السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنْ يملكَ كل صحابي مصحفا، هذا أمرٌ طبيعي، بل الصحابي أولى من غيره أنْ يملك المصحف الذي شاهدَ نزول آياته وعايش أحداثها، وعرف أسبابها، فلا نستبعدُ لو سمعنا بمصاحف لجمعٍ من الصحابة، لكنّ الذي يوجبُ العجب والأسَفَ أنّ أهل الحديث نسبوا إلى بعض الصحابة مصاحفَ تتخالفُ فيما بينها، يزعمون صحّتها، ويُصرّون على أنّ ما فيها من المخالفات: قرآنٌ!
وهذا أمرٌ مخالفٌ للضرورة، ولإجماع الآُمّة على الالتزام بتماميّة هذا القرآن المتداول ، ورفض ما سواه، مهما كان منقولا عن صحابي أو غيره؟
وقد ذكر السجستاني في كتاب (المصاحف ص60- 98) في باب اختلاف مصاحف الصحابة اسم (10) مصاحف للصحابة ، وفي ما يليه (ص98- 101) اسم (10) مصاحف للتابعين، وذكر في كل منها كلماتٍ أو جملاً زعماً أنّها >آياتٌ< مرويّة بالأسانيد !!
ومن الواضح لكلّ ذي لُبٍّ أنّ تلك المرويّات بعيدة كلّ البعد عن القرآن ; لفظاً وبلاغةً، وبهاء وروعةً، وروحاً وجاذبيّةً، ومعنىً ودلالةً!!
ومع كلّ هذا فنحن نستعرض بعض تلك المرويّات، لنجدَ ما هو واضحٌ من كونها مخالفةً للحقّ الذي يجب أنْ يتّبع.
مصحف اُبيّ بن كعب:
وهو من كبار القرّاء من الصحابة، حتّى رووا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن! فقرأ (لم يكن الذين كفروا ...) فقرأ فيها:
>ولو أنّ ابنَ آدم سألَ واديا ...<. (رواه السيوطي في الدرّ المنثور 6/ 378).
والزيادة مرويّةٌ عن آخرين من الصحابة، إلا أنّ المهمّ أمْرُ الربّ رسولَه بالقراءة على اُبَيّ؟!(صحيح البخاري 6/ 90 وصحيح مسلم 2/ 195 ).
فإلى مثل هذا الصحابي نسبوا الخلاف مع المصحف، ورووا أنّه كانَ في مصحفه زيادة >وهو أبٌ لهم< في آية: (النبي أولى بالمؤمنينَ من أنفسِهِم) وأنّ غُلاما كان يقرؤها فمرّ به عمرُ فقال له: >حُكّها< فقال الغلامُ: لا أحُكّها، وهي في مصحف اُبيّ، فانطلق إليه، فقال له اُبيّ: >إنّي شَغَلَني القرآنُ وشَغَلَكَ الصفقُ بالأسواق<. (رواه عبد الرزّاق في المصنّف 10/ 181، و السيوطي في الدرّ المنثور 5/183 عنه وعن سعيد بن منصور وابن راهويه وابن المنذر والبيهقي وغيرهم).
فلم يكتف الراوي بزيادة الكلمة وكونها في المصحف موحياً أنّها قرآنٌ، ولم يفصّل :هل أنّها كتبتْ في صُلْب المصحف أو في الهامش؟
وهل كتبتْ بخطّ المصحف أو بخطّ آخر؟ حيثُ يحتملُ أنْ يكون تفسيرا أو توضيحا! بل ذكر قصّة فيها تجاوُزُ الغلام على عمر، وتعدّي اُبَيّ على عمر!
لماذا كلّ هذا؟ ولماذا يتدخّلُ الخليفة في مثل هذا، وكثيرٌ من أمثاله مطروحٌ ومفروضٌ، ومسكوتٌ عنه؟
ثمّ , إنْ كانت عقيدةُ التحريف بالزيادة في القرآن ولو بحرفٍ واحدٍ أو كلمةٍ واحدةٍ، موجبةً للكفر والخروج عن الإسلام؟ فما هو الحكم على أبيّ بن كعب ؟ الذي أضاف – حسب هذه الرواية - جملة >وهو أبٌ لهم< ذات الكلمات الكثيرة؟
ثمّ لماذا بقيتْ هذه الروايةُ وأمثالُها تُتداول وتُسجّل وتُنقلُ وتدخلُ في المؤلّفات التي جمعها المحدّثون والحفّاظ والفقهاء إلى يومنا هذا؟
إنّ الإجابة على هذه الأسئلة، واُخرى مثلها تتّضحُ بكلمة واحدةٍ، هي أساسُ المشكلة كلّها، وهي حبّ أهل الحديث التكثّر من منقولاتهم ومسموعاتهم
ومرويّاتهم، واعتزازهم بها، حتّى في مواجهة أكثر الاُمور وضوحا وضرورةً، بل وأعظمها قدسيّة وخطورةً وهو القرآنُ الكريم، وتماميّته.
إنّ القرآن العظيم، الذي بنيتْ عمارتُه على أساس محكمٍ بوضع كلّ حرفٍ في موضعه المناسب، وكلّ نقطةٍ على حرفها اللائق، وكلّ كلمةٍ في مكانها المتناسق، المؤدّي إلى وحدة النغم والنسق والجَرَس، وهي المعجزة الخارقة في الفصاحة والبلاغة والبيان، إنّ هذا القرآنَ البالغَ إلى هذه القمّة، لا يمكنُ أنْ يتزحزحَ عن موقعه برواية أو عشرة، تحتوي على ما يغيّر ذلك. إنّ طبيعة النَفَس القرآنيّ، تستبعد كلّ هذه الأخبار، وترفضها.
أضفْ إلى ذلك الإجماع العظيم والتواتُر العميق في القرون، والمتّصل بعصر النبوّة الأزهر، والتحدّي الصارخ لكلّ آيةٍ آيةٍ، وسورةٍ سورةٍ، بل وكلّ كلمةٍ وحرفٍ في موقعها الثابت من هذا المصحف المتداول!لهي الدليلُ القاطعُ على بطلان أمثال هذه الروايات الآَحاد، المليئة بالمناقضات، والمهزوزة أمام التساؤلات.
مصحف عبد الله بن مسعود :
وما نُسِبَ إلى مصحف ابن مسعود أدهى وأمَرّ، فإنّ الرجل، بالرغم من دخوله مع الحكّام ووقوفه إلى صفّ عمر في طول خلافته، وسيره وراءه، وفي ظلّه،
وإفتائه برأيه وفقهه، إلاّ أنّه لم يَجد عند عثمان ذلك المقامَ المقرّب، فنفرَ منه، ولم تكنْ له قدرةٌ عليه إلاّ أنّه اتّخذَ من مسألة جمع عثمان للقرآن ذريعةً لإنفاذ ضغائنه، فكثرتْ مخالفاتُه المرويّة للمصحف المتّفق عليه، وكان يطعنُ في زيد الذي عيّنته السلطةُ لاستنساخ المصحف!
ولو كانَ ابن مسعود يتّقي الله لكفّ عن كلامه في القرآن، كرامةً للقرآن، كما جاءت به تلك الأحاديث من أقاويل ؟!
فامتلأتْ الصحفُ والكتبُ والمؤلّفاتُ بمنقولات عن ابن مسعود تخالفُ القراءة المعمول بها؟ حتّى نُسِبَ إليه ما نُسِبَ إلى الخوارج من زعمه وجود الزيادة في القرآن! وحذفه >المعوّذتين< من مصحفه، و ادّعائه أنّهما >حِرْزان< عوّذ بها الرسول سبطيه، وليسا قرآنا!وسيأتي حديثنا عن هذا.
وهكذا حمّل المغرضون ابنَ مسعود أغراضهم المسيئة إلى كتاب الله، ونسبوا إليه أحاديث فظيعةً، نشيرُ إلى بعضها:
ففي عنوان (مصحف عبد الله بن مسعود) أورد السجستاني ما أسند إليه أنّه قرأ: إنَّ الله لا يَظلم مثقالَ نَمْلةٍ!وقد وردتْ كلمة مثقال (8) مرّاتٍ في القرآن، اُضيفتْ إلى كلمة (حبّة) في موردين، وإلى كلمة (ذَرّة) في ستّة موارد، ولا أظنّ أنّ المطّلع على آيات القرآن يشك في جهل راوي هذا الخبر، فإنّ الموارد كلّها تدلّ على أنّ كلمة (مثقال) وهو يعني ما لابدّ أن يضاف إلى جنس موزون، وليست النملةُ من ذلك قطعاً؟ ولو بلغتْ سخافةُ الرواية وراويها إلى هذا الحدّ، مع مساسها بكرامة القرآن وعظمته وبلاغته، فإنّ المسلم يَرْبَؤُ بنفسه أنْ يصدّقَ بها ، ولكنّهم أهلُ الحديث والسنّة المعتزّون بكلّ ما سمعوه من حضرات المشايخ، وبالأسانيد التي لا يمكن رفضها!وإلاّ أصبحوا >روافض!<.
وأهل الحديث هؤلاء لا يتجاوزون الروايات، ولا يخالفونها حتّى لو كانتْ هي مخالفةً للكتاب الكريم!!.
ولقد كان عبد الله بن مسعود يحتل موقعا مهمّا في القراءة، حتّى أنّ قراءته بقيتْ متداولةً إلى زمن أبي حنيفة، وكان فقهأ الحنفيّة يستدلّون بما في مصحفه، باعتبار أنّه >قرآنٌ< بحجّة >نسخ التلاوة< الذي سنأتي عليه. (فلاحظ اُصول السرخسي2/ 80).
وقد استدلّوا في فقههم بمصحفه ومصحف اُبَىّ كثيرا، فاستدلّوا بأنّ القنوتَ بمعنى القراءة، لأنّه مكتوبٌ في مصحف اُبَيّ وابن مسعود في سورتين. (المبسوط للسرخسي 1/ 165).
وقالوا: في مسألة تتابع قضاء شهر رمضان: ونحن أثبتنا التتابع بقراءة ابن مسعود فإنّها كانت مشهورةً إلى زمن أبي حنيفة، حتّى كان سليمان الأعمش يقرأ ختما على حرف ابن مسعود وختما من مصحف عثمان (المبسوط للسرخسيّ 2/ 75 و7/ 4 و 8/ 144).
واستدلّوا بقراءته في النفقة على الزوجة في العدّة (المبسوط 5/202 ) وانظر (المبسوط 5/223 و6/ 14)وقال في( 7/20)وقراءته لا تتخلّف عن سماعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم . ولاحظ (9/ 166) وقيّد بقراءته ما في المصحف المشهور في (9/ 167).
وقد بقي مصحف ابن مسعود قرونا بعيدة، فقد كان موجودا في بغداد عام (398) كما في (المنتظم لابن الجوزي - الجزء السابع)
ولأخبار مصحف ابن مسعود أبعادٌ اُخرى سنذكرها في الفصل القادم.
مصحف عائشة:
ولقد عنون السجستاني لهذا المصحف، وروى عن مولىً لها أنّها أمرتْهُ أنْ يكتبَ لها مصحفا، وأنّها أمرتْه إذا بلغَ آية: (حافظوا على الصلوات ..) أن يُؤْذِنَها، فلمّا بلغَ آذنَها، فأملتْ عليه: >حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر< ثمّ روى أنّهم وجدوا ذلك في مصحفها.
ونسبوا مثل ذلك إلى اُمّ سلمة (المصاحف للسجستاني ص98).
ورووا عن مصحف عائشة أيضا: أنّ فيه إضافةً على آية الصلاة على النبيّ، قولها: >وعلى الذين يصلّون الصفوف الاُولى<. (الإتقان للسيوطي 3/ 73).
ومع انفراد عائشة بهذه الزيادات ، وعدم وضوح دورٍ لها في كتابة القرآن في عصر النبوّة ولا بعده، وإنّما أوكلتْ الأمر َإلى ناسخه وهو غلامها، فإنّ مخالفة ما جاءتْ به للنصّ المتواتر تكفي لردّهاوردّ ما جاءت به !.
ولكنّ الشأن في نسبة مصحفٍ إليها لمجرّد هذه الزيادة؟ هل هو من أجل إثبات اسمها في مثل هذا المعترك المهمّ، كما تدخّلت بنفسها في معارك الحروب الداخليّة بين المسلمين؟ أم للتسوية بينها وبين ضرّتها حفصة التي كان لها مصحفٌ؟
ولا يبعد هذا، لأنّ القصّة المثبتة في مصحفها تتفّق مع قصّة مصحف حفصة تماما في أنّها أمرتْ إنسانا أنْ يكتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغتَ تلك الآية فآذني،
فقالتْ: اكتبوا: >وصلاة العصر<. (المصاحف للسجستاني ص95- 97).
والعجب أن تكون مصاحف أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كلّها متوافقةً في شكل الرواية وقصّتها، وموضع الزيادة ولفظها!
أفلا يرتابُ الناظرُ في هذا؟ لكنْ مثلُ هذا لا يهم أصحاب الحديث وأهل السنّة، لأنّ القصص قد بلغتهم هكذا بالأسانيد الكثيرة!فيجبُ قبولها!!.
ولا يبعد أنْ تكون هذه المصاحفُ كلّها افتُعِلَتْ ليقابل بها (مصحف فاطمة عليها السلام )؟ فكيف يكون لابنة الرسول مصحفٌ، ولا يكون لأزواج النبيّ مصاحف ؟ ظنّا من اُولئك الواضعين لمصاحفهنّ أنّ لفاطمة عليها السلام مصحفا يعني قرآنا خاصّا!
فافتعلوا لهنّ ما يُرضيهنّ، ويُساوي بينهنّ.
بينما مصحف فاطمة عليها السلام لم يحتو على شيءٍ من القرآن، وإنّما محتواهُ أمورٌ أُخرى. (الكافي للكليني 1/ 187) وتسميته بالمصحف تسميةٌ لغويةٌ بحتةٌ، فكلّ مجموعة وَرَقيّة تقعُ بين دفّتين تُسمّى >مصحفا<. (لاحظ الإتقان 1/ 58).
ولعائشة أحاديث اُخرى يرتبط بالقرآن كقولها:نزلتْ آية الرجم ورضاعة
الكبير عشرا،ولقد كان في صحيفة تحت سريري فلمّا مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتشاغلنا بموته، دخل داجنٌ فأكلها. (رواه ابن ماجه في سننه).
فمع أنّ حديث >آية الرجم< يوحي ما كانت عليه عائشة من مسايرة عمر في التزاماته، وسيأتي أنّ آية الرجم من أهمّ ما نسب إلى مصحفه، فإنّ انفرادها
بحديث الصحيفة المأكولة، وغموض تاريخ هذه الصحيفة وكاتبها، كافيان للريب فيها، ولو كانت قرآنا معترفا به لكانت ممّا لا ريبَ فيه، ولم تنحصر نسختها بهذه التي أكلتْ !
مصحف عمر بن الخطّاب:
لقد عنون السجستاني لهذا المصحف، ولكنّه أورد تحته رواياتٍ مضمونها أنّ عُمَرَ قرأ آياتٍ على خلاف المصحف المعروف، وليس في واحدٍ منها أنّ ما ذكر
واردٌ في ما يُسمّى >مصحفا< لعمر!
ومع كثرة ما روي عن عمر في دعاويه حول الآَيات المفتعلة، فلم ينسبْ فيها لنفسه مصحفا، وهي:
رواية الرجم. (رواها البخاري ومسلم وأحمد)ووافقته عائشة، كما سبق .
ورواية >لا ترغبوا<. (رواها البخاري ومسلم).
ورواية الجهاد. (رواها السيوطي في الاتقان 3/ 84 والدرّ المنثور 1/ 106).
ورواية الفراش. (رواها السيوطي في الدرّ المنثور 1/ 106). وقد زعم عمر فيها أنّها كانت في المصحف تُتلى، لكنّه لم يجدها بعد ذلك!
وبينما يعترفُ في حديث الرجم، أنّ إضافته لها على المصحف يسمّى زيادة عند الناس، ويؤكّد: >والذي نفسي بيده لولا أنْ يقول الناسُ: زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتُها<. (فتح الباري شرح البخاري 3/ 127).
ولو كان عنده مصحفٌ خاصٌ، وكان جازما بقرآنيّة ما ذكر، لأضافها عليه من دون تحرّج، ولا تخوّفٍ من قول الناس! كما نُسِبَ إلى غيره من الصحابة في مصاحفهم، لكنّه لم يفعلْ، لأنّه لم يكن عنده مصحفٌ خاص.
وأمّا ما كان عند حفصة، فقد صرّحوا بأنّه الصحف التي أمر أبو بكر بكتابتها، فكانتْ عند أبي بكر حياته حتّى مات، ثمّ عند عمر حتّى مات، ثمّ عند حفصة
فأرسل إليها عثمانُ فأبتْ أنْ تدفعها إليه، حتّى عاهدها ليردّنها إليها، فبعثتْ بها إليه، فنسخها عثمانُ في هذه المصاحف، ثمّ ردّها إليها، فلم تزلْ عندها حتّى أرسل مروان فأخذها، فأحرقها. (المصاحف للسجستاني ص15- 16).
نعم، ذكروا أنّ عمر هو أوّل من جمع القرآن في المصحف. (المصاحف للسجستاني ص16- 18 لكن ليس لهذا المصحف ذكرٌ ولا أثرٌ بعد ما زُعِمَ من جمعه، وإنْ سجّلواله هذه الفضيلة!وحتّى لو لم يكن عمر صاحب مصحفٍ.
فإنّ الغلاةَ من أهل السنّة، لم ينقصوا من كيل فضائله شيئا حتّى على حساب القرآن الكريم، فقد رتّبوا له ما هو أهم من مصحف يُجمع على يديه، ألا وهو:
أنْ يملكَ كل صحابي مصحفا، هذا أمرٌ طبيعي، بل الصحابي أولى من غيره أنْ يملك المصحف الذي شاهدَ نزول آياته وعايش أحداثها، وعرف أسبابها، فلا نستبعدُ لو سمعنا بمصاحف لجمعٍ من الصحابة، لكنّ الذي يوجبُ العجب والأسَفَ أنّ أهل الحديث نسبوا إلى بعض الصحابة مصاحفَ تتخالفُ فيما بينها، يزعمون صحّتها، ويُصرّون على أنّ ما فيها من المخالفات: قرآنٌ!
وهذا أمرٌ مخالفٌ للضرورة، ولإجماع الآُمّة على الالتزام بتماميّة هذا القرآن المتداول ، ورفض ما سواه، مهما كان منقولا عن صحابي أو غيره؟
وقد ذكر السجستاني في كتاب (المصاحف ص60- 98) في باب اختلاف مصاحف الصحابة اسم (10) مصاحف للصحابة ، وفي ما يليه (ص98- 101) اسم (10) مصاحف للتابعين، وذكر في كل منها كلماتٍ أو جملاً زعماً أنّها >آياتٌ< مرويّة بالأسانيد !!
ومن الواضح لكلّ ذي لُبٍّ أنّ تلك المرويّات بعيدة كلّ البعد عن القرآن ; لفظاً وبلاغةً، وبهاء وروعةً، وروحاً وجاذبيّةً، ومعنىً ودلالةً!!
ومع كلّ هذا فنحن نستعرض بعض تلك المرويّات، لنجدَ ما هو واضحٌ من كونها مخالفةً للحقّ الذي يجب أنْ يتّبع.
مصحف اُبيّ بن كعب:
وهو من كبار القرّاء من الصحابة، حتّى رووا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن! فقرأ (لم يكن الذين كفروا ...) فقرأ فيها:
>ولو أنّ ابنَ آدم سألَ واديا ...<. (رواه السيوطي في الدرّ المنثور 6/ 378).
والزيادة مرويّةٌ عن آخرين من الصحابة، إلا أنّ المهمّ أمْرُ الربّ رسولَه بالقراءة على اُبَيّ؟!(صحيح البخاري 6/ 90 وصحيح مسلم 2/ 195 ).
فإلى مثل هذا الصحابي نسبوا الخلاف مع المصحف، ورووا أنّه كانَ في مصحفه زيادة >وهو أبٌ لهم< في آية: (النبي أولى بالمؤمنينَ من أنفسِهِم) وأنّ غُلاما كان يقرؤها فمرّ به عمرُ فقال له: >حُكّها< فقال الغلامُ: لا أحُكّها، وهي في مصحف اُبيّ، فانطلق إليه، فقال له اُبيّ: >إنّي شَغَلَني القرآنُ وشَغَلَكَ الصفقُ بالأسواق<. (رواه عبد الرزّاق في المصنّف 10/ 181، و السيوطي في الدرّ المنثور 5/183 عنه وعن سعيد بن منصور وابن راهويه وابن المنذر والبيهقي وغيرهم).
فلم يكتف الراوي بزيادة الكلمة وكونها في المصحف موحياً أنّها قرآنٌ، ولم يفصّل :هل أنّها كتبتْ في صُلْب المصحف أو في الهامش؟
وهل كتبتْ بخطّ المصحف أو بخطّ آخر؟ حيثُ يحتملُ أنْ يكون تفسيرا أو توضيحا! بل ذكر قصّة فيها تجاوُزُ الغلام على عمر، وتعدّي اُبَيّ على عمر!
لماذا كلّ هذا؟ ولماذا يتدخّلُ الخليفة في مثل هذا، وكثيرٌ من أمثاله مطروحٌ ومفروضٌ، ومسكوتٌ عنه؟
ثمّ , إنْ كانت عقيدةُ التحريف بالزيادة في القرآن ولو بحرفٍ واحدٍ أو كلمةٍ واحدةٍ، موجبةً للكفر والخروج عن الإسلام؟ فما هو الحكم على أبيّ بن كعب ؟ الذي أضاف – حسب هذه الرواية - جملة >وهو أبٌ لهم< ذات الكلمات الكثيرة؟
ثمّ لماذا بقيتْ هذه الروايةُ وأمثالُها تُتداول وتُسجّل وتُنقلُ وتدخلُ في المؤلّفات التي جمعها المحدّثون والحفّاظ والفقهاء إلى يومنا هذا؟
إنّ الإجابة على هذه الأسئلة، واُخرى مثلها تتّضحُ بكلمة واحدةٍ، هي أساسُ المشكلة كلّها، وهي حبّ أهل الحديث التكثّر من منقولاتهم ومسموعاتهم
ومرويّاتهم، واعتزازهم بها، حتّى في مواجهة أكثر الاُمور وضوحا وضرورةً، بل وأعظمها قدسيّة وخطورةً وهو القرآنُ الكريم، وتماميّته.
إنّ القرآن العظيم، الذي بنيتْ عمارتُه على أساس محكمٍ بوضع كلّ حرفٍ في موضعه المناسب، وكلّ نقطةٍ على حرفها اللائق، وكلّ كلمةٍ في مكانها المتناسق، المؤدّي إلى وحدة النغم والنسق والجَرَس، وهي المعجزة الخارقة في الفصاحة والبلاغة والبيان، إنّ هذا القرآنَ البالغَ إلى هذه القمّة، لا يمكنُ أنْ يتزحزحَ عن موقعه برواية أو عشرة، تحتوي على ما يغيّر ذلك. إنّ طبيعة النَفَس القرآنيّ، تستبعد كلّ هذه الأخبار، وترفضها.
أضفْ إلى ذلك الإجماع العظيم والتواتُر العميق في القرون، والمتّصل بعصر النبوّة الأزهر، والتحدّي الصارخ لكلّ آيةٍ آيةٍ، وسورةٍ سورةٍ، بل وكلّ كلمةٍ وحرفٍ في موقعها الثابت من هذا المصحف المتداول!لهي الدليلُ القاطعُ على بطلان أمثال هذه الروايات الآَحاد، المليئة بالمناقضات، والمهزوزة أمام التساؤلات.
مصحف عبد الله بن مسعود :
وما نُسِبَ إلى مصحف ابن مسعود أدهى وأمَرّ، فإنّ الرجل، بالرغم من دخوله مع الحكّام ووقوفه إلى صفّ عمر في طول خلافته، وسيره وراءه، وفي ظلّه،
وإفتائه برأيه وفقهه، إلاّ أنّه لم يَجد عند عثمان ذلك المقامَ المقرّب، فنفرَ منه، ولم تكنْ له قدرةٌ عليه إلاّ أنّه اتّخذَ من مسألة جمع عثمان للقرآن ذريعةً لإنفاذ ضغائنه، فكثرتْ مخالفاتُه المرويّة للمصحف المتّفق عليه، وكان يطعنُ في زيد الذي عيّنته السلطةُ لاستنساخ المصحف!
ولو كانَ ابن مسعود يتّقي الله لكفّ عن كلامه في القرآن، كرامةً للقرآن، كما جاءت به تلك الأحاديث من أقاويل ؟!
فامتلأتْ الصحفُ والكتبُ والمؤلّفاتُ بمنقولات عن ابن مسعود تخالفُ القراءة المعمول بها؟ حتّى نُسِبَ إليه ما نُسِبَ إلى الخوارج من زعمه وجود الزيادة في القرآن! وحذفه >المعوّذتين< من مصحفه، و ادّعائه أنّهما >حِرْزان< عوّذ بها الرسول سبطيه، وليسا قرآنا!وسيأتي حديثنا عن هذا.
وهكذا حمّل المغرضون ابنَ مسعود أغراضهم المسيئة إلى كتاب الله، ونسبوا إليه أحاديث فظيعةً، نشيرُ إلى بعضها:
ففي عنوان (مصحف عبد الله بن مسعود) أورد السجستاني ما أسند إليه أنّه قرأ: إنَّ الله لا يَظلم مثقالَ نَمْلةٍ!وقد وردتْ كلمة مثقال (8) مرّاتٍ في القرآن، اُضيفتْ إلى كلمة (حبّة) في موردين، وإلى كلمة (ذَرّة) في ستّة موارد، ولا أظنّ أنّ المطّلع على آيات القرآن يشك في جهل راوي هذا الخبر، فإنّ الموارد كلّها تدلّ على أنّ كلمة (مثقال) وهو يعني ما لابدّ أن يضاف إلى جنس موزون، وليست النملةُ من ذلك قطعاً؟ ولو بلغتْ سخافةُ الرواية وراويها إلى هذا الحدّ، مع مساسها بكرامة القرآن وعظمته وبلاغته، فإنّ المسلم يَرْبَؤُ بنفسه أنْ يصدّقَ بها ، ولكنّهم أهلُ الحديث والسنّة المعتزّون بكلّ ما سمعوه من حضرات المشايخ، وبالأسانيد التي لا يمكن رفضها!وإلاّ أصبحوا >روافض!<.
وأهل الحديث هؤلاء لا يتجاوزون الروايات، ولا يخالفونها حتّى لو كانتْ هي مخالفةً للكتاب الكريم!!.
ولقد كان عبد الله بن مسعود يحتل موقعا مهمّا في القراءة، حتّى أنّ قراءته بقيتْ متداولةً إلى زمن أبي حنيفة، وكان فقهأ الحنفيّة يستدلّون بما في مصحفه، باعتبار أنّه >قرآنٌ< بحجّة >نسخ التلاوة< الذي سنأتي عليه. (فلاحظ اُصول السرخسي2/ 80).
وقد استدلّوا في فقههم بمصحفه ومصحف اُبَىّ كثيرا، فاستدلّوا بأنّ القنوتَ بمعنى القراءة، لأنّه مكتوبٌ في مصحف اُبَيّ وابن مسعود في سورتين. (المبسوط للسرخسي 1/ 165).
وقالوا: في مسألة تتابع قضاء شهر رمضان: ونحن أثبتنا التتابع بقراءة ابن مسعود فإنّها كانت مشهورةً إلى زمن أبي حنيفة، حتّى كان سليمان الأعمش يقرأ ختما على حرف ابن مسعود وختما من مصحف عثمان (المبسوط للسرخسيّ 2/ 75 و7/ 4 و 8/ 144).
واستدلّوا بقراءته في النفقة على الزوجة في العدّة (المبسوط 5/202 ) وانظر (المبسوط 5/223 و6/ 14)وقال في( 7/20)وقراءته لا تتخلّف عن سماعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم . ولاحظ (9/ 166) وقيّد بقراءته ما في المصحف المشهور في (9/ 167).
وقد بقي مصحف ابن مسعود قرونا بعيدة، فقد كان موجودا في بغداد عام (398) كما في (المنتظم لابن الجوزي - الجزء السابع)
ولأخبار مصحف ابن مسعود أبعادٌ اُخرى سنذكرها في الفصل القادم.
مصحف عائشة:
ولقد عنون السجستاني لهذا المصحف، وروى عن مولىً لها أنّها أمرتْهُ أنْ يكتبَ لها مصحفا، وأنّها أمرتْه إذا بلغَ آية: (حافظوا على الصلوات ..) أن يُؤْذِنَها، فلمّا بلغَ آذنَها، فأملتْ عليه: >حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر< ثمّ روى أنّهم وجدوا ذلك في مصحفها.
ونسبوا مثل ذلك إلى اُمّ سلمة (المصاحف للسجستاني ص98).
ورووا عن مصحف عائشة أيضا: أنّ فيه إضافةً على آية الصلاة على النبيّ، قولها: >وعلى الذين يصلّون الصفوف الاُولى<. (الإتقان للسيوطي 3/ 73).
ومع انفراد عائشة بهذه الزيادات ، وعدم وضوح دورٍ لها في كتابة القرآن في عصر النبوّة ولا بعده، وإنّما أوكلتْ الأمر َإلى ناسخه وهو غلامها، فإنّ مخالفة ما جاءتْ به للنصّ المتواتر تكفي لردّهاوردّ ما جاءت به !.
ولكنّ الشأن في نسبة مصحفٍ إليها لمجرّد هذه الزيادة؟ هل هو من أجل إثبات اسمها في مثل هذا المعترك المهمّ، كما تدخّلت بنفسها في معارك الحروب الداخليّة بين المسلمين؟ أم للتسوية بينها وبين ضرّتها حفصة التي كان لها مصحفٌ؟
ولا يبعد هذا، لأنّ القصّة المثبتة في مصحفها تتفّق مع قصّة مصحف حفصة تماما في أنّها أمرتْ إنسانا أنْ يكتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغتَ تلك الآية فآذني،
فقالتْ: اكتبوا: >وصلاة العصر<. (المصاحف للسجستاني ص95- 97).
والعجب أن تكون مصاحف أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كلّها متوافقةً في شكل الرواية وقصّتها، وموضع الزيادة ولفظها!
أفلا يرتابُ الناظرُ في هذا؟ لكنْ مثلُ هذا لا يهم أصحاب الحديث وأهل السنّة، لأنّ القصص قد بلغتهم هكذا بالأسانيد الكثيرة!فيجبُ قبولها!!.
ولا يبعد أنْ تكون هذه المصاحفُ كلّها افتُعِلَتْ ليقابل بها (مصحف فاطمة عليها السلام )؟ فكيف يكون لابنة الرسول مصحفٌ، ولا يكون لأزواج النبيّ مصاحف ؟ ظنّا من اُولئك الواضعين لمصاحفهنّ أنّ لفاطمة عليها السلام مصحفا يعني قرآنا خاصّا!
فافتعلوا لهنّ ما يُرضيهنّ، ويُساوي بينهنّ.
بينما مصحف فاطمة عليها السلام لم يحتو على شيءٍ من القرآن، وإنّما محتواهُ أمورٌ أُخرى. (الكافي للكليني 1/ 187) وتسميته بالمصحف تسميةٌ لغويةٌ بحتةٌ، فكلّ مجموعة وَرَقيّة تقعُ بين دفّتين تُسمّى >مصحفا<. (لاحظ الإتقان 1/ 58).
ولعائشة أحاديث اُخرى يرتبط بالقرآن كقولها:نزلتْ آية الرجم ورضاعة
الكبير عشرا،ولقد كان في صحيفة تحت سريري فلمّا مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتشاغلنا بموته، دخل داجنٌ فأكلها. (رواه ابن ماجه في سننه).
فمع أنّ حديث >آية الرجم< يوحي ما كانت عليه عائشة من مسايرة عمر في التزاماته، وسيأتي أنّ آية الرجم من أهمّ ما نسب إلى مصحفه، فإنّ انفرادها
بحديث الصحيفة المأكولة، وغموض تاريخ هذه الصحيفة وكاتبها، كافيان للريب فيها، ولو كانت قرآنا معترفا به لكانت ممّا لا ريبَ فيه، ولم تنحصر نسختها بهذه التي أكلتْ !
مصحف عمر بن الخطّاب:
لقد عنون السجستاني لهذا المصحف، ولكنّه أورد تحته رواياتٍ مضمونها أنّ عُمَرَ قرأ آياتٍ على خلاف المصحف المعروف، وليس في واحدٍ منها أنّ ما ذكر
واردٌ في ما يُسمّى >مصحفا< لعمر!
ومع كثرة ما روي عن عمر في دعاويه حول الآَيات المفتعلة، فلم ينسبْ فيها لنفسه مصحفا، وهي:
رواية الرجم. (رواها البخاري ومسلم وأحمد)ووافقته عائشة، كما سبق .
ورواية >لا ترغبوا<. (رواها البخاري ومسلم).
ورواية الجهاد. (رواها السيوطي في الاتقان 3/ 84 والدرّ المنثور 1/ 106).
ورواية الفراش. (رواها السيوطي في الدرّ المنثور 1/ 106). وقد زعم عمر فيها أنّها كانت في المصحف تُتلى، لكنّه لم يجدها بعد ذلك!
وبينما يعترفُ في حديث الرجم، أنّ إضافته لها على المصحف يسمّى زيادة عند الناس، ويؤكّد: >والذي نفسي بيده لولا أنْ يقول الناسُ: زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتُها<. (فتح الباري شرح البخاري 3/ 127).
ولو كان عنده مصحفٌ خاصٌ، وكان جازما بقرآنيّة ما ذكر، لأضافها عليه من دون تحرّج، ولا تخوّفٍ من قول الناس! كما نُسِبَ إلى غيره من الصحابة في مصاحفهم، لكنّه لم يفعلْ، لأنّه لم يكن عنده مصحفٌ خاص.
وأمّا ما كان عند حفصة، فقد صرّحوا بأنّه الصحف التي أمر أبو بكر بكتابتها، فكانتْ عند أبي بكر حياته حتّى مات، ثمّ عند عمر حتّى مات، ثمّ عند حفصة
فأرسل إليها عثمانُ فأبتْ أنْ تدفعها إليه، حتّى عاهدها ليردّنها إليها، فبعثتْ بها إليه، فنسخها عثمانُ في هذه المصاحف، ثمّ ردّها إليها، فلم تزلْ عندها حتّى أرسل مروان فأخذها، فأحرقها. (المصاحف للسجستاني ص15- 16).
نعم، ذكروا أنّ عمر هو أوّل من جمع القرآن في المصحف. (المصاحف للسجستاني ص16- 18 لكن ليس لهذا المصحف ذكرٌ ولا أثرٌ بعد ما زُعِمَ من جمعه، وإنْ سجّلواله هذه الفضيلة!وحتّى لو لم يكن عمر صاحب مصحفٍ.
فإنّ الغلاةَ من أهل السنّة، لم ينقصوا من كيل فضائله شيئا حتّى على حساب القرآن الكريم، فقد رتّبوا له ما هو أهم من مصحف يُجمع على يديه، ألا وهو: