الاهواز منطقة «رمادية» بين العرب والايرانيين... تضيع فيها الملامح وتلتبس الانتماءات
برزت قضية الأهواز إلى العلن بعد التحركات الأخيرة التي جاءت للرد على ما قيل انه وثيقة وضعتها الحكومة الإيرانية لتغيير الواقع السكاني للأكثرية العربية في تلك المنطقة.
وتعتبر قضية الأهواز واحدة من أغرب القضايا التي شهدها التاريخ المعاصر، فعلى رغم أنها قضية شعب حاول التعبير عن نفسه بأكثر من طريقة, الإ أنه ظلّ محذوفاً من ذاكرة التاريخ وإهتمامات المؤرخين, لأسباب لم تكن من صنعه، اذ كتب عليه أن يقع وسط ما يمكن تسميته بـ»المنطقة الرمادية» أي تلك التي تضيع فيها الملامح وتلتبس الانتماءات، فهم في الشرق الإيراني «عرب مهاجرون»، وفي الغرب العربي «شيعة إيرانيون», وبين هاتين المقولتين، وجد ملايين من البشر أنفسهم وقد حشروا في البرزخ.
«سنحترق بنفطنا» عبارة أطلقها الشاعر والسياسي العراقي علي الشرقي في عشرينات القرن الماضي ، مستقرئاً بذلك ما ستسببه تلك المادة، التي رسمت مخططات الاستيلاء عليها مصائر أمم وشعوب، ومنها شعب الأهواز العربي الذي مازال يدفع ثمناً باهظاً من حرية ودماء أبنائه، فهو محروم من بهجة لغته، وإرتداء زيه، وتسمية أبنائه بأسماء أجدادهم، وإلغاء تاريخه وطمس حاضره، بل ووضعه في مرتبة أدنى أمام ما يفترض انه القانون، حتى شاعت بين الإيرانيين مقولة: «خصمك عربي، إذاً أنت الرابح» على حدّ ما يورد أبناء الأهواز.
لكن هل كانت القسمة عادلة؟ الحسابات البريطانية آنذاك، أجابت بنعم، طبقاً لتداخل أكثر من عامل وإعتبار، اقتضت توزيع الثروة المكتشفة بين العراق وإيران، للحفاظ على نوع من توازن إقليمي تتطلبه طبيعة المنطقة. وبعيد اً عن مقدار المظلومية التي لحقت بالأهوازيين جراء ذلك - وفقاً للمعاييرالحقوقية والأخلاقية- فقد بينت الأحداث اللاحقة مدى خبث هذه الرؤية ودقتها، خصوصاً في جوانبها الجيوسياسية .
إيران من دون الأهواز تنطفئ نيرانها ويعمها الصقيع، وبعبارة أخرى ستكون أشبه إقتصادياُ بجارتها الجنوبية أفغاتستان، فما هي الأهواز التي تحظى بكل تلك الأهمية بالنسبة لأيران؟ ومتى إبتدأت معاناتها؟ والى اين ستتجه بها الأحداث؟
الأهواز مدينة تقع على مسافة 120كلم الى الشمال الشرقي من المحمرة, جارة البصرة وشقيقتها الصغرى. تتكون من قسمين رئيسين هما الناصرية والأمينة يفصل بينهما نهر قارون (أو الدجيل). والناصرية هو الاسم القديم للمدينة، يصرّ أهلها على أنه يعود الى الأمير ناصر بن محمد الكعبي الذي شيدها في القرن الثامن عشر لتكون عاصمة لامارته، فيما تنسبها بعض المصادر الى الملك القاجاري ناصر الدين شاه.
واصبح لفظ الأهواز يرمز في الوقت عينه الى كامل اقليم «عربستان» الذي إرتبط أسمه بصفته السياسية هذه، إبتداء من العام 1459، عندما تمكن محمد بن فلاح من تاسيس الدولة المشعشعية التي إستمر وجودها أكثر من ثلاثة قرون، والتي سيطرت في بعض مراحلها على مساحات كبيرة إمتدت من كرمنشاه وبندر عباس في إ يران، الى القطيف وحائل في الجزيرة العربية، وحتى البصرة والكوت في العراق. والمشعشعون قبيلة عربية من هاشم من قريش، حلت هناك منذ الفتوحات الإسلامية الأولى، وكانت قد سبقتهم قبائل عربية أخرى تتابعت هجراتها منذ ما قبل ظهور الإسلام، كبني أسد وتميم وربيعة وكعب وغيرها.
وعلى رغم تمكن الشاه إسماعيل الصفوي من إحتلال عاصمتهم الحويزة، الإ أنه أضطر الى الإعتراف بحكم المشعشعين على الإقليم نتيجة الثورات المتعاقبة التي اشعلوها ضده. وفي العام 1636 إعترفت الدولتان الصفوية والعثمانية بإستقلال الدولة المشعشعية رسمياً، بعد فشل المحاولات المتكررة لإخضاعها.
شهد العام 1769 وقوع مأثرة كبرى كان لها أن تدخل التاريخ العربي من أوسع أبوابه، فقد إستطاع الأمير محمد بن سلمان الكعبي توحيد العشائر العربية المنتشرة هناك تحت رايته, سالكاً بذلك خط سلفه هانيء بن مسعود في معركة ذي قار، لكنه زاد عليه أنه دحر الصفويين والعثمانيين معاً، ثم إرتد نحو القوات البريطانية التابعة لشركة الهند الشرقية، وأجبرها على الخروج من المعركة، وبهذا فرضت «كعب» سيطرتها على الإقليم الى ما بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ومن ثم الإعلان عن ضمً الإقليم رسمياً الى إيران، إستناداً - كما قيل - الى معاهدة 1848 المعروفة بـ»أرضروم 2»، حين تخلت الدولة العثمانية عن مناطق نفوذها في عربستان لصالح الدولة الإيرانية. وعلى رغم إعتراف الشاه ناصر الدين بإستقلالها، الإ ان ذلك لم يمنع إيران من الإستيلاء على الإمارة التي إغتيل آخر حكامها الأمير «خزعل» خنقاً في طهران على يد أعوان الشاه «رضا خان» عام 1936 وفقاً للمصادر الأهوازية، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من البحث عن إستعادة الأهواز ومدنها بعض ذاكرتها المنزوعة من تاريخها المجهول أو المتجاهل.
الواقع الإجتماعي
تتميز مناطق الأهواز بواقعها الإجتماعي المكون من خليط مركب من الإنتماءات القبلية والطبقية التي غالباً ما وضعت في الإعتبارات الأولى مقارنة بمفهوم المواطنة أو الهوية الوطنية. فقبل العام 1925، لم تكن هذه المنطقة تعرف من الدولة بالمعنى الحديث الا ما تعاقبت عليه سلالات القبائل العربية والإمارات التي اقامتها، لذا لم يتشكل لديها مفهوم محدد لمعنى المواطنة التي لم تتبلور خارج نطاق الإنتماء القبلي، أما الهوية فغلب عليها طابعها الديني، حيث لم يكن الفكر القومي قد عرف بعد بحسب تعريفاته الحديثة. وما كادت طلائعه الأولى تلامس الأهوازيين، حتى وجدوا انفسهم في موقع آخر وتحت هيمنة قومية آخرى، يشكلون بالنسبة اليها أقلية قومية يخشى من تحركهم في إتجاه مختلف عن واقعهم الجديد.
وعلى رغم محاولات دمجهم مع محيطهم، الا ان الدولة الإيرانية بممارساتها التي إتخذت طابع القسر غالباً، فشلت في صوغ علاقات مختلفة عما كان سائداً بينهم، فبالمقارنة مع حياتهم الماضية في ظلّ الإمارات القبلية، وجدوا أنفسهم في وضع يتدهور بإستمرار متخذاً أبعاداً أكثر مأسوية. وعليه، ظل الإنتماء الى القبيلة هو الملاذ الأقرب الى واقعهم اليومي. ولما كانت القبيلة بتركيبتها البسيطة التي يسّيرها العرف و يغذيها الإحساس الفطري بعصبية الجماعة، لا تنتج بمفردها مفاهيم أعلى تحتاج الى نظم فكرية وسياسية اكثر تعقيداً، ظلّ مفهوم القومية ضعيف التأثير بين عرب الأهواز حتى مراحل متأخرة من تاريخهم الحديث. أما عن تقسيماتهم الإجتماعية، فيمكن إجمالها بما يأتي:
1 - التقسيم الطائفي ، وفيه : أ) المسلمون وهم الأكثرية الساحقة من السكان وينتسبون جميعاُ الى الشيعة الإثنى عشرية، ب) الصابئة المندائيين وديانتهم الخاصة، ج) الغجر (الكاولية) بأوضاعهم المعروفة التي تشابه أقرانهم في بعض الأقطار العربية.
2 - التقسيم الطبقي، وفيه ثلاث فئات: أ) الحضر وهم سكان المدن والأرياف القريبة حيث المهن الحرةّ والوظائف الحكومية والزراعة والتجارة والحرف وما شابه. ب) المعدان وهم سكان الأهوار التي تمتد على مساحات كبيرة من الإقليم، خصوصاً المحاذية لمحافظتي البصرة والعمارة العراقيتين، كهوري الحويزة والمحمرة وغيرهما، ويمتهن المعدان تربية الجاموس وبيع منتجاتها. ج) البدو ويطلق عليهم «العرب»، وهم يمتهنون تربية الأغنام والأبقار في البوادي القريبة التي تشكل نسبة لا بأس بها من أراضي الإقليم.
الجدير بالذكر أن إقليم عربستان الذي يساهم في انتاج الجزء الأهم من مجموع الدخل القومي لإيران، يكاد لا يحظى من ثرواته سوى ما تتصدق به عليه السلطات, وبالتالي يعيش أهله حياة إقتصادية متدنية نسبياً، قياساً بما يفترض أن تكون عليه حالهم.
الحياة السياسية
يزخر تاريخ الاهواز (عربستان) الحدبث بسلسلة متواصلة من الثورات والإنتفاضات التي كان قاسمها المشترك عروبة الأرض والشعب الأهوازيين. فما كادت تمضي سنوات ثلاث على إلحاق الإقليم بالدولة إلإيرانية، حتى إندلعت عام 1928 إنتفاضة عشائرية مسلحة بقيادة الشيخ محي الدين الزئبق، الذي تمكن من طرد الإيرانيين واقامة حكومة عمرت ستة اشهر قبل ان تسقطها القوات الإيرانية مجدداً. وإستمرت الهبّات والإنتفاضات العشائرية بالظهور، بفواصل زمنية قصيرة نسبياً لم يزد أكثرها عن بضع سنوات (سجل حصول تسع إننفاضات عشائرية مسلحة حتى العام 1949)، ومن ثم تبدأ التنظيمات الحزبية بالعمل على اسس مختلفة في طروحاتها وبرامجها ووسائلها التعبوية.
ساهم النضال العشائري، على رغم اساليبه البدائية، في إبقاء روح الثورة مشتعلة عند الأهوازيين، ولم تكن أهداف الأحزاب السياسية لاحقاُ تختلف في الجوهر عما طرحته العشائر، إذ أن مطلب الاستقلال ظلّ الناظم الأساس الذي جمع بين الثورات العشائرية ونضالات الأحزاب التي أدخلت أنماطاً جديدة على مقومات العمل التحرري، كتشكيل الخلايا السرية وتحديد طبيعة الإتصال بينها، ثم بناء الهرمية القيادية وطرق الدعاية والتحريض والقتال بأسلوب حرب العصابات وثوار المدن وما شاكل، وهو ما كانت القبائل تفتقر إليه.
ويعود تأخر ظهور الحركات السياسية في الأهواز، في جزئه الأهم, الى عاملين رئيسين: العصبية القبلية التي تعرقل بلورة هوية قومية في المدى الإستراتيجي، والمرجعية الدينية حيث شمولية النظرة الإسلامية التي تتجاوز مفهوم القوميات، يضاف الى ذلك أن الحركة القومية عموماً لم تكن قد عرفت في البلدان العربية، اذ كان معظمها آنذاك ما زال مستعمراً. لكن دخول هذا النوع من الأحزاب في الساحة الأهوازية، جاء متزامناً مع مثيلاتها في بلدان عربية أخرى مع نهايات النصف الاول من القرن العشرين. وإستطاعت الأخيرة إستلام السلطة في عدد من الأقطار العربية، مع ما سببته لشعوبها من ويلات وحروب، فيما «تكسرت النصال على النصال» في جسد الأهوازيين وأحزابهم.
كان «حزب السعادة» التشكيل الحزبي الأول الذي دشنه الأهوازيون عام 1946، وقد مثل مرحلة تحضيرية إستمرت عشر سنوات، قبل ان تتلاحق على الساحة تنظيمات حملت كل منها نظرياتها وأيدولوجياتها، الأمر الذي أدى الى إنتعاش غير مسبوق في الحياة السياسية هناك، وهو ما أمن بدوره إستمرارية الكفاح المسلح الذي كان مخططاً أن يبدا الاعلان عنه بعد قيام «جبهة تحرير عربستان» عام 1956. لكن الجبهة المذكورة كشفت عن نفسها قبل ان تكمل إستعداداتها، وذلك حينما أصدرت العديد من البيانات المؤيدة لجمال عبد الناصر إبان العدوان الثلاثي على مصر، ما جعلها تحت أنظار جهاز «السافاك»، وأعدم عدد من قادتها عام 1963 أثناء التحضير لثورة شاملة، لكن بعض ناشطيها شكل تنظيما آخر عرف بإسم «الجبهة الوطنية لتحرير الأهواز» حدد برنامجه السياسي بثلاث نقاط: عربستان جزء من الوطن العربي, الشعب العربي في عربستان جزء من الأمة العربية, إيمان الشعب العربي في عربستان بوحدة الأمة العربية. لكن «الأمة» كانت في واد آخر تماماً ، لذا لم تسمع أياً من نداءاته، وعندما فعلت، جاء ذلك على شكل كوميديا سوداء أرسلها القدر في لحظة عابثة، وعلى يد صدام حسين الذي كان النموذج الأسوأ لما ينتظرهم. فقد خذلهم قبلها بــــسنوات قليلة، حينما وقع مع الـــشاه إتفاقية الجزائر عام 1975، فأغلق مكاتب تنظيماتهم في العراق ومنع أي نشاط لهم، قبل ان يجعل من مناطقهم ساحة حرب طاحنة، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار؟.
خمسة عشر تشكيلاُ سياسياً أنشأها الأهوازيون طوال ما يقرب من نصف قرن، حملت تسميات معظمها مفردات ثلاثاً: «عربي – عروبة – تحرير» وهو ما يدلّ على تبلور الوعي القومي لدى الأهوازيين من جهة، وإيمانهم بأن أرضهم محتلة ينبغي العمل على تحريرها من جهة أخرى. ولما لم تكن ظروف النضال السلمي متوافرة، إتجهت غالبية هذه التنظيمات الى إتباع أساليب العمل المسلح. أما الآن، وبعد تغير المعطيات الدولية، فقد تتوافر الامكانية أمام العربستانيين لتنظيم صفوفهم، تهيئة للدخول في مرحلة من النضال السلمي هدفها المطالبة بإقرار حقوقهم المشروعة، وأهمها الإعتراف بخصوصيتهم القومية.
لكن « عربستان « عند شعبها ، هي « خوزستان « الإيرانية، وفيما تعني الأولى بلاد العرب، تعني الثــــانية بلاد القلاع والــــحصون، والفارق بين المصــــطلحين رمز مكثف لهوية وإنتماء: أي هل يســــمى المكان بأهله أم بمعالمه؟ وهل يحكمون المكان ويمنحونه سماتهم واسمـــاءهم, أم يتبعون من يحكمه لتلغى من ثم هوية الشعب، ويمحى تاريخ المكان؟ أنها جدلية التاريخ وإشكالية الجغرافيا .
وعربستان ليـــست زاوية في قصبة, ولا قرية مهملة على كتف مدينة، بل بلاد شاسعة تبلغ مساحتها 370 ألف كلم مربع، أي ما يعا دل 1،2 من مساحة أقطار بلاد الشام مجتمعة – سورية وفلــــسطين ولبنان والأردن -، وتضم ّ بين أربعة وثمانية ملايين نسمة – بحسب مصادر التقديرات – وهي تمتد على الضفة الشرقية للخليج وصــــــولاً حتى مضيق هرمز, مما يجعل الخليج عربياً بالكامل, أما إنتاجها من النفط، فيتراوح بين 3،5 وأربــــــعة ملايين برميل يومياً، مع 9،5مليون متر مكعب من الغاز، وفيها تســـــعة أنهار أحدها (قارون) صالح للملاحة ويعادل دجلة في غزارته. انها, بإختصار، حكاية مدن تحاول الإحتفاظ بذاكرتها، علها تدون يوماً ما اختزنته طويلاً، قبل أن تطويه مجاهل النسيان، فهل تحول مستحيلها ممكناً؟.
برزت قضية الأهواز إلى العلن بعد التحركات الأخيرة التي جاءت للرد على ما قيل انه وثيقة وضعتها الحكومة الإيرانية لتغيير الواقع السكاني للأكثرية العربية في تلك المنطقة.
وتعتبر قضية الأهواز واحدة من أغرب القضايا التي شهدها التاريخ المعاصر، فعلى رغم أنها قضية شعب حاول التعبير عن نفسه بأكثر من طريقة, الإ أنه ظلّ محذوفاً من ذاكرة التاريخ وإهتمامات المؤرخين, لأسباب لم تكن من صنعه، اذ كتب عليه أن يقع وسط ما يمكن تسميته بـ»المنطقة الرمادية» أي تلك التي تضيع فيها الملامح وتلتبس الانتماءات، فهم في الشرق الإيراني «عرب مهاجرون»، وفي الغرب العربي «شيعة إيرانيون», وبين هاتين المقولتين، وجد ملايين من البشر أنفسهم وقد حشروا في البرزخ.
«سنحترق بنفطنا» عبارة أطلقها الشاعر والسياسي العراقي علي الشرقي في عشرينات القرن الماضي ، مستقرئاً بذلك ما ستسببه تلك المادة، التي رسمت مخططات الاستيلاء عليها مصائر أمم وشعوب، ومنها شعب الأهواز العربي الذي مازال يدفع ثمناً باهظاً من حرية ودماء أبنائه، فهو محروم من بهجة لغته، وإرتداء زيه، وتسمية أبنائه بأسماء أجدادهم، وإلغاء تاريخه وطمس حاضره، بل ووضعه في مرتبة أدنى أمام ما يفترض انه القانون، حتى شاعت بين الإيرانيين مقولة: «خصمك عربي، إذاً أنت الرابح» على حدّ ما يورد أبناء الأهواز.
لكن هل كانت القسمة عادلة؟ الحسابات البريطانية آنذاك، أجابت بنعم، طبقاً لتداخل أكثر من عامل وإعتبار، اقتضت توزيع الثروة المكتشفة بين العراق وإيران، للحفاظ على نوع من توازن إقليمي تتطلبه طبيعة المنطقة. وبعيد اً عن مقدار المظلومية التي لحقت بالأهوازيين جراء ذلك - وفقاً للمعاييرالحقوقية والأخلاقية- فقد بينت الأحداث اللاحقة مدى خبث هذه الرؤية ودقتها، خصوصاً في جوانبها الجيوسياسية .
إيران من دون الأهواز تنطفئ نيرانها ويعمها الصقيع، وبعبارة أخرى ستكون أشبه إقتصادياُ بجارتها الجنوبية أفغاتستان، فما هي الأهواز التي تحظى بكل تلك الأهمية بالنسبة لأيران؟ ومتى إبتدأت معاناتها؟ والى اين ستتجه بها الأحداث؟
الأهواز مدينة تقع على مسافة 120كلم الى الشمال الشرقي من المحمرة, جارة البصرة وشقيقتها الصغرى. تتكون من قسمين رئيسين هما الناصرية والأمينة يفصل بينهما نهر قارون (أو الدجيل). والناصرية هو الاسم القديم للمدينة، يصرّ أهلها على أنه يعود الى الأمير ناصر بن محمد الكعبي الذي شيدها في القرن الثامن عشر لتكون عاصمة لامارته، فيما تنسبها بعض المصادر الى الملك القاجاري ناصر الدين شاه.
واصبح لفظ الأهواز يرمز في الوقت عينه الى كامل اقليم «عربستان» الذي إرتبط أسمه بصفته السياسية هذه، إبتداء من العام 1459، عندما تمكن محمد بن فلاح من تاسيس الدولة المشعشعية التي إستمر وجودها أكثر من ثلاثة قرون، والتي سيطرت في بعض مراحلها على مساحات كبيرة إمتدت من كرمنشاه وبندر عباس في إ يران، الى القطيف وحائل في الجزيرة العربية، وحتى البصرة والكوت في العراق. والمشعشعون قبيلة عربية من هاشم من قريش، حلت هناك منذ الفتوحات الإسلامية الأولى، وكانت قد سبقتهم قبائل عربية أخرى تتابعت هجراتها منذ ما قبل ظهور الإسلام، كبني أسد وتميم وربيعة وكعب وغيرها.
وعلى رغم تمكن الشاه إسماعيل الصفوي من إحتلال عاصمتهم الحويزة، الإ أنه أضطر الى الإعتراف بحكم المشعشعين على الإقليم نتيجة الثورات المتعاقبة التي اشعلوها ضده. وفي العام 1636 إعترفت الدولتان الصفوية والعثمانية بإستقلال الدولة المشعشعية رسمياً، بعد فشل المحاولات المتكررة لإخضاعها.
شهد العام 1769 وقوع مأثرة كبرى كان لها أن تدخل التاريخ العربي من أوسع أبوابه، فقد إستطاع الأمير محمد بن سلمان الكعبي توحيد العشائر العربية المنتشرة هناك تحت رايته, سالكاً بذلك خط سلفه هانيء بن مسعود في معركة ذي قار، لكنه زاد عليه أنه دحر الصفويين والعثمانيين معاً، ثم إرتد نحو القوات البريطانية التابعة لشركة الهند الشرقية، وأجبرها على الخروج من المعركة، وبهذا فرضت «كعب» سيطرتها على الإقليم الى ما بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ومن ثم الإعلان عن ضمً الإقليم رسمياً الى إيران، إستناداً - كما قيل - الى معاهدة 1848 المعروفة بـ»أرضروم 2»، حين تخلت الدولة العثمانية عن مناطق نفوذها في عربستان لصالح الدولة الإيرانية. وعلى رغم إعتراف الشاه ناصر الدين بإستقلالها، الإ ان ذلك لم يمنع إيران من الإستيلاء على الإمارة التي إغتيل آخر حكامها الأمير «خزعل» خنقاً في طهران على يد أعوان الشاه «رضا خان» عام 1936 وفقاً للمصادر الأهوازية، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من البحث عن إستعادة الأهواز ومدنها بعض ذاكرتها المنزوعة من تاريخها المجهول أو المتجاهل.
الواقع الإجتماعي
تتميز مناطق الأهواز بواقعها الإجتماعي المكون من خليط مركب من الإنتماءات القبلية والطبقية التي غالباً ما وضعت في الإعتبارات الأولى مقارنة بمفهوم المواطنة أو الهوية الوطنية. فقبل العام 1925، لم تكن هذه المنطقة تعرف من الدولة بالمعنى الحديث الا ما تعاقبت عليه سلالات القبائل العربية والإمارات التي اقامتها، لذا لم يتشكل لديها مفهوم محدد لمعنى المواطنة التي لم تتبلور خارج نطاق الإنتماء القبلي، أما الهوية فغلب عليها طابعها الديني، حيث لم يكن الفكر القومي قد عرف بعد بحسب تعريفاته الحديثة. وما كادت طلائعه الأولى تلامس الأهوازيين، حتى وجدوا انفسهم في موقع آخر وتحت هيمنة قومية آخرى، يشكلون بالنسبة اليها أقلية قومية يخشى من تحركهم في إتجاه مختلف عن واقعهم الجديد.
وعلى رغم محاولات دمجهم مع محيطهم، الا ان الدولة الإيرانية بممارساتها التي إتخذت طابع القسر غالباً، فشلت في صوغ علاقات مختلفة عما كان سائداً بينهم، فبالمقارنة مع حياتهم الماضية في ظلّ الإمارات القبلية، وجدوا أنفسهم في وضع يتدهور بإستمرار متخذاً أبعاداً أكثر مأسوية. وعليه، ظل الإنتماء الى القبيلة هو الملاذ الأقرب الى واقعهم اليومي. ولما كانت القبيلة بتركيبتها البسيطة التي يسّيرها العرف و يغذيها الإحساس الفطري بعصبية الجماعة، لا تنتج بمفردها مفاهيم أعلى تحتاج الى نظم فكرية وسياسية اكثر تعقيداً، ظلّ مفهوم القومية ضعيف التأثير بين عرب الأهواز حتى مراحل متأخرة من تاريخهم الحديث. أما عن تقسيماتهم الإجتماعية، فيمكن إجمالها بما يأتي:
1 - التقسيم الطائفي ، وفيه : أ) المسلمون وهم الأكثرية الساحقة من السكان وينتسبون جميعاُ الى الشيعة الإثنى عشرية، ب) الصابئة المندائيين وديانتهم الخاصة، ج) الغجر (الكاولية) بأوضاعهم المعروفة التي تشابه أقرانهم في بعض الأقطار العربية.
2 - التقسيم الطبقي، وفيه ثلاث فئات: أ) الحضر وهم سكان المدن والأرياف القريبة حيث المهن الحرةّ والوظائف الحكومية والزراعة والتجارة والحرف وما شابه. ب) المعدان وهم سكان الأهوار التي تمتد على مساحات كبيرة من الإقليم، خصوصاً المحاذية لمحافظتي البصرة والعمارة العراقيتين، كهوري الحويزة والمحمرة وغيرهما، ويمتهن المعدان تربية الجاموس وبيع منتجاتها. ج) البدو ويطلق عليهم «العرب»، وهم يمتهنون تربية الأغنام والأبقار في البوادي القريبة التي تشكل نسبة لا بأس بها من أراضي الإقليم.
الجدير بالذكر أن إقليم عربستان الذي يساهم في انتاج الجزء الأهم من مجموع الدخل القومي لإيران، يكاد لا يحظى من ثرواته سوى ما تتصدق به عليه السلطات, وبالتالي يعيش أهله حياة إقتصادية متدنية نسبياً، قياساً بما يفترض أن تكون عليه حالهم.
الحياة السياسية
يزخر تاريخ الاهواز (عربستان) الحدبث بسلسلة متواصلة من الثورات والإنتفاضات التي كان قاسمها المشترك عروبة الأرض والشعب الأهوازيين. فما كادت تمضي سنوات ثلاث على إلحاق الإقليم بالدولة إلإيرانية، حتى إندلعت عام 1928 إنتفاضة عشائرية مسلحة بقيادة الشيخ محي الدين الزئبق، الذي تمكن من طرد الإيرانيين واقامة حكومة عمرت ستة اشهر قبل ان تسقطها القوات الإيرانية مجدداً. وإستمرت الهبّات والإنتفاضات العشائرية بالظهور، بفواصل زمنية قصيرة نسبياً لم يزد أكثرها عن بضع سنوات (سجل حصول تسع إننفاضات عشائرية مسلحة حتى العام 1949)، ومن ثم تبدأ التنظيمات الحزبية بالعمل على اسس مختلفة في طروحاتها وبرامجها ووسائلها التعبوية.
ساهم النضال العشائري، على رغم اساليبه البدائية، في إبقاء روح الثورة مشتعلة عند الأهوازيين، ولم تكن أهداف الأحزاب السياسية لاحقاُ تختلف في الجوهر عما طرحته العشائر، إذ أن مطلب الاستقلال ظلّ الناظم الأساس الذي جمع بين الثورات العشائرية ونضالات الأحزاب التي أدخلت أنماطاً جديدة على مقومات العمل التحرري، كتشكيل الخلايا السرية وتحديد طبيعة الإتصال بينها، ثم بناء الهرمية القيادية وطرق الدعاية والتحريض والقتال بأسلوب حرب العصابات وثوار المدن وما شاكل، وهو ما كانت القبائل تفتقر إليه.
ويعود تأخر ظهور الحركات السياسية في الأهواز، في جزئه الأهم, الى عاملين رئيسين: العصبية القبلية التي تعرقل بلورة هوية قومية في المدى الإستراتيجي، والمرجعية الدينية حيث شمولية النظرة الإسلامية التي تتجاوز مفهوم القوميات، يضاف الى ذلك أن الحركة القومية عموماً لم تكن قد عرفت في البلدان العربية، اذ كان معظمها آنذاك ما زال مستعمراً. لكن دخول هذا النوع من الأحزاب في الساحة الأهوازية، جاء متزامناً مع مثيلاتها في بلدان عربية أخرى مع نهايات النصف الاول من القرن العشرين. وإستطاعت الأخيرة إستلام السلطة في عدد من الأقطار العربية، مع ما سببته لشعوبها من ويلات وحروب، فيما «تكسرت النصال على النصال» في جسد الأهوازيين وأحزابهم.
كان «حزب السعادة» التشكيل الحزبي الأول الذي دشنه الأهوازيون عام 1946، وقد مثل مرحلة تحضيرية إستمرت عشر سنوات، قبل ان تتلاحق على الساحة تنظيمات حملت كل منها نظرياتها وأيدولوجياتها، الأمر الذي أدى الى إنتعاش غير مسبوق في الحياة السياسية هناك، وهو ما أمن بدوره إستمرارية الكفاح المسلح الذي كان مخططاً أن يبدا الاعلان عنه بعد قيام «جبهة تحرير عربستان» عام 1956. لكن الجبهة المذكورة كشفت عن نفسها قبل ان تكمل إستعداداتها، وذلك حينما أصدرت العديد من البيانات المؤيدة لجمال عبد الناصر إبان العدوان الثلاثي على مصر، ما جعلها تحت أنظار جهاز «السافاك»، وأعدم عدد من قادتها عام 1963 أثناء التحضير لثورة شاملة، لكن بعض ناشطيها شكل تنظيما آخر عرف بإسم «الجبهة الوطنية لتحرير الأهواز» حدد برنامجه السياسي بثلاث نقاط: عربستان جزء من الوطن العربي, الشعب العربي في عربستان جزء من الأمة العربية, إيمان الشعب العربي في عربستان بوحدة الأمة العربية. لكن «الأمة» كانت في واد آخر تماماً ، لذا لم تسمع أياً من نداءاته، وعندما فعلت، جاء ذلك على شكل كوميديا سوداء أرسلها القدر في لحظة عابثة، وعلى يد صدام حسين الذي كان النموذج الأسوأ لما ينتظرهم. فقد خذلهم قبلها بــــسنوات قليلة، حينما وقع مع الـــشاه إتفاقية الجزائر عام 1975، فأغلق مكاتب تنظيماتهم في العراق ومنع أي نشاط لهم، قبل ان يجعل من مناطقهم ساحة حرب طاحنة، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار؟.
خمسة عشر تشكيلاُ سياسياً أنشأها الأهوازيون طوال ما يقرب من نصف قرن، حملت تسميات معظمها مفردات ثلاثاً: «عربي – عروبة – تحرير» وهو ما يدلّ على تبلور الوعي القومي لدى الأهوازيين من جهة، وإيمانهم بأن أرضهم محتلة ينبغي العمل على تحريرها من جهة أخرى. ولما لم تكن ظروف النضال السلمي متوافرة، إتجهت غالبية هذه التنظيمات الى إتباع أساليب العمل المسلح. أما الآن، وبعد تغير المعطيات الدولية، فقد تتوافر الامكانية أمام العربستانيين لتنظيم صفوفهم، تهيئة للدخول في مرحلة من النضال السلمي هدفها المطالبة بإقرار حقوقهم المشروعة، وأهمها الإعتراف بخصوصيتهم القومية.
لكن « عربستان « عند شعبها ، هي « خوزستان « الإيرانية، وفيما تعني الأولى بلاد العرب، تعني الثــــانية بلاد القلاع والــــحصون، والفارق بين المصــــطلحين رمز مكثف لهوية وإنتماء: أي هل يســــمى المكان بأهله أم بمعالمه؟ وهل يحكمون المكان ويمنحونه سماتهم واسمـــاءهم, أم يتبعون من يحكمه لتلغى من ثم هوية الشعب، ويمحى تاريخ المكان؟ أنها جدلية التاريخ وإشكالية الجغرافيا .
وعربستان ليـــست زاوية في قصبة, ولا قرية مهملة على كتف مدينة، بل بلاد شاسعة تبلغ مساحتها 370 ألف كلم مربع، أي ما يعا دل 1،2 من مساحة أقطار بلاد الشام مجتمعة – سورية وفلــــسطين ولبنان والأردن -، وتضم ّ بين أربعة وثمانية ملايين نسمة – بحسب مصادر التقديرات – وهي تمتد على الضفة الشرقية للخليج وصــــــولاً حتى مضيق هرمز, مما يجعل الخليج عربياً بالكامل, أما إنتاجها من النفط، فيتراوح بين 3،5 وأربــــــعة ملايين برميل يومياً، مع 9،5مليون متر مكعب من الغاز، وفيها تســـــعة أنهار أحدها (قارون) صالح للملاحة ويعادل دجلة في غزارته. انها, بإختصار، حكاية مدن تحاول الإحتفاظ بذاكرتها، علها تدون يوماً ما اختزنته طويلاً، قبل أن تطويه مجاهل النسيان، فهل تحول مستحيلها ممكناً؟.