الانتصار إلى الحصار
ليس الدليل على أن حياتنا الوطنية تشكو من عيوب أن تمر الذكرى الخامسة لتحرير معظم الأرض الوطنية في الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي من غير أن تعامل بما يليق بها في البلد كله. كلا ليس هذا هو الدليل. الدليل هو أن نستفيق غداة الخطاب الذي ألقاه الأمين العام ل<<حزب الله>> السيد حسن نصر الله وكأن شيئاً لم يحصل.
لو قامت الضجة ضد الخطاب لكان الأمر أفضل. ولكن أن تتجنب القوى السياسية الرئيسية التعليق والنقاش والمساجلة والتأييد والرفض فهذا يوحي أن <<مؤامرة صمت>> تُحاك هي الوجه الآخر لما نلاحظه جيداً من أن الكثيرين يعتبرون أن مسألة بخطورة سلاح <<حزب الله>> يمكن لها أن تحل ب... التدليس.
في العام ألفين، وبعد التحرير، ألقى نصر الله خطاباً في بنت جبيل. تحدث فيه عن الانتصار الشامل لكل اللبنانيين، وعن التواضع، وأورد تلك العبارة المفتاح: <<إنه نصر تاريخي يؤسس لحقبة جديدة ويشطب خلفه حقبة تاريخية ماضية>>. إنه خطاب الانتصار والوعد.
بعد خمسة أعوام، وإثر <<انتفاضة الاستقلال>>، وقبل أيام من بدء الدورة الأولى للانتخابات النيابية، ألقى نصر الله، وفي بنت جبيل أيضاً، خطاباً حذر فيه من <<أن المقاومة مستهدفة... وعلينا أن نستعد لمواجهة هذا الاستهداف>> ودعا إلى <<تحصين سياسي للمقاومة وسلاحها>>. إنه خطاب الحصار والوعيد.
خمسة أعوام هزّت العالم والمنطقة ولبنان. تغيّرت المعطيات تماماً وفي وجهة مخالفة، إلى حد بعيد، لما توقعه نصر الله، ودعا إليه، وتمنّاه، وعمل من أجله. وبكلام أدق تغيّر العالم والمنطقة والتقى ذلك برافد لبناني داخلي نقل المقاومة من حال إلى حال.
لقد تعمّد نصر الله عام 2005 تكرار ما ذكره عام 2000 من شكر لسوريا على دعمها المقاومة ودفعها ثمن ذلك. غير أن لبنان المتشكل هذه الأيام هو، بالضبط، لبنان المتحرّر من سوريا والمتجه، على الأرجح، نحو علاقات صعبة معها. لا يختصر هذا العنوان المشهد كله بالطبع ولكنه مؤشر مهم إلى مضامين التباين بين <<التحرير>> و<<الاستقلال>>.
ليس الحزب مسؤولاً عن الوضع الذي يرسو عليه البلد. لقد أوجدت الانقلابات العاصفة في العالم والمنطقة المناخ العام. إلا أن <<الأخطاء>> الفادحة التي ارتكبها حلفاء الحزب، أو بعضهم، في سوريا ولبنان، ارتدت عليهم وعليه وفرضت، بالتالي، على خطاب 2005 أن يكون متشائماً بقدر ما كان خطاب 2000 متفائلاً.
يتوجب، ربما، أن نعود بعض الشيء إلى الوراء. كلا، لم يعش لبنان قبل التحرير إجماعاً حول المقاومة وما تعنيه من خيار إقليمي، وكذلك فإن الإنجاز نفسه استقبل بتفاوت ملحوظ وصل في حده الأقصى إلى اعتباره غلبة في حرب أهلية تدور بالواسطة. ولم يكن التحرير حاضراً بقوة في انتخابات عام 2000 في حين يحذر نصر الله أنه سيكون كذلك في انتخابات 2005 لكن بمنطق ثأري. والتطورات الداخلية التي حصلت منذ ذلك الوقت مهّدت لما هو جار الآن علماً أن ذلك لم يكن ليحصل لولا التحولات الدراماتيكية في السياستين الأميركية والإسرائيلية ولولا الخيارات الكارثية التي اتخذت في معرض الرد عليهما.
يبقى أننا، اليوم، أمام ما نحن عليه. إنه من باب تحصيل الحاصل القول إن المقاومة مستهدفة. لا يكف المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون والغربيون عن تكرار ذلك ويترجّع صدى تصريحاتهم في لبنان. ووسائل الاستهداف عديدة. تبدأ بالاستفادة القصوى من ارتكابات حلفاء الحزب. وتمر في السعي المحموم إلى <<تجويف>> الوضع اللبناني عبر الانتخابات. غير أنها تسلك دروباً أخرى. منها، مثلاً، أننا نشهد مراجعة تحريفية للثلاثين سنة الماضية. لقد تحدث بعضهم عن <<حروب الآخرين>>
وكان يقصد حروب الإسرائيليين والفلسطينيين والسوريين (وغيرهم) <<فوق أرضنا>>. ولكن الترجمة الأولى لذلك قصرت <<الآخرين>> على الإسرائيليين والفلسطينيين. كان ذلك زمن النفوذ السوري. أما اليوم فيراد لنا أن نقتنع بأن الثلاثين سنة الماضية كانت كناية عن عدوان سوري مستمر على لبنان!
إن العبث بالذاكرة هو تغطية لسياسات معينة ومشبوهة. والقصد الواضح هو استئناف الصراع على مضمون الوطنية اللبنانية. فإذا كان التحرير يضعها في مواجهة إسرائيل فإن <<الاستقلال>> يحاول وضعها، حصراً، في مواجهة العروبة وفي تناقض مع سوريا. والواضح أن القصد من ترسيخ هذه <<اللبنانوية>> فتح ملف المقاومة بسرعة، ملف المقاومة لا ملف السلاح فقط، لأنها واحدة من قوى التأشير في الاتجاه المعاكس.
ويترافق مع هذا العبث تقديم وعود ومغريات ترافق دخول لبنان مرحلة الخضوع للوصاية الأجنبية. ويمتد ذلك من إعادة بناء الجيش وصولاً إلى العون الاقتصادي والوعد الديموقراطي. إن هذه الوعود ستوضع، على الأرجح، في سلة واحدة مع القرارات الدولية وأبرزها 1559 بحيث يكون على لبنان الجديد أن يختار بين طريقين: المروق على الشرعية الدولية ومعه الفقر والتوتر والحروب والصراعات، أو احترام الشرعية الدولية ومعه الازدهار، والاستقرار، والسلام، والحياد.
يمكن الاستطراد في استعراض عناصر الضغط المصاحبة لدخول لبنان العهد الجديد. والواضح أنها أسفرت، حتى الآن، عن استقرار الخطاب السياسي الخاص بمستقبل المقاومة عند موقف من حدين: لا بد من حوار حول سلاح <<حزب الله>>، أو لا بد من حوار لنزع سلاح <<حزب الله>>. وقد أضاف وليد جنبلاط في كلمته في بنت جبيل <<إذا لزم الأمر>> إلى فكرة الحوار. وهذه الإضافة، على أهميتها، لا تلغي أن دول الوصاية، وإسرائيل طبعاً، ستجعل الأمر لازماً بالضرورة.
إن ما فعله نصر الله هو رمي كرة النار في وجه الجميع. فالحوار، في رأيه، هو حول سبيل حماية لبنان من إسرائيل والتمسك بقوة الردع. ويعني ذلك أن الحزب باق على سلاحه مهما كانت الصيغة الجديدة لثنائية الدولة المقاومة. ويفترض، بناء على ذلك، التقدم خطوات إلى الأمام على صعيد بلورة المواقف من هذه النقطة الحساسة.
الواضح أن <<التقدم>> لم يحصل. ربما كان ذلك لأسباب انتخابية. ولكن متابعة دقيقة للأطروحات كلها تفيد أن الداعين إلى الحوار لا ينطقون بكلمة حول المخرج إذا تعثر الحوار، كما أن الداعين إلى نزع السلاح لا يكلفون أنفسهم عناء توضيح كيفية ذلك.
إن في لبنان كثيرين يعتقدون أن سلاح الحزب سيسقط مثل ثمرة ناضجة وأن حسن نصر الله إنما كان يمازحهم عندما قال ما قاله.
ليس الدليل على أن حياتنا الوطنية تشكو من عيوب أن تمر الذكرى الخامسة لتحرير معظم الأرض الوطنية في الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي من غير أن تعامل بما يليق بها في البلد كله. كلا ليس هذا هو الدليل. الدليل هو أن نستفيق غداة الخطاب الذي ألقاه الأمين العام ل<<حزب الله>> السيد حسن نصر الله وكأن شيئاً لم يحصل.
لو قامت الضجة ضد الخطاب لكان الأمر أفضل. ولكن أن تتجنب القوى السياسية الرئيسية التعليق والنقاش والمساجلة والتأييد والرفض فهذا يوحي أن <<مؤامرة صمت>> تُحاك هي الوجه الآخر لما نلاحظه جيداً من أن الكثيرين يعتبرون أن مسألة بخطورة سلاح <<حزب الله>> يمكن لها أن تحل ب... التدليس.
في العام ألفين، وبعد التحرير، ألقى نصر الله خطاباً في بنت جبيل. تحدث فيه عن الانتصار الشامل لكل اللبنانيين، وعن التواضع، وأورد تلك العبارة المفتاح: <<إنه نصر تاريخي يؤسس لحقبة جديدة ويشطب خلفه حقبة تاريخية ماضية>>. إنه خطاب الانتصار والوعد.
بعد خمسة أعوام، وإثر <<انتفاضة الاستقلال>>، وقبل أيام من بدء الدورة الأولى للانتخابات النيابية، ألقى نصر الله، وفي بنت جبيل أيضاً، خطاباً حذر فيه من <<أن المقاومة مستهدفة... وعلينا أن نستعد لمواجهة هذا الاستهداف>> ودعا إلى <<تحصين سياسي للمقاومة وسلاحها>>. إنه خطاب الحصار والوعيد.
خمسة أعوام هزّت العالم والمنطقة ولبنان. تغيّرت المعطيات تماماً وفي وجهة مخالفة، إلى حد بعيد، لما توقعه نصر الله، ودعا إليه، وتمنّاه، وعمل من أجله. وبكلام أدق تغيّر العالم والمنطقة والتقى ذلك برافد لبناني داخلي نقل المقاومة من حال إلى حال.
لقد تعمّد نصر الله عام 2005 تكرار ما ذكره عام 2000 من شكر لسوريا على دعمها المقاومة ودفعها ثمن ذلك. غير أن لبنان المتشكل هذه الأيام هو، بالضبط، لبنان المتحرّر من سوريا والمتجه، على الأرجح، نحو علاقات صعبة معها. لا يختصر هذا العنوان المشهد كله بالطبع ولكنه مؤشر مهم إلى مضامين التباين بين <<التحرير>> و<<الاستقلال>>.
ليس الحزب مسؤولاً عن الوضع الذي يرسو عليه البلد. لقد أوجدت الانقلابات العاصفة في العالم والمنطقة المناخ العام. إلا أن <<الأخطاء>> الفادحة التي ارتكبها حلفاء الحزب، أو بعضهم، في سوريا ولبنان، ارتدت عليهم وعليه وفرضت، بالتالي، على خطاب 2005 أن يكون متشائماً بقدر ما كان خطاب 2000 متفائلاً.
يتوجب، ربما، أن نعود بعض الشيء إلى الوراء. كلا، لم يعش لبنان قبل التحرير إجماعاً حول المقاومة وما تعنيه من خيار إقليمي، وكذلك فإن الإنجاز نفسه استقبل بتفاوت ملحوظ وصل في حده الأقصى إلى اعتباره غلبة في حرب أهلية تدور بالواسطة. ولم يكن التحرير حاضراً بقوة في انتخابات عام 2000 في حين يحذر نصر الله أنه سيكون كذلك في انتخابات 2005 لكن بمنطق ثأري. والتطورات الداخلية التي حصلت منذ ذلك الوقت مهّدت لما هو جار الآن علماً أن ذلك لم يكن ليحصل لولا التحولات الدراماتيكية في السياستين الأميركية والإسرائيلية ولولا الخيارات الكارثية التي اتخذت في معرض الرد عليهما.
يبقى أننا، اليوم، أمام ما نحن عليه. إنه من باب تحصيل الحاصل القول إن المقاومة مستهدفة. لا يكف المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون والغربيون عن تكرار ذلك ويترجّع صدى تصريحاتهم في لبنان. ووسائل الاستهداف عديدة. تبدأ بالاستفادة القصوى من ارتكابات حلفاء الحزب. وتمر في السعي المحموم إلى <<تجويف>> الوضع اللبناني عبر الانتخابات. غير أنها تسلك دروباً أخرى. منها، مثلاً، أننا نشهد مراجعة تحريفية للثلاثين سنة الماضية. لقد تحدث بعضهم عن <<حروب الآخرين>>
وكان يقصد حروب الإسرائيليين والفلسطينيين والسوريين (وغيرهم) <<فوق أرضنا>>. ولكن الترجمة الأولى لذلك قصرت <<الآخرين>> على الإسرائيليين والفلسطينيين. كان ذلك زمن النفوذ السوري. أما اليوم فيراد لنا أن نقتنع بأن الثلاثين سنة الماضية كانت كناية عن عدوان سوري مستمر على لبنان!
إن العبث بالذاكرة هو تغطية لسياسات معينة ومشبوهة. والقصد الواضح هو استئناف الصراع على مضمون الوطنية اللبنانية. فإذا كان التحرير يضعها في مواجهة إسرائيل فإن <<الاستقلال>> يحاول وضعها، حصراً، في مواجهة العروبة وفي تناقض مع سوريا. والواضح أن القصد من ترسيخ هذه <<اللبنانوية>> فتح ملف المقاومة بسرعة، ملف المقاومة لا ملف السلاح فقط، لأنها واحدة من قوى التأشير في الاتجاه المعاكس.
ويترافق مع هذا العبث تقديم وعود ومغريات ترافق دخول لبنان مرحلة الخضوع للوصاية الأجنبية. ويمتد ذلك من إعادة بناء الجيش وصولاً إلى العون الاقتصادي والوعد الديموقراطي. إن هذه الوعود ستوضع، على الأرجح، في سلة واحدة مع القرارات الدولية وأبرزها 1559 بحيث يكون على لبنان الجديد أن يختار بين طريقين: المروق على الشرعية الدولية ومعه الفقر والتوتر والحروب والصراعات، أو احترام الشرعية الدولية ومعه الازدهار، والاستقرار، والسلام، والحياد.
يمكن الاستطراد في استعراض عناصر الضغط المصاحبة لدخول لبنان العهد الجديد. والواضح أنها أسفرت، حتى الآن، عن استقرار الخطاب السياسي الخاص بمستقبل المقاومة عند موقف من حدين: لا بد من حوار حول سلاح <<حزب الله>>، أو لا بد من حوار لنزع سلاح <<حزب الله>>. وقد أضاف وليد جنبلاط في كلمته في بنت جبيل <<إذا لزم الأمر>> إلى فكرة الحوار. وهذه الإضافة، على أهميتها، لا تلغي أن دول الوصاية، وإسرائيل طبعاً، ستجعل الأمر لازماً بالضرورة.
إن ما فعله نصر الله هو رمي كرة النار في وجه الجميع. فالحوار، في رأيه، هو حول سبيل حماية لبنان من إسرائيل والتمسك بقوة الردع. ويعني ذلك أن الحزب باق على سلاحه مهما كانت الصيغة الجديدة لثنائية الدولة المقاومة. ويفترض، بناء على ذلك، التقدم خطوات إلى الأمام على صعيد بلورة المواقف من هذه النقطة الحساسة.
الواضح أن <<التقدم>> لم يحصل. ربما كان ذلك لأسباب انتخابية. ولكن متابعة دقيقة للأطروحات كلها تفيد أن الداعين إلى الحوار لا ينطقون بكلمة حول المخرج إذا تعثر الحوار، كما أن الداعين إلى نزع السلاح لا يكلفون أنفسهم عناء توضيح كيفية ذلك.
إن في لبنان كثيرين يعتقدون أن سلاح الحزب سيسقط مثل ثمرة ناضجة وأن حسن نصر الله إنما كان يمازحهم عندما قال ما قاله.