بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الزيـارة في التشـريع
أولاً : في القـرآن الكـريم :
إذ لم يرد في القرآن الكريم التصريح نصاً بالزيارة، فقد وردت في مضامين أكثر من واحدة من آياته، منها:
1- في قوله تعالى في شأن أصحاب الكهف ونزاع القوم فيهم بعد أن أماتهم الله:
(إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَ عَلَيْهِم مَّسْجِداً)(1).
قال المفسرون: ذكر اتخاذ المسجد يُشعر بأنّ هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وهذا يدلّ على أنّه لمّا ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور.
وهذا هو الراجح عند أهل التفسير على قول بعضهم أن الذي غلب هم أصحاب الملك، فهم الذين يغلبون على أمر من عداهم. قالوا: الأول أولى(2). بل قال بعضهم إنّ الملك الذي عثر عليهم كان مؤمناً(3).
وأيّاً كان القائل فالمسجد إنّما يُتّخذ ليؤتى على الدوام، ينتابه الناس، سواء المعاصرون منهم لقصّته أو الأجيال اللاحقة.. وبهذا أصبحت مراقد أصحاب الكهف مزاراً يقصده الناس للزيارة، بل أقاموا عليه مسجداً يذكرون اسم الله فيه.
ولعل مراقد هؤلاء الفتية المؤمنين، أصحاب الكهف، هي المثال الاَسبق تاريخاً في ما ذكره القرآن الكريم لاحترام مراقد الاَولياء وتعاهدها بالزيارة، بل إقامة المسجد عندها كما هو صريح القرآن الكريم.
2- قوله تعالى في النهي عن القيام عند قبور المنافقين :
(وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً وَلاَتَقُمْ عَلَى قَبْرِه)(4).
لا خلاف في أنّ المراد بالصلاة هنا هو خصوص الصلاة على الميت، يدل عليه السياق وسبب النزول.
أمّا موضع الاستدلال لدينا على المطلوب فهو قوله تعالى: (وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِه) فقد ذهب كثير من المفسرين إلى أنّ المراد يتجاوز الوقوف عنده وقت الدفن، إلى عموم الأوقات.
قال البيضاوي، والآلوسي، والبروسوي: المراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة(5).
فإذا كان هذا النهي قد ورد في شأن من مات على الكفر، كما هو في ذيل الآية نفسها (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُون) ففيه دلالة واضحة على أن ذلك جائز، بل ومعهود، في شأن من مات على الإسلام.
إذن ففي هذه الآية أيضاً دلالة على مشروعية زيارة قبر المسلم، بقصد الزيارة والدعاء للميت، فهذا هو المعهود في قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبر الميت بعد دفنه.
3- قوله تعالى :
(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(6).
جاء في أسباب النزول:
- أنّ الآية في صدر الحديث عن المنافقين الذين تتحدث عنهم الآيات السابقة، والذين ارتضوا التحاكم إلى الطاغوت فراراً من التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلو أنّهم جاءوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأظهروا الندم على ما فعلوه، وتابوا عنه واستغفروا منه، واستغفر لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لتاب الله عليهم.
- وقيل: إنّها نزلت في قوم من المنافقين، قال الحسن: اثني عشر رجلاً اجتمعوا على أمر مكيدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمَّ دخلوا عليه لذلك الغرض، فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره به، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ قوماً دخلوا يريدون أمراً لا ينالونه، فليقوموا وليستغفروا الله حتى استغفر لهم» فلم يقوموا، فقال: «ألا تقومون»؟ فلم يفعلوا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «قم يا فلان، قم يا فلان»، حتى عدّ اثني عشر رجلاً، فقاموا وقالوا: كنّا عزمنا على ما قلت، ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا، فاستغفر لنا. فقال: «الآن أخرجوا عنّي، أنا كنت في أول أمركم أطيب نفساً بالشفاعة، وكان الله أسرع إلى الإجابة»(7).
فهذا ما كان في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، يأتيه المذنب، فيستغفر، ويطلب منه الاستغفار والشفاعة له، ولما ورد فيها من تكريم خاص وإجلال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجد المسلمون استحباب العمل بها بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، فيأتي قبره الشريف، ويستغفر عنده ويسأل صاحبه الشفاعة، ذلك لأنّ إجلال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتكريمه واجب بعد موته كوجوبه في حياته، والعمل بهذه الآية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالعمل بالآية القائلة: (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْل)(8) حيث مضت سيرة المسلمين على وجوب العمل بها عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأثر في ذلك كثير، بحيث كتبت هذه الآية على الجدار المقابل لقبر الرسول اليوم.
ومثل ذلك ورد في الأَثر الكثير في العمل بالآية موضع الاستدلال عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في عهد الصحابة وبعده، نكتفي هنا بذكر استدلال مالك بن أنس بالآية في ردِّه على أبي جعفر المنصور، وهما عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد سأله أبو جعفر المنصور: أأستقبل القبلة وأدعوا، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال مالك: ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟! بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله تعالى، قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(9).
وفي مقدمة كلام مالك وأبي جعفر كان مالك قد استنكر على أبي جعفر رفعه صوته عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً:
يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإنّ الله تعالى أدّب قوماً فقال: (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ومدح قوماً فقال: (إنّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله) الآية... وذمّ قوماً فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَات) الآية... وإنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً.
وعلى هذا قال السبكي: دلّت الآية على الحث على المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة، فهي رتبة له لا تنقطع بموته، تعظيماً له.
قال: والآية وردت في أقوام معينين في حالة الحياة، فتعمّ بعموم العلّة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت، ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبّوا لمن أتى قبره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلو هذه الآية ويستغفر الله تعالى.
وحكاية العتبي -وهو من مشايخ الشافعي- مشهورة، وقد شهد أعرابياً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتلى هذه الآية واستغفر وانصرف..
وقد حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب، والمؤرخون، وكلهم استحسنوها ورأوها من آداب الزائر وما ينبغي له أن يفعله(10).
ثانياً: في السّـنة النبـوية :
في هذا المبحث فقرتان:
الاَولى: في إثبات مشروعية الزيارة في السنّة النبوية.
والثانية: ممارسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها وأحاديثه الواردة فيها. باستثناء ما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة قبره الشريف خاصة.
يلاحظ أنّ زيارة القبور بشكل عام مرّت في عهد الرسالة بثلاث مراحل(11):
مرحلة الإباحة: استمراراً لما كان عليه أهل الشرائع السابقة، كما أشارت إليه آية سورة الكهف، وكما يثبته الحديث النبوي الآتي الذي يضع نهايةً لهذه المرحلة، وتبتدئ المرحلة الثانية، وهي:
مرحلة المنع من الزيارة: وكان هذا المنع معلّلاً كما سيأتي في الحديث النبوي، وأخيراً:
مرحلة الإباحة وتجديد العمل بها: وفق الآداب التي أقرّها الإسلام.
هذا التقسيم الثلاثي يستفاد بشكل مباشر من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
"كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها» أخرجه مسلم والترمذي والنسائي والحاكم والبغوي، وغيرهم(12).
وهو واضح في أنّ المسلمين كانوا يزورون القبور، ثمَّ نهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارتها، ثمَّ أذن لهم بعد ذلك بالزيارة.
وفي رواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يتضمن علّة النهي أو بعضها، ففيها أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا هُجْراً»(13).
(1)سورة الكهف: 18|21.
(2)انظر: مجمع البيان| الطبرسي 5 : 710، التفسير الكبير| الرازي 11 : 106، فتح القدير| الشوكاني 3 : 277، الميزان الطباطبائي 13 : 267.
(3)الدر المنثور، وعنه الميزان 13 : 286 في رواية قال عنها: والرواية مشهورة أوردها المفسرون في تفاسيرهم وتلقوها بالقبول.
(4)سورة التوبة: 9|84.
(5)أنوار التنزيل| البيضاوي 1 : 416، وروح المعاني الآلوسي 10 : 155، روح البيان| البروسوي 3 : 378.
(6)سورة النساء: 4|64.
(7)مجمع البيان 3 : 105، تفسير الرازي 5 : 167 ـ 168.
(8)سورة الحجرات: 49|2.
(9) شفاء السقام| السبكي: 69 ـ 70.
(10)شفاء السقام: 81 ـ 82.
(11)على أساس ما ورد في كتب الجمهور.
(12)صحيح مسلم ـ كتاب الجنائز ـ 2 : 366|107، سنن الترمذي 3 : 370|1504، السنن الكبرى للنسائي 1 : 653|2159، المستدرك 1 : 530|1385، مصابيح السنّة 1 : 568|1239.
(13)المعجم الكبير| الطبراني 11 : 202|11653، والمعجم الاَوسط 3 : 343|2730، مجمع الزوائد| الهيثمي 3 : 58.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الزيـارة في التشـريع
أولاً : في القـرآن الكـريم :
إذ لم يرد في القرآن الكريم التصريح نصاً بالزيارة، فقد وردت في مضامين أكثر من واحدة من آياته، منها:
1- في قوله تعالى في شأن أصحاب الكهف ونزاع القوم فيهم بعد أن أماتهم الله:
(إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَ عَلَيْهِم مَّسْجِداً)(1).
قال المفسرون: ذكر اتخاذ المسجد يُشعر بأنّ هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وهذا يدلّ على أنّه لمّا ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور.
وهذا هو الراجح عند أهل التفسير على قول بعضهم أن الذي غلب هم أصحاب الملك، فهم الذين يغلبون على أمر من عداهم. قالوا: الأول أولى(2). بل قال بعضهم إنّ الملك الذي عثر عليهم كان مؤمناً(3).
وأيّاً كان القائل فالمسجد إنّما يُتّخذ ليؤتى على الدوام، ينتابه الناس، سواء المعاصرون منهم لقصّته أو الأجيال اللاحقة.. وبهذا أصبحت مراقد أصحاب الكهف مزاراً يقصده الناس للزيارة، بل أقاموا عليه مسجداً يذكرون اسم الله فيه.
ولعل مراقد هؤلاء الفتية المؤمنين، أصحاب الكهف، هي المثال الاَسبق تاريخاً في ما ذكره القرآن الكريم لاحترام مراقد الاَولياء وتعاهدها بالزيارة، بل إقامة المسجد عندها كما هو صريح القرآن الكريم.
2- قوله تعالى في النهي عن القيام عند قبور المنافقين :
(وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً وَلاَتَقُمْ عَلَى قَبْرِه)(4).
لا خلاف في أنّ المراد بالصلاة هنا هو خصوص الصلاة على الميت، يدل عليه السياق وسبب النزول.
أمّا موضع الاستدلال لدينا على المطلوب فهو قوله تعالى: (وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِه) فقد ذهب كثير من المفسرين إلى أنّ المراد يتجاوز الوقوف عنده وقت الدفن، إلى عموم الأوقات.
قال البيضاوي، والآلوسي، والبروسوي: المراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة(5).
فإذا كان هذا النهي قد ورد في شأن من مات على الكفر، كما هو في ذيل الآية نفسها (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُون) ففيه دلالة واضحة على أن ذلك جائز، بل ومعهود، في شأن من مات على الإسلام.
إذن ففي هذه الآية أيضاً دلالة على مشروعية زيارة قبر المسلم، بقصد الزيارة والدعاء للميت، فهذا هو المعهود في قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبر الميت بعد دفنه.
3- قوله تعالى :
(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(6).
جاء في أسباب النزول:
- أنّ الآية في صدر الحديث عن المنافقين الذين تتحدث عنهم الآيات السابقة، والذين ارتضوا التحاكم إلى الطاغوت فراراً من التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلو أنّهم جاءوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأظهروا الندم على ما فعلوه، وتابوا عنه واستغفروا منه، واستغفر لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لتاب الله عليهم.
- وقيل: إنّها نزلت في قوم من المنافقين، قال الحسن: اثني عشر رجلاً اجتمعوا على أمر مكيدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمَّ دخلوا عليه لذلك الغرض، فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره به، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ قوماً دخلوا يريدون أمراً لا ينالونه، فليقوموا وليستغفروا الله حتى استغفر لهم» فلم يقوموا، فقال: «ألا تقومون»؟ فلم يفعلوا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «قم يا فلان، قم يا فلان»، حتى عدّ اثني عشر رجلاً، فقاموا وقالوا: كنّا عزمنا على ما قلت، ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا، فاستغفر لنا. فقال: «الآن أخرجوا عنّي، أنا كنت في أول أمركم أطيب نفساً بالشفاعة، وكان الله أسرع إلى الإجابة»(7).
فهذا ما كان في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، يأتيه المذنب، فيستغفر، ويطلب منه الاستغفار والشفاعة له، ولما ورد فيها من تكريم خاص وإجلال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجد المسلمون استحباب العمل بها بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، فيأتي قبره الشريف، ويستغفر عنده ويسأل صاحبه الشفاعة، ذلك لأنّ إجلال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتكريمه واجب بعد موته كوجوبه في حياته، والعمل بهذه الآية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالعمل بالآية القائلة: (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْل)(8) حيث مضت سيرة المسلمين على وجوب العمل بها عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأثر في ذلك كثير، بحيث كتبت هذه الآية على الجدار المقابل لقبر الرسول اليوم.
ومثل ذلك ورد في الأَثر الكثير في العمل بالآية موضع الاستدلال عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في عهد الصحابة وبعده، نكتفي هنا بذكر استدلال مالك بن أنس بالآية في ردِّه على أبي جعفر المنصور، وهما عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد سأله أبو جعفر المنصور: أأستقبل القبلة وأدعوا، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال مالك: ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟! بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله تعالى، قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(9).
وفي مقدمة كلام مالك وأبي جعفر كان مالك قد استنكر على أبي جعفر رفعه صوته عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً:
يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإنّ الله تعالى أدّب قوماً فقال: (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ومدح قوماً فقال: (إنّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله) الآية... وذمّ قوماً فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَات) الآية... وإنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً.
وعلى هذا قال السبكي: دلّت الآية على الحث على المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة، فهي رتبة له لا تنقطع بموته، تعظيماً له.
قال: والآية وردت في أقوام معينين في حالة الحياة، فتعمّ بعموم العلّة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت، ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبّوا لمن أتى قبره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلو هذه الآية ويستغفر الله تعالى.
وحكاية العتبي -وهو من مشايخ الشافعي- مشهورة، وقد شهد أعرابياً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتلى هذه الآية واستغفر وانصرف..
وقد حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب، والمؤرخون، وكلهم استحسنوها ورأوها من آداب الزائر وما ينبغي له أن يفعله(10).
ثانياً: في السّـنة النبـوية :
في هذا المبحث فقرتان:
الاَولى: في إثبات مشروعية الزيارة في السنّة النبوية.
والثانية: ممارسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها وأحاديثه الواردة فيها. باستثناء ما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة قبره الشريف خاصة.
يلاحظ أنّ زيارة القبور بشكل عام مرّت في عهد الرسالة بثلاث مراحل(11):
مرحلة الإباحة: استمراراً لما كان عليه أهل الشرائع السابقة، كما أشارت إليه آية سورة الكهف، وكما يثبته الحديث النبوي الآتي الذي يضع نهايةً لهذه المرحلة، وتبتدئ المرحلة الثانية، وهي:
مرحلة المنع من الزيارة: وكان هذا المنع معلّلاً كما سيأتي في الحديث النبوي، وأخيراً:
مرحلة الإباحة وتجديد العمل بها: وفق الآداب التي أقرّها الإسلام.
هذا التقسيم الثلاثي يستفاد بشكل مباشر من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
"كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها» أخرجه مسلم والترمذي والنسائي والحاكم والبغوي، وغيرهم(12).
وهو واضح في أنّ المسلمين كانوا يزورون القبور، ثمَّ نهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارتها، ثمَّ أذن لهم بعد ذلك بالزيارة.
وفي رواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يتضمن علّة النهي أو بعضها، ففيها أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا هُجْراً»(13).
(1)سورة الكهف: 18|21.
(2)انظر: مجمع البيان| الطبرسي 5 : 710، التفسير الكبير| الرازي 11 : 106، فتح القدير| الشوكاني 3 : 277، الميزان الطباطبائي 13 : 267.
(3)الدر المنثور، وعنه الميزان 13 : 286 في رواية قال عنها: والرواية مشهورة أوردها المفسرون في تفاسيرهم وتلقوها بالقبول.
(4)سورة التوبة: 9|84.
(5)أنوار التنزيل| البيضاوي 1 : 416، وروح المعاني الآلوسي 10 : 155، روح البيان| البروسوي 3 : 378.
(6)سورة النساء: 4|64.
(7)مجمع البيان 3 : 105، تفسير الرازي 5 : 167 ـ 168.
(8)سورة الحجرات: 49|2.
(9) شفاء السقام| السبكي: 69 ـ 70.
(10)شفاء السقام: 81 ـ 82.
(11)على أساس ما ورد في كتب الجمهور.
(12)صحيح مسلم ـ كتاب الجنائز ـ 2 : 366|107، سنن الترمذي 3 : 370|1504، السنن الكبرى للنسائي 1 : 653|2159، المستدرك 1 : 530|1385، مصابيح السنّة 1 : 568|1239.
(13)المعجم الكبير| الطبراني 11 : 202|11653، والمعجم الاَوسط 3 : 343|2730، مجمع الزوائد| الهيثمي 3 : 58.
تعليق