إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

طهران تنبض بقلبين: ثورة في الشارع وسهرة في الداخل

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • طهران تنبض بقلبين: ثورة في الشارع وسهرة في الداخل

    طهران تنبض بقلبين: ثورة في الشارع وسهرة في الداخل

    زينب غصن


    تأخرت الطائرة التي ستقلنا إلى طهران أكثر من نصف ساعة عن موعدها. بدا الجلوس في قاعة الانتظار أمرا لا مفر منه. لكن الوضع مختلف هذه المرة. الشعور المسيطر هو أنني لست نفسي. حال من الضيق بدأت تجتاحني منذ أن ارتديت ذلك القميص الطويل فوق ملابسي الضيقة ووضعت على رأسي غطاء كنت قد اشتريته بالأمس من محل مختص ببيع ملابس المحجبات. القانون واضح: في إيران، على النساء ارتداء الحجاب. وهذا القانون يسري منذ لحظة ركوب الطائرة الإيرانية من مطار بيروت. بدأت حركة غريبة تسري في قاعة الانتظار عند البوابة رقم واحد. حركة جماعية يدفعها إيمان مجموعة متجانسة من البشر تتجه نحو إيران. صفوف الرجال بدأت بأداء صلاة العشاء جماعة في قاعة الانتظار يؤمهم سيد بعمامة سوداء. أما النساء فاتخذن زوايا واتجهن نحو القبلة في حركة مماثلة، قيام فركوع فسجود فقنوط. وتنتهي الصلاة مع فتح باب الطائرة لاستقبال الحجاج.
    تطل طهران من نافذة الطائرة كبيرة ومضيئة. تدخلها. غالبية موظفي الأمن العام هن نساء متشحات بالتشادور الأسود. وكما غالبية موظفي الأمن العام في أي بلد، وضعت الموظفات قناع وجه عبوس وجدي خال من الملامح أو الانفعالات: تبعات العمل الروتيني. بدت الحاجات الآتيات على الطائرة معنا متجانسات مع نفسهن في صف الانتظار الطويل. هذه هي إيران التي تسمعن عنها: جمهورية إسلامية. كنت أشعر بأن الكل يعرف أنني لست محجبة في الأساس وأن ما أضعه على رأسي ما هو إلا من مقتضيات الأمر الواقع. شعور بالإدعاء يجتاحني ويحرجني... شعور يقلقني.
    في شوارع طهران التي بدأت تستفيق، كانت الحركة سريعة، حركة المدن كبيرة كانت أم صغيرة تشبه بعضها عند الصباح. بدا أمر ارتداء القميص الطويل ووضع الحجاب لا مفر منه. تكتشف كم أن اللباس يعبر عن شخصيتك. في بيروت يمكنك أن ترتدي ما تريد بحيث يكون معيار ما تلبسه هو ذوقك بعد أن تفاصل على السعر. هنا كان الأمر مختلفا. أنت ترتدي ما يريده النظام من حولك وليس ما تريده أنت. تبدأ معايير حريتك الشخصية بالتغير منذ لحظة الخروج من المنزل. لست ضد تنظيم المجتمع لكن الاحساس بفرض أمر ما عليك يصبح هو الطاغي ويعميك عن أي إحساس آخر بجمال المدينة أو غرابة المجتمع عما اعتدته.
    الباب الصغير للمطعم الذي دخلناه لم يكن ينبئ بما في داخله. الديكور الشرقي الإيراني المليء بالألوان يبهرك. وتتسلل إلى مسامعك صوت موسيقى ما تلبث أن تكتشف مصدره: مغن في الخمسينيات من العمر تصدح حنجرته بأغاني حب فارسية على أنغام مجموعة من العازفين الجالسين وراءه. يحذرك الأصدقاء عندما تجلس أن عليك ألا تتمايل على الأنغام أو تظهر أي مظهر من مظاهر الطرب. هنا، عليك ضبط لغة جسدك بأقل حركة ممكنة. الرقص ممنوع بالتأكيد والتصفيق كذلك، لكن الإيرانيين الجالسين من حولك يخرقون هذا الحظر. تشعر بالإحراج: هل عليك أن تصفق أم لا. لكن الطرب المتمثل بارتفاع أصوات التصفيق يجرك إلى مجاراته. تعبر عن استغرابك لهذا الخرق لكنها الوسيلة الوحيدة للتعبير عن إعجابك بالمغني كما بالموسيقى التي لا تفهم من كلماتها شيئا لكنها تشعرك بحنين ما وحب مع كل نغمة.
    والإيرانيون من حولك لا يشبهون بشيء الصورة التي تصلك عبر الفضائيات أو عند زيارتك لضاحية بيروت الجنوبية (!). هم شعب يبدو واضحا عليهم حبهم للموسيقى والحياة، والنساء هنا لا يرتدين الأسود بل ألوان مختلفة فرحة يرافقها غطاء الرأس المشلوح على شعر نصفه ظاهر.
    تتذكر تلك النظرية التي تقول إن قوة النظام وتشدده تظهر في مدى انحسار الحجاب عن شعر النساء، فكلما انحسر الحجاب عن الرأس وقصر طول الثوب الشرعي بان ضعف إيمان الناس بهذا النظام.
    تصعد في سيارة التاكسي المتجهة من منزل الأصدقاء إلى الفندق. تأتيك فجأة نغمة تعرفها من الراديو. تشعر أن عينيك <<ستبظان>> من رأسك تماما كما يحصل في أفلام الرسوم المتحركة. <<إيه قول تاني كده... مين تقصدني انا؟ حبنا عشقنا هو انت بتتكلم عننا>>... صوت نانسي عجرم يخترق سكون الليل. تسأل الشوفير عن مصدر الكاسيت الذي شغله فيقول إن طهران فيها كل شيء. <<لكن أليس هذا حرام... أو ممنوع؟>> يهز الشوفير كتفيه وكأنه يقول <<لا مشكلة>> أو ربما <<لا أحد يحاسب>>. تكتشف مرة أخرى أن إيران ليست السعودية وان الانطباع الذي بدأ يتكون حول حرية الناس بالإدلاء بآرائهم المختلفة حول مرشحي الرئاسة ينطبق أيضا على ما يسمعونه في الراديو أو ربما يشاهدونه على التلفزيون. تؤكد لي صديقة لبنانية تعيش في إيران أن الصورة التي تتكون لمن يعيش في لبنان حول هذا البلد ما تلبث أن تتحطم لحظة ينتقل للعيش في إيران. فالجمهورية الإسلامية تحكم في بلد ثقافته الاسلامية تشعر بحاجات وضغوط المجتمع فتغض الطرف وتترك للناس هامشا من الحرية يمكنه أن يمنع الاحتقان. في الجمهورية الاسلامية لا يلتزم الجميع دينياً. هناك، في طهران، تكتشف كم هن جميلات. تمشي في الشارع فتشعر أن الغواية تتمايل أمامك، تحت المعطف والحجاب. تبحر النظر في ما حولك فترى واحدة وقد ارتدت بنطلونا قصيرا ومعطفا يصل إلى فوق الركبة بقليل مع غطاء للشعر يظهر أكثر مما يغطي، ولا تنسى طلاء الأظافر الظاهر على طرف أصابع قدميها ويديها ونظارات الشمس التي لا تفارق عينيها. تقول لك صديقتك المحجبة عن اقتناع أن هذا هو <<الستيريوتيب>> الخاص بالشابات الإيرانيات غير الملتزمات. أما الشبان، بخلاف الملتزمين ممن يطلقون لحاهم، فإن ما تراه في الشارع من شبان بشعر طويل مربوط أو بقصات شعر غريبة يغرقها <<الجيل>> تجعلك تشعر أنه، لولا معرفتك أن النظام في هذا البلد إسلامي لاعتقدت أنك في دولة أوروبية ما. هذا الاحساس يعززه التنظيم المدني لطهران التي يغلب عليها الطابع الغربي في البناء وتنتشر فيها الأشجار بشكل مفرط يذكرك بحال بعض المدن الأوروبية. هنا، وعلى الرغم مما يقال عن تلوث المدينة الذي لا يحتمل، تشعر أن تعداد الأشجار والمساحات الخضراء لا بد يفوق تعداد السكان.
    تفاجئك المدينة بناسها. هم مزيج من الشرق، في اللباس واللغة والكتابات على الجدران، ومن الغرب في التصرفات وطريقة العيش. هنا تسمع بأن الناس يعيشون في بيوتهم من دون حجاب، يغنون ويرقصون ويرتدون ما يريدون. هنا تسمع أن الناس قد يقيمون حفلات في منازلهم لا تختلف كثيرا عن حفلات مونو. في طهران كل شيء موجود يقول لك شوفير التاكسي لكنك ترفض أن تصدق. ربما لأن فكرتك عن الثورة ما زالت مطبوعة بالكربلائية الشيعية في التعاطي مع الحياة. أنت في لبنان، ترى مظاهر الثورة أكثر منها في إيران. ترفض التعميم، لا بد أن من رأيتهم في الطائرة يتجهون للحج يجدون أيضاً مبتغاهم في إيران. لكنك تتساءل: هل صدموا مثلك؟ لا بد أن يكون حالهم كذلك إذا ما تسنى لهم السير في شوارع طهران.
    هنا في طهران، النساء يتجولن في الشوارع، يضحكن مع بعض، يعدلن غطاء الرأس بعد أن يزلنه تماما، يقدن السيارات ويعملن من دون قيود وينتخبن رئيس الجمهورية. ايران ليست السعودية. تشعر في الجو ضيقاً من غطاء الرأس هذا لكنه لا يؤثر كثيرا في طريقة التصرف، هو إحساس غريب بأن الإيرانيات ألفن التعامل مع هذا الزي لكنهن يفضلن أن لا يكون موجودا، فيتحايلن عليه.
    هناك في إيران لا تجد إلا المفاجآت. حياتان: واحدة في العلن وأخرى في الخفاء. لكنهما حياتان لا ترفضان بعضهما البعض. لا تشعران بتناقض بينهما. حياة سياسية دينية ثورية في العلن وحياة اجتماعية متغربنة علمانية في الخفاء. تتساءل إن كانتا فعلا لا تلاحظان التناقض فيما بينهما. تفضحك حركة يدك التي ارتفعت نحو الرأس لتسوي خصلة شعر... لا تجدها. تقع اليد على حافة غطاء الرأس. تتحول إلى حركة أخرى تعدل فيه وتقربه أكثر إلى الأمام.

    (طهران)
    التعديل الأخير تم بواسطة Picasso; الساعة 05-07-2005, 09:37 PM.
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
x

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

صورة التسجيل تحديث الصورة

اقرأ في منتديات يا حسين

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

يعمل...
X