي من كل مدينة كتاباً وأن يأتي بي إليهم سالماً معافى كما أخذني إن شاء الله .
    وكان ابن عمي هذا ورعاً تقياً منذ صغره ولم يكن وحده على هذه الوتيرة فقد كان هناك الكثير من أسرتنا قد شبوا وملء نفوسهم الإيمان ، ولا تسل عن فرحتنا ونحن نغادر (شمسطار) ميممين أضرحة الأئمة الأطهار، وأذكر أننا زوّدنا ببعض الزاد، وفي تلك الأيام كان للريال الفرنسي أهمية كبرى بين النقود، وكان المجيدي والريال النمسوي، بدأ ينحط قدرهما، ولم يبق في السوق من العملة الرائجة في كل مكان غير الليرة العثمانية والعملات الذهبية.
    وكان أن حصلت على ريالين فرنسيين هما كل ما استطاع أهلي أن يزودوني به إضافة إلى بعض الأرغفة من خبز (المرقوق)، ولم أدر كم كان يحمل ابن عمي من النقود ولكني أعلم علم اليقين بأن حاله لم تكن أحسن من حالي، وحين خرجنا من البلد قال ابن عمي إقرأ الفاتحة لأرواح المؤمنين والمؤمنات فإن في مثل هذا تيسيراً كبيراً لسفرتنا.
    وكنا جد فرحين، وقد لقينا الشيء الكثير من اليسر في طريقنا إلى حلب لكثرة ما وجدنا من القرى التي استضفناها، ولم يكن حال القرى يومذاك بأحسن من حال (شمسطار) فقد كان الجميع في عوز، فاقة، وقلّة مؤون، ولكن الطبيعة التي جبل عليها سكان القرى كانت تحملهم على إيثار الضيوف على أنفسهم .
    وكلما كنا نوغل في الطريق كان شوقنا إلى زيارة العتبات يزداد شيئاً بعد شيء، ومع ذلك فلم يحل هذا الشوق بيني وبين ذكري (لشمسطار) وأهل بيتي، ولقد مرت ذكراهم ذات ليلة على خاطري في الحلم، وحين أفقت بكيت، وكتمت بكائي عن ابن عمي، وظللت حتى الصباح وأنا أبكي.
    ولا يبعد أن يكون ابن عمي على هذه الشاكلة من العاطفة، ولكنه كان جلداً وكان يتغلب على عاطفته بالصلاة، فقد كان كثير الصلاة، وكثير الدعاء، وكان يحثني على صلاة النوافل وهو الذي علمني دعاء الصباح أقرؤه بعد صلاة الصبح من كل يوم.
    ولم يكن ابن عمي محيطاً بخصائص الدين أو ملماً بالشريعة، وإنما كان يدرك بعض المزايا من طريق قراءته القرآن الكريم وكتب الأدعية، وقصص الأنبياء وما كان يسمعه من الخطباء والوعاظ وكنت أنا الآخر في مثل هذا الحال، ولكني كنت دونه بالنظر لصغر سني في مثل هذه الإحاطة اليسيرة المتواضعة.
    وكان لابن عمي إلى جانب ميزة إيمانه ميزة فتوته وقوته الجسدية لذلك كان من أنشط الفلاحين في زراعة الحقل، وتشذيب الأشجار والتحطيب.
    وقد بانت قوته هذه ونحن في طريق العراق حين غادرنا (البوكمال) على الفرات وقد التقانا رجل مسلّح ونحن نقطع جانباً من مفازة، فاستوقفنا وأمرنا بأن نفرغ له جيوبنا مما كان فيها من النقود وكان قد حصلنا على شيء من هذه النقود عن طريق اشتغالنا كعمال بناء في (دير الزور) فقد وجدنا هناك ضاحية أكرمنا أهلها بالمبيت في بيت الضيافة وتقديم العشاء لنا، فكنا نعمل في النهار في البناء ونعود ليلاً إليهم لنتعشى ونبيت، وقد جمعنا من هذا ا لطريق طريق العمل في البناء ونقل الحجر وحمل الجص بعض النقود احتفظنا بها لوقت الحاجة ولم نمكث بدير الزور كثيراً لأننا لم نستسغ طول الإقامة في بيت الضيافة عند هؤلاء الأكارم.
    أقول ـ يقول الحسيني ـ لقد بانت قوة ابن عمي هذا حين طلب منا قاطع الطريق وهو يهددنا بخنجره أن نفرغ له ما بجيوبنا إذا أردنا السلامة إذ انكب عليه، وبسرعة لم أعرف لها نظيراً ألقاه أرضاً وأخذ منه الخنجر ورماه بعيداً، كذلك انتزع منه الغدارة وألقى بها بعيداً ثم ناداني بأن أحلّ من وسط هذا اللص حزامه، وكان حزاماً محاكاً من الصوف لا أزال أتصوره حتى اليوم فحللت الحزام في حين كان ابن عمي ضيّق عليه الخناق وراح بمعونتي له يشدّ وثاقه ويربط يديه إلى الخلف، وقام عنه وهو يقول له "أنت ونصيبك" فإن مرّ عليك ابن حلال حلّ وثاقك وناولك سلاحك، وإن مرّ عليك ابن حرام مثلك سرق سلاحك وتركك حيث أنت" ثم قال لي ابن عمي : إن علينا أن نعدو جهدنا لئلا يعثر علينا أحد من رفاق الرجل وأرحامه.
    وهكذا فعلنا، ومع ذلك فلم ننجُ في وقعة أخرى من السلب، فقد داهمنا رجلان مسلحان ونحن بالقرب من مدينة الرمادي والشمس مالت نحو الغروب، وكان بيننا وبين الرمادي مسافة يجب أن نقطعها قبل غياب الشمس . وفي هذا المكان أدرك ابن عمي بحكمته أننا غير قادرين على المقاومة لو أردنا الامتناع عن الاستسلام فاستسلمنا لهما ـ وكانا غير منصفين لأنهما لم يكتفيا بما كنا قد ادخرنا من نقود بل سلبوا ما علينا من ملابس ولم يتركوا لنا غير الملابس الداخلية.
    وحين وصلنا (الرمادي) وعرف قصتنا البعض دعانا شخص إلى بيته وقدم لنا عشاء ثم قدم لنا ألبسة اعتذر ابن عمي عن قبولها وقال له إننا علويّان وإن هذه الألبسة بمثابة الصدقة، والصدقة محرّمة على ذريّة الرسول ، قال الرجل ولكن كيف تستطيعان الحصول على الألبسة قلنا له سنشتغل، وإن له الفضل الكبير إذا دلّنا على محل يقبل منا أن نعمل ما نستطيع أن نعمل ولو بأجور أقل مما هو مفروض، أما الطعام والمبيت فهو عادة مألوفة في الضيافة العربية لذلك لا يمكن عدها من الصدقات.
    وقد كان الرجل كريماً معنا فأخذنا في اليوم التالي إلى النهر وهناك بدأنا ننقل أكياس الرز وقواصر التمر في السفن إلى البر، وفي الليل لم نأو إلى دار الرجل وإنما بتنا في نفس المحل الذي كنا ننقل إليه الحبوب وهو خان كبير ومخزن ينقل منه بعد ذلك مخزونه إلى السوق والى الضياع المجاورة، والى داخل الصحراء.
    ومن حسن الحظ أن السفينة ما كادت تفرغ حتى وافت سفينة ثانية وثالثة كانت محملة بنوع من الرز الذي يبتاعه عرب البادية فحصلنا على أجور كانت كافية لأن نجدد بها ملبوسنا، وكم سررنا بكوننا استطعنا أن نحصل على ألبسة جديدة من كدّنا ووفّرنا بعض النقود.
    وكانت الطائفية يومذاك قد بلغت أوجها وكان كره طائفة لأخرى من السنة والشيعة من الأُمور الشايعة المألوفة فكنا نسعى أن نخفى مذهبنا في الطريق فنصلي مكتوفي الأيدي، ويبدو لي أن الرجل الذي برّ بنا في الرمادي وأضافنا في بيته قد عرف مذهبنا مذ رأى امتناعنا عن قبول الملابس باعتبارها صدقة، ولم تستطع صلاتنا على طريقة إخواننا السنة ان تغير رأيه فينا ومع ذلك فقد عاملنا معاملة الكرام الطيبين.
    ووصلنا (الكاظمين) ونزلنا في خان كان ينزل فيه الزوار مجاناً، ولم نكد نصل حتى توضأنا وقصدنا الحرم الشريف مدفن الإمام موسى الكاظم والإمام محمد الجواد، وأقرأني ابن عمي البيتين التاليين:
    لُذْ إن دهتك الرزايا والدهُر عيشك نكّدْ
    بكاظم الغيظ موسى وبالجواد محمّد
    وقال لي: هذا باب الحوائج ما قصده زائر بحاجة إلا وقضاها له، فاطلب عند دخولنا إلى الحرم حاجتك فلا شك أنها مقضية .
    ودخلنا الحرم، ودنوت من شبّاك الضريح تذكرت غربتي، ومسكنتي، فبكيت وظللت أبكي حتى علا نحيبي وحتى دنا مني قريبي يجفف دمعتي، ويهدّأ روعي، وكل ما دعوت به في هذا المقام الشريف هو أن يرزقني الله الإيمان ويوفقني لرضاه، وهكذا كل ما احتفظت به ذاكرتي من هذه الرحلة، وخرجت من الحرم وأنا أشعر بما يشعر به الظامئ العطشان الذي لجّ به العطش في بحبوحة الصيف وقد بلغ رأس العين في بعلبك فعبّ من ذلك الماء البارد دلواً وأكثر حتى ارتوى، وحتى أحس ببرد الماء وقد أثلج له صدره.
    وفي اليوم الثاني بدأنا نبحث عن عمل، فقيل لنا إن هناك وعلى بعد قليل من الكاظمين أعمالاً ترابية تستوعب عدداً كبيراً من العمال، وسألنا عمن يجب الرجوع إليه لكي نعمل مع العاملين؟ فدلونا عليه وفي اليوم الثالث بدأنا نعمل، وكانت الأجور مغرية، إذ كانت نصف ربية في اليوم لكل عامل من العمال، والربية يومذاك كان لها شأن كبير في حياة الناس فلم تكن تكلف المعيشة للفرد العراقي الواحد أكثر من خمس الربية وربع الربية إذا ما أراد البذخ والإسراف النسبي.
    وكانت الثورة العراقية الكبرى قد انتهت منذ وقت قريب، وقد تم نصب الملك فيصل الأول ملكاً على العراق، وبدأت المفاوضات تجري بين رجال البلد والسلطات الإنكليزية عما يمكن أن يتركه الإنكليز والذي لا يمكن تركه من السلطة والحرية في تكييف الإدارة والحكم، وكان الاتجاه قد بدأ يسير نحو التعمير وقد بدأت العناية تظهر في شؤون الري، والزراعة، وإصلاح الطرق، وإقامة الجسور ولم يكن قد مرت إلا سنة على الثورة العراقية بعد، فكثرت ميادين العمل وصرنا لا نخشى على أنفسنا الجوع ما دام قد أتانا الله قوة تضمن لنا القيام بالعمل وتأديته على وجهه الكامل، وإني لأقسم أني كنت مخلصاً في عملي أينما عملت وكان ابن عمي مخلصاً هو الآخر وكنا نرى العمال كيف كانوا يسرقون من أوقات عملهم وقتاً يقضونه فيما يسمى (بقضاء الحاجة) تارة، وبعمل السيكارة وتدخينها تارة أخرى، وبحجج أخرى ما استعملناها مرة ولا بعض مرة.
    وعملنا نحو ثلاثة أسابيع وكنا نود أن نعمل أكثر حتى إذا أردنا السفر إلى كربلاء والنجف كان لدينا ما يسد حاجتنا من الإنفاق ويعيننا على السفر إلى خراسان، لأن الأجور هنا كانت أجوراً مغرية كما قلت، وقد لا نحصل على أمثالها في كربلا والنجف وفي طريق خراسان، ولكن الأعمال الترابية قد توقفت هناك إلى أجل غير معلوم، وحين راجعنا المسؤول قال من المستحسن أن تراجعانا بعد أسبوعين فلعلنا سنشرع من جديد بالعمل، لذلك فضلنا أن نقضي هذين الأسبوعين في زيارة كربلا والنجف ثم نعود إلى العمل ومن هناك نيمّم مرقد الإمام علي بن موسى الرضا بخراسان، على أن نقضي وقتاً أطول في زيارة الإمام الحسين بكربلاء والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في النجف عند العودة.
    وكنا قد جددنا بعض ملابسنا واشترينا لمتاعنا كيسين كانا أحسن من الكيسين اللذين سلباهما منا قاطعاً الطريق بالقرب من الرمادي كما اشترينا لنا حذائين جديدين حملناهما معنا في الكيسين وبالطريقة نفسها قصدنا مدينة كربلا ماشيين على أقدامنا.
    وفي كربلا وأنا أزور ضريح الإمام الحسين (ع) وأخيه العباس كان دعائي لنفسي لم يتغير، فلقد طلبت من الله أن يستجيب دعائي وأنا أدعوه في المقام المقدس ويرزقني الإيمان ويوفقني إلى نيل رضاه وهي نفس الدعوة التي دعوت بها لنفسي في مرقد الإمامين الكاظمين.
    وقضينا أسبوعاً في كربلا قطعنا معظمه بالصلاة، وقراءة الأدعية ، والاستماع إلى الوعّاظ، وحضور المآتم الحسينية، ثم قصدنا النجف الأشرف وسلكنا في ذلك طريق (طويريج) وكانت تفصل بين كربلا وطويريج بحيرة يجتازها المسافر بالسفن، ورحنا نمشي من طويريج (الهندية) مع النهر، ونمرّ بالعشائر وكان العمل يجري بحماس في حفر الجدول الأيمن المعروف بجدول (بني حسن) وتطهيره فحدثتنا نفسانا بأن نعمل مع العاملين ولو يوماً واحداً فعملنا أربعة أيام أو خمسة بنفس الأجور التي عملنا بها في الكاظمين، وكنا نخشى من قطاع الطرق فقيل لنا إن ذلك قد ولى مع الزمن فلا يجرأ اليوم أحد أن يسلب أحداً في هذا الطريق، بل وحتى في الطرق الأخرى.
    ووصلنا إلى النجف عن طريق الكوفة، وصدف وصولنا في يوم الثلاثاء فقيل لنا إنه يوم مبروك في زيارة مسجد الكوفة، ومسجد السهلة من كل أسبوع، وأن الناس يخرجون في مثل هذا اليوم من مدينة النجف زراقات ووحدانا، ويدعون في هذه المقامات التي حدّدها المرجع الديني الكبير السيد مهدي بحر العلوم بناء على الأخبار والروايات التي تواترت عن فضيلة هذه (المقامات) ، وقد صلّينا في كل مقام ركعتين من الصلاة، وزرنا ضريح مسلم بن عقيل، ونصيره هاني بن عروة، ثم يمّمنا مسجد السهلة، وهناك عملنا نفس العمل في كل مقام من مقامات هذا المسجد، وكان هناك من يطوف بالناس في هذه المقامات، وقد اقتدينا به، وردّدنا مع المردّدين الأدعية الخاصة بكل مقام، وفي مقام الإمام جعفر الصادق قيل لنا إن المستحب هو أن يصلي المصلي هنا ركعتين باسم صلاة (الاستجارة) أي ن يستجير المستجير بهذا المقام إلى الله بأن يحفظه ويحقق له أمنيته، ومرة أخرى لم أجد أمنية أفضل من أن يحقق الله لي الإيمان، ويوفقني لرضاه، وهذا كل مبتغاي من دنياي أمس، واليوم، وغداً.
    وبتنا في تلك الليلة بمسجد السهلة مع العشرات من الزائرين إن لم يكن المئات، وفي الصباح غادرنا مسجد السهلة قاصدين النجف، وألفينا عدداً كبيراً يسير مثلنا على الأقدام قافلاً إلى النجف وكانت القبّة الذهبية تلوح لنا من بعيد وكلما وقع نظري عليها ارتفع نظري إلى السماء ودعوت بدعائي المعهود : رب ارزقني الإيمان ووفقني لرضاك بحق هذه البقعة المقدسة.
    وعند وصولنا إلى النجف يمّمنا الحرم الشريف رأساً، وفي الضحى توضأنا وتركنا كيسي متاعنا عند الكيشوان، (حافظ الأحذية) في مداخل الحرم وأقبلنا على الضريح متلهفين، وبكيت هناك ما شاء الله ولست أدري كم لبثنا في الحرم ونحن نصلي، وندعو، ولولا الجوع لمكثنا إلى آخر ما يسمح به لنا من البقاء.
    وكان ابن عمي يعرف أن البعض من (العاملين) بل إن شخصاً من أهل بعلبك _ وقد أورد اسمه _ ممن يقيمون في النجف كطلاب علم، فراح يسأل ممن كنا نرى من المعممين فدلونا على (مسجد الهندي) وقالوا لنا إن كثيراً من الطلاب يحضرون في الصباح لتلقي علومهم في هذا المسجد وأن علينا أن ننتظر غداً لكي نرى هناك هذا الجمع عسى أن يدلنا البعض على من نريد .
    وفي الليل قصدنا مسجد الهندي حين علمنا بأن المبيت فيه جائز لبعض الغرباء، ففضلنا المبيت فيه على الخان الذي أعدّ لنزول الزوار مجاناً، وكم كانت فرحتنا كبيرة حين اهتدينا في الصباح إلى من كنا نريد الوصول إليه ، وقد تعجب هذا من مغامرتنا وكوننا قد قطعنا هذه المسافة الطويلة ماشيين على أقدامنا وأننا مواصلة السفر إلى خراسان على هذه الوتيرة !!
    وبواسطة هذا الشخص تعرفنا إلى بعض الطلاب العامليين وكان معظمهم يعرفون أسرتهم بالاسم ، فرحّب الكثير منهم بنا، والبعض منهم دعونا في مدارسهم لتناول الغداء الذي كانوا يعدّونه هم أنفسهم بأنفسهم في غرفهم في المدرسة، وقد حبّب لي زهدهم هذه حياة المدرسة، ولأول مرة أشعر بارتياح لا عهد لي بمثله من قبل وأنا أرى هذا الجمع الذي يسكن هذه الحجرات من هذه المدرسة، بل وجدتني أتمنى أن أكون واحداً من هؤلاء، ثم سألت نفسي من يدريك أن لا يكون هذا هو طريق الإيمان الذي طالما لهج به لساني؟ ولكن أين لي مثل هذا التوفيق لأجد نفسي ذات يوم ضمن هؤلاء الطلاب أحمل كتابي في يميني كل يوم، وأقصد الحرم في أوقات الصلاة، وأعدّ لنفسي الطعام بهذه البساطة التي يعدّ فيها طلاب المدارس طعامهم؟
    ومكثنا في النجف أياماً ربما بلغت أسبوعين وقال لي ابن عمي إن علينا أن نقصد بغداد لكي نجدد العمل في أطراف الكاظمين إذا وجدنا العمل قد بدأ من جديد لكي نجمع مبلغاً آخر نستعين به على السفر إلى (خراسان) وقد رأينا من الصلاح أن يسافر هو ويتركني هنا في النجف حتى إذا اطمأن من عمله أوصى لي بواسطة هذه المدرسة والطالب العاملي باللحاق به وإلا عاد ليقضي معي أياماً أخر في النجف ثم نغادرها إلى خراسان.
    وسافر ابن عمي وصارت ملازمتي للطلاب العامليين أكثر من ذي قبل فلم أكن أفارقهم إلا ليلاً ملتجئاً إلى مسجد الهندي الذي زاد اهتمام الخادم المتوكل به بي بسبب الوصية التي تلقاها من الطلاب العامليين بشأني.
    وسألت نفسي ذات ليلة: لم لا أحاول البقاء هنا في النجف لتلقّي العلم وأترك زيارة الإمام الرضا (ع) إلى وقت آخر ؟ فقد بدأت أعتقد أن هذا هو الإيمان المنشود، وأن في هذا رضا الله تعالى،ولو لم يكن ذلك هو لما جاء إلى النجف الآلاف من طلاب العلم من أقصى البلاد إلى أقصاها، وصممت على أن أذاكر الشيخ العاملي الذي برّ بنا والذي اتخذناه ملجأً لنا وعنوان الوصول إلينا.
    وفي الصباح كانت موجة من الآمال تغمرني فلا أكاد أستقر على حال من الفرح وأنا بعد لم أر الرجل ولم أكلمه ولم أعرف رأيه.
    والتقيته ظهر ذلك اليوم في المدرسة وعرضت عليه رغبتي فبشّ في وجهي وتلقّاني بفرحة كبيرة، وقال لي إنه ليس أسعد منه حظاً أن يكون هو السبب في إدخال شخص علويّ مثالي في زمرة طلاب الدين الذين ربما انتفع بهم الناس حين يصبحون مرشدين ودعاة إصلاح وقدوة خير.
    قلت ولكني لا أملك من دنياي إلا بضع (ربيّات) فكيف لها أن تضمن لي العيش ولو بشظف وتقتير؟
    قال: ليس هنالك من بأس، فأنا أستطيع بواسطة أستاذي التوسط لدى أحد المراجع الدينية وهو المرجع الروحاني الكبير الشيخ أحمد كاشف الغطاء بأن يخصص لك في اليوم بعض الأرغفة من الخبز تتسلمها كل يوم من الخباز على حسابه كما يفعل طلاب العلم الذين لا مورد لهم ولا معين.
    ولا تسل عن فرحتي فكأنك قد أعطيتني الدنيا بجميع خيراتها . وأصبحت منذ ذلك اليوم طالب علم ولكني لم أجد بعد ملجأ آخر آوي إليه ليلاً غير مسجد الهندي.
    وأرسل ابن عمي من الكاظمين يدعوني إليه . ويخبرني بأن العمل وافر هنا. وأنّه قد بدأ العمل . وينتظر مجيئي . وحرت كيف أستطيع الرد على وصيته واعتذاري من الرواح. ثم تلقيت وصية أخرى منه يستعجلني فيها على اللحاق به ولكن لا طريق للرد عليه .
    وبعد أيام وفّق الشيخ العاملي للحصول على نصف وقيّة من الخبز أي ما يعادل رغيفين يدفعهما لي خباز معيّن في كل يوم ويقطّ ذلك قطّة على عود من الصفصاف تجمع بعد ذلك عدد القطّات فيعرف منه كم وقيّة كان قد دفع لي في كل شهر. ثم وجد لي غرفة صغيرة في مدرسة المشراق كان قد تركها ساكنوها للخطر المحدق بها من كثرة الفطور البادية على سقفها وجدرانها وما يتساقط منها بين حين وآخر من التراب والحجارة، وقال لي إنه مسكن مؤقت وسنسعى لتبديله في أول فرصة ونحصل لك على حجرة جيدة في هذه المدرسة نفسها أو في مدرسة أخرى.
    وأقبلت على الدرس بشوق كثير، وأحسست أنني أدنو إلى الإيمان المنشود، وأنني أحقق بعملي هذا شيئاً من رضا الله تبارك وتعالى، وحين يئس مني ابن عمي ترك العمل في الكاظمين وجاء يستفسر عن حالي في النجف وهو في أشد ما يكون من القلق علي، فألفاني وقد تغيّرت بزّتي، فها أنا ذا أعتمر عمامة سوداء وأقبع بعباءة، وأتمنطق بحزام من القماش، فدهش وتعجب، وعرض عليّ السفر فرفضت، وقلت له إنني صممت على أن لا أخرج من النجف إلا وقد أشبعت رغبتي من الدرس والعبادة، فقال لي ولكن من أين ستعيش ؟ قلت: إن الله الذي يرزق النملة بل وأدق من النملة لا يعجز أن يرزق إنساناً له عينان ويدان، ورجلان، وعقل ولسان، فانصرف ابن عمي إلى خراسان وبقيت أنا أدرس العلم في النجف !!
    وحين عاد ابن عمي من خراسان عرض عليّ العود إلى بلادنا إلى (شمسطار) فأبيت، وكنت أشد عزماً في البقاء، وقال لي : وبما أجيب أهلك وقد كنت أنا الضامن بأن أعيدك أليهم ؟ فقلت له : إني لست طفلاً فأنا اليوم أحسن التصرف، وقد صممت على أن لا أخرج من النجف إلا وأنا مطمئن البال بأني قد نلت مبتغاي، فتركني وراح.
    ***
    هذا باختاصر ما قص به علي السيد حسين البعلبكي ، أو السيد حسين الحسيني ذات ليلة ونحن في مجلس سمر، وقد نسيت الشيء الكثير من الحوادث، ونسيت الأسماء التي ذكرها لي، والأشخاص الذين جاء ذكرهم في معرض الحكاية فلم يبق في ذهني إلا القليل القليل الذي أشرت إليه هنا.
    وظهرت بوادر هذا الإيمان جلية على السيد حسين فقد انقطع إلى الله وكانت القناعة إحدى ضروب هذا الإيمان فقد عاش على رغيفين من الخبز زمناً طويلاً وطالما أكل الرغيف بدون أن يؤدمه بأدام واذا صادف له ما يستطيع أن يستعين به على تأديم رغيفه فلم يكن يزيد هذا الأدام على حفنة من التمر، وكان الكثير من الطلاب العاملين يمدهم أهلوهم بالحوالات بين آونة وأخرى، بل إن الكثير منهم لا يقدم على السفر من بلاده إلى النجف إلا ويكون أهله قد رتبوا أمره ترتيباً يضمن له البقاء، ومواصلة الدرس، وإن ما يحصل عليه من معونة من العلماء فهو من الأمور التي يكون حكمها حكماً لم يجر في الحسبان، أما السيد حسين فلم يغادر بلده على هذا الأساس لذلك فإن المعوّل في بقائه في النجف كطالب علم عليه وحده وعلى المقدارت.
    وفي مدة قليلة عرف السيد حسين بين أوساط الطلاب بالتقوى، ولكنها كانت تقوى بعيدة عن التزمّت ، والحذلقة، وما شابه ذلك مما كان يعرف به الكثيرون من الزهّاد والعبّاد الذين كان من أجلى مظاهرهم العبوس والتجهّم، أما السيد حسين فقلما رآه أحد وهو عابس، وقلما كلّمه شخص ولم يجد الضحكة الحلوة مطبوعة على سحنته كلها وليس على شفتيه وحدهما.
    ولست أدري كيف قضى السنين الأولى، والى كم ظلّ على هذه الشاكلة زاهداً ، قانعاً، غير شاكٍ يملأ ملتقيه بشيء كثير من الفرح، والمرح الدال على صفات المؤمن، ويجنب لسانه الذم، والشتم، واللعن، فلا أحسب أحداً قد سمع منه يوماً ذمّاً أو قذعاً، ولا أحسب أن أحداً سمح لنفسه أن يعادي هذا الرجل، أو يأخذ عليه خلّة ممقوتة.
    وحين يئس ابن عمه من إعادته إلى لبنان عند رجوعه من خراسان أخبر أهله بأن ابنهم فضّل أن يطلب العلم، ويتفقّه، ويعيش عيشة الضنك على عيشة أهله التي بدأت تتحسن بعد زوال آثار الحرب حتى كادت تصبح طبيعية إذ بدأت الأرض و(الرزقات) كما يسميه اللبنانيون تعطي إنتاجاً جيداً فانتعشت بذلك القرى اللبنانية وفي ضمنها (شمسطار)، وحار أهل السيد حسين في الطريقة التي يوصلون المعونة التي تحصل ممن يعرفون لابنهم في النجف كما يفعل بقية الأهلين مع أبنائهم الذين يطلبون العلم هناك.
    وأخيراً رأوا أن يكتبوا إلى الشيخ حسين همدر بأن يبحث لهم عن مقر السيد حسين وعنوانه ويطلبوا منه أن يدفع له مبلغاً معيناً، والشيخ حسين همدر من العلماء الفضلاء سكن النجف كطالب علم، وبلغ مرحلة مرموقة من الفقه إلى جانب ما اتصف به من الورع والتقوى بحيث كان من أشهر شيوخ العامليين ومن أكثرهم جاهاً في النجف، وكان من السهل على الشيخ حسين همدر الاهتداء إلى السيد حسين البعلبكي بسبب كثرة العامليين الذين يزورون الشيخ حسين همدر في بيته، أو الذين يلتقون به في الحرم الشريف وفي المجالس النجفية، لذلك ما كاد يأل عن السيد حسين البعلبكي حتى اهتدى إليه وسرّه أن يسمع عنه كل ما يشرّف الطالب الروحاني من مديح واطرء. وكان أن تعرّف به، وأبلغه رسالة أهله وسلّمه المبلغ المحوّل بواسطته، وأصبح بعد ذلك هو الوسيط في إيصال ما يرسل إليه على سبيل المعونة بين آن وآخر، وعلى مرور الزمن استطاع السيد حسين البعلبكي ان يشغل من محبة الشيخ حسين همدر محلاً، وأن يتملك شيئاً من إعجابه كطالب علم مجدّ في طلبه، وتقيّ متمسك بتقواه، فزوّجه ابنته، وبرهنت بعد ذلك الأيام على أنّه قد وضع الأمر في موضعه وأنه اختار الصهر المناسب من حيث الدماثة واللياقة.
    والشيخ حسين همدر هو صهر آل الأمين فقد تزوج بشقيقة المجتهد الكبير السيد محسن الأمين العاملي لذلك ارتبطت عائلة السيد حسين البعلبكي من آل الحسيني بزواجه بعائلة الأمين وآل همدر واتسعت هذه الروابط.
    وكانت هذه الروابط بآل الأمين من دواعي انضمام السيد حسين البعلبكي إلى الجماعة التي أيّدت الدعوة الإصلاحية التي قام بها السيد محسن الأمين، الأمر الذي جعل روابط المعرفة بيني وبين السيد حسين البعلبكي تشتد وتتوثق، ومع ذلك فلم تكن تلك الروابط بالشدة التي كانت بيني وبين الآخرين من العامليين أمثال الشيخ محسن شرارة أو حسين مروة. أو محمد شرارة ممن كانوا يتفانون في الدعوة إلى مبادئ السيد محسن الأمين العاملي ذلك لان حماس السيد حسين البعلبكي لم يبلغ درجة حماسنا يومذاك، ومع ذلك فقد كان من هذا الحزب الذي أطلق عليه اسم (الأمويين) نكاية به.
    وفي أوائل الثلاثينات استجاب السيد حسين دعوة بلده وسافر إلى لبنان ليتولى هناك الإرشاد الديني وقد زوّد من قبل علماء النجف بشهادة الجدارة الروحية والعلمية لتولي وظيفة الإرشاد الديني وحل المشكلات الخاصة بالأحوال الشخصية من زواج وطلاق وإرث ووقف وغير الشخصية.
    وفي لبنان طغى عليه لقب أسرته المعروفة ولم يعد أحد يدعوه بالبعلبكي وإنما صار يدعى بالسيد حسين الحسيني، وكانت النجف قد عقدت بين الحسيني وبين بعض اللبنانيين والعامليين من طلاب العلم صلات صداقة وثيقة، وحين تم لبعض هؤلاء الأصدقاء العودة إلى لبنان لتولي وظيفة الإرشاد الديني في بلدانهم ازدادت هذه الصداقة في لبنان وثوقاً ، واشتدت أواصرها أكثر مما كانت عليه في النجف، خصوصاً بعد أن دخل قسم من هؤلاء الأصدقاء المحاكم الشرعية، قضاة، ومستشارين، ومفتين، ومدرسين، وكان السيد حسين الحسيني أحد الداخلين في زمرة القضاء الشرعي وتعيينه مفتياً للقضاء الشرعي الجعفري ببيروت ثم ما لبث حتى صار مفتياً ممتازاً.
    وتوثقت هذه الصداقة أكثر ما توثقت بين السيد حسين والشيخ حسين الخطيب خصوصاً بعد تولي الخطيب رياسة المحاكم الشرعية، وبين السيد نور الدين شرف الدين، وصار هؤلاء الثلاثة بمثابة الأثافي الثلاث في صداقة قل نظيرها في عالم الصفاء، والمحبة، والإخاء، فلا يفصل بعضهم عن بعض فاصل، فإذا وجهت دعوة ما إلى أحدهم فلن تكون هذه الدعوة كاملة تامة ما لم يحضرها العضوان الآخران، لذلك قلما وجد أحدهم في محل لا يوجد الآخران فيه، واتسعت دائرة هذه الصداقة ودخل فيها عدد كبير ممن تلقوا العلم في النجف، ولكن هؤلاء الثلاثة كان لهم لون خاص يميزهم بين الأصدقاء الآخرين فقد كانوا دائرة مستقلة خاصة وسط تلك الدائرة الواسعة العامة.
    وكما يفعل طلاب العلم في النجف عندما ينشدون اللهو، والسلوان، فيلجؤون إلى الشعر تقفية ونظماً، فقد كان ديدن هذه الجماعة في وقت الفراغ المساجلة بالشعر، والمناقشة في الشؤون الأدبية، وتقفية الشعر إلى جانب المباحثة في الأحكام الشعرية، لذلك فكّر هؤلاء الأصدقاء بأن يؤسسوا جمعية تحقق لهم اجتماعاً متواصلاً يكون بمثابة الندوة الأدبية العلمية فأسسوا ( جمعية الإرشاد) ببيروت، واستأجروا لها محلاً في وسط المدينة، وأثّثوه تأثيثاً جيداً وزوّدوه بتلفون، وفرّاش، وخصوا جانباً منه بمكتبة تبرع بمعظم كتبها الأعضاء أنفسهم وبعض الوجهاء والأدباء.
    وصار هؤلاء الثلاثة: الحسيني والخطيب وشرف الدين، بصورة خاصة أكثر التزاماً بالحضور في هذه الندوة، وكان السيد علي إبراهيم الشاعر المعروف وهو رئيس قلم المحكمة العليا ملازماً لهذه الندوة بل هو الذي يمس: بديوان الشعر ويقرأ إحدى القصائد ليشرع الحاضرون بالتقفية، فإذا ما جاءت القافية عند بعضهم نابية بعض النبو أقام السيد علي إبراهيم الدنيا وأقعدها، وراح يذيع بين الأخوان والأدباء ممن لم يحضر ندوة التقفية نوادر يحيكها نفسه بقصد الدعابة، وينسبها إلى الذي خانته الإصابة في تعيين القافية ويتحمل الجميع مثل هذه الدعابة من السيد علي إبراهيم لما عرف به من ظرف وأدب حتى صار في الغالب بمثابة (الداينمو) عند سرد النكت واختلاق النوادر، ونسبة المختلقات من الأقوال إلى من لم يكن له فيها شأن، ولكنها الفكاهة وهي من بعض ما يحبّب السيد علي إبراهيم لمن يعرفه.
    وحين استدعاني عملي وهو الإشراف على طبع موسوعة العتبات المقدسة ببيروت تجددت هذه الصداقات بيني وبين من كنت أعرف من هؤلاء يوم كانوا يطلبون العلم في النجف معرفة إسمية، أم حقيقة ، وأصبحت لي بالسيد حسين الحسيني صداقة أمتن وأوثق مما كانت، واكتشف في الرجل صفات أكثر مما كنت أعرف بكثير من حيث تقواه وطهارة نفسه، وعفته، وأباؤه، ثم أضيف إلى سجل صداقاتي الوثيقة اسمان اعتززت بهما كثيراً وهما العنصران الآخران من المثلث الباهر : الشيخ حسين الخطيب رئيس المحاكم الشرعية العليا والسيد نور الدين شرف الدين، وهذا الصديق الأخير الذي يقرّ في سويداء قلبي اليوم لم يكن معي على حال من حيث المبدأ يوم كنا في النجف فقد كان هو من حزب الحسينيين الذين لم يكونوا يرون بأساً في ضرب الرؤوس بالسيوف وكنت أنا من حزب الأمويين الذين يحرّمون الضرب بالسيوف ولكننا في بيروت أصبحنا من حزب واحد.
    وكنت قد عرفت السيد علي إبراهيم مما كان ينشر في العرفان من تراجم لأعلام الشعراء والمغمورين منهم، وزاد إعجابي به يوم عرفته عن كثب وسلمته قياد نفسي عن طيب خاطر. فكنا نجتمع في مقر جمعية الإرشاد بالإضافة إلى ما كانت تجمعنا الولائم العامرة التي كان يقيمها لنا الشيخ حسين الخطيب في قريته (بتمنين)، والشيخ حسين الخطيب من فضلاء أهل العلم ومن كرماء هذه الزمرة الروحانية الذي طالما شملت الطافة الجميع، وقد لقح القضاء الشرعي بصفته رئيساً للمحاكم الشرعية الجعفرية العليا ببعض العناصر الموصوفة بالمقدرة والنزاهة، فكنا نقضي أياماً وليالي من أوقات فراغنا في بيته، يذبح فيه لنا الخراف، ويعدّ أنفس المأكولات، ويهيء لنا منتدى أدبياً عامراً بالشعر، والطرائف، لا سيما وهو شاعر وله شعر جيد على رغم كونه، مقلاً، وطالما قضينا الليل كله سامرين بالشعر في بيته، ومن أشهر سمارنا السيد نور الدين شرف الدين، والسيد حسين الحسيني، أما السيد علي إبراهيم فلم يكن لاحد منا غنى عنه، ولم يقتصر أنسي به على وجودي ببيروت وإنما كان يلاحقني برسائله إلى بغداد وينقل لي كل ما كان يجدّ في عالم الإخوانيات، والطرف الأدبية، التي كانت تحدث بعدي، ولا مانع لديه أن يلفّق الكثير مما لم يقع وينسب الكثير من النكت والنوادر إلى أصحابنا ولا سيما السيد حسين الحسيني سواء أوقعت هذه النكت حقاً أم لم تقع.
    وقد كتب لي ذات يوم يقول: إن ندوة الجمعية قد ماتت… ومنها أن قراءة الشعر والتقفية أصيبت بنكسة فقد كنا في مجلس بدار بيروت وعند السيد محمود صفي الدين ـ يقول السيد علي ـ وقرأت لهم قصيدة (دالية) بقصد التقفية فكانت قافية الشيخ حسين الخطيب التي قفى بها القصيدة الدالية هي قوله (الصدر) وان قافية السيد نور الدين شرف الدين كانت : (يَلطُم) وقافية السيد حسين المفتي كانت : (غشمشمُ) في حين أن القافية كانت (دالية) فأعرف ـ كما يقول السيد علي إبراهيم ـ كيف انتهى الأمر بهذه الجماعة، ثم يصف لي اجتماعهم هذا (بدار بيروت) وكيف جرت هذه التقفية.
    ويعلق الشيخ حسين الخطيب والسيد حسين الحسيني على هذه الرسالة بحاشية ينفيان فيها قول السيد علي إبراهيم ، وكان مضمون تعليقهما واحداً وهي نفي الصدق بالمرة في أقوال السيد علي إبراهيم، واذا بالرسالة أشبه بالكتب الصفراء القديمة التي تحوطها الحواشي والتعليقات من كل جانب، وقد وجد السيد علي إبراهيم نفسه مغلوباً فوقف على رأس الشاعر الأديب خليل الهنداوي مهدداً وطلب منه أن يؤيد أقواله وينفي قول الخطيب والحسيني فكتب الهنداوي هذه الحاشية على تلك الرسالة قائلاً:
    "أمرت بأن أكون ـ هنا ـ كأنني غير كائن … لذلك فإني أصادق ـ بدافع النية الطيبة ـ على كل ما ورد في رسالة السيد علي إبراهيم ، وإن لم يكن معقولاً ولا مقبولاً مع رفع الدعوى إليك لتحكم لي أو تحكم علي".
    وقد أجبت الأستاذ خليل الهنداوي بأرجوزة وطالما استعملت الأراجيز لسهولتها وسرعة نظمها وانتهيت منها بتحويل الأمر إلى الشيخ محمد زغيب، وكان يومذاك قاضياً، وذلك لما أعرف له من عضلات مفتولة سبق أن رأى السيد إبراهيم منها الويل، حتى لقد قيل إن الشيخ زغيب قد كسر للسيد علي إبراهيم ضلعاً والعهدة على الرواة .
    أما الأرجوزة التي بعثت بها للشاعر خليل الهنداوي فهي:
    حكّمني صديقي الهنداوي نزّهه الله من المساوي
    يطلب منّي أن أقول فيه ما أنا أدريه وأرتئيه
    وهو بمجلس من الأحباب نشوته بالشعر لا الشراب
    ما فيه غير العالم الأديب كشيخنا المبرّز (الخطيب)
    والسيد (المفتي) رعاه الله من تضرب الأمثال في فتواه
    والمستشار الفاضل الرصين أعني به السيد نور الدين
    والشاعر المشاغب الحبيب ذاك الذي سكناه في القلوب
    ليس به عيب سوى المزاح يهئي الكباش للنطاح
    ويعتدي على حقوق العلما ويفتري عليهم متّهماً
    وهو يريد أن يكون مزحه جداً، كما يأتيك مني شرحه
    يقول: في يوم من الأيام دعا جماعة من الأعلام
    مقترحاً بأن يقفّوا الشعرا وأن يخوضوا النظم بحراً بحراً
    حتى أتوا (لدار بيروت) ضحى يمشون صفاً في وقار مرحا
    وسلّ من رفٍّ بها عريضٍ ديوان شعر محكم القريض
    وقال هذا الشاعر المولّع: بالافتراء: قلت للقوم: اسمعوا
    ورحت أجلو صوتي الرخيما أنغّم الشعر به تنغيما
    أتلو لهم قصيدة (داليّة) كالراء قيل إنها مطية
    وقلت للشيخ العظيم القدر: قَفِّ، فقفّى (دالها) بالصدر
    وقلت للآخر يا من يفهم قَفِّ ، فقفّى (دالها) بيلطم
    وقلت للثالث أنت الأعلم قَفِّ ، فقال : إنها غشمشم
    فصحت من أعماق قلبي الدنف وأضيعة العلم بأرض النجف
    يا ضيعة الفن وضيعة الأدب وضيعة الجهد وضيعة التعب
    فإن يكن ما كان من مئآله صلّوا على محمد وآله
    ولنقرأ الفاتحة المألوفة ولننعَ في (الغريّ) نحو الكوفة
    ***
    وكان من حضار ذاك النادي الشاعر المعروف في البلاد
    أعني به صديقنا الهنداوي الصابر المهضوم في (الدعاوي)
    قال له شاعرنا المشاغب إشهد : بأني صادق لا كاذب
    فأيد (الخليل) قول الرجل بدافع الخوف وداعي الوجل
    وجاءني يسألني ما حكم من ؟ بدافع الخوف يؤيّد الفتن ؟
    فقلت هذا الحكم دون ريب من اختصاص شيخنا (زغيب)
    ***
    واشتدت أواصر الصداقة بيني وبين هذا المثلث وحاشيته ممن كنت أعرف بعضهم يوم كانوا يطلبون العلم في النجف وممن لم يسبق لي التعرّف بهم من قبل،وصرت لا أفارق مجالسهم وعلى الأخص بيت الشيخ حسين الخطيب، وبيت السيد حسين الحسيني، وبيت السيد نور الدين، بالإضافة إلى مقر جمعية (الهداية والإرشاد)، وإن تخلفت مرة قصدني هؤلاء الثلاثة بسوق الغرب حيث أقضي فصل الصيف هناك بفندق فاروق ، وإلى جوار صديقي الدكتور أمين زهر، فكانت الأوقات التي تمر عليّ بينهم من أسعد ما مرّت عليّ في حياتي، إذ كانت نسخة طبق الأصل من مجالس النجف، بل كثيراً ما كانت تمتاز على بعض مجالس النجف بما كان يسود هؤلاء الثلاثة من إخاء، وصداقة، يعجز عن وصف عمقها الكاتب، واذا ما انتهى عملي في الصيف وتم طبع جزء أو جزئين من موسوعة العتبات وعدت إلى بغداد اعتضت عن تلك اللذائذ الروحية برسائلهم التي كان يتجلى فيها بل وفي كل سطر منها إخاؤهم، وتفاني بعضهم في بعض، مما قد يفوق المألوف.
    والسيد حسين الحسيني يمتاز بشيء كثير من طهارة النفس والقدسية التي تجتذب بها النفوس، وقد صحبته مرة لنشتري آنية خاصة، طُلب مني أن أبحث عنها في بيروت وأشتريها، وفي نتيجة المساومة بدا على البائع شيء كثير من روح التساهل حتى لقد أخرج لي دفتر مبيعاته وأراني الفرق في ثمن هذه لآنية التي بيعت لغيري بأغلى مما بيعت لي، وسألت البائع : ولكن ما الذي دفعك بأن تخصّني بهذا اللطف وأنا غريب كما يستبان ذلك من لهجتي ؟ قال لي : لقد جذبني هذا الرجل ـ يعني السيد حسين ـ بروحانيته مع أني مسيحي وهذا الرجل روحاني مسلم !!!
    وقال لي السيد محمود صفي الدين صاحب دار بيروت ـ وكثيراً ما كنا نجتمع في مكتبة (دار بيروت) ونشغله عن عمله بالمساجلات الأدبية والمباريات، لقد قال لي ما رجعت مرة إلى السيد حسين الحسيني مستخيراً إلا وأتت استخارتي على يده بأحسن الحلول، وقد كنت تركت مرة سبعة عشر ألف ليرة استرلينية، أو قال ليرة لبنانية ونسيت أنا ذلك، قال لقد تركت هذا المبلغ في مصرف في القاهرة لإجراء صفقة من المشاركة التجارية بيني وبين إحدى دور النشر المصرية وكان القرار أن أسافر إلى القاهرة لعقد تلك الصفقة، ورأيت بعد ذلك كما هي عادتي أن ألجأ إلى الاستخارة (بالسبحة) عند السيد حسين، فكانت الاستخارة نهياً عن إجراء هذه المشاركة ، ثم كانت الاستخارة تفرض الاستعجال في استعادة المبلغ، ولما كنت ملتزماً حسب العادة بتنفيذ نتائج الاستخارة بادرت باسترجاع المبلغ حوالة برقية، وما كاد يتم ذلك حتى صدر البيان المصري بمنع تحويل المبالغ !! فلو كنت تأخرت يوماً لتعذرت إعادة المبلغ إلي.
    ثم قال: ومثل هذا الشيء الكثير الذي تمّ على يد السيد حسين، فقلت له : وهل ترجع في استخاراتك إلى غيره ؟ فقال: ربما ولكن إيماني ببركة هذا السيد وقدسيته هو الذي يبعث في نفسي اليقين بصدق استخارته !!
    ***
    مرت علي بضع سنين وأنا ناعم بهذه الصداقة مع هذه الزمرة في الصيف بلبنان، وناعم برسائلهم في الفصول الأخرى بالعراق، حتى جاءت سنة 1969 م وهي السنة التي كسب فيها قيام المجلس الشيعي الأعلى بلبنان صفته الشرعية، وتوجه الرأي العام إلى انتخاب الإمام السيد موسى الصدر رئيساً للمجلس، فانشق هذا المثلث وحاشيته على نفسه، وجاءت الساعة التي تذرّ هذه الصداقة التي كان يحسدهم عليها الناس في الهواء كما لو كانت هذه الصداقة تبناً أو قشاً فقد انفرد الشيخ حسين الخطيب والسيد نور الدين شرف الدين وبعض الأتباع بالمعارضة، وانضم السيد حسين إلى الرأي العام الذي كان يرشّح الإمام الصدر للرياسة، وشق على الصديقين المذكورين مثل هذا الانشقاق ولكن السيد كان مؤمناً بصحة رأيه ومعتقداً بأن يستجيب لداعي إيمانه وأن قعوده عن التأييد سيكون مصداقاً للقول المأثور: (الساكت عن الحق شيطان أخرس) وهذا ما قاله لي بالنص، لذلك لم يكتف بالتأييد، بل عقد مجلس الانتخاب في بيته، وفي هذا البيت تم انتخاب الإمام الصدر للرياسة، وتفصّمت عروة تلك الصداقة الزاهية، التي كانت مضرباً للأمثال، وتباعدت النفوس، فلم تعد تلتقي إلا لماماً، وفي مناسبات اضطرارية.
    وكانت تشدّني الصداقة الروحية إلى زمرة أخرى بلبنان كانت تؤيد السيد حسين الحسيني في موقفه كان من بينه الشاعر السيد عبد الرؤوف الأمين المعروف (بفتى الجبل) وكان السيد محمد الحسن يوسف المستشار القضائي السابق، أما فتى الجبل فقد كنت أعرفه من النجف أيام انتدب ليدرّس اللغة العربية في ثانوية النجف، وهو شاعر مبدع، أبي النفس، حلو السجايا، ومن آل الأمين المعروفين، وأما السيد محمد الحسن فقد كنت أعرفه على البعد حتى إذا جئت بيروت تم بيني وبينه التعارف ثم جرّ إلى الصداقة وتوثقت هذه الصداقة فنعمت بصحبته كما نعمت بصحبة (فتى الجبل) بالنظر لفضلهما وأدبهما وما عرفا به من غيرة، وحماس، وكنت كثيراً ما أقضي شطراً من أوقاتي مدعواً على مائدتيهما، أو مجتمعاً بهما في (جمعية الهداية والإرشاد) أو ناعماً بزيارتهما لي بسوق الغرب، مع السيد حسين الحسيني أو بدونه، وكنت أحس بأنهما ليسا على وفاق تام مع ذلك المثلث باستثناء السيد حسين، ولما حصل الاختلاف في انتخاب (المجلس الشيعي الأعلى بلبنان) ظهر عدم الوفاق هذا بصورة تذمّر، ونقد، واستهجان، حتى تجاوز المجالس الخاصة إلى المجالس العامة.
    وكان السيد محمد الحسن والسيد عبد الرؤوف الأمين هما الآخران لم ينقطعا عن مراسلتي وأنا غائب عن لبنان، وكانا ينقلان لي الشيء الكثير مما حدث ويحدث بسبب هذا الاختلاف، كما أن السيد علي إبراهيم لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وكان ينقلها لي في رسائله، أما رسائل الشيخ حسين الخطيب والسيد نور الدين شرف الدين والسيد حسين الحسيني، هذا المثلث الذي تصدّع وصار شذر مذر في عالم الصداقة فلم تزد رسائلهم على إشارات عابرة خفيفة لا يتجاوز مؤداها العتب والأسف لما حدث بينهم.
    ولم يكن هناك من يستطيع أن يعيد المياه إلى مجاريها لأن سوء التفاهم قد تفاقم وآل إلى شيء يقارب الاستحالة في عودة الصفاء، وكنت أنا ممن يؤاخذ على سكوته لأنني كنت صديق جميع الأطراف وإن اختلفت مع البعض في الرأي ولكن اختلاف رأيي هذا لا يتجاوز حدود قول أحمد شوقي:
    "واختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية".
    فأنا أحب جميع هؤلاء الأطراف ولا يمس محبّتي كوني أختلف مع بعضهم اختلافاً جوهرياً فيما يذهبون إليه ، وليس في ذلك من عجب ما دام هناك من السور والآيات القرآنية التي تعد مثل هذا أمراً مألوفاً وطبيعياً:
    (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم لكم دينكم ولي دين).
    فكيف وليس بين هؤلاء الأصدقاء من يجوز لنا نعته بالكفر؟
    وتلقيت على إثر هذه الخصومة التي وقعت بين الأصدقاء من السيد عبد الرؤوف الأمين قصيدة رداً على رسالة اعتذار وجهتها إليه بسبب فقدان رسالة سابقة ابردتها إليه فضاعت في البريد، وفي هذه القصيدة ينعى فتى الجبل تلك الصداقة المشرقة التي كانت تجمع بين السيد حسين الحسيني، والشيخ حسين الخطيب، والسيد نور الدين شرف الدين ويقول:
    أبا (هاتف) وافى كتابك حاملاً إليّ اعتذاراً عن ضياع الرسائل
    وأن الذي بيني وبينك عامر وإن زال (صنّين) فليس بزائل
    ومن عادتي أن لا أخادع صاحبي وأن لا أدانيه دنوّ المجامل
    وإن وفائي لا تصنّع عنده وفاء امرئ يصبو لكسب الفضائل
    (أبا هاتف) لا تبعدنّ فإنني أحن إلى لقيا الأديب المناضل
    أحنّ إلى (وادي الفرات) وأهله حنيني ـ لما كنت فيه ـ (لعامل)
    إلى (النجف الأعلى) إلى المرقد الذي حوى من حمّى الإسلام من كيد جاهل
    إلى أمسيات عذبة ذكرياتها إلى مجلس في الشعر والأنس حافل
    إلى (ندوة) قد كنت أنت عميدها تقول فلا تبقي مجالاً لقائل
    ***
    أبا هاتف إن الذي عهدتهم هنا عصفت فيهم رياح المشاكل
    تشتت ذلك الشمل بعدك وانتهى إلى حالة لم يرضها أي عاقل
    فعجّل عسى أن يجمع الله شملهم فتبعدهم عن شر تلك الغوائل
    والسيد عبد الرؤوف شاعر من ألمع شعراء العربية، له قصائد عامرة لا يستطيع تاريخ الشعر اللبناني ولا تاريخ الوطنية العربية الصادقة أن يغفل ذكرها والإشارة إلى مواطن البراعة في نسجها، وكان آخر ما نظم قصيدة في ذكرى بشارة الخوري (الأخطل الصغير) كانت من أبرع ما أنشد من الشعر في تلك الحلبة، وكان يمنّي نفسه بأن يحيلها على التقاعد ويستعفي من وظيفته كمفتش عام لوزارة الشؤون الاجتماعية بلبنان وينصرف إلى بحثه وتأليفه في مزرعته الخاصة في (الصوّانة) التي استضافني فيها ودلّني على مواطن اللذائذ الروحية حين يركن الشاعر إلى أفيائها، وقال لي إنه يفكّر في جمع شعره في ديوان ربما بلغ جزئين أو ثلاثة وطلب مني أن أكتب له المقدمة في هذا الصيف وكان يعني به صيف 1970 م فتشرفت بقبول هذه الدعوة ولكنه توفي ولم يحقق بعد هذه الأمنية وكانت وفاته لي كارثة روحية لم تزل تعذبني ذكراها حتى هذه الساعة التي أكتب بها هذه الكلمات.
    وحين أرسل لي فتى الجبل القصيدة المتقدمة التي يشكو فيها هبوب تلك العاصفة التي فرقت بين الأصدقاء الثلاثة وحواشيهم كان الصديق السيد محمد الحسن قد قرأها واستوعب شكواها فبعث لي هو الآخر بهذه القصيدة يقول فيها:
    أبا هاتف هذا (أبو زيد) يشتكي إليك شجوناً من رجال (بعامل)
    حسبناهم درعاً لكل ملمّة وللرشد والإصلاح بين القبائل
    ولكنهم قد أشعلوا النار بينهم وما سلموا من قول لاح وعاذل
    طغى الحقد واستشرى فلم يبق مبصر فوا أسفي قد دُكّ صرح الفضائل
    نصحناهم كي ينبذوا الحقد جانباً فما ذاك من شأن الكرام الأفاضل
    وليس جميلاً أن يسيروا بخطة يسير عليها كل غرّ وجاهل
    ولكنهم ظنوا بنا السوء والهوى وصرنا لديهم كالعدو المقاتل
    ويشهد ربي قد أردت صلاحهم وإبعادهم عن كل خبِّ مخاتل
    صحبتهم عمراً طويلاً وما دروا بأن الوفا والصدق بعض شمائلي
    فيا (جعفر) الخيرات عجّل فربما تنير دياجيهم ببعض الوسائل
    وتدفع عنهم نقمة الشعب أنه غضوب عليهم في جميع المنازل
    فقد أبعدوا عنهم أولي الفضل والحجى وضموا إليهم كل فدم وغافل
    هنيئاً لأهل الجهل من لاث عمة على رأسه يحتل أسمى المحافل
    فأسأل ربي أن يفيئوا لرشدهم فتلك أماني كل فذ وعاقل
    ولم تكن هذه الاختلافات بالأمر العجيب بين بعض الطبقات من المشايخ، فأنا على علم بها لأني خلقت في أوساطها في النجف، وخبرتها بنفسي، ولكن الأمر العجيب كان في انفصام عروة هذا المثلث، والقضاء على صداقة دامت عشرات السنين حتى ضرب بصفائها المثل، وكان لا بد لي أن أجيب الصديقين بأبيات على غرار قصيدهما بحراً وقافية فبعثت لهما بالمقطوعة التالية وصدرتها بقولي:
    إلى الصديقين الكريمين أبي الحسن محمد الحسن وأبي زيد السيد عبد الرؤوف (فتى الجبل) جواباً على قصيدتيهما المتضمنتين الشكوى المريرة التي يشكو منها الجميع منذ مئات السنين بدون طائل وقلت:
    خلّيلي يا رمز الفضائل إن محا زماني من دهري سطور الفضائل
    ويا صفوة الأخوان قد صقلتهما يد الله دراً لا أيادي الصياقل
    لقد هجتما في النفس مني همومها على أنني ما كنت عنها بغافل
    ولكن شأني في علاجي داءها تجاهلها كيما تخف بكاهلي
    وأعرفها من ألف عام مصيبة تشد الذي يأتي بذيل الأوائل
    وشنشنة من أخزم ضربوا بها لهم مثلاً ما في جميع المحافل
    فأين لأمثالي المساكين قدرة لإصلاح ما قد كلّ مليون عاقل
    على أن لي بين الذين عنيتما دعاة صلاح في الأمور الجلائل
    أحبهم من كل قلبي وإنني أحنّ للقياهم حنين الفصائل
    ولكنني لم أدر كيف تخاذلوا كما أنني لم أدر سرّ تخاذلي
    وكلي رجاء أن يسدّد ربنا خطانا فنمشي دون ميل لباطل
    بغداد في 6 / 5 / 1969
    وفي شتاء سنة 1970 م زرت لبنان ورأتي بعيني وسمعت بأذني ما كان قد بلغ هذا التنافر، وكان السيد حسين الحسيني قد انفرد بمجلسه في دار الإفتاء الكبيرة الأنيقة وعمر مجلسه بزائريه، وكان أغلبهم ممن تقتصر زيارتهم عليه وحده والبعض منهم كانوا يزورونه في خفية من الشيخ حسين الخطيب على ما يقول السيد علي إبراهيم ، وأذكر أني حين صحبت السيد علي إبراهيم لزيارته قال لي السيد علي في الطريق : إذا بلغ خبر زيارتنا الشيخ الخطيب فإنه سيستاء منا فسألته على سبيل المزاح ـ ذلك لأن واحداً مثلي صديق للطرفين لا يمكن أن يؤاخذ على مثل هذه الزيارة ـ .
    لقد سألت السيد علي إبراهيم ـ ولنفرض أن ذلك واقع فمن الذي سيخبر الشيخ حسين بزيارتنا هذه .
    فقال لي وهو يضحك: أنا .. قال : أنا الذي لا يستقر في صدري سرّ.
    وكانت مجالسنا في هذه المرة سواء في بيت السيد الحسيني أو بيت الشيخ حسين الخطيب مفتقرة إلى ذلك العنصر القديم الذي كان يجمع بين أضلاع ذلك المثلث ويؤلف منه تلك الروحانية التي تغمر النفس وتملؤها محبة،وكانت هناك داع تحول بيني وبين السعي لإزالة سوء التفهم ليس هذا محل ذكرها فتركت الحبل على الغارب ورحت أنعم بصحبة كل صديق على انفراد آسفاً، وكلمني غير واحد بما يترتب عليّ من واجب السعي في إعادة المياه إلى مجاريها فكنت أعتذر لأن الدواعي التي كانت تحول بيني وبين هذا المسعى دواع خاصة، ويجب أن تظل مكتومة في الصدر لمدة معينة فضلاً عن أن مثل هذا المسعى لم يكن ليخلو من صعوبة كبرى حتى لواحد مثلي يحب هذه الأطراف جميعاً وتحبه هذه الأطراف جميعاً.
    وحين تركت لبنان عائداً إلى بغداد كان في نفسي أمل قوي بأني سأقوى على رد هذه المجموعة إلى عالمها الأول ونسيان الماضي إن عدت إلى لبنان ولم أدر إن هذا الاختلاف سيصحب هذه الأطراف إلى نهاية العمر.
    وحين وصلت المطار لأستقل الطائرة عائداً كان السيد حسين الحسيني ضمن الأصدقاء المودعين فأمسك بيدي وأدنى فمه من كل أذن من أذنّي وقرأ فيهما الآية الكريمة التي تقرأ في أذن المسافر عادة ليعيده الله سالماً مرة أخرى وهي (إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد…) فترقرقت الدمعة في عيني ولكني لم أدع أحداً يراها.
    وتركت السيد حسين الحسيني كأحسن ما كنت أتركه في كل مرة صحة ، وعافية، ومن بغداد كتبت له شاكراً محبته وما غمرني به من عواطف أضعاف ما كان يفعل في المرات السابقة إذ كثيراً ما كان يقلّني بسيارت ويذهب بي متنزهاً خارج بيوت، ويدعوني على مائدته ويستبقني في بيته فيعقد لي مجلساً من الأصدقاء كان السيد محمد الحسن والسيد عبد الرؤوف الأمين في طليعة حضاره، وكثيراً ما كان يخرجني من الأوتيل باسم تناول الشاي عند احد الأصدقاء .
    قلت إني كتبت له حين عودتي رسالة مسهبة ومرت أيام طويلة فلم يجبني عليها وحين تجاوز انتظاري الحدود المألوفة بعثت إليه برسالة ثانية وكتبت إلى بعض الأصدقاء أسألهم عنه، وكم أسفت حين علمت بأنه شكا بعد سفري من أوجاع في المعدة ما لبثت أن اشتدت عليه، حتى تحتم أن تجري له عملية في المستشفى وبلغ الخبر صهره الشيخ محمد جواد شرّي بمشيغن، والشيخ محمد جواد زعيم روحاني له الفضل الكبير على المسلمين في مشيغن حين جمع كلمتهم وبنى لهم جامعاً كبيراً يعدّ اليوم من أكبر جوامع المسلمين خارج الأقطار الإسلامية ، وأقام لهم دار تطبيب تقوم بإسعافاتهم، ومدرسة، وقاعة محاضرات، وصار يحاضر الجموع باللغة الإنكليزية في كل يوم أحد بالإضافة إلى أيام الجمعة، فانجذبت إليه طوائف عديدة، وألّف في الإسلام، وشريعته، وفلسفته، كتاباً باللغة الإنكليزية كان له أثر كبير في تعريف الإسلام لغير المسلمين .
    أقول لقد بلغ الشيخ محمد جواد شرّي خبر محاولة السيد حسين دخول المستشفى، فرجّح له السفر إلى (مشيغن) وإجراء العملية هناك على ايدي أطباء مهرة، وهناك في مشيغن أجريت له عملية كشف للتحقيق، فثبت أنه مصاب بالسرطان وبنوع الخبيث منه، فأعيد إلى لبنان بناء على نصيحة الطبيب الذي أعلمهم بيأسه من شفائه.
    وكانت تصل أخباره إلي بصورة متواصلة فيشتد قلقي عليه فلم أدر كيف أطرد شبح موته وهو لم يمت بعد من عيني، ولكم سعيت أن أكل الأمر إلى القضاء ، وأستسلم لمشيئة الله فأخفقت، وكان خبر اليأس من شفائه قد عمّ جميع الجهات وتذكر هنا الشيخ حسين الخطيب والسيد نور الدين شرف الدين عهد تلك الصداقة والمحبة فخفّا لزيارته عائدين وقيل لي إن الشيخ حسين الخطيب حين خرج منه بكى، ومن الحق أن يبكي فقد تذكر في تلك الساعة إن ما كان قد وقع لم يكن يستحق مثل هذا الجفاء الذي ساد أولئك الأصدقاء، ولكن من كان يدري بأن شبح الموت يستطيع أن يمحو من ذهن الإنسان أشياء وأشياء.
    ومات السيد حسين الحسيني وارتفع نعشه فوق الرؤوس ومشى خلف جنازته مندوب رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، والوزراء، والنواب، وجميع الشخصيات اللبنانية، من علماء، وساسة، ووجهاء، وكان ذلك في يوم 8 / 10 / 1970 م ونعته أمهات الصحف اللبنانية ودار الإذاعة، وأنا الوحيد الذي لم أعرف عن ذلك شيئاً حتى وافاني كتاب المجاهد الكبير الأستاذ محمد علي الطاهر وفي كتابه قصاصات من الصحف اللبنانية التي نعته وقد لمت في كتاب الطاهر دموعه التي ذرفها على جسد الفقيد الطاهر.
    صحيح أنني كنت أنتظر هذه الفاجعة ساعة بعد ساعة، وصحيح أن الذهن إذ ما استعد للكارثة قبل وقوعها يكون أكثر تقبلاً واستسلاماً لقضاء الله، ولكن كل هذا كان معدوم الأثر عندي، فقد تلقيت الخبر كما لو كنت غير مسبوق بأي إنذار سابق للموت، وصعدت إلى غرفة نومي وأغلقت الباب على نفسي وبكيت ما شاء الله أن أبكي وتذكرت الآية الكريمة التي قرأها في أذني يوم ودعني في المطار : (إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد).
    وتصورتني راجعاً ذات يوم إلى بيروت وطائفاً بدار الإفتاء ودائراً حول ذلك البيت الذي كان يزهو به وأنا أبحث عن هذا الصديق فلا أجده، وتصورتني أسال عن قبره فيدلني عليه الدالون فأقصده لأقول له إنني جئت، كما كنت تتمنى أن أجيء ولكن قل لي أين أجدك أيها الصديق الطاهر؟
    اعداد:
    شكبة البقاع اللبناني
    http://www.banihashem.org/albeqaa/index.htm
    التعديل الأخير تم بواسطة جمعية بني هاشم; الساعة 17-04-2005, 07:25 PM.
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
x

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

صورة التسجيل تحديث الصورة

اقرأ في منتديات يا حسين

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

يعمل...
X