سنّة لبنان: قراءة من "الداخل"
ليس اغتيال رفيق الحريري حدثا بلا سياق، ولأنه كذلك فلم يكن صدفة ان تتوجه الشكوك في اتجاه رؤوس "النظام الامني" في لبنان إن تقصيراً او تورطا او تواطؤاً. وقد شعر سنّة لبنان منذ لحظة الاغتيال الاولى بأنهم مستهدفون في الصميم، وقد عبّر عن ذلك بيان دار الفتوى بوضوح، فالحادث المفجع حرّك في الذاكرة السنية "المواجع" ودفع بالمشاعر "المكبوتة" الى العلن.
وفي الحقيقة لا يمكن فهم هذه "الانتفاضة" التي انفجرت في الشارع السني ردا على الاغتيال بدون التوقف بالتحليل عند النظرة الى "الذات" ومقاربة "الدور" الذي يتصوره سنّة لبنان لأنفسهم وعلاقتهم بشركائهم في الوطن. فهم منذ البداية لا يعتبرون انفسهم طائفة او ابناء مذهب ويرفضون هذه التصنيفات المذهبية، فهم مسلمون، بل هم "اهل السنة والجماعة" ووجودهم في لبنان يرقى الى الفتوحات ايام عمر بن الخطاب، بل ان الوجود العربي يعود الى ما قبل الفتح الاسلامي، وهم في لبنان سكنوا السواحل ورابطوا في "الثغور" والمدن وكان لهذا الامر اثر بالغ في تكوين شخصيتهم وفي تأسيس بنيتهم المعرفية.
ولا يخفى ما لسكان الثغور في كل العالم الاسلامي من دور وفضل واجر وتزكية في الجهاد، فهم خط الدفاع الاول عن العمق، وهذا يفرض عليهم الاستنفار واليقظة الدائمين، كما ان احتكاكهم الدائم بالغزاة اكسبهم المراس والخبرة اللازمة للمواجهة فضلا عن الاستعداد للتضحية والفداء والصبر. وهذا ما جعل سكان الثغور، وبينهم سنّة لبنان، ينظرون الى مسؤوليتهم باعتبارها تتجاوز الجانب الجهادي ببعده المادي لتطاول حراسة العقيدة والدعوة لها، وهذا ما اعتبروه دوما مسؤولية تاريخية يتطلب اداؤها شعورا عاليا بالفخر والايمان والاعتزاز بالهوية والدور.
الا ان الوجه الآخر للصورة يتجلى في ان سعيهم في المدن والسواحل، جعلهم مع الايام اكثر انفتاحا على "الآخر" واعمق اهتماما به، واكثر مرونة في التعامل معه بحكم الاختلاط والتعامل والتعارف مع عالم البحار وما وراءه. فالتجارة وروابط العلاقة الاقتصادية والتعامل الخدماتي والذهنية المدينية جعلت عروبتهم اكثر عقلانية وواقعية، بل اكثر تكيفا واستيعابا وحداثة، وجعلت ايمانهم اكثر تفتحاً واسلامهم اكثر تسامحا وقبولا للآخر، اسلاما مدينيا حضاريا يرسي دعائم العيش المشترك (...).
هذه الصورة المزدوجة الجهادية والمدينية لا تعبر عن انشطار في الشخصية السنية اللبنانية، بقدر ما ترسم حقيقة الاشكالية وحدودها المعرفية في اتجاه ولادة ما يمكن ان نسميه "الذهنية السنية المدينية". انها صورة شخصية تكونت من معطى "العقيدة" وواقع "الدور"، فاحتوى احدهما الآخر وذاب فيه لتتشكل هوية حضارية جديدة في اطار من الانتماء الجامع للعروبة والحداثة معا.
وعلى خلفية هذه الصورة يمكن تحليل مجمل المواقف والاتجاهات العامة للشارع السني عموما وقياداته على وجه الخصوص. انه الشارع الذي يحمل شعور الاكثرية ويلعب دور "الجماعة المركزية" في الدفاع عن الامة والهوية، وعن الدور "التاريخي" لذلك هو اكثر تحررا من هواجس الشعور الاقلوي وما ينتج عنه من خوف وقلق وريبة تجاه الآخر. انه متحرر الى حد ما من عوارض "فوبيا الاقليات" التي تفتقر الى شعور "الامان الجمعي" وينتابها رهاب الذوبان او الاندماج وخاصة في المجتمعات التي تعاني نقص الديموقراطية وتفتقر الى ذهنيات المجتمع المدني وحقوق المواطنة ومؤسساتها.
السنّة ولبنان
ليس من الانصاف القفز فوق المعطيات السوسيولوجية لجماعة ما، بل من الجهل قراءة تاريخ اي جماعة دون تحليل واقعها الاجتماعي والاقتصادي وبنيتها المعرفية والثقافية، فهذه المعطيات بالنسبة لأي "جماعة" هي بمثابة مصادر مرجعية لها دور حاسم في توجيه السلوك تجاه الوقائع والاحداث وتحديده. ولذلك لم يكن طبيعيا ان يقبل سنّة لبنان بسهولة "اعلان لبنان الكبير"، فقد كان حلم الوحدة لا يزال "ساخنا"، وكانت عروبتهم هي السياق الحضاري لوجودهم التاريخي في هذه المنطقة.
لكنهم مع بزوغ "الدولة الوطنية" في المنطقة وقيام ما كان يسمى "الكيانات" قبلوا الانخراط في المشروع الوطني اللبناني وكان قبولهم صادقا وكان اندراجهم في بنية الدولة تعبيراً عن شراكة اقتنعوا بها ولم يفرضها احد بالقوة والقهر. وهذه حقيقة لا ينكرها احد، بل ان هذا الرضى والقبول تحولا انتماء حقيقيا عبرت عنه مصالح وقوى وطبقات ونخب صنعت بشراكتها الحقيقية مع ابناء الوطن استقلال لبنان.
كذلك ليس خارجا عن سياق الاجتماع اللبناني ان يقف سنّة لبنان متضامنين مع كل القضايا العربية بدءا بانخراطهم المكثف في "جيش الانقاذ العربي" الذي قاده فوزي القاوقجي ابن طرابلس والمكلف من جامعة الدول العربية الدفاع عن فلسطين وصولا الى وقفتهم الصارمة ضد انحياز لبنان الرسمي الى سياسة المحاور والاحلاف عام 1958 في مواجهة القيادة الناصرية حينها.
بل ان انخراطهم في مشروع الدولة لم يعن لهم يوما الانسلاخ عن العروبة ولم يروا فيه تناقضا مع الالتزامات الوطنية التي يفرضها الولاء للبنان والانتماء اليه، وهؤلاء رفضوا التشكيك به او الانتقاص منه او المزايدة عليه، كما كان يفعل اصحاب النظريات الفينيقية. هكذا ترجموا انخراطهم في مشروع الدولة مع رياض الصلح ثم مع عبد الحميد كرامي، لكن العقلية التي حكمت لبنان والتي هيمن عليها منطق الامتيازات الطائفية جعلت السنّة يتجهون نحو المطالبة السلمية والصبورة بالاصلاح ورفع "الغبن" و"المشاركة" في مواجهة شعارات من نوع آخر مثل "الخوف" من ضياع هوية لبنان او ذوبانه في محيطه وفقدانه خصوصيته.
وكان ما يعمق هذا الشعور بالغبن هو استقالة الدولة من واجباتها الاجتماعية والانمائية في المناطق والاطراف، والتي تم التعامل معها كملحقات، مما ادى الى نشوء بنية اقتصادية شديدة المركزية اهملت المحافظات ونظرت اليها كمناطق من الدرجة الثانية، وعميقة التفاوت على المستوى الاجتماعي والاقتصادي كما عبّر بوضوح تقرير بعثة "ايرفد" في الستينات.
وفي الواقع لا احد يستطيع ان ينكر ان الحرمان والفقر هما الحليف الطبيعي للعنف والكراهية وهما البيئة المناسبة لها، وهو ما يفسّر خروج حالات من الرفض والتطرف المغالية في بعض "هوامش" المدن الاكثر فقرا وحرمانا، التي عبرت عن نفسها بحركات وتنظيمات اصولية تارة او صوفية تارة اخرى.
في هذه الاحياء ترعرعت القواعد الشعبية للاحزاب العروبية التي استعادت من التعاطف الاسلامي السني الذي جعل كل قضايا العرب امتدادا قوميا له، بدءا بحركة التحرير الجزائرية الى العدوان الثلاثي وانتهائه بهزيمة عام 1967 وانبثاق المقاومة الفلسطينية التي اشعلت الحماسة واعادت شحن الذاكرة السنية بامكانات المقاومة.
استفاد الفلسطينيون من هذه النزعة المتأصلة في سنّة لبنان، فعملوا على توظيفها لحماية ثورتهم فارتكبوا ما ارتكبوه، ومع ذلك لم يطعن السنّة هذه المقاومة، واتهم من طالب منهم بضبط التجاوزات، في عروبته ورُجم بالخيانة. استفاد السوريون ايضا من هذه النزعة العربية المتأصلة، وعملوا على توظيفها لحماية وجودهم في لبنان واطالته، واتهم كل من طالبهم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية بعروبته ورُجم بالخيانة والعمالة. وهي اقسى ما يمكن ان يرمى به العروبي السني اللبناني.
وفي الحالتين دفع السنّة ضريبة عروبتهم، فانتهكت مدنهم واستبيحت قراهم، وخرّبت مؤسساتهم واستضعف قادتهم او هجّروا او نفيوا او اغتيلوا (رشيد كرامي رفيق الحريري، المفتي حسن خالد، الشيخ الدكتور صبحي الصالح، النائب ناظم القادري، الشيخ احمد عساف...)، ويكفي تذكر جراح طرابلس وشهدائها واستباحتها عامي (1985 – 1986).
وفي خضّم الحرب نشأت الميليشيات الاكثر "تطيّفاً" واتجهت مختلف الطوائف نحو المزيد من "العسكرة". الا ان سنّة لبنان لم ينخرطوا في لعبة العسكرة هذه، فلم ينشئوا ميليشيا رغم المحاولات هنا وهناك والتي بقيت متواضعة نسبة الى ما كان سائداً في ساحات اخرى، وابرزها كانت تجربة "حركة التوحيد" الاسلامية في طرابلس والتي قمعت بعنف وقسوة، من السوريين وحلفائهم واضطهد اعضاؤها وتشتتوا بين السجون والمنافي. ومع ذلك يمكن القول ان البيئة السنية لم تشهد تأطيراً مذهبياً تنظيمياً، فقد بقي الاعتدال هو المسيطر رغم انتشار التطرف السلفي والاصولي في العالم الاسلامي.
ولم يكن هذا الابتعاد عن نهج "العسكرة" او التموضع في اطر تنظيمية مذهبية تعففاً فارغاً او حالة من حالات الضعف او التعاون، بقدر ما كان نتيجة عنصر خارجي منعهم او أجهض بعض المحاولات الجادة لاطلاق حالة سنية سياسية او عسكرية لاسباب تتعلق بتركيب البنى السياسية العربية المحيطة بلبنان. الا أن هذا لم يكن ليمنع سنّة لبنان من التوّحد في مشروع تنظيمي لو ارادت قواه الاساسية ذلك. هذه القوى لم تنظر بحماسة الى مثل هذا المشروع لاقتناعها فعلاً بوحدة لبنان ورهانها على مشروع الدولة التوحيدي. ويكفي متابعة مواقف القيادات السنية خلال الحرب بدءاً بالشهيدين المفتي حسن خالد ورشيد كرامي، الى صائب سلام وسليم الحص، وصولاً الى رفيق الحريري.
ليس اغتيال رفيق الحريري حدثا بلا سياق، ولأنه كذلك فلم يكن صدفة ان تتوجه الشكوك في اتجاه رؤوس "النظام الامني" في لبنان إن تقصيراً او تورطا او تواطؤاً. وقد شعر سنّة لبنان منذ لحظة الاغتيال الاولى بأنهم مستهدفون في الصميم، وقد عبّر عن ذلك بيان دار الفتوى بوضوح، فالحادث المفجع حرّك في الذاكرة السنية "المواجع" ودفع بالمشاعر "المكبوتة" الى العلن.
وفي الحقيقة لا يمكن فهم هذه "الانتفاضة" التي انفجرت في الشارع السني ردا على الاغتيال بدون التوقف بالتحليل عند النظرة الى "الذات" ومقاربة "الدور" الذي يتصوره سنّة لبنان لأنفسهم وعلاقتهم بشركائهم في الوطن. فهم منذ البداية لا يعتبرون انفسهم طائفة او ابناء مذهب ويرفضون هذه التصنيفات المذهبية، فهم مسلمون، بل هم "اهل السنة والجماعة" ووجودهم في لبنان يرقى الى الفتوحات ايام عمر بن الخطاب، بل ان الوجود العربي يعود الى ما قبل الفتح الاسلامي، وهم في لبنان سكنوا السواحل ورابطوا في "الثغور" والمدن وكان لهذا الامر اثر بالغ في تكوين شخصيتهم وفي تأسيس بنيتهم المعرفية.
ولا يخفى ما لسكان الثغور في كل العالم الاسلامي من دور وفضل واجر وتزكية في الجهاد، فهم خط الدفاع الاول عن العمق، وهذا يفرض عليهم الاستنفار واليقظة الدائمين، كما ان احتكاكهم الدائم بالغزاة اكسبهم المراس والخبرة اللازمة للمواجهة فضلا عن الاستعداد للتضحية والفداء والصبر. وهذا ما جعل سكان الثغور، وبينهم سنّة لبنان، ينظرون الى مسؤوليتهم باعتبارها تتجاوز الجانب الجهادي ببعده المادي لتطاول حراسة العقيدة والدعوة لها، وهذا ما اعتبروه دوما مسؤولية تاريخية يتطلب اداؤها شعورا عاليا بالفخر والايمان والاعتزاز بالهوية والدور.
الا ان الوجه الآخر للصورة يتجلى في ان سعيهم في المدن والسواحل، جعلهم مع الايام اكثر انفتاحا على "الآخر" واعمق اهتماما به، واكثر مرونة في التعامل معه بحكم الاختلاط والتعامل والتعارف مع عالم البحار وما وراءه. فالتجارة وروابط العلاقة الاقتصادية والتعامل الخدماتي والذهنية المدينية جعلت عروبتهم اكثر عقلانية وواقعية، بل اكثر تكيفا واستيعابا وحداثة، وجعلت ايمانهم اكثر تفتحاً واسلامهم اكثر تسامحا وقبولا للآخر، اسلاما مدينيا حضاريا يرسي دعائم العيش المشترك (...).
هذه الصورة المزدوجة الجهادية والمدينية لا تعبر عن انشطار في الشخصية السنية اللبنانية، بقدر ما ترسم حقيقة الاشكالية وحدودها المعرفية في اتجاه ولادة ما يمكن ان نسميه "الذهنية السنية المدينية". انها صورة شخصية تكونت من معطى "العقيدة" وواقع "الدور"، فاحتوى احدهما الآخر وذاب فيه لتتشكل هوية حضارية جديدة في اطار من الانتماء الجامع للعروبة والحداثة معا.
وعلى خلفية هذه الصورة يمكن تحليل مجمل المواقف والاتجاهات العامة للشارع السني عموما وقياداته على وجه الخصوص. انه الشارع الذي يحمل شعور الاكثرية ويلعب دور "الجماعة المركزية" في الدفاع عن الامة والهوية، وعن الدور "التاريخي" لذلك هو اكثر تحررا من هواجس الشعور الاقلوي وما ينتج عنه من خوف وقلق وريبة تجاه الآخر. انه متحرر الى حد ما من عوارض "فوبيا الاقليات" التي تفتقر الى شعور "الامان الجمعي" وينتابها رهاب الذوبان او الاندماج وخاصة في المجتمعات التي تعاني نقص الديموقراطية وتفتقر الى ذهنيات المجتمع المدني وحقوق المواطنة ومؤسساتها.
السنّة ولبنان
ليس من الانصاف القفز فوق المعطيات السوسيولوجية لجماعة ما، بل من الجهل قراءة تاريخ اي جماعة دون تحليل واقعها الاجتماعي والاقتصادي وبنيتها المعرفية والثقافية، فهذه المعطيات بالنسبة لأي "جماعة" هي بمثابة مصادر مرجعية لها دور حاسم في توجيه السلوك تجاه الوقائع والاحداث وتحديده. ولذلك لم يكن طبيعيا ان يقبل سنّة لبنان بسهولة "اعلان لبنان الكبير"، فقد كان حلم الوحدة لا يزال "ساخنا"، وكانت عروبتهم هي السياق الحضاري لوجودهم التاريخي في هذه المنطقة.
لكنهم مع بزوغ "الدولة الوطنية" في المنطقة وقيام ما كان يسمى "الكيانات" قبلوا الانخراط في المشروع الوطني اللبناني وكان قبولهم صادقا وكان اندراجهم في بنية الدولة تعبيراً عن شراكة اقتنعوا بها ولم يفرضها احد بالقوة والقهر. وهذه حقيقة لا ينكرها احد، بل ان هذا الرضى والقبول تحولا انتماء حقيقيا عبرت عنه مصالح وقوى وطبقات ونخب صنعت بشراكتها الحقيقية مع ابناء الوطن استقلال لبنان.
كذلك ليس خارجا عن سياق الاجتماع اللبناني ان يقف سنّة لبنان متضامنين مع كل القضايا العربية بدءا بانخراطهم المكثف في "جيش الانقاذ العربي" الذي قاده فوزي القاوقجي ابن طرابلس والمكلف من جامعة الدول العربية الدفاع عن فلسطين وصولا الى وقفتهم الصارمة ضد انحياز لبنان الرسمي الى سياسة المحاور والاحلاف عام 1958 في مواجهة القيادة الناصرية حينها.
بل ان انخراطهم في مشروع الدولة لم يعن لهم يوما الانسلاخ عن العروبة ولم يروا فيه تناقضا مع الالتزامات الوطنية التي يفرضها الولاء للبنان والانتماء اليه، وهؤلاء رفضوا التشكيك به او الانتقاص منه او المزايدة عليه، كما كان يفعل اصحاب النظريات الفينيقية. هكذا ترجموا انخراطهم في مشروع الدولة مع رياض الصلح ثم مع عبد الحميد كرامي، لكن العقلية التي حكمت لبنان والتي هيمن عليها منطق الامتيازات الطائفية جعلت السنّة يتجهون نحو المطالبة السلمية والصبورة بالاصلاح ورفع "الغبن" و"المشاركة" في مواجهة شعارات من نوع آخر مثل "الخوف" من ضياع هوية لبنان او ذوبانه في محيطه وفقدانه خصوصيته.
وكان ما يعمق هذا الشعور بالغبن هو استقالة الدولة من واجباتها الاجتماعية والانمائية في المناطق والاطراف، والتي تم التعامل معها كملحقات، مما ادى الى نشوء بنية اقتصادية شديدة المركزية اهملت المحافظات ونظرت اليها كمناطق من الدرجة الثانية، وعميقة التفاوت على المستوى الاجتماعي والاقتصادي كما عبّر بوضوح تقرير بعثة "ايرفد" في الستينات.
وفي الواقع لا احد يستطيع ان ينكر ان الحرمان والفقر هما الحليف الطبيعي للعنف والكراهية وهما البيئة المناسبة لها، وهو ما يفسّر خروج حالات من الرفض والتطرف المغالية في بعض "هوامش" المدن الاكثر فقرا وحرمانا، التي عبرت عن نفسها بحركات وتنظيمات اصولية تارة او صوفية تارة اخرى.
في هذه الاحياء ترعرعت القواعد الشعبية للاحزاب العروبية التي استعادت من التعاطف الاسلامي السني الذي جعل كل قضايا العرب امتدادا قوميا له، بدءا بحركة التحرير الجزائرية الى العدوان الثلاثي وانتهائه بهزيمة عام 1967 وانبثاق المقاومة الفلسطينية التي اشعلت الحماسة واعادت شحن الذاكرة السنية بامكانات المقاومة.
استفاد الفلسطينيون من هذه النزعة المتأصلة في سنّة لبنان، فعملوا على توظيفها لحماية ثورتهم فارتكبوا ما ارتكبوه، ومع ذلك لم يطعن السنّة هذه المقاومة، واتهم من طالب منهم بضبط التجاوزات، في عروبته ورُجم بالخيانة. استفاد السوريون ايضا من هذه النزعة العربية المتأصلة، وعملوا على توظيفها لحماية وجودهم في لبنان واطالته، واتهم كل من طالبهم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية بعروبته ورُجم بالخيانة والعمالة. وهي اقسى ما يمكن ان يرمى به العروبي السني اللبناني.
وفي الحالتين دفع السنّة ضريبة عروبتهم، فانتهكت مدنهم واستبيحت قراهم، وخرّبت مؤسساتهم واستضعف قادتهم او هجّروا او نفيوا او اغتيلوا (رشيد كرامي رفيق الحريري، المفتي حسن خالد، الشيخ الدكتور صبحي الصالح، النائب ناظم القادري، الشيخ احمد عساف...)، ويكفي تذكر جراح طرابلس وشهدائها واستباحتها عامي (1985 – 1986).
وفي خضّم الحرب نشأت الميليشيات الاكثر "تطيّفاً" واتجهت مختلف الطوائف نحو المزيد من "العسكرة". الا ان سنّة لبنان لم ينخرطوا في لعبة العسكرة هذه، فلم ينشئوا ميليشيا رغم المحاولات هنا وهناك والتي بقيت متواضعة نسبة الى ما كان سائداً في ساحات اخرى، وابرزها كانت تجربة "حركة التوحيد" الاسلامية في طرابلس والتي قمعت بعنف وقسوة، من السوريين وحلفائهم واضطهد اعضاؤها وتشتتوا بين السجون والمنافي. ومع ذلك يمكن القول ان البيئة السنية لم تشهد تأطيراً مذهبياً تنظيمياً، فقد بقي الاعتدال هو المسيطر رغم انتشار التطرف السلفي والاصولي في العالم الاسلامي.
ولم يكن هذا الابتعاد عن نهج "العسكرة" او التموضع في اطر تنظيمية مذهبية تعففاً فارغاً او حالة من حالات الضعف او التعاون، بقدر ما كان نتيجة عنصر خارجي منعهم او أجهض بعض المحاولات الجادة لاطلاق حالة سنية سياسية او عسكرية لاسباب تتعلق بتركيب البنى السياسية العربية المحيطة بلبنان. الا أن هذا لم يكن ليمنع سنّة لبنان من التوّحد في مشروع تنظيمي لو ارادت قواه الاساسية ذلك. هذه القوى لم تنظر بحماسة الى مثل هذا المشروع لاقتناعها فعلاً بوحدة لبنان ورهانها على مشروع الدولة التوحيدي. ويكفي متابعة مواقف القيادات السنية خلال الحرب بدءاً بالشهيدين المفتي حسن خالد ورشيد كرامي، الى صائب سلام وسليم الحص، وصولاً الى رفيق الحريري.