تويت
في بعلبك - الهرمل لائحة لـ «حزب الله» واخرى لمناوئيه وبينهما حقول الحشيشة الحزينة منتظرة اتلافها
سهل وسفح وحقل خشخاش بقاعي.
تنطلق بعد غد الأحد المرحلة الثالثة من الأنتخابات النيابية في لبنان، حيث من المنتظر ان تشهد محافظتي جبل لبنان والبقاع احمى المعارك الأنتخابية. ولدائرة بعلبك الهرمل في البقاع معنى خاص اذ فيها سيحاول حزب الله تكرار عملية الأستفتاء على سلاح المقاومة، وهو كما الجنوب اللبناني قام بعملية تجييش واسعة استنفر خلالها المشاعر الطائفية في مواجهة ميل لدى الطوائف غير الشيعية للأستقلال عن نفوذ الحزب الذي كان تربع على كرسي الأنتخابات في البقاع منذ العام 1992.
ففي دائرة بعلبك الهرمل اليوم لائحة لحزب الله واخرى من قوى جمعت بينها مصالح انتخابية، ولكن لائحة الحزب ربما سبقت اللائحة المنافسة من خلال المخاوف الشيعية من ان اجواء ما بعد الرابع عشر من شباط تستهدف الشيعة. ووسط كل هذه الحسابات تبقى النبتة البقاعية الشهيرة (اي الحشيشة) حاضرة كعنصر من عناصر المشهد الأنتخابي في هذه الدائرة. وهنا تحقيق ميداني عن هذه الدائرة وعن المشهد الأنتخابي فيها.
يتوقع سعيد ان ينتج سهل البقاع (شرق لبنان) هذه السنة نحو مئة طن من حشيشة الكيف في حال لم يتم اتلاف الموسم, ولكنه يتوقع ايضاً ان تتوجه شاحنات الجيش اللبناني وفور انتهاء الانتخابات وتباشر اتلاف الموسم الذي لم يقدم البقاعيون على زراعته بكثير من الأمل اصلاً, وانما اقدموا عليه مراهنين على احتمال تأزم الأوضاع السياسية في لبنان ما يتيح تمرير موسمهم, وكان رهاناً على احتمال ضعيف كما اكد اكثر من بقاعي.
للزراعة الممنوعة في منطقة بعلبك - الهرمل علاقة اكيدة بالانتخابات النيابية, سواء عبر التداعيات السياسية والاجتماعية لمنع زراعة المخدرات, أم عبر غض نظر القوى المحلية وعلى رأسها «حزب الله» عن بداية الموسم او عن مختلف مراحله. اذ ان هذه النبتة شكلت زاوية البنية السياسية التقليدية للحياة العامة في البقاعين الأوسط والشرقي عموماً وفي منطقتي بعلبك والهرمل خصوصاً. فقد جاء «حزب الله» وتربع على الحطام الذي خلفه منع العشائر البقاعية من مواصلة زراعة المخدرات بعد العام 1991. اما اليوم ففي مستطاع الحزب ان ينفخ بمخاوفه ودعاويه في عقول البقاعيين ومشاعرهم فتنهال لوائحه كاملة في صناديق الاقتراع, ومن الأرجح ان يحصل هذا او ما يشابهه في انتخابات البقاع نهار الأحد المقبل في دائرة بعلبك - الهرمل. فأبناء هذه المنطقة يشعرون بما سبق ان شعروا به في تسعينات القرن الفائت عندما صدر قرار دولي بمنعهم من زراعة المخدرات. ولكن الاستهداف الدولي هذه المرة ليس نبتة الحشيشة العزيزة على قلوبهم, وانما «حزب الله» الذي تمكنت ماكينته السياسية والخدماتية من تعويض بعض الخسائر التي احدثها توقفهم عن زراعة الحشيشة.
ومما لا شك فيه ان دورات الانتخاب الثلاث في بيروت اولاً ثم الجنوب ثم البقاع كشفت ان الشيعة في لبنان يعتقدون ان 14 آذار يستهدفهم, وهذا الافتراض وان لم يكن صحيحاً بالفعل هو صحيح بالشكل على الأقل, فهو اعقب حدث السابع من آذار (مارس) اي تلك التظاهرة التي دعا اليها السيد حسن نصرالله في ساحة رياض الصلح, فجاء 14 آذار بما يشبه رداً على الحشد الشيعي بحشد لبناني اوسع منه. انه اعتبار حاسم في الاقتراع الشيعي اليوم, وهو في بعلبك - الهرمل اشد منه في الجنوب وبيروت. فالدائرتان الأخيرتان شهدتا تحالفاً متفاوتاً مع قوى سنية ودرزية, اما في بعلبك - الهرمل فلائحة «حزب الله» بشيعتها وسنتها ومسيحييها مكتملة الانتماء للحزب او الولاء لخياراته الإقليمية. والناخب البقاعي وان تكن نتائج انتخابات الجنوب قد اغرته وشدت من عزيمة خياراته الانتخابية, فهو لم يكن بحاجة الى ذلك.
شكل «حزب الله» لائحته الانتخابية في بعلبك - الهرمل تحت تأثير رهاب الرابع عشر من آذار, فعزز فيها الحضور الحزبي عبر اضافة مكان (مقعد) لحزبي فيه هو نوار الساحلي, وتمسك بحلفاء قد يفقدونه اصواتاً غير شيعية من نوع نادر سكر ومروان فارس. وفي مقابل هذه اللائحة تشكلت لائحة اخرى من شخصيات بقاعية قد تكون اكثر تمثيلاً ولكنها مفتقدة لاندفاعة الخوف الشيعية. ففي هذه اللائحة شخصية عشائرية اساسية في البقاع هي يحيى شمص, ووريث آخر لزعامة محلية هو رفعت المصري, وفيها ايضاً ألبير منصور وطارق حبشي اللذان يفوقان منافسيهما مروان فارس ونادر سكر تمثيلاً في ملتيهما, لكن لائحة «حزب الله» قوية بقوة الحزب لا بقوة اعضائها, فكيف اذاً صار «حزب الله» اقوى من عشائر البقاع ومن عائلاته, بعد ان كانت هذه العشائر والعائلات حلقة وسيطة وضرورية بين اي زعامة سياسية وانتخابية في المنطقة وبين القواعد الناخبة؟.
ضعفت الزعامات العشائرية في البقاع منذ التوقف عن زراعة الحشيشة التي شهدت ذروتها خلال سنوات الحرب, وهي كانت شكلت وعلى مدى عقود طويلة اقتصاد المنطقة كله وغذت الدورة الاقتصادية اللبنانية منذ عهد الاستقلال وقبله ربما. وهنا تبرز مفارقة لا بد للأميركيين من ان يتفكروا فيها, وتتمثل في ان ضغوطهم لوقف زراعة المخدرات انعشت فرص «حزب الله» في الحلول محل نظام حياة كامل كانت الحشيشة وراء صموده واستمراره. فنفوذ زعماء العشائر في اوساط عشائرهم والمستمد اولاً من قدراتهم المادية وثانياً من علاقاتهم بالزعامة السياسية, تهشم بفعل انهيار اوضاعهم المادية وايضاً بفعل غياب الزعامة التقليدية الساعية الى تثبيتهم في مواقعهم وبفعل عوامل اخرى منها حلول النفوذ السوري مكان اي نفوذ آخر في البقاع. في انتخابات اليوم وعندما تسأل آل شمص مثلاً (علماً ان لهذه العشيرة مرشحاً) كيف ستنتخبون, ستجد كثيرين منهم يقولون ان توجهات الحزب تقضي بأن نقترع للائحة ولكننا سنضيف اسم مرشحنا يحيى شمص اليها. اما بالنسبة لآل جعفر فأن وجود مرشح من عشيرة زعيتر التي تتربص بهم للثأر لثلاثة من ابنائها قتلهم شخص من آل جعفر, على لائحة «حزب الله» لا يعني ان آل جعفر لن يقترعوا للائحة الحزب, بل على العكس من ذلك فإن آل جعفر يطمحون الى أن يلعب الحزب دوراً في انهاء المشكلة ويوفر على العشيرة دماء وثأراً. علماً ان آل جعفر لم تكن تربطهم بـ «حزب الله» علاقة جيدة, فقد شهدت مدينة بعلبك في بداية تسعينات القرن الفائت اشتباكات عنيفة بين الحزب والعشيرة سقط في نتيجتها عشرات القتلى والجرحى بين الطرفين.
اذن من جهة تمكن الحزب من ضم عشائريين كثراً فاخرجهم من دائرة نفوذ عشائرهم, ومن جهة اخرى شكل بالنسبة الى ما تبقى من النظام العشائري حلقة التوسط التي كانت تشكلها الزعامة السياسية التقليدية. وهو على رغم ذلك بقي حزب العائلات الصغيرة التي لجأت اليه كملاذ من سطوة العائلات الكبرى في البقاع, وبهذا يكون الحزب في البقاع قد تغذى من مصادر مختلفة ومتنوعة مكنته من الإحاطة بالمشهد الإنتخابي في البقاع الشرقي كله. مع العلم ان مقاومة هذا النفوذ من ما تبقى من النظام البقاعي القديم ما زالت اجدى من مقاومته في الجنوب اللبناني, اذ ان هذا النظام لم يتم تهشيمه بشكل كامل بعد, وخير دليل إلى ذلك هو ان للائحة التي تشكلت في بعلبك - الهرمل في مواجهة لائحة «حزب الله» حظوظاً اكبر في خرق هذه الأخيرة من حظوظ منافسي لائحة «امل» و»حزب الله» في الجنوب.
مدينة بعلبك
تراهن اللائحة المنافسة للائحة «حزب الله» على بعض التقدم داخل مدينة بعلبك, فمن جهة يعتقد ناشطون في هذه اللائحة ان الأصوات السنية والمسيحية في المدينة وهي تشكل نحو ربع عدد المقترعـــين ستكون الغلبة لهم فيها, ومن جهة اخرى ستستفيد هذه اللائحة من عدم وجود مرشح شيعي من المدينة في لائحة «حزب الله», ولكن هذا وبحسب مراقب آخر ربما اوجد استــــقطاباً شيعياً داخل المدينة في مواجهة التصويت السني والمسيحي, والمدينة سبق ان شهدت في دورات انتخابية ســـابقة نزقاً في الاقتراع بين طوائفها. اما اليوم فأســـباب النزق تضاعفت ولم تعد محلية, وتتولى الماكينات الحزبية الانتخابية مضاعفة هذه الأسباب عبر التأكيد بأن التصويت سيكون على مستقبل الطــــائفة الشيعية, وهو امر تتلاشى معه الاعتبارات المحلية للاقتراع. اما مدينة الهرمل فقد صحح استبدال «حزب الله» المرشح السابق على لائحته عاصم قانصوه بالمرشح نوار الساحلي خللاً في هذه اللائحة, افقد اللائحة المنافسة فرصة خرق شبه اكيدة, خصـــوصاً ان للمرشح المنافس يحيى شمص نفوذاً كبيراً في منطقة الهرمل, وهو اكتسب تعاطفاً بعد الأزمة التي مر بها والتي ادت الى سجنه سنوات بعد ان نشب خلاف بينه وبين مسؤول الاستخبارات السورية في لبنان غازي كنعان.
السهل حزين في ظل التهديد الفعلي الذي تتــــعرض له النبتة الفتية هذه الأيام, فالـــمزارعون بذروا القنبز (البذرة التي تنــــبت الحشيشة), من دون امل كبير ببقائها حية حتى نهاية الموسم. عمر النبتة اليوم اكثر من شهر, وهي بدأت تصبغ السهل بلونها الــــشديد الخضرة, ومن الواضح ان بذارها تم على نحو مرتجل, اذ يمكنك ملاحظة عدم توزع اللون الأخضر في الحقل الواحد على نحو متساو. ويقول عدنان: «هذه النبتة لا تحتاج لما يحتاج اليه غيرها من عناية دائمة وري وتعب. فقط نبذر القنبز وننتظر النضوج, انها نبتة غير مكلفة ولكنها منتجة اكثر من اي نبتة اخرى». الخسائر لن تكون كبيرة في حال تم اتلاف الموسم, وفي الحالين كانت ستبقى بوراً في حال لم يقدم المزارعون على ما اقدموا عليه. في الدار الواسعة حيث يقيم آل جعفر وقف محمد متأملاً السهل ومتحسراً على عدم تمكنه من زراعة حقله هذه السنة, والسبب كما يقول ان ارضه محاذية لأرض آل زعيتر, وهؤلاء لهم في ذمة آل جعفر دماءً, وتقضي التقاليد ان تهجر عشيرة القاتل ارضها المجاورة لأرض عشيرة القتيل لبينما تنقضي الأزمة. والوصول الى الدار الواسعة غرب مدينة بعلبك يقتضي المرور من بلدة ايعال التي يقطنها آل زعيتر, والتوتر بين العشيرتين ادى الى سلوك آل جعفر طريق دير الأحمر للوصول الى بلدتهم, وتتوسط شبكة الطرق هذه التي تخترق الـــــسهل, حواجز الجيش اللبناني ومواقعه, كما تتصل هذه الطرق بحقول الحشيشة الناصعة الخضرة.
«حزب الله» ليس تفصيلاً بسيطاً في هذه الخريطة الجغرافية والاجتماعية والسياسية, انه في قلب عناصر هذا المشهد المسطح كالسهل. فعندما تسأل المزارعين في بلدة اليمونة عن ظروف قضائهم الشتاء العنيف في بلدتهم يشيرون الى مدهم من جانب الحزب بالكثير من شروط البقاء في الشتاء, واقل ما يتوقعه محمد جعفر في الدار الواسعة من الحزب ان يتولى هذا الأخير دفع دية قتلى آل زعيتر حتى يتمكن هو من زراعة حقله بالحشيشة لا بغيرها على رغم الأمل الضعيف بالسماح للنبتة بالنضوج. ولا تملك اللائحة المنافسة للحزب شروط التحرك على هذا النحو على رغم ضمها وجوهاً قد تكون اقرب الى البنية الاجتماعية المحلية. ولكن هذه اللائحة تحاول ايقاظ المشاعر المحلية لدى ابناء العشائر, وهو سيف له حدان فهذه العشائر الضعيفة المراتب بفعل تآكل مشيختها بعد منع زراعة الحشيشة, لم تعد مجمعة على زعاماتها ودعم مرشح للانتخابات من جانب وجيه فيها قد يؤدي الى انكفاء افخاذ اخرى من العشيرة نفسها عن دعم المرشح نفسه. كما ان «حزب الله» وكما ذكرنا سابقاً تمكن من التسلل الى الكثير من العشائر ما ساهم في اضعاف نظام العشيرة وفي تداخل مراتبها.
قد تصيبك الحيرة حين تسمع البقاعيين يتحدثون عن نبتة الحشيشة وعن «حزب الله» بالحماسة نفسها, فهؤلاء الذين احبوا هذه النبتة وحفظوا لها جميلاً كبيراً كيف لهم ان يطمحوا الى اعادة زراعتها في حال انتخبوا «حزب الله»؟ والجميع يجيب ان الحزب لم يسبق ان شجع هذه الزراعة ولكنه ايضاً لم يسبق ان اعترضها, وهو يدرك حساسية التعرض لهذه القضية. والاقتراع للحزب هو بمعنى ما اقتراع ضد الجهات الدولية التي ضغطت لإيقاف الزراعة. اما الاعتبار الحاسم فهو قناعة البقاعيين الشيعة بأن ما جرى منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري والى اليوم يستهدف بشكل رئيسي دور الشيعة في لبنان, وهو اقتناع من الصعب مقاومته في صناديق الاقتراع.
سهل وسفح وحقل خشخاش بقاعي.
تنطلق بعد غد الأحد المرحلة الثالثة من الأنتخابات النيابية في لبنان، حيث من المنتظر ان تشهد محافظتي جبل لبنان والبقاع احمى المعارك الأنتخابية. ولدائرة بعلبك الهرمل في البقاع معنى خاص اذ فيها سيحاول حزب الله تكرار عملية الأستفتاء على سلاح المقاومة، وهو كما الجنوب اللبناني قام بعملية تجييش واسعة استنفر خلالها المشاعر الطائفية في مواجهة ميل لدى الطوائف غير الشيعية للأستقلال عن نفوذ الحزب الذي كان تربع على كرسي الأنتخابات في البقاع منذ العام 1992.
ففي دائرة بعلبك الهرمل اليوم لائحة لحزب الله واخرى من قوى جمعت بينها مصالح انتخابية، ولكن لائحة الحزب ربما سبقت اللائحة المنافسة من خلال المخاوف الشيعية من ان اجواء ما بعد الرابع عشر من شباط تستهدف الشيعة. ووسط كل هذه الحسابات تبقى النبتة البقاعية الشهيرة (اي الحشيشة) حاضرة كعنصر من عناصر المشهد الأنتخابي في هذه الدائرة. وهنا تحقيق ميداني عن هذه الدائرة وعن المشهد الأنتخابي فيها.
يتوقع سعيد ان ينتج سهل البقاع (شرق لبنان) هذه السنة نحو مئة طن من حشيشة الكيف في حال لم يتم اتلاف الموسم, ولكنه يتوقع ايضاً ان تتوجه شاحنات الجيش اللبناني وفور انتهاء الانتخابات وتباشر اتلاف الموسم الذي لم يقدم البقاعيون على زراعته بكثير من الأمل اصلاً, وانما اقدموا عليه مراهنين على احتمال تأزم الأوضاع السياسية في لبنان ما يتيح تمرير موسمهم, وكان رهاناً على احتمال ضعيف كما اكد اكثر من بقاعي.
للزراعة الممنوعة في منطقة بعلبك - الهرمل علاقة اكيدة بالانتخابات النيابية, سواء عبر التداعيات السياسية والاجتماعية لمنع زراعة المخدرات, أم عبر غض نظر القوى المحلية وعلى رأسها «حزب الله» عن بداية الموسم او عن مختلف مراحله. اذ ان هذه النبتة شكلت زاوية البنية السياسية التقليدية للحياة العامة في البقاعين الأوسط والشرقي عموماً وفي منطقتي بعلبك والهرمل خصوصاً. فقد جاء «حزب الله» وتربع على الحطام الذي خلفه منع العشائر البقاعية من مواصلة زراعة المخدرات بعد العام 1991. اما اليوم ففي مستطاع الحزب ان ينفخ بمخاوفه ودعاويه في عقول البقاعيين ومشاعرهم فتنهال لوائحه كاملة في صناديق الاقتراع, ومن الأرجح ان يحصل هذا او ما يشابهه في انتخابات البقاع نهار الأحد المقبل في دائرة بعلبك - الهرمل. فأبناء هذه المنطقة يشعرون بما سبق ان شعروا به في تسعينات القرن الفائت عندما صدر قرار دولي بمنعهم من زراعة المخدرات. ولكن الاستهداف الدولي هذه المرة ليس نبتة الحشيشة العزيزة على قلوبهم, وانما «حزب الله» الذي تمكنت ماكينته السياسية والخدماتية من تعويض بعض الخسائر التي احدثها توقفهم عن زراعة الحشيشة.
ومما لا شك فيه ان دورات الانتخاب الثلاث في بيروت اولاً ثم الجنوب ثم البقاع كشفت ان الشيعة في لبنان يعتقدون ان 14 آذار يستهدفهم, وهذا الافتراض وان لم يكن صحيحاً بالفعل هو صحيح بالشكل على الأقل, فهو اعقب حدث السابع من آذار (مارس) اي تلك التظاهرة التي دعا اليها السيد حسن نصرالله في ساحة رياض الصلح, فجاء 14 آذار بما يشبه رداً على الحشد الشيعي بحشد لبناني اوسع منه. انه اعتبار حاسم في الاقتراع الشيعي اليوم, وهو في بعلبك - الهرمل اشد منه في الجنوب وبيروت. فالدائرتان الأخيرتان شهدتا تحالفاً متفاوتاً مع قوى سنية ودرزية, اما في بعلبك - الهرمل فلائحة «حزب الله» بشيعتها وسنتها ومسيحييها مكتملة الانتماء للحزب او الولاء لخياراته الإقليمية. والناخب البقاعي وان تكن نتائج انتخابات الجنوب قد اغرته وشدت من عزيمة خياراته الانتخابية, فهو لم يكن بحاجة الى ذلك.
شكل «حزب الله» لائحته الانتخابية في بعلبك - الهرمل تحت تأثير رهاب الرابع عشر من آذار, فعزز فيها الحضور الحزبي عبر اضافة مكان (مقعد) لحزبي فيه هو نوار الساحلي, وتمسك بحلفاء قد يفقدونه اصواتاً غير شيعية من نوع نادر سكر ومروان فارس. وفي مقابل هذه اللائحة تشكلت لائحة اخرى من شخصيات بقاعية قد تكون اكثر تمثيلاً ولكنها مفتقدة لاندفاعة الخوف الشيعية. ففي هذه اللائحة شخصية عشائرية اساسية في البقاع هي يحيى شمص, ووريث آخر لزعامة محلية هو رفعت المصري, وفيها ايضاً ألبير منصور وطارق حبشي اللذان يفوقان منافسيهما مروان فارس ونادر سكر تمثيلاً في ملتيهما, لكن لائحة «حزب الله» قوية بقوة الحزب لا بقوة اعضائها, فكيف اذاً صار «حزب الله» اقوى من عشائر البقاع ومن عائلاته, بعد ان كانت هذه العشائر والعائلات حلقة وسيطة وضرورية بين اي زعامة سياسية وانتخابية في المنطقة وبين القواعد الناخبة؟.
ضعفت الزعامات العشائرية في البقاع منذ التوقف عن زراعة الحشيشة التي شهدت ذروتها خلال سنوات الحرب, وهي كانت شكلت وعلى مدى عقود طويلة اقتصاد المنطقة كله وغذت الدورة الاقتصادية اللبنانية منذ عهد الاستقلال وقبله ربما. وهنا تبرز مفارقة لا بد للأميركيين من ان يتفكروا فيها, وتتمثل في ان ضغوطهم لوقف زراعة المخدرات انعشت فرص «حزب الله» في الحلول محل نظام حياة كامل كانت الحشيشة وراء صموده واستمراره. فنفوذ زعماء العشائر في اوساط عشائرهم والمستمد اولاً من قدراتهم المادية وثانياً من علاقاتهم بالزعامة السياسية, تهشم بفعل انهيار اوضاعهم المادية وايضاً بفعل غياب الزعامة التقليدية الساعية الى تثبيتهم في مواقعهم وبفعل عوامل اخرى منها حلول النفوذ السوري مكان اي نفوذ آخر في البقاع. في انتخابات اليوم وعندما تسأل آل شمص مثلاً (علماً ان لهذه العشيرة مرشحاً) كيف ستنتخبون, ستجد كثيرين منهم يقولون ان توجهات الحزب تقضي بأن نقترع للائحة ولكننا سنضيف اسم مرشحنا يحيى شمص اليها. اما بالنسبة لآل جعفر فأن وجود مرشح من عشيرة زعيتر التي تتربص بهم للثأر لثلاثة من ابنائها قتلهم شخص من آل جعفر, على لائحة «حزب الله» لا يعني ان آل جعفر لن يقترعوا للائحة الحزب, بل على العكس من ذلك فإن آل جعفر يطمحون الى أن يلعب الحزب دوراً في انهاء المشكلة ويوفر على العشيرة دماء وثأراً. علماً ان آل جعفر لم تكن تربطهم بـ «حزب الله» علاقة جيدة, فقد شهدت مدينة بعلبك في بداية تسعينات القرن الفائت اشتباكات عنيفة بين الحزب والعشيرة سقط في نتيجتها عشرات القتلى والجرحى بين الطرفين.
اذن من جهة تمكن الحزب من ضم عشائريين كثراً فاخرجهم من دائرة نفوذ عشائرهم, ومن جهة اخرى شكل بالنسبة الى ما تبقى من النظام العشائري حلقة التوسط التي كانت تشكلها الزعامة السياسية التقليدية. وهو على رغم ذلك بقي حزب العائلات الصغيرة التي لجأت اليه كملاذ من سطوة العائلات الكبرى في البقاع, وبهذا يكون الحزب في البقاع قد تغذى من مصادر مختلفة ومتنوعة مكنته من الإحاطة بالمشهد الإنتخابي في البقاع الشرقي كله. مع العلم ان مقاومة هذا النفوذ من ما تبقى من النظام البقاعي القديم ما زالت اجدى من مقاومته في الجنوب اللبناني, اذ ان هذا النظام لم يتم تهشيمه بشكل كامل بعد, وخير دليل إلى ذلك هو ان للائحة التي تشكلت في بعلبك - الهرمل في مواجهة لائحة «حزب الله» حظوظاً اكبر في خرق هذه الأخيرة من حظوظ منافسي لائحة «امل» و»حزب الله» في الجنوب.
مدينة بعلبك
تراهن اللائحة المنافسة للائحة «حزب الله» على بعض التقدم داخل مدينة بعلبك, فمن جهة يعتقد ناشطون في هذه اللائحة ان الأصوات السنية والمسيحية في المدينة وهي تشكل نحو ربع عدد المقترعـــين ستكون الغلبة لهم فيها, ومن جهة اخرى ستستفيد هذه اللائحة من عدم وجود مرشح شيعي من المدينة في لائحة «حزب الله», ولكن هذا وبحسب مراقب آخر ربما اوجد استــــقطاباً شيعياً داخل المدينة في مواجهة التصويت السني والمسيحي, والمدينة سبق ان شهدت في دورات انتخابية ســـابقة نزقاً في الاقتراع بين طوائفها. اما اليوم فأســـباب النزق تضاعفت ولم تعد محلية, وتتولى الماكينات الحزبية الانتخابية مضاعفة هذه الأسباب عبر التأكيد بأن التصويت سيكون على مستقبل الطــــائفة الشيعية, وهو امر تتلاشى معه الاعتبارات المحلية للاقتراع. اما مدينة الهرمل فقد صحح استبدال «حزب الله» المرشح السابق على لائحته عاصم قانصوه بالمرشح نوار الساحلي خللاً في هذه اللائحة, افقد اللائحة المنافسة فرصة خرق شبه اكيدة, خصـــوصاً ان للمرشح المنافس يحيى شمص نفوذاً كبيراً في منطقة الهرمل, وهو اكتسب تعاطفاً بعد الأزمة التي مر بها والتي ادت الى سجنه سنوات بعد ان نشب خلاف بينه وبين مسؤول الاستخبارات السورية في لبنان غازي كنعان.
السهل حزين في ظل التهديد الفعلي الذي تتــــعرض له النبتة الفتية هذه الأيام, فالـــمزارعون بذروا القنبز (البذرة التي تنــــبت الحشيشة), من دون امل كبير ببقائها حية حتى نهاية الموسم. عمر النبتة اليوم اكثر من شهر, وهي بدأت تصبغ السهل بلونها الــــشديد الخضرة, ومن الواضح ان بذارها تم على نحو مرتجل, اذ يمكنك ملاحظة عدم توزع اللون الأخضر في الحقل الواحد على نحو متساو. ويقول عدنان: «هذه النبتة لا تحتاج لما يحتاج اليه غيرها من عناية دائمة وري وتعب. فقط نبذر القنبز وننتظر النضوج, انها نبتة غير مكلفة ولكنها منتجة اكثر من اي نبتة اخرى». الخسائر لن تكون كبيرة في حال تم اتلاف الموسم, وفي الحالين كانت ستبقى بوراً في حال لم يقدم المزارعون على ما اقدموا عليه. في الدار الواسعة حيث يقيم آل جعفر وقف محمد متأملاً السهل ومتحسراً على عدم تمكنه من زراعة حقله هذه السنة, والسبب كما يقول ان ارضه محاذية لأرض آل زعيتر, وهؤلاء لهم في ذمة آل جعفر دماءً, وتقضي التقاليد ان تهجر عشيرة القاتل ارضها المجاورة لأرض عشيرة القتيل لبينما تنقضي الأزمة. والوصول الى الدار الواسعة غرب مدينة بعلبك يقتضي المرور من بلدة ايعال التي يقطنها آل زعيتر, والتوتر بين العشيرتين ادى الى سلوك آل جعفر طريق دير الأحمر للوصول الى بلدتهم, وتتوسط شبكة الطرق هذه التي تخترق الـــــسهل, حواجز الجيش اللبناني ومواقعه, كما تتصل هذه الطرق بحقول الحشيشة الناصعة الخضرة.
«حزب الله» ليس تفصيلاً بسيطاً في هذه الخريطة الجغرافية والاجتماعية والسياسية, انه في قلب عناصر هذا المشهد المسطح كالسهل. فعندما تسأل المزارعين في بلدة اليمونة عن ظروف قضائهم الشتاء العنيف في بلدتهم يشيرون الى مدهم من جانب الحزب بالكثير من شروط البقاء في الشتاء, واقل ما يتوقعه محمد جعفر في الدار الواسعة من الحزب ان يتولى هذا الأخير دفع دية قتلى آل زعيتر حتى يتمكن هو من زراعة حقله بالحشيشة لا بغيرها على رغم الأمل الضعيف بالسماح للنبتة بالنضوج. ولا تملك اللائحة المنافسة للحزب شروط التحرك على هذا النحو على رغم ضمها وجوهاً قد تكون اقرب الى البنية الاجتماعية المحلية. ولكن هذه اللائحة تحاول ايقاظ المشاعر المحلية لدى ابناء العشائر, وهو سيف له حدان فهذه العشائر الضعيفة المراتب بفعل تآكل مشيختها بعد منع زراعة الحشيشة, لم تعد مجمعة على زعاماتها ودعم مرشح للانتخابات من جانب وجيه فيها قد يؤدي الى انكفاء افخاذ اخرى من العشيرة نفسها عن دعم المرشح نفسه. كما ان «حزب الله» وكما ذكرنا سابقاً تمكن من التسلل الى الكثير من العشائر ما ساهم في اضعاف نظام العشيرة وفي تداخل مراتبها.
قد تصيبك الحيرة حين تسمع البقاعيين يتحدثون عن نبتة الحشيشة وعن «حزب الله» بالحماسة نفسها, فهؤلاء الذين احبوا هذه النبتة وحفظوا لها جميلاً كبيراً كيف لهم ان يطمحوا الى اعادة زراعتها في حال انتخبوا «حزب الله»؟ والجميع يجيب ان الحزب لم يسبق ان شجع هذه الزراعة ولكنه ايضاً لم يسبق ان اعترضها, وهو يدرك حساسية التعرض لهذه القضية. والاقتراع للحزب هو بمعنى ما اقتراع ضد الجهات الدولية التي ضغطت لإيقاف الزراعة. اما الاعتبار الحاسم فهو قناعة البقاعيين الشيعة بأن ما جرى منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري والى اليوم يستهدف بشكل رئيسي دور الشيعة في لبنان, وهو اقتناع من الصعب مقاومته في صناديق الاقتراع.