رحـلـة .. في أرجاء الأنـدلـس .. صور ، و ذكــريات .. (آه يـا ذكـرى ..)

(ملاحظة: لا تقلق .. جميع الصور في هذا الموضوع تُفتَح في نوافذ أخرى .. إضغط على الصور)
الزمان: أوائل القرن الهجري السابع ، الموافق أوائل القرن الميلادي الثالث عشر.
المكان: جنوب أسبانيا ، أو ما كان يُعرَف آنذاك بـ"الأندلس".
الحدث: مُدُن الأندلس تتساقط واحدةً واحدة كما يسقُط الذباب ، أمام الملك النصراني "أذفنش" ، سقطت مُدُن الأندلس و لم يبقَ إلا إقليم غرناطة ، وحيداً ، يائساً. بهذا ، سقطت الأندلس فعلاً.
رجلٌ اسمه صالح ابن يزيد ، يسمع الأخبار ، و يرى ما يجري.
قبضةٌ من الألم تعتصر قلبه. أنفاسٌ ساخنة تُلهِب صدره. يقاوم العَبَرات ، يجاهدها ، يحاول أن يتجلّد. أخيراً نَجَح صالح في كبح دموعه. بدأت الأفكار و الذكريات تعمل عملها في عقله ، بينما يتذكر - بحسرة - ما حَصَل في شمال الأندلس. اندَفَعت الخيول عليها راكبوها حاملين الأخبار القاتمة لأهل الجنوب. فوضى ، و هَرَج. أخبارٌ بشعة ، لا يصدقها البعض ، و البعض قد شلّته تلك الأنباء. هل حقاً بدأت الأندلس في الزوال؟ هل سقطت قلاع الحضارة و الإزدهار التي وصل صيتها إلى أرجاء الأرض؟ أحقٌّ ما يتناقله أهل البلد؟ أصحيحةٌ تلك الفواجع التي ألقاها الفرسان القادمون بذعر من الشمال؟ ملك النصارى يقتل المسلمين ، و يبيد حضارتهم ، و يسبي نساءهم ، و يحوّل مساجدهم كنائساً نصرانية؟ لا! لا يمكن هذا! الأندلس لنا! عشنا فيها بأمانٍ و نعمة لم يُرَ مثلها! امتلكناها أكثر من 5 قرون! لا يمكن أن تسقط مدننا الشمّاء و حضارتنا المسلمة التي نَشَرت العدل و الإزدهار! لن تسقط بهذه السهولة! مستحيل!
يقف صالح صامتاً ، مدافعاً عَبَراته ، يراقب الفرسان القادمين من الشمال ، و هم يركضون بخيولهم داخل مدينته ، مشدوهين ، مذهولين ، تشابهت قصصهم و أخبارهم. صالح لا يحتاج إلى تلك الأخبار ، فقد رآها بنفسه ، و نَزَح من الشمال بعد أن انكبت الفرنجة على المسلمين هناك تسومهم سوء العذاب. لكن الأمر بشع .. أبشع من أن يُصدَّق ، و رغم أن صالح عاشه ، فهو أقرب إلى أن يكون كابوساً مزعجاً و حلماً بشعاً. كثُر النازحون و حاملو الأخبار ، فرأى صالح أنّ كلهم عاشوا ما عاشه و علموا ما علمه.
إذاً ليس حلماً .. إنه حقيقة! إنها الحقيقة المرة: لقد سقطت الأندلس! أندلسنا الحبيبة ، التهمها بنو الصليب! قتلوا ، و أفسدوا ، و اغتصبوا ، و نهبوا ، و كذلك يفعلون! جيوش المسلمين؟ خيولهم؟ أسلحتهم؟ انهارت. سقطت. تشتتت.
أُثيرت عويصفاتٌ ترابية صغيرة بسبب الخيول المندفعة بالأخبار القاتمة إلى المدينة.
جرى جوادً جانب صالح ، و فارسه يقصد أهله و قبيلته لينبئّهم بالأخبار الشنيعة. أثارت حوافر الفرس الغبار بجانب صالح. و بينما ذرّات الغبار تموج في بعضها حول قدميه ، اخترقتها دمعةٌ ساخنة. لم يعُد صالح يصبر ، و انتصرت دموعه أخيراً ، فترك مُدافعتها ، و أطلق لها العنان تجري على خديه ، تنهمر انهماراً ، و الحسرة تأكل قلبه ، و الألم يمزق كيانه.
الأندلس ، سقطت.
الأندلس ، انهارت.
الأندلس ، دُنِّسَت.
يتذكر صالح صيحات الإستغاثة من المسلمات. يكاد صالح يرى أمام وجهه نظرات الرعب مرة أخرى ، و المرتسمة على أوجه الأطفال و هم يُساقون كالخراف للسبي. يوشك صالح أن يشم رائحة دماء أهل التوحيد و بنو الشرك و التثليث يريقونها كأنما يريقون السويق. يكاد يحس صالح بيدِ فارسٍ مسلم تقبض يده بقوة و هو يلفظ أنفاسة الأخيرة بعد أن دافع باستماتة عن عِرضه ، و دينه ، و بلده.
و بينما أنفاس صالح تتأجج ، و قلبه يتمزّق ، و دموع حسرته لا يتوقف جريانها على خديه ، و هو يرى المعمعة ، و الرعب ، و الذعر ، و الأسى ؛ أثناء هذا كله ، تتحول مشاعره المشحونة إلى أبياتٍ حزينة ، متألمة ، ثكلى ، قد كلّلتها الحسرة ، و تعلّقت بها الآلام. تتفجر قريحته بكل ألم الدنيا ، و أسى التاريخ كله ، بكل عفوية ، و من خلال عَبَراته الخانقة ، فيسطّر في سماء التاريخ إحدى أعظم المراثي ، و التي عرفها المسلمون بكنيته: أبو البقاء الرندي ، من "رندة" جنوب الأندلس ، فيقول مكلوماً ، أسِفاً ، باكياً:
لكل شيء إذا ما تم نــقـصـان ***** فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ ***** من سرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ
وهذه الدار لا تـبـقي على أحد ***** ولا يدوم على حال لها شانُ
يمزق الدهر حتمًا كل سـابغـةٍ***** إذا نبت مشرفيات وخرصان
وينتضي كل سيــف للفناء ولو ***** كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍ ***** وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ
وأيـن مـا شـاده شـدَّادُ في إرمٍ ***** وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ
وأين ما حازه قارون من ذهب ***** وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ
أتى على الكل أمر لا مرد له***** حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من مُلك ومن مَلك ***** كما حكى عن خيال الطيفِ وسنانُ
دار الزمان على دارا وقاتله ***** وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ
كأنما الصعب لم يسهل له سببُ ***** يومًا ولا مَلك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة ***** وللزمان مسرات وأحزانُ
وللحوادث سلوان يسهلها ***** وما لما حل بالإسلام سلوانُ
دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاء له ***** هوى له أحدٌ وانهد نهلانُ
أصابها العينُ في الإسلام فارتزأتْ ***** حتى خلت منه أقطارٌ وبلدانُ
فاسأل بلنسيةَ ما شأنُ مرسيةٍ ***** وأين شاطبةٌ أمْ أين جيَّانُ
وأين قرطبةٌ دارُ العلوم فكم ***** من عالمٍ قد سما فيها له شانُ
وأين حمصُ وما تحويه من نزهٍ ***** ونهرها العذب فياض وملآنُ
قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما ***** عسى البقاء إذا لم تبقى أركان
تبكي الحنيفيةَ البيضاءَ من أسفٍ ***** كما بكى لفراق الإلف هيمانُ
حيث المساجدُ قد أضحتْ كنائسَ ما ***** فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصلبانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ ***** حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ
يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ ***** إن كنت في سِنَةٍ فالدهر يقظانُ
وماشيًا مرحًا يلهيه موطنهُ ***** أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ
تلك المصيبةُ أنْسَتْ ما تقدَّمها ***** وما لها مع طولَ الدهرِ نسيانُ
يا راكبين عتاقَ الخيلِ ضامرةً ***** كأنها في مجال السبقِ عقبانُ
وحاملين سيوفَ الهندِ مرهقةُ ***** كأنها في ظلام النقع نيرانُ
وراتعين وراء البحر في دعةٍ ***** لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطانُ
أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ ***** فقد سرى بحديثِ القومِ ركبانُ
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم ***** قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
لماذا التقاطع في الإسلام بينكمُ ***** وأنتمْ يا عباد الله إخوانُ
ألا نفوسٌ أبيَّاتٌ لها هممٌ ***** أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ
يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهُمُ ***** أحال حالهمْ جورُ وطغيانُ
بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم ***** واليومَ هم في بلاد الضدِّ عبدانُ
فلو تراهم حيارى لا دليل لهمْ ***** عليهمُ من ثيابِ الذلِ ألوانُ
ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهمُ ***** لهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ
يا ربَّ أمٍّ وطفلٍ حيلَ بينهما ***** كما تفرقَ أرواحٌ وأبدانُ
ثم يستحضر أبو البقاء صورةً مؤلمة:
وطفلةٍ مثل حسنِ الشمسِ ***** إذ طلعت كأنما ياقوتٌ ومرجانُ
يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً ***** والعينُ باكيةُ والقلبُ حيرانُ
و لا يصبر أبو البقاء على كل هذا الألم ، فينتحب كالثكلى ، و بكل أسف الدنيا ، بألمٍ لو قُسِّم على أهل الأرض لقتلهم غماً و كمداً ، و بحسرةٍ ، و نفسٍ فجيعة و فؤادٍ مطعون ، تصرخ دموعه بالبيت الخالد:
لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ ***** إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ
نعم ، الأندلس تمزّقت ، و لا ينكر ذلك مُنكِر. سَقَطت ، بكل عظمتها ، و حُسنِها ، و نعيمها ، و بهجتها. جنة الأرض ، ذهبت. نعيمٌ يكذّبه أهل الأقطار البعيدة ، تلاشى و اندثر ، و لم يبقَ منه إلا "غرناطة" لتحكي المأساة لعقودٍ تَلَت ، ليأتي عليها الدور بعد أخواتها بقرابة ِقَرنين.
كيف بدأت هذه المأساة؟
لنُعد للوراء بضع قرون....

(ملاحظة: لا تقلق .. جميع الصور في هذا الموضوع تُفتَح في نوافذ أخرى .. إضغط على الصور)
الزمان: أوائل القرن الهجري السابع ، الموافق أوائل القرن الميلادي الثالث عشر.
المكان: جنوب أسبانيا ، أو ما كان يُعرَف آنذاك بـ"الأندلس".
الحدث: مُدُن الأندلس تتساقط واحدةً واحدة كما يسقُط الذباب ، أمام الملك النصراني "أذفنش" ، سقطت مُدُن الأندلس و لم يبقَ إلا إقليم غرناطة ، وحيداً ، يائساً. بهذا ، سقطت الأندلس فعلاً.
رجلٌ اسمه صالح ابن يزيد ، يسمع الأخبار ، و يرى ما يجري.
قبضةٌ من الألم تعتصر قلبه. أنفاسٌ ساخنة تُلهِب صدره. يقاوم العَبَرات ، يجاهدها ، يحاول أن يتجلّد. أخيراً نَجَح صالح في كبح دموعه. بدأت الأفكار و الذكريات تعمل عملها في عقله ، بينما يتذكر - بحسرة - ما حَصَل في شمال الأندلس. اندَفَعت الخيول عليها راكبوها حاملين الأخبار القاتمة لأهل الجنوب. فوضى ، و هَرَج. أخبارٌ بشعة ، لا يصدقها البعض ، و البعض قد شلّته تلك الأنباء. هل حقاً بدأت الأندلس في الزوال؟ هل سقطت قلاع الحضارة و الإزدهار التي وصل صيتها إلى أرجاء الأرض؟ أحقٌّ ما يتناقله أهل البلد؟ أصحيحةٌ تلك الفواجع التي ألقاها الفرسان القادمون بذعر من الشمال؟ ملك النصارى يقتل المسلمين ، و يبيد حضارتهم ، و يسبي نساءهم ، و يحوّل مساجدهم كنائساً نصرانية؟ لا! لا يمكن هذا! الأندلس لنا! عشنا فيها بأمانٍ و نعمة لم يُرَ مثلها! امتلكناها أكثر من 5 قرون! لا يمكن أن تسقط مدننا الشمّاء و حضارتنا المسلمة التي نَشَرت العدل و الإزدهار! لن تسقط بهذه السهولة! مستحيل!
يقف صالح صامتاً ، مدافعاً عَبَراته ، يراقب الفرسان القادمين من الشمال ، و هم يركضون بخيولهم داخل مدينته ، مشدوهين ، مذهولين ، تشابهت قصصهم و أخبارهم. صالح لا يحتاج إلى تلك الأخبار ، فقد رآها بنفسه ، و نَزَح من الشمال بعد أن انكبت الفرنجة على المسلمين هناك تسومهم سوء العذاب. لكن الأمر بشع .. أبشع من أن يُصدَّق ، و رغم أن صالح عاشه ، فهو أقرب إلى أن يكون كابوساً مزعجاً و حلماً بشعاً. كثُر النازحون و حاملو الأخبار ، فرأى صالح أنّ كلهم عاشوا ما عاشه و علموا ما علمه.
إذاً ليس حلماً .. إنه حقيقة! إنها الحقيقة المرة: لقد سقطت الأندلس! أندلسنا الحبيبة ، التهمها بنو الصليب! قتلوا ، و أفسدوا ، و اغتصبوا ، و نهبوا ، و كذلك يفعلون! جيوش المسلمين؟ خيولهم؟ أسلحتهم؟ انهارت. سقطت. تشتتت.
أُثيرت عويصفاتٌ ترابية صغيرة بسبب الخيول المندفعة بالأخبار القاتمة إلى المدينة.
جرى جوادً جانب صالح ، و فارسه يقصد أهله و قبيلته لينبئّهم بالأخبار الشنيعة. أثارت حوافر الفرس الغبار بجانب صالح. و بينما ذرّات الغبار تموج في بعضها حول قدميه ، اخترقتها دمعةٌ ساخنة. لم يعُد صالح يصبر ، و انتصرت دموعه أخيراً ، فترك مُدافعتها ، و أطلق لها العنان تجري على خديه ، تنهمر انهماراً ، و الحسرة تأكل قلبه ، و الألم يمزق كيانه.
الأندلس ، سقطت.
الأندلس ، انهارت.
الأندلس ، دُنِّسَت.
يتذكر صالح صيحات الإستغاثة من المسلمات. يكاد صالح يرى أمام وجهه نظرات الرعب مرة أخرى ، و المرتسمة على أوجه الأطفال و هم يُساقون كالخراف للسبي. يوشك صالح أن يشم رائحة دماء أهل التوحيد و بنو الشرك و التثليث يريقونها كأنما يريقون السويق. يكاد يحس صالح بيدِ فارسٍ مسلم تقبض يده بقوة و هو يلفظ أنفاسة الأخيرة بعد أن دافع باستماتة عن عِرضه ، و دينه ، و بلده.
و بينما أنفاس صالح تتأجج ، و قلبه يتمزّق ، و دموع حسرته لا يتوقف جريانها على خديه ، و هو يرى المعمعة ، و الرعب ، و الذعر ، و الأسى ؛ أثناء هذا كله ، تتحول مشاعره المشحونة إلى أبياتٍ حزينة ، متألمة ، ثكلى ، قد كلّلتها الحسرة ، و تعلّقت بها الآلام. تتفجر قريحته بكل ألم الدنيا ، و أسى التاريخ كله ، بكل عفوية ، و من خلال عَبَراته الخانقة ، فيسطّر في سماء التاريخ إحدى أعظم المراثي ، و التي عرفها المسلمون بكنيته: أبو البقاء الرندي ، من "رندة" جنوب الأندلس ، فيقول مكلوماً ، أسِفاً ، باكياً:
لكل شيء إذا ما تم نــقـصـان ***** فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ ***** من سرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ
وهذه الدار لا تـبـقي على أحد ***** ولا يدوم على حال لها شانُ
يمزق الدهر حتمًا كل سـابغـةٍ***** إذا نبت مشرفيات وخرصان
وينتضي كل سيــف للفناء ولو ***** كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍ ***** وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ
وأيـن مـا شـاده شـدَّادُ في إرمٍ ***** وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ
وأين ما حازه قارون من ذهب ***** وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ
أتى على الكل أمر لا مرد له***** حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من مُلك ومن مَلك ***** كما حكى عن خيال الطيفِ وسنانُ
دار الزمان على دارا وقاتله ***** وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ
كأنما الصعب لم يسهل له سببُ ***** يومًا ولا مَلك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة ***** وللزمان مسرات وأحزانُ
وللحوادث سلوان يسهلها ***** وما لما حل بالإسلام سلوانُ
دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاء له ***** هوى له أحدٌ وانهد نهلانُ
أصابها العينُ في الإسلام فارتزأتْ ***** حتى خلت منه أقطارٌ وبلدانُ
فاسأل بلنسيةَ ما شأنُ مرسيةٍ ***** وأين شاطبةٌ أمْ أين جيَّانُ
وأين قرطبةٌ دارُ العلوم فكم ***** من عالمٍ قد سما فيها له شانُ
وأين حمصُ وما تحويه من نزهٍ ***** ونهرها العذب فياض وملآنُ
قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما ***** عسى البقاء إذا لم تبقى أركان
تبكي الحنيفيةَ البيضاءَ من أسفٍ ***** كما بكى لفراق الإلف هيمانُ
حيث المساجدُ قد أضحتْ كنائسَ ما ***** فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصلبانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ ***** حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ
يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ ***** إن كنت في سِنَةٍ فالدهر يقظانُ
وماشيًا مرحًا يلهيه موطنهُ ***** أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ
تلك المصيبةُ أنْسَتْ ما تقدَّمها ***** وما لها مع طولَ الدهرِ نسيانُ
يا راكبين عتاقَ الخيلِ ضامرةً ***** كأنها في مجال السبقِ عقبانُ
وحاملين سيوفَ الهندِ مرهقةُ ***** كأنها في ظلام النقع نيرانُ
وراتعين وراء البحر في دعةٍ ***** لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطانُ
أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ ***** فقد سرى بحديثِ القومِ ركبانُ
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم ***** قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
لماذا التقاطع في الإسلام بينكمُ ***** وأنتمْ يا عباد الله إخوانُ
ألا نفوسٌ أبيَّاتٌ لها هممٌ ***** أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ
يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهُمُ ***** أحال حالهمْ جورُ وطغيانُ
بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم ***** واليومَ هم في بلاد الضدِّ عبدانُ
فلو تراهم حيارى لا دليل لهمْ ***** عليهمُ من ثيابِ الذلِ ألوانُ
ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهمُ ***** لهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ
يا ربَّ أمٍّ وطفلٍ حيلَ بينهما ***** كما تفرقَ أرواحٌ وأبدانُ
ثم يستحضر أبو البقاء صورةً مؤلمة:
وطفلةٍ مثل حسنِ الشمسِ ***** إذ طلعت كأنما ياقوتٌ ومرجانُ
يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً ***** والعينُ باكيةُ والقلبُ حيرانُ
و لا يصبر أبو البقاء على كل هذا الألم ، فينتحب كالثكلى ، و بكل أسف الدنيا ، بألمٍ لو قُسِّم على أهل الأرض لقتلهم غماً و كمداً ، و بحسرةٍ ، و نفسٍ فجيعة و فؤادٍ مطعون ، تصرخ دموعه بالبيت الخالد:
لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ ***** إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ
نعم ، الأندلس تمزّقت ، و لا ينكر ذلك مُنكِر. سَقَطت ، بكل عظمتها ، و حُسنِها ، و نعيمها ، و بهجتها. جنة الأرض ، ذهبت. نعيمٌ يكذّبه أهل الأقطار البعيدة ، تلاشى و اندثر ، و لم يبقَ منه إلا "غرناطة" لتحكي المأساة لعقودٍ تَلَت ، ليأتي عليها الدور بعد أخواتها بقرابة ِقَرنين.
كيف بدأت هذه المأساة؟
لنُعد للوراء بضع قرون....
تعليق