ايران ربحت الانتخابات البريطانية
في الاحوال الاعتيادية لا تبدو الانتخابات البريطانية ذات اهمية للرأي العام العربي، فهي شأن محلي في بريطانيا البعيدة عن العالم العربي والتي تجرى انتخاباتها عادة وفق اجندة تحتوي على قضايا محلية، ولا ترتبط بالسياسة الخارجية للدولة. ولكن الانتخابات الاخيرة تختلف عن سابقاتها، ونتائجها ستكون لها ابعادها على السياسة الخارجية في السنوات المقبلة. وكما هو معروف فقد هيمنت الحرب ضد العراق على الانتخابات، وحاصرت رئيس الوزراء طوال حملته الانتخابية وذلك بسبب مشاركة بريطانيا فيها، الى جانب الولايات المتحدة، خارج الاجماع الدولي. وجاءت نتيجة الانتخابات برسالة واضحة من الشعب البريطاني: نريد حكومة العمال ولا نثق برئيس الوزراء. ومنذ اعلان النتائج انتشرت التكهنات حول مستقبل بلير، ولم يعد السؤال حول ما اذا كان عليه ان يتخلى عن رئاسة الحكومة والحزب، بل متى. فسياسات الحزب المحلية عموما حظيت بقبول الناخبين، مع تحفظات على سياساته ازاء التعليم والضرائب، ولكن تورط بريطانيا في الحرب اعتبر قرارا شخصيا من رئيس الوزراء، وحيث لم يتم العثور على اسلحة دمار شامل لدى نظام صدام حسين، فقد وجهت الاتهامات له باخفاء المعلومات والكذب، وانه ليس سوى تابع للسياسة الامريكية. وفي زيارته لبريطانيا قبيل الحرب وصف نيلسون مانديلا، الرئيس السابق لجمهورية جنوب افريقيا توني بلير بانه "وزير خارجية امريكا" في اثر زيارته لعدد من الدول الافريقية لاقناعها بالتصويت لصالح مشروع قرار بمجلس الامن يقر الحرب ضد العراق. وسعى بلير طوال الحملة الانتخابية للدفاع عن توريط بريطانيا في الحرب، ولكن بدون جدوى، حتى يئس من اقناع الناخبين بصحة قراره. وجاءت نتائج الانتخابات حلا وسطا: فقد صوتوا لحكومة حزب العمال، ولكن باغلبية صغيرة، الامر الذي يعني ان الفوز بالانتخابات المقبلة لن يكون مضمونا، ما لم يطرأ تغيير جوهري على سياسات الحزب الحاكم، وهذا يعني ان عليه خوض الانتخابات المقبلة بدون توني بلير.
يمكن القول ان الحكومة العمالية في دورتها الثالثة ستكون أقل اندفاعا للتورط في المشاريع الحربية خارج الحدود، خصوصا غير المدعومة بقرارات دولية. هذا على عكس الادارة الامريكية التي يرأسها الرئيس جورج بوش. فهنا اعطى الشعب الامريكيون موافقة ضمنية لسياساته، ومن ضمنها الحرب ضد العراق. ولوحظ ان الرئيس الامريكي بدأ ولايته الثانية بتهديدات صريحة للجمهورية الاسلامية الايرانية بخصوص مشروعها النووي، ربما بتحريض اسرائيلي مباشر. ومنذ ذلك الوقت تصاعدت المخاوف من شن حرب ضد ايران بقيادة الولايات المتحدة. ولكن الانتخابات البريطانية خففت احتمال مشاركة بريطانيا في اي حرب امريكية قريبة. خصوصا ان ايران تختلف عن العراق تماما: فليس هناك قرارات دولية ضدها، وليس لها عداء مع دول العالم. بل ان علاقاتها مع دول الاتحاد الاوروبي تتميز بقدر من الدفء والتعاون. اما روسيا فهي شريكة في المشروع النووي الايراني، ولم تخف موسكو تعاونها المستمر مع ايران في بناء المشروع، والتأكد من سيره وفق ما تنص عليه معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية. وكانت الولايات المتحدة قد فشلت في الخريف الما ضي في اقناع مجلس الحكام بالوكالة الدولية للطاقة الذرية بتحويل الملف الايراني لمجلس الامن الدولي، برغم الضغوط الشديدة على اعضائه. وتواصلت الاتصالات بين الترويكا الاوروبية (التي تضم وزراء خارجية كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا)، وايران للتوصل الى تفاهم واتفاق حول المشروع النووي الايراني. طهران تشترط امدادها بما يحتاجه مشروعها من يورانيوم مخصب، لوقف عمليات التخصيب التي تجري في بعض منشآتها. وقد سعت لتأكيد حسن النوايا بتعليق عمليات التخصيب خصوصا في موقع "ناتنز" في عمق سلسلة جبار "البورز" بانتظار ما تسفر عنه الاتصالات والمفاوضات، ولكنها اكدت ان ذلك التعليق لا يعني تخليها عن حقها في تخصيب اليورانيوم، وهو حق تقره معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية (ان. بي. تي).
الواضح ان ايران استطاعت، حتى الآن، التعاطي مع المفاوضات بقدرة فائقة، ولم تستطع الوالايات المتحدة حتى الآن استصدار قرار واحد ضدها. مع ذلك فهناك التلويح الامريكي بين الحين و الآخر باللجوء لاستعمال القوة لقصف المنشآت النووية الايرانية، وهو امر خطير من شأنه زيادة الاوضاع في الشرق الاوسط تعقيدا. وبريطانيا ستكون في موقف صعب فيما لو حدث ذلك. وبعد الانتخابات الاخيرة ونتائجها سيكون من الصعب جدا على حكومة العمال مسايرة السياسة الامريكية. هذا لا يعني ان خطر العمل العسكري ضد ايران غير وارد، فواشنطن تلوح بالخيار الاسرائيلي، وتعمل جادة لتفعيله. وفي الفترة الاخيرة اعلن عن موافقة الولايات المتحدة على اعطاء "اسرائيل" قنابل خاصة تستطيع اختراق الطبقات الاسمنتية العميقة، الامر الذي فسر على ان واشنطن لم تستبعد الخيار العسكري، سواء بطريقة مباشرة او عن طريق الكيان الصهيوني. الامر الذي افرزته الانتخابات البريطانية هو ان الحكومة الجديدة لن تكون مبسوطة اليد في اتخاذ اي قرار بالمشاركة في حرب ضد ايران بعد المشاكل التي صاحبت قرارها بالمشاركة في الحرب ضد العراق. وقبيل الانتخابات قال رئيس الوزراء البريطاني ان بريطانيا لن تشارك في اي حرب ضد ايران، واعتبر ذلك تعهدا منه. ولا يستبعد ان يكون ذلك التصريح قد جاء بعد تشاور مع واشنطن، لصرف النظر عن التصريح او التلميح بالحرب في الوقت الحاضر، واعطاء الترويكا الاوروبية فرصة للتوصل لاتفاق مع طهران، يؤدي الى ضمان عدم تصنيع اسلحة نووية، في مقابل تزويدها بما تحتاجه من يورانيوم مخصب. وتجدر الاشارة الى ان معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية تنص على ضرورة مساعدة الدول الراغبة في الحصول على التكنولوجيا النووية بما تحتاجه، وذلك لمنع التوجه لتصنيع اليورانيوم المخصب، الذي هو العنصر الاساسي للقنبلة النووية.
الجانب الآخر للانتخابات البريطانية يتمثل بتعمق الشعور بضرورة استقلال القرار البريطاني عموما عن السياسة الامريكية والتوجه نحو اوروبا، كبديل استراتيجي، وحليف طبيعي لبريطانيا. ويمكن تفسير التصويت لحزب العمال مع عدم الثقة في رئيس الوزراء، بانه تكريس للتوجه نحو استقلال بريطاني على صعيد العلاقات الخارجية والتحالفات الاستراتيجية عن الولايات المتحدة. فحزب العمال، تاريخيا يفترض ان يكون أبعد عن أمريكا من حزب المحافظين، وبالتالي فاعادة انتخابه تتضمن، بشكل ما، رغبة الناخبين البريطانيين في استقلال بلادهم عن القرار الامريكي على صعيد العلاقات الخارجية. ويجب الاعتراف بوجود علائق قوية بين ضفتي الاطلسي، تمثلت عسكريا بحلف شمال الاطلسي، الناتو، وسياسيا بالمواقف المشتركة حول القضايا الدولية خصوصا في الشرق الاوسط، وثقافيا بالانتماء التاريخي للمسيحية. ولكن هناك ايضا التمايز في السياسات ازاء بعض القضايا ومنها القضية الفلسطينية. وبرغم غياب هذه القضية عن الساحة الانتخابية، فهي ماثلة في اذهان الساسة من جميعع الاتجاهات والاحزاب. وفي السنوات الاخيرة انتشرت في اوروبا حساسية تجاه السياسات الاسرائيلية، بشكل يكشف تباينا واضحا عن السياسة الامريكية التي تدعم تلك السياسات بدون قيد او شرط. ولا يستبعد ان تشهد الفترة المقبلة تركيزا اوروبيا على القضية الفلسطينية لدفعها الى الامام، وتحاشي اي احتكاك كبير مع الولايات المتحدة ينجم عن الجمود السياسي بشأنها. ومع تداعي مصداقية الصقور في ادارة الرئيس بوش (برحيل بول وولفويتز الذي اصبح رئيسا للبنك الدولي، وقبله ريتشارد بيرل)، لا يستبعد ان يعيد الرئيس الامريكي النظر في سياساته التي انتهجها في فترة رئاسته الاولى. فنتائج الانتخابات البريطانية لا تقتصر اهميتها على تناقص عدد مقاعد حزب العمال الحاكم في البرلمان، بل ربما وقف الرئيس الامريكي امامها لاستقراء الواقع السياسي في ارووبا واعادة النظر في سياساته من قضايا الحرب والسلام في العالم. ويستبعد ان يتحرك الرئيس بوش لمواجهة ايران في غياب قرارات دولية واضحة، لان من الصعب ان تشارك بريطانيا في عمل من هذا النوع بعد التجربة المرة في العراق. هذا بالاضافة الى ان واشنطن متورطة ايضا في العراق، وهي في وضع لا تحسد عليه خصوصا مع استمرار سقوط الضحايا بين جنودها، وفشلها في اعادة الامن، وتضاؤل جدوى حربها ضد الارهاب.
استراتيجيو الحكومة العمالية في بريطانيا بدأوا الاستعداد للانتخابات المقبلة بعد اربع سنوات، هذا ما تتناقله بعض الاوساط المطلعة في دهاليز ويستمنستر، وهي استعدادات تتطلب اعادة قراءة نتائج الانتخابات الاخيرة بشكل نقدي، ليستطيعوا اعادة الثقة للناخب البريطاني في الحزب وسياساته. وبالاضافة للسياسات المحلية المرتبطة بالتعليم والصحة والهجرة وغيرها، يرى هؤلاء المخططون ضرورة اعادة صياغة خطاب الحزب وتفادي الاخطاء التي نجمت عن سياسات حكومة توني بلير. ومن الامور التي يتوقع ان يقفوا عندها بشكل جاد مدى حاكمية الموقف الدولي على سياسات الدول، ومدى حكمة التمرد على ذلك الموقف، كما فعل بلير. ولا يستبعد ان يستعين اولئك الخبراء والمخططون بخبرات شخصيات عمالية مرموقة مثل روبين كوك وكلير شورت اللذين خرجا من الحكومة بسبب قناعاتهما الشخصية تجاه الحرب ضد العراق. وكان حزب العمال قد اكتسب صيتا ايجابيا في العالم عندما كان كوك وزيرا للخارجية حيث اعتمد سياسة خارجية آخلاقية. ولكن سرعان ما جمدت تلك السياسة بسبب نشاط مجموعات الضغط العاملة لصالح الحكومات الديكتاتورية في العالم. واذا كان الرئيس بوش قد استهل فترة رئاسته الثانية برفع شعارات الديمقراطية والحرية وحق تقرير المصير، فان عودة الحكومة العمالية لسياسة خارجية اخلاقية من شأنها اعادة التوازن للموقف البريطاني الدولي، واستعادة المصداقية التي فقدت بالتبعية المطلقة لواشنطن. فالسياسة الخارجية فرضت نفسها على الانتخابات الاخيرة، ولا يتوقع ان تنحسر عن ساحة السجال السياسي والثقافي في الفترة الثالثة لحكومة حزب العمال بزعامة توني بلير. فلقد كانت هناك خشية من عدم فوز وزير الخارجية، جاك سترو، بسبب حساسية الموقف في دائرته الانتخابية في مسألة الحرب ضد العراق، وجاء فوزه ليمنع كاارثة كبيرة لسمعة الحزب، وهو امر سيفرض نفسه على مخططي السياسية والاستراتيجيين بحزب العمال. ومن المؤكد ان سحب القوات البريطانية من العراق سوف يساهم في تهدئة الموقف الشعبي من الحرب، حتى مع وجود عناصر برلمانية مثل جورج جالاوي تحت قبة البرلمان، وهي عناصر رافضة بشكل مطلق للحرب.
وثمة قضية اخرى ستظل موضع سجال في الفترة المقبلة، تتعلق باتفاقية الحد من انتشار الاسلحة النووية. وفي النقاشات التي تمت في الفترة الاخيرة في نيويورك بشأنها، لوحظ وجود مشاعر قوية ضد استمرار هيمنة القوى الكبرى الخمس على السلاح النووي والسعي المتواصل لاستهداف بعض الدول بشكل انتقائي وتهديدها بالاعتداء اذا لم تستجب للمطالب الامريكية والغربية. وتجدر الاشارة الى ان هناك 40 دولة تمتلك مشاريع نووية قادرة على التحول لمشاريع عسكرية بتعديلات سريعة. وهناك رفض دولي عام لمبدأ حصر النادي النووي بالدول الخمس الكبرى، والمطالبة بالغاء كافة المشاريع النووية العالمية على المدى البعيد. حزب العمال البريطاني، الذي يفترض انه ينتمي للعقلية الرافضة للتسلح النووي وانتاج الصواريخ العابرة للقارات، سوف يجد نفسه مطالبا بدعم الدعوات الدولية لنزع السلاح النووي بشكل متساو بين جميع الدول وعدم محاباة احد. ونجاحه في التعاطي مع هذه القضايا الجوهرية من شأنه ان يعيد قدرا من التوازن للحكومة العمالية التي لم تهنأ بانتصارها الديمقراطي الذي بدا وكأنه هزيمة. وفي اثر الاعلان عن النتائج بادر بلير للاعتراف بالموقع الذي حظيت به قضية العراق في الانتخابات البرلمانية، وهي ظاهرة مضرة، فيما لو استمرت، بمصالح الحزب وتوجهاته. وجاء النصر الهزيل للحزب ليركز الانظار على عدم الحكمة من تجاهل الجماهير ودورها والاعتماد على التقييم الشخصي للمواقف والسياسات بعيدا عن مرئيات تلك الجماهير ومواقفها. لقد كان درسا صعبا للحكومة العمالية، وربما كان في النتائج خير للمسلمين خصوصا ايران، والقضايا الدولية الاخرى.
في الاحوال الاعتيادية لا تبدو الانتخابات البريطانية ذات اهمية للرأي العام العربي، فهي شأن محلي في بريطانيا البعيدة عن العالم العربي والتي تجرى انتخاباتها عادة وفق اجندة تحتوي على قضايا محلية، ولا ترتبط بالسياسة الخارجية للدولة. ولكن الانتخابات الاخيرة تختلف عن سابقاتها، ونتائجها ستكون لها ابعادها على السياسة الخارجية في السنوات المقبلة. وكما هو معروف فقد هيمنت الحرب ضد العراق على الانتخابات، وحاصرت رئيس الوزراء طوال حملته الانتخابية وذلك بسبب مشاركة بريطانيا فيها، الى جانب الولايات المتحدة، خارج الاجماع الدولي. وجاءت نتيجة الانتخابات برسالة واضحة من الشعب البريطاني: نريد حكومة العمال ولا نثق برئيس الوزراء. ومنذ اعلان النتائج انتشرت التكهنات حول مستقبل بلير، ولم يعد السؤال حول ما اذا كان عليه ان يتخلى عن رئاسة الحكومة والحزب، بل متى. فسياسات الحزب المحلية عموما حظيت بقبول الناخبين، مع تحفظات على سياساته ازاء التعليم والضرائب، ولكن تورط بريطانيا في الحرب اعتبر قرارا شخصيا من رئيس الوزراء، وحيث لم يتم العثور على اسلحة دمار شامل لدى نظام صدام حسين، فقد وجهت الاتهامات له باخفاء المعلومات والكذب، وانه ليس سوى تابع للسياسة الامريكية. وفي زيارته لبريطانيا قبيل الحرب وصف نيلسون مانديلا، الرئيس السابق لجمهورية جنوب افريقيا توني بلير بانه "وزير خارجية امريكا" في اثر زيارته لعدد من الدول الافريقية لاقناعها بالتصويت لصالح مشروع قرار بمجلس الامن يقر الحرب ضد العراق. وسعى بلير طوال الحملة الانتخابية للدفاع عن توريط بريطانيا في الحرب، ولكن بدون جدوى، حتى يئس من اقناع الناخبين بصحة قراره. وجاءت نتائج الانتخابات حلا وسطا: فقد صوتوا لحكومة حزب العمال، ولكن باغلبية صغيرة، الامر الذي يعني ان الفوز بالانتخابات المقبلة لن يكون مضمونا، ما لم يطرأ تغيير جوهري على سياسات الحزب الحاكم، وهذا يعني ان عليه خوض الانتخابات المقبلة بدون توني بلير.
يمكن القول ان الحكومة العمالية في دورتها الثالثة ستكون أقل اندفاعا للتورط في المشاريع الحربية خارج الحدود، خصوصا غير المدعومة بقرارات دولية. هذا على عكس الادارة الامريكية التي يرأسها الرئيس جورج بوش. فهنا اعطى الشعب الامريكيون موافقة ضمنية لسياساته، ومن ضمنها الحرب ضد العراق. ولوحظ ان الرئيس الامريكي بدأ ولايته الثانية بتهديدات صريحة للجمهورية الاسلامية الايرانية بخصوص مشروعها النووي، ربما بتحريض اسرائيلي مباشر. ومنذ ذلك الوقت تصاعدت المخاوف من شن حرب ضد ايران بقيادة الولايات المتحدة. ولكن الانتخابات البريطانية خففت احتمال مشاركة بريطانيا في اي حرب امريكية قريبة. خصوصا ان ايران تختلف عن العراق تماما: فليس هناك قرارات دولية ضدها، وليس لها عداء مع دول العالم. بل ان علاقاتها مع دول الاتحاد الاوروبي تتميز بقدر من الدفء والتعاون. اما روسيا فهي شريكة في المشروع النووي الايراني، ولم تخف موسكو تعاونها المستمر مع ايران في بناء المشروع، والتأكد من سيره وفق ما تنص عليه معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية. وكانت الولايات المتحدة قد فشلت في الخريف الما ضي في اقناع مجلس الحكام بالوكالة الدولية للطاقة الذرية بتحويل الملف الايراني لمجلس الامن الدولي، برغم الضغوط الشديدة على اعضائه. وتواصلت الاتصالات بين الترويكا الاوروبية (التي تضم وزراء خارجية كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا)، وايران للتوصل الى تفاهم واتفاق حول المشروع النووي الايراني. طهران تشترط امدادها بما يحتاجه مشروعها من يورانيوم مخصب، لوقف عمليات التخصيب التي تجري في بعض منشآتها. وقد سعت لتأكيد حسن النوايا بتعليق عمليات التخصيب خصوصا في موقع "ناتنز" في عمق سلسلة جبار "البورز" بانتظار ما تسفر عنه الاتصالات والمفاوضات، ولكنها اكدت ان ذلك التعليق لا يعني تخليها عن حقها في تخصيب اليورانيوم، وهو حق تقره معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية (ان. بي. تي).
الواضح ان ايران استطاعت، حتى الآن، التعاطي مع المفاوضات بقدرة فائقة، ولم تستطع الوالايات المتحدة حتى الآن استصدار قرار واحد ضدها. مع ذلك فهناك التلويح الامريكي بين الحين و الآخر باللجوء لاستعمال القوة لقصف المنشآت النووية الايرانية، وهو امر خطير من شأنه زيادة الاوضاع في الشرق الاوسط تعقيدا. وبريطانيا ستكون في موقف صعب فيما لو حدث ذلك. وبعد الانتخابات الاخيرة ونتائجها سيكون من الصعب جدا على حكومة العمال مسايرة السياسة الامريكية. هذا لا يعني ان خطر العمل العسكري ضد ايران غير وارد، فواشنطن تلوح بالخيار الاسرائيلي، وتعمل جادة لتفعيله. وفي الفترة الاخيرة اعلن عن موافقة الولايات المتحدة على اعطاء "اسرائيل" قنابل خاصة تستطيع اختراق الطبقات الاسمنتية العميقة، الامر الذي فسر على ان واشنطن لم تستبعد الخيار العسكري، سواء بطريقة مباشرة او عن طريق الكيان الصهيوني. الامر الذي افرزته الانتخابات البريطانية هو ان الحكومة الجديدة لن تكون مبسوطة اليد في اتخاذ اي قرار بالمشاركة في حرب ضد ايران بعد المشاكل التي صاحبت قرارها بالمشاركة في الحرب ضد العراق. وقبيل الانتخابات قال رئيس الوزراء البريطاني ان بريطانيا لن تشارك في اي حرب ضد ايران، واعتبر ذلك تعهدا منه. ولا يستبعد ان يكون ذلك التصريح قد جاء بعد تشاور مع واشنطن، لصرف النظر عن التصريح او التلميح بالحرب في الوقت الحاضر، واعطاء الترويكا الاوروبية فرصة للتوصل لاتفاق مع طهران، يؤدي الى ضمان عدم تصنيع اسلحة نووية، في مقابل تزويدها بما تحتاجه من يورانيوم مخصب. وتجدر الاشارة الى ان معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية تنص على ضرورة مساعدة الدول الراغبة في الحصول على التكنولوجيا النووية بما تحتاجه، وذلك لمنع التوجه لتصنيع اليورانيوم المخصب، الذي هو العنصر الاساسي للقنبلة النووية.
الجانب الآخر للانتخابات البريطانية يتمثل بتعمق الشعور بضرورة استقلال القرار البريطاني عموما عن السياسة الامريكية والتوجه نحو اوروبا، كبديل استراتيجي، وحليف طبيعي لبريطانيا. ويمكن تفسير التصويت لحزب العمال مع عدم الثقة في رئيس الوزراء، بانه تكريس للتوجه نحو استقلال بريطاني على صعيد العلاقات الخارجية والتحالفات الاستراتيجية عن الولايات المتحدة. فحزب العمال، تاريخيا يفترض ان يكون أبعد عن أمريكا من حزب المحافظين، وبالتالي فاعادة انتخابه تتضمن، بشكل ما، رغبة الناخبين البريطانيين في استقلال بلادهم عن القرار الامريكي على صعيد العلاقات الخارجية. ويجب الاعتراف بوجود علائق قوية بين ضفتي الاطلسي، تمثلت عسكريا بحلف شمال الاطلسي، الناتو، وسياسيا بالمواقف المشتركة حول القضايا الدولية خصوصا في الشرق الاوسط، وثقافيا بالانتماء التاريخي للمسيحية. ولكن هناك ايضا التمايز في السياسات ازاء بعض القضايا ومنها القضية الفلسطينية. وبرغم غياب هذه القضية عن الساحة الانتخابية، فهي ماثلة في اذهان الساسة من جميعع الاتجاهات والاحزاب. وفي السنوات الاخيرة انتشرت في اوروبا حساسية تجاه السياسات الاسرائيلية، بشكل يكشف تباينا واضحا عن السياسة الامريكية التي تدعم تلك السياسات بدون قيد او شرط. ولا يستبعد ان تشهد الفترة المقبلة تركيزا اوروبيا على القضية الفلسطينية لدفعها الى الامام، وتحاشي اي احتكاك كبير مع الولايات المتحدة ينجم عن الجمود السياسي بشأنها. ومع تداعي مصداقية الصقور في ادارة الرئيس بوش (برحيل بول وولفويتز الذي اصبح رئيسا للبنك الدولي، وقبله ريتشارد بيرل)، لا يستبعد ان يعيد الرئيس الامريكي النظر في سياساته التي انتهجها في فترة رئاسته الاولى. فنتائج الانتخابات البريطانية لا تقتصر اهميتها على تناقص عدد مقاعد حزب العمال الحاكم في البرلمان، بل ربما وقف الرئيس الامريكي امامها لاستقراء الواقع السياسي في ارووبا واعادة النظر في سياساته من قضايا الحرب والسلام في العالم. ويستبعد ان يتحرك الرئيس بوش لمواجهة ايران في غياب قرارات دولية واضحة، لان من الصعب ان تشارك بريطانيا في عمل من هذا النوع بعد التجربة المرة في العراق. هذا بالاضافة الى ان واشنطن متورطة ايضا في العراق، وهي في وضع لا تحسد عليه خصوصا مع استمرار سقوط الضحايا بين جنودها، وفشلها في اعادة الامن، وتضاؤل جدوى حربها ضد الارهاب.
استراتيجيو الحكومة العمالية في بريطانيا بدأوا الاستعداد للانتخابات المقبلة بعد اربع سنوات، هذا ما تتناقله بعض الاوساط المطلعة في دهاليز ويستمنستر، وهي استعدادات تتطلب اعادة قراءة نتائج الانتخابات الاخيرة بشكل نقدي، ليستطيعوا اعادة الثقة للناخب البريطاني في الحزب وسياساته. وبالاضافة للسياسات المحلية المرتبطة بالتعليم والصحة والهجرة وغيرها، يرى هؤلاء المخططون ضرورة اعادة صياغة خطاب الحزب وتفادي الاخطاء التي نجمت عن سياسات حكومة توني بلير. ومن الامور التي يتوقع ان يقفوا عندها بشكل جاد مدى حاكمية الموقف الدولي على سياسات الدول، ومدى حكمة التمرد على ذلك الموقف، كما فعل بلير. ولا يستبعد ان يستعين اولئك الخبراء والمخططون بخبرات شخصيات عمالية مرموقة مثل روبين كوك وكلير شورت اللذين خرجا من الحكومة بسبب قناعاتهما الشخصية تجاه الحرب ضد العراق. وكان حزب العمال قد اكتسب صيتا ايجابيا في العالم عندما كان كوك وزيرا للخارجية حيث اعتمد سياسة خارجية آخلاقية. ولكن سرعان ما جمدت تلك السياسة بسبب نشاط مجموعات الضغط العاملة لصالح الحكومات الديكتاتورية في العالم. واذا كان الرئيس بوش قد استهل فترة رئاسته الثانية برفع شعارات الديمقراطية والحرية وحق تقرير المصير، فان عودة الحكومة العمالية لسياسة خارجية اخلاقية من شأنها اعادة التوازن للموقف البريطاني الدولي، واستعادة المصداقية التي فقدت بالتبعية المطلقة لواشنطن. فالسياسة الخارجية فرضت نفسها على الانتخابات الاخيرة، ولا يتوقع ان تنحسر عن ساحة السجال السياسي والثقافي في الفترة الثالثة لحكومة حزب العمال بزعامة توني بلير. فلقد كانت هناك خشية من عدم فوز وزير الخارجية، جاك سترو، بسبب حساسية الموقف في دائرته الانتخابية في مسألة الحرب ضد العراق، وجاء فوزه ليمنع كاارثة كبيرة لسمعة الحزب، وهو امر سيفرض نفسه على مخططي السياسية والاستراتيجيين بحزب العمال. ومن المؤكد ان سحب القوات البريطانية من العراق سوف يساهم في تهدئة الموقف الشعبي من الحرب، حتى مع وجود عناصر برلمانية مثل جورج جالاوي تحت قبة البرلمان، وهي عناصر رافضة بشكل مطلق للحرب.
وثمة قضية اخرى ستظل موضع سجال في الفترة المقبلة، تتعلق باتفاقية الحد من انتشار الاسلحة النووية. وفي النقاشات التي تمت في الفترة الاخيرة في نيويورك بشأنها، لوحظ وجود مشاعر قوية ضد استمرار هيمنة القوى الكبرى الخمس على السلاح النووي والسعي المتواصل لاستهداف بعض الدول بشكل انتقائي وتهديدها بالاعتداء اذا لم تستجب للمطالب الامريكية والغربية. وتجدر الاشارة الى ان هناك 40 دولة تمتلك مشاريع نووية قادرة على التحول لمشاريع عسكرية بتعديلات سريعة. وهناك رفض دولي عام لمبدأ حصر النادي النووي بالدول الخمس الكبرى، والمطالبة بالغاء كافة المشاريع النووية العالمية على المدى البعيد. حزب العمال البريطاني، الذي يفترض انه ينتمي للعقلية الرافضة للتسلح النووي وانتاج الصواريخ العابرة للقارات، سوف يجد نفسه مطالبا بدعم الدعوات الدولية لنزع السلاح النووي بشكل متساو بين جميع الدول وعدم محاباة احد. ونجاحه في التعاطي مع هذه القضايا الجوهرية من شأنه ان يعيد قدرا من التوازن للحكومة العمالية التي لم تهنأ بانتصارها الديمقراطي الذي بدا وكأنه هزيمة. وفي اثر الاعلان عن النتائج بادر بلير للاعتراف بالموقع الذي حظيت به قضية العراق في الانتخابات البرلمانية، وهي ظاهرة مضرة، فيما لو استمرت، بمصالح الحزب وتوجهاته. وجاء النصر الهزيل للحزب ليركز الانظار على عدم الحكمة من تجاهل الجماهير ودورها والاعتماد على التقييم الشخصي للمواقف والسياسات بعيدا عن مرئيات تلك الجماهير ومواقفها. لقد كان درسا صعبا للحكومة العمالية، وربما كان في النتائج خير للمسلمين خصوصا ايران، والقضايا الدولية الاخرى.