أبو طالب (عليهِ السَّلام) وبحيرى الراهب
كمال الدين 1/182 – 186 ب14 ح33: حدَّثنا أحمد بن الحسن القطان وعلي بن أحمد بن مُحَمَّد ومُحَمَّد بن أحمد الشيباني، قالوا: حدَّثنا أبو العباس أحمد بن مُحَمَّد بن يحيى بن زكريا القطان، قال: حدَّثنا مُحَمَّد بن إسماعيل البرمكي، قال: حدَّثنا عبد الله بن مُحَمَّد، قال: حدَّثنا أبي، عن الهيثم، عن مُحَمَّد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب، عن أبي طالب، قال:خرجتُ إلى الشام تاجراً سنة ثمان من مولد رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وكان في أشد ما يكون من الحرِّ، فلما أجمعت على السير قال لي رجال من قومي: ما تريد أنَّ تفعل بمُحَمَّد؟ وعلى من تخلفه؟
فقلت: لا أريد أنَّ أخلِّفه على أحد من الناس، أريد أنَّ يكون معي.
فقيل: غلام صغير في حر مثل هذا تخرجه معك؟
فقلت: والله لا يفارقني حيثما توجهت أبداً، فإني لأوطِّئ له الرحل، فذهبت فحشوت له حشية [كساء وكتّاناً] وكنَّا ركباناً كثيراً، فكان والله البعير الذي عليه مُحَمَّد أمامي لا يفارقني وكان يسبق الركب كلهم، فكان إذا اشتدَّ الحرّ جاءت سحابة بيضاء مثل قطعة ثلج فتسلم عليه فتقف على رأسه ولا تفارقه، وكانت ربما أمطرت علينا السحابة بأنواع الفواكه وهي تسير معنا، وضاق الماء بنا في طريقنا حتَّى كنا لا نصيب قربة إلا بدينارين، وكنا حيثما نزلنا تمتلئ الحياض، ويكثر الماء وتخضرُّ الأرض، فكنا في كل خصب وطيب من الخير، وكان معنا قوم قد وقفت جمالهم فمشى إليها رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ومسح يده عليها فسارت، فلما قربنا من بصرى الشام إذا نحن بصومعة قد أقبلت تمشي كما تمشي الدابة السريعة حتَّى إذا قربت منا وقفت، فإذا فيها راهب، وكانت السحابة لا تفارق رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ساعة واحدة، وكان الراهب لا يكلم الناس، ولا يدري ما الركب، ولا ما فيه من التجارة، فلما نظر إلى النبيِّ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) عرفه، فسمعته يقول: إنْ كان أحد فأنت أنت.
قال: فنزلنا تحت شجرة عظيمة قريبة من الراهب قليلة الأغصان ليس لها حمل، وكانت الركبان ينزلون تحتها، فلما نزل رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) اهتزَّت الشجرة وألقت أغصانها على رسول الله وحملت من ثلاثة أنواع من الفاكهة: فاكهتان للصيف، وفاكهة للشتاء، فتعجَّب جميع من معنا من ذلك، فلما رأى بحيرى الراهب ذلك، ذهب فاتَّخذ طعاماً لرسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بقدر ما يكفيه، ثُمَّ جاء وقال: من يتولَّى أمر هذا الغلام؟
فقلت: أنا.
فقال: أي شيء تكون منه؟
فقلت: أنا عمُّه.
فقال: يا هذا إنَّ له أعماماً، فأي الأعمام أنت؟
فقلت: أنا أخو أبيه من أم واحدة.
فقال: أشهد أنَّه هو وإلا فلستُ بحيرى، ثُمَّ قال لي: يا هذا أتأذن لي أنْ أقرِّب هذا الطعام منه ليأكله؟
فقلت له: قرِّبه إليه.
ورأيته كارهاً لذلك، فالتفتُّ إلى النبيِّ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) فقلت له: يا بُنيَّ رجل أحبَّ أنْ يكرمك فكُلْ.
فقال: هو لي دون أصحابي؟
فقال بحيرى: نعم هو لك خاصَّة.
فقال النبيُّ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ): فإني لا آكل دون هؤلاء.
فقال بحيرى: إنَّه لم يكن عندي أكثر من هذا.
فقال: أفتأذن يا بحيرى إلى أنْ يأكلوا معي؟
فقال: بلى.
فقال: كلوا باسم الله، فأكل وأكلنا معه، فو الله لقد كنا مئة وسبعين رجلاً، وأكل كلُّ واحد منا حتَّى شبع وتجشَّأ، وبحيرى قائم على رأس رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) يذبُّ عنه، ويتعجَّب من كثرة الرجال وقلَّة الطعام، وفي كلِّ ساعة يقبِّل رأسه ويافوخه، ويقول: هو هوَ ورب المسيح، والناس لا يفقهون.
فقال له رجل من الركب: إنَّ لك لشأناً قد كنا نمرُّ بك قبل اليوم فلا تفعل بنا هذا البرَّ.
فقال بحيرى: والله إنَّ لي لشأناً وشأناً، وإنِّي لأرى ما لا ترون، وأعلم ما لا تعلمون، وإنَّ تحت هذه الشجرة لغلاماً لو كنتم تعلمون منه ما أعلم لحملتموه على أعناقكم حتَّى تردوه إلى وطنه، والله ما أكرمتكم إلا له، ولقد رأيتُ له – وقد أقبل – نوراً أضاء له ما بين السماء والأرض، ولقد رأيت رجالاً في أيديهم مراوح الياقوت والزبرجد يروِّحونه، وآخرين ينثرون عليه أنواع الفواكه، ثُمَّ هذه السحابة لا تفارقه، ثُمَّ صومعتي مشت إليه كما تمشي الدابة على رجلها، ثُمَّ هذه الشجرة لم تزل يابسة قليلة الأغصان وقد كثرت أغصانها واهتزَّت وحملت ثلاثة أنواع من الفواكه: فاكهتان للصيف، وفاكهة للشتاء، ثُمَّ هذه الحياض التي غارت وذهب ماؤها أيام تمرج بني إسرائيل بعد الحواريين حين وردوا عليهم، فوجدنا في كتاب شمعون الصفا أنَّه دعا عليهم فغارت وذهب ماؤها، ثُمَّ قال: متى ما رأيتم قد ظهر في هذه الحياض الماء فاعلموا أنَّه لأجل نبي يخرج في أرض تهامة مهاجراً إلى المدينة، اسمه في قومه الأمين، وفي السماء أحمد، وهو من عترة إسماعيل بن إبراهيم لصلبه، فو الله إنَّه لهو.
ثُمَّ قال بحيرى: يا غلام أسألك عن ثلاث خصال بحقِّ اللات والعزى إلا ما أخبرتنيها، فغضب رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) عند ذكر اللات والعزى، وقال: لا تسألني بهما، فوالله ما أبغضت شيئاً كبغضهما وإنَّما هما صنمان من حجارة قومي.
فقال بحيرى: هذه واحدة.
ثُمَّ قال: فبالله إلا ما أخبرتني.
فقال: سلْ عما بدا لك فإنَّك قد سألتني بإلهي وإلهك الذي ليس كمثله شيء.
فقال: أسألك عن نومك ويقظتك. فأخبره عن نومه ويقظته وأموره وجميع شأنه، فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته التي عنده، فانكبَّ عليه بحيرى فقبَّل رجليه وقال:
يا بني ما أطيبك وما أطيب ريحك؟ يا أكثر النبيِّين أتباعاً، يا من بهاء نور الدنيا من نوره، يا من بذكره تعمر المساجد، كأني بك قد قدت الأجناد والخيل الجياد، وقد تبعك العرب والعجم طوعاً وكرهاً، وكأني باللات والعزى وقد كسرتهما، وقد صار البيت العتيق لا يملكه غيرك، تضع مفاتيحه حيث تريد، كم من بطل من قريش والعرب تصرعه؟! معك مفاتيح الجنان والنيران، معك الذبح الأكبر وهلاك الأصنام، أنت الذي لا تقوم الساعة حتَّى تدخل الملوك كلها في دينك صاغرة قميئة، فلم يزل يقبِّل يديه مرَّة ورجليه مرة ويقول:
لئن أدركت زمانك لأضربنَّ بين يديك بالسيف ضرب الزند بالزند، أنت سيد ولد آدم، وسيد المرسلين، وإمام المتقين، وخام النبيِّين، والله لقد ضحكت الأرض يوم ولدت فهي ضاحكة إلى يوم القيامة، أنت دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، أنت المقدس المطهر من أنجاس الجاهلية، ثُمَّ التفت إلى أبي طالب فقال: ما يكون هذا الغلام منك؟ فإني أراك لا تفارقه.
فقال أبو طالب: هو إبني.
فقال: ما هو ابنك وما ينبغي لهذا الغلام أنْ يكون والده الذي ولده حياً ولا أمُّه.
فقال: إنَّه ابن أخي وقد مات أبوه وأمه حاملة به، وماتت أمه وهو ابن ست سنين.
فقال: صدقت هكذا هو، ولكني أرى لك أنَّ تردَّه إلى بلده عن هذا الوجه، فإنَّه ما بقي إلى ظهر الأرض يهودي ولا نصراني ولا صاحب كتاب إلا وقد علم بولادة هذا الغلام، ولئن رأوه وعرفوا منه ما قد عرفتُ أنا منه ليبغينَّه شراً، وأكثر ذلك من اليهود.
فقال أبو طالب: ولِمَ ذلك؟
قال: لأنه كائن لابن أخيك الرسالة والنبوة، ويأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى.
فقال أبو طالب: كلاَّ إنْ شاء الله، لم يكن الله ليضيِّعه.
ثُمَّ خرجنا به إلى الشام فلما قربنا من الشام رأيت والله قصور الشامات كلها قد اهتزَّت، وعلا منها نور أعظم من نور الشمس، فلما توسَّطنا الشام ما قدرنا أنْ نجوز سوق الشام من كثرة ما ازدحم الناس ينظرون إلى وجه رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وذهب الخبر إلى جميع الشامات حتَّى ما بقي فيها حبر ولا راهب إلا اجتمع إليه، فجاء حبر عظيم كان اسمه نسطورا فجلس مقابله ينظر إليه ولا يكلِّمه بشيء حتَّى فعل ذلك ثلاثة أيام متوالية، فلما كانت الليلة الثالثة لم يصبر حتَّى قام إليه فدار خلفه كأنه يلتمس منه شيئاً.
فقلت له: يا راهب كأنك تريد منه شيئاً؟
فقال: أجل إني أريد منه شيئاً، ما اسمه؟
قلت: مُحَمَّد بن عبد الله، فتغيَّر والله لونه، ثُمَّ قال: فترى أنْ تأمره أنْ يكشف لي عن ظهره لأنظر إليه؟
فكشف عن ظهره، فلما رأى الخاتم انكبَّ عليه يقبِّله ويبكي، ثُمَّ قال:
يا هذا أسرع بردِّ هذا الغلام إلى موضعه الذي ولد فيه، فلو تدري كم عدو له في أرضنا لم تكن بالذي تقدمه معك، فلم يزل يتعاهده في كل يوم ويحمل إليه الطعام فلما خرجنا منها أتاه بقميص من عنده، فقال له: ترى أنَّ تلبس هذا القميص ليذكرني به؟ فلم يقبله، ورأيته كارهاً لذلك، فأخذت أنا القميص مخافة أنَّ يغتمَّ، وقلت: أنا ألبسه، وعجَّلت به حتَّى رددته إلى مكة، فو الله ما بقي بمكة يومئذ امرأة ولا كهل ولا شاب ولا صغير ولا كبير إلا استقبلوه شوقاً إليه ما خلا أبو جهل لعنه الله، فإنه كان فاتكاً ماجناً قد ثمل من السكر.
صلوا على محمد وآل محمد .
للكاتب عمار ابو الحسين
شكراً
كمال الدين 1/182 – 186 ب14 ح33: حدَّثنا أحمد بن الحسن القطان وعلي بن أحمد بن مُحَمَّد ومُحَمَّد بن أحمد الشيباني، قالوا: حدَّثنا أبو العباس أحمد بن مُحَمَّد بن يحيى بن زكريا القطان، قال: حدَّثنا مُحَمَّد بن إسماعيل البرمكي، قال: حدَّثنا عبد الله بن مُحَمَّد، قال: حدَّثنا أبي، عن الهيثم، عن مُحَمَّد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب، عن أبي طالب، قال:خرجتُ إلى الشام تاجراً سنة ثمان من مولد رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وكان في أشد ما يكون من الحرِّ، فلما أجمعت على السير قال لي رجال من قومي: ما تريد أنَّ تفعل بمُحَمَّد؟ وعلى من تخلفه؟
فقلت: لا أريد أنَّ أخلِّفه على أحد من الناس، أريد أنَّ يكون معي.
فقيل: غلام صغير في حر مثل هذا تخرجه معك؟
فقلت: والله لا يفارقني حيثما توجهت أبداً، فإني لأوطِّئ له الرحل، فذهبت فحشوت له حشية [كساء وكتّاناً] وكنَّا ركباناً كثيراً، فكان والله البعير الذي عليه مُحَمَّد أمامي لا يفارقني وكان يسبق الركب كلهم، فكان إذا اشتدَّ الحرّ جاءت سحابة بيضاء مثل قطعة ثلج فتسلم عليه فتقف على رأسه ولا تفارقه، وكانت ربما أمطرت علينا السحابة بأنواع الفواكه وهي تسير معنا، وضاق الماء بنا في طريقنا حتَّى كنا لا نصيب قربة إلا بدينارين، وكنا حيثما نزلنا تمتلئ الحياض، ويكثر الماء وتخضرُّ الأرض، فكنا في كل خصب وطيب من الخير، وكان معنا قوم قد وقفت جمالهم فمشى إليها رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ومسح يده عليها فسارت، فلما قربنا من بصرى الشام إذا نحن بصومعة قد أقبلت تمشي كما تمشي الدابة السريعة حتَّى إذا قربت منا وقفت، فإذا فيها راهب، وكانت السحابة لا تفارق رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ساعة واحدة، وكان الراهب لا يكلم الناس، ولا يدري ما الركب، ولا ما فيه من التجارة، فلما نظر إلى النبيِّ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) عرفه، فسمعته يقول: إنْ كان أحد فأنت أنت.
قال: فنزلنا تحت شجرة عظيمة قريبة من الراهب قليلة الأغصان ليس لها حمل، وكانت الركبان ينزلون تحتها، فلما نزل رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) اهتزَّت الشجرة وألقت أغصانها على رسول الله وحملت من ثلاثة أنواع من الفاكهة: فاكهتان للصيف، وفاكهة للشتاء، فتعجَّب جميع من معنا من ذلك، فلما رأى بحيرى الراهب ذلك، ذهب فاتَّخذ طعاماً لرسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بقدر ما يكفيه، ثُمَّ جاء وقال: من يتولَّى أمر هذا الغلام؟
فقلت: أنا.
فقال: أي شيء تكون منه؟
فقلت: أنا عمُّه.
فقال: يا هذا إنَّ له أعماماً، فأي الأعمام أنت؟
فقلت: أنا أخو أبيه من أم واحدة.
فقال: أشهد أنَّه هو وإلا فلستُ بحيرى، ثُمَّ قال لي: يا هذا أتأذن لي أنْ أقرِّب هذا الطعام منه ليأكله؟
فقلت له: قرِّبه إليه.
ورأيته كارهاً لذلك، فالتفتُّ إلى النبيِّ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) فقلت له: يا بُنيَّ رجل أحبَّ أنْ يكرمك فكُلْ.
فقال: هو لي دون أصحابي؟
فقال بحيرى: نعم هو لك خاصَّة.
فقال النبيُّ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ): فإني لا آكل دون هؤلاء.
فقال بحيرى: إنَّه لم يكن عندي أكثر من هذا.
فقال: أفتأذن يا بحيرى إلى أنْ يأكلوا معي؟
فقال: بلى.
فقال: كلوا باسم الله، فأكل وأكلنا معه، فو الله لقد كنا مئة وسبعين رجلاً، وأكل كلُّ واحد منا حتَّى شبع وتجشَّأ، وبحيرى قائم على رأس رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) يذبُّ عنه، ويتعجَّب من كثرة الرجال وقلَّة الطعام، وفي كلِّ ساعة يقبِّل رأسه ويافوخه، ويقول: هو هوَ ورب المسيح، والناس لا يفقهون.
فقال له رجل من الركب: إنَّ لك لشأناً قد كنا نمرُّ بك قبل اليوم فلا تفعل بنا هذا البرَّ.
فقال بحيرى: والله إنَّ لي لشأناً وشأناً، وإنِّي لأرى ما لا ترون، وأعلم ما لا تعلمون، وإنَّ تحت هذه الشجرة لغلاماً لو كنتم تعلمون منه ما أعلم لحملتموه على أعناقكم حتَّى تردوه إلى وطنه، والله ما أكرمتكم إلا له، ولقد رأيتُ له – وقد أقبل – نوراً أضاء له ما بين السماء والأرض، ولقد رأيت رجالاً في أيديهم مراوح الياقوت والزبرجد يروِّحونه، وآخرين ينثرون عليه أنواع الفواكه، ثُمَّ هذه السحابة لا تفارقه، ثُمَّ صومعتي مشت إليه كما تمشي الدابة على رجلها، ثُمَّ هذه الشجرة لم تزل يابسة قليلة الأغصان وقد كثرت أغصانها واهتزَّت وحملت ثلاثة أنواع من الفواكه: فاكهتان للصيف، وفاكهة للشتاء، ثُمَّ هذه الحياض التي غارت وذهب ماؤها أيام تمرج بني إسرائيل بعد الحواريين حين وردوا عليهم، فوجدنا في كتاب شمعون الصفا أنَّه دعا عليهم فغارت وذهب ماؤها، ثُمَّ قال: متى ما رأيتم قد ظهر في هذه الحياض الماء فاعلموا أنَّه لأجل نبي يخرج في أرض تهامة مهاجراً إلى المدينة، اسمه في قومه الأمين، وفي السماء أحمد، وهو من عترة إسماعيل بن إبراهيم لصلبه، فو الله إنَّه لهو.
ثُمَّ قال بحيرى: يا غلام أسألك عن ثلاث خصال بحقِّ اللات والعزى إلا ما أخبرتنيها، فغضب رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) عند ذكر اللات والعزى، وقال: لا تسألني بهما، فوالله ما أبغضت شيئاً كبغضهما وإنَّما هما صنمان من حجارة قومي.
فقال بحيرى: هذه واحدة.
ثُمَّ قال: فبالله إلا ما أخبرتني.
فقال: سلْ عما بدا لك فإنَّك قد سألتني بإلهي وإلهك الذي ليس كمثله شيء.
فقال: أسألك عن نومك ويقظتك. فأخبره عن نومه ويقظته وأموره وجميع شأنه، فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته التي عنده، فانكبَّ عليه بحيرى فقبَّل رجليه وقال:
يا بني ما أطيبك وما أطيب ريحك؟ يا أكثر النبيِّين أتباعاً، يا من بهاء نور الدنيا من نوره، يا من بذكره تعمر المساجد، كأني بك قد قدت الأجناد والخيل الجياد، وقد تبعك العرب والعجم طوعاً وكرهاً، وكأني باللات والعزى وقد كسرتهما، وقد صار البيت العتيق لا يملكه غيرك، تضع مفاتيحه حيث تريد، كم من بطل من قريش والعرب تصرعه؟! معك مفاتيح الجنان والنيران، معك الذبح الأكبر وهلاك الأصنام، أنت الذي لا تقوم الساعة حتَّى تدخل الملوك كلها في دينك صاغرة قميئة، فلم يزل يقبِّل يديه مرَّة ورجليه مرة ويقول:
لئن أدركت زمانك لأضربنَّ بين يديك بالسيف ضرب الزند بالزند، أنت سيد ولد آدم، وسيد المرسلين، وإمام المتقين، وخام النبيِّين، والله لقد ضحكت الأرض يوم ولدت فهي ضاحكة إلى يوم القيامة، أنت دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، أنت المقدس المطهر من أنجاس الجاهلية، ثُمَّ التفت إلى أبي طالب فقال: ما يكون هذا الغلام منك؟ فإني أراك لا تفارقه.
فقال أبو طالب: هو إبني.
فقال: ما هو ابنك وما ينبغي لهذا الغلام أنْ يكون والده الذي ولده حياً ولا أمُّه.
فقال: إنَّه ابن أخي وقد مات أبوه وأمه حاملة به، وماتت أمه وهو ابن ست سنين.
فقال: صدقت هكذا هو، ولكني أرى لك أنَّ تردَّه إلى بلده عن هذا الوجه، فإنَّه ما بقي إلى ظهر الأرض يهودي ولا نصراني ولا صاحب كتاب إلا وقد علم بولادة هذا الغلام، ولئن رأوه وعرفوا منه ما قد عرفتُ أنا منه ليبغينَّه شراً، وأكثر ذلك من اليهود.
فقال أبو طالب: ولِمَ ذلك؟
قال: لأنه كائن لابن أخيك الرسالة والنبوة، ويأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى.
فقال أبو طالب: كلاَّ إنْ شاء الله، لم يكن الله ليضيِّعه.
ثُمَّ خرجنا به إلى الشام فلما قربنا من الشام رأيت والله قصور الشامات كلها قد اهتزَّت، وعلا منها نور أعظم من نور الشمس، فلما توسَّطنا الشام ما قدرنا أنْ نجوز سوق الشام من كثرة ما ازدحم الناس ينظرون إلى وجه رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وذهب الخبر إلى جميع الشامات حتَّى ما بقي فيها حبر ولا راهب إلا اجتمع إليه، فجاء حبر عظيم كان اسمه نسطورا فجلس مقابله ينظر إليه ولا يكلِّمه بشيء حتَّى فعل ذلك ثلاثة أيام متوالية، فلما كانت الليلة الثالثة لم يصبر حتَّى قام إليه فدار خلفه كأنه يلتمس منه شيئاً.
فقلت له: يا راهب كأنك تريد منه شيئاً؟
فقال: أجل إني أريد منه شيئاً، ما اسمه؟
قلت: مُحَمَّد بن عبد الله، فتغيَّر والله لونه، ثُمَّ قال: فترى أنْ تأمره أنْ يكشف لي عن ظهره لأنظر إليه؟
فكشف عن ظهره، فلما رأى الخاتم انكبَّ عليه يقبِّله ويبكي، ثُمَّ قال:
يا هذا أسرع بردِّ هذا الغلام إلى موضعه الذي ولد فيه، فلو تدري كم عدو له في أرضنا لم تكن بالذي تقدمه معك، فلم يزل يتعاهده في كل يوم ويحمل إليه الطعام فلما خرجنا منها أتاه بقميص من عنده، فقال له: ترى أنَّ تلبس هذا القميص ليذكرني به؟ فلم يقبله، ورأيته كارهاً لذلك، فأخذت أنا القميص مخافة أنَّ يغتمَّ، وقلت: أنا ألبسه، وعجَّلت به حتَّى رددته إلى مكة، فو الله ما بقي بمكة يومئذ امرأة ولا كهل ولا شاب ولا صغير ولا كبير إلا استقبلوه شوقاً إليه ما خلا أبو جهل لعنه الله، فإنه كان فاتكاً ماجناً قد ثمل من السكر.
صلوا على محمد وآل محمد .
للكاتب عمار ابو الحسين
شكراً
تعليق