بقلم :عصام الشماسي
في ذلك الهجير وفي تلك البلاقع الجرداء وهناك في قلب وادٍ غير ذي زرع تترسل تلك التموجات الحانية المتدفقة من شلال ذلك النهر الفياض ليمتلئ ويرتوي ذلك الجديب، فتستحيل تلك اللوحة القاحلة الباهتة إلى رؤى فاتنة تتمازج فيها ألوان الطيف ويتعانق بين معالمها الجمال وتنضح جنباتها بالرواء والحياة الخصيبة، لتنبض بخفقات الخلود، وتتخطى حدود العدم، وترتفع على حواجز الزمن، فلا غرو ولا عجب إن غاب من سادا بحيرتها، أو أطفئت من فارس نيرانها، فشعاع الرسالة يغمر الوجود وولادة الكون تنتظر من يوشحها بأبراد التباريك، وأنغام التهاني.
نعم إنه:
نعم فلقد:
فأي بشر هذا الذي تنداح أشذاؤه وتعبق معانيه ويغمر الكون بأرج السمو ويمد الحياة بهذه الهالات الإشعاعية الهادية وبذلك الوهج الذي يخترق كل أكوام الظلام ويمزق كل أستار الجهل والتخلف. إنها ولادة الحياة بكل ما تحمل الكلمة من أبعاد، وبكل ما تنطوي عليها حروفها من معانٍ.
إنها ولادة الإنسانية التائهة في دروبها، والتي أنهكها السرى، وفارقتها القوى المستنزفة في دوائر الاستبداد، والمسحوقة بحوافر الاستعباد والتسلط، والممزقة بمباضع الانحلال والجاهلية.
إنها ولادة للكمال الذي منه يستمد هذا الوجود البقاء وتكفل له بها الاستمرار (وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ)، (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله).
فمحمد هو مظهر لكمال الله وهو أجل ألطافه فالكمال مقرون بوجوده والاصطفاء مفتقر إليه:
إنها ولادة ليست من قبل استهلال البشر للحياة بل هي تمثل أهم المنعطفات والنقلات الكبرى في المسيرة البشرية، إذ أنها تمثل الصياغة العليا للحياة وللكون تمثل منعطفاً لوثبة الفكر وانفتاح العقل على آفاق النضج والحضارة الكونية فالمشهد الفكري المحمدي يعيش ربيعاً دائماً في نضارة فكر وعمق رؤية وحصافة رأي وعراقة تجربة.
فالفكر الذي يخترق حواجز الزمن وينفلت من أغلال العدم لا يقاس بالمساحة الزمنية التي ولد فيها بل يقيم بحجم الأثر والنتاج الذي أحدثه فكثيرون هم الذين تركوا بصماتهم على وجه الحياة المشرق وكثيرون هم أولئك الذين خلدوا أسماءهم بين ربوع التاريخ ولكن أعظم هؤلاء وأولئك، هو محمد وما ذاك إلا لأن محمداً (صلى الله عليه وآله)، هو صانع الإنسان، وهو صانع الحياة، فهو الذي حطم تلك القيود البغيضة التي كُبِل بها المخلوق الأول والذي به أمتاز الخليفة الإلهي عن سائر كائنات الوجود، فأزاح بوعيه هذه الأغلال الكثيفة ليطلق له العنان، ليحلق في آفاق الإبداع، وليسبح في واسع الفضاء، وينطلق لبناء الحضارة الكونية الشاملة، والمدنية المتكاملة، أو هل هناك من قانون أو فكر أو نظام ساير وعايش كل هذه التغيرات وتلك التقلبات دون أن يعتريه ضعف، أو ينفذ إليه عجز، سوى هذا الإسلام المحمدي الأصيل الذي ظل ينفح المجتمعات البشرية بكل رؤاه الرصينة والقادرة على استيعاب كل التطورات والظروف التي طرأت على المسيرة الإنسانية ولا تزال هذه المدرسة المحمدية تمدُ الحياة بفكرها الخلاق وبسماحتها التي تستظلها الأرواح الشفافة.
إن المتأمل في معالم هذه المدرسة الكبرى، تنهال عليه الكثير الكثير من روائع الصور وفرائد الأمثلة، التي على ضوئها يتأتى له أن يفسر سر هذا الخلود وتلك العظمة.
وهنا أيها الأعزاء، نعرض لصورتين ولمشهدين فقط من معالم المدرسة المحمدية الكبرى:
محمد وصناعة الإنسان:
إن صياغة الإنسان وتشكيل الأنماط السلوكية التي يتعاطاها لهي من أشد الأمور تعقيداً لدى المنظرين والتربويين والمعنيين بشؤون الإنسان والمجتمع، والعاملين في حقول العلوم الإنسانية. لأنه الأساس الذي تنطلق منه الأمم الحية لبناء هياكلها الحضارية.
إن المدرسة المحمدية قد ركزت على هذا العنصر وأولته العناية الكبرى، فأي نماذج هذه التي قدمها محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، للبشرية وأي تربية هذه التي أوجدت وخلقت تلكم الركائز التي لا يزال الأحرار من بني البشر منشدين إليها يقرأونها فتتملك مشاعرهم وتأسر أرواحهم بما تمتلكه هذه النماذج من جوانب إنسانية وخصائص انفردوا بها. فعلي وفاطمة والحسن والحسين وسلمان وأبو ذر وعمار، كل فرد نموذج حيّ على براعة بل وإعجاز وعملقة المربي، الذي ركز على بناء هذه الذوات التي بلغت شأواً رفيعاً في عالم القداسة والنبل.
إن الأسلوب النبويّ في بناء الذات قائم على تجرد الذات من أغلال الأنانية والتحرر من عبوديتها، والتي تحاصر القيم وتشل حركة الروح فيها، فالانسلاخ من قبضتها وحاكميتها يأخذ بها إلى مراقي الكمال وذرى عوالمها الملكوتية التي منها تنبعث الاشراقات التي على هداها تسير تلكم الأنفس النورانية.
فيجدر بها أن تنال أعلى الأوسمة الخالدة التي تتوجها السماء بها في كل المواقف التي تتحرك فيها (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا)، (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)، (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا).
إن أبطال هذا المشهد القرآني الفريد في مقامات المدائح الإلهية هم صفوة محمد الذين عاشوا الرسالة بوعيها الكامل وتفاعلوا مع كل أبعادها فنالوا هذا التمجيد وذاك الخلود، فكانوا نجوماً وضاءة في سماء الفضيلة وآفاق النبل، يستمد من إشعاعهما كل من أخذ من الفضيلة بسبيل على اختلاف مشاربهم وتغاير أذواقهم ومذاهبهم، فهذا جبران خليل جبران المسيحي الديانة يقرأ نموذجاً محمدياً قراءة تأمل فيخلص إلى القول: (في عقيدتي إن ابن أبي طالب هو أول عربي لازم الروح الكلية وسامرها وجاورها وهو أول عربي تناولت شفتاها صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من ذي قبل فتاهوا بين مناهج بلاغته وظلمات ماضيهم فمن أعُجب بها كان إعجابه موثوقاً بالفطرة ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية). إنه النموذج الأكمل الذي يعد امتداداً طبيعياً لتلك المدرسة الشامخة.
ولا يسع المجال لاستعراض تلك المشاهد التي سجلها الخلود بأحرفه الذهبية المشعة والتي تكشف عن البصمات الرسالية التي صيرت الإنسان مخلوقاً جديراً بالاستخلاف الإلهي المسؤول.
أما المشهد الآخر والصورة الثانية التي نعرضها أنها الأخوة الأكارم هي:
محمد والمدينة:
إذا كانت المدينة تعني إيجاد الصيغ التي تكفل للمجتمع العيش المتوازن والحياة الهانئة فإن في المدنية المحمدية من الأسس والمفردات ما يصنع أعظم المجتمعات تمدناً وتحضراً.
فالمدرسة المحمدية تطرح بنودها وقوانينها وسننها المدنية في مسارين ونهجين:
فالأول منها هو المسار العام والكلي الذي تنص مواده ومتونه على قاعدة الحب والاحترام والتسامح مع الآخرين، لتسود هذه القيمة وتكون هي الباعث لكل التحركات والسلوكيات (لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه)، ولم يكتف الإسلام بالوقوف عند الصيغ التي تحرص على ترهيف الحس الاجتماعي، بل عمد إلى تبيين وإيضاح كل مفردة على حده لئلا يتوه الإنسان أمام الكليات التي قد لا يحسن تطبيقها على المفردات أو الصغريات. فوضع هذه القاعدة العريضة للتهذيب الاجتماعي في ذلك القالب المفرداتي العملي فعالج كل مفردة على حده، مع مزجها بآثارها ونتائجها، بل ركز حتى على المفردات التي قد يُظن أنها ليست بذات أثر بليغ على الواقع الاجتماعي إلا أنّ المسألة خلاف ذلك إذا ما أعمل فيها أدوات التحليل والاستنتاج العلمي.
فاختيار كلماتنا ليست بمسألة تستحق كبير عناية عند البعض إلا أن المدرسة المحمدية تؤكد على خلاف هذه الرؤية (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) إن أسلوب التخاطب والتحاور بين الناس له أسسه في مدرسة محمد بن عبد الله (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إذا وفقنا على كلمتين إحداهما حسنة والأخرى أحسن منها فإن علينا اختيار الأحسن والأكثر رقة لما لها من إيقاع على النفس المتلقية، وكم من كلمة كانت بمثابة الشرارة التي تنطلق منها نيران البغض والتنافر، لأن الشيطان ينزغ وينفذ من خلال الوعورة والخشونة والأساليب المنفرة.
إن المفردات الملية التي أطرها الإسلام وأشاعها النبي في مجتمعه المدني فأصبحت من أبرز سماته لهي من الكثرة بمكان يضيق عنها المقام كأشد ما يكون الضيق، فأدب التحية، وأدب الطريق، وآداب الجلوس والطعام والزيارة، وفقه المعاملات التجارية تشكل مادة خصبة للقوانين المدنية التي تفتقر إلى التطبيق لإيجاد المدنية الكبرى.
وإلا فأي مجتمع الذي عايشه النبي إبان وجوده الشريف بين ظهرانيهم كانوا كما تصفهم سيدة نساء العالمين: (مزقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام يشربون الطرق ويقتاتون القد والورق أذلة خاسئين).
فيستحيل ذلك المشهد إلى تلك الصورة المشرقة التي لا تزال الأعين تحوم عند معالمها الكبيرة.
إنَّ الإعجاز النبوي يتجلى في هذا الانقلاب لوجه الحياة الجاهلية ولإنسانها.
إننا لا نحتاج إلى برهنة على شموخ الإسلام وعظمته من خلال الأدلة الفلسفية أو العقلية الصرفة، بل إن ما تكتنزه الشريعة من نظم وما تحتوي عليه من مقاصد لهي أكبر برهان على شموخه وعملقته.
فلقد شاخت نظريات وتركت أخريات وفنيت رؤى واندثرت مفاهيم ويبقى الإسلام ماثلاً يعيش حيوية الفكر وقدرة الإبداع وما ذاك إلا لأنه يستمد بقاءه من السماء ومن نبعها الهادي الذي لا يعرف النضوب وإن جفت ما حوله من منابع.
ولله درك يا شاعر الفراتين عندما جسدت هذا المعنى في إحدى روائعك التي تقول فيها:
نعم القلوب كلها تودد وهيام نحو عالمك القدسي أيها المصفى الذي يتنفس الكون نفحاته وأشذاءه العبقة.
في ذلك الهجير وفي تلك البلاقع الجرداء وهناك في قلب وادٍ غير ذي زرع تترسل تلك التموجات الحانية المتدفقة من شلال ذلك النهر الفياض ليمتلئ ويرتوي ذلك الجديب، فتستحيل تلك اللوحة القاحلة الباهتة إلى رؤى فاتنة تتمازج فيها ألوان الطيف ويتعانق بين معالمها الجمال وتنضح جنباتها بالرواء والحياة الخصيبة، لتنبض بخفقات الخلود، وتتخطى حدود العدم، وترتفع على حواجز الزمن، فلا غرو ولا عجب إن غاب من سادا بحيرتها، أو أطفئت من فارس نيرانها، فشعاع الرسالة يغمر الوجود وولادة الكون تنتظر من يوشحها بأبراد التباريك، وأنغام التهاني.
نعم إنه:
يوم يتيه على الزمان صباحه ~~ ومساؤه بمحمــــد وضــــــاء
نعم فلقد:
ولد الهدى، فالكائنات ضيــاء ~~ وفم الزمــان تبســــم وثنــــاء
الروح والملأ الملائكُ حولــه ~~ للدِّيـــن والدنيا بـــه بشـــــراء
الروح والملأ الملائكُ حولــه ~~ للدِّيـــن والدنيا بـــه بشـــــراء
فأي بشر هذا الذي تنداح أشذاؤه وتعبق معانيه ويغمر الكون بأرج السمو ويمد الحياة بهذه الهالات الإشعاعية الهادية وبذلك الوهج الذي يخترق كل أكوام الظلام ويمزق كل أستار الجهل والتخلف. إنها ولادة الحياة بكل ما تحمل الكلمة من أبعاد، وبكل ما تنطوي عليها حروفها من معانٍ.
إنها ولادة الإنسانية التائهة في دروبها، والتي أنهكها السرى، وفارقتها القوى المستنزفة في دوائر الاستبداد، والمسحوقة بحوافر الاستعباد والتسلط، والممزقة بمباضع الانحلال والجاهلية.
إنها ولادة للكمال الذي منه يستمد هذا الوجود البقاء وتكفل له بها الاستمرار (وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ)، (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله).
فمحمد هو مظهر لكمال الله وهو أجل ألطافه فالكمال مقرون بوجوده والاصطفاء مفتقر إليه:
قلب الخافقين ظهراً لبطن ~~ فرأى ذات أحمد فجتبــاها
إنها ولادة ليست من قبل استهلال البشر للحياة بل هي تمثل أهم المنعطفات والنقلات الكبرى في المسيرة البشرية، إذ أنها تمثل الصياغة العليا للحياة وللكون تمثل منعطفاً لوثبة الفكر وانفتاح العقل على آفاق النضج والحضارة الكونية فالمشهد الفكري المحمدي يعيش ربيعاً دائماً في نضارة فكر وعمق رؤية وحصافة رأي وعراقة تجربة.
فالفكر الذي يخترق حواجز الزمن وينفلت من أغلال العدم لا يقاس بالمساحة الزمنية التي ولد فيها بل يقيم بحجم الأثر والنتاج الذي أحدثه فكثيرون هم الذين تركوا بصماتهم على وجه الحياة المشرق وكثيرون هم أولئك الذين خلدوا أسماءهم بين ربوع التاريخ ولكن أعظم هؤلاء وأولئك، هو محمد وما ذاك إلا لأن محمداً (صلى الله عليه وآله)، هو صانع الإنسان، وهو صانع الحياة، فهو الذي حطم تلك القيود البغيضة التي كُبِل بها المخلوق الأول والذي به أمتاز الخليفة الإلهي عن سائر كائنات الوجود، فأزاح بوعيه هذه الأغلال الكثيفة ليطلق له العنان، ليحلق في آفاق الإبداع، وليسبح في واسع الفضاء، وينطلق لبناء الحضارة الكونية الشاملة، والمدنية المتكاملة، أو هل هناك من قانون أو فكر أو نظام ساير وعايش كل هذه التغيرات وتلك التقلبات دون أن يعتريه ضعف، أو ينفذ إليه عجز، سوى هذا الإسلام المحمدي الأصيل الذي ظل ينفح المجتمعات البشرية بكل رؤاه الرصينة والقادرة على استيعاب كل التطورات والظروف التي طرأت على المسيرة الإنسانية ولا تزال هذه المدرسة المحمدية تمدُ الحياة بفكرها الخلاق وبسماحتها التي تستظلها الأرواح الشفافة.
إن المتأمل في معالم هذه المدرسة الكبرى، تنهال عليه الكثير الكثير من روائع الصور وفرائد الأمثلة، التي على ضوئها يتأتى له أن يفسر سر هذا الخلود وتلك العظمة.
وهنا أيها الأعزاء، نعرض لصورتين ولمشهدين فقط من معالم المدرسة المحمدية الكبرى:
محمد وصناعة الإنسان:
إن صياغة الإنسان وتشكيل الأنماط السلوكية التي يتعاطاها لهي من أشد الأمور تعقيداً لدى المنظرين والتربويين والمعنيين بشؤون الإنسان والمجتمع، والعاملين في حقول العلوم الإنسانية. لأنه الأساس الذي تنطلق منه الأمم الحية لبناء هياكلها الحضارية.
إن المدرسة المحمدية قد ركزت على هذا العنصر وأولته العناية الكبرى، فأي نماذج هذه التي قدمها محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، للبشرية وأي تربية هذه التي أوجدت وخلقت تلكم الركائز التي لا يزال الأحرار من بني البشر منشدين إليها يقرأونها فتتملك مشاعرهم وتأسر أرواحهم بما تمتلكه هذه النماذج من جوانب إنسانية وخصائص انفردوا بها. فعلي وفاطمة والحسن والحسين وسلمان وأبو ذر وعمار، كل فرد نموذج حيّ على براعة بل وإعجاز وعملقة المربي، الذي ركز على بناء هذه الذوات التي بلغت شأواً رفيعاً في عالم القداسة والنبل.
إن الأسلوب النبويّ في بناء الذات قائم على تجرد الذات من أغلال الأنانية والتحرر من عبوديتها، والتي تحاصر القيم وتشل حركة الروح فيها، فالانسلاخ من قبضتها وحاكميتها يأخذ بها إلى مراقي الكمال وذرى عوالمها الملكوتية التي منها تنبعث الاشراقات التي على هداها تسير تلكم الأنفس النورانية.
فيجدر بها أن تنال أعلى الأوسمة الخالدة التي تتوجها السماء بها في كل المواقف التي تتحرك فيها (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا)، (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)، (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا).
إن أبطال هذا المشهد القرآني الفريد في مقامات المدائح الإلهية هم صفوة محمد الذين عاشوا الرسالة بوعيها الكامل وتفاعلوا مع كل أبعادها فنالوا هذا التمجيد وذاك الخلود، فكانوا نجوماً وضاءة في سماء الفضيلة وآفاق النبل، يستمد من إشعاعهما كل من أخذ من الفضيلة بسبيل على اختلاف مشاربهم وتغاير أذواقهم ومذاهبهم، فهذا جبران خليل جبران المسيحي الديانة يقرأ نموذجاً محمدياً قراءة تأمل فيخلص إلى القول: (في عقيدتي إن ابن أبي طالب هو أول عربي لازم الروح الكلية وسامرها وجاورها وهو أول عربي تناولت شفتاها صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من ذي قبل فتاهوا بين مناهج بلاغته وظلمات ماضيهم فمن أعُجب بها كان إعجابه موثوقاً بالفطرة ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية). إنه النموذج الأكمل الذي يعد امتداداً طبيعياً لتلك المدرسة الشامخة.
ولا يسع المجال لاستعراض تلك المشاهد التي سجلها الخلود بأحرفه الذهبية المشعة والتي تكشف عن البصمات الرسالية التي صيرت الإنسان مخلوقاً جديراً بالاستخلاف الإلهي المسؤول.
أما المشهد الآخر والصورة الثانية التي نعرضها أنها الأخوة الأكارم هي:
محمد والمدينة:
إذا كانت المدينة تعني إيجاد الصيغ التي تكفل للمجتمع العيش المتوازن والحياة الهانئة فإن في المدنية المحمدية من الأسس والمفردات ما يصنع أعظم المجتمعات تمدناً وتحضراً.
فالمدرسة المحمدية تطرح بنودها وقوانينها وسننها المدنية في مسارين ونهجين:
فالأول منها هو المسار العام والكلي الذي تنص مواده ومتونه على قاعدة الحب والاحترام والتسامح مع الآخرين، لتسود هذه القيمة وتكون هي الباعث لكل التحركات والسلوكيات (لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه)، ولم يكتف الإسلام بالوقوف عند الصيغ التي تحرص على ترهيف الحس الاجتماعي، بل عمد إلى تبيين وإيضاح كل مفردة على حده لئلا يتوه الإنسان أمام الكليات التي قد لا يحسن تطبيقها على المفردات أو الصغريات. فوضع هذه القاعدة العريضة للتهذيب الاجتماعي في ذلك القالب المفرداتي العملي فعالج كل مفردة على حده، مع مزجها بآثارها ونتائجها، بل ركز حتى على المفردات التي قد يُظن أنها ليست بذات أثر بليغ على الواقع الاجتماعي إلا أنّ المسألة خلاف ذلك إذا ما أعمل فيها أدوات التحليل والاستنتاج العلمي.
فاختيار كلماتنا ليست بمسألة تستحق كبير عناية عند البعض إلا أن المدرسة المحمدية تؤكد على خلاف هذه الرؤية (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) إن أسلوب التخاطب والتحاور بين الناس له أسسه في مدرسة محمد بن عبد الله (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إذا وفقنا على كلمتين إحداهما حسنة والأخرى أحسن منها فإن علينا اختيار الأحسن والأكثر رقة لما لها من إيقاع على النفس المتلقية، وكم من كلمة كانت بمثابة الشرارة التي تنطلق منها نيران البغض والتنافر، لأن الشيطان ينزغ وينفذ من خلال الوعورة والخشونة والأساليب المنفرة.
إن المفردات الملية التي أطرها الإسلام وأشاعها النبي في مجتمعه المدني فأصبحت من أبرز سماته لهي من الكثرة بمكان يضيق عنها المقام كأشد ما يكون الضيق، فأدب التحية، وأدب الطريق، وآداب الجلوس والطعام والزيارة، وفقه المعاملات التجارية تشكل مادة خصبة للقوانين المدنية التي تفتقر إلى التطبيق لإيجاد المدنية الكبرى.
وإلا فأي مجتمع الذي عايشه النبي إبان وجوده الشريف بين ظهرانيهم كانوا كما تصفهم سيدة نساء العالمين: (مزقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام يشربون الطرق ويقتاتون القد والورق أذلة خاسئين).
فيستحيل ذلك المشهد إلى تلك الصورة المشرقة التي لا تزال الأعين تحوم عند معالمها الكبيرة.
إنَّ الإعجاز النبوي يتجلى في هذا الانقلاب لوجه الحياة الجاهلية ولإنسانها.
إننا لا نحتاج إلى برهنة على شموخ الإسلام وعظمته من خلال الأدلة الفلسفية أو العقلية الصرفة، بل إن ما تكتنزه الشريعة من نظم وما تحتوي عليه من مقاصد لهي أكبر برهان على شموخه وعملقته.
فلقد شاخت نظريات وتركت أخريات وفنيت رؤى واندثرت مفاهيم ويبقى الإسلام ماثلاً يعيش حيوية الفكر وقدرة الإبداع وما ذاك إلا لأنه يستمد بقاءه من السماء ومن نبعها الهادي الذي لا يعرف النضوب وإن جفت ما حوله من منابع.
ولله درك يا شاعر الفراتين عندما جسدت هذا المعنى في إحدى روائعك التي تقول فيها:
يا أمة يبس الزمان وعـــــودها ~~ ريان من نبع النبــــــوة أملـــــدُ
تسري بأعماق السنيـن جـذوره ~~ وتشدُّ أذرعـــــه النجـوم فيصعدُ
ومذ اشتكـت تلك الجنائن حوله ~~ مما يعبث بها الخــريف الأجـددُ
ألقى رواء الهدى بين غصونها ~~ فأفاق حتى الهامــــد المتقصـــدُ
ومذ اشتكـت تلك الجنائن حوله ~~ مما يعبث بها الخــريف الأجـددُ
ألقى رواء الهدى بين غصونها ~~ فأفاق حتى الهامــــد المتقصـــدُ
وإذا النبـوة في الوجـوه نضارةٌ ~~ والعقل نــورٌ والقلــــوب تــوددُ
نعم القلوب كلها تودد وهيام نحو عالمك القدسي أيها المصفى الذي يتنفس الكون نفحاته وأشذاءه العبقة.