الحادي عشر: الحكم هبة وليس وصية من الله
الولاية والحكم هبة من الله وعطاء وليست وصية منه والعطاء ينفذه المعطي بينما الوصية ينفذها من أوصي بها وقد يعطيه للصالح أو للطالح وينزعه منهما متى أراد قال تعالى " قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (آل عمران:26 ) فهو سبحانه يعطي الملك وينزعه بنفسه من خلال تهئية الظروف لمن أراد له الحكم والولاية فلا يحتاج أن يوصي به قال تعالى " فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ " (البقرة:من الآية 251 ) لم يوص بداؤد وإنما آتاه الملك من عنده فما باله لم يفعل كذلك مع سيدنا علي إذا كنتم تزعمون أنه قد نصبه حاكما وإماما " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ " (البقرة:من الآية 258 ) فربنا عز وجل هو الذي آتى النمروذ الملك ليستدرجه و هو إذا أعطى الملك مكن لمن يعطيه في الأرض ونصره وإذا نصب فإنه لاينتظر موافقة البشر بل ينفذ تنصيبه كما فعل مع طالوت مع أنه ليس من بيت النبوة " وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ واللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " (البقرة:247 ) فقد إختار لهم طالوت ملكا وفرضه عليهم برغم معارضة الأكثريه لأنه هو من أراد طالوت و آتاه الملك كما مكن لذي القرنين من عنده عندما آتاه الحكم" وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا " (الكهف:83-84 ) فهو قد مكن لذي القرنين ونصره عندما آتاه الملك العقل والنقل يرفضان أن يوصي الله بأن يحكم المؤمنين شخص ثم لا يمكن له ويفرض حكمه لأنه هو مالك الملك فلا يتولى الملك أحد الا بمشئته وتمكينه سبحانه وتعالى فلا حاجة له أن يوصي به من لايملك تنفيذه من الناس
معنى الملك :
الملك على قسمين :
1-إما ان يكون حقيقيا مطلقا كملك الله سبحانه وتعالى حيث انه مالك كل شيء .
2-أو ان يكون اعتباريا أي غير حقيقي كان يملك الإنسان شيء ما .
وفي الحقيقة فان الملك لله على الإطلاق حيث انه مالك كل شيء ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ )(آل عمران: 26) أي ان الله سبحانه وتعالى هو مالك كل شيء ومالك مـا يملكه الناس .
ملك اصطلاحا هو وضع اليد على الشيء . ويأتي بمعنى الاستيلاء والاستبداد .
والملك اصطلاحا كل ما كان للإنسان التصرف فيه ولا يحق لغيره من الناس التصرف فيه إلا بأذنه .
والملك بكسر ألام اصطلاحا هو رئيس الدولة ويقابله الخليفة .
قال تعالى ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:26) .
في هذه الآية الشريفة يتبين ان الله سبحانه وتعالى هو المالك لكل شيء وهو مالك ما يملكه الإنسان لان ما يملكه الله إنما تملك حقيقي أما ما يملكه الإنسان فإنما يملكه تملك اعتباريا وليس مطلقا . فالإنسان يملك أعضاء جسمه من يد ورجل ولسان وقلب ولكن المالك الحقيقي لهذه الأعضاء إنما هو الحق سبحانه وتعالى .
وحيث ان الله سبحانه وتعالى هو المالك المطلق الحقيقي لكل ما هو موجود فله التصرف في الملك فيعطي بحكمة وينزع بحكمة .
إذا نظرنا إلى عطاء الله سبحانه وتعالى نجد انه سبحانه وتعالى يعطي عباده بأجمعهم . فالله رحيم بعباده فلا يعطي من ملكه هذا ويمنع ذلك . فإذا أعطى ومنع فلحكمة أو امتحان ليرى صبر عباده وتعلقهم به سبحانه وتعالى من خلال المنع ويرى شكرهم وتعلقهم به من خلال العطاء . ولكي يرى هل هم منصاعين لما يأمر وما ينهى عنه .
وإذا رجعنا إلى القران الكريم نجد ان صاحب الإشكالات لم يفطن إلى مسالة مهمة كان من الأولى له ان ينظر فيها بتدبر إلا وهي إعطاء الله سبحانه وتعالى الملك أو ما عبر عنه بان الحكم والولاية هبة من الله سبحانه وتعالى .
إذا ما هو هذا الملك الذي يهبه الله سبحانه وتعالى إلى الناس بحسب وصف الكتاب العزيز ؟.
إذا رجعنا بحسب القران الكريم نجد ان هبة الملك الذي هو بمعنى الحكم أو الخلافة التي يعطيها الله سبحانه وتعالى إلى عباده لا بد ان يصحبها شيئان متلازمان وهما الحكمة والعلم أو علم الكتاب فقال تعالى ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء:54) وحكى عن طالوت فقال ( قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )(البقرة:247) وقال عن داود عليه السلام ( وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)(البقرة:251) وقال عنه عليه السلام ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (صّ:20) وعن سليمان عليه السلام قال ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (صّ:35) فأعطاه الله سبحانه الملك وسخر له الريح والجن وكل شيء ولكن الزم الملك بالعلم فقال في موضع آخر ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِين َ) (الأنبياء:79) .
الفيصل في هذا الكلام :
استشهد صاحب الإشكالات بآية شريفة رايته قد وافقني وشاركني في الرأي . وهو ان الله سبحانه إنما يعطي الملك بمعنى الحكم والخلافة من يصاحبه العلم والحكمة . إذ استشهد بقوله تعالى (وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (الكهف: 83-84) . وتمكين الله سبحانه لذي القرنين وإعطائه أسباب كل شيء إنما أعطاه علم كل شيء لان الله سبحانه مسبب الأسباب فإذا أعطى ذي القرنين أسباب كل شيء فإنما أعطاه علم كل شيء . وبذلك نجد ان ذي القرنين ملك الأرض لوجود العلم والأسباب معه .
نعم الملك بمنى الحاكم وظيفة من وظائف النبي أو الخليفة لا تسقط هذه النبوة والخلافة أو الإمامة بعدم توصل النبي أو الخليفة إلى عرش الحكم . ولذلك نجد ان الله سبحانه وتعالى أعطى إبراهيم الملك ولكن لم يصل إلى العرش فقال ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء:54) ولكن الملك كـان نمرود ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258) وكذلك بالنسبة لموسى عليه السلام فكان هو النبي والخليفة حيث ان الله سبحانه اختاره واصطفاه ولكن لم يصل إلى عرش الملك ففرعون كان هو الملك .
نظرة في قوله ( وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ)(آل عمران: 26) :
العز : أي بمعنى القوة فمن اعزه الله فقد قواه ومن ذلك قوله تعالى ( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) (يّـس:14) أي قواهم بثالث . والعزة أي الغلبة ويقال ارض عزيزة أي شديدة . وفي الاصطلاح معناه القوي .
الذل : هو عكس العز وهو اللين . وفي الاصطلاح الحقارة والهوان والخضوع .
وذا رجعنا للآية الشريفة( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:26) . نجد ان الذل ملازم مع ذلك الملك الذي جاء من خلال السطو والاستيلاء والاستبداد وقهر الناس . وقد تحدث التاريخ عن ممالك كثيرة إنما قامت من خلال السطو واستبداد الناس وقهرهم . ومن هذه الممالك على سبيل المثال تلك الإمبراطورية الرومانية التي تأسست على قمع ومحو القيم الإنسانية . هذه الإمبراطورية التي كانت تعبد الأوثان خضعت وأذلت من قبل ذلك النبي المبشر وهو المسيح عليه السلام . لتعتنق الدين المسيحي وتخضع له بعد برهة من الزمن ولتخضع مرة أخرى وتتلاشى على يد نبي الرحمة محمد (ص) . وهذه المملكة إنما هي مملكة من الممالك الكثيرة مثل الفرعونية والسبئية والفارسية . فهذه الممالك لطالما حاربت الأنبياء وخلفاء الله في الأرض ولكن أذلها الله تعالى لتخضع لهم وتتلاشى فلا يبقى لها إلا اسمها .
وفي المقابل نجد ان المملكة التي جاءت من قبل الله سبحانه وتعالى تلك الممالك التي جاءت لترسخ العدل الإلهي والقيم الإنسانية قد اعزها الله سبحانه وتعالى . فطأطأ الله لها رؤوس الجبابرة وجعل منها رموز للإنسانية مثل مملكة سليمان ويوسف ومملكة خاتم الأنبياء (ص) . فهذه الممالك خلدها التاريخ وجعل منها رمزا للإنسانية .
تعليق