إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

شاعر من شعراء اهل البيت

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • شاعر من شعراء اهل البيت

    الأمير أبو فراس الحمداني


    المولود 320 / 321
    المتوفى 357


    الحق مهتضم والدين مخترم * وفئ آل رسول الله مقتسم
    والناس عندك لأناس فيحفظهم * سوم الرعاة ولا شاء ولا نعم
    إني أبيت قليل النوم أرقني * قلب تصارع فيه الهم والهمم
    وعزمة لا ينام الليل صاحبها * إلا على ظفر في طيه كرم
    يصان مهري لأمر لا أبوح به * والدرع والرمح والصمصامة الحذم (1)
    وكل مائرة الضبعين مسرحها * رمث الجزيرة والخذراف والعنم (2)
    وفتية قلبهم قلب إذا ركبوا * وليس رأيهم رأيا إذا عزموا
    يا للرجال أما لله منتصر * من الطغاة؟ أما لله منتقم
    بنو علي رعايا في ديارهم * والأمر تملكه النسوان والخدم
    محلئون فأصفى شربهم وشل * عند الورود وأوفى ودهم لمم (3)
    فالأرض إلا على ملاكها سعة * والمال إلا على أربابه ديم
    فما السعيد بها إلا الذي ظلموا * وما الشقي بها إلا الذي ظلموا
    للمتقين من الدنيا عواقبها * وإن تعجل منها الظالم الأثم
    أتفخرون عليهم لا أبا لكم * حتى كأن رسول الله جدكم؟!


    ____________

    (1) الحذم من السيوف بالحاء المهملة: القاطع.

    (2) مار: تحرك. الضبع: العضد. كناية عن السمن. الرمث بكسر المهملة: خشب يضم بعضه إلى بعض ويسمى: الطوف. الخذراف بكسر الخاء ثم الدال المعجمتين: نبات إذا أحس بالصيف يبس. العنم بفتح المهملة. نبات له ثمرة حمراء يشبه به البنان المخضوب.

    (3) حلاء عن الماء: طرده. الوشل الماء القليل. لم: أي غب.
    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 2
    --------------------------------------------------------------------------------



    ولا توازن فيما بينكم شرف * ولا تساوت لكم في موطن قدم
    ولا لكم مثلهم في المجد متصل * ولا لجدكم معاشر جدهم
    ولا لعرقكم من عرقهم شبه * ولا نثيلتكم من أمهم أمم (1)
    قام النبي بها (يوم الغدير) لهم * والله يشهد والأملاك والأمم
    حتى إذا أصبحت في غير صاحبها * باتت تنازعها الذؤبان والرخم
    وصيروا أمرهم شورى كأنهم * لا يعرفون ولاة الحق أيهم
    تالله ما جهل الأقوام موضعها * لكنهم ستروا وجه الذي علموا
    ثم ادعاها بنو العباس ملكهم * ولا لهم قدم فيها ولا قدم
    لا يذكرون إذا ما معشر ذكروا * ولا يحكم في أمر لهم حكم
    ولا رآهم أبو بكر وصاحبه * أهلا لما طلبوا منها وما زعموا
    فهل هم مدعوها غير واجبة؟ * أم هل أئمتهم في أخذها ظلموا؟
    أما علي فأدنى من قرابتكم * عند الولاية إن لم تكفر النعم
    أينكر الحبر عبد الله نعمته؟ * أبوكم أم عبيد الله أم قثم؟!؟!
    بئس الجزاء جزيتم في بني حسن * أباهم العلم الهادي وأمهم
    لا بيعة ردعتكم عن دمائهم * ولا يمين ولا قربى ولا ذمم
    هلا صفحتم عن الأسرى بلا سبب * للصافحين ببدر عن أسيركم؟!
    هلا كففتم عن الديباج سوطكم (2) * وعن بنات رسول الله شتمكم؟ (3)
    ما نزهت لرسول الله مهجته * عن السياط فهلا نزه الحرم؟
    ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت * تلك الجرائر إلا دون نيلكم
    كم غدرة لكم في الدين واضحة * وكم دم لرسول الله عندكم
    أنتم له شيعة فيما ترون وفي * أظفاركم من بنيه الطاهرين دم


    ____________

    (1) نثيله هي أم العباس بن عبد المطلب. الأمم: القرب.

    (2) الديباج هو محمد بن عبد الله العثماني أخو بني حسن لأمهم فاطمة بنت الحسين السبط ضربه المنصور مأتين وخمسين سوطا.

    (3) لعله أشار إلى قول منصور لمحمد الديباج: يا بن اللخناء. فقال محمد. أي أمهاتي تعيرني؟ أبفاطمة بنت الحسين؟ أم بفاطمة الزهراء؟ أم برقية؟.
    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 3
    --------------------------------------------------------------------------------



    هيهات لا قربت قربى ولا رحم * يوما إذا أقصت الأخلاق والشيم
    كانت مودة سلمان له رحما * ولم يكن بين نوح وابنه رحم
    يا جاهدا في مساويهم يكتمها * غدر الرشيد بيحيى كيف ينكتم؟ (1)
    ليس الرشيد كموسى في القياس ولا * مأمونكم كالرضا لو أنصف الحكم
    ذاق الزبيري غب الحنث وانكشفت * عن ابن فاطمة الأقوال والتهم (2)
    باؤا بقتل الرضا من بعد بيعته * وأبصروا بعض يوم رشدهم وعموا
    يا عصبة شقيت من بعد ما سعدت * ومعشرا هلكوا من بعد ما سلموا
    لبئسما لقيت منهم وإن بليت * بجانب الطف تلك الأعظم الرمم (3)
    لاعن أبي مسلم في نصحه صفحوا * ولا الهبيري نجا الحلف والقسم (4)
    ولا الأمان لأهل الموصل اعتمدوا * فيه الوفاء ولا عن غيهم حلموا (5)
    أبلغ لديك بني العباس مالكة * لا يدعوا ملكها ملاكها العجم
    أي المفاخر أمست في منازلكم * وغيركم آمر فيها ومحتكم؟
    أنى يزيدكم في مفخر علم؟ * وفي الخلاف عليكم يخفق العلم
    يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم * لمعشر بيعهم يوم الهياج دم
    خلوا الفخار لعلامين إن سئلوا * يوم السؤال وعمالين إن عملوا
    لا يغضبون لغير الله إن غضبوا * ولا يضيعون حكم الله إن حكموا
    تنشى التلاوة في أبياتهم سحرا * وفي بيوتكم الأوتار والنغم


    ____________

    (1) أشار إلى غدر الرشيد بيحيى بن عبد الله بن الحسن الخارج ببلاد الديلم؟؟ سنة 176 فإنه أمنه ثم غدره وحبسه ومات في حبسه.

    (2) الزبيري هو عبد الله بن مصعب بن الزبير باهله يحيى بن عبد الله بن حسن فتفرقا فما وصل الزبيري إلى داره حتى جعل يصيح؟؟: بطني بطني. ومات.

    (3) أشار إلى ما فعله المتوكل بقبر الإمام الشهيد.

    (4) أبو مسلم هو الخراساني مؤسس دولة بني العباس قتله المنصور والهبيري: هو يزيد بن عمر بن هبيرة أحد ولاة بني أمية حاربه بنو العباس أيام السفاح ثم أمنوه فخرج إلى المنصور بعد المواثيق والأيمان فغدروا به وقتلوه سنة 132.

    (5) استعمل السفاح أخاه يحيى بن محمد على الموصل فآمنهم ونادى: من دخل الجامع فهو آمن. وأقام الرجال على أبواب الجامع فقتلوا الناس قتلا ذريعا قيل: إنه قتل فيه أحد عشر ألفا ممن له خاتم، وخلقا كثيرا ممن ليس له خاتم، وأمر بقتل النساء والصبيان ثلاثة أيام وذلك في سنة 132.
    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 4
    --------------------------------------------------------------------------------



    منكم علية أم منهم؟ وكان لكم * شيخ المغنين إبراهيم أم لهم؟ (1)
    إذا تلوا سورة غنى إمامكم * قف بالطلول التي لم يعفها القدم
    ما في بيوتهم للخمر معتصر * ولا بيوتكم للسوء معتصم
    ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم * ولا يرى لهم قرد ولا حشم (2)
    الركن والبيت والأستار منزلهم * وزمزم والصفى والحجر والحرم
    وليس من قسم في الذكر نعرفه * إلا وهم غير شك ذلك القسم


    * (ما يتبع الشعر) *

    توجد هذه القصيدة كما رسمناها 58 بيتا في ديوانه المخطوط المشفوع بشرحه لابن خالويه النحوي المعاصر له المتوفى بحلب في خدمة بني حمدان سنة 370، و خمس منها العلامة الشيخ إبراهيم يحيى العاملي 54 بيتا، وذكر تخميسه في [ منن الرحمان ] ج 1 ص 143 مستهله:


    يا للرجال لجرح ليس يلتئم * عمر الزمان وداء ليس ينحسم
    حتى متى أيها الأقوام والأمم * الحق مهتضم.........
    أودى هدى الناس حتى أن أحفظهم * للخير صار بقول السوء ألفظهم
    فكيف توقظهم إن كنت موقظهم * والناس عندك.........

    وهي التي شرحها م - أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة الحلبي المتوفى 565، وشرحها ] ابن أمير الحاج بشرحه المعروف المطبوع وتوجد بتمامها في (الحدائق الوردية) المخطوط، وذكرها القاضي في (مجالس المؤمنين) ص 411، والسيد ميرزا حسن الزنوزي في (رياض الجنة) في الروضة الخامسة ستين بيتا، وهي التي شطرها العلامة السيد محسن الأمين العاملي. وإليك نص البيتين الزائدين:


    أمن تشاد له الألحان سايرة * عليهم ذو المعالي أم عليكم؟ (3)


    ____________

    (1) علية: بنت المهدي بن المنصور كانت عوادة. وإبراهيم أخوها كان مغنيا وعوادا.

    (2) الخنثى: هو عبادة، نديم المتوكل. والقرد كان لزبيدة.

    (3) بعد البيت ال 53.
    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 5
    --------------------------------------------------------------------------------



    صلى الإله عليهم كلما سجعت * ورق فهم للورى كهف ومعتصم (1)

    وأسقط ناشر الديوان منها أبياتا وذكرها 53 بيتا وأحسب أنه التقط أبياتا ما كان يروقه مفادها ودونك الإشارة إليها:

    1 - وكل مائرة الضبعين مسرحها

    2 - وفتية قلبهم قلب إذا ركبوا

    3 - فما السعيد بها إلا الذي ظلموا

    4 - للمتقين من الدنيا عواقبها

    5 - ليس الرشيد كموسى في القياس ولا

    6 - يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم

    7 - صلى الإله عليهم كلما سجعت

    هذه القصيدة تعرف ب (الشافية) وهي من القصايد الخالدة التي تصافقت المصادر على ذكرها أو ذكر بعضها (2) أو الايعاز إليها، مطردة متداولة بين الأدباء، محفوظة عند الشيعة وقسمائهم منذ عهد نظمها ناظمها أمير السيف والقلم وإلى الآن، وستبقى خالدة مع الدهر، وذلك لما عليها من مسحة البلاغة، ورونق الجزالة، وجودة السرد، وقوة الحجة، وفخامة المعنى، وسلاسة اللفظ، ولما أنشد ناظمها (الأمير) أمر خمسمائة سيفا وقيل أكثر يشهر في المعسكر (3) نظمها لما وقف على قصيدة ابن سكرة العباسي التي أولها:


    بني علي دعوا مقالتكم * لا ينقص الدر وضع من وضعه

    وللأمير أبي فراس هائية يمدح بها أهل البيت وفيها ذكر (الغدير) وهي:


    يوم بسفح الدار لا أنساه * أرعى له دهري الذي أولاه
    يوم عمرت العمر فيه بفتية * من نورهم أخذ الزمان بهاه
    فكأن أوجههم ضياء نهاره * وكأن أوجههم نجوم دجاه


    ____________

    (1) مختتم القصيدة.

    (2) ذكر سراج الدين السيد محمد الرفاعي المتوفى 885 في (صحاح الأخبار) ص 26 من القصيدة ثمانية بيتا وقال: القصيدة طويلة ليس هذا محل ذكرها.

    (3) كما ذكره الفتوني في كشكوله، وأبو علي في رجاله ص 349.
    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 6
    --------------------------------------------------------------------------------



    ومهفهف كالغصن حسن قوامه * والظبي منه إذا رنا عيناه
    نازعته كأسا كأن ضياء ها * لما تبدت في الظلام ضياه
    في ليلة حسنت لنا بوصاله * فكأنما من حسنها إياه
    وكأنما فيها الثريا إذ بدت * كف يشير إلى الذي يهواه
    والبدر منتصف الضياء كأنه * متبسم بالكف يسترقاه
    ظبي لو أن الدر مر بخده * من دون لحظة ناظر أدماه
    إن لم أكن أهواه أو أهوى الردى * في العالمين لكل ما يهواه
    فحرمت قرب الوصل منه مثل ما * حرم الحسين الماء وهو يراه
    إذ قال: اسقوني. فعوض بالقنا * من شرب عذب الماء ما أرواه
    فاجتز رأسا طالما من حجره * أدنته كفا جده ويداه
    يوم بعين الله كان وإنما * يملي لظلم الظالمين الله
    وكذاك لو أردى عداة نبيه * ذو العرش ما عرف النبي عداه
    يوم عليه تغيرت شمس الضحى * وبكت دما مما رأته سماه
    لا عذر فيه لمهجة لم تنفطر * أو ذي بكاء لم تفض عيناه
    تبا لقوم تابعوا أهوائهم * فيما يسوئهم غدا عقباه
    أتراهم لم يسمعوا ما خصه * منه النبي من المقال أباه؟!
    إذ قال يوم (غدير خم) معلنا * من كنت مولاه فذا مولاه
    هذا وصيته إليه فافهموا * يا من يقول بأن ما أوصاه
    أقروا من القرآن ما في فضله * وتأملوه وافهموا فحواه
    لو لم تنزل فيه إلا هل أتى * من دون كل منزل لكفاه
    من كان أول من حوى القرآن من * لفظ النبي ونطقه وتلاه؟!
    من كان صاحب فتح خيبر؟ من رمى * بالكف منه بابه ودحاه؟!
    من عاضد المختار من دون الورى؟ * من آزر المختار من آخاه؟!؟!
    من بات فوق فراشه متنكرا * لما أطل فراشه أعداه؟
    من ذا أراد إلهنا بمقاله *: الصادقون القانتون سواه؟!


    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 7
    --------------------------------------------------------------------------------



    من خصه جبريل من رب العلى * بتحية من ربه وحباه؟!
    أظننتم أن تقتلوا أولاده * ويظلكم يوم المعاد لواه؟!
    أو تشربوا من حوضه بيمينه * كأسا وقد شرب الحسين دماه؟!
    طوبى لمن ألقاه يوم أو أمه * فاستل يوم حياته وسقاه
    قد قال قبلي في قريض قائل *: ويل لمن شفعائه خصماه
    أنسيتم يوم الكساء وإنه * ممن حواه مع النبي كساه؟!
    يا رب إني مهتد بهداهم * لا أهتدي يوم الهدى بسواه
    أهوى الذي يهوى النبي وآله * أبدا وأشنأ كل من يشناه
    وأقول قولا يستدل بأنه * مستبصر من قاله ورواه
    شعرا يود السامعون لو أنه * لا ينقضي طول الزمان هداه
    يغري الرواة إذا روته بحفظه * ويروق حسن رويه معناه


    * (الشاعر) *

    أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان بن راشد بن المثنى بن رافع بن الحارث بن عطيف بن محربة بن حارثة بن مالك بن عبيد بن عدي بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب الحمداني التغلبي.

    ربما يرتج القول في المترجم وأمثاله، فلا يدري القائل ماذا يصف، أيطريه عند صياغة القول؟ أو يصفه عند قيادة العسكر: وهل هو عند ذلك أبرع؟ أم عند هذا أشجع؟ وهل هو لجمل القوافي أسبك؟ أم لازمة الجيوش أملك؟ والخلاصة أن الرجل بارع في الصفتين، ومتقدم في المقامين، جمع بين هيبة الملوك، وظروف الأدباء، وضم إلى جلالة الأمراء لطف مفاكهة الشعراء، وجمع له بين السيف و القلم، فهو حين ما ينطق بفم كما هو عند ثباته على قدم، فلا الحرب تروعه، ولا القافية تعصيه، ولا الروع يهزمه، ولا روعة البيان تعدوه، فلقد كان المقدم بين شعراء عصره كما أنه كان المتقدم على أمرائه، وقد ترجم بعض أشعاره إلى اللغة الألمانية
    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 8
    --------------------------------------------------------------------------------

    كما في دائرة المعارف الإسلامية.

    قال الثعالبي في يتيمة الدهر ج 1 ص 27: كان فرد دهره، وشمس عصره، أدبا وفضلا، وكرما ونبلا، ومجدا وبلاغة وبراعة، وفروسية وشجاعة، وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة، والسهولة والجزالة، والعذوبة والفخامة، والحلاوة والمتانة، ومعه رواء الطبع، وسمة الظرف، وعزة الملك، ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز، وأبو فراس يعد أشعر منه عند أهل الصنعة، ونقدة الكلام، وكان الصاحب يقول: (بدئ الشعر بملك وختم بملك) يعني امرؤ القيس وأبا فراس، وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز، ويتحامى جانبه، فلا يتبري لمباراته، ولا يجترئ على مجاراته، وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيبا له وإجلالا، لا إغفالا وإخلالا، وكان سيف الدولة يعجب جدا بمحاسن أبي فراس، ويميزه بالإكرام عن ساير قومه، ويصطنعه لنفسه، ويصطحبه في غزواته، ويستخلفه على أعماله، وأبو فراس ينثر الدر الثمين في مكاتباته إياه، ويوافيه حق سؤدده ويجمع بين أدبي السيف والقلم في خدمته. ا هـ.

    وتبعه في إطرائه والثناء عليه ابن عساكر في تاريخه ج 2 ص 440. وابن شهر آشوب في معالم العلماء. ابن الأثير في الكامل ج 8 ص 194. ابن خلكان في تاريخه ج 1 ص 138. أبو الفدا في تاريخه ج 2 114. اليافعي في مرآة الجنان ج 2 ص 369. و مؤلفي شذرات الذهب ج 3 ص 24. مجالس المؤمنين ص 411. رياض العلماء. أمل الآمل ص 266. منتهى المقال ص 349. رياض الجنة في الروضة الخامسة. دائرة المعارف للبستاني ج 2 ص 300. دائرة المعارف لفريد وجدي ج 7 ص 150. روضات الجنات ص 206. قاموس الأعلام للزركلي ج 1 ص 202. كشف الظنون ج 1 ص 502. تاريخ آداب اللغة ج 2 ص 241. الشيعة وفنون الاسلام 107. معجم المطبوعات. دائرة المعارف الإسلامية ج 1 ص 387. وجمع شتات ترجمته وأوعى سيدنا المحسن الأمين في 260 صحيفة في أعيان الشيعة في الجزء الثامن عشر ص 29 298.

    كان المترجم يسكن منبج، وينتقل في بلاد الشام في دولة ابن عمه أبي الحسن سيف الدولة، واشتهر في عدة معارك معه، حارب بها الروم، أسر مرتين فالمرة
    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 9
    --------------------------------------------------------------------------------

    الأولى بـ (مغارة الكحل) سنة 348 وما تعدوا به (خرشنة) وهي قلعة ببلاد الروم والفرات يجري من تحتها، وفيها يقال: إنه ركب فرسه وركضه برجله فأهوى به من أعلا الحصن إلى الفرات والله أعلم.

    والمرة الثانية: أسرته الروم على منبج، وكان متقلدا بها في شوال سنة 351، أسر وهو جريح وقد أصابه سهم بقي نصله في فخذه وحصل مثخنا بخرشنة ثم بقسطنطينة وأقام في الأسر أربع سنين، لتعذر المفاداة واستفكه من الأسر سيف الدولة سنة 355، وقد كانت تصدر أشعاره في الأسر والمرض، واستزادة سيف الدولة وفرط الحنين إلى أهله وإخوانه وأحبائه والتبرم بحاله ومكانه، عن صدر حرج، وقلب شج، تزداد رقة ولطافة، تبكي سامعها، وتعلق بالحفظ لسلاستها، تسمى بالروميات.

    قال ابن خالويه: قال أبو فراس: لما حصلت بالقسطنطينة أكرمني ملك الروم إكراما لم يكرمه أسيرا قبلي، وذلك أن من رسومهم أن لا يركب أسير في مدينة ملكهم دابة قبل لقاء الملك، وأن يمشي في ملعب لهم يعرف بالبطوم مكشوف الرأس ويسجد فيه ثلاث سجدات أو نحوها، ويدوس الملك رقبته في مجمع لهم يعرف بالتوري، فأعفاني من جميع ذلك ونقلني لوقتي إلى دار وجعل لي [ برطسان ] يخدمني، و أمر بإكرامي ونقل من أردته من أسارى المسلمين إلي، وبذل لي المفاداة مفردا، وأبيت بعد ما وهب الله لي من الكرامة ورزقته من العافية والجاه أن أختار نفسي على المسلمين، وشرعت مع ملك الروم بالفداء ولم يكن الأمير سيف الدولة يستبقي أسارى الروم، فكان في أيديهم فضل ثلاثة آلاف أسير ممن أخذ من الأعمال والعساكر فابتعتهم بمأتي ألف دينار رومية على أن يوقع الفداء واشتري هذه الفضيلة وضمنت المال والمسلمين وخرجت بهم من القسطنطينة وتقدمت بوجوههم إلى (خرشنة) ولم يعقد قط فداء مع أسير ولا هدنة فقلت في ذلك شعرا:


    ولله عندي في الاسئار وغيره * مواهب لم يخصص بها أحد قبلي
    حللت عقودا أعجز الناس حلها * وما زال عقدي لا يذم ولا حلي
    إذا عاينتني الروم كبر صيدها * كأنهم أسرى لدي وفي كبلي


    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 10
    --------------------------------------------------------------------------------



    وأوسع أياما حللت كرامة * كأني من أهلي نقلت إلى أهلي
    فقل لبني عمي وأبلغ بني أبي: * بأني في نعماء يشكرها مثلي
    وما شاء ربي غير نشر محاسني * وأن يعرفوا ما قد عرفتم من الفضل

    وقال يفتخر وقد بلغه أن الروم قالت: ما أسرنا أحدا لم نسلب ثيابه غير أبي فراس.


    أراك عصي الدمع شيمتك الصبر * أما للهوى نهي لديك ولا أمر؟
    بلى أنا مشتاق وعندي لوعة * ولكن مثلي لا يذاع له سر
    إذ الليل أضواني بسطت يد الهوى * وأذللت دمعا من خلائقه الكبر
    تكاد تضئ النار بين جوانحي * إذا هي أذكتها الصبابة والفكر

    ويقول فيها:


    أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى * ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
    ولكن إذا حم القضاء على امرئ * فليس له بر يقيه ولا بحر
    وقال اصيحابي: الفرار أو الردى * فقلت: هما أمران أحلاهما المر
    ولكنني أمضي لما لا يعيبني * وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
    يقولون لي: بعت السلامة بالردى * فقلت لهم: والله ما نالني خسر
    هو الموت فاختر ما علا لك ذكره * ولم يمت الانسان ما حيه الذكر
    ولا خير في رد الردى بمذلة * كما رده يوما بسوأته عمرو
    يمنون أن خلوا ثيابي وإنما * على ثياب من دمائهم حمر
    وقائم سيفي فيهم دق نصله * وأعقاب رمحي منهم حطم الصدر
    سيذكرني قومي إذا جد جد هم * وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
    فإن عشت فالطعن الذي يعرفونه * وتلك القنا والبيض والضمر الشقر
    وإن مت فالانسان لا بد ميت * وإن طالت الأيام وانفسح العمر
    ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به * وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر
    ونحن أناس لا توسط عندنا * لنا الصدر دون العالمين أو القبر
    تهون علينا في المعالي نفوسنا * ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر
    أعز بني الدنيا وأعلا ذوي العلا * وأكرم من فوق التراب ولا فخر


    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 11
    --------------------------------------------------------------------------------

    وقال لما أسر:

    ما للعبيد من الذي * يقضي به الله امتناع
    ذدت الأسود عن الفرائس * ثم تفرسني الضباع

    وقال:


    قد عذب الموت بأفواهنا * والموت خير من مقام الذليل
    إنا إلى الله لما نابنا * وفي سبيل الله خير السبيل

    وقال لما ورد أسيرا بخرشنة:


    إن زرت خرشنة أسيرا * فلكم حللت بها مغيرا
    ولقد رأيت السبي يجلب * نحونا حوا وحورا
    ولقد رأيت النار تنتهب * المنازل والقصورا
    من كان مثلي لم يبت * إلا أميرا أو أسيرا
    ليست تحل سراتنا * إلا الصدور أو القبورا

    ولما ثقل الجراح وآيس من نفسه وهو أسير كتب إلى والدته يعزيها بنفسه:


    مصابي جليل والعزاء جميل * وعلمي بأن الله سوف يديل
    وإني لفي هذا الصباح لصالح * ولي كلما جن الظلام غليل
    وما نال مني الأسر ما تريانه * ولكنني دامي الجراح عليل
    جراح تحاماه الأساة مخافة * وسقمان باد منهما ودخيل
    وأسر أقاسيه وليل نجومه * أرى كل شيئ؟؟ وغيرهن يزول
    تطول بي الساعات وهي قصيرة * وفي كل دهر لا يسرك طول
    تناساني الأصحاب إلا عصابة * ستلحق بالأخرى غدا وتحول
    وإن الذي يبقي على العهد منهم * وإن كثرت دعواهم لقليل
    اقلب طرفي لا أرى غير صاحب * يميل مع النعماء كيف تميل
    وصرنا نرى أن المتارك محسن * وإن خليلا لا يضر وصول
    وليس زماني وحده بي غادر * ولا صاحبي دون الرجال ملول
    وما أثري يوم اللقاء مذمم * ولا موقفي عند الاسئار ذليل


    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 12
    --------------------------------------------------------------------------------



    تصفحت أقوال الرجال فلم يكن * إلى غير شاك للزمان وصول
    أكل خليل هكذا غير منصف * وكل زمان بالكرام بخيل
    نعم دعت الدنيا إلى الغدر دعوة * أجاب إليها عالم وجهول
    وقبلي كان الغدر في الناس شيمة * وذم زمان واستلام خليل
    وفارق عمرو بن الزبير شقيقه * وخلى أمير المؤمنين عقيل
    فيا حسرتي من لي بخل موافق * يقول بشجوي مرة وأقول
    وإن وراء الستر أما بكاؤها * علي وإن طال الزمان طويل
    فيا أمنا لا تعدمي الصبر إنه * إلى الخير والنجح القريب رسول
    ويا أمنا لا تحبطي الأجر إنه * على قدر الصبر الجميل جزيل
    ويا أمنا صبرا فكل ملمة * تجلي على علاتها وتزول؟؟
    أمالك في ذات النطاقين أسوة (1) * بمكة والحرب العوان تجول
    أراد ابنها أخذ الأمان فلم يجب * وتعلم علما إنه لقتيل
    تأسي كفاك الله ما تحذرينه * فقد غال هذا الناس قبلك غول
    وكوني كما كانت بأحد صفية * ولم يشف منها بالبكاء غليل
    فمارد يوما حمزة الخير حزنها * إذا ما علتها زفرة وعويل
    لقيت نجوم الأفق وهي صوارم * وخضت ظلام الليل وهو خيول
    ولم أرع للنفس الكريمة خلة * عشية لم يعطف علي خليل
    ولكن لقيت الموت حتى تركته * وفيه وفي حد الحسام فلول
    ومن لم يق الرحمن فهو ممزق * ومن لم يعز الله فهو ذليل
    ومن لم يرده الله في الأمر كله * فليس لمخلوق إليه سبيل
    وإن هو لم يدللك في كل مسلك * ظللت ولو أن السماك دليل
    إذا ما وقاك الله أمرا تخافه * فما لك مما تتقيه مقيل
    وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصرا * وإن جل أنصار وعز قبيل
    وما دام سيف الدولة الملك باقيا * فظلك فياح الجناب ظليل


    ____________

    (1) ذات النطاقين هي أسماء بنت أبي بكر.
    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 13
    --------------------------------------------------------------------------------

    قال ابن خالويه: وقال يصف أيامه ومنازله بمنبج وكان ولايته وأقطاعه وداره بها، ويعرض بقوم بلغه شماتتهم فيه وهو في أسر الروم:


    قف في رسوم المستجاب * وناد أكناف المصلا
    فالجوسق الميمون * فالسقياء فالنهر المعلا
    أوطنتها زمن الصبا * وجعلت منبج لي محلا
    حرم الوقوف بها علي * وكان قبل اليوم حلا
    حيث التفت وجدت ماء * سائحا وسكنت ظلا
    تزداد واد غير قاص * منزلا رحبا مطلا
    وتحل بالجسر الجنان * وتسكن الحصن المعلى
    تجلو عرائسه لنا * بالبشر جنب العيش سهلا
    والماء يفصل بين زهر * الروض في الشطين فصلا
    كبساط وشي جردت * أيدي القيون عليه نصلا
    من كان سر بما عراني * فليمت ضرا وهزلا
    لم أخل فيما نابني * من أن أعز وأن احلا
    مثلي إذا لقي الأسار * فلن يضام ولن يذلا
    رعت القلوب مهابة * وملأتها نبلا وفضلا
    ما غص مني حادث * والقرم قرم حيث حلا
    أنى حللت فإنما * يدعوني السيف المحلا
    فلئن خلصت فإنني * غيظ العدى طفلا وكهلا
    ما كنت إلا السيف زاد * على صروف الدهر صقلا
    ولئن قتلت فإنما * موت الكرام الصيد قتلا
    لا يشمتن بموتنا * إلا فتى يفنى ويبلى
    يغتر بالدنيا الجهول * وليس في الدنيا مملا

    قال ابن خالويه: تأخرت كتب سيف الدولة عن أبي فراس في أيام أسره، فذلك أنه بلغه أن بعض الأسراء قال: إن ثقل هذا المال على الأمير كاتبنا فيه صاحب
    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 14
    --------------------------------------------------------------------------------

    خراسان وغيره من الملوك وخففت علينا الأسر، وذكر أنهم فرروا مع الروم إطلاق أسراء المسلمين بما يحملونه، فاتهم سيف الدولة أبا فراس بهذا القول، لضمانه المال للروم وقال: من أين تعرفه أهل خراسان؟ فقال أبو فراس هذ القصيدة وأنفذها إلى سيف الدولة.

    قال الثعالبي: كتب أبو فراس إلى سيف الدولة: مفاداتي إن تعذرت عليك فأذن لي في مكاتبة أهل خراسان ومراسلتهم ليفادوني وينوبوا عنك في أمري فأجابه سيف الدولة: من يعرفك بخراسان؟ فكتب إليه أبو فراس:


    أسيف الهدى وقريع العرب * إلام الجفاء وفيم الغضب؟
    وما بال كتبك قد أصبحت * تنكبني مع هذي النكب؟
    وأنت الكريم وأنت الحليم * وأنت العطوف وأنت الحدب (1)
    وما زلت تسبقني بالجميل * وتنزلني بالمكان الخصب
    وإنك للجبل المشمخر * إلي بل لقومك بل للعرب
    وتدفع عن حوزتي الخطوب * وتكشف عن ناظري الكرب
    علا يستفاد وعاف يعاد * وعز يشاد ونعمى ترب
    وما غض مني هذا الأسار * ولكن خلصت خلوص الذهب
    ففيم يعرضني بالخمول * مولى به نلت أعلى الرتب
    وكان عتيدا لدي الجواب * ولكن لهيبته لم أجب
    أتنكر أني شكوت الزمان * وأني عتبتك فيمن عتب؟!
    وإلا رجعت فاعتبتني * وصيرت لي ولقومي الغلب
    فلا تنسبن إلي الخمول * أقمت عليك فلم اغترب
    وأصبحت منك فإن كان فضل * وإن كان نقص فأنت السبب
    وإن خراسان إن أنكرت * علاي فقد عرفتها حلب
    ومن أين ينكرني الأبعدون * أمن نقص جد أمن نقص أب؟!؟!
    ألست وإياك من أسرة * وبيني وبينك عرق النسب؟!


    ____________

    (1) الحدب من حدب وتحدب عليه: تعطف.
    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 15
    --------------------------------------------------------------------------------



    ودار تناسب فيها الكرام * وتربية ومحل أشب
    ونفس تكبر إلا عليك * وترغب إلاك عمن رغب
    فلا تعدلن فداك ابن عمك * لا بل غلامك عما يجب
    وأنصف فتاك فإنصافه * من الفضل والشرف المكتسب
    أكنت الحبيب وكنت القريب * ليالي أدعوك من عن كثب؟!
    فلما بعدت بدت جفوة * ولاح من الأمر ما لا أحب
    فلو لم أكن بك ذا خبرة * لقلت صديقك من لم يغب

    وكتب إليه أيضا:


    زماني كله غضب وعتب * وأنت علي والأيام إلب
    وعيش العالمين لديك سهل * وعيشي وحده بفناك صعب


    [ القصيدة 18 بيتا ]

    وبلغ إليه نعي أمه وهو في الحبس فقال يرثيها:


    أيا أم الأسير بمن أنادي؟ * وقدمت الأيادي والشعور
    إذا ابنك سار في بر وبحر * فمن يدعو له أو يستجير؟!؟!
    حرام أن يبيت قرير عين * ولوم أن يلم به السرور
    وقد ذقت المنايا والرزايا * ولا ولد لديك ولا عشير
    وغاب حبيب قلبك عن مكان * ملائكة السماء به حضور
    ليبكك كل يوم صمت فيه * مصابرة وقد حمي الهجير
    ليبكك كل ليل قمت فيه * إلى أن يبتدي الفجر المنير
    ليبكك كل مضطهد مخوف * أجرتيه وقد قل المجير
    ليبكك كل مسكين فقير * أعنتيه وما في العظم رير؟؟ (1)
    أيا أماه كم هول طويل * مضى بك لم يكن منه نصير
    أيا أماه كم سر مصون * بقلبك مات ليس له ظهور
    إلى من أشتكي وبمن أناجي * إذا ضاقت بما فيها الصدور؟!؟!


    ____________

    (1) مخ رار ورير. ذائب فاسد من الهزال.
    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 16
    --------------------------------------------------------------------------------



    بأي دعاء داعية أوقي * بأي ضياء وجه أستنير؟!؟!
    يمن يستدفع القدر المرجى * بمن يستفتح الأمر العسير؟!؟!
    تسلي عنك إنا عن قليل * إلى ما صرت في الأخرى نصير


    ميلاده ومقتله

    ولد المترجم سنة 320 وقيل 321 ويعين الأول ما حكاه ابن خالويه عن أبي فراس أنه قال له: إن في سنة 339 كان سني 19 سنة، وقتل يوم الأربعاء لثمان من ربيع الآخر (2) وعن الصابي في تاريخه (3) يوم السبت لليلتين خلتا من جمادي الأولى سنة 357 (4) وذلك أنه لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص وتطلع إليها وكان مقيما بها فاتصل خبره إلى ابن أخته أبي المعالي ابن سيف الدولة وغلام أبيه قرعويه (1) وجرت بذلك بين أبي فراس وبين أبي المعالي وحشة، فطلبه أبو المعالي فانحاز أبو فاس إلى [ صدد ] وهي قرية في طريق البرية عند حمص، فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم وسيرهم في طلبه مع قرعويه، فأدركه ب [ صدد ] فكبسوه فاستأمن أصحابه واختلط هو بمن استأمن معهم، فقال قرعويه لغلام له: اقتله. فقتله وأخذ رأسه وتركت جثته في البرية حتى دفنها بعض الأعراب.

    قال الثعالبي: دلت قصيدة قرأتها لأبي إسحاق الصابي في مرثية أبي فراس على أنه قتل في وقعة كانت بينه وبين موالي أسرته.

    وقال ابن خالويه: بلغني أن أبا فراس أصبح يوم مقتله حزينا كئيبا وكان قد قلق في تلك الليلة قلقا عظيما فرأته ابنته امرأة أبي العشائر كذلك فأحزنها حزنا شديدا ثم بكت وهو على تلك فأنشأ يقول كالذي ينعي نفسه وإن لم يقصد، وهذا آخر ما قاله من الشعر:


    ____________

    (1) كامل ابن الأثير. تاريخ أبي الفدا.

    (2) حكاه عنه ابن خلكان في تاريخه، وصاحب شذرات الذهب.

    (3) أرخه ابن عساكر في تاريخه بسنة خمسين وثلثمائة وهو ليس في محله.

    (4) في كامل ابن الأثير: قرغويه. وفى الشذرات: فرغويه: وفي تاريخ ابن عساكر: ابن قرعونه.
    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 17
    --------------------------------------------------------------------------------



    أبنيتي لا تحزني * كل الأنام إلى ذهاب
    أبنيتي صبرا جميلا * للجليل من المصاب
    نوحي علي بحسرة * من خلف سترك والحجاب
    قولي إذا ناديتني * فعييت عن رد الجواب
    : زين الشباب أبو فراس * ما تمتع بالشباب

    وفي غير واحد من المعاجم: إنه لما بلغ أخته أم أبي المعالي وفاته قلعت عينها، وقيل: بل لطمت وجهها فقلعت عينها، وقيل: قتله غلام سيف الدولة ولم يعلم أبو المعالي فلما بلغه الخبر شق عليه. ومن شعره في المذهب:


    لست أرجو النجاة من كلما * أخشاه إلا بأحمد وعلي
    وببنت الرسول فاطمة الطهر * وسبطيه والإمام علي
    والتقي النقي باقر علم الله * فينا محمد بن علي
    وأبي جعفر وموسى ومولاي * علي أكرم به من علي
    وابنه العسكري والقائم * المظهر حقي محمد وعلي
    بهم أرتجي بلوغ الأماني * يوم عرضي على الإله العلي

    وله في المعنى:


    شافعي أحمد النبي ومولاي * علي والبنت والسبطان
    وعلي وباقر العلم والصادق * ثم الأمين بالتبيان
    وعلي ومحمد بن علي * وعلي والعسكري الداني
    والإمام المهدي في يوم لا * ينفع إلا غفران ذي الغفران

    ومن شعره في الحكمة والموعظة:


    غنى النفس لمن يعقل * خير من غنى المال
    وفضل الناس في الأنفس * ليس الفضل في الحال

    وقال:


    المرء نصب مصائب لا تنقضي * حتى يواري جسمه في رمسه
    فمؤجل يلفي الردى في أهله * ومعجل يلقى الردى في نفسه


    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 18
    --------------------------------------------------------------------------------

    وله:


    أنفق من الصبر الجميل فإنه * لم يخش فقرا منفق من صبره
    والمرء ليس ببالغ في أرضه * كالصقر ليس بصائد في وكره

  • #2
    اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم الشريف

    السلام عليكم يا اهل بيت النبوة ومصابيح الدجى ما خاب والله من لجأ اليكم


    أحسنت أخي على النقل الرائع لقصائد الشاعر أبو فراس الحمداني

    يعطيك العافية

    موفق ان شاء الله



    أختكم سليل

    تعليق


    • #3
      دراسة جيده وبحث شيق
      بارك الله فيك أخي وحبيبي علي هويدي المحترم
      صراحة انا اسأل الله عز وجل ان يوفقك ويعوض تعبكم خيرا بحق محمد وآل محمد

      تعليق


      • #4
        الاخ سيد حليم الاخت سليل الاخوه الاعزاء كافه الموالين حفظكم الله لديه ان شاء الله الكثير من الدراسات في الادب والتاريخ سوف ازج المزيد منها خدمة الى الدين واهل البيت وندعوا الله ان يثيب كل من قدم لنا المساعده وعلى تشجيعكم لي
        ابن الرومي
        المتوفى 283


        يا هند لم أعشق ومثلي لا يرى * عشق النساء ديانة وتحرجا
        لكن حبي للوصي مخيم * في الصدر يسرح في الفؤاد تولجا
        فهو السراج المستنير ومن به * سبب النجاة من العذاب لمن نجا
        وإذا تركت له المحبة لم أجد * يوم القيامة من ذنوبي مخرجا
        قل لي: أأترك مستقيم طريقه * جهلا وأتبع الطريق الأعوجا؟!؟!
        وأراه كالتبر المصفى جوهرا * وأرى سواه لناقديه مبهرجا
        ومحله من كل فضل بين * عال محل الشمس أو بدر الدجا
        قال النبي له مقالا لم يكن * يوم (الغدير) لسامعيه ممجمجا
        : من كنت مولاه فذا مولى له * مثلي وأصبح بالفخار متوجا
        وكذاك إذ منع البتول جماعة * خطبوا وأكرمه بها إذ زوجا
        وله عجائب يوم سار بجيشه * يبغي لقصر النهروان المخرجا
        ردت عليه الشمس بعد غروبها * بيضاء تلمع وقدة وتأججا (1)


        * (الشاعر) *

        أبو الحسن علي بن عباس بن جريح (2) مولى عبيد الله بن عيسى بن جعفر البغدادي الشهير بابن الرومي. مفخرة من مفاخر الشيعة، وعبقري من عباقرة الأمة، وشعره الذهبي الكثير الطافح برونق البلاغة قد أربى على سبائك التبر حسنا وبهائا، وعلى

        ____________

        (1) مناقب ابن شهر آشوب 1 ص 531 ط ايران.

        (2) كذا في فهرست ابن النديم، وتاريخ الخطيب، وكثير من المعاجم. وفي مروج الذهب: سريج. وفي معجم المرزباني: جورجس. وفي تاريخ ابن خلكان: قبل: جور جيس. وفي بعض المعاجم: جرجيس.
        --------------------------------------------------------------------------------
        الصفحة 2
        --------------------------------------------------------------------------------

        كثر النجوم عددا ونورا، برع في المديح والهجاء والوصف والغزل من فنون الشعر فقصر عن مداه الطامحون، وشخصت إليه الأبصار، فجل عن الند كما قصر عن مزاياه العد.

        وله في مودة ذوي القربى من آل الرسول صلوات الله عليه وعليهم أشواط بعيدة، واختصاصه بهم ومدائحه لهم ودفاعه عنهم من أظهر الحقايق الجلية، وقد عده ابن الصباغ المالكي المتوفى 855 في فصوله المهمة ص 302، والشبلنجي في نور الأبصار 166 من شعراء الإمام الحسن العسكري صلوات الله عليه.

        وكان مجموع شعره غير مرتب على الحروف: رواه عنه المسيبي علي بن عبيد الله ابن المسيب، ومثقال غلام ابن الرومي في مائة ورقة، ورواه عن مثقال أبو الحسن علي بن العصب الملحي، وكتب أحمد بن أبي قسر الكاتب من شعره مائة ورقة، وخالد الكاتب كذلك، فرتبه الصولي على الحروف في مائتي ورقة، جمع شعره أبو الطيب وراق بن عبدوس من جميع النسخ فزاد على كل نسخة مما هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت.

        وللخالديين: أبي بكر محمد وأبي عثمان سعيد كتاب في أخبار شعر المترجم (1) وانتخب ابن سينا ديوانه وشرح مشكلات شعره كما في (كشف الظنون) 1 ص 498، وعن ابن سينا: أن مما كلفني استادي في الأدب حفظ ديوان ابن الرومي فحفظته مع عدة كتب في ستة أيام ونصف يوما.

        ويروي بعض شعره أبو الحسين علي بن جعفر الحمداني، وإسماعيل بن علي الخزاعي، وأبو الحسن جحظة الذي مدحه ابن الرومي بقصيدة توجد في ديوانه 168.

        تجد ذكره والثناء عليه في فهرست ابن النديم 235، تاريخ بغداد 12 ص 23، معجم الشعراء 289، 453، أمالي الشريف المرتضى 2 ص 101، مروج الذهب 2 ص 495، العمدة لابن رشيق 1 ص 56، 61، 91، معالم العلماء لابن شهر آشوب، وفيات الأعيان 1 ص 385، مرآة الجنان لليافعي 2 ص 198، شذرات الذهب 2 ص 188، معاهد التنصيص 1 ص 38، كشف الظنون 1 ص 498، روضات الجنات 473، نسمة السحر فيمن تشيع وشعر، دائرة المعارف للبستاني 1 ص 494، دائرة المعارف الإسلامية

        ____________

        (1) راجع فهرست ابن النديم ص 235 و 241.
        --------------------------------------------------------------------------------
        الصفحة 3
        --------------------------------------------------------------------------------

        1 ص 181، الأعلام للزركلي 2 ص 675، الشيعة وفنون الاسلام 105، مجلة الهدى العراقية الجزء السادس ص 223 - 227.

        وعني بجمع آثاره وكتابة أخباره وروايتها جمع منهم:

        1 - أبو العباس أحمد بن محمد بن عبيد الله بن عمار المتوفى 319، قال ابن المسيب لما مات ابن الرومي عمل كتابا (1) في تفضيله ومختار شعره وجلس يمليه على الناس.

        كما في فهرست ابن النديم 212، ومعجم الأدباء 1 ص 227.

        2 - أبو عثمان الناجم، ترجمه في كتاب مقصور عليه.

        3 أبو الحسن علي بن عباس النوبختي المتوفى 327، جمع أخباره في كتاب مفرد كما في معجم المرزباني 295، ومعجم الأدباء 2295.

        وأفرد من كتاب المتأخرين الأستاذ عباس محمود العقاد كتابا في ترجمته في 392 صفحة ونحن نأخذ منه ما هو المهم ملخصا بلفظه قال:

        قد أدرك ابن الرومي في حياته ثمانية خلفاءهم: الواثق. المتوكل. المنتصر.

        المستعين. المعتز. المهتدي. المعتمد. المعتضد المتوفى بعد ابن الرومي.

        أثنى عليه العميدي صاحب (الابانة) وابن رشيق صاحب (العمدة) وقال: أكثر المولدين اختراعا وتوليدا فيما يقول الحذاق: أبو تمام وابن الرومي. وأطراه ابن سعيد المغربي المتوفى 673 في كتابه: عنوان المرقصات والمطربات.

        ويظهر أن أبا عثمان سعيد بن هاشم الخالدي من أدباء القرن الرابع توسع في ترجمته إما في كتابه: حماسة المحدثين. أو في كتاب مقصور عليه. ولكن أخباره هذه ذهبت كلها ولم تبق منها أثر إلا متفرقات في الكتب لا تفني في ترجمة وافية ولا شبيهة بالوافية فنحن ننقلها كما هي:

        ولد يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب 221 ببغداد في الموضع المعروف بالعقيقة (2) ودرب الختلية في دار بإزاء قصر عيسى بن جعفر بن منصور (3).


        ____________

        (1) ينقل الحموي عنه ترجمة أحمد بن محمد بن عمار في معجم الأدباء.

        (2) في معجم الشعراء: في الجانب الغربي بالعتيقة. وهذا هو الصحيح.

        (3) أخذه من أبي عثمان الخالدي.
        --------------------------------------------------------------------------------
        الصفحة 4
        --------------------------------------------------------------------------------

        كان ابن الرومي مولى لعبد الله بن عيسى ولا يشك أنه رومي الأصل فإنه يذكره ويؤكده في مواضع من ديوانه واسم جده مع هذا: جريح. أو: جرجيس.

        اسم يوناني لا شبهة فيه، فلا ينبغي الالتفات إلى من قال: إنه سمي بابن الرومي لجماله في صباه

        وكان أبوه صديقا لبعض العلماء والأدباء منهم: محمد بن حبيب الرواية الضليع في اللغة والأنساب، فكان الشاعر يختلف إليه لهذه الصداقة، وكان محمد بن حبيب يخصه لما يراه من ذكاءه وحدة ذهنه، وحدت الشاعر عنه فقال: إنه كان إذا مر به شئ يستغربه ويستجيده يقول لي: يا أبا الحسن ضع هذا في تامورك.

        وقد علمنا أن أمه كانت فارسية من قوله: الفرس خؤلي والروم أعمامي. وقوله:

        فلم يلدني أبو السواس ساسان. بعد أن رفع نسبه إلى يونان من جهة أبيه، وربما كانت أمه من أصل فارسي ولم تكن فارسية قحا لأبيها وأمها وهذا هو الأرجح لأن علمه بالفارسية لم يكن علم رجل نشأ في حجر أم تتكلم هذه اللغة ولا تحسن الكلام بغيرها، وماتت أمه وهو كهل أو مكتهل كما يقول في رثائها:


        أقول: وقد قالوا: أتبكي لفاقد * رضاعا وأين الكهل من راضع الحلم؟!
        هي الأم يا للناس جزعت فقدها * ومن يبك أما لم تذم قط لا يذم

        وكانت أمه تقية صالحة رحيمة كما يؤخذ من أبياته في رثائها.


        * (قال الأميني) *:

        أمه حسنة بنت عبد الله السجزي كما في معجم المرزباني، وسجز بلدة من بلاد الفرس من أرباض خراسان فهي فارسية قح.

        أخوه وشقيقه محمد المكنى بأبي جعفر وهو أكبر من المترجم وتوفي قبله وكان تتفجع بذكراه ورثاه، ومات أخوه وهو يعمل في خدمة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أحد أركان بيت بني طاهر، ويظهر من ديوان المترجم إنه كان أديبا كاتبا أيضا.

        ولم يبق لابن الرومي بعد موت أخيه أحد يعول عليه من أهله أو من يحسبون في حكم أهله إلا أناس من مواليه الهاشميين العباسيين كانوا يبرونه حينا ويتناسونه أحيانا، و كان لعهد الهاشميين الطالبيين أحفظ منه لعهد الهاشميين العباسيين كما يظهر مما يلي.

        أما ابن عمه الذي أشار إليه في قوله:


        --------------------------------------------------------------------------------
        الصفحة 5
        --------------------------------------------------------------------------------



        لي ابن عم يجر الشر مجتهدا * إلي قدما ولا يصلي له نارا
        يجني فاصلي بما يجني فيخذلني * وكلما كان زندا كنت مسعارا

        فلا ندري أهو ابن عم لح؟! أو ابن عم كلالة؟! ومبلغ ما بينهما من صلة المودة ظاهر من البيتين.


        أولاده

        رزق ابن الرومي ثلاثة أبناء وهم: هبة الله. محمد. وثالث لم يذكر اسمه في ديوانه. ماتوا جميعا في طفولتهم ورثاهم بأبلغ وأفجع ما رثى به والد أبناءه، وقد سبق الموت إلى أوسطهم محمد فرثاه بدالية مشهورة يقول فيها:


        توخى حمام الموت أوسط صبيتي * فلله كيف أختار واسطة العقد؟!
        على حين شمت الخير في لمحاته * وآنست من أفعاله آية الرشد

        ومنها في وصف مرضه:


        لقد قل بين المهد واللحد لبثه * فلم ينس عهد المهد أو ضم في اللحد
        ألح عليه النزف حتى أحاله * إلى صفرة الجادي (1) عن حمرة الورد
        وظل على الأيدي تساقط نفسه * ويذوي كما يذوي القضيب من الرند (2)

        ويذكر فيها أخويه الآخرين:


        محمد؟ ما شيئ توهم سلوة * لقلبي إلا زاد قلبي من الوجد
        أرى أخويك الباقيين كليهما * يكونان للأحزان أورى من الزند
        إذا لعبا في ملعب لك لذعا * فؤادي بمثل النار عن غير ما عمد
        فما فيهما لي سلوة بل حزازة * يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي

        أما ابنه هبة الله فقد ناهز الشباب على ما يفهم من قوله في رثاءه.


        يا حسرتا فارقتني فننا * غضا ولم يثمر لي الفنن
        ابني؟ إنك والعزاء معا * بالأمس لف عليكما كفن


        ____________

        (1) الجادي: الزعفران.

        م (2) يذوى من ذوى النبات وذوى: ذبل ونشف ماؤه. الرند: نبات من شجر البادية طيب الرائحة يشبه الآس).
        --------------------------------------------------------------------------------
        الصفحة 6
        --------------------------------------------------------------------------------

        وفي الديوان أبيات يرثي بها ابنا لم يذكر اسمه وهي:


        حماه الكرى هم سرى فتأوبا * فبات يراعي النجم حتى تصوبا
        أعيني جودا لي فقد جدت للثرى * بأكثر مما تمنعان وأطيبا
        بني الذي أهديته أمس للثرى * فلله ما أقوى قناتي وأصلبا
        فإن تمنعاني الدمع أرجع إلى أسى * إذا فترت عنه الدموع تلهبا

        وهي على الأرجح رثاؤه لأصغر أبناءه الذي لم يذكر اسمه ولا ندري هل مات قبل أخيه أو بعده؟!؟! ولكن يخيل إلينا من المقابلة بين هذه المراثي أن الأبيات البائية كانت آخر ما رثى به ولدا لأنها تنم عن فجيعة رجل راضه الحزن على فقد البنين حتى جمدت عيناه ولم يبق عنده من البكاء إلا الأسى الملتهب في الضلوع، وإلا العجب من أن يكون قد عاش وصلبت قناته لكل هذه الفجايع، وقد كان رثاؤه لابنه الأوسط صرخة الضربة الأولى، ففيها ثورة لاعجة تحس من خلل الأبيات، ثم حل الألم المرير محل الألم السوار في مصيبته الثانية، فوجم وسكن واستعبر، ثم كانت الخاتمة فهو مستسلم يعجب للحزن كيف لم يقض عليه، ويحس وقدة المصاب في نفسه ولا يحسه في عينيه، ولقد غشيت غبرة الموت حياته كلها، وماتت زوجته بعد موت أبنائه جميعا فتمت بها مصائبه وكبر عليه الأمر. إلخ


        تعليمه

        ذلك كل ما استطعنا أن نجمعه من الأخبار النافعة عن نشأة الشاعر وأهله ولا فائدة من البحث في المصادر التي بين أيدينا عن أيام صباه وتعليمه ومن حضر عليهم و تتلمذ لهم من العلماء والرواة فإن هذه المصادر خلو مما يفيد في هذا المقام إلا ما جاء عرضا في الجزء السادس من (الأغاني) حيث يروي ابن الرومي عن أبي العباس ثعلب عن حماد بن المبارك عن الحسين بن الضحاك. وحيث يروي في موضع آخر عن قتيبة عن عمر السكوني بالكوفة عن أبيه عن الحسين بن الضحاك، فيصح أن تكون الرواية هنا رواية تلميذ عن أستاذ، لأن ثعلبا ولد سنة مائتين فهو أكبر من الشاعر بإحدى و عشرين سنة، أما قتيبة (والمفهوم أنه أبو رجاء قتيبة بن سعيد بن جميل الثقفي المحدث العالم المشهور) فجائز أن يكون ممن أملوا عليه وعلموه لأنه مات وابن الرومي
        --------------------------------------------------------------------------------
        الصفحة 7
        --------------------------------------------------------------------------------

        يناهز العشرين.

        وقد مر بنا أنه كان يختلف إلى محمد بن حبيب الراوية النسابة الكبير، وسنرى هنا أنه كان يرجع إليه في بعض مفرداته اللغوية فيذكر شرحها في ديوانه معتمدا عليه قال بعد قوله:


        وأصدق المدح مدح ذي حسد * ملاءن من بغضه ومن شنف

        قال لي محمد بن حبيب: الشنف ما ظهر من البغضة في العينين وأشار إليه بعد بيت آخر وهو:


        بانوا فبان جميل الصبر بعدهم * فللدموع من العينين عينان

        إذا فسر كلمة (عينان) فروى عن ابن حبيب أنه قال: عان الماء يعين عينا وعينانا إذا ساح. فهؤلاء ثلاثة من أساتذة ابن الرومي على هذا الاعتبار ولا علم لنا بغيرهم فيما راجعناه وحسبنا مع هذا أن الرجل كيفما كان تعليمه وأيا كان معلموه قد نشأ على نصيب واف من علوم عصره، وساهم في القديم والحديث منها بقسط وافر في شعره فلو لم يقل المعري: إنه كان يتعاطى الفلسفة. والمسعودي: إن الشعر كان أقل آلاته.

        لعلمنا ذلك من شواهد شتى في كلامه، فهي هناك كثيرة متكررة لا يلم المتصفح ببعضها إلا جزم باطلاع قائلها على الفلسفة ومصاحبة أهلها واشتغاله بها، حتى سرت في أسلوبه وتفكيره، وما كان متعلم الفلسفة في تلك الأيام يصنع أكثر من ذلك ليتعلمها أو ليعد من متعلميها، فأنت لا تقرأ لرجل غير مشتغل أو ملم بالفلسفة والقياس المنطقي والنجوم كلاما كهذا الكلام

        لما تؤذن الدنيا به من صروفها * يكون بكاء الطفل ساعة يولد
        وإلا فما يبكيه منها وأنها * لأرحب مما كان فيه وأرغد؟!

        وذكر شواهد كثيرة على إلمامه بالعلوم ومعرفته بمصطلحاتها غضضنا الطرف عنها اختصارا.


        رسائل ابن الرومي

        وقد وردت في أبياته الهمزية إشارة إلى حذقه في الكتابة ومشاركته في البلاغة المنثورة تعززها إشارة مثلها في هذا البيت:


        --------------------------------------------------------------------------------
        الصفحة 8
        --------------------------------------------------------------------------------



        ألم تجدوني آل وهب لمدحكم * بشعري ونثري أخطلا ثم جاحضا؟!

        فلا بد أنه كان يكتب ويمارس الصناعة النثرية إلا ما استجمعناه من منثوراته لا يعدو نبذا معدودة موجزة، منها: رسالة إلى القاسم بن عبيد الله يقول فيها متنصلا 1 ترفع عن ظلمي إن كنت بريئا، وتفضل بالعفو إن كنت مسيئا، فوالله إني لأطالب عفو ذنب لم أجنه، وألتمس الاقالة مما لا أعرفه، لتزداد تطولا وازداد تذللا، وأنا أعيذ حالي عندك بكرمك من واش يكيدها، وأحرسها بوفاءك من باغ يحاول إفسادها، وأسأل الله تعالى أن يجعل حظي منك بقدر ودي لك ومحلي من رجائك بحيث أستحق منك. والسلام.

        2 رسالة كتبها يعود صديقا: أذن الله في شفائك، وتلقى داءك بدوائك، ومسح بيد العافية عليك، ووجه وفد السلامة إليك، وجعل علتك ماحية لذنوبك، مضاعفة لثوابك.

        3 كتب إلى صديق له قدم من (سيراف) (1) فأهدى إلى جماعة من إخوانه ونسيه: أطال الله بقاءك وأدام عزك وسعادتك وجعلني فداءك، لولا أنني في حيرة من أمري وشغل من فكري لما افترقنا، وشوقي علم الله فغالب، وظمأي فشديد، وإلى الله الرغبة في أن يجعل القدرة على اللقاء حسب المحبة أنه قادر جواد.

        ومكاننا من جميل رأيك أيدك الله يبعثنا على تقاضي حقوقنا قبلك، وكريم سجاياك وأخلاقك يشجعنا على إمضاء العزم في ذلك، وما تطولت به من الايناس يؤنسنا بك و يبسطنا إليك، وآثار يديك تدلنا عليك، وتشهد لنا بسماحتك، والله يطيل بقاءك و يديم لنا فيك وبك السعادة.

        وبلغني أدام الله عزك أن سحائب تفضلك أمطرت منذ أيام مطرا عم إخوانك بهدايا مشتملة على حسن وطيب، فأنكرت على عدلك وفضلك خروجي منها مع دخولي في جملة من يعتدك ويعتقدك وينحوك ويعتمدك، وسبق إلى قلبي من ألم سوء الظن برأيك أضعاف ما سبق إليه من الألم بفوت الحظ من لطفك، فرأيت مداوات قلبي من ظنه، وقلبك من سهوه، واستبقاء الود بيننا بالعتاب الذي يقول فيه القائل: (ويبقى

        ____________

        (1) سيراف: مدينة جليلة على ساحل بحر فارس، منها إلى شيراز ستون فرسخا.


        --------------------------------------------------------------------------------
        الصفحة 9
        --------------------------------------------------------------------------------

        الود ما بقي العتاب) وفيما عاتبت كفاية عند من له أذنك الواعية وعينك الراعية.

        4 وقال في تفضيل النرجس على الورد: النرجس يشبه الأعين والمضاحك، والورد يشبه الخدود، والأعين والمضاحك أشرف من الخدود، وشبيه الأشرف أشرف من شبيه الأدنى، والورد صفة لأنه لون والنرجس يضارعه في هذا الاسم، لأن النرجس هو الريحان الوارد أعني أنه أبدا في الماء، والورد خجل، والنرجس مبتسم، وانظر أدناهما شبها بالعيون فهو أفضل.

        هذه نماذج من منثوراته لا نعرف غيرها فيما بين أيدينا، وخليق بمن يكتب بهذا الأسلوب أن يعد في بلغاء الكتاب وإن لم يعد في أبلغهم، على أن ابن الرومي لم يكن يحسب نفسه إلا مع الشعراء إذا اختلفت الطوائف، فإنه يقول عن نفسه وهو يمدح أبا الحسين كاتب ابن أبي الإصبع:


        ونحن معاشر الشعراء تنمى * إلى نسب من الكتاب دان
        وإن كانوا أحق بكل فضل * وأبلغ باللسان وبالبيان
        أبونا عند نسبتنا أبوهم * عطارد السماوي المكان

        أما حظه من علوم العربية والدين فمن المفضول أن نتعرض لإحصاء الشواهد عليه في كلامه، لأنه أبين من أن يحتاج إلى تبيين. وندر في قصائده المطولة أو الموجزة قصيدة تقرأها ولا تخرج منها وأنت موقن باستبحار ناظمها في اللغة وإحاطته الواسعة بغريب مفرداتها وأوزان اشتقاقها وتصريفها وموقع أمثالها وأسماء مشاهرها، وما يصحب ذلك من أحكام في الدين ومقتبسات من أدب القرآن، فليس في شعر العربية من تبدو هذه الشواهد في كلامه بهذه الغزارة والدقة غير شاعرين اثنين: أحد هما صاحبنا والثاني المعري، وقد كان يمدح الرؤساء والأدباء أمثال عبيد الله بن عبد الله، وعلي بن يحيى، وإسماعيل بن بلبل فيفسر غريب كلماته في القرطاس الذي يثبت فيه قصايده كأنه كان يشفق أن تفوتهم دقايق لفظه وأسرار لغته ثم يعود إلى الاعتذار من ذلك إذا أنس منهم الجفوة والتغير.


        لم أفسر غريبها لك لكن * لامرئ يجهل الغريب سواكا
        لغيرك لا لك التفسير أنى * يفسر لابن بجدتها الغريب


        --------------------------------------------------------------------------------
        الصفحة 10
        --------------------------------------------------------------------------------

        وكانوا لشهرته باللغة وعلم أسرارها ولطيف نكاتها يختلقون له الكلمات النافرة يسألونه عنها ليعبثوا به أو يعجزوه، وقصة (الجرامض) إحدى هذه المعابثات التي تدل على غيرها من قبيلها، فقد سأله بعضهم في مجلس القاسم بن عبيد الله: ما الجرامض؟!

        فارتجل مجيبا:


        وسألت عن خبر الجرامض * طالبا علم الجرامض
        وهو الخزا كل والغوامض * قد تفسر بالغوامض
        وهو السلجكل شئت إذ * لك أم أبيت بفرض فارض

        وكلها كلمات من مادة الجرامض لا معنى لها ولا وجود، وإذا صح استقراؤنا وكان من أساتذته أمثال ثعلب وقتيبة فضلا عن الأستاذية الثابتة لابن حبيب فلا جرم يصير ذلك علمه بالغريب والأنساب والأخبار، هؤلاء كلهم من نخبة النخبة في هذه المطالب، ولا سيما إذا أعانهم تلميذ ذو فطنة متوقدة الفهم وذاكرة سريعة الحفظ كهذا التلميذ، فقد مر بك أنه كان يحفظ الأبيات الخمسة من قراءة واحدة فهب في الرواية بعض مبالغة التي تتعرض لها أمثال هذه الروايات فهو بعد سريع الحفظ و هذا مما يعينه على تحصيل اللغة وتعليق المفردات.

        عاش ابن الرومي حياته كلها في بغداد لا يفارقها قليلا حتى يعود سريعا وقد نازعه إليها الشوق وغلبه نحوها حنين، وكانت بغداد يومئذ عاصمة الدنيا غير مدافع، و كان صاحب صنيعة ومالك دارين وثراء وتحف موروثة منها قدح زعم أنه كان للرشيد ووصفه في شعره لما أهداه إلى علي بن المنجم يحيى

        قدح كان للرشيد اصطفاه * خلف من ذكوره غير خلف
        كفم الحب في الحلاوة بل أحلى * وإن كان لا يناغي بحرف
        صيغ من جوهر مصفى طباعا * لا علاجا بكيمياء مصف
        تنفذ العين فيه حتى تراها * أخطأته من رقة المستشف
        كهواه بلا هباء مشوب * بضياء أرقق بذاك وأصف

        ثم استوعب الكلام في البحث عن مزاجه وأخلاقه ومعيشته وما كانت تملكه يده وذكرى مطايباته ومفاكهاته وهجاؤه وفشله وطيرته من ص 102 - 203 فشرع
        --------------------------------------------------------------------------------
        الصفحة 11
        --------------------------------------------------------------------------------

        في بيان عقيدته (وهناك مواقع للنظر) وقال:


        عقيدته

        تقدم في الكلام عن الحالة الدينية في القرن الثالث للهجرة أنه كان عصرا كثرت فيه النحل والمذاهب وقل فيه من لا يرى في العقايد رأيا يفسر به إسلامه و ويخلصه بين جماعة الدارسين وقراء العلوم الحديثة.

        فابن الرومي واحد من هؤلاء القراء لا ننتظر أن تمر به هذه المباحث التي كان يدرسها ويحضر مجالسها ويسمع من أهلها بغير أثر محسوس في تفسير العقيدة، فكان مسلما صادق الاسلام، ولكنه كان شيعيا معتزليا قدريا يقول بالطبيعتين، وهي أسلم النحل التي كانت شايعة في عهده من حيث الإيمان بالدين.

        وقد قال المعري في رسالة الغفران: إن البغداديين يدعون أنه متشيع و يستشهدون على ذلك بقصيدته الجيمية ثم عقب على ذلك فقال: ما أراه إلا على مذهب غيره من الشعراء.

        ولا ندري لماذا شك المعري في تشيعه لأنه على مذهب غيره من الشعراء، فإن الشعراء إذا تشيعوا كانوا شيعة حقا كغيرهم من الناس، وربما أفرطوا فزادوا في ذلك على غيرهم من عامة المتشيعين، وإنما نعتقد أن المعري لم يطلع على شعره كله فخفيت عنه حقيقة مذهبه ولولا ذلك لما كان بهذه الحقيقة من خفاء.

        على أن القصيدة الجيمية وحدها كافية في إظهار التشيع الذي لا شك فيه، لأن الشاعر نظمها بغير داع يدعوه إلى نظمها من طمع أو مداراة، بل نظمها وهو يستهدف للخطر الشديد من ناحية بني طاهر وناحية الخلفاء، فقد رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين ابن زيد بن علي الثائر في وجه الخلافة ووجه أبناء طاهر ولاة خراسان، وقال فيها يخاطب بني العباس ويذكر (ولاة السوء) من أبناء طاهر:


        أجنوا بني العباس من شنآئكم * وأوكوا على ما في العياب وأشرجوا
        وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم * فأحرى بهم أن يغرقوا حيث لججوا
        نظار لكم أن يرجع الحق راجع * إلى أهله يوما فتشجوا كما شجوا
        على حين لا عذري لمعتذريكم * ولا لكم من حجة الله مخرج


        --------------------------------------------------------------------------------
        الصفحة 12
        --------------------------------------------------------------------------------



        فلا تلحقوا الآن الضغاين بينكم * وبينهم إن اللواقح تنتج
        غررتم لئن صدقتم أن حالة * تدوم لكم والدهر لونان أخرج
        لعل لهم في منطوى الغيب ثائرا * سيسمو لكم والصبح في الليل مولج

        فماذا يقول الشيعي لبني العباس أقسى وأصرح في التربص بدولتهم وانتظار دولة العلويين من هذا الكلام؟! فقد أنذر بني العباس بزوال الملك وكاد يتمنى أو تمنى لبني علي يوما يهزمون فيه أعداءهم، ويرجعون فيه حقهم، ويطلبون تراثهم، وينكلون بمن نكل بهم، وهواه ظاهر من العلويين لا مداجاة فيه كهوى كل شيعي في هذا المقام.

        على أنه كان أظهر من هذا في النونية التي تمنى فيها هلاك أعدائهم ولام نفسه على التقصير في بذل دمه لنصرتهم:


        إن يوالي الدهر أعداء لكم * فلهم فيه كمين قد كمن
        خلعوا فيه عذار المعتدي * وغدوا بين اعتراض وأرن
        فاصبروا يهلكهم الله لكم * مثل ما أهلك أذواء اليمن
        قرب النصر فلا تستبطئوا * قرب النصر يقينا غير ظن
        ومن التقصير صوني مهجتي * فعل من أضحى إلى الدنيا ركن
        لا دمي يسفك في نصرتكم * لا ولا عرضي فيكم يمتهن
        غير أني باذل نفسي وإن * حقن الله دمي فيما حقن
        ليت إني غرض من دونكم * ذاك أو درع يقيكم ومجن
        أتلقى بجبيني من رمي * وبنحري وبصدري من طعن
        إن مبتاع الرضي من ربه * فيكم بالنفس لا يخشى الغبن

        وليس يجوز الشك في تشيع من يقول هذا القول ويشعر هذا الشعور، فإنه يعرض نفسه للموت في غير طائل حبا لبني علي وغضبا لهم وإشهارا لهم لعاطفة لا تفيده و لا تفيدهم، وقد كان لا يذكر يحيى بن عمر إلا بلقب الشهيد كما ذكره في القصيدة الجيمية وفي خاطرة أخرى مفردة نظمها في هذين البيتين:


        كسته القنا حلة من دم * فأضحت لدى الله من ارجوان
        جزته معانقة الدار * عين معانقة القاصرات الحسان


        --------------------------------------------------------------------------------
        الصفحة 13
        --------------------------------------------------------------------------------

        وبعض هذا يكفي في الدلالة علي تشيعه للطالبيين واتخاذه التشيع مذهبا في الخلافة كمذهب الشعراء أو غير الشعراء ولا سيما التشيع المعتدل الذي يقول أهله بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، ويستنكرون لعن الصحابة الذين عارضوا عليا في الخلافة، ومعظم هؤلاء من الزيدية الذين خرجوا في جند يحيى بن عمر لقتال بني العباس، فهم لا يقولون في نصرة آل علي أشد مما قال ابن الرومي، ولا يتمنون لهم أكثر مما تمناه.

        ويلوح لنا أن ابن الرومي ورث التشيع وراثة من أمه وأبيه لأن أمه كانت فارسية الأصل فهي أقرب إلى مذهب قومها الفرس في نصرة العلويين، ولأن أباه سماه عليا وهو من أسماء الشيعة المحبوبة التي يتجنبها المتشددون من أنصار الخلفاء، ولا حرج على أبي الشاعر أن يتشيع وهو في خدمة بيت من بيوت العباسيين، لأن مواليه كانوا أناسا بعيدين من الخلافة وولاية العهد وهما علة البغضاء الشديدة بين العباسيين والعلويين، وقد اتفق لبعض الخلفاء وولاة العهد أنفسهم أنهم كانوا يكرمون عليا وأبناءه كما كان مشهورا عن (المعتضد) الخليفة الذي أكثر ابن الرومي من مدحه، كما كان مشهورا عن (المنتصر) ولي العهد الذي قيل: إنه قتل أباه (المتوكل) جريرة ملاحاة وقعت بينهما في الذب عن حرمة علي وآله (ثم قال بعد استظهار تشيع بني طاهر ص 207 - 209):

        وإن أحق عقيدة أن يجد المرء فيها لعقيدة تجرؤه إذا خاف، وتبسط له العذر والعزاء إذا سخط من صروف الحوادث، وتمهد له الأمل في مقبل خير من الحاضر، وأدنى منه إلى كشف الظلمات ورد الحقوق، وكل أولئك كان ابن الرومي واجده على أوفاه في التشيع للعلويين أصحاب الإمامة المنتظرة في عالم الغيب على العباسيين أصحاب الحاضر الممقوت المتمنى زواله، فلهذا كان متشيعا في الهوى، متشيعا في الرجاء، وكان على مذهب غيره من الشعراء وعلى مذهب غيره من سائر المتشيعين.

        أما الاعتزال فابن الرومي لا يكتمه ولا يماري فيه، بل يظهره إظهار معتز به حريص عليه فمن قوله في ابن حريث.


        معتزلي مسر كفر * يبدي ظهورا لها بطون
        أأرفض الاعتزال رأيا * كلا لأني به ضنين


        --------------------------------------------------------------------------------
        الصفحة 14
        --------------------------------------------------------------------------------



        لو صح عندي له اعتقاد * ما دنت ربي بما يدين

        وكان مذهبه في الاعتزال مذهب القدرية الذين يقولون بالاختيار وينزهون الله عن عقاب المجبر على ما يفعل، وذلك واضح من قوله يخاطب العباس بن القاشي و يناشده صلة المذهب:


        إن لا يكن بيننا قربى فآصرة * للدين يقطع فيها الوالد الولدا
        مقالة العدل والتوحيد تجمعنا * دون المضاهين من ثنى ومن جحدا
        وبين مستطرفي غي مرافقة * ترعى فكيف اللذان استطرفا رشدا
        كن عند أخلاقك الزهر التي جعلت * عليك موقوفة مقصورة أبدا
        ما عذر (معتزلي) موسر منعت * كفاه معتزليا. مقترا صفدا؟!
        أيزعم القدر المحتوم أثبطه؟! * إن قال ذاك فقد حل الذي عقدا
        أم ليس مستأهلا جدواه صاحبه؟! * أنى؟! وما جار عن قصد ولا عندا
        أم ليس يمكنه ما يرتضيه له؟! * يكفي أخا من أخ ميسور ما وجدا
        لا عذر فيما يريني الرأي أعلمه * للمرء مثلك ألا يأتي السددا

        فواضح من كلامه هذا أنه (معتزلي) وأنه من أهل العدل والتوحيد وهو الاسم الذي تسمى به القدرية لأنهم ينسبون العدل إلى الله فلا يقولون بعقوبة العبد على ذنب قضى له وسبق إليه، ولأنهم يوحدون الله فيقولون: إن القرآن من خلقه و ليس قديما مضاهيا له في صفتي الوجود والقدم، وقد اختاروا لأنفسهم هذا الاسم ليردوا به على الذين سموهم القدرية ورووا فيهم الحديث (القدرية مجوس هذه الأمة) فهم يقولون: ما نحن بالقدرية لأن الذين يعتقدون القدر أولى بأن ينسبوا إليه، إنما نحن من أهل العدل والتوحيد لأننا ننزه الله عن الظلم وعن الشريك.

        وواضح كذلك من كلامه أنه يعتقد حرية الانسان فيما يأتي من خير وشر، ويحتج على زميله بهذه الحجة فيقول له: لم لا تثيبني؟! إن قلت: إن القدر يمنعك؟!

        فقد حللت ما اعتقدت من اختيار الانسان في أفعاله، وإن قلت: إنك لا تريد؟! فقد ظلمت الصداقة وأخللت بالمروءة. وله عدا هذا أبيات صريحة في اعتقاد (الاختيار) وخلق الانسان لأفعاله كقوله:
        التعديل الأخير تم بواسطة هويدي العراق; الساعة 27-07-2005, 01:16 PM.

        تعليق


        • #5
          هجاء ابن الرومي
          لولا صروف الاختيار لاعنقوا * لهوى كما اتثقت جمال قطار

          وقوله:


          أنى تكون كذا وأنت مخير * متصرف في النقض والإمرار؟!

          وقوله:


          الخير مصنوع بصانعه * فمتى صنعت الخير أعقبكا
          والشر مفعول بفاعله * فمتى فعلت الشر أعطبكا

          إلا أنه كان يقول بالقدر في تقسيم الأرزاق وأن:


          الرزق آت بلا مطالبة * سيان مدفوعة ومجتذبه

          ويقول:


          أما رأيت الفجاج واسعة * والله حيا والرزق مضمونا؟!؟!؟!


          * (قال الأميني) *:

          هذا في الرزق الذي يطلبك لا في الرزق الذي تطلبه كما فصله الحديث، ولا تناقض عند القدرية في هذا، لأنهم يقولون بالاختيار فيما يعاقب عليه الانسان ويثاب لا فيما يناله من الرزق وحظوظ الحياة أما القول بالطبيعتين فأوضح ما يكون في قوله:


          فينا وفيك طبيعة أرضية * تهوي بنا أبدا لشر قرار
          هبطت بآدم قبلنا وبزوجه * من جنة الفردوس أفضل دار
          فتعوضا الدنيا الدنية كاسمها * من تلكم الجنات والأنهار
          بئست لعمر الله تلك طبيعة * حرمت أبانا قرب أكرم جار
          واستأسرت ضعفى بنيه بعده * فهم لها أسرى بغير إسار
          لكنها مأسورة مقصورة * مقهورة السلطان في الأحرار
          فجسومهم من أجلها تهوي بهم * ونفوسهم تسمو سمو النار
          لولا منازعة الجسوم نفوسهم * نفزوا بسورتها من الأقطار
          أو قصروا فتناولوا بأكفهم * قمر السماء وكل نجم سار


          * (قال الأميني) *

          لقد عزى الكاتب هاهنا إلى المترجم هنات لا مقيل لها في مستوى الحقيقة، ومنشأ ذلك بعده عن علم الأخلاق وعدمه تعقله معنى الشعر، فحبسه
          --------------------------------------------------------------------------------
          الصفحة 16
          --------------------------------------------------------------------------------

          منافيا للتوحيد الذي جاء به نبي الاسلام، لكن العارف بأساليب الكلام، العالم بما جبل به الانسان من الغرايز المختلفة لا يكاد يشك في صحة معنى الشعر، وهو يعرب عن إلمام ابن الرومي بالأخلاق، والمتكفل لتفصيل هذه الجملة كتب الأخلاق وما يضاهيها، ولخروج البحث عن موضوع الكتاب ضربنا عنه صفحا.

          قال: وابن الرومي كان مفطورا على التدين لأنه كان مفطورا على التهيب والاعتماد على نصير، وهما منفذان خفيان من منافذ الإيمان والتصديق بالعناية الكبرى في هذا الوجود، ومن ثم كان مؤمنا بالله خوفا من الشك، مقبلا على التسليم بسيطا في تسليمه بساطة من يهرب من القلق ويؤثر السكينة على أي شئ، وبلغ من بساطته أنه كان ينكر على الحكماء الذين يشكون في حفظ أجساد الأتقياء بعد الموت و يحسبونه من فعل الدواء والحنوط، فقال لابن أبي ناظرة حين تذوق بعض الأجساد ليعلم ما فيها من عوامل البقاء:


          يا ذائق الموتى ليعلم هل بقوا * بعد التقادم منهم بدواء
          بينت عن رعة وصدق أمانة * لولا اتهامك خالق الأشياء
          أحسبت أن الله ليس بقادر * أن يجعل الأموات كالاحياء؟!
          وظننت ما شاهدت من آياته * بلطيفة من حيلة الحكماء؟!

          ومات وهو يقول في ساعاته الأخيرة:


          ألا أن لقاء الله هول دونه الهول

          وما كانت الطير عنده إلا شعبة من ذلك التهيب الديني الغريزي، فهو يتفلسف ويرى الآراء في الدين ولكن في حدود من الشعور لا في حدود من التفكير، ولهذا كان الفنان ولم يكن الفيلسوف.


          * (قال الأميني) *:

          الطيرة ليست من شعب الدين، ولا يركن إليها أي خاضع له وملأ مسامعه قول الصادع به صلى الله عليه وآله وسلم: لا طيرة ولا حام. وإنما هي بين ضعف النفس غير المتقوية بنور اليقين والتوكل على الله في ورد وصدر، ولذا كانت شايعة في الجاهلية ونفاها الاسلام.

          قال: وليس من الاجتراء أنه قال بالاختيار ورأى له في الدين رأيا غير ما اصطلح
          --------------------------------------------------------------------------------
          الصفحة 17
          --------------------------------------------------------------------------------

          عليه السواد فإنه كان يحيل الذنب على الانسان وينفي الظلم عن القدر في العقاب و الثواب، ويتصور الله على أحسن ما يتصور المتفلسف مثله إلهه؟؟، فكأنما جاءه هذا الرأي من محاباة عالم الغيب لا من الاجتراء عليه، وإنما دفع به إلى رأي المعتزلة مخاوف الشكوك التي كانت تخامره، فلا يستريح حتى يسكن فيها إلى قرار، وينتهي فيها إلى بر الأمان، ولذلك كان يأوي إلى الأصدقاء يكاشفهم بما في صدره ويستعين بهم على تفريج غمته.


          ويدمج أسباب المودة بيننا * مودتنا الأبرار من آل هاشم
          وإخلاصنا التوحيد لله وحده * وتذييبنا؟؟ عن دينه في المقاوم
          بمعرفة لا يقرع الشك بابها * ولا طعن ذي طعن عليها بهاجم
          وأعمالنا التفكير في كل شبهة * بها حجة تعيي دهاة التراجم
          يبيت كلانا في رضى الله ماحضا * لحجته صدرا كثير الهماهم

          بيد أن الإيمان شئ وأداء الفرايض الدينية شئ آخر، فقصارى الإيمان عنده أنه يؤمنه بقرب آل البيت وتنزيه ربه والاطمينان إلى عدله ورحمته، ثم يدع له سبيله يلعب ويمرح كلما لذ له اللعب والمرح، ولا أهلا بالصيام إذا قطع عليه ما اشتهى من لذة وأرب.


          فلا أهلا بمانع كل خير * وأهلا بالطعام وبالشراب

          بل لا حرج عليه إذا قضى ليلة في السرور أن يشبهها بليلة المعراج.


          رفعتنا السعود فيها إلى الفوز * فكانت كليلة المعراج

          ذلك أنه كان في تقواه طوع الاحساس الحاضر، كما كان في كل حالة من حالاته يلعب، فلا يبالي أن يتماجن حيث لا يليق مجون، ويستحضر التقوى والخشوع فلا يباريه أحد من المتعبدين، ويخيل إليك أنك تستمع إلى متعبد عاش عمره في الصوامع حين تستمع إليه يقول:


          تتجافى جنوبهم * عن وطئ المضاجع
          كلهم بين خائف * مستجير وطامع
          تركوا لذة الكرى * للعيون الهواجع
          ورعوا أنجم الدجى * طالعا بعد طالع


          --------------------------------------------------------------------------------
          الصفحة 18
          --------------------------------------------------------------------------------



          لو تراهم إذا هم * خطروا بالأصابع
          وإذا هم تأوهوا * عند مر القوارع
          وإذا باشروا الثرى * بالخدود الضوارع
          واستهلت عيونهم * فائضات المدامع
          ودعوا: يا مليكنا * يا جميل الصنائع
          اعف عنا ذنوبنا * للوجوه الخواشع
          اعف عنا ذنوبنا * للعيون الدوامع
          أنت إن لم يكن لنا * شافع خير شافع
          فأجيبوا إجابة * لم تقع في المسامع
          : ليس ما تصنعونه * أوليائي بضائع
          أبذلوا لي نفوسكم * إنها في ودائعي

          وله من طراز هذا الشعر الخاشع كثير لا تسمعه من ابن الفارض ولا محيي الدين

          * (قال الأميني) *

          ليس ما ارتئاه ابن الرومي في باب الاختيار نتيجة مخامرة الشبه والشكوك كما يراه (المترجم) وإنما هي وليدة البرهنة الصادقة، وإنه لم يعط القدر حقه محاباة له، لكن الحجج الدامغة ألجأته إلى ذلك، وكذلك ما يقوله في باب الأرزاق فهي تقادير محضة غير أن الانسان كلف بتحري الأسباب الظاهرية جريا على النواميس الإلهية؟؟ المطردة في النظام العالمي الأتم، وهذه مسائل كلامية لا يروقنا الخوض فيها إلا هنالك.

          وأما اعتماد ابن الرومي على العدل والرحمة وتنزيه ربه فهو شأن كل مؤمن بالله عارف بكمال قدسه وصفاته الجلالية، وليس قرب أهل البيت الطاهر عليهم السلام إلا نتيجة مودتهم التي هي أجر الرسالة بنص من الذكر الحكيم، وإنما مثلهم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق، وهم عدل الكتاب وقد خلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله بعده وقال: ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، فأحر بهم أن يكون القرب منهم مؤمنا للانسان نشأته الأخرى، وأما ما عزاه إليه من مظاهر من المجون فهي معان شعرية لا يؤاخذ بها القائل، وكم للشعراء الاعفاء أمثالها.


          --------------------------------------------------------------------------------
          الصفحة 19
          --------------------------------------------------------------------------------



          هجاؤه

          أخرج القرن الثالث للهجرة شاعرين هجائين هما أشهر الهجائين في أدب العصور الإسلامية عامة: أحدهما ابن الرومي. والآخر دعبل الخزاعي هاجي الخلفاء و الأمراء وهاجي الناس جميعا؟؟ وقال:


          إني لأفتح عيني حين أفتحها * على كثير ولكن لا أرى أحدا

          وقد جمع المعري بينهما في بيت واحد وضرب بهما المثل لهجاء الدهر لبنيه فقال:


          لو أنصف الدهر هجا أهله * كأنه الرومي أو دعبل

          وليس للمؤرخ الحديث أن يضيف إسما جديدا إلى هذين الاسمين فإن العصور التالية للقرن الثالث لم تخرج من يضارعهما في قوة الهجاء والنفاذ في هذه الصناعة، و كلاهما مع هذا نوع فذ في الهجاء يظهر متى قرن بالآخر.

          فدعبل كما قلنا في غير هذا الكتاب (لا يهمنا ما ذكره في دعبل).

          أما ابن الرومي فلم يكن مطبوعا على النفرة من الناس، ولم يكن قاطع طريق على المجتمع في عالم الأدب، ولكنه كان فنانا بارعا أوتي ملكة التصوير ولطف التخيل والتوليد وبراعة اللعب بالمعاني والأشكال، فإذا قصد شخصا أو شيئا بهجاء صوب إليه (مصورته) الواعية فإذا ذلك الشئ صورة مهيأة في الشعر تهجو نفسها بنفسها، وتعرض للنظر مواطن النقص من صفحتها كما تنطبع؟؟ الأشكال في المرايا المعقوفة والمحدبة، فكل هجوه تصوير مستحضر لأشكاله، أو لعب بالمعاني على حساب من يستثيره.

          وابن الرومي يسلب مهجوه الفطنة والكياسة والعلم ويلصق به كل عيوب الحضارة التي يجمعها التبذل والتهالك على اللذات، فإذا حذفت من هجوه كل ما أوجبته الحضارة والخلاعة الفاشية في تلك الحضارة فقد حذفت منه شر ما فيه ولم يبق منه إلا ما هو من قبيل الفكاهة والتصوير.

          وكان لصاحبنا فنا واحدا من الهجاء لا ترتاب في أنه كان يختاره ويكثر منه ولو لم تحمله الحاجة وتلجأه النقمة إليه، ونعني به فن التصوير الهزلي والعبث بالإشكال المضحكة والمناظرة الفكاهية والمشابهات الدقيقة، فهو مطبوع على هذا كما يطبع المصور على نقل ما يراه وإعطاء التصوير حقه من الاتقان والاختراع، و
          --------------------------------------------------------------------------------
          الصفحة 20
          --------------------------------------------------------------------------------

          ما نراه كان يقع عنه في شعره ولو بطلت ضروراته وحسنت مع الناس علاقاته، لكن هذا الفن أدخل في التصوير منه في الهجاء، وهو حسنة وليس بسيئة، وقدرة تطلب وليس بخلة تنبذ، وأنت لا يغضبك أن ترى ابنك الذي تهذبه وتهديه ماهرا فيه خبيرا بمغامزه وخوافيه، وإن كان يغضبك أن تراه يشتم المشتوم ويهين المهين، ويهجو من يستهدف غرضه للهجاء، لأنك إذا منعته أن يفطن إلى الصور الهزلية وأن يفتن في إدراك معانيها وتمثيل مشابهاتها ومنعت ملكة فيه أن تنمو وأبيت على حاسته الصادقة فيه أن تصدقه وتفقه ما تقع عليه، أما إذا منعت الهجاء وبواعثه فإنك تمنع خلقا يستغنى عنه، وميلا لا بد له من التقويم.

          ذلك هو فن ابن الرومي الذي لا عذر له منه ولا موجب للاعتذار، فأما ما عدا ذلك من هجاؤه فهو مسوق فيه لا سائق، ومدافع لا مهاجم، ومستثار عن عمد في بعض الأحيان لا مستثير، وإنك لتقرأ له قوله:


          ما استب قط اثنان إلا غلبا * شرهما نفسا وأما وأبا

          فلا تصدق أن قائله هو ابن الرومي هجاء اللغة العربية وقاذف المهجوين بكل نقيصة لكن الواقع هو هذا، والواقع كذلك أنه كان يسكن إلى رشده أحيانا فيتسأم الهجاء ويعافه ويود الخلاص منه حتى لو كان مهجوا معدوا عليه ويعتزم التوبة عن الهجاء مقسما:


          آليت لا أهجو طوال * الدهر إلا من هجاني
          لا بل سأطرح الهجاء * وإن رماني من رماني
          أمن الخلايق كلهم * فليأخذوا مني أماني
          حلمي أعز علي من * غضبي إذا غضبي عراني
          أولى بجهلي بعد ما * مكنت حلمي من عناني

          وهذا أشبه بابن الرومي لأنه في صميمه خلق مسالما سهلا، ولم يخلق شريرا مطويا على الشكس والعداوة، بل هو لو كان شريرا لما اضطر إلى كل هذا الهجاء، أو هو لو كان أكبر شرا لكان أقل هجاء، لأنه كان يأمن من جانب العدوان فلا يقابله بمثله، وما كان الهجاء عنده كما قلنا إلا سلاح دفاع لا سلاح هجوم، وما كان هجاؤه يشف عن
          --------------------------------------------------------------------------------
          الصفحة 21
          --------------------------------------------------------------------------------

          الكيد والنكاية وما شابههما من ضروب الشر المستقر في الغريزة، كما كان يشف عن الحرج والتبرم والشعور بالظلم الذي لا طاقة له باحتماله ولا باتقائه، وكثير من الأشرار الذين يقتلون ويعتدون ويفسدون في الأرض يقضون الحياة دون أن تسمع منهم كلمة ذم في إنسان، وكثير من الناس يذمون ويتسخطون لأنهم على ذلك مطبوعون.

          ومن قرأ مراثي ابن الرومي في أولاده وأمه وأخيه وزوجته وخالته وبعض أصدقائه علم منها أنها مراثي رجل مفطور على الحنان ورعاية الرحم والأنس بالأصدقاء و الأخوان، فمراثيه هي التي تدل عليه الدلالة المنصفة وليست مدائحه التي كان يميلها الطمع والرغبة أو أهاجيه التي كان يميلها الغيظ وقلة الصبر على خلائق الناس، ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة الرجل لا تشوبها المطامع والضرورات، ونرى فيه الولد البار، والأخ الشفيق، والوالد الرحيم، والزوج الودود، والقريب الرؤف، والصديق المحزون، ولا يكون الرجل كذلك ثم يكون مع ذلك شريرا مغلق الفؤاد مطبوعا على الكيد والإيذاء وإذا اختلف القولان بينه وبين أبناء عصره فأحجى بنا أن نصدق كلامه هو في أبناء عصره قبل أن نصدق كلامهم فيه، لأنهم كانوا يستبيحون إيذاءه ويستسهلون الكذب عليه لغرابة أطواره، وتعود الناس أن يصدقوا كل ما يرمى به غريب الأطوار من التهم والأعاجيب، في حين أنه كان يتحاشى عن تلك التهم، ويغفر الاساءة بعد الاساءة مخافة من كثرة الشكاية و علما منه بقلة الانصاف.


          أتاني مقال من أخ فاغتفرته * وإن كان فيما دونه وجه معتب
          وذكرت نفسي منه عند امتعاضها * محاسن تعفو الذنب عن كل مذنب
          ومثلي رأى الحسنى بعين جلية * وأغضى عن العوراء غير مؤنب
          فيا هاربا من سخطنا متنصلا * هربت إلى أنجى مفر ومهرب
          فعذرك مبسوط لدينا مقدم * وودك مقبول بأهل ومرحب
          ولو بلغتني عنك أذني أقمتها * لدي مقام الكاشح المتكذب
          ولست بتقليب اللسان مصارما * خليلي إذا ما القلب لم يتقلب

          فالرجل لم يكن شريرا ولا ردئ النفس ولا سريعا إلى النقمة، فلماذا إذن كثر هجاؤه واشتد وقوعه في أعراض مهجويه؟! نظن أنه كان كذلك لأنه كان قليل الحيلة
          --------------------------------------------------------------------------------
          الصفحة 22
          --------------------------------------------------------------------------------

          طيب السريرة خاليا من الكيد والمراوغة والدسيسة وما شابه هذه الخلائق من أدوات العيش في مثل عصره، فكان مستغرقا في فنه يحسب أن الشعر والعلم والثقافة وحدها كفيلة بنجاحه وارتقائه إلى مراتب الوزارة والرئاسة، لأنه كان في زمن يتولى فيه الوزارة الكتاب والرواة ويجمعون في مناصبهم ألوف الألوف ويحظون بالزلفى عند الأمراء والخلفاء، وقد كان هو شاعرا كاتبا، وكان خطيبا واسع الرواية مشاركا في المنطق والفلك واللغة، وكل ما تدور عليه ثقافة زمان، أو كما قال المسعودي: كان الشعر أقل أدواته.. وكان الشعر وحده كافيا لجمع المال وبلوغ الآمال، فماذا بعد أن يعرف الناس إنه شاعر وإنه كاتب وإنه راوية مطلع على الفلسفة والنجوم؟! إلا أن تجيه الوزارة ساعية إليه تخطب وده، كما جاءت إلى أناس كثيرين لا يعلمون علمه، ولا يبلغون في البلاغة مكانه، ألم يصل ابن الزيات إلى الوزارة بكلمة واحدة فسرها للمعتصم وفصل له تفسيرها وهي كلمة (الكلاء) التي يعرفها عامة الأدباء؟! بلى، وابن الرومي كان يعرف من غرايب اللغة ما لم يكن يعرفه شعراء عصره ولا أدباؤه، فما أولاه إذن بالوزارة؟ وما أظلم الدنيا؟ إذ هي ضنت عليه بحقه من المناصب والثراء.

          فإذا لم تكن الوزارة فهل أقل من الكتابة أو العمالة لبعض الوزراء والكتاب المبرزين؟! فإذا لم يكن هذا ولا ذاك فهل غبن أصعب على النفس من هذا الغبن؟!

          وهل تقصير من الزمان ألام من هذا التقصير؟!

          ونبوءة أبيه ورجاؤه في مستقبله وقوله: (أنت للشرف) أيذهب هذا كله هباء لا يقبض منه اليدين على شئ؟! تلك النبوءات التي تنطبع على أفئدة الصغار بمثل النار، ولا تزال غرارة الطفولة وأحلام الصبا تزخرفها وتوشيها وتعمق في الضمير أغوارها، أيأتي الشباب وهي محو لغو مطموس لا يبين أولا يبين منه إلا ما ينقلب إلى الأضداد وتترجمه الأيام بالسقم والفقر والكساد؟! وكيف يمحى؟! إلا وقد محى القلب الذي طبعت فيه، وكيف ينعكس معناه؟! إلا وقد انعكس في القلب كل قائم والتوى فيه كل قويم، ذلك صعب على النفوس وليس بالسهل إلا على من يلهو به وهو بعيد.

          وهكذا كان ابن الرومي يسأل نفسه مرة بعد مرة ويوما بعد يوم:


          مالي أسل من القراب وأغمد؟! * لم لا أجرد؟! والسيوف تجرد


          --------------------------------------------------------------------------------
          الصفحة 23
          --------------------------------------------------------------------------------



          لم لا أجرب في الضرائب مرة * يا للرجال وأنني لمهند؟!

          ولا يدري كيف يجيب نفسه على سؤاله، لأنه لم يكن يدري أن فضائله كلها لا تساوي فتيلا بغير الحيلة والعلم بأساليب الدخول بين الناس، وإن الحيلة وحدها قد تغني عن فضائله جميعا ولو كان صاحبها لا ينظم شعرا، ولا ينظر في كتب الفلسفة و الرواية والنجوم.

          حسن إذن تدع الوزارة والولاية والعمالة بعد يأس مضيض يسهل علينا هنا أن نسطره في كلمة عابرة ولكنه لا يسهل على من يعالجه ويشفي بمحنته في ساعة من ساعات حياته، ندع الوزارة والولاية والعمالة ونقنع بالمثوبة من الوزراء والولاة والعمال إن كانوا يثيبون المادحين، فهل تراهم يفعلون؟!.

          لا. لأن الحيلة لازمة في استدرار الجوائز والمثوبات لزومها في كل غرض من أغراض المعاش ولا سيما في ذلك الزمان الذي شاعت فيه الفتن والسعايات، وما كانت تنقضي منه سنة واحدة بغير مكيدة خبيئة تؤدي بحياة خليفة أو أمير أو وزير، وربما كانت مصانعة الحجاب والتماس مواقع الهوى من نفوس الحاشية والندمان و اللعب بمغامز النفوس الخفية وإضحاك هؤلاء، وهؤلاء، أجدى على الشاعر في هذا الباب من بلاغة شعره وغزارة علمه.

          وبسط الكلام في الموضوع إلى ص 235 فقال:


          هو وشعراء عصره

          عاصر ابن الرومي في بيئته كثير من الشعراء أشهرهم في عالم الشعر الحسين بن الضحاك، ودعبل الخزاعي، والبحتري، وعلي بن الجهم، وابن المعتز، وأبو عثمان الناجم.

          وليس لهؤلاء ولا لغيرهم ممن عاصروه وعرفوه أو لم يعرفوه أثر يذكر في تكوينه غير اثنين فيما نظن هما: الحسين بن الضحاك، ودعبل الخزاعي

          * (قال الأميني) *

          وكان بين ابن الرومي والشاعر المفلق ابن الحاجب محمد بن أحمد صلة ومودة وجرت بينهما نوادر منها: أن ابن الحاجب سأله ابن الرومي زيارته في يوم معلوم فصاروا إليه فلم يجدوه فقال ابن الرومي فيه شعرا أوله:


          --------------------------------------------------------------------------------
          الصفحة 24
          --------------------------------------------------------------------------------



          نجاك يا بن الحاجب الحاجب * وليس ينجو مني الهارب

          وأجابه ابن الحاجب بأبيات توجد في معجم المرزباني 453.

          قال: فكان ابن الرومي معجبا بالحسين بن الضحاك يروي شعره ويستملح أخباره ويذكرها لأصحابه، وكان ابن الرومي يافعا يحضر مجالس الأدب ويتلقى دروسه و الحسين في أوج شهرته يتناشد أشعاره أدباء الكوفة وبغداد ومدن العراق (ثم ذكر بعض ما رواه ابن الرومي من شعر ابن الضحاك نقلا عن الأغاني) فقال:

          وقد مات الحسين بن الضحاك وابن الرومي في التاسعة والعشرين ولم نر في تاريخه ولا في تاريخ الحسين ما يشير إلى تلاقيهما في بغداد حيث عاش ابن الرومي معظم حياته، أو في غير بغداد حيث كان يرحل ابن الضحاك.

          أما دعبل فابن الرومي عارضه في موضعين أحدهما القصيدة الطائية التي نظمها دعبل حين اتهم خالدا بسرقة ديكه وإطعامه لضيوفه وقال في مطلعها:


          أسر المؤذن خالد وضيوفه * أسر الكمي هفا خلال الماقط (1)

          ولآخر في قصيدة لدعبل مطلعها:


          أتيت ابن عمرو فصادفته * مريض الخلايق ملتائها

          وكان دعبل فيما عدا ذلك متشيعا لآل علي غاليا في تشيعه (2) فجذب ذلك كله نفس ابن الرومي الفتى نحوه وحبب إليه محاكاته ومجاراته، وربما كانت الرغبة في مجاراته إحدى دواعيه إلى الهجاء، ومات دعبل وابن الرومي في الخامسة والعشرين ولا نعلم أنهما تعارفا أو كان بينهما لقاء.

          وأما البحتري وأبو عثمان الناجم فالثابت أن ابن الرومي كان على معرفة و صحبة معهما، عرف البحتري في بيت الناجم وكان هذا صديقا له بقي على صداقته إلى يوم موته.


          * (قال الأميني) *

          لابن الرومي قصيدة في البحتري وأدبه وشعره توجد منها أبيات في ثمار القلوب للثعالبي ص 200 و 342.


          ____________

          (1) راجع من كتابنا ج 2 ص 379 ط ثاني.

          (2) عزو باطل لا يشوه به قدس تشيع مثل دعبل.
          --------------------------------------------------------------------------------
          الصفحة 25
          --------------------------------------------------------------------------------

          وأما علي بن الجهم المتوفى 249 فقد كان بينه وبين ابن الرومي برزخ واسع من اختلاف المذهب في الدين والشعر، فابن الرومي متشيع، وابن الجهم ناصب يذم عليا وآله (ولا يلتقي الشيعي والناصب) كما يقول ابن الرومي. وكان ابن الجهم شديد النقمة على المعتزلة وعلى أهل العدل والتوحيد منهم خاصة يهجوهم ويدس لهم ويقول في زعيمهم أحمد بن أبي داود:


          ما هذه البدع التي سميتها * بالجهل منك العدل والتوحيدا

          وابن الرومي كما مربك من هذه الجماعة، فمذهبه في الدين ينفره ابن الجهم ولا يرغبه في مجاراته، ولو تشابها فيما عدا ذلك من المزاح والنزعة، لقد يهون هذا الفارق ويسهل على ابن الرومي الإغضاء عنه، وهو ناشئ يتلمس القدوة، ويخطو في سبيل الشهرة، ولكنك تقره شعر ابن الجهم في فخره ومزاحه فيخيل إليك أنك تقرأ كلام جندي يتنفج أو يعربد لخلوه من كل عاطفة غير عواطف الجند يقضون أوقاتهم بين الفجر و الضجيج واللهو والسكر، وليس بين هذه الطبيعة وطبيعة ابن الرومي مسرب للقدوة أو للمقاربة في الميل والاحساس.

          وأما ابن المعتز فقد ولد في سنة سبع وأربعين ومأتين فلما أيفع وبلغ السن التي يقول فيها الشعر كان ابن الرومي قد جاوز الأربعين أو ضرب في حدود الخمسين، ولما بلغ واشتهر له كلام يروى في مجالس الأدباء كان ابن الرومي قد أوفى على الستين وفرغ من التعلم والاقتباس، ولو انعكس الأمر وكان ابن المعتز هو السابق في الميلاد لما أخذ منه ابن الرومي شيئا، أو لكان أفسده سليقته بالأخذ عنه، لأن ابن المعتز إنما امتاز بين شعراء بغداد في عصره بمزاياه الثلاث وهي: البديع. والتوشيح. والتشبيه بالتحف والنفائس. وابن الرومي لم يرزق نصيبا معدودا من هذه المزايا ولم يكن قط من أصحاب البديع أو أصحاب التشبيهات التي تدور على الزخرف، وتستفيد نفاستها من نفاسة المشبهات.


          تاريخ وفاته

          قال ابن خلكان: توفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى سنة ثلاث و
          --------------------------------------------------------------------------------
          الصفحة 26
          --------------------------------------------------------------------------------

          ثمانين. وقيل: وسبعين ومأتين ودفن في مقبرة باب البستان. والذين جاؤا بعد ابن خلكان تابعوه في هذا الشك ولا مسوغ لهذا الشك بأمور (1) الأول قوله:


          طربت ولم تطرب على حين مطرب * وكيف التصابي بابن ستين أشيب؟!

          فبملاحظة تاريخ ولادته المتسالم عليه بين أرباب المعاجم يوافق ستين مع سنة 281 فهو لم يمت في سنة 276 على التحقيق. ولا يظن أن الستين هنا تقريبية لضرورة الشعر فإنه ذكر الخمس والخمسين في موضع آخر حيث قال.


          كبرت وفي خمس وخمسين مكبر * وشبت فألحاظ المها عنك نفر (2)

          الثاني: ما في مروج الذهب (ج 2 ص 488) للمسعودي من أن قطر الندى بنت خمارويه وصلت إلى مدينة السلام ابن الجصاص في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ففي ذلك يقول ابن الرومي.


          يا سيد العرب الذي زفت له * باليمن والبركات سيدة العجم


          * (قال الأميني) *

          قال الطبري في تاريخه 11 ص 345: كان دخولهم بغداد يوم الأحد لليلتين خلتا من المحرم سنة 282.

          الثالث: مقطوعاته التي نظمها الشاعر في العرس الذي احتفل به الخليفة سنة اثنتين وثمانين.


          * (قال الأميني) *

          ومما ينفي الشك عن عدم وقوع وفاة المترجم سنة 270 قصيدته التي يمدح بها المعتضد بالله أبا العباس أحمد في أيام خلافته وقد بويع له في شهر رجب بعد عمه المعتمد سنة 279 قال فيها:


          هنيئا بني العباس إن إمامكم * إمام الهدى والبأس والجود أحمد
          كما بأبي العباس أنشئ ملككم * كذا بأبي العباس أيضا يجدد

          قال العقاد: وأما التاريخين الآخرين: أي سنة ثلاث وأربع وثمانين فعندنا تاريخ اليوم والشهر من أولاهما وليس عندنا مثل ذلك من الثانية وهذا مما يرجح وفاته في سنة ثلاث وثمانين دون أربع وثمانين.


          ____________

          (1) نحن نذكر ملخصها.

          (2) ذكر الخمس والخمسين في هذا البيت لا ينافي تقريبية الستين في سابقه.
          --------------------------------------------------------------------------------
          الصفحة 27
          --------------------------------------------------------------------------------



          * (قال الأميني) *

          لم نعرف وجه الترجيح يذكر تاريخ اليوم والشهر لمجرده مع قطع النظر عما ذكره بعد من مضاهاة التاريخ بقوله:

          ويقوي هذا الترجيح أن مضاهاة التواريخ تثبت لنا أن جمادي الأخرى من سنة ثلاث وثمانين بدأت يوم جمعة فيكون يوم الأربعاء قد جاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى في تلك السنة كما جاء في تاريخ الوفاة، وقد ضاهينا هذا اليوم على التاريخ الأفرنجي فوجدناه يوافق الرابع عشر من شهر يونيو، أي يوافق أبان الصيف في العراق، وابن الرومي مات في الصيف كما يؤخذ من قول الناجم أنه دخل عليه في مرضه الذي مات فيه وبين يديه ماء مثلوج فيجوز لنا على هذا أن نجزم بأن أصح التواريخ الأول و هو: يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى سنة ثلاث وثمانين.


          شهادته

          الأقوال بعد ذلك مجمعة على موت ابن الرومي بالسم وأن الذي سمه هو القاسم بن عبيد الله أو أبوه قال ابن خلكان في وفيات الأعيان (ج 1 ص 386): إن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير الإمام المعتضد كان يخاف من هجوه و فلتات لسانه بالفحش فدس عليه ابن فراش فأطعمه خشكنامجه مسمومة وهو في مجلسه فلما أكلها أحس بالسم فقام فقال له الوزير: إلى أين تذهب؟! فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه. فقال له: سلم على والدي. فقال له: ما طريقي على النار.

          وقال الشريف المرتضى في أماليه (ج 2 ص 101): إنه قد اتصل بعبيد الله ابن سليمان بن وهب أمر علي بن العباس الرومي وكثرة مجالسته لأبي الحسين القاسم فقال لأبي الحسين: قد أحببت أن أرى ابن روميك هذا فدخل يوما عبيد الله إلى أبي الحسين وابن الرومي عنده فاستنشده من شعره فأنشده وخاطبه فرآه مضطرب العقل جاهلا فقال لأبي الحسين بينه وبينه: إن لسان هذا أطول من عقله، ومن هذه صورته لا تؤمن عقار به عند أول عتب ولا يفكر في عاقبته، فأخرجه عنك. فقال: أخاف حينئذ أن يعلن ما يكتمه في دولتنا ويذيعه في تمكننا. فقال: يا بني؟ إني لم أرد بإخراجك له طرده فاستعمل فيه بيت أبي حية النميري:


          --------------------------------------------------------------------------------
          الصفحة 28
          --------------------------------------------------------------------------------



          فقلن لها سرا: فديناك لا يرح * سليما، وإلا تقتليه فألممي

          فحدث القاسم بن فراس بما جرى وكان أعدى الناس لابن الرومي وقد هجاه بأهاج قبيحة فقال له: الوزير أعزه الله أشار بأن يغتال حتى يستراح منه وأنا أكفيك ذلك. فسمه في الخشكنانج فمات. قال الباقطاني: والناس يقولون: ما قتله ابن فراس وإنما قتله عبيد الله.

          ثم ضعف الرواية الأولى بأن عبيد الله بن سليمان مات سنة 288 بعد وفات ابن الرومي فلا معنى لقول القاسم له: سلم على والدي. ووالده بقيد الحياة.

          واستشكل في الرواية الثانية بأن عبيد الله كانت له سوابق معرفة مع ابن الرومي فلا يتم ما فيها من طلبه رؤيته.

          وأنت ترى أن التضعيف الثاني ليس في محله إذ الرؤية المطلوبة لعبيد الله كما يظهر من نفس الرواية رؤية اختبار لا مجرد رؤية حتى تنافي التعارف والاجتماع قبلها، فيحتمل عندئذ أن عبيد الله هو القائل: سلم على والدي. لا ابنه، والله العالم.

          تعليق


          • #6
            جاءه
            لولا صروف الاختيار لاعنقوا * لهوى كما اتثقت جمال قطار

            وقوله:


            أنى تكون كذا وأنت مخير * متصرف في النقض والإمرار؟!

            وقوله:


            الخير مصنوع بصانعه * فمتى صنعت الخير أعقبكا
            والشر مفعول بفاعله * فمتى فعلت الشر أعطبكا

            إلا أنه كان يقول بالقدر في تقسيم الأرزاق وأن:


            الرزق آت بلا مطالبة * سيان مدفوعة ومجتذبه

            ويقول:


            أما رأيت الفجاج واسعة * والله حيا والرزق مضمونا؟!؟!؟!


            * (قال الأميني) *:

            هذا في الرزق الذي يطلبك لا في الرزق الذي تطلبه كما فصله الحديث، ولا تناقض عند القدرية في هذا، لأنهم يقولون بالاختيار فيما يعاقب عليه الانسان ويثاب لا فيما يناله من الرزق وحظوظ الحياة أما القول بالطبيعتين فأوضح ما يكون في قوله:


            فينا وفيك طبيعة أرضية * تهوي بنا أبدا لشر قرار
            هبطت بآدم قبلنا وبزوجه * من جنة الفردوس أفضل دار
            فتعوضا الدنيا الدنية كاسمها * من تلكم الجنات والأنهار
            بئست لعمر الله تلك طبيعة * حرمت أبانا قرب أكرم جار
            واستأسرت ضعفى بنيه بعده * فهم لها أسرى بغير إسار
            لكنها مأسورة مقصورة * مقهورة السلطان في الأحرار
            فجسومهم من أجلها تهوي بهم * ونفوسهم تسمو سمو النار
            لولا منازعة الجسوم نفوسهم * نفزوا بسورتها من الأقطار
            أو قصروا فتناولوا بأكفهم * قمر السماء وكل نجم سار


            * (قال الأميني) *

            لقد عزى الكاتب هاهنا إلى المترجم هنات لا مقيل لها في مستوى الحقيقة، ومنشأ ذلك بعده عن علم الأخلاق وعدمه تعقله معنى الشعر، فحبسه
            --------------------------------------------------------------------------------
            الصفحة 16
            --------------------------------------------------------------------------------

            منافيا للتوحيد الذي جاء به نبي الاسلام، لكن العارف بأساليب الكلام، العالم بما جبل به الانسان من الغرايز المختلفة لا يكاد يشك في صحة معنى الشعر، وهو يعرب عن إلمام ابن الرومي بالأخلاق، والمتكفل لتفصيل هذه الجملة كتب الأخلاق وما يضاهيها، ولخروج البحث عن موضوع الكتاب ضربنا عنه صفحا.

            قال: وابن الرومي كان مفطورا على التدين لأنه كان مفطورا على التهيب والاعتماد على نصير، وهما منفذان خفيان من منافذ الإيمان والتصديق بالعناية الكبرى في هذا الوجود، ومن ثم كان مؤمنا بالله خوفا من الشك، مقبلا على التسليم بسيطا في تسليمه بساطة من يهرب من القلق ويؤثر السكينة على أي شئ، وبلغ من بساطته أنه كان ينكر على الحكماء الذين يشكون في حفظ أجساد الأتقياء بعد الموت و يحسبونه من فعل الدواء والحنوط، فقال لابن أبي ناظرة حين تذوق بعض الأجساد ليعلم ما فيها من عوامل البقاء:


            يا ذائق الموتى ليعلم هل بقوا * بعد التقادم منهم بدواء
            بينت عن رعة وصدق أمانة * لولا اتهامك خالق الأشياء
            أحسبت أن الله ليس بقادر * أن يجعل الأموات كالاحياء؟!
            وظننت ما شاهدت من آياته * بلطيفة من حيلة الحكماء؟!

            ومات وهو يقول في ساعاته الأخيرة:


            ألا أن لقاء الله هول دونه الهول

            وما كانت الطير عنده إلا شعبة من ذلك التهيب الديني الغريزي، فهو يتفلسف ويرى الآراء في الدين ولكن في حدود من الشعور لا في حدود من التفكير، ولهذا كان الفنان ولم يكن الفيلسوف.


            * (قال الأميني) *:

            الطيرة ليست من شعب الدين، ولا يركن إليها أي خاضع له وملأ مسامعه قول الصادع به صلى الله عليه وآله وسلم: لا طيرة ولا حام. وإنما هي بين ضعف النفس غير المتقوية بنور اليقين والتوكل على الله في ورد وصدر، ولذا كانت شايعة في الجاهلية ونفاها الاسلام.

            قال: وليس من الاجتراء أنه قال بالاختيار ورأى له في الدين رأيا غير ما اصطلح
            --------------------------------------------------------------------------------
            الصفحة 17
            --------------------------------------------------------------------------------

            عليه السواد فإنه كان يحيل الذنب على الانسان وينفي الظلم عن القدر في العقاب و الثواب، ويتصور الله على أحسن ما يتصور المتفلسف مثله إلهه؟؟، فكأنما جاءه هذا الرأي من محاباة عالم الغيب لا من الاجتراء عليه، وإنما دفع به إلى رأي المعتزلة مخاوف الشكوك التي كانت تخامره، فلا يستريح حتى يسكن فيها إلى قرار، وينتهي فيها إلى بر الأمان، ولذلك كان يأوي إلى الأصدقاء يكاشفهم بما في صدره ويستعين بهم على تفريج غمته.


            ويدمج أسباب المودة بيننا * مودتنا الأبرار من آل هاشم
            وإخلاصنا التوحيد لله وحده * وتذييبنا؟؟ عن دينه في المقاوم
            بمعرفة لا يقرع الشك بابها * ولا طعن ذي طعن عليها بهاجم
            وأعمالنا التفكير في كل شبهة * بها حجة تعيي دهاة التراجم
            يبيت كلانا في رضى الله ماحضا * لحجته صدرا كثير الهماهم

            بيد أن الإيمان شئ وأداء الفرايض الدينية شئ آخر، فقصارى الإيمان عنده أنه يؤمنه بقرب آل البيت وتنزيه ربه والاطمينان إلى عدله ورحمته، ثم يدع له سبيله يلعب ويمرح كلما لذ له اللعب والمرح، ولا أهلا بالصيام إذا قطع عليه ما اشتهى من لذة وأرب.


            فلا أهلا بمانع كل خير * وأهلا بالطعام وبالشراب

            بل لا حرج عليه إذا قضى ليلة في السرور أن يشبهها بليلة المعراج.


            رفعتنا السعود فيها إلى الفوز * فكانت كليلة المعراج

            ذلك أنه كان في تقواه طوع الاحساس الحاضر، كما كان في كل حالة من حالاته يلعب، فلا يبالي أن يتماجن حيث لا يليق مجون، ويستحضر التقوى والخشوع فلا يباريه أحد من المتعبدين، ويخيل إليك أنك تستمع إلى متعبد عاش عمره في الصوامع حين تستمع إليه يقول:


            تتجافى جنوبهم * عن وطئ المضاجع
            كلهم بين خائف * مستجير وطامع
            تركوا لذة الكرى * للعيون الهواجع
            ورعوا أنجم الدجى * طالعا بعد طالع


            --------------------------------------------------------------------------------
            الصفحة 18
            --------------------------------------------------------------------------------



            لو تراهم إذا هم * خطروا بالأصابع
            وإذا هم تأوهوا * عند مر القوارع
            وإذا باشروا الثرى * بالخدود الضوارع
            واستهلت عيونهم * فائضات المدامع
            ودعوا: يا مليكنا * يا جميل الصنائع
            اعف عنا ذنوبنا * للوجوه الخواشع
            اعف عنا ذنوبنا * للعيون الدوامع
            أنت إن لم يكن لنا * شافع خير شافع
            فأجيبوا إجابة * لم تقع في المسامع
            : ليس ما تصنعونه * أوليائي بضائع
            أبذلوا لي نفوسكم * إنها في ودائعي

            وله من طراز هذا الشعر الخاشع كثير لا تسمعه من ابن الفارض ولا محيي الدين

            * (قال الأميني) *

            ليس ما ارتئاه ابن الرومي في باب الاختيار نتيجة مخامرة الشبه والشكوك كما يراه (المترجم) وإنما هي وليدة البرهنة الصادقة، وإنه لم يعط القدر حقه محاباة له، لكن الحجج الدامغة ألجأته إلى ذلك، وكذلك ما يقوله في باب الأرزاق فهي تقادير محضة غير أن الانسان كلف بتحري الأسباب الظاهرية جريا على النواميس الإلهية؟؟ المطردة في النظام العالمي الأتم، وهذه مسائل كلامية لا يروقنا الخوض فيها إلا هنالك.

            وأما اعتماد ابن الرومي على العدل والرحمة وتنزيه ربه فهو شأن كل مؤمن بالله عارف بكمال قدسه وصفاته الجلالية، وليس قرب أهل البيت الطاهر عليهم السلام إلا نتيجة مودتهم التي هي أجر الرسالة بنص من الذكر الحكيم، وإنما مثلهم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق، وهم عدل الكتاب وقد خلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله بعده وقال: ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، فأحر بهم أن يكون القرب منهم مؤمنا للانسان نشأته الأخرى، وأما ما عزاه إليه من مظاهر من المجون فهي معان شعرية لا يؤاخذ بها القائل، وكم للشعراء الاعفاء أمثالها.


            --------------------------------------------------------------------------------
            الصفحة 19
            --------------------------------------------------------------------------------



            هجاؤه

            أخرج القرن الثالث للهجرة شاعرين هجائين هما أشهر الهجائين في أدب العصور الإسلامية عامة: أحدهما ابن الرومي. والآخر دعبل الخزاعي هاجي الخلفاء و الأمراء وهاجي الناس جميعا؟؟ وقال:


            إني لأفتح عيني حين أفتحها * على كثير ولكن لا أرى أحدا

            وقد جمع المعري بينهما في بيت واحد وضرب بهما المثل لهجاء الدهر لبنيه فقال:


            لو أنصف الدهر هجا أهله * كأنه الرومي أو دعبل

            وليس للمؤرخ الحديث أن يضيف إسما جديدا إلى هذين الاسمين فإن العصور التالية للقرن الثالث لم تخرج من يضارعهما في قوة الهجاء والنفاذ في هذه الصناعة، و كلاهما مع هذا نوع فذ في الهجاء يظهر متى قرن بالآخر.

            فدعبل كما قلنا في غير هذا الكتاب (لا يهمنا ما ذكره في دعبل).

            أما ابن الرومي فلم يكن مطبوعا على النفرة من الناس، ولم يكن قاطع طريق على المجتمع في عالم الأدب، ولكنه كان فنانا بارعا أوتي ملكة التصوير ولطف التخيل والتوليد وبراعة اللعب بالمعاني والأشكال، فإذا قصد شخصا أو شيئا بهجاء صوب إليه (مصورته) الواعية فإذا ذلك الشئ صورة مهيأة في الشعر تهجو نفسها بنفسها، وتعرض للنظر مواطن النقص من صفحتها كما تنطبع؟؟ الأشكال في المرايا المعقوفة والمحدبة، فكل هجوه تصوير مستحضر لأشكاله، أو لعب بالمعاني على حساب من يستثيره.

            وابن الرومي يسلب مهجوه الفطنة والكياسة والعلم ويلصق به كل عيوب الحضارة التي يجمعها التبذل والتهالك على اللذات، فإذا حذفت من هجوه كل ما أوجبته الحضارة والخلاعة الفاشية في تلك الحضارة فقد حذفت منه شر ما فيه ولم يبق منه إلا ما هو من قبيل الفكاهة والتصوير.

            وكان لصاحبنا فنا واحدا من الهجاء لا ترتاب في أنه كان يختاره ويكثر منه ولو لم تحمله الحاجة وتلجأه النقمة إليه، ونعني به فن التصوير الهزلي والعبث بالإشكال المضحكة والمناظرة الفكاهية والمشابهات الدقيقة، فهو مطبوع على هذا كما يطبع المصور على نقل ما يراه وإعطاء التصوير حقه من الاتقان والاختراع، و
            --------------------------------------------------------------------------------
            الصفحة 20
            --------------------------------------------------------------------------------

            ما نراه كان يقع عنه في شعره ولو بطلت ضروراته وحسنت مع الناس علاقاته، لكن هذا الفن أدخل في التصوير منه في الهجاء، وهو حسنة وليس بسيئة، وقدرة تطلب وليس بخلة تنبذ، وأنت لا يغضبك أن ترى ابنك الذي تهذبه وتهديه ماهرا فيه خبيرا بمغامزه وخوافيه، وإن كان يغضبك أن تراه يشتم المشتوم ويهين المهين، ويهجو من يستهدف غرضه للهجاء، لأنك إذا منعته أن يفطن إلى الصور الهزلية وأن يفتن في إدراك معانيها وتمثيل مشابهاتها ومنعت ملكة فيه أن تنمو وأبيت على حاسته الصادقة فيه أن تصدقه وتفقه ما تقع عليه، أما إذا منعت الهجاء وبواعثه فإنك تمنع خلقا يستغنى عنه، وميلا لا بد له من التقويم.

            ذلك هو فن ابن الرومي الذي لا عذر له منه ولا موجب للاعتذار، فأما ما عدا ذلك من هجاؤه فهو مسوق فيه لا سائق، ومدافع لا مهاجم، ومستثار عن عمد في بعض الأحيان لا مستثير، وإنك لتقرأ له قوله:


            ما استب قط اثنان إلا غلبا * شرهما نفسا وأما وأبا

            فلا تصدق أن قائله هو ابن الرومي هجاء اللغة العربية وقاذف المهجوين بكل نقيصة لكن الواقع هو هذا، والواقع كذلك أنه كان يسكن إلى رشده أحيانا فيتسأم الهجاء ويعافه ويود الخلاص منه حتى لو كان مهجوا معدوا عليه ويعتزم التوبة عن الهجاء مقسما:


            آليت لا أهجو طوال * الدهر إلا من هجاني
            لا بل سأطرح الهجاء * وإن رماني من رماني
            أمن الخلايق كلهم * فليأخذوا مني أماني
            حلمي أعز علي من * غضبي إذا غضبي عراني
            أولى بجهلي بعد ما * مكنت حلمي من عناني

            وهذا أشبه بابن الرومي لأنه في صميمه خلق مسالما سهلا، ولم يخلق شريرا مطويا على الشكس والعداوة، بل هو لو كان شريرا لما اضطر إلى كل هذا الهجاء، أو هو لو كان أكبر شرا لكان أقل هجاء، لأنه كان يأمن من جانب العدوان فلا يقابله بمثله، وما كان الهجاء عنده كما قلنا إلا سلاح دفاع لا سلاح هجوم، وما كان هجاؤه يشف عن
            --------------------------------------------------------------------------------
            الصفحة 21
            --------------------------------------------------------------------------------

            الكيد والنكاية وما شابههما من ضروب الشر المستقر في الغريزة، كما كان يشف عن الحرج والتبرم والشعور بالظلم الذي لا طاقة له باحتماله ولا باتقائه، وكثير من الأشرار الذين يقتلون ويعتدون ويفسدون في الأرض يقضون الحياة دون أن تسمع منهم كلمة ذم في إنسان، وكثير من الناس يذمون ويتسخطون لأنهم على ذلك مطبوعون.

            ومن قرأ مراثي ابن الرومي في أولاده وأمه وأخيه وزوجته وخالته وبعض أصدقائه علم منها أنها مراثي رجل مفطور على الحنان ورعاية الرحم والأنس بالأصدقاء و الأخوان، فمراثيه هي التي تدل عليه الدلالة المنصفة وليست مدائحه التي كان يميلها الطمع والرغبة أو أهاجيه التي كان يميلها الغيظ وقلة الصبر على خلائق الناس، ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة الرجل لا تشوبها المطامع والضرورات، ونرى فيه الولد البار، والأخ الشفيق، والوالد الرحيم، والزوج الودود، والقريب الرؤف، والصديق المحزون، ولا يكون الرجل كذلك ثم يكون مع ذلك شريرا مغلق الفؤاد مطبوعا على الكيد والإيذاء وإذا اختلف القولان بينه وبين أبناء عصره فأحجى بنا أن نصدق كلامه هو في أبناء عصره قبل أن نصدق كلامهم فيه، لأنهم كانوا يستبيحون إيذاءه ويستسهلون الكذب عليه لغرابة أطواره، وتعود الناس أن يصدقوا كل ما يرمى به غريب الأطوار من التهم والأعاجيب، في حين أنه كان يتحاشى عن تلك التهم، ويغفر الاساءة بعد الاساءة مخافة من كثرة الشكاية و علما منه بقلة الانصاف.


            أتاني مقال من أخ فاغتفرته * وإن كان فيما دونه وجه معتب
            وذكرت نفسي منه عند امتعاضها * محاسن تعفو الذنب عن كل مذنب
            ومثلي رأى الحسنى بعين جلية * وأغضى عن العوراء غير مؤنب
            فيا هاربا من سخطنا متنصلا * هربت إلى أنجى مفر ومهرب
            فعذرك مبسوط لدينا مقدم * وودك مقبول بأهل ومرحب
            ولو بلغتني عنك أذني أقمتها * لدي مقام الكاشح المتكذب
            ولست بتقليب اللسان مصارما * خليلي إذا ما القلب لم يتقلب

            فالرجل لم يكن شريرا ولا ردئ النفس ولا سريعا إلى النقمة، فلماذا إذن كثر هجاؤه واشتد وقوعه في أعراض مهجويه؟! نظن أنه كان كذلك لأنه كان قليل الحيلة
            --------------------------------------------------------------------------------
            الصفحة 22
            --------------------------------------------------------------------------------

            طيب السريرة خاليا من الكيد والمراوغة والدسيسة وما شابه هذه الخلائق من أدوات العيش في مثل عصره، فكان مستغرقا في فنه يحسب أن الشعر والعلم والثقافة وحدها كفيلة بنجاحه وارتقائه إلى مراتب الوزارة والرئاسة، لأنه كان في زمن يتولى فيه الوزارة الكتاب والرواة ويجمعون في مناصبهم ألوف الألوف ويحظون بالزلفى عند الأمراء والخلفاء، وقد كان هو شاعرا كاتبا، وكان خطيبا واسع الرواية مشاركا في المنطق والفلك واللغة، وكل ما تدور عليه ثقافة زمان، أو كما قال المسعودي: كان الشعر أقل أدواته.. وكان الشعر وحده كافيا لجمع المال وبلوغ الآمال، فماذا بعد أن يعرف الناس إنه شاعر وإنه كاتب وإنه راوية مطلع على الفلسفة والنجوم؟! إلا أن تجيه الوزارة ساعية إليه تخطب وده، كما جاءت إلى أناس كثيرين لا يعلمون علمه، ولا يبلغون في البلاغة مكانه، ألم يصل ابن الزيات إلى الوزارة بكلمة واحدة فسرها للمعتصم وفصل له تفسيرها وهي كلمة (الكلاء) التي يعرفها عامة الأدباء؟! بلى، وابن الرومي كان يعرف من غرايب اللغة ما لم يكن يعرفه شعراء عصره ولا أدباؤه، فما أولاه إذن بالوزارة؟ وما أظلم الدنيا؟ إذ هي ضنت عليه بحقه من المناصب والثراء.

            فإذا لم تكن الوزارة فهل أقل من الكتابة أو العمالة لبعض الوزراء والكتاب المبرزين؟! فإذا لم يكن هذا ولا ذاك فهل غبن أصعب على النفس من هذا الغبن؟!

            وهل تقصير من الزمان ألام من هذا التقصير؟!

            ونبوءة أبيه ورجاؤه في مستقبله وقوله: (أنت للشرف) أيذهب هذا كله هباء لا يقبض منه اليدين على شئ؟! تلك النبوءات التي تنطبع على أفئدة الصغار بمثل النار، ولا تزال غرارة الطفولة وأحلام الصبا تزخرفها وتوشيها وتعمق في الضمير أغوارها، أيأتي الشباب وهي محو لغو مطموس لا يبين أولا يبين منه إلا ما ينقلب إلى الأضداد وتترجمه الأيام بالسقم والفقر والكساد؟! وكيف يمحى؟! إلا وقد محى القلب الذي طبعت فيه، وكيف ينعكس معناه؟! إلا وقد انعكس في القلب كل قائم والتوى فيه كل قويم، ذلك صعب على النفوس وليس بالسهل إلا على من يلهو به وهو بعيد.

            وهكذا كان ابن الرومي يسأل نفسه مرة بعد مرة ويوما بعد يوم:


            مالي أسل من القراب وأغمد؟! * لم لا أجرد؟! والسيوف تجرد


            --------------------------------------------------------------------------------
            الصفحة 23
            --------------------------------------------------------------------------------



            لم لا أجرب في الضرائب مرة * يا للرجال وأنني لمهند؟!

            ولا يدري كيف يجيب نفسه على سؤاله، لأنه لم يكن يدري أن فضائله كلها لا تساوي فتيلا بغير الحيلة والعلم بأساليب الدخول بين الناس، وإن الحيلة وحدها قد تغني عن فضائله جميعا ولو كان صاحبها لا ينظم شعرا، ولا ينظر في كتب الفلسفة و الرواية والنجوم.

            حسن إذن تدع الوزارة والولاية والعمالة بعد يأس مضيض يسهل علينا هنا أن نسطره في كلمة عابرة ولكنه لا يسهل على من يعالجه ويشفي بمحنته في ساعة من ساعات حياته، ندع الوزارة والولاية والعمالة ونقنع بالمثوبة من الوزراء والولاة والعمال إن كانوا يثيبون المادحين، فهل تراهم يفعلون؟!.

            لا. لأن الحيلة لازمة في استدرار الجوائز والمثوبات لزومها في كل غرض من أغراض المعاش ولا سيما في ذلك الزمان الذي شاعت فيه الفتن والسعايات، وما كانت تنقضي منه سنة واحدة بغير مكيدة خبيئة تؤدي بحياة خليفة أو أمير أو وزير، وربما كانت مصانعة الحجاب والتماس مواقع الهوى من نفوس الحاشية والندمان و اللعب بمغامز النفوس الخفية وإضحاك هؤلاء، وهؤلاء، أجدى على الشاعر في هذا الباب من بلاغة شعره وغزارة علمه.

            وبسط الكلام في الموضوع إلى ص 235 فقال:


            هو وشعراء عصره

            عاصر ابن الرومي في بيئته كثير من الشعراء أشهرهم في عالم الشعر الحسين بن الضحاك، ودعبل الخزاعي، والبحتري، وعلي بن الجهم، وابن المعتز، وأبو عثمان الناجم.

            وليس لهؤلاء ولا لغيرهم ممن عاصروه وعرفوه أو لم يعرفوه أثر يذكر في تكوينه غير اثنين فيما نظن هما: الحسين بن الضحاك، ودعبل الخزاعي

            * (قال الأميني) *

            وكان بين ابن الرومي والشاعر المفلق ابن الحاجب محمد بن أحمد صلة ومودة وجرت بينهما نوادر منها: أن ابن الحاجب سأله ابن الرومي زيارته في يوم معلوم فصاروا إليه فلم يجدوه فقال ابن الرومي فيه شعرا أوله:


            --------------------------------------------------------------------------------
            الصفحة 24
            --------------------------------------------------------------------------------



            نجاك يا بن الحاجب الحاجب * وليس ينجو مني الهارب

            وأجابه ابن الحاجب بأبيات توجد في معجم المرزباني 453.

            قال: فكان ابن الرومي معجبا بالحسين بن الضحاك يروي شعره ويستملح أخباره ويذكرها لأصحابه، وكان ابن الرومي يافعا يحضر مجالس الأدب ويتلقى دروسه و الحسين في أوج شهرته يتناشد أشعاره أدباء الكوفة وبغداد ومدن العراق (ثم ذكر بعض ما رواه ابن الرومي من شعر ابن الضحاك نقلا عن الأغاني) فقال:

            وقد مات الحسين بن الضحاك وابن الرومي في التاسعة والعشرين ولم نر في تاريخه ولا في تاريخ الحسين ما يشير إلى تلاقيهما في بغداد حيث عاش ابن الرومي معظم حياته، أو في غير بغداد حيث كان يرحل ابن الضحاك.

            أما دعبل فابن الرومي عارضه في موضعين أحدهما القصيدة الطائية التي نظمها دعبل حين اتهم خالدا بسرقة ديكه وإطعامه لضيوفه وقال في مطلعها:


            أسر المؤذن خالد وضيوفه * أسر الكمي هفا خلال الماقط (1)

            ولآخر في قصيدة لدعبل مطلعها:


            أتيت ابن عمرو فصادفته * مريض الخلايق ملتائها

            وكان دعبل فيما عدا ذلك متشيعا لآل علي غاليا في تشيعه (2) فجذب ذلك كله نفس ابن الرومي الفتى نحوه وحبب إليه محاكاته ومجاراته، وربما كانت الرغبة في مجاراته إحدى دواعيه إلى الهجاء، ومات دعبل وابن الرومي في الخامسة والعشرين ولا نعلم أنهما تعارفا أو كان بينهما لقاء.

            وأما البحتري وأبو عثمان الناجم فالثابت أن ابن الرومي كان على معرفة و صحبة معهما، عرف البحتري في بيت الناجم وكان هذا صديقا له بقي على صداقته إلى يوم موته.


            * (قال الأميني) *

            لابن الرومي قصيدة في البحتري وأدبه وشعره توجد منها أبيات في ثمار القلوب للثعالبي ص 200 و 342.


            ____________

            (1) راجع من كتابنا ج 2 ص 379 ط ثاني.

            (2) عزو باطل لا يشوه به قدس تشيع مثل دعبل.
            --------------------------------------------------------------------------------
            الصفحة 25
            --------------------------------------------------------------------------------

            وأما علي بن الجهم المتوفى 249 فقد كان بينه وبين ابن الرومي برزخ واسع من اختلاف المذهب في الدين والشعر، فابن الرومي متشيع، وابن الجهم ناصب يذم عليا وآله (ولا يلتقي الشيعي والناصب) كما يقول ابن الرومي. وكان ابن الجهم شديد النقمة على المعتزلة وعلى أهل العدل والتوحيد منهم خاصة يهجوهم ويدس لهم ويقول في زعيمهم أحمد بن أبي داود:


            ما هذه البدع التي سميتها * بالجهل منك العدل والتوحيدا

            وابن الرومي كما مربك من هذه الجماعة، فمذهبه في الدين ينفره ابن الجهم ولا يرغبه في مجاراته، ولو تشابها فيما عدا ذلك من المزاح والنزعة، لقد يهون هذا الفارق ويسهل على ابن الرومي الإغضاء عنه، وهو ناشئ يتلمس القدوة، ويخطو في سبيل الشهرة، ولكنك تقره شعر ابن الجهم في فخره ومزاحه فيخيل إليك أنك تقرأ كلام جندي يتنفج أو يعربد لخلوه من كل عاطفة غير عواطف الجند يقضون أوقاتهم بين الفجر و الضجيج واللهو والسكر، وليس بين هذه الطبيعة وطبيعة ابن الرومي مسرب للقدوة أو للمقاربة في الميل والاحساس.

            وأما ابن المعتز فقد ولد في سنة سبع وأربعين ومأتين فلما أيفع وبلغ السن التي يقول فيها الشعر كان ابن الرومي قد جاوز الأربعين أو ضرب في حدود الخمسين، ولما بلغ واشتهر له كلام يروى في مجالس الأدباء كان ابن الرومي قد أوفى على الستين وفرغ من التعلم والاقتباس، ولو انعكس الأمر وكان ابن المعتز هو السابق في الميلاد لما أخذ منه ابن الرومي شيئا، أو لكان أفسده سليقته بالأخذ عنه، لأن ابن المعتز إنما امتاز بين شعراء بغداد في عصره بمزاياه الثلاث وهي: البديع. والتوشيح. والتشبيه بالتحف والنفائس. وابن الرومي لم يرزق نصيبا معدودا من هذه المزايا ولم يكن قط من أصحاب البديع أو أصحاب التشبيهات التي تدور على الزخرف، وتستفيد نفاستها من نفاسة المشبهات.


            تاريخ وفاته

            قال ابن خلكان: توفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى سنة ثلاث و
            --------------------------------------------------------------------------------
            الصفحة 26
            --------------------------------------------------------------------------------

            ثمانين. وقيل: وسبعين ومأتين ودفن في مقبرة باب البستان. والذين جاؤا بعد ابن خلكان تابعوه في هذا الشك ولا مسوغ لهذا الشك بأمور (1) الأول قوله:


            طربت ولم تطرب على حين مطرب * وكيف التصابي بابن ستين أشيب؟!

            فبملاحظة تاريخ ولادته المتسالم عليه بين أرباب المعاجم يوافق ستين مع سنة 281 فهو لم يمت في سنة 276 على التحقيق. ولا يظن أن الستين هنا تقريبية لضرورة الشعر فإنه ذكر الخمس والخمسين في موضع آخر حيث قال.


            كبرت وفي خمس وخمسين مكبر * وشبت فألحاظ المها عنك نفر (2)

            الثاني: ما في مروج الذهب (ج 2 ص 488) للمسعودي من أن قطر الندى بنت خمارويه وصلت إلى مدينة السلام ابن الجصاص في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ففي ذلك يقول ابن الرومي.


            يا سيد العرب الذي زفت له * باليمن والبركات سيدة العجم


            * (قال الأميني) *

            قال الطبري في تاريخه 11 ص 345: كان دخولهم بغداد يوم الأحد لليلتين خلتا من المحرم سنة 282.

            الثالث: مقطوعاته التي نظمها الشاعر في العرس الذي احتفل به الخليفة سنة اثنتين وثمانين.


            * (قال الأميني) *

            ومما ينفي الشك عن عدم وقوع وفاة المترجم سنة 270 قصيدته التي يمدح بها المعتضد بالله أبا العباس أحمد في أيام خلافته وقد بويع له في شهر رجب بعد عمه المعتمد سنة 279 قال فيها:


            هنيئا بني العباس إن إمامكم * إمام الهدى والبأس والجود أحمد
            كما بأبي العباس أنشئ ملككم * كذا بأبي العباس أيضا يجدد

            قال العقاد: وأما التاريخين الآخرين: أي سنة ثلاث وأربع وثمانين فعندنا تاريخ اليوم والشهر من أولاهما وليس عندنا مثل ذلك من الثانية وهذا مما يرجح وفاته في سنة ثلاث وثمانين دون أربع وثمانين.


            ____________

            (1) نحن نذكر ملخصها.

            (2) ذكر الخمس والخمسين في هذا البيت لا ينافي تقريبية الستين في سابقه.
            --------------------------------------------------------------------------------
            الصفحة 27
            --------------------------------------------------------------------------------



            * (قال الأميني) *

            لم نعرف وجه الترجيح يذكر تاريخ اليوم والشهر لمجرده مع قطع النظر عما ذكره بعد من مضاهاة التاريخ بقوله:

            ويقوي هذا الترجيح أن مضاهاة التواريخ تثبت لنا أن جمادي الأخرى من سنة ثلاث وثمانين بدأت يوم جمعة فيكون يوم الأربعاء قد جاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى في تلك السنة كما جاء في تاريخ الوفاة، وقد ضاهينا هذا اليوم على التاريخ الأفرنجي فوجدناه يوافق الرابع عشر من شهر يونيو، أي يوافق أبان الصيف في العراق، وابن الرومي مات في الصيف كما يؤخذ من قول الناجم أنه دخل عليه في مرضه الذي مات فيه وبين يديه ماء مثلوج فيجوز لنا على هذا أن نجزم بأن أصح التواريخ الأول و هو: يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى سنة ثلاث وثمانين.


            شهادته

            الأقوال بعد ذلك مجمعة على موت ابن الرومي بالسم وأن الذي سمه هو القاسم بن عبيد الله أو أبوه قال ابن خلكان في وفيات الأعيان (ج 1 ص 386): إن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير الإمام المعتضد كان يخاف من هجوه و فلتات لسانه بالفحش فدس عليه ابن فراش فأطعمه خشكنامجه مسمومة وهو في مجلسه فلما أكلها أحس بالسم فقام فقال له الوزير: إلى أين تذهب؟! فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه. فقال له: سلم على والدي. فقال له: ما طريقي على النار.

            وقال الشريف المرتضى في أماليه (ج 2 ص 101): إنه قد اتصل بعبيد الله ابن سليمان بن وهب أمر علي بن العباس الرومي وكثرة مجالسته لأبي الحسين القاسم فقال لأبي الحسين: قد أحببت أن أرى ابن روميك هذا فدخل يوما عبيد الله إلى أبي الحسين وابن الرومي عنده فاستنشده من شعره فأنشده وخاطبه فرآه مضطرب العقل جاهلا فقال لأبي الحسين بينه وبينه: إن لسان هذا أطول من عقله، ومن هذه صورته لا تؤمن عقار به عند أول عتب ولا يفكر في عاقبته، فأخرجه عنك. فقال: أخاف حينئذ أن يعلن ما يكتمه في دولتنا ويذيعه في تمكننا. فقال: يا بني؟ إني لم أرد بإخراجك له طرده فاستعمل فيه بيت أبي حية النميري:


            --------------------------------------------------------------------------------
            الصفحة 28
            --------------------------------------------------------------------------------



            فقلن لها سرا: فديناك لا يرح * سليما، وإلا تقتليه فألممي

            فحدث القاسم بن فراس بما جرى وكان أعدى الناس لابن الرومي وقد هجاه بأهاج قبيحة فقال له: الوزير أعزه الله أشار بأن يغتال حتى يستراح منه وأنا أكفيك ذلك. فسمه في الخشكنانج فمات. قال الباقطاني: والناس يقولون: ما قتله ابن فراس وإنما قتله عبيد الله.

            ثم ضعف الرواية الأولى بأن عبيد الله بن سليمان مات سنة 288 بعد وفات ابن الرومي فلا معنى لقول القاسم له: سلم على والدي. ووالده بقيد الحياة.

            واستشكل في الرواية الثانية بأن عبيد الله كانت له سوابق معرفة مع ابن الرومي فلا يتم ما فيها من طلبه رؤيته.

            وأنت ترى أن التضعيف الثاني ليس في محله إذ الرؤية المطلوبة لعبيد الله كما يظهر من نفس الرواية رؤية اختبار لا مجرد رؤية حتى تنافي التعارف والاجتماع قبلها، فيحتمل عندئذ أن عبيد الله هو القائل: سلم على والدي. لا ابنه، والله العالم.

            تعليق


            • #7
              ابن الحجاج البغدادي


              المتوفى 391




              يا صاحب القبة البيضاء في النجف * من زار قبرك واستشفى لديك شفي
              زوروا أبا الحسن الهادي لعلكم * تحظون بالأجر والاقبال والزلف
              زوروا لمن تسمع النجوى لديه فمن * يزره بالقبر ملهوفا لديه كفي
              إذا وصلت فأحرم قبل تدخله * ملبيا واسع سعيا حوله وطف
              5 حتى إذا طفت سبعا حول قبته * تأمل الباب تلقا وجهه فقف
              وقل: سلام من الله السلام على * أهل السلام وأهل العلم والشرف
              إني أتيتك يا مولاي من بلدي * مستمسكا من حبال الحق بالطرف
              راج بأنك يا مولاي تشفع لي * وتسقني من رحيق شاني اللهف
              لأنك العروة الوثقى فمن علقت * بها يداه فلن يشقى ولم يخف
              10 وإن أسماءك الحسنى إذا تليت * على مريض شفي من سقمه الدنف
              لأن شأنك شأن غير منتقص * وإن نورك نور غير منكسف
              وإنك الآية الكبرى التي ظهرت * للعارفين بأنواع من الطرف
              هذي ملائكة الرحمن دائمة * يهبطن نحوك بالألطاف والتحف
              كالسطل والجام والمنديل جاء به * جبريل لا أحد فيه بمختلف
              15 كان النبي إذا استكفاك معضلة * من الأمور وقد أعيت لديه كفي
              وقصة الطائر المشوي عن أنس * تخبر بما نصه المختار من شرف
              والحب والقضب والزيتون حين أتوا * تكرما من إله العرش ذي اللطف
              والخيل راكعة في النقع ساجدة * والمشرفيات قد ضجت على الحجف (1)


              ____________

              (1) الحجف محركة: التروس من جلود بلا خشب ولا عقب. والصدور. واحدتها: الحجفة.
              --------------------------------------------------------------------------------
              الصفحة 2
              --------------------------------------------------------------------------------



              بعثت أغصان بان في جموعهم * فأصبحوا كرماد غير منتسف
              لو شئت مسخهم في دورهم مسخوا * أو شئت قلت لهم: يا أرض انخسفي 20
              والموت طوعك والأرواح تملكها * وقد حكمت فلم تظلم ولم تجف
              لا قدس الله قوما قال قائلهم: * بخ بخ لك من فضل ومن شرف
              وبايعوك (بخم) ثم أكدها * (محمد) بمقال منه غير خفي
              عاقوك واطرحوا قول النبي ولم * يمنعهم قوله: هذا أخي خلفي
              هذا وليكم بعدي فمن عقلت * به يداه فلن يخشى ولم يخف 25

              القصيدة تناهز 64 بيتا ولها قصة تأتي في الترجمة إنشاء الله. وله من قصيدة أجاب بها عن قصيدة ابن سكرة (1) المتحامل بها على آل الله وشاعرهم ابن الحجاج المترجم، أخذناها من ديوانه المخطوط سنة 620 بقلم عمر بن إسماعيل بن أحمد الموصلي أولها:


              لا أكذب الله إن الصدق ينجيني * يد الأمير بحمد الله تحييني

              إلى أن قال:


              فما وجدت شفاء تستفيد به * إلا ابتغاءك تهجو آل ياسين
              كافاك ربك إذ أجرتك قدرته * بسب أهل العلا الغر الميامين
              فقر وكفر هميع (2) أنت بينهما * حتى الممات بلا دنيا ولا دين
              فكان قولك في الزهراء فاطمة * قول امرئ لهج بالنصب مفتون 5
              عيرتها بالرحا والزاد تطحنه * لا زال زادك حبا غير مطحون
              وقلت: إن رسول الله زوجها * مسكينة بنت مسكين لمسكين
              كذبت يا بن التي باب إستها سلس * الاغلاق بالليل مفكوك الزرافين (3)
              ست النساء غدا في الحشر يخدمها * أهل الجنان بحور الخرد العين


              ____________

              (1) محمد بن عبد الله بن محمد الهاشمي البغدادي من ولد علي بن المهدي العباسي له ديوان شعر يربو على خمسين ألف بيت توفي سنة 385.

              (2) أي لا تزال باكيا.

              (3) سلست الخشبة: نخرت وبليت. والسلس: اللين السهل. الغلق ما يغلق به الباب ج أغلاق. الزرفين واحدة الزرافين: الحلق الصغيرة للباب.
              --------------------------------------------------------------------------------
              الصفحة 3
              --------------------------------------------------------------------------------



              10 فقلت: إن أمير المؤمنين بغى * على معاوية في يوم صفين
              وإن قتل الحسين السبط قام به * في الله عزم إمام غير موهون
              فلا ابن مرجانة فيه بمحتقب (1) * إثم المسيئ ولا شمر بملعون
              وإن أجر ابن سعد في استباحة * آل النبوة أجر غير ممنون
              هذا وعدت إلى عثمان تندبه * بكل شعر ضعيف اللفظ ملحون
              15 فصرت بالطعن من هذا الطريق إلى * ما ليس يخفى على البله المجانين
              وقلت: أفضل من يوم (الغدير) إذا * صحت روايته يوم الشعانين
              ويوم عيدك عاشوراء تعدله * ما يستعد النصارى للقرابين
              تأتي بيوتكم فيه العجوز وهل * ذكر العجوز سوى وحي الشياطين؟!
              عاندت ربك مغترا بنقمته * وبأس ربك بأس غير مأمون
              فقال: كن أنت قردا في استه ذنب * وأمر ربك بين الكاف والنون
              وقال: كن لي فتى تعلو مراتبه * عند الملوك وفي دور السلاطين
              والله قد مسخ الأدوار قبلك في * زمان موسى وفي أيام هارون
              بدون ذنبك فالحق عندهم بهم * ودع لحاقك بي إن كنت تنويني


              [القصيدة 58 بيتا]

              وله من قصيدة قوله:


              بالمصطفى وبصهره * ووصيه يوم (الغدير)


              * (الشاعر) *

              أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن الحجاج النيلي البغدادي، أحد العمد والأعيان من علماء الطايفة، وعبقري من عباقرة حملة العلم والأدب، و قد عده صاحب [رياض العلماء] من كبراء العلماء كما عده ابن خلكان وأبو الفدا من كبار الشيعة، والحموي في [معجم أدبائه] من كبار شعراء الشيعة، وآخر من فحول الكتاب، فالشعر كان أحد فنونه، كما أن الكتابة إحدى محاسنه الجمة،

              ____________

              احتقب الإثم: جمعه.
              --------------------------------------------------------------------------------
              الصفحة 4
              --------------------------------------------------------------------------------

              وله في العلم قنن راسية، وقدم راسخة، غير أن انتشار أدبه الفائق، ومقاماته البديعة فيه، وتعريف الأدباء إياه بأدبه الباهر، وقريضه الخسرواني، والثناء عليه بأنه ثاني معلميه كما في (نسمة السحر) أخفى صيت علمه الغزير، وغطى ذكره العلمي، ونحن نقوم بواجب الحقين جميعا.

              ينم عن مقامه الرفيع في العلوم الدينية وتضلعه فيها وشهرته في عصره بها توليه الحسبة (1) مرة بعد أخرى في عاصمة العالم في ذلك اليوم [بغداد] وهي من المناصب الرفيعة العلمية التي كانت تخص توليها في العصور المتقادمة بأئمة الدين، وزعماء الاسلام، وكبراء الأمة، وهي كما قال الماوردي في (الأحكام السلطانية) 224: من قواعد الأمور الدينية، وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها. هـ.


              * (الحسبة) *

              هي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بين الناس كافة وممن وليها ببغداد قبل المترجم الفيلسوف الكبير أحمد بن الطيب السرخسي، صاحب التآليف القيمة في فنون متنوعة المقتول سنة 283، وتولاها بعد عزل المترجم عنها فقيه الشافعية وإمامها أبو سعيد الحسن بن أحمد الاصطخري المتوفى سنة 328، على ما يقال كما في تاريخ ابن خلكان، ومرآة الجنان لليافعي وغيرهما، قال الماوردي في [الأحكام السلطانية] ص 209 فمن شروط والي الحسبة، أن يكون حرا، عدلا، ذا رأي وصرامة، وخشونة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة، واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي هل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا؟ على وجهين: أحدهما وهو قول أبي سعيد الاصطخري أن له أن يحمل ذلك على رأيه واجتهاده، فعلى هذا يجب على المحتسب أن يكون عالما من أهل الاجتهاد في أحكام الدين ليجتهد رأيه فيما اختلس فيه. ا هـ

              وقال رشيد الدين الوطواط المتوفى سنة 573: إن أولى الأمور بأن تصرف أعنة العناية إلى ترتيب نظامه، وتقصر الهمم على مهمة إتمامه، أمر يتعلق به ثبات الدين، ويتوقف عليه صلاح المسلمين، وهو أمر الاحتساب، فإن فيه تثبيت الزايغين

              ____________

              (1) كما في تاريخ ابن خلكان تاريخ ابن كثير. مرآة الجنان، رياض العلماء. دائرة المعارف الاسلامي، دائرة المعارف لفريد وجدي، الأعلام للزركلي.
              --------------------------------------------------------------------------------
              الصفحة 5
              --------------------------------------------------------------------------------

              عن الحق، وتأديب المنهمكين في الفسق، وتقوية أعضاد أرباب الشرع وسواعدها، وإجراء معاملات الدين على قوانينها وقواعدها، وينبغي أن يكون متقلد هذا الأمر موصوفا بالديانة، معروفا بالصيانة، معرضا عن مراصد الريب، بعيدا عن مواقف التهم والعيب، لابسا مدارع السداد، سالكا مناهج الرشاد [معجم الأدباء ج 19 ص 31] ففي تولية شاعرنا المترجم الحسبة مرة بعد أخرى غنى وكفاية عن سرد جمل الثناء على علمه وفقهه وإطراء عدله ورأيه، واجتهاده في جنب الله وصرامته، وخشونته في الدين، ورشاده وسداده، وقد تولاها مرتين في بغداد مرة على عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله كما سمعته من ابن خلكان واليافعي، وأخرى أقامه عليها عز الدولة في وزارة ابن بقية الذي استوزره عز الدولة سنة 362 وتوفي سنة 367 و قد كتب المترجم إليه في وزارته قصيدة أولها:


              أيها ذا الوزير إن أنت أنصفت * وإلا فقم مع الجيران

              ويقول فيها

              ليت شعري ألست محتسب * الناس؟! فلم ليس تعرفون مكاني؟!


              * (أما أدبه) *

              وهو كما أوعزنا إليه أحد نوابغ شعراء الشيعة، والمقدم بين كتابها، حتى قيل: إنه كامرئ القيس في الشعر (1) لم يكن بينهما من يضاهيهما، و يقع ديوانه في عشر مجلدات، والغالب عليه العذوبة والانسجام، وتأتي المعاني البديعة في طريقته إلى ألفاظ سهلة، وأسلوب حسن، وسبك مرغوب فيه، وفي (نسمة السحر) إنه يعد المعلم الثاني، والمعلم الأول إما مهلهل بن وائل، أو امرؤ القيس، إخترع منهجا لم يسبق إليه، وتبعه فيه الناس، ومن أتباعه أبو الرقعمق وصريع الدلاء.

              قال الثعالبي: سمعت به من أهل البصيرة في الأدب وحسن المعرفة بالشعر على أنه فرد زمانه في فنه الذى شهر به وإنه لم يسبق إلى طريقته، ولم يلحق شأوه في نمطه ولم ير كاقتداره على ما يريده من المعاني التي تقع في طرزه، مع سلاسة الألفاظ وعذوبتها وانتظامها في الملاحة والبلاغة. ا هـ.

              رتب ديوانه البديع الاسطرلابي هبة الله بن حسن المتوفى سنة 534 على

              ____________

              (1) كما في تاريخ ابن خلكان، ومعجم الأدباء، وشذرات الذهب.
              --------------------------------------------------------------------------------
              الصفحة 6
              --------------------------------------------------------------------------------

              واحد وأربعين ومائة باب، وجعل كل باب في فن من فنون الشعر وسماه: درة التاج في شعر ابن الحجاج (1) وهي محفوظة في باريس رقم 5913 وبها مقدمة لابن الخشاب النحوي.

              وللشريف الرضي انتخاب ما استجوده من شعره سماه [الحسن من شعر الحسين] (2) ورتبه على الحروف، وكان ذلك في حياة المترجم، وله في ذلك شعر يوجد في المجلد الأخير من ديوانه وهو قوله:


              أتعرف شعري إلى من ضوى * فأضحى على ملكه يحتوي؟!
              إلى البدر حسنا إلى سيدي * الشريف أبي الحسن الموسوي
              إلى من أعوذه كلما * تلقيته بالعزيز القوي
              فتى كنت مسخا بشعري السخيف * وقد ردني خلقا سوي
              تأملته وهو طورا يصح * وطورا بصحته يلتوي 5
              فميز معوجه والردي * فيه من الجيد المستوي
              وصحح أوزانه بالعروض * وقرر فيه حروف الروي
              وأرشده لطريق السداد * فأصلح شيطان شعري الغوي
              وبين موقع كف الصناع * في نسج ديباجه الخسروي
              فأقسم بالله والشيخ في * اليمين على الحنث لا ينطوي 10
              لو أن زرادشت أصغى له * لأزرى على المنطق الفهلوي
              وصادف زرع كلامي البليغ * فيه شديد الظما قد ذوي
              فما زال يسقيه ماء الطرا * وماء البشاشة حتى روي
              فلا زال يحيى وقلب الحسود * بالغيظ من سيدي مكتوي
              له كبد فوق حمر الغضا * على النار مطروحة تشتوي 15

              قال الثعالبي. إن ديوان شعره لا تنحط قيمته عن ستين دينارا لتنافسهم في ملحه ووفور رغبتهم فيه وقال: وديوان شعره أسير في الآفاق من الأمثال، وأسرى

              ____________

              (1) راجع معجم الأدباء، تاريخ ابن خلكان، مرآة الجنان، كشف الظنون.

              (2) في دائرة المعارف الإسلامية: إنه أسماه (التنظيف من السخيف).
              --------------------------------------------------------------------------------
              الصفحة 7
              --------------------------------------------------------------------------------

              من الخيال. وذكر في اليتيمة شطرا مهما من فنون شعره في 62 صحيفة في الجزء الثالث.

              والغالب على شعره الهزل والمجون، كأنهما لازما غريزته، ومطبوعا قريحته، وخمرتا طينته، وكان إذا استرسل فيهما فلا يجعجع به حضور ملك أو هيبة أمير، و يأتي بما عنده غير مكترث للسامعين، فلا يستقبل منهم إلا عطفا وقبولا، كما أن جل شعره يعرب عن ولاءه الخالص لأهل البيت والوقيعة في مناوئيهم.


              حلفاء عصره وملوكه

              أدرك ابن الحجاج جمعا من خلفاء بني العباس وهم:

              1 - المعتمد على الله ابن المتوكل المتوفى 279.

              2 - المعتضد بالله أبو العباس المتوفى 289.

              3 - المكتفي بالله المتوفى 295.

              4 - المقتدر بالله المتوفى 320.

              5 - الراضي بالله المتوفى 329.

              6 - المستكفي بالله المتوفى 338.

              7 - القاهر بالله المتوفى 339.

              8 - المتقي لله المتوفى 358.

              9 - المطيع لله المتوفى 364.

              10 - الطايع لله المتوفى 393.

              وعاصر من ملوك آل بويه من الذين ملكوا العراق:

              1 - معز الدولة فاتح العراق المتوفى سنة 356.

              2 - عز الدولة أبا منصور بختيار بن معز الدولة المقتول 367.

              3 - عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة المتوفى 372.

              4 - شرف الدولة ابن عضد الدولة المتوفى 379.

              5 - صمصام الدولة ابن عضد الدولة المقتول 388.

              6 - بهاء الدولة أبا نصر ابن عضد الدولة المتوفى 403.


              --------------------------------------------------------------------------------
              الصفحة 8
              --------------------------------------------------------------------------------

              وكان كما قال الثعالبي على طول عمره يتحكم على وزراء الوقت، ورؤساء العصر، تحكم الصبي على أهله، ويعيش في أكنافهم عيشة راضية، ويستثمر نعمة صافية ضافية. ويوجد في ديوانه شعر كثير مدحا ورثاء وهجاء في رجالات عصره من الخلفاء والوزراء والأمراء والكتاب والمثقفين تربو عدتهم فيما قرأناه من مجلدات ديوانه على ستين منهم:

              أبو عبد الله هارون بن المنجم المتوفى 288
              أبو الفضل عباس بن الحسن المتوفى 296 الوزير أبو محمد المهلبي المتوفى 352
              أبو الطيب المتنبي الشاعر المتوفى 354 الوزير أبو الفضل بن العميد 360
              المطيع لله الخليفة العباسي المتوفى 364 أبو الفتح ابن العميد المتوفى 366
              الوزير أبو ريان خليفة عضد الدولة ببغداد الوزير أبو طاهر ابن بقية المتوفى 367
              عز الدولة بختيار ابن بويه المتوفى 367 عمران بن شاهين المتوفى 369
              الأمير أبو تغلب غضنفر المتوفى 369 عضد الدولة فنا خسرو المتوفى 372
              أبو الفتح ابن شاهين المتوفى 372 أبو الفرج بن عمران بن شاهين المتوفى 373
              أبو المعالي ابن محمد بن عمران المتوفى 373 شرف الدولة ابن بويه المتوفى 379
              أبو إسحاق إبراهيم الصابي المتوفى 384 القاضي أبو علي التنوخي المتوفى 384
              الوزير الصاحب بن عباد المتوفى 385 ابن سكرة العباسي الشاعر المتوفى 385
              أبو علي محمد بن الحسن الحالتي المتوفى 388 أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف المتوفى 388
              الوزير أبو نصر سابور بن أردشير المتوفى 416 الوزير أبو منصور محمد المرزبان المتوفى 416
              أبو أحمد ابن حفص عارض المترجم في أمور الحسبة.


              الوزير أبو الفرج محمد بن العباس بن فسا بخس قال الثعالبي في (اليتيمة) 3 ص 70:

              كان الوزير أبو الفرج والوزير أبو الفضل [ابن العميد] قد خلوا في الديوان لعقوبة أصحاب المهلبي [الوزير أبي محمد الحسن] عقب موته، وأمرا أن تلوث ثياب الناس بالنفط إن قربوا من الباب وقد كان المهلبي فعل مثل هذا فحضر ابن الحجاج فعجب وخاف النفط فانصرف فقال:


              الصفع بالنفط في الثياب * ما لم يكن قط في حسابي


              --------------------------------------------------------------------------------
              الصفحة 9
              --------------------------------------------------------------------------------



              ليس يقوم الوصول عندي * مقام خيطين من ثيابي
              يا رب من كان سن هذا * فزده ضعفا من العذاب
              في قعر حمراء ليس فيها * غير بني البظر والقحاب
              تفعل في لحمه المهري (1) * ما يفعل الجمر بالكباب
              فالقرد عندي يجل عمن * يسن هذا على الكلاب

              أكثر (المترجم) من مدايح أهل البيت عليهم السلام والنيل من مناوئيهم نظراء مروان بن أبي حفصة حتى إنه ربما كان ينتقد على تشديده الوطئ والنكير المحتدم على فضائع القوم [أعداء آل الله] بلهجة حادة، وسباب مقذع، غير أن ذلك كله كان نفثة مصدور، وأنه متوجع من الظلم الواقع على ساداته أئمة أهل البيت عليهم السلام، لا ولعا منه في البذاء أو وقيعة في الأعراض لمحض الشهوة ومتابعة الهوى، ولذلك وقع شعره مقبولا عند مواليه صلوات الله عليهم، وكونوا إذا مروا باللغو منه مروا كراما.

              حدث (2) سيدنا الأجل زين الدين علي بن عبد الحميد النيلي النجفي (3) في كتابه [الدر النضيد في تغازي الإمام الشهيد] إنه كان في زمان ابن الحجاج رجلان صالحان يزدريان بشعره كثيرا وهما: محمد بن قارون السيبي، وعلي بن زرزور السورائي، فرأى الأول منهما ليلة في الواقعة كأنه أتى إلى روضة الحسين عليه السلام و كانت فاطمة الزهراء سلام الله عليها حاضرة هناك مستندة ظهرها إلى ركن الباب الذي هو على يسار الداخل وسائر الأئمة إلى مولانا الصادق عليه السلام أيضا جلوس في مقابلها في الزاوية بين ضريحي الحسين عليه السلام وولده علي الأكبر الشهيد متحدثين بما لا يفهم ومحمد بن قارون المقدم قائم بين أيديهم قال السورائي: وكنت أنا أيضا غير بعيد عنهم

              ____________

              (1) هرى الثوب: صفره أي جعله أصفر.

              (2) نقله عنه بحاثة الطايفة ميرزا عبد الله الاصبهاني في (رياض العلماء)، وسيدنا (روضات الجنات) ص 239، وشيخنا العلامة الحجة النوري في (دار السلام) ج 1 ص 148، ونحن نلخص ما في (رياض العلماء).

              (3) هو الفقيه الأوحد صاحب المقامات والكرامات أحد مشايخ العلم الحجة ابن فهد الحلي المتوفى 841.
              --------------------------------------------------------------------------------
              الصفحة 10
              --------------------------------------------------------------------------------

              فرأيت ابن الحجاج مارا في الحضرة المقدسة فقلت لمحمد بن قارون: ألا تنظر إلى الرجل كيف يمر في الحضرة؟ فقال: أنا لا أحبه حتى أنظر إليه: قال: فسمعت الزهراء بذلك، فقالت له مثل المغضبة: أما تحب (أبا عبد الله)؟ أحبوه فإنه من لا يحبه ليس من شيعتنا. ثم خرج الكلام من بين الأئمة عليهم السلام، بأن من لا يحب أبا عبد الله فليس بمؤمن. قال الشيخ محمد بن قارون: ولم أدر من قاله منهم، ثم انتبهت فزعا مرعوبا مما فرطت في حق أبي عبد الله من قبل ذلك قال: ثم نسيت المنام ولم أذكره إلى أن أتيح لي بزيارة السبط الشهيد سلام الله عليه فإذا بجماعة في الطريق من أصحابنا يروون شعر ابن الحجاج فلحقتهم فإذا فيهم علي بن الزرزور وسلمت عليه، وقلت: كنت تنكر رواية شعر ابن الحجاج وتكرهها، فما بالك الآن تسمعه وتصغي إلى أنشاده؟ فقال: أحدثك بما رأيت فيما يراه النائم فقص علي بمثل ما رأيته في الطيف حرفيا وحكيته بما رأيت، ثم اتفقا على مدح الرجل وإيراد أشعاره و بث مآثره ونشر مناقبه.

              وأيضا: إن السلطان مسعود بن بابويه (1) لما بنى سور المشهد الشريف و دخل الحضرة الشريفة وقبل أعتابها وأحسن الأدب فوقف أبو عبد الله المترجم بين يديه وأنشد قصيدته الفائية التي ذكرناها فلما وصل منها إلى الهجاء أغلظ له الشريف سيدنا المرتضى ونهاه أن ينشد ذلك في باب حضرة الإمام عليه السلام فقطع عليه فانقطع، فلما جن عليه الليل رأى ابن الحجاج الإمام عليا عليه السلام في المنام وهو يقول: لا ينكسر خاطرك فقد بعثنا المرتضى علم الهدى يعتذر إليك فلا تخرج إليه حتى يأتيك، ثم رأى الشريف المرتضى في تلك الليلة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله والأئمة صلوات الله عليهم حوله جلوس فوقف بين أيديهم وسلم عليهم فحس منهم عدم إقبالهم عليه فعظم ذلك عنده وكبر لديه فقال: يا موالي أنا عبدكم وولدكم ومواليكم فبم استحققت هذا منكم؟

              فقالوا: بما كسرت خاطر شاعرنا أبي عبد الله ابن الحجاج فعليك أن تمضي إليه وتدخل عليه وتعتذر إليه وتأخذه وتمضي به إلى مسعود بن بابويه وتعرفه عنايتنا فيه و شفقتنا عليه، فقام السيد من ساعته ومضى إلى أبي عبد الله فقرع عليه الباب فقال ابن

              ____________

              (1) كذا في النسخة وأحسبه، عضد الدولة بن بويه.
              --------------------------------------------------------------------------------
              الصفحة 11
              --------------------------------------------------------------------------------

              الحجاج: سيدي الذي بعثك إلي أمرني أن لا أخرج إليك، وقال: إنه سيأتيك، فقال:

              نعم سمعا وطاعة لهم، ودخل عليه واعتذر إليه ومضى به إلى السلطان وقصا القصة عليه كما رأياه فأكرمه وأنعم عليه وخصه بالرتب الجليلة وأمر بإنشاد قصيدته.


              ولادته ووفاته

              لم يختلف اثنان في تاريخ وفاة المترجم له وأنه توفي في جمادي الآخرة سنة 391 بالنيل وهو بلدة على الفرات بين بغداد والكوفة، وحمل إلى مشهد الإمام الطاهر [الكاظمية] ودفن فيه وكان أوصى أن يدفن هناك بحذاء رجلي الإمام عليه السلام و يكتب على قبره: وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد. ورثاه الشريف الرضي بقصيدة توجد في ديوانه ج 2 ص 562، وذكر ابن الجوزي منها أبياتا في (المنتظم) 7 ص 217.

              ولم نقف في طيات الكتب والمعاجم على تاريخ ولادته لكن الباحث عنها يقطع بأن الرجل ولد في المائة الثالثة وعاش عمرا طويلا حدود المائة والثلاثين، وهناك شواهد قوية على هذا منها:

              1 - ما ذكر ابن شهر آشوب في المعالم من قرائته على ابن الرومي المتوفى 282.

              2 - توليه الحسبة قبل الإمام الاصطخري المتوفى 328 كما في تاريخ ابن خلكان ومرآة الجنان لليافعي وغيرهما قالوا: إنه تولى حسبة بغداد وأقام مدة، و يقال: إنه عزل بأبي سعيد الاصطخري وله في عزله أبيات مشهورة. ا هـ. والاصطخري قد تولى الحسبة بأمر المقتدر بالله سنة 320 كما في (شذرات الذهب) 2 ص 312 وغيره.

              3 - شعره الموجود في ديوانه في هجاء أبي عبد الله هارون بن علي بن أبي منصور المنجم المتوفى 288 وقال في ديوانه: قاله وهو حدث السن.

              4 - قصيدته الموجودة في ديوانه في أبي الفضل عباس بن الحسين وزير المكتفي بالله المقتول سنة 296.

              وقد ذكر كثيرا في شعره المنظوم في أواسط القرن الرابع شيخوخته منه أبيات يمدح بها أبا منصور بختيار بن معز الدولة المقتول 367 منها:


              قلت اقبلي رأيي * ورأي الشيخ محمود موافق


              --------------------------------------------------------------------------------
              الصفحة 12
              --------------------------------------------------------------------------------

              وله في الوزير أبي طاهر ابن بقية المتوفى 366 يطلب منه تجز جرايته ورزقا لابنه في ديوان (بادويا) أبيات منها قوله:


              طلبت ما يطلبه مثلي * الشيوخ الفسقه

              وأنت لا تجد قط شاعرا يذكر شيخوخته وهرمه في شعره كابن الحجاج كقوله في أبي محمد يحيى بن فهد:


              أيها الشاعر الجديد الذي * يعبث بالشاعر النفيس الخليع
              أنت مثل الثوب الجديد * وشعري مثل قب الغلالة المرقوع (1)
              أنا شيخ طبيعتي تنثر البعر * على كل شاعر مطبوع

              وقوله فيما كتبه إلى أبي محمد ابن فهد المذكور وقد ولد للمترجم مولود:


              قولوا ليحيى بن فهد: يا من * جعلت مما يخشى فداه
              أليس قد جاءني غلام؟ * يجلب بالحسن من رآه
              كالشمس والشمس في ضحاها * والبدر والبدر في دجاه
              يفتنني ريه ويحنو في * المهد قلبي على خصاه
              كأنني مع وفور نسلي * لم أر من قبله سواه

              ومن قصيدة ذات 129 بيتا في الوزير أبي نصر التي أولها:


              يا عاذلي كيف أصنع * وليس في الصبر مطمع

              قوله:


              خذها إليك عروسا * لها من الحسن برقع
              الأذن لا العين منها * بحسنها تتمتع
              خطيبها فيك شيخ * مهملج الفكر مصقع

              ويمدح عضد الدولة فنا خسرو المتوفى 372 بقصيدة ذات 41 بيتا ويذكر فيها شيبه وهرمه. والباحث جد عليم بأنه من المعمرين وليد القرن الثالث مهما وقف على قوله في إحدى مقطوعاته.


              وقائلة: تعيش * مظلوما بسيف (2)


              ____________

              (1) القب: ما يدخل في جيب القميص من الرقاع. الغلالة شعار يلبس تحت الثوب.

              (2) كذا وجدناه في ديوانه وفيه سقط.
              --------------------------------------------------------------------------------
              الصفحة 13
              --------------------------------------------------------------------------------



              فقلت لها: أباكي ذاك حزني * على مائة فجعت بها ونيف.

              فبعد ذلك كله لا يبقى وزن في تضعيف ابن كثير في تاريخه 11 ص 329 قول ابن خلكان بأنه عزل عن حسبة بغداد بأبي سعيد الاصطخري المتوفى 328. كما لا يبعد عندئذ ما في (المعالم) من تلمذه علي ابن الرومي المتوفى 283 إذ تلمذه عليه إنما كان في الأدب في الآليات، ومن الممكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغ الحلم أيضا كتلمذ الشريف الرضي على أستاذه السيرافي وله دون العشر من عمره كما يأتي في ترجمته.


              مصادر ترجمة ابن الحجاج


              يتيمة الدهر 3 ص 25 تاريخ الخطيب 8 ص 14
              معجم الأدباء 4 ص 6 تاريخ ابن خلكان 1 ص 170
              معالم العلماء ص 136 الكامل لابن الأثير 9 ص 63
              المنتظم لابن الجوزي 7 ص 216 تاريخ ابن كثير 11 ص 329
              تاريخ أبي الفدا 3 ص 242 مرآة الجنان 2 ص 444
              معاهد التنصيص 2 ص 62 مجالس المؤمنين 459
              شذرات الذهب 3 ص 136 إيضاح المقاصد للبهائي مخطوط
              كشف الظنون 1 ص 498 رياض العلماء للميرزا عبد الله. مخطوط
              أمل الآمل للشيخ الحر رياض الجنة للسيد الزنوزي. مخطوط
              روضات الجنات ص 239 نسمة السحر فيمن تشيع وشعر. مخطوط
              سفينة البحار 1 ص 225 تتميم الأمل لابن أبي شبانة. مخطوط
              الشيعة وفنون الاسلام 106 تنقيح المقال 1 ص 318
              دائرة المعارف الإسلامية 1 ص 130 أعلام الزركلي 1 ص 245
              دائرة المعارف للبستاني 1 ص 439 دائرة المعارف لفريد وجدي 6 ص 12

              تعليق


              • #8
                أبو محمد الصوري


                المولود ح 339
                المتوفى 419




                ولائك خير ما تحت الضمير * وأنفس ما تمكن في الصدور
                وها أنا بت أحسس منه نارا * أمت بحرها نار السعير
                أبا حسن تبين غدر قوم * لعهد الله من عهد (الغدير)
                وقد قام النبي بهم خطيبا * فدل المؤمنين على الأمير
                5 أشار إليه فيه بكل معنى * بنوه على مخالفة المشير
                فكم من حاضر فيهم بقلب * يخالفه على ذاك الحضور
                طوى يوم (الغدير) لهم حقودا * أنال بنشرها يوم (الغدير)
                فيا لك منه يوما جر قوما * إلى يوم عبوس قمطرير
                لأمر سولته لهم نفوس * وغرتهم به دار الغرور
                10 ولست من الكثير فيطمئنوا * بأن الله يعفو عن كثير

                وله في أهل البيت عليهم السلام:


                عيون منعن الرقاد العيونا * جعلن لكل فؤاد فنونا
                فكن المنى لجميع الورى * وكن لمن رامهن المنونا
                وقلب تقلبه الحادثات * على ما تشاء شمالا يمينا
                يصون هواه عن العالمين * ومدمعه يستذل المصونا
                5 فمالي وكتمان داء الهوى؟! * وقد كان ما خفته أن يكونا
                وكان ابتداء الهوى بي مجونا * فلما تمكن أمسى جنونا


                --------------------------------------------------------------------------------
                الصفحة 2
                --------------------------------------------------------------------------------



                وكنت أظن الهوى هينا * فلاقيت منه عذابا مهينا
                فلو كنت شاهد يوم الوداع * رأيت جفونا تناجي جفونا
                فهل ترك البين من أرتجيه * من الأولين والآخرينا؟!
                سوى حب آل نبي الهدى * فحبهم أمل والآملينا 10
                هم عدتي لوفاتي هم * نجاتي هم الفوز للفائزينا
                هم مورد الحوض للواردين * وهم عروة الله للواثقينا
                هم عون من طلب الصالحات * فكن بمحبتهم مستعينا
                هم حجة الله في أرضه * وإن جحد الحجة الجاحدونا
                هم الناطقون هم الصادقون * وأنتم بتكذيبهم كاذبونا 15
                هم الوارثون علوم النبي * فما بالكم لهم وارثونا؟!
                حقدتم عليهم حقودا مضت * وأنتم بأسيافهم مسلمونا
                جحدتم موالاة مولاكم * ويوم (الغدير) لها مؤمنونا
                وأنتم بما قاله المصطفى * وما نص من فضله عارفونا
                وقلتم: رضينا بما قلته * وقالت نفوسكم: ما رضينا 20
                فأيكم كان أولى بها؟! * وأثبت أمرا من الطيبينا؟!
                وأيكم كان بعد النبي وصيا؟! ومن كان فيكم أمينا؟!
                وأيكم نام في فرشه * وأنتم لمهجته طالبونا؟!
                ومن شارك الطهر في طائر * وأنتم بذاك له شاهدونا؟!
                لحا الله قوما رأوا رشدكم * مبينا فضلوا ضلالا مبينا 25

                وله في أهل البيت عليهم السلام:


                ما طول الليل القصيرا * ونهى الكواكب أن تغورا
                إلا وفي يده عزيمات * يحل بها الأمورا
                ذو مقلة لا تستقل * ضنى وإن أضنت كثيرا
                ليست تفتر عن دمي * وترى بها أبدا فتورا
                وترى بها ضعفا يريك المستجار المستجيرا 5


                --------------------------------------------------------------------------------
                الصفحة 3
                --------------------------------------------------------------------------------



                فيما ينازعني عذولا * أو يسامحني عذيرا
                أترى بوادر فتنتي * فيما ترى إلا بدورا؟!
                لو شاء لاختصر الغرام * بها من اختصر الحصورا
                ولقد لبست ثياب نفس - - ك مالكا أو مستعيرا
                10 وتمثل الشيطان لي * ليغرني رشؤا غريرا
                فخلعتها ولبست ثوب * الفتك سحابا جرورا
                ما شئت فاقلع عنه * واستغفر تجد ربا غفورا
                ما لم يكن من معشر * غدروا وقد شهدوا الغديرا
                وتوامروا ما بينهم * أن ينصبوا فيها أميرا
                15 من كل صدر موغر * ملأت ضغائنه الصدورا
                مترشح للملك قد * نصبت سريرته السريرا
                وتوارثوها ليس تخرج * عنهم شبرا قصيرا
                هذا إلى أن قام قايم * آل أحمد مستثيرا
                وتسلم الاسلام أقتم مظلما فكساه نورا


                [القصيدة]

                وله في أهل البيت عليهم السلام:


                نكرت معرفتي لما حكم * حاكم الحب عليها لي بدم
                فبدت من ناظريها نظرة * أدخلتها في دمي تحت التهم
                وتمكنت فأضنيت صى * كان بي منها واسقمت سقم
                وصبت بعد اجتناب صفوة * بدلت من قولها: لا. بنعم
                وفقدت الوجد فيها والأسى * فتألمت لفقدان الألم
                ما لعيني وفؤادي كلما * كتمت باح؟! وإن باحت كتم؟!
                طال بي خلفهما فاتفقت * لي هموم في الرزايا وهمم
                ورزايا المصطفى في أهله * فاتحات للرزايا وختم
                يا بني الزهراء ماذا اكتست * فيكم الأيام من عتب وذم؟!


                --------------------------------------------------------------------------------
                الصفحة 4
                --------------------------------------------------------------------------------



                يا طوافا طاف طوفان به * وحطيما بقنا الخط حطم 10
                أي عهد يرتجى الحفظ له * بعد عهد الله فيكم والذمم؟!
                لا تسليت وأنوار لكم * غشيتها من بني حرب ظلم
                ركبوا بحر ضلال سلموا * فيه والاسلام فيهم ما سلم
                ثم صارت سنة جارية * كل من أمكنه الظلم ظلم
                وعجيب إن حقا بكم * قام في الناس وفيكم لم يقم 15
                والولا فهو لمن كان على * قول عبد المحسن الصوري قسم
                وأبيكم والذي وصى به * لأبيكم جدكم في يوم خم.
                لقد احتج على أمته * بالذي نالكم باقي الأمم


                * (الشاعر) *

                أبو محمد عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب (1) بن غلبون الصوري من حسنات القرن الرابع ونوابغ رجالاته، وقد مد له البقاء إلى أوليات القرن الخامس، جمع شعره بين جزالة اللفظ وفخامة المعنى، كما إنه لا تعدوه رقة الغزل وشدة الجدل، فهو عند الحجاج يدلي بحجته القويمة، وعند الوصف لا يأتي إلا بصورة كريمة، و ديوان شعره المحتوي على خمسة آلاف بيت تقريبا الحافل بالرقايق والحقايق يتكفل البرهنة على هذه الدعاوي، وهو نص في تشيعه كما عده ابن شهر آشوب من شعراء أهل البيت المجاهرين، وما ذكرناه من شعره يمثل روحه المذهبية، ونزعته الطائفية الحميدة، وتعصبه لآل البيت النبوي، واعترافه بحقهم الثابت، ونبذه ما وراء ذلك نبذا لا مرتجع إليه، وفي ديوانه غير ما ذكرناه شواهد وتلويحات لطيفة نحو قوله في صبي اسمه عمر:


                نادمني من وجهه روضة * مشرقة يمرح فيه النظر
                فانظر معي تنظر إلى معجز * سيف علي بين جفني عمر

                وقد ترجمه ابن أبي شبانة في تكملة أمل الآمل وهو لا يترجم إلا المتمسك

                ____________

                (1) في تتميم يتيمة الدهر ج 1 ص 35: طالب. وهو تصحيف.
                --------------------------------------------------------------------------------
                الصفحة 5
                --------------------------------------------------------------------------------

                بحجزة أهل البيت الطاهر، وترجمه الثعالبي في (يتيمة الدهر) ج 1 ص 257 وذكر من شعره 225 بيتا، وأثنى عليه وانتخب من ديوانه أبياتا في (تتميم يتيمته) ج 1 ص 35 وعقد ابن خلكان له ترجمة ضافية أطراه ووصف شعره في ج 1 ص 334، و قال: توفي يوم الأحد تاسع شوال سنة تسع عشرة وأربعمائة وعمره ثمانون أو أكثر، وذكره ابن كثير في تاريخه ج 12 ص 25، ومن شعره في أهل البيت صلوات الله عليهم:


                توق إذا ما حرمة العدل جلت * ملامي لتقضي صبوتي ما تمنت
                أغرك إن لم تستفزك لوعة * بقلبي ولا استبكاك بين بمقلتي
                لك الخير هذا حين شئت تلومني * لجاجا فإلا لمت أيام شرتي
                غداة أجيب العيس إذ هي حنت * وأحدو إذا ورق الحمايم غنت
                5 وأنتهب الأيام حتى كأنني * أدافع من بعد الحلول منيتي
                وأستصغر البلوى لمن عرف الهوى * واستكثر الشكوى وإن هي قلت
                أطيل وقوفي في الطلول كأنني * أحاول منها أن ترد تحيتي
                ليالي ألقى كل مهضومة الحشى * إذا عدلت فيما جناه تجنت
                أصد فيدعوني إلى الوصل طرفها * وإن أنا سارعت الاجابة صدت
                10 وإن قلت سقمي وكلت سقم طرفها * بإبطال قولي أو بإدحاض حجتي
                وإن سمعت وانار قلبي شناعة * عليها أجابتني بوانار وجنتني
                وأصرف همي عن هواها بهمتي * عزوفا فتثنيني إذا ما تثنت
                وأنشد بين البين والهجر مهجتي * ولم أدر في أي السبيلين ضلت
                وما أحسب الأيام أيام هجرها * تطاولني إلا لتقصر مدتي
                15 دعوا الأمة اللاتي استحلت تكن * مع الأمة اللاتي بغت فاستحلت
                فما يقتدي إلا بها في اغتصابها * ولا أقتدي إلا بصبر أئمتي
                أليس بنو الزهراء أدهى رزية * عليكم إذا فكرتم في رزيتي
                حماتي إذا لانت قناتي وعدتي * إذا لمن تكن لي عدة عند شدتي
                أقامت لحرب الله حزب أئمة * إذا هي ضلت عن سبيل أضلت
                20 قلوب على الدين العتيق تألفت * لهم ومن الحق القديم استملت


                --------------------------------------------------------------------------------
                الصفحة 6
                --------------------------------------------------------------------------------



                بماذا ترى تحتج يا آل أحمد * على أحمد فيكم إذا ما استعدت؟!
                وأشهر ما يروونه عنه قوله: * تركت كتاب الله فيكم وعترتي
                ولكن دنياهم سعت فسعوا لها * فتلك التي فلت ضميرا عن التي

                وله في أهل البيت سلام الله عليهم:


                أصبحوا يفرقون من افراقي * فاستغاثوا في نكستي بالفراق
                ما صبرتم لقد بخلتم على المدنف * حقا حتى بطول السياق
                راحة ما اعتمدتموها بقتلي * رب خير أتى بغير اتفاق
                سوف أمضي وتلحقون ولا علم * لكم ما يكون بعد اللحاق
                حيث لا يجمع القضية من يجمع * بين الخصمين ماض وباق 5
                ما لهم لا خلقت فيهم فما أغفل * قومي عن الدم المهراق؟!
                رب ظهر قلبته مثل ما يقلب * ظهر المجن للإرشاق
                بعد ما قادني فلم أدر حتى * صرت ما بين ملتقى الأحداق
                وأراني أسير عينيك منهن * فماذا تراه في إطلاقي؟!
                مسة من هواك بي لا من الجن * فهل من مغرم أو راق؟! 10
                غير أن يبرد احتراقي بوصل * أو بوعد أو أن يبل اشتياقي
                أو يعيد الكرى علي كما كان * لا موحشي من خيالك الطراق
                ما لنومي كأنه كان في * أول دمعي جرى من الآماق؟!
                غير مسترجع فيرجى وهل يرجع * للعين أدمع في سباق؟!
                بأبي شادن توثقت بالإيمان * منه قبل شد وثاقي 15
                فهو إلا يكن لحرب فحرب * علمته خيانة الميثاق
                نفر من أمية نفر الاسلام من بينهم نفور إباق
                أنفقوا في النفاق ما غصبوه * فاستقام النفاق بالانفاق
                وهي دار الغرور قصر باللوم * فيها تطاول العشاق
                وأراها لا تستقيم لذي الزهد إذ المال مال بالأعناق 20
                فلهذا أبناء أحمد أبناء علي * طرايد الآفاق


                --------------------------------------------------------------------------------
                الصفحة 7
                --------------------------------------------------------------------------------



                فقراء الحجاز بعد الغنى الأكبر * أسرى الشام قتلى العراق
                جانبتهم جوانب الأرض حتى * خلت أن السماء ذات انطباق
                إن اقصر يا آل أحمد أو أغرق * كان التقصير كالإغراق
                25 لست في وصفكم بهذا وهذا * لا حقا غير أن تروا إلحاقي
                إن أهل السماء فيكم وأهل الأرض * ما دامتا لأهل افتراق
                عرفت فضلكم ملائكة الله * فدانت وقومكم في شقاق
                يستحقون حقكم زعموا ذلك * - سحقا - لهم من استحقاق
                وأرى بعضهم يبايع بعضا * بانتظام من ظلمكم واتساق
                30 واستثاروا السيوف فيكم فقمنا * نستثير الأقلام في الأوراق
                أي عين؟ لولا القيامة والمرجو * فيها من قدرة الخلاق
                فكأني بهم يودون لو أن الخوالي * من الليالي البواقي
                ليتوبوا إذا يذادون عن أكرم * حوض عليه أكرم ساق
                وإذا ما التقوا تقاسمت النار * عليا بالعدل يوم التلاق
                35 قيل: هذا بما كفرتم فذوقوا * ما كسبتم يا بؤس ذاك المذاق

                وقال في يوم عاشورا يمدح الإمام الحاكم بأمر الله:


                خلا طرفه بالسقم دوني يلازمه * إلى أن رمى سهما فصرت أساهمه
                فأصبح بي ما لست أدري أمثله * بجفنيه؟! أم لا يعدل السقم قاسمه؟!
                لئن كان أخفى الصدر صدا من الجوى * ففي العين عنواناته وتراجمه
                ولم تخفه إن الهوى خف حمله * ولكن لأن النوم ليس يلايمه
                5 ويا رب ليل قصر الذكر طوله * فما طلعت حتى تجلت غمائمه
                وما نمت فيه غير أن لو سألتني * عن الشغل عنه قلت ما قال نائمه
                ولكنه ألقى على الصبح لونه * فوالاه يوم شاحب الوجه ساهمه
                كما جاء يوم في المحرم واحد * خبا نوره لما استحلت محارمه
                طغت عبد شمس فاستقل محلقا * إلى الشمس من طغيانها متراكمه
                10 فمن مبلغ عني أمية إنني * هتفت بما قد كنت عنها أكاتمه؟!


                --------------------------------------------------------------------------------
                الصفحة 8
                --------------------------------------------------------------------------------



                مضت أعصر معوجة باعوجاجكم * فلا تنكروا إن قوم الدهر قايمه
                وجدد عهد المصطفى بعض أهله * وحكم في الدين الحنيفي حاكمه
                فيا أيها الباكون مصرع جده * دعوا جده تبكي عليه صوارمه
                ألا أيها الثكلى التي من دموعها * إذا هي حيت من قتيل جماجمه
                لقد خسر الدارين من صد وجهه * فلا أنت مبقيه ولا الله راحمه 15
                حريصا على نار الجحيم كأنه * يخاف على أبوابها من يزاحمه
                إلى من تراه فوض الأمر غيركم * إذا أنتم أركانه ودعائمه
                فيا لك منها دولة علوية * تبدت بسعد حاكم الدهر خاتمه


                [القصيدة]

                وله قوله:


                بالذي ألهم تعذيبي ثناياك العذابا * والذي ألبس خديك من الورد نقابا
                والذي أودع في فيك من الشهد شرابا * والذي صير حظي منك هجرا واجتنابا
                ما الذي قالته عيناك لقلبي فأجابا؟! والذي قالته للدمع فواراها انصبابا؟
                يا غزالا صاد باللحظ لقلبي فأصابا * عمرك الله بصب لا يرى إلا مصابا

                هذه الأبيات توجد في ديوان المترجم فنسبتها إلى (الصنوبري) كما في كشكول البهائي ج 1 ص 23 في غير محله، وأخذ البهائي منها قوله:


                يا بدر دجا فراقه القلب أذاب * مذ ودعني فغاب صبري إذ غاب
                بالله عليك أي شئ قالت * عيناك لقلبي المعنا فأجاب؟!

                وللمترجم الصوري:


                سفرن بدورا وانتقبن أهلة * ومسن غصونا والتفتن جواذرا
                وأبدين أطراف الشعور تسترا * فأغدرت الدنيا علينا غدايرا
                وربتما أطلعن والليل مقبل * شموس وجوه توفف الليل حايرا
                فهن إذا ما شئن أمسين أو إذا * تعرضن أن يسبحن كن قوادرا

                وقال يرثي شيخ الأمة ابن المعلم أبا عبد الله محمد بن محمد بن نعمان المفيد المتوفى 413:


                --------------------------------------------------------------------------------
                الصفحة 9
                --------------------------------------------------------------------------------



                تبارك من عم الأنام بفضله * وبالموت بين الخلق ساوى بعدله
                مضى مستقلا بالعلوم محمد * وهيهات يأتينا الزمان بمثله

                جاء في (بدائع البداية) (1) بإسناده عن بكار بن علي الرياحي أنه قال: لما وصل عبد المحسن الصوري إلى دمشق جاءني المجدي الشاعر فعرفني به وقال: هل لك أن نمضي إليه ونسلم عليه؟ فأجبت وقمت معه حتى أتينا إلى منزله وكان ينزل دائما إذا قدم في سوق القمح وكان بين يديه دكان قطان وفيها رجل أعمى فوقفت به عجوز كبيرة فكلمها بشئ وهي منصتة له فقال المجدي في الحال:

                منصتة تسمع ما يقول

                فقال عبد المحسن في الحال:

                (2)كالخلد لما قابلته الغول

                فقال له المجدي: أحسنت والله يا أبا محمد أتيت بتشبيهين في نصف بيت أعيذك بالله. ا هـ

                ومن لطيف قول الصوري ما قاله وقد استعير منه كتاب وحبس عليه كما يوجد في ديوانه:


                ماذا جناه كتابي فاستحق به * سجنا طويلا وتغييبا عن الناس
                فاطلقه نسأله عما كان حل به * في طول سجنك من ضر ومن باس

                كتب الشاعر المفلق أحمد بن سلمان الفجري إلى عبد المحسن الصوري:


                أعبد المحسن الصوري لم قد * جثمت جثوم منهاض كسير؟!
                فإن قلت: العبالة (3) أقعدتني * على مضض وعافت عن مسيري
                فهذا البحر يحمل هضب رضوي * ويستثني بركن من ثبير
                وأن حاولت سير البر يوما * فلست بمثقل ظهر البعير
                إذا استحلى أخوك قلاك يوما * فمثل أخيك موجود النظير
                تحرك عل أن تلقى كريما * تزول بقربه إحن الصدور
                فما كل البرية من تراه * ولا كل البلاد بلاد صور


                ____________

                (1) وذكره ابن عساكر في تاريخه ج 3 ص 281.

                (2) في تاريخ ابن عساكر: كالحلد. وهو كما ترى.

                (3) العبالة: الضخامة.
                --------------------------------------------------------------------------------
                الصفحة 10
                --------------------------------------------------------------------------------

                فأجابه عبد المحسن:


                جزاك الله عن ذا النصح خيرا * ولكن جاء في الزمن الأخير
                وقد حدت لي السبعون حدا * نهى عما أمرت من المسير
                ومذ صارت نفوس الناس حولي * قصارا عذت بالأمل القصير (1)

                وقال في صبي اسمه مقاتل وله فيه شعر كثير:


                تعلمت وجنته رقية * لعقرب الصدع فما تلسع
                صمت عن العاذل في حبه * أذني فمالي مسمع يسمع
                ودعته والدمع في مقلتي * في عبرتي مستعجل مسرع
                فظن إذ أبصرتها أنها * ساير أعضائي بها تدمع
                وقال: هذا قبل يوم النوى * فما ترى بعد النوى تصنع؟!
                في غير وقت الدمع ضيعته * قلت: فقلبي عندكم أضيع

                وقال في مقاتل أيضا:


                احفظ فؤادي فأنت تملكه * واستر ضميري فأنت تهتكه
                هجرك سهل عليك أصعبه * وهو شديد علي مسلكه
                بسيف عينيك يا مقاتل كم * قتلت قبلي ممن كنت تملكه؟!
                أما عزائي فلست آمله * فيك وصبري ما لست أدركه

                وقال فيه وهو معذر:


                وقف اليل والنهار وقد كان * إذا ما أتى النهار يقر
                لا يرى رجعه فيكسب عارا * لا ولا ثم قوة فيفر
                أين سلطان مقلتيك علينا؟! * قل له ما يجوز في الحب سمر
                أنت فرقت نار خديك حتى * كل قلب صب لها فيه جمر
                فبماذا يلقى عذاريك؟ قل لي * سيما أن تدارك الشعر شعر
                وعزيز علي إنك بالحرب وبالسلم طول عمرك غر

                وخلف المترجم علي أدبه الجم وقريضه البديع ولده عبد المنعم ذكره الثعالبي.

                تعليق

                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                حفظ-تلقائي
                x

                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                صورة التسجيل تحديث الصورة

                اقرأ في منتديات يا حسين

                تقليص

                لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                يعمل...
                X