حرب داحس والغبراء بين قناتي الجزيرة والعربية :اصطياد المراسلين ومراقبة متبادلة
كحرب 'داحس والغبراء'.. تجري فصول معركة إعلامية طاحنة بين قناتي 'الجزيرة' و'العربية'.. اللتين تتواصل الحروب بينهما علي أكثر من جبهة.. وفي أكثر من اتجاه.. وأصبح ما يجري علي ساحتيهما من صراع يشبه تماما لعبة 'القط والفأر'.. كل منهما يتربص بالآخر.. ويسعي لالتهامه.. والإجهاز عليه.. حتي أن المنافسة بينهما خرجت من دائرة التنافس الإعلامي إلي دائرة كسر العظام.
قد لا يدرك الكثير من المشاهدين أبعاد وخفايا تلك الحرب القائمة علي جبهتين أماميتين.. إحداهما تتشابك عند مناطق التوتر والتلامس المباشر في قطر والسعودية.. حيث الرعاية المادية والسياسية لكلتا القناتين.. والأخري تمتد عبر مواقع انطلاق القناتين.. إن في 'الدوحة' حيث تبث قناة 'الجزيرة' إرسالها أو في 'دبي' حيث تنطلق قناة 'العربية'.. وكذلك مكاتبهما المنتشرة في العديد من دول العالم، ومناطق الأحداث.. حيث تتزايد حدة الصراع في معركة تستخدم لغة المال والنفوذ لاصطياد المراسلين وجذب الصحفيين.. وقطف ثمار الحدث لدرجة أن مكتب 'وضاح خنفر' مدير قناة 'الجزيرة' والفلسطيني الجنسية في 'الدوحة' يرصد وبشكل دقيق وعلي مدار الساعة كل ما تذيعه قناة 'العربية'.. فيما يقبع 'صلاح نجم' المسئول التنفيذي الفعلي لقناة 'العربية' والمصري الجنسيةخلف الأضواء ليتابع عن كثب سبل مواجهة المساحات الهائلة التي اكتسبتها 'الجزيرة'.. والتي كان له دور كبير وفاعل في رسم ملامحها يوم تحمل هو وبضعة أفراد قلائل مسئولية إطلاق 'الجزيرة'.. تلك المحطة المثيرة للجدل.. إلي العالم.. لتقذف بدولة صغيرة مثل قطر من 'إمارة' رابضة فوق شطآن الخليج إلي نقطة انطلاق فجرت ثورة في تكنولوجيا المعلومات ونقل الأخبار والأحداث، واختراق حواجز الصمت الإعلامي، وتحريك المياه الراكدة في بحيرة الإعلام العربي، وإحداث ثقب هائل.. سرعان ما تحول إلي خرق كبير في مسيرة الإعلام الدولي الذي تسيد العالم لفترات غير وجيزة من عمر الزمن.
في ضوء كل ذلك.. لم يعد سرا أن صراعا سياسيا بين كل من قطر والمملكة السعودية يجري في الخفاء ليرتدي أقنعة الإعلام في مواجهة بعضهما البعض من خلال تصدير الأدوات الإعلامية التي بحوزة كل منهما وخاصة قناتي 'الجزيرة' و'العربية' في مواجهة الآخر.. وهو ما انعكس علي جولات من السباق الإعلامي.. كانت في مجملها تعكس ردود فعل لمواقف سياسية.. تباينت فيها مواقف الدولتين.. وراحت كل منهما توظف ما تمتلكه لمواجهة الأخري.. في جولات سباقية هي أشبه بالضرب تحت الحزام.. واتخذت تلك الصراعات وجوها عدة.. سواء من خلال السعي لاصطياد أكفأ المراسلين في القناتين.. أو عبر التسابق للتواجد في مواقع الأحداث ونقلها علي الهواء مباشرة بشكل أكثر تأثيرا وفعالية وقدرة علي إثبات الوجود.
وإذا كانت قناة 'الجزيرة' قد انطلقت في نوفمبر من العام 1996 كأول قناة فضائية ناطقة بالعربية تبث من العالم العربي.. فإن انطلاقة قناة 'العربية' والتي جاءت بعدها بسنوات سبقت غزو العراق بقليل.. إنما كانت بمثابة رد فعل علي مواقف 'الجزيرة'.. سواء تلك التي أطلقت الضوء علي مواقف سياسية مهمة في علاقة كل من قطر والسعودية.. أو في سياق سعي الأطراف الداعمة لها لأن تخلق نموذجا إعلاميا متوازنا يطرح رؤي أخري أكثر جاذبية وتأثيرا ويمكن أن تنجح في جذب عدد لا بأس به من المشاهدين الذين نجحت قناة 'الجزيرة' في جذبهم إلي دائرة اهتماماتها المختلفة.
هكذا راح صلاح نجم ومن معه من عدد غير قليل من المذيعين والفنيين الذين عمل بعضهم في قناة 'الجزيرة' مثل المذيعة النشطة 'منتهي الرميحي' والتي واكبت انطلاقة 'العربية' منذ بدايتها.. راح هؤلاء يرسمون نموذجا متقاربا لما تبثه قناة 'الجزيرة'.. في تزاحم بات ملموسا منذ اللحظات الأولي لانطلاقة قناة 'العربية'.. حتي أن العديد من المشاهدين كان يجد نفسه مرغما علي مشاهدة إحدي القناتين بعد أن راحت النشرات والبرامج المتنوعة.. والمتشابهة إلي حد كبير تأخذ نفس المساحات.. في نفس التوقيت.. علي ذات الترددات.. ومما أسهم في ذلك تلك الإمكانيات الهائلة التي رصدت ل'الجزيرة' منذ انطلاقتها من خلال دولة قطر الممول الرئيسي والداعم المباشر للقناة.. أو من خلال رجال الأعمال القريبين من المملكة العربية السعودية والذين لم يبخلوا عن تقديم كافة أنواع الدعم التي تدفع بقناة 'العربية' لأن تكون منافسا رئيسا لقناة 'الجزيرة'.
هكذا راح المشاهدون يتابعون عمليات تنقل المراسلين.. بعد أن نجحت قناة 'العربية' في استمالة بعضهم.. وجذبهم للعمل فيها.. وقد بات ذلك ملحوظا بشكل واضح في مراسلي 'الجزيرة' في واشنطن وفي فلسطين حيث تحول البعض منهم إلي العمل في 'العربية' بعد أن كان مراسلا فاعلا ل'الجزيرة'.. وهكذا راحت دائرة التركيز علي المراسلين وكيفية اصطيادهم تمثل واحدة من أبواب التزاحم.. وجبهات الحرب الإعلامية التي راحت قناة 'العربية' تستخدمها بكل قوة لتحقيق هدفها في اكتساب الخبرات.. وإفقاد 'الجزيرة' أبرز عناصرها المتميزة.. ولذا لم يكن غريبا أن تنجح قناة 'العربية' في استمالة واحدة من المذيعات المشهورات والمعروفة بأدائها العالي والمتميز وهي 'إيمان بنورة' والتي غيرت اسمها مؤخرا إلي 'إيمان عياد'.. حيث كادت قناة 'العربية' تضمها إلي صفوفها لولا أن 'الجزيرة' تنبهت للأمر وتصرفت معه بشكل سريع وعاجل.. واستطاعت أن ترفع مرتب 'إيمان بنورة' بما قيمته ثلاثة عشر ألف ريال قطري فوق ما كانت تعرضه عليها 'العربية' حتي تستمر في العمل بالقناة.. وبالفعل استطاعت 'الجزيرة' أن تحتفظ بالمذيعة المتميزة 'إيمان بنورة' ابنة 'بيت لحم' في فلسطين.. ولكن الحرب لم تتوقف بل تواصلت بخطوات وطرق مختلفة.. وقيل في هذا إن 'العربية' استطاعت إقناع كل من: 'أحمد كامل' مراسل 'الجزيرة' في 'بروكسل' و'أطوار بهجت' مراسلة 'الجزيرة' في 'بغداد' للعمل ضمن فريقها وترك العمل في 'الجزيرة' وذلك في الأسبوع الماضي في خطوة تمثل تطورا مهما علي صعيد الصراع الدائر بين القناتين.
لقد عكس هذا الصراع نفسه في العديد من المواقف السياسية والتي تستغل فيها كلتا الدولتين أداتها الإعلامية لتوجيه سهامها.. بضربات مبطنة إلي الأخري.. وقد كان واضحا بشكل بالغ هذا الغياب المتعمد لقناة 'العربية' عن تغطية أعمال حدث مهم شهدته أرض 'الدوحة' خلال الأيام القليلة الماضية.. فقد انعقدت علي أرض 'الدوحة' القمة الثانية التي تضم دول الجنوب والصين بحضور ممثلين ل'132' دولة.. وهو حدث ليس بقليل سواء علي صعيد عشرات الرؤساء الذين شاركوا أو رؤساء الوفود أو علي صعيد أهمية القضايا التي ناقشها أحد أهم ثالث تجمع في الأمم المتحدة.. لم تحضر قناة 'العربية'.. ولم يحضر أي مراسل عنها.. ولم تبد القناة اهتماما بالحدث الذي جري علي بعد مسافة محدودة من مكان انطلاقتها في 'دبي'.. كان لافتا لانتباه الجميع أن غياب 'العربية' إنما يأتي في سياق الحرب الإعلامية المستعرة بين الجانبين.. والذي اكتمل بتمثيل سعودي محدود للغاية في أعمال قمة دول الجنوب.. وهو ما يشير إلي تطور بالغ الأهمية علي صعيد علاقات الجانبين.. والأمر نفسه انعكس علي الوضع داخل غرف الضيوف الذين تمت دعوتهم من الخارج للمشاركة السياسية أو التغطية الإعلامية لهذا الحدث المهم الذي شهدته مدينة 'الدوحة'.. فقد اختارت إدارات الفنادق جميعها ويبدو أن ذلك حدث بتوجيهات حكومية أن تكتفي ببث قنوات محددة في غرف الضيوف لمتابعة الأحداث طيلة أسبوع كامل.. ولم يكن من القنوات العربية إلا قناة 'الجزيرة' والقناة 'المصرية'.. أما قناة 'العربية' فقد غابت تماما ولم يكن باستطاعة الوفود الوصول إليها أو مشاهدتها في أماكن تواجدهم بالفنادق المترامية في مدينة 'الدوحة'.
لقد كان مثيرا للدهشة أن تصل الأزمة بين كل من الجانبين حد أن يصدر قرار سعوديا قبيل عدة أشهر بمنع كافة العاملين في قناة 'الجزيرة' من المرور أو الدخول إلي الأراضي السعودية تحت أي ظرف من الظروف أو حال من الأحوال.. الأمر الذي دعا الصحفيين والعاملين بقناة 'الجزيرة' إلي تصعيد الموقف بتقديم شكوي إلي جهات دولية للتدخل في الأمر ومواجهة مثل هذا الموقف غير المسبوق.
لقد روي لي أحد العاملين في قناة 'الجزيرة' كيف أن هناك حالة من القلق في أروقة القناة.. جراء حدة المنافسة المحتدمة مع قناة 'العربية'.. والتي كانت الدافع والحافز للشكل والتطور الجديد الذي تم في ثوب قناة 'الجزيرة' في أقل من عامين، والذي انطلق مساء الأربعاء الماضي في احتفالية أسهمت الظروف في أن نكون شركاء علي انطلاقتها.. ف'الجزيرة' ورغم الكفاءة التي تميز برامجها الإخبارية والمتنوعة.. إلا أن الحفاظ علي النجاح الذي أحرزته المحطة يشكل هاجسا مشتركا لكافة العاملين فيها.. ولعل ذلك هو ما دفع بفريق 'الجزيرة' والذي يضم أكثر من 1250 موظفا يغطون مختلف التخصصات من صحفيين ومخرجين ومنتجي أخبار إلي مسئولي أقسام في إداراتها المختلفة للعمل من أجل إطلاق سلسلة من القنوات الإضافية في إطار القناة الأم في محاولة لخلق مسافة كبيرة في السباق المترامي بين القناتين والقنوات الأخري.. فتحت هذا المفهوم تم إطلاق قناة 'الجزيرة الرياضية' و'الجزيرة موبايل' و'الجزيرة مباشر' والتخطيط لإطلاق 'الجزيرة الدولية' الناطقة باللغة الإنجليزية في الربع الأخير من العام الحالي، وكذلك و'الجزيرة للأطفال' و'الجزيرة الوثائقية' مع بدايات العام 2006 بالاضافة بالطبع إلي 'الجزيرة نت'.
لقد كان واضحا أن مجلس إدارة 'الجزيرة' والذي يترأسه الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني المشرف علي القناة.. والذي يحتل العديد من المواقع في دولة قطر لكونه رئيس هيئة الإذاعة والتليفزيون ورئيس هيئة الإعلام الخارجي، وهو المتزوج من كريمة الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير قطر.. والذي يعاونه في الإدارة وضاح خنفر مدير القناة وأحمد الشيخ رئيس التحرير.. وهما فلسطينيان.. لقد بات واضحا أنهم كإدارة يسعون بكل ما أوتوا من جهد لأن يكرسوا مرحلة النجاح التي بلغتها 'الجزيرة'، والتي امتدت لتضم إلي شاشتها نحو 35 مليون مشاهد في أنحاء العالم المختلفة.
وتبرز التحديات التي تواجهها 'الجزيرة' في ظل ما تتعرض له من عمليات حصار من العديد من البلدان.. فبينما اتسم الخط الإعلامي لقناة 'العربية' بلغة تبعد إلي حد كبير عن إثارة الجدل والخلاف في الأوساط السياسية المختلفة.. سواء علي صعيد البلدان العربية أو في القضايا محل التشابك مع القوي الدولية خاصة بعد تولي الاعلامي السعودي عبد الرحمن الراشد رئاسة مجلس إدارتها تبرز لغة 'الجزيرة' بشكل أثار العديد من المشكلات.. لدرجة أن ثماني عشرة دولة عربية أغلقت مكاتب 'الجزيرة' لديها.. فيما حظرت نحو ثلاثين دولة أخري في العالم إشاراتها.. أما صحفيوها فقد دفعوا الثمن من خلال استشهاد اثنين من مراسليها خلال أدائهما لواجبهما في العمل الميداني، وتوقيف مراسلها الشهير تيسير علوني باتهامات زائفة.
لقد حاولت قناة 'الجزيرة'.. وعلي الرغم من إعلانها تمسكها بثوابتها الإعلامية.. التكيف مع الواقع المحيط بالقناة من كل جانب.. والذي يتراوح بين انتقادات حادة توجه للقناة من العديد من الحكومات والبلدان العربية إلي هجمات منظمة تقودها دوائر أمريكية.. وهو ما برز بشكل واضح علي لسان دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي وديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي وغيرهما من كبار المسئولين.. وذلك من خلال تقديم خطاب هاديء.. وصك مصطلحات محددة إزاء بعض القضايا التي كانت ولا تزال محل جدل وخلاف سياسي وإعلامي.. ومن بينها استبدال القناة لوصف 'مقاومين' أو 'استشهاديين' علي العمليات التي تقوم بها عناصر المقاومة العراقية ضد قوات الاحتلال الأمريكي والقوات التابعة لها إلي 'العمليات والتفجيرات الانتحارية'.
وفي هذا تحاول 'الجزيرة' تلاشي صدام مؤكد في العلاقة بين كل من قطر التي يولي حاكمها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ومعه وزير خارجيتها الشيخ حمد بن جاسم اهتماما متميزا للقناة.. وبين الإدارة الأمريكية التي تحتفظ بأكبر قاعدة عسكرية في المنطقة استخدمت لشن وإدارة الحرب علي العراق وهي قاعدة 'السيلية' في قطر.
إن 'الجزيرة'.. وفي ظل ممارستها لدورها الإعلامي.. تقود تيارا جارفا في العالم العربي نحو كشف الحقائق.. ولكنها وفي المقابل تضع حكومة قطر في حرج بالغ مع الحكومات والدول التي ترفض كشف الحقائق.. الأمر الذي يضع 'الجزيرة' ودولة قطر في مرمي الضغوط المتواصلة. والتي تتواكب مع تنافس إعلامي حاد، يضع 'الجزيرة' في مأزق غير قليل.. إذ هي تحارب علي جبهتين في آن واحد.. حرب المنافسة الإعلامية المشروعة.. التي تحول دون إخضاع القناة والدولة في آن واحد لتداعيات شتي في ظل عالم يتجه نحو إحكام الحلقات علي القنوات كي يتضاءل دورها الإعلامي.. وتتراجع رسالتها حتي يتسني له أن يحقق أهدافه.. دون إزعاج.
كحرب 'داحس والغبراء'.. تجري فصول معركة إعلامية طاحنة بين قناتي 'الجزيرة' و'العربية'.. اللتين تتواصل الحروب بينهما علي أكثر من جبهة.. وفي أكثر من اتجاه.. وأصبح ما يجري علي ساحتيهما من صراع يشبه تماما لعبة 'القط والفأر'.. كل منهما يتربص بالآخر.. ويسعي لالتهامه.. والإجهاز عليه.. حتي أن المنافسة بينهما خرجت من دائرة التنافس الإعلامي إلي دائرة كسر العظام.
قد لا يدرك الكثير من المشاهدين أبعاد وخفايا تلك الحرب القائمة علي جبهتين أماميتين.. إحداهما تتشابك عند مناطق التوتر والتلامس المباشر في قطر والسعودية.. حيث الرعاية المادية والسياسية لكلتا القناتين.. والأخري تمتد عبر مواقع انطلاق القناتين.. إن في 'الدوحة' حيث تبث قناة 'الجزيرة' إرسالها أو في 'دبي' حيث تنطلق قناة 'العربية'.. وكذلك مكاتبهما المنتشرة في العديد من دول العالم، ومناطق الأحداث.. حيث تتزايد حدة الصراع في معركة تستخدم لغة المال والنفوذ لاصطياد المراسلين وجذب الصحفيين.. وقطف ثمار الحدث لدرجة أن مكتب 'وضاح خنفر' مدير قناة 'الجزيرة' والفلسطيني الجنسية في 'الدوحة' يرصد وبشكل دقيق وعلي مدار الساعة كل ما تذيعه قناة 'العربية'.. فيما يقبع 'صلاح نجم' المسئول التنفيذي الفعلي لقناة 'العربية' والمصري الجنسيةخلف الأضواء ليتابع عن كثب سبل مواجهة المساحات الهائلة التي اكتسبتها 'الجزيرة'.. والتي كان له دور كبير وفاعل في رسم ملامحها يوم تحمل هو وبضعة أفراد قلائل مسئولية إطلاق 'الجزيرة'.. تلك المحطة المثيرة للجدل.. إلي العالم.. لتقذف بدولة صغيرة مثل قطر من 'إمارة' رابضة فوق شطآن الخليج إلي نقطة انطلاق فجرت ثورة في تكنولوجيا المعلومات ونقل الأخبار والأحداث، واختراق حواجز الصمت الإعلامي، وتحريك المياه الراكدة في بحيرة الإعلام العربي، وإحداث ثقب هائل.. سرعان ما تحول إلي خرق كبير في مسيرة الإعلام الدولي الذي تسيد العالم لفترات غير وجيزة من عمر الزمن.
في ضوء كل ذلك.. لم يعد سرا أن صراعا سياسيا بين كل من قطر والمملكة السعودية يجري في الخفاء ليرتدي أقنعة الإعلام في مواجهة بعضهما البعض من خلال تصدير الأدوات الإعلامية التي بحوزة كل منهما وخاصة قناتي 'الجزيرة' و'العربية' في مواجهة الآخر.. وهو ما انعكس علي جولات من السباق الإعلامي.. كانت في مجملها تعكس ردود فعل لمواقف سياسية.. تباينت فيها مواقف الدولتين.. وراحت كل منهما توظف ما تمتلكه لمواجهة الأخري.. في جولات سباقية هي أشبه بالضرب تحت الحزام.. واتخذت تلك الصراعات وجوها عدة.. سواء من خلال السعي لاصطياد أكفأ المراسلين في القناتين.. أو عبر التسابق للتواجد في مواقع الأحداث ونقلها علي الهواء مباشرة بشكل أكثر تأثيرا وفعالية وقدرة علي إثبات الوجود.
وإذا كانت قناة 'الجزيرة' قد انطلقت في نوفمبر من العام 1996 كأول قناة فضائية ناطقة بالعربية تبث من العالم العربي.. فإن انطلاقة قناة 'العربية' والتي جاءت بعدها بسنوات سبقت غزو العراق بقليل.. إنما كانت بمثابة رد فعل علي مواقف 'الجزيرة'.. سواء تلك التي أطلقت الضوء علي مواقف سياسية مهمة في علاقة كل من قطر والسعودية.. أو في سياق سعي الأطراف الداعمة لها لأن تخلق نموذجا إعلاميا متوازنا يطرح رؤي أخري أكثر جاذبية وتأثيرا ويمكن أن تنجح في جذب عدد لا بأس به من المشاهدين الذين نجحت قناة 'الجزيرة' في جذبهم إلي دائرة اهتماماتها المختلفة.
هكذا راح صلاح نجم ومن معه من عدد غير قليل من المذيعين والفنيين الذين عمل بعضهم في قناة 'الجزيرة' مثل المذيعة النشطة 'منتهي الرميحي' والتي واكبت انطلاقة 'العربية' منذ بدايتها.. راح هؤلاء يرسمون نموذجا متقاربا لما تبثه قناة 'الجزيرة'.. في تزاحم بات ملموسا منذ اللحظات الأولي لانطلاقة قناة 'العربية'.. حتي أن العديد من المشاهدين كان يجد نفسه مرغما علي مشاهدة إحدي القناتين بعد أن راحت النشرات والبرامج المتنوعة.. والمتشابهة إلي حد كبير تأخذ نفس المساحات.. في نفس التوقيت.. علي ذات الترددات.. ومما أسهم في ذلك تلك الإمكانيات الهائلة التي رصدت ل'الجزيرة' منذ انطلاقتها من خلال دولة قطر الممول الرئيسي والداعم المباشر للقناة.. أو من خلال رجال الأعمال القريبين من المملكة العربية السعودية والذين لم يبخلوا عن تقديم كافة أنواع الدعم التي تدفع بقناة 'العربية' لأن تكون منافسا رئيسا لقناة 'الجزيرة'.
هكذا راح المشاهدون يتابعون عمليات تنقل المراسلين.. بعد أن نجحت قناة 'العربية' في استمالة بعضهم.. وجذبهم للعمل فيها.. وقد بات ذلك ملحوظا بشكل واضح في مراسلي 'الجزيرة' في واشنطن وفي فلسطين حيث تحول البعض منهم إلي العمل في 'العربية' بعد أن كان مراسلا فاعلا ل'الجزيرة'.. وهكذا راحت دائرة التركيز علي المراسلين وكيفية اصطيادهم تمثل واحدة من أبواب التزاحم.. وجبهات الحرب الإعلامية التي راحت قناة 'العربية' تستخدمها بكل قوة لتحقيق هدفها في اكتساب الخبرات.. وإفقاد 'الجزيرة' أبرز عناصرها المتميزة.. ولذا لم يكن غريبا أن تنجح قناة 'العربية' في استمالة واحدة من المذيعات المشهورات والمعروفة بأدائها العالي والمتميز وهي 'إيمان بنورة' والتي غيرت اسمها مؤخرا إلي 'إيمان عياد'.. حيث كادت قناة 'العربية' تضمها إلي صفوفها لولا أن 'الجزيرة' تنبهت للأمر وتصرفت معه بشكل سريع وعاجل.. واستطاعت أن ترفع مرتب 'إيمان بنورة' بما قيمته ثلاثة عشر ألف ريال قطري فوق ما كانت تعرضه عليها 'العربية' حتي تستمر في العمل بالقناة.. وبالفعل استطاعت 'الجزيرة' أن تحتفظ بالمذيعة المتميزة 'إيمان بنورة' ابنة 'بيت لحم' في فلسطين.. ولكن الحرب لم تتوقف بل تواصلت بخطوات وطرق مختلفة.. وقيل في هذا إن 'العربية' استطاعت إقناع كل من: 'أحمد كامل' مراسل 'الجزيرة' في 'بروكسل' و'أطوار بهجت' مراسلة 'الجزيرة' في 'بغداد' للعمل ضمن فريقها وترك العمل في 'الجزيرة' وذلك في الأسبوع الماضي في خطوة تمثل تطورا مهما علي صعيد الصراع الدائر بين القناتين.
لقد عكس هذا الصراع نفسه في العديد من المواقف السياسية والتي تستغل فيها كلتا الدولتين أداتها الإعلامية لتوجيه سهامها.. بضربات مبطنة إلي الأخري.. وقد كان واضحا بشكل بالغ هذا الغياب المتعمد لقناة 'العربية' عن تغطية أعمال حدث مهم شهدته أرض 'الدوحة' خلال الأيام القليلة الماضية.. فقد انعقدت علي أرض 'الدوحة' القمة الثانية التي تضم دول الجنوب والصين بحضور ممثلين ل'132' دولة.. وهو حدث ليس بقليل سواء علي صعيد عشرات الرؤساء الذين شاركوا أو رؤساء الوفود أو علي صعيد أهمية القضايا التي ناقشها أحد أهم ثالث تجمع في الأمم المتحدة.. لم تحضر قناة 'العربية'.. ولم يحضر أي مراسل عنها.. ولم تبد القناة اهتماما بالحدث الذي جري علي بعد مسافة محدودة من مكان انطلاقتها في 'دبي'.. كان لافتا لانتباه الجميع أن غياب 'العربية' إنما يأتي في سياق الحرب الإعلامية المستعرة بين الجانبين.. والذي اكتمل بتمثيل سعودي محدود للغاية في أعمال قمة دول الجنوب.. وهو ما يشير إلي تطور بالغ الأهمية علي صعيد علاقات الجانبين.. والأمر نفسه انعكس علي الوضع داخل غرف الضيوف الذين تمت دعوتهم من الخارج للمشاركة السياسية أو التغطية الإعلامية لهذا الحدث المهم الذي شهدته مدينة 'الدوحة'.. فقد اختارت إدارات الفنادق جميعها ويبدو أن ذلك حدث بتوجيهات حكومية أن تكتفي ببث قنوات محددة في غرف الضيوف لمتابعة الأحداث طيلة أسبوع كامل.. ولم يكن من القنوات العربية إلا قناة 'الجزيرة' والقناة 'المصرية'.. أما قناة 'العربية' فقد غابت تماما ولم يكن باستطاعة الوفود الوصول إليها أو مشاهدتها في أماكن تواجدهم بالفنادق المترامية في مدينة 'الدوحة'.
لقد كان مثيرا للدهشة أن تصل الأزمة بين كل من الجانبين حد أن يصدر قرار سعوديا قبيل عدة أشهر بمنع كافة العاملين في قناة 'الجزيرة' من المرور أو الدخول إلي الأراضي السعودية تحت أي ظرف من الظروف أو حال من الأحوال.. الأمر الذي دعا الصحفيين والعاملين بقناة 'الجزيرة' إلي تصعيد الموقف بتقديم شكوي إلي جهات دولية للتدخل في الأمر ومواجهة مثل هذا الموقف غير المسبوق.
لقد روي لي أحد العاملين في قناة 'الجزيرة' كيف أن هناك حالة من القلق في أروقة القناة.. جراء حدة المنافسة المحتدمة مع قناة 'العربية'.. والتي كانت الدافع والحافز للشكل والتطور الجديد الذي تم في ثوب قناة 'الجزيرة' في أقل من عامين، والذي انطلق مساء الأربعاء الماضي في احتفالية أسهمت الظروف في أن نكون شركاء علي انطلاقتها.. ف'الجزيرة' ورغم الكفاءة التي تميز برامجها الإخبارية والمتنوعة.. إلا أن الحفاظ علي النجاح الذي أحرزته المحطة يشكل هاجسا مشتركا لكافة العاملين فيها.. ولعل ذلك هو ما دفع بفريق 'الجزيرة' والذي يضم أكثر من 1250 موظفا يغطون مختلف التخصصات من صحفيين ومخرجين ومنتجي أخبار إلي مسئولي أقسام في إداراتها المختلفة للعمل من أجل إطلاق سلسلة من القنوات الإضافية في إطار القناة الأم في محاولة لخلق مسافة كبيرة في السباق المترامي بين القناتين والقنوات الأخري.. فتحت هذا المفهوم تم إطلاق قناة 'الجزيرة الرياضية' و'الجزيرة موبايل' و'الجزيرة مباشر' والتخطيط لإطلاق 'الجزيرة الدولية' الناطقة باللغة الإنجليزية في الربع الأخير من العام الحالي، وكذلك و'الجزيرة للأطفال' و'الجزيرة الوثائقية' مع بدايات العام 2006 بالاضافة بالطبع إلي 'الجزيرة نت'.
لقد كان واضحا أن مجلس إدارة 'الجزيرة' والذي يترأسه الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني المشرف علي القناة.. والذي يحتل العديد من المواقع في دولة قطر لكونه رئيس هيئة الإذاعة والتليفزيون ورئيس هيئة الإعلام الخارجي، وهو المتزوج من كريمة الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير قطر.. والذي يعاونه في الإدارة وضاح خنفر مدير القناة وأحمد الشيخ رئيس التحرير.. وهما فلسطينيان.. لقد بات واضحا أنهم كإدارة يسعون بكل ما أوتوا من جهد لأن يكرسوا مرحلة النجاح التي بلغتها 'الجزيرة'، والتي امتدت لتضم إلي شاشتها نحو 35 مليون مشاهد في أنحاء العالم المختلفة.
وتبرز التحديات التي تواجهها 'الجزيرة' في ظل ما تتعرض له من عمليات حصار من العديد من البلدان.. فبينما اتسم الخط الإعلامي لقناة 'العربية' بلغة تبعد إلي حد كبير عن إثارة الجدل والخلاف في الأوساط السياسية المختلفة.. سواء علي صعيد البلدان العربية أو في القضايا محل التشابك مع القوي الدولية خاصة بعد تولي الاعلامي السعودي عبد الرحمن الراشد رئاسة مجلس إدارتها تبرز لغة 'الجزيرة' بشكل أثار العديد من المشكلات.. لدرجة أن ثماني عشرة دولة عربية أغلقت مكاتب 'الجزيرة' لديها.. فيما حظرت نحو ثلاثين دولة أخري في العالم إشاراتها.. أما صحفيوها فقد دفعوا الثمن من خلال استشهاد اثنين من مراسليها خلال أدائهما لواجبهما في العمل الميداني، وتوقيف مراسلها الشهير تيسير علوني باتهامات زائفة.
لقد حاولت قناة 'الجزيرة'.. وعلي الرغم من إعلانها تمسكها بثوابتها الإعلامية.. التكيف مع الواقع المحيط بالقناة من كل جانب.. والذي يتراوح بين انتقادات حادة توجه للقناة من العديد من الحكومات والبلدان العربية إلي هجمات منظمة تقودها دوائر أمريكية.. وهو ما برز بشكل واضح علي لسان دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي وديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي وغيرهما من كبار المسئولين.. وذلك من خلال تقديم خطاب هاديء.. وصك مصطلحات محددة إزاء بعض القضايا التي كانت ولا تزال محل جدل وخلاف سياسي وإعلامي.. ومن بينها استبدال القناة لوصف 'مقاومين' أو 'استشهاديين' علي العمليات التي تقوم بها عناصر المقاومة العراقية ضد قوات الاحتلال الأمريكي والقوات التابعة لها إلي 'العمليات والتفجيرات الانتحارية'.
وفي هذا تحاول 'الجزيرة' تلاشي صدام مؤكد في العلاقة بين كل من قطر التي يولي حاكمها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ومعه وزير خارجيتها الشيخ حمد بن جاسم اهتماما متميزا للقناة.. وبين الإدارة الأمريكية التي تحتفظ بأكبر قاعدة عسكرية في المنطقة استخدمت لشن وإدارة الحرب علي العراق وهي قاعدة 'السيلية' في قطر.
إن 'الجزيرة'.. وفي ظل ممارستها لدورها الإعلامي.. تقود تيارا جارفا في العالم العربي نحو كشف الحقائق.. ولكنها وفي المقابل تضع حكومة قطر في حرج بالغ مع الحكومات والدول التي ترفض كشف الحقائق.. الأمر الذي يضع 'الجزيرة' ودولة قطر في مرمي الضغوط المتواصلة. والتي تتواكب مع تنافس إعلامي حاد، يضع 'الجزيرة' في مأزق غير قليل.. إذ هي تحارب علي جبهتين في آن واحد.. حرب المنافسة الإعلامية المشروعة.. التي تحول دون إخضاع القناة والدولة في آن واحد لتداعيات شتي في ظل عالم يتجه نحو إحكام الحلقات علي القنوات كي يتضاءل دورها الإعلامي.. وتتراجع رسالتها حتي يتسني له أن يحقق أهدافه.. دون إزعاج.
تعليق