فصل في إرهاب الدولة
فهمي هويدي
يقشعر بدن المرء مرتين وهو يطالع كتاب <<الأجهزة السرية في المغرب>>. مرة من هول ما تقع عليه عيناه من ممارسات استمرت وراء الأستار طيلة أربعة عقود. ومرة ثانية حين يخطر له احتمال أن يكون الفرق بين حالة المغرب وأقطار عربية أخرى، ان الأستار رفعت في الأولى في حين أنها ما زالت مسدلة بإحكام في الثانية(!)
نادرة في أدبيات العرب أمثال تلك الاعترافات. فليس مألوفاً أن يقضي شخص ما يربو على أربعين عاما منخرطاً في أحد أجهزة الرعب، ثم يخرج على الناس في النهاية باعترافات يكشف فيها النقاب عن أسرار ذلك الجهاز، الذي تحول البشر فيه إلى وحوش كاسرة، لا قلب لها ولا ضمير. صحيح أن بعض الضباط الجزائريين أثقلت ضمائرهم جرائم العسكر بحق المجتمع في التسعينيات. فلجأوا إلى فرنسا وفضحوا تلك الممارسات هناك في كتب منشورة، إلا أن هؤلاء لم يكونوا من داخل الأجهزة الأمنية السرية، ثم أنهم تحدثوا عن خبراتهم الشخصية بأكثر مما تحدثوا عن مجمل أنشطة تلك الأجهزة. وهي معلومات كانت مفيدة ومهمة للغاية، سجلت وجهاً للإرهاب كان مسكوتاً عليه، ولكنها سلطت الأضواء على جزء من الحقيقة المرعبة. وفي هذا كله تفوق الكتاب الذي نحن بصدده، والذي ألفه ضابط الأمن السابق أحمد بخاري، بعدما عمل طيلة أربعة عقود في قلب الجهاز الأمني السري الذي عرف باسم <<كاب واحد>>، ومن موقعه رأى الكثير، وصار بوسعه أن يرسم لنا في كتابه صورة بانورامية لعمل ذلك الجهاز الخطير.
زاد من صدقية الكتاب ورجح اعتماده كوثيقة دامغة لممارسات أجهزة الأمن في ما سمي بسنوات الرصاص أن المعلومات الحاشدة والخطيرة التي تضمنها لم تكذب ولم ينقضها أحد. وكل الذي حدث أن بعض الأجنحة في أجهزة الأمن حاولت تخويفه وتشويه صورة مؤلفه، لتجريح شخصه وإضعاف حجية كلامه كشاهد. أعني أنهم أرادوا اغتياله معنوياً، حين عجزوا عن رد كلامه وما أورده من وقائع وأحداث.
وإذ يحسب لمؤلف الكتاب (أحمد بخاري) أنه تحدث بدرجة عالية من الشجاعة والصراحة، إلا أننا ينبغي ألا نغفل طبيعة الظروف التي صدر كلامه في سياقها، والتي رفع فيها شعار <<العدالة والإنصاف>> بما استصحبه من إلحاح على ضرورة إزاحة الستار عن انتهاكات حقوق الإنسان بإعلان الحقيقة على الملأ، للتطهر من آثار <<سنوات الرصاص>> الدامية، وصولاً إلى المصالحة مع الماضي والتاريخ. ومن ثم طي صفحة ذلك الماضي، وفتح صفحة جديدة مقطوعة الصلة بتلك المرحلة الكئيبة والمظلمة.
تطل المفاجآت على قارئ الكتاب في صفحاته الأولى. إذ يكتشف المرء أن جهاز الأمن السياسي (الكاب واحد) نشط فور إعلان الاستقلال (عام 56)، وانه كان تابعاً بشكل مباشر لولي العهد مولاي الحسن (الذي صار ملكاً في ما بعد)، وقد قام في البداية على أكتاف عشرة من ضباط المخابرات الفرنسية، الذين كانوا جزءاً من سلطة الاحتلال، ومكنتهم خبراتهم من رصد كل خرائط الناشطين السياسيين والنقابيين في المغرب، أما الذي بنى الجهاز وأعد كوادره وطور أساليبه الإجرامية في الاختطاف والاغتيال والتآمر على القوى السياسية، فقد كان جهاز الموساد الإسرائيلي، وثلاثة من ضباط المخابرات المركزية الأميركية يجيدون الفرنسية والعربية، وهؤلاء التحقوا بالجهاز ابتداء من عام 1960، واثنان منهم عملا في إسرائيل وإيران وتركيا وأميركا اللاتينية.
من تلك المفاجأت أيضاً أن رموز المقاومة وقادة جيش التحرير الذين رفضوا إلقاء سلاحهم بعد الاستقلال، وعارضوا سياسية الملك محمد الخامس لأسباب عامة أو خاصة، هؤلاء تم اختطافهم من بيوتهم واغتيالهم. وقد ذكر المؤلف أن وثائق (أرشيف) جهاز الأمن السياسي التي اطلع عليها دلت على أن 800 شخص من <<أبطال التحرير>> تمت تصفيتهم جسدياً خلال السنوات الأربع الأولى بعد الاستقلال، أي في الفترة بين عامي 56 و 60 (!).
من المفاجآت كذلك أن المخابرات الفرنسية كان لها نفوذها الهائل في المغرب، بحيث أن شبكاتها غطت كل مظاهر الحركة والعافية بالبلاد، فولي العهد مولاي الحسن كان تحت رقابة محكمة طول الوقت. بل إن جهاز المخابرات كان له دوره في تشكيل وفد مفاوضات الاستقلال مع فرنسا، بحيث استبعدت منه العناصر الوطنية الحقيقية (مثل المهدي بن بركة وعبد الحميد بوعبيد).. و <<فضلت فرنسا التفاوض مع أشخاص يقبلون بحماية النظام الكولونيالي (الاستعماري)، ومن هؤلاء نجد رجال أعمال وتجاراً ومصرفيين وملاكاً زراعيين، إضافة إلى تحكمهم في شبكات القوادة، وامتلاك الحانات والدور المغلقة>> والعبارة منقولة عن الكتاب (ص 39). وقد اكتشف أحمد بخاري، من خلال اطلاعه على وثائق جهاز الأمن، أن ممثلي حزبي الاستقلال والشورى في المفاوضات كانوا من عملاء المخابرات، بل اكتشف أيضاً أن محمد اوفقير (الذي صار أهم شخصية أمنية في البلاد برتبة جنرال)، كان عميلاً للمخابرات الفرنسية وعيناً لها على الملك محمد الخامس (منذ لحظة وصوله من منفاه بمدغشقر)، ومن بعده ابنه الحسن الثاني. واسمه الحركي في الوثائق الرسمية <<ديان بيان فو>> (نسبة إلى المدينة الفيتنامية التي خاض فيها الفرنسيون معارك شرسة).
الخبراء الأميركيون الثلاثة أشرفوا على أهم ثلاثة أقسام في جهاز الأمن السري، وهي قسم مكافحة قلب النظام، وإدارة مكافحة التجسس، وإدارة العمليات التقنية. الأول يركز على المعارضة الوطنية، والثاني يتابع حركة الأجانب في الداخل، والثالث يتولى تنفيذ الإجراء المضاد المطلوب (التنصت الرصد الخطف التصفية). وقد شاءت المقادير أن يكون مؤلف الكتاب أحمد بخاري من العاملين في قسم مكافحة قلب النظام، الأمر الذي يعني أن وظيفته جعلته على صلة بمختلف الأنشطة السياسية والنقابية في طول البلاد وعرضها.
باسم حماية أمن النظام جرى اختراق كل الجماعات السياسية والنقابية الموجودة في المغرب، من خلال ناشطين في تلك التجمعات تم تجنيدهم لحساب جهاز <<الكاب>>، حتى أن الاجتماعات السياسية مثلاً كان ما يجري فيها يسجل من قبل عدد من أولئك المجندين، الذين كانوا يكلفون أحياناً بإثارة قضايا معينة لاستكشاف الرؤى بصددها. وبعد أن يسلم كل واحد منهم تقريره إلى المسؤول الأمني عنه، كانت تتم عملية مطابقة التقارير وصياغة تقرير واحد من النقاط التي تم الاتفاق عليها، تتم الإجابة فيه عن 150 سؤالاً حول مختلف أوجه النشاط السياسي، علماً بأن بعض القياديين في الأحزاب <<الوطنية>> كانوا في الوقت ذاته <<متعاونين>> مع جهاز الأمن.
تجنيد رجال السياسة كان يتم من خلال استكشاف نقاط ضعفهم، وما إذا كان ذلك الضعف يتمثل في المال أو الجنس أو الخمر أو المخدرات. ومن التجربة ثبت أن الشقق السرية كانت أفضل سبيل للإيقاع بهم. وهو ما حدث مثلاً مع عبد المعطي بوعبيد المحامي الكبير في الدار البيضاء، وعضو المكتب السياسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ورئيس نادي <<بيضاوي>> لكرة القدم. فقد سعى للتعرف عليه أحمد بخاري مؤلف الكتاب، حيث قدم إليه في البداية بحسبانه تاجراً من عشاق كرة القدم التي كان يهواها صاحبنا في شبابه. ولأنه كان قد أحيط علماً بالأماكن العامة التي كان يقضي فيها أمسياته، وهي في الأغلب نواد خاصة أو حانات، فقد تعمد بخاري أن يكون في تلك الأماكن بين الحين والآخر، وأن يمر أمامه <<مصادفة>>، ليجالسه ويتبادل معه الحكي عن كرة القدم، ومع الحكي كانا يتبادلان الأنخاب والكؤوس. وإذ توثقت علاقتهما عن هذا الطريق، فقد كان ذلك إيذاناً بالانتقال إلى المرحلة التالية.
كانت معلومات جهاز الأمن أن بوعبيد يحب الدعوة للولائم الصغرى بصحبة أصدقائه، لكن في سرية تامة. وإذ توثقت العلاقة معه فإن بخاري دعاه ذات مرة إلى شقة تابعة للجهاز ومزودة بأجهزة التصوير والتسجيل. في المرة الأولى جاء وحيداً، وفي ما بعد أعطاه مفتاح الشقة، فبدأ يتردد عليها مع أصدقائه بصحبة فتيات قاصرات. ورغم أنه لم يكن ذا باع في هذا المجال، إلا أنه كان يسدي خدمة لأصدقائه. وبهذه الطريقة تم تصوير الرجل وآخرين من أعضاء المكتب السياسي للحزب، وبعض أعضاء محكمة الدار البيضاء.
أخيراً، في يوم ما <<كان يجب علي أن أعطي للمعطي بوعبيد الظرف الذي فيه الصور، فاحمر وجهه وألتزم الصمت، واستسلم>> هكذا كتب بخاري، وأضاف انه بعد أن حقق مراده سلم بوعبيد إلى رئيس المجموعة الأمنية في الدار البيضاء، الذي أصبح <<ضابطه المعالج>>، بحيث ظل يرسل إليه <<بكل إخلاص>> تقاريره المنتظمة عن كل الاجتماعات الحزبية التي يشارك فيها.
بفضل هذه الشخصية سقط في الفخ عدد كبير من أصدقائه المقربين من عشاق الشقق السرية. وكان هؤلاء من كبار المسؤولين في الدولة. وفي أمثال تلك الشقق التقطت صور لقياديين نقابيين مرموقين، أحدهما كان بصبحة غلام، والثاني جرى تصويره وهو بين ذراعي عاهرة. بسرعة كانوا يستسلمون ويقبلون بالتعاون مقابل رواتب شهرية. وذلك لم يحل دون ترقيتهم في وظائفهم، حيث صار منهم السفير والوزير والبرلماني. ولأن تلك الشقق كانت تستخدمها مختلف أقسام <<الكاب>>، فإن قسم مكافحة التجسس أوقع في شباكه بهذه الطريقة مسؤولاً أجنبياً صار رئيس دولة في وقت لاحق.
أمثال تلك الشقق المجهزة بأحدث الوسائل السمعية والبصرية زرعت في مختلف أنحاء المملكة، بحيث أن <<البلاد كلها كانت مخترقة بذلك النسيج العنكبوتي الخطير>>. فقد توزعت 60 شقة على أهم مدن المغرب، بينها 12 شقة في الدار البيضاء وحدها.
المعارضون الذين يتعذر إغواؤهم لا مفر من <<تأديبهم>>. والاختطاف أحد أكثر وسائل التأديب شيوعاً. وهو ما تتولاه عناصر الأمن المدربة على الاختطاف من الشوارع أو من البيوت. إذ ما ان يقع الإنسان في أيدي عناصر جهاز المخابرات حتى يجري تكتيفه وتعصيب عينيه وسد فمه وأذنيه وربط رجليه، ثم يوضع في كيس يرمى به في صندوق السيارة أو وراء السائق. وحين يصل إلى دهاليز <<الكاب واحد>> لاستنطاقه فإن علاقته بالعالم تنتهي، فلا يسجل له اسم، ولا تخطر عائلته بمكانه، ويظل مكوماً في الكيس طول الوقت.. <<يقضي المحتجزون حاجتهم في سراويلهم، فتتصاعد رائحة العفونة المرعبة من تحت الأرض، حتى أن بعضهم كان يموت فزعاً، وحين كنا نزيل الكيس الذي فيه الضحايا، نجدهم قد فارقوا الحياة>>! (ص65).
<<دار المقري>> بحي السويسي في الرباط، كانت أشهر نقاط التعذيب التي ظل المعارضون يحشدون في الطابق تحت السفلي منها (البدروم). كانوا دائماً معصوبي الأعين ومربوطي الأرجل ومكتفين بالأصفاد، وبعضهم كان يجر برجليه قيداً ثقيلاً من حديد يعرقل سيره في شدة وألم. البعض الآخر كانت توضع على فمه كمامة مصنوعة من الجلد، تعود إلى أحد السلاطين السابقين الذي كان يضعها على أفواه المشاغبين كالمثقفين والشعراء والفلاسفة. ومع مرور الأيام يتحول المعتقلون إلى هياكل عظمية بدون لحم، ويصبحون أقرب إلى الظلال أو الأشباح التي ترتدي أسمالا ممزقة من الحزام إلى الركبة.
نصف الكتاب عن تفصيلات الخطة الجهنمية التي أدت إلى خطف واغتيال بن بركة، والتي اشترك في وضعها أحد رجال المخابرات الأميركية. ففي أربعة فصول روى المؤلف كيف أن جهاز <<الكاب>> استطاع بعد ملاحقة استمرت 7 أشهر معرفة حاجة الزعيم المغربي إلى المال، فتم إنشاء شركة لإنتاج فيلم سينمائي فرنسي عن تصفية الاستعمار، واختارت الشركة المنتجة بن بركة باعتباره من قادة النضال في العالم الثالث، ليكون مستشاراً لها مقابل مبلغ من المال يفك أزمته. وحين تحدد موعد لاجتماعه مع الفريق السينمائي في أحد مطاعم باريس، استوقفه رجال شرطة فرنسية مزيفون واقتادوه من أمام المطعم إلى <<فيللا>> في أطراف العاصمة. وهناك تم استنطاقه وتعذيبه على النحو الذي ذكرته حتى لفظ أنفاسه. ثم نقل إلى الرباط على متن طائرة عسكرية مغربية، حيث طمست معالمه بتذويبه في الحامض داخل قبو دار المقري، وجرى تصويره في كل تلك المراحل.
يأخذ المرء نفساً طويلاً وعميقاً حين ينتهي من قراءة الكتاب، مستشعراً قدراً من الارتياح لأن الكابوس قد زال، لكن قلقاً خفياً لا يلبث أن يعاوده، حين يقرأ في الصحف أن السلطات الأميركية دأبت على إرسال المشتبه في ضلوعهم بالعمليات الإرهابية إلى أربع من العواصم العربية لتعذيبهم واستنطاقهم، وكانت الرباط واحدة من تلك العواصم!
فضلاً عما يثيره ذلك من تساؤل حول صدقية الأميركيين في <<دمقرطة>> المنطقة، فإنه يطرح علينا سؤالاً آخر مؤرقاً ومخيفاً هو: هل أصبح تعذيب البشر ظاهرة متوطنة في العالم العربي؟
() كاتب مصري
فهمي هويدي
يقشعر بدن المرء مرتين وهو يطالع كتاب <<الأجهزة السرية في المغرب>>. مرة من هول ما تقع عليه عيناه من ممارسات استمرت وراء الأستار طيلة أربعة عقود. ومرة ثانية حين يخطر له احتمال أن يكون الفرق بين حالة المغرب وأقطار عربية أخرى، ان الأستار رفعت في الأولى في حين أنها ما زالت مسدلة بإحكام في الثانية(!)
نادرة في أدبيات العرب أمثال تلك الاعترافات. فليس مألوفاً أن يقضي شخص ما يربو على أربعين عاما منخرطاً في أحد أجهزة الرعب، ثم يخرج على الناس في النهاية باعترافات يكشف فيها النقاب عن أسرار ذلك الجهاز، الذي تحول البشر فيه إلى وحوش كاسرة، لا قلب لها ولا ضمير. صحيح أن بعض الضباط الجزائريين أثقلت ضمائرهم جرائم العسكر بحق المجتمع في التسعينيات. فلجأوا إلى فرنسا وفضحوا تلك الممارسات هناك في كتب منشورة، إلا أن هؤلاء لم يكونوا من داخل الأجهزة الأمنية السرية، ثم أنهم تحدثوا عن خبراتهم الشخصية بأكثر مما تحدثوا عن مجمل أنشطة تلك الأجهزة. وهي معلومات كانت مفيدة ومهمة للغاية، سجلت وجهاً للإرهاب كان مسكوتاً عليه، ولكنها سلطت الأضواء على جزء من الحقيقة المرعبة. وفي هذا كله تفوق الكتاب الذي نحن بصدده، والذي ألفه ضابط الأمن السابق أحمد بخاري، بعدما عمل طيلة أربعة عقود في قلب الجهاز الأمني السري الذي عرف باسم <<كاب واحد>>، ومن موقعه رأى الكثير، وصار بوسعه أن يرسم لنا في كتابه صورة بانورامية لعمل ذلك الجهاز الخطير.
زاد من صدقية الكتاب ورجح اعتماده كوثيقة دامغة لممارسات أجهزة الأمن في ما سمي بسنوات الرصاص أن المعلومات الحاشدة والخطيرة التي تضمنها لم تكذب ولم ينقضها أحد. وكل الذي حدث أن بعض الأجنحة في أجهزة الأمن حاولت تخويفه وتشويه صورة مؤلفه، لتجريح شخصه وإضعاف حجية كلامه كشاهد. أعني أنهم أرادوا اغتياله معنوياً، حين عجزوا عن رد كلامه وما أورده من وقائع وأحداث.
وإذ يحسب لمؤلف الكتاب (أحمد بخاري) أنه تحدث بدرجة عالية من الشجاعة والصراحة، إلا أننا ينبغي ألا نغفل طبيعة الظروف التي صدر كلامه في سياقها، والتي رفع فيها شعار <<العدالة والإنصاف>> بما استصحبه من إلحاح على ضرورة إزاحة الستار عن انتهاكات حقوق الإنسان بإعلان الحقيقة على الملأ، للتطهر من آثار <<سنوات الرصاص>> الدامية، وصولاً إلى المصالحة مع الماضي والتاريخ. ومن ثم طي صفحة ذلك الماضي، وفتح صفحة جديدة مقطوعة الصلة بتلك المرحلة الكئيبة والمظلمة.
تطل المفاجآت على قارئ الكتاب في صفحاته الأولى. إذ يكتشف المرء أن جهاز الأمن السياسي (الكاب واحد) نشط فور إعلان الاستقلال (عام 56)، وانه كان تابعاً بشكل مباشر لولي العهد مولاي الحسن (الذي صار ملكاً في ما بعد)، وقد قام في البداية على أكتاف عشرة من ضباط المخابرات الفرنسية، الذين كانوا جزءاً من سلطة الاحتلال، ومكنتهم خبراتهم من رصد كل خرائط الناشطين السياسيين والنقابيين في المغرب، أما الذي بنى الجهاز وأعد كوادره وطور أساليبه الإجرامية في الاختطاف والاغتيال والتآمر على القوى السياسية، فقد كان جهاز الموساد الإسرائيلي، وثلاثة من ضباط المخابرات المركزية الأميركية يجيدون الفرنسية والعربية، وهؤلاء التحقوا بالجهاز ابتداء من عام 1960، واثنان منهم عملا في إسرائيل وإيران وتركيا وأميركا اللاتينية.
من تلك المفاجأت أيضاً أن رموز المقاومة وقادة جيش التحرير الذين رفضوا إلقاء سلاحهم بعد الاستقلال، وعارضوا سياسية الملك محمد الخامس لأسباب عامة أو خاصة، هؤلاء تم اختطافهم من بيوتهم واغتيالهم. وقد ذكر المؤلف أن وثائق (أرشيف) جهاز الأمن السياسي التي اطلع عليها دلت على أن 800 شخص من <<أبطال التحرير>> تمت تصفيتهم جسدياً خلال السنوات الأربع الأولى بعد الاستقلال، أي في الفترة بين عامي 56 و 60 (!).
من المفاجآت كذلك أن المخابرات الفرنسية كان لها نفوذها الهائل في المغرب، بحيث أن شبكاتها غطت كل مظاهر الحركة والعافية بالبلاد، فولي العهد مولاي الحسن كان تحت رقابة محكمة طول الوقت. بل إن جهاز المخابرات كان له دوره في تشكيل وفد مفاوضات الاستقلال مع فرنسا، بحيث استبعدت منه العناصر الوطنية الحقيقية (مثل المهدي بن بركة وعبد الحميد بوعبيد).. و <<فضلت فرنسا التفاوض مع أشخاص يقبلون بحماية النظام الكولونيالي (الاستعماري)، ومن هؤلاء نجد رجال أعمال وتجاراً ومصرفيين وملاكاً زراعيين، إضافة إلى تحكمهم في شبكات القوادة، وامتلاك الحانات والدور المغلقة>> والعبارة منقولة عن الكتاب (ص 39). وقد اكتشف أحمد بخاري، من خلال اطلاعه على وثائق جهاز الأمن، أن ممثلي حزبي الاستقلال والشورى في المفاوضات كانوا من عملاء المخابرات، بل اكتشف أيضاً أن محمد اوفقير (الذي صار أهم شخصية أمنية في البلاد برتبة جنرال)، كان عميلاً للمخابرات الفرنسية وعيناً لها على الملك محمد الخامس (منذ لحظة وصوله من منفاه بمدغشقر)، ومن بعده ابنه الحسن الثاني. واسمه الحركي في الوثائق الرسمية <<ديان بيان فو>> (نسبة إلى المدينة الفيتنامية التي خاض فيها الفرنسيون معارك شرسة).
الخبراء الأميركيون الثلاثة أشرفوا على أهم ثلاثة أقسام في جهاز الأمن السري، وهي قسم مكافحة قلب النظام، وإدارة مكافحة التجسس، وإدارة العمليات التقنية. الأول يركز على المعارضة الوطنية، والثاني يتابع حركة الأجانب في الداخل، والثالث يتولى تنفيذ الإجراء المضاد المطلوب (التنصت الرصد الخطف التصفية). وقد شاءت المقادير أن يكون مؤلف الكتاب أحمد بخاري من العاملين في قسم مكافحة قلب النظام، الأمر الذي يعني أن وظيفته جعلته على صلة بمختلف الأنشطة السياسية والنقابية في طول البلاد وعرضها.
باسم حماية أمن النظام جرى اختراق كل الجماعات السياسية والنقابية الموجودة في المغرب، من خلال ناشطين في تلك التجمعات تم تجنيدهم لحساب جهاز <<الكاب>>، حتى أن الاجتماعات السياسية مثلاً كان ما يجري فيها يسجل من قبل عدد من أولئك المجندين، الذين كانوا يكلفون أحياناً بإثارة قضايا معينة لاستكشاف الرؤى بصددها. وبعد أن يسلم كل واحد منهم تقريره إلى المسؤول الأمني عنه، كانت تتم عملية مطابقة التقارير وصياغة تقرير واحد من النقاط التي تم الاتفاق عليها، تتم الإجابة فيه عن 150 سؤالاً حول مختلف أوجه النشاط السياسي، علماً بأن بعض القياديين في الأحزاب <<الوطنية>> كانوا في الوقت ذاته <<متعاونين>> مع جهاز الأمن.
تجنيد رجال السياسة كان يتم من خلال استكشاف نقاط ضعفهم، وما إذا كان ذلك الضعف يتمثل في المال أو الجنس أو الخمر أو المخدرات. ومن التجربة ثبت أن الشقق السرية كانت أفضل سبيل للإيقاع بهم. وهو ما حدث مثلاً مع عبد المعطي بوعبيد المحامي الكبير في الدار البيضاء، وعضو المكتب السياسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ورئيس نادي <<بيضاوي>> لكرة القدم. فقد سعى للتعرف عليه أحمد بخاري مؤلف الكتاب، حيث قدم إليه في البداية بحسبانه تاجراً من عشاق كرة القدم التي كان يهواها صاحبنا في شبابه. ولأنه كان قد أحيط علماً بالأماكن العامة التي كان يقضي فيها أمسياته، وهي في الأغلب نواد خاصة أو حانات، فقد تعمد بخاري أن يكون في تلك الأماكن بين الحين والآخر، وأن يمر أمامه <<مصادفة>>، ليجالسه ويتبادل معه الحكي عن كرة القدم، ومع الحكي كانا يتبادلان الأنخاب والكؤوس. وإذ توثقت علاقتهما عن هذا الطريق، فقد كان ذلك إيذاناً بالانتقال إلى المرحلة التالية.
كانت معلومات جهاز الأمن أن بوعبيد يحب الدعوة للولائم الصغرى بصحبة أصدقائه، لكن في سرية تامة. وإذ توثقت العلاقة معه فإن بخاري دعاه ذات مرة إلى شقة تابعة للجهاز ومزودة بأجهزة التصوير والتسجيل. في المرة الأولى جاء وحيداً، وفي ما بعد أعطاه مفتاح الشقة، فبدأ يتردد عليها مع أصدقائه بصحبة فتيات قاصرات. ورغم أنه لم يكن ذا باع في هذا المجال، إلا أنه كان يسدي خدمة لأصدقائه. وبهذه الطريقة تم تصوير الرجل وآخرين من أعضاء المكتب السياسي للحزب، وبعض أعضاء محكمة الدار البيضاء.
أخيراً، في يوم ما <<كان يجب علي أن أعطي للمعطي بوعبيد الظرف الذي فيه الصور، فاحمر وجهه وألتزم الصمت، واستسلم>> هكذا كتب بخاري، وأضاف انه بعد أن حقق مراده سلم بوعبيد إلى رئيس المجموعة الأمنية في الدار البيضاء، الذي أصبح <<ضابطه المعالج>>، بحيث ظل يرسل إليه <<بكل إخلاص>> تقاريره المنتظمة عن كل الاجتماعات الحزبية التي يشارك فيها.
بفضل هذه الشخصية سقط في الفخ عدد كبير من أصدقائه المقربين من عشاق الشقق السرية. وكان هؤلاء من كبار المسؤولين في الدولة. وفي أمثال تلك الشقق التقطت صور لقياديين نقابيين مرموقين، أحدهما كان بصبحة غلام، والثاني جرى تصويره وهو بين ذراعي عاهرة. بسرعة كانوا يستسلمون ويقبلون بالتعاون مقابل رواتب شهرية. وذلك لم يحل دون ترقيتهم في وظائفهم، حيث صار منهم السفير والوزير والبرلماني. ولأن تلك الشقق كانت تستخدمها مختلف أقسام <<الكاب>>، فإن قسم مكافحة التجسس أوقع في شباكه بهذه الطريقة مسؤولاً أجنبياً صار رئيس دولة في وقت لاحق.
أمثال تلك الشقق المجهزة بأحدث الوسائل السمعية والبصرية زرعت في مختلف أنحاء المملكة، بحيث أن <<البلاد كلها كانت مخترقة بذلك النسيج العنكبوتي الخطير>>. فقد توزعت 60 شقة على أهم مدن المغرب، بينها 12 شقة في الدار البيضاء وحدها.
المعارضون الذين يتعذر إغواؤهم لا مفر من <<تأديبهم>>. والاختطاف أحد أكثر وسائل التأديب شيوعاً. وهو ما تتولاه عناصر الأمن المدربة على الاختطاف من الشوارع أو من البيوت. إذ ما ان يقع الإنسان في أيدي عناصر جهاز المخابرات حتى يجري تكتيفه وتعصيب عينيه وسد فمه وأذنيه وربط رجليه، ثم يوضع في كيس يرمى به في صندوق السيارة أو وراء السائق. وحين يصل إلى دهاليز <<الكاب واحد>> لاستنطاقه فإن علاقته بالعالم تنتهي، فلا يسجل له اسم، ولا تخطر عائلته بمكانه، ويظل مكوماً في الكيس طول الوقت.. <<يقضي المحتجزون حاجتهم في سراويلهم، فتتصاعد رائحة العفونة المرعبة من تحت الأرض، حتى أن بعضهم كان يموت فزعاً، وحين كنا نزيل الكيس الذي فيه الضحايا، نجدهم قد فارقوا الحياة>>! (ص65).
<<دار المقري>> بحي السويسي في الرباط، كانت أشهر نقاط التعذيب التي ظل المعارضون يحشدون في الطابق تحت السفلي منها (البدروم). كانوا دائماً معصوبي الأعين ومربوطي الأرجل ومكتفين بالأصفاد، وبعضهم كان يجر برجليه قيداً ثقيلاً من حديد يعرقل سيره في شدة وألم. البعض الآخر كانت توضع على فمه كمامة مصنوعة من الجلد، تعود إلى أحد السلاطين السابقين الذي كان يضعها على أفواه المشاغبين كالمثقفين والشعراء والفلاسفة. ومع مرور الأيام يتحول المعتقلون إلى هياكل عظمية بدون لحم، ويصبحون أقرب إلى الظلال أو الأشباح التي ترتدي أسمالا ممزقة من الحزام إلى الركبة.
نصف الكتاب عن تفصيلات الخطة الجهنمية التي أدت إلى خطف واغتيال بن بركة، والتي اشترك في وضعها أحد رجال المخابرات الأميركية. ففي أربعة فصول روى المؤلف كيف أن جهاز <<الكاب>> استطاع بعد ملاحقة استمرت 7 أشهر معرفة حاجة الزعيم المغربي إلى المال، فتم إنشاء شركة لإنتاج فيلم سينمائي فرنسي عن تصفية الاستعمار، واختارت الشركة المنتجة بن بركة باعتباره من قادة النضال في العالم الثالث، ليكون مستشاراً لها مقابل مبلغ من المال يفك أزمته. وحين تحدد موعد لاجتماعه مع الفريق السينمائي في أحد مطاعم باريس، استوقفه رجال شرطة فرنسية مزيفون واقتادوه من أمام المطعم إلى <<فيللا>> في أطراف العاصمة. وهناك تم استنطاقه وتعذيبه على النحو الذي ذكرته حتى لفظ أنفاسه. ثم نقل إلى الرباط على متن طائرة عسكرية مغربية، حيث طمست معالمه بتذويبه في الحامض داخل قبو دار المقري، وجرى تصويره في كل تلك المراحل.
يأخذ المرء نفساً طويلاً وعميقاً حين ينتهي من قراءة الكتاب، مستشعراً قدراً من الارتياح لأن الكابوس قد زال، لكن قلقاً خفياً لا يلبث أن يعاوده، حين يقرأ في الصحف أن السلطات الأميركية دأبت على إرسال المشتبه في ضلوعهم بالعمليات الإرهابية إلى أربع من العواصم العربية لتعذيبهم واستنطاقهم، وكانت الرباط واحدة من تلك العواصم!
فضلاً عما يثيره ذلك من تساؤل حول صدقية الأميركيين في <<دمقرطة>> المنطقة، فإنه يطرح علينا سؤالاً آخر مؤرقاً ومخيفاً هو: هل أصبح تعذيب البشر ظاهرة متوطنة في العالم العربي؟
() كاتب مصري