عبء العروبة والوعي الشقي
ليس هذا الوعي الاشكالي طارئاً في الذاكرة السنية، فهم عايشوا هذا النوع من الوعي الملتبس يوم وجدوا انفسهم بين خيار القبول بالاستبداد العثماني لمواجهة الاستعمار والتدخل الاجنبي، خاصة بعد ان راح هذا الاستبداد يتستر اكثر فأكثر بعباءة الاسلام وشعار الخلافة، ومع ذلك وقفوا الى جانب عروبتهم يوم وصلت طلائع الجيش العربي بقيادة فيصل الى دمشق.
وهم عايشوا هذا النوع من الوعي الشقي ايضاً يوم فرض عليهم الخيار بين لبنان الجنرال غورو وحلم الوحدة، فاختاروا لبنان رياض الصلح وعبد الحميد كرامي وبشاره الخوري. كذلك يوم فرض عليهم الخيار بين كميل شمعون ونهج الاحلاف ودولة الوحدة وعبد الناصر فاختاروا بعد "الثورة" فؤاد شهاب، وهم وجدوا انفسهم ايضاً امام الاختيار الصعب بين المقاومة الفلسطينية والحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع فاختاروا الاثنين، واستمروا في خيار المقاومة الى أن طُرد الاحتلال الصهيوني من الجنوب مطلع الالفية الجديدة.
وهم منذ ذلك الحين يجدون انفسهم امام اشكالية مشابهة، فاما القبول باستبداد استخباري وامني متماد يتظلل بعباءة العروبة ويتعيّش على شعارات المواجهة مع العدو الصهيوني، واما الارتماء بأحضان التدويل الاجنبي الذي يطل برأسه مدعيا حرصاً باطلا على السيادة والاستقلال مستحدثاً كلام "الحق الذي يراد به باطل"، فاختاروا الطائف بكامله رافضين الانقلاب عليه او التطبيق المتعسف والانتقائي له.
لقد كانت انتفاضة "السنّة" في لبنان إثر اغتيال الحريري الاساس الذي اطلق انتفاضة الاستقلال ومكنّها من ان تفجّر طاقات عبرت عن نفسها في 14 آذار، في مشهد مهيب لم يحدث مثيل له في تاريخ لبنان المعاصر، وهو مشهد يفيد ان عصراً جديداً قد بدأ في لبنان، وما كان له أن يكون بهذه الصورة لولا ان تخضّب بدماء الشهداء. فما قبله يختلف بالتأكيد عما بعده. فقد انسحبت القوات السورية ومخابراتها، وبدأت قلاع النظام الامني تتفكك وسلطة الوصاية بالتصدع والانهيار.
ومن حق اللبنانيين اليوم ان يقفوا بصدق امام هول التجربة "المرة" واثمانها الباهظة، وسنّة لبنان الذين حملوا "عبء العروبة" بإقتناع والتزام واقتدار، يقفون اليوم في موقف لم يكن له سابق، من حيث المراجعة والتقويم والنقد الجريء لكل المرحلة السابقة، وبينهم نقاش متصل على جملة خلاصات بدأت الممارسة السياسية لقيادتهم "المستقبلية" تؤشر الى اتجاهاتها وفي تقديرنا انه ينبغي تطوير النقاش في اتجاهات تدفع بها نحو امتلاك رؤية سياسية استراتيجية لدورها في اصلاح النظام اللبناني وتحديثه، وهذا لا يمكن ان يتم الا اذا حملوا مشروعاً للجميع يقوم على جملة مبادىء:
- أولها انه من الجنون والاستحالة اتباع سياسة الغاء الاخر في لبنان، ولا بديل تاليا أمام مكونات هذا المجتمع من العيش المشترك، وأي مشروع آخر هو وصفة سريعة لحرب جديدة مدمرة.
- ثانيها انه من الغباء بعد اليوم الاستقواء بالخارج لحل قضايانا في الداخل، سواء أكان هذا الخارج إقليمياً او دولياً، فالتجربة تفيد انه ما من مرة استقوى فيها طرف لبناني بالخارج لقهر طرف آخر في الداخل، إلاّ تسبب ذلك بإنقسام وطني حاد.
- ثالثها يقوم على الاقتناع بان الديموقراطية والحريات بالنسبة الينا كمجتمع متنوع ومتعدد طائفياً ومذهبياً وسياسياً، ليست أبداً ترفاً فكرياً، أو مجرد صيغة لتنظيم الاختلاف السياسي، بل هي بالنسبة الينا حاجة بنيوية وسمة تكوينية ومعطى وجودي، ولا قائمة للبنان ولا كينونة له بدون حريات وديموقراطية وبالتالي فالقمع والتعسف والنظام الامني أفضل "وصفة" واسرعها للقضاء على الكيان الوطني ووحدته.
- رابعها يحتاج الى الكثيرمن الجرأة للوصول مع الجميع الى صيغة تنهي الثقافة الطائفية المدمرة وتحد من مخاطرها السياسية والاجتماعية، وترسخ ثقافة الحوار والتسامح، من خلال اطلاق ورشة للحوار الوطني الهادف الى الغاء الطائفية السياسية وتعزيز الولاء الوطني وبناء دولة الانسان في لبنان، دولة المؤسسات والقانون.
وينبغي ان لا يسقط من الحساب بعد اليوم ان لبنان عربي الهوية والانتماء بقدر ما هو وطن نهائي لجميع ابنائه، وانه سيد حر ومستقل بقدر ما تكون وحدته الوطنية مصونة وراسخة. وانه في كل مرة تم التهاون في الدفاع عن سيادته ادى ذلك الى التفريط بوحدته، تماما كما جرى في كل مرة عندما تم تجاهل موجبات عروبته وهويته التاريخية والحضارية. هذا ما حاول اتفاق الطائف ان يقوله دون ان تقوم اطراف الحرب بمراجعة موضوعية لتجربتها وخياراتها تفضي الى نقد ذاتي وفحص ضمير لممارساتها. ربما لم يتح لها ذلك في الحقبة السابقة، لكنه ضروري اليوم لقيام مصالحة وطنية حقيقية وراسخة.
كذلك ضروري ايضا الدخول في تقويم جدي ومراجعة شاملة وتحديد للمسؤوليات عن كل الأداء السياسي الذي طبع الحقبة السابقة باسم الطائف وما نتج عنه من فساد متماد وتخريب لمسيرة السلم الاهلي. ومن لا يراجع تجاربه لا يمكنه ان يتطلع الى بناء المستقبل بثقة وثبات. ولا يغيب عن البال ان القيادات السنية الجديدة تتحمل مسؤولية مهمة في هذا المجال، فالدور الاقتصادي لسنّة لبنان لا يمكن ان يكون رافعة للحداثة والاصلاح، كما يرغبون ويرغب الجميع، ما لم يترافق مع مشروع تحديث النظام السياسي وتصحيح اخطاء الحقبة المنصرمة وتعديل برنامج اولوياتها، واستدراك التصحيح بالاصلاح الذي يجب ان يطاول "بنية" النظام، وبما يصحح الخطأ "التاريخي" للمارونية السياسية ويقطع الطريق على أية مغامرات لصناعة امتيازات طائفية جديدة او صفقات ثنائية تخل بالتوازنات وتحيي الهواجس والمخاوف.
فليس هناك من "حل طائفي" للمسألة الطائفية، كل الحلول جُرّبت، "الحل اللبناني" لم يُجرّب بعد، وللوصول الى هذا الهدف "التاريخي" ينبغي استثمار معطيات المرحلة المقبلة الى ابعد الحدود بكل مكوناتها السياسية والوطنية.
ليس هذا الوعي الاشكالي طارئاً في الذاكرة السنية، فهم عايشوا هذا النوع من الوعي الملتبس يوم وجدوا انفسهم بين خيار القبول بالاستبداد العثماني لمواجهة الاستعمار والتدخل الاجنبي، خاصة بعد ان راح هذا الاستبداد يتستر اكثر فأكثر بعباءة الاسلام وشعار الخلافة، ومع ذلك وقفوا الى جانب عروبتهم يوم وصلت طلائع الجيش العربي بقيادة فيصل الى دمشق.
وهم عايشوا هذا النوع من الوعي الشقي ايضاً يوم فرض عليهم الخيار بين لبنان الجنرال غورو وحلم الوحدة، فاختاروا لبنان رياض الصلح وعبد الحميد كرامي وبشاره الخوري. كذلك يوم فرض عليهم الخيار بين كميل شمعون ونهج الاحلاف ودولة الوحدة وعبد الناصر فاختاروا بعد "الثورة" فؤاد شهاب، وهم وجدوا انفسهم ايضاً امام الاختيار الصعب بين المقاومة الفلسطينية والحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع فاختاروا الاثنين، واستمروا في خيار المقاومة الى أن طُرد الاحتلال الصهيوني من الجنوب مطلع الالفية الجديدة.
وهم منذ ذلك الحين يجدون انفسهم امام اشكالية مشابهة، فاما القبول باستبداد استخباري وامني متماد يتظلل بعباءة العروبة ويتعيّش على شعارات المواجهة مع العدو الصهيوني، واما الارتماء بأحضان التدويل الاجنبي الذي يطل برأسه مدعيا حرصاً باطلا على السيادة والاستقلال مستحدثاً كلام "الحق الذي يراد به باطل"، فاختاروا الطائف بكامله رافضين الانقلاب عليه او التطبيق المتعسف والانتقائي له.
لقد كانت انتفاضة "السنّة" في لبنان إثر اغتيال الحريري الاساس الذي اطلق انتفاضة الاستقلال ومكنّها من ان تفجّر طاقات عبرت عن نفسها في 14 آذار، في مشهد مهيب لم يحدث مثيل له في تاريخ لبنان المعاصر، وهو مشهد يفيد ان عصراً جديداً قد بدأ في لبنان، وما كان له أن يكون بهذه الصورة لولا ان تخضّب بدماء الشهداء. فما قبله يختلف بالتأكيد عما بعده. فقد انسحبت القوات السورية ومخابراتها، وبدأت قلاع النظام الامني تتفكك وسلطة الوصاية بالتصدع والانهيار.
ومن حق اللبنانيين اليوم ان يقفوا بصدق امام هول التجربة "المرة" واثمانها الباهظة، وسنّة لبنان الذين حملوا "عبء العروبة" بإقتناع والتزام واقتدار، يقفون اليوم في موقف لم يكن له سابق، من حيث المراجعة والتقويم والنقد الجريء لكل المرحلة السابقة، وبينهم نقاش متصل على جملة خلاصات بدأت الممارسة السياسية لقيادتهم "المستقبلية" تؤشر الى اتجاهاتها وفي تقديرنا انه ينبغي تطوير النقاش في اتجاهات تدفع بها نحو امتلاك رؤية سياسية استراتيجية لدورها في اصلاح النظام اللبناني وتحديثه، وهذا لا يمكن ان يتم الا اذا حملوا مشروعاً للجميع يقوم على جملة مبادىء:
- أولها انه من الجنون والاستحالة اتباع سياسة الغاء الاخر في لبنان، ولا بديل تاليا أمام مكونات هذا المجتمع من العيش المشترك، وأي مشروع آخر هو وصفة سريعة لحرب جديدة مدمرة.
- ثانيها انه من الغباء بعد اليوم الاستقواء بالخارج لحل قضايانا في الداخل، سواء أكان هذا الخارج إقليمياً او دولياً، فالتجربة تفيد انه ما من مرة استقوى فيها طرف لبناني بالخارج لقهر طرف آخر في الداخل، إلاّ تسبب ذلك بإنقسام وطني حاد.
- ثالثها يقوم على الاقتناع بان الديموقراطية والحريات بالنسبة الينا كمجتمع متنوع ومتعدد طائفياً ومذهبياً وسياسياً، ليست أبداً ترفاً فكرياً، أو مجرد صيغة لتنظيم الاختلاف السياسي، بل هي بالنسبة الينا حاجة بنيوية وسمة تكوينية ومعطى وجودي، ولا قائمة للبنان ولا كينونة له بدون حريات وديموقراطية وبالتالي فالقمع والتعسف والنظام الامني أفضل "وصفة" واسرعها للقضاء على الكيان الوطني ووحدته.
- رابعها يحتاج الى الكثيرمن الجرأة للوصول مع الجميع الى صيغة تنهي الثقافة الطائفية المدمرة وتحد من مخاطرها السياسية والاجتماعية، وترسخ ثقافة الحوار والتسامح، من خلال اطلاق ورشة للحوار الوطني الهادف الى الغاء الطائفية السياسية وتعزيز الولاء الوطني وبناء دولة الانسان في لبنان، دولة المؤسسات والقانون.
وينبغي ان لا يسقط من الحساب بعد اليوم ان لبنان عربي الهوية والانتماء بقدر ما هو وطن نهائي لجميع ابنائه، وانه سيد حر ومستقل بقدر ما تكون وحدته الوطنية مصونة وراسخة. وانه في كل مرة تم التهاون في الدفاع عن سيادته ادى ذلك الى التفريط بوحدته، تماما كما جرى في كل مرة عندما تم تجاهل موجبات عروبته وهويته التاريخية والحضارية. هذا ما حاول اتفاق الطائف ان يقوله دون ان تقوم اطراف الحرب بمراجعة موضوعية لتجربتها وخياراتها تفضي الى نقد ذاتي وفحص ضمير لممارساتها. ربما لم يتح لها ذلك في الحقبة السابقة، لكنه ضروري اليوم لقيام مصالحة وطنية حقيقية وراسخة.
كذلك ضروري ايضا الدخول في تقويم جدي ومراجعة شاملة وتحديد للمسؤوليات عن كل الأداء السياسي الذي طبع الحقبة السابقة باسم الطائف وما نتج عنه من فساد متماد وتخريب لمسيرة السلم الاهلي. ومن لا يراجع تجاربه لا يمكنه ان يتطلع الى بناء المستقبل بثقة وثبات. ولا يغيب عن البال ان القيادات السنية الجديدة تتحمل مسؤولية مهمة في هذا المجال، فالدور الاقتصادي لسنّة لبنان لا يمكن ان يكون رافعة للحداثة والاصلاح، كما يرغبون ويرغب الجميع، ما لم يترافق مع مشروع تحديث النظام السياسي وتصحيح اخطاء الحقبة المنصرمة وتعديل برنامج اولوياتها، واستدراك التصحيح بالاصلاح الذي يجب ان يطاول "بنية" النظام، وبما يصحح الخطأ "التاريخي" للمارونية السياسية ويقطع الطريق على أية مغامرات لصناعة امتيازات طائفية جديدة او صفقات ثنائية تخل بالتوازنات وتحيي الهواجس والمخاوف.
فليس هناك من "حل طائفي" للمسألة الطائفية، كل الحلول جُرّبت، "الحل اللبناني" لم يُجرّب بعد، وللوصول الى هذا الهدف "التاريخي" ينبغي استثمار معطيات المرحلة المقبلة الى ابعد الحدود بكل مكوناتها السياسية والوطنية.