بسم الله الرحمن الرحيم. و الحمد لله رب العالمين.
والصلاة و السلام على أشرف الخلق أجمعين، محمد و آله الطيبين الطاهرين المعصومين المظلومين.
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
بمناسبة مرور 26 عاما على استشهاد سماحة آية الله الإمام السيد حسن الشيرازي قدس سره على أيدي البعثيين الملاحدة و النواصب في بيروت، أحببت أن أضع بين أيديكم كتابا له تحت عنوان:
* ولد في (النجف الأشرف) حيث مثوى أمير المؤمنين عليه السلام عام 1354.
* نشأ في (كربلاء المقدسة) حيث مرقد سيد الشهداء عليه السلام.
* تربى في كنف والده المرحوم آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي رضوان الله تعالى عليه و تحت رعاية أخيه آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي دام ظله.
* ينتمي إلى (بيت) عرف بـ: التقوى، و العلم، و الجهاد، و المرجعية، و الأخلاق الفاضلة، و هداية الناس... مطلع شموس و أقمار و نجوم ذات أضواء و أنوار: المجدد الشيرازي و (ثورة التنباك)، و الشيخ محمد تقي الشيرازي و (ثورة العشرين)...
* ورد (الحوزة العلمية) فور صدوره عن (الكتّاب)، و تخرج منها حائزا على درجة (الاجتهاد)، و مارس مهام الرجل الحوزوي: التدريس، التأليف، نشر المقالات و القصائد...
* شاعر المهرجانات، و خطيب الاحتفالات، و بصورة خاصة: المهرجانات الدولية المنعقدة بمناسبة ميلاد أمير المؤمنين عليه السلام في (كربلاء المقدسة).
* مفكر إسلامي كبير، و محقق علمي قدير، تأتي في طليعة نتاجه الفكري: سلسلة (الكلمة)، و خواطري عن القرآن، و حديث رمضان، و العمل الأدبي... دع عنك مخطوطاته التي لم تر النور بعد.
* قاوم الحكم الجائر، على تنوع الأنظمة المتعاقبة على العراق: نوري السعيد و حلف بغداد و بهجت عطية، عبد الكريم قاسم و الشيوعيين و قانون الأحوال الشخصية، عبد السلام عارف و القومية، البكر و صدام و البعثية... و كان أول رجل دين كبير يعتقل و يعذب و يسجن – عام 1389 – في موجة استنكار عالمية.
* هاجر إلى سوريا و لبنان عام 1390 كأول رجل دين كبير يهاجر في سبيل الله تعالى. و انطلق يخدم الإسلام بشتى صنوف النشاطات: إلقاء المحاضرات، توزيع الكتب المجانية، سفرات تبليغية و تفقدية، زرع المبلغين في القارة الإفريقية، إرسال رجال الدين إلى البلاد في المواسم الدينية، تأسيس (جماعة العلماء) عام 1397، تأسيس (مدرسة الإمام المهدي عجل الله فرجه الدينية)، نفض غبار الاتهام و البهتان عن (العلويين)، تأسيس (دار الصادق) للتأليف و النشر و التوزيع...
* بذل أقصى جهده في إنهاء الحرب اللبنانية – اللبنانية.
* دأب على أداء (العمرة و الحج) سنويا، على رأس (بعثة الإمام الشيرازي الدينية). و هناك: كان ينهك نفسه في العبادة و الإرشاد و الاتصال بمختلف الشخصيات الإسلامية...
* قام بمحاولات مستمرة جادة متنوعة في سبيل تعمير (مراقد الأئمة الأطهار عليهم السلام) بالمدينة المنورة. و لكنها لم تثمر بسبب من: تعجرف بعض العلماء الوهابيين، و معاكسة بعض السياسيين العراقيين، و تغاير بعض العلماء المسلمين الحاسدين.
* كان يكثر الاتصال برجال الحكومات (ملوك، رؤساء، رؤساء وزراء، وزراء...) لأخذ ما يمكن أخذه منهم في سبيل نشر الإسلام و تقوية المسلمين، من دون أن يأخذ منهم حتى فلسا واحدا. و كان لا يعطيهم من دينه شيئا أبدا، مما دفع ببعض الحكوميين إلى استشعار الضيق به أحيانا و ببعض وعاظ السلاطين إلى إحساس الحسد منه أحايين.
* عرف بمساندته للثورة الإيرانية منذ بداياتها و أيام غربتها بعزم لا فتور فيه، حين كان الآخرون يحاربونها بصورة لا هوادة فيها. و حينما نجحت ألقت النقاب عنها و تعرت فتوقف عن مساندتها و تحامى عنها، بينما إبتدء الآخرون يقلبون الصفحة و يقبلون عليها. و كفى بذلك فخرا لمن ساند أيام الغربة للحق، و تحامى أيام العزة للحق كذلك. و كفى بذلك نذلا لمن عادى أيام الغربة للمادة، و والى أيام العزة للمادة كذلك.
* عرفت جولاته الإرشادية و التفقدية كل من: الجزيرة العربية، و مصر، و سوريا، و لبنان، و الكويت، و البحرين، و إيران، و فرنسا، و سيراليون، و ساحل العاج...
* شجب – بكل ما أوتي من قوة – التيارات الاستعمارية في البلاد الإسلامية: إسرائيل في فلسطين، الشاهنشاهية في إيران، كامب ديفيد في مصر، الأحزاب المنحرفة...
* أسس (الحوزة العلمية) في (السيدة زينب) بسوريا عام 1393، إقتدائا بأسلافه العلماء العظماء الذين أسسوا (الحوزات العلمية) في (البلاد المقدسة): الشيخ الطوسي و (حوزة النجف الأشرف)، المجدد الشيرازي و (حوزة سامراء المقدسة)، الشيخ عبد الكريم الحائري و (حوزة قم المشرفة)... و تولى – بنفسه – تدريس (الخارج = أرقى الدروس الإسلامية) في الحوزة الفتية.
* لم يخف في الله لومة لائم، و أدى ضريبة ذلك بصورة غريبة: الحرمان، و الحصار، و المقاطعة، و المحاربة... و لكن كان الله في عونه حيا و ميتا، فهو الآن (غائب) بجسمه (حاضر) بفكره و كتبه و مشاريعه و تلامذته... كأشد ما يكون الحاضرون.
* لم يجر في ميدان واحد من ميادين الخير بل كان رجل الميادين بقدر ما يستطيع، و كان يحب هداية الناس إلى درجة العشق، و كان متواضعا بحيث ربما يتجرأ عليه حتى الحقير، و كان زاهدا لم يخلف – حين رحل – عقارا و لا مالا و لا نقودا... بل ديونا أثقلت كاهل من تولوا أموره بعده.
* و أخيرا.. توج – من قبل الله تبارك و تعالى – بـ (الشهادة)، إذ خر صريعا برصاصات (البعث الكافر) في بيروت – لبنان، يوم السادس عشر من جمادى الثانية عام ألف و أربعمائة لهجرة جده الأكرم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم = 16 / 6 / 1400. فسلام عليه: يوم ولد، و يوم جاهد، و يوم استشهد، و يوم يبعث حيا... الفاتحة
المنسق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على آلائه و نعمائه، و الصلاة على محمد و آله، و لعنة الله على أعدائهم أعدائه.
قبل أكثر من ألف عام، عندما قدم (الشريف الرضي رضوان الله تعالى عليه) هذه الكلمات إلى الرأي العام كتابا بين دفتين، اختلف حولها ناس كثيرون، و لا يزالون فيها يختلفون.
و مهما تناقضت الدوافع و النتائج، فالذي لا يتناقض فيه المختلفون هو: المدى التصاعدي الذي أحدثه هذا الكتاب في الفكر الإنساني، و لمّا يزل اخذا في التصاعد دون أن يبلغ مداه.
أو لا يكفي أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ــ بجميع أضوائه و آفاقه التي تتجاوز كل الأساطير مجتمعة ــ لا يذكر إلا و يذكر معه هذا الكتاب، أو شيء من هذا الكتاب؟!
* * *
لقد تموج المقطع الأخير من السنين من عمر التاريخ بأمجاد و فتوحات واسعة و حادة، كانت ــ بالنسبة إلى الأولين ــ أحلاما تذهل من فرط خيالها الأحلام، و لا زالـــــت ــ بالنسبة إلى المعاصرين ــ أشبه بأساطير الأولين. و في هذا الطوفان العارم من غليان التاريخ: لم يتصل بنا ــ من الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام ــ إلا نفر معدود بالأصابع نعدهم في الغابرين، و ثبت أنهم أجدر منا بقيادتنا في نهاية القرن العشرين كما كانوا أجدر بقيادة آبائنا من قبل، و لا زال بعد هم الواقعي أمامنا أكثر من بعد هم التاريخي ورائنا، واحد هؤلاء الإمام. و لم يتصل بمناهلنا ــ من منابع الماضين ــ إلا روافد معدودة بالأصابع كذلك لم تتسنه، أحدها: ( نهج البلاغة ).
* * *
إن كل شيء في عالم المادة ــ ابتداء من الذرة و ما هو أصغر من الذرة، و انتهاء بالسديم و ما هو أكبر من السديم ــ يتحرك تحركا دوريا، و في كل دورة يفرغ طاقة و يجمع طاقة. و كل شيء في عالم المعنى يتحرك تحركا دوريا كذلك. للانسجام الكامل بين المادة و المعنى، قد تختلف الدوائر و لكنها تبقى دوائر. و الإنسانية ــ كشيء ــ تتحرك التحرك ذاته: فمحطة المستقبل هي قاعدة الماضي، و نقطة المحطة ــ القاعدة هي نقطة اللا أمام و اللا وراء، و هي نقطة سقوط الماضي و المستقبل.
و هذا.. هو سر رحلة الإنسانية نحو ( نهج البلاغة ) باعتباره كتاب حياة، بعد رحلتها عن ( نهج البلاغة ) باعتباره كتاب تراث. لأن ( نهج البلاغة ) من نقاط التقاء الماضي بالمستقبل، فهو من المأثور المسطور الذي وفد إلينا من وراء أربعة عشر قرنا. و لكن لا يمكن أن يعيش عليه ضباب القدم، لأنه ــ كالفجر، كالربيع، كنجوم الأبد... ــ يزرع الضوء في الطرق الملغمة بالهوى و آلهوان. إنه كالكون: قديم بإطاره، و جديد بما تكتشف فيه من أفكار و تدجن منه من طاقات.
* * *
أنا.. لا أعلم كم ــ بالضبط ــ كان مدى صوت الإمـــــــام، و لكني أسمع صوته ــ بوضوح ــ يشجع ضمير الإنسان على الانتشار و تغطية كل تصرفاته.
و أنا.. لا أعلم كم ــ بالضبط ــ كان حجم قلب الإمام، و لكني ألمسه ـ بوضوح ــ يضخ الحياة في شرايين الخانعين.
و أنا.. لا أعلم كم ــ بالضبط ــ كان مدى سيف الإمـــــــــــــام، و لكني اشاهده ــ بوضوح ــ يلف رقاب الظالمين.
و أنا.. لا أعلم ما هو ــ بالضبط ــ سر ( نهج البلاغة )، و لكني لا تغزوني سكرة الهموم إلا و أجدني أرفأ إليه، فيغسل عني الويلات، تماما.. كما كان المعذبون يلجأون إلى الإمام، فيمسح عنهم الرهق، و يفرغ عليهم صحوة الأمان.
إذن: فـ ( نهج البلاغة ) جزء من الإمام، و جناح من أجنحته العريضة: يمنح الدفء للمتجمد من الجهل، و يفرش الظل للمحترقين بالظلم. صحيح: إنه يحتمل الصدمات بمقدار ما يحمي، و لكنه الفداء المستمر، الذي يعيش بخلوده لا بوجوده. فإذا استطاع ( أن لا يقار على كظة ظالم أو سغب مظلوم )، فلا يهمه ( أوقع على الموت أو وقع الموت عليه ). بل يفضل أن يقع ــ هو ــ على الموت، فيضع حدا لحياته بموت يحيي أموات الأحياء، فـ ( ألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على فراش ) قال هو عليه السلام.
و لـولا أن الإمام أبى إلا أن يكون الفداء المستمر: لكان ( أدهـــــــــــــــى العرب ) ــ كما قال ــ، و لعرف ( فيم علاجهم ) ــ كما قال ــ، و لاهتدى (( الطريق إلى مصفى هذا العسل، و لباب هذا القمع، و نسائج هذا القز . ))، و لاستطاع ــ أخيرا ــ أن يكون إمبراطور العرب بل العالم. و لكنه لم يستطع ــ عندئذ ــ أن يكون ( أمير المؤمنين ) و (سيد الوصيين)... و هل يرضى القلب الكبير و العقل العظيم أن يلخص اهتمام (العالم الأكبر )) في ( سجن المؤمن )، و يختصره (( بين نثيله و معتلفه ))؟! لقد رضي الإمام (( من دنياه بطمريه، و من طعمه بقرصيه ))، ليقيم الحق و يدفع الباطل، و ليكون مقاس الحق الذي يدور معه كيفما دار.
* * *
لكل ذلك: الحياة تطارد الإنسان نحو مصادره الأصيلة، ليقتبس منها وسيلة جديدة لفتح طريق لم يعركه صدام أو خصام. فالتدافع الاجتماعي يمتص الإنسان و يستهلك وقوده، فإذا أصبح هشا ينفيه عن الصميم إلى المخابئ و المجاهل مع النفايات: كما تكتسح الأمواج إلى الساحل ما لا يستطيع الغوص في اللجج، و كما يدفع البدن زوائده من شبكة الجلد... فلا بد من موانئ يرفأ إليها الإنسان كلما أضناه الرهق، ليستمد منها الطاقة على استعادة التجربة.
و موانئ الإنسانية عديدة، و لكن ــ لعل ــ ( نهج البلاغة ) ثاني أعظم ميناء للطاقة الإنسانية، يتساقط إليها المتعبون، فإذا نفخ فيهم نشطوا نحو الأجواء العالية لمزاحمة السحاب.
فالقرآن الكريم ــ و لا شك ــ أغنى رصيد للإنسانية، و قد نظر إلى الكون و الحياة و الإنسان باستيعاب مركز و عمق معجز. و لكنه ألقى عليها نظرة تطل من ارتفاع شاهق، فتستجلي كل شيء، متجاوزا عقبات الطبيعة و حواجز البشر. فأعطى درسا دستوريا مكثفا، بعيد الآفاق و الأعماق. فكان كخلاصة الفيتامينات: لا يمكن تناولها في جرعة، و لا يمكن الاكتفاء بها لإقامة جسم.
و الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم ــ و لا شك ــ أبلغ من جرب الضاد، و لكن دورة التأسيس لم تكن تسمح إلا بطرح القضايا المبدئية، و خلع نفسه على سطح المجتمع لإقامة قواعد الإيمان و شعائره، كلما تراخى الصراع الدائر حول مبدء التوحيد و أصل الرسالة. فلم يكن في وسع الرسول ــ و لم في يوم واحد ــ أن يحدث الناس بكنه عقله، و إنما كان يحدثهم بمقدار عقولهم .
فكان في مقدور الإمام أن يقف تحت مظلة القران والرسول، و يعمق المفاهيم الجديدة و يركز المقاييس الجديدة التي أتى بها القران و الرسول.
و وقف الإمام يعمق و يركز ــ في وفرة هائلة ــ الأحكام: ابتداء من أول الدين، و توحيد الله، و صفاته تعالى. و مرورا بفلسفة الرسالات، و تقييم الإسلام و مفاهيمه و أحكامه، و شرح مواقف الرسول، و أبعاد القيادة، و الحقوق المتكافئة بين الأطراف الكونية و البشرية. و انتهاء بوصف السماء، و الأرض، و الطاووس، و النملة، و أشياء كثيرة، و بحوث متنوعة...، لولاها لكان في الإسلام فراغ كبير و غموض شديد.
* * *
و هو عندما يعمل في موضوع ــ إي موضوع: وضيع أو رفيع ــ لا يسرد سردا و لا يجتر اجترارا ــ كما نفعل نحن، أو حتى كما يفعل الفلاسفة و المفكرون ــ و إنما يجسد شيئا حاق به، و يفرغ شحنة ضاق بها. فلا تأخذه كيف شئت و إنما يأخذك كيف شاء، حتى كأنك في مشهد أو محراب لا أمام خطيب أو كتاب.
ثم: التسلسل المنطقي المتين و تولد الأفكار من الأفكار، فكل فكرة نتيجة طبيعية لما قبلها و مقدمة طبيعية لما بعدها. فلا فكرة الا و تمسك بك للتأمل، و لا جملة إلا و تطلك على آفاق تطل على افاق. بدون أي تلكأ، أو تكلف، أو جهاد، أو لهاث...، بل كما ينفجر الفجر، و ينسرح العطر، و تهرب المياه في الأنهار، و تفرز القطوف من الأشجار...
و هذه المقدرة الذكية مظهر لواقع الإمام المعجز في كل ما قال أو كتب، حتى و هو يتناول أعتى الأشياء على القلم و اللسان.
* * *
فاستمع إليه و هو يتحدث عن الدين و عن التوحيد و عن الله:
(( أول الدين معرفته، و كمال معرفته التصديق به، و كمال التصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه: لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة. )).
(( فمن وصف الله ــ سبحانه ــ فقد قرنه، و من قرنه فقد ثناه، و من ثناه فقد جزأه، و من جزأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إليه، و من أشار إليه فقد حده، و من حده فقد عده. و من قال: ( فيم )؟ فقد ضمنه، و من قال: ( علام )؟ فقد أخلى منه. )).
(( كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم. مع كل شئ لا بمقارنة، و غير كل شئ لا بمزايلة. فاعل، لا بمعنى الحركات و الآلة. بصير، إذ لا منظور إليه من خلقه. متوحد، إذ لا سكن يستأنس به و لا يستوحش لفقده . )).
فالأصل الأول للدين هو (معرفة الله ). و لا يمكن معرفة الله إلا بـ ( التصديق )، فمجرد ( التصور ) ليس دينا، و إنما الدين هو الإذعان المطلق. و لا يكمل ( التصديق ) إلا بالإله الواحد، فالتصديق بالآلهة المتعددة بدائي يزول بالتأمل، لأن الإله لو كان متعددا لتناقضوا و علا بعضهم على بعض ففسدت السماوات و الأرض . هكذا.. تنبسط الأفكار الجليلة الماورائية لمدى الإمام، فتتولد و تتناسق بمثل هذه الجزالة و هذا العمق.
و يقول قبل ذلك:
(( ليس لصفته: حد محدود، و لا نعت موجود، و لا وقت معدود، و لا أجل ممدود . )).
فالله ( مطلق ) غير متناه، فلا تطوقه دائرة الأبدية التي طوق بها خلقه، و إنما هو فوق هذه الدائرة و معها و بعدها.
و الوقت هو وليد حركة الأجرام الكونية، فلا يرقى إلى الله. فبالنسبة إلى المقهورين بالزمان يوجد شيئ اسمه ( الأبد )، أما بالنسبة إلى قاهر الزمان فلا يلغي مولدات الزمان إلا و يكون ( الأبد ) قد رحل.
و سئل الإمام عن التوحيد و العدل، فكان الجواب:
(( التوحيد: أن لا تتوهمه، و العدل: أن لا تتهمه . )).
فالصور الذهنية مخلوقة لأصحاب الأذهان، و ليست خالقة لهم. و الإله المتهم، ليس عادلا. أما الله، فهو: خالق الأوهام، و بعيد من الاتهام.
و في كل ما قرأت عن الله، لم أجد جملتين بهذا الجلاء و المضاء: كل جملة تتضمن مدلولا واضحا يرفض أي احتمال، و دليلا مكينا لا يترك مجالا لجدال. و هل يمكن أن يوجد إنسان يتحدث عن صفات الله بمثل هذه السيطرة على التفكير و التعبير؟!
* * *
و يمضي ــ متابعا خطوه ــ في دائرة المعارف التي نهجها لتعميق المفاهيم و تركيز المقاييس الجديدة، و يقف على فلسفة الرسالات، فيلخصها في بندين: ــ
1- إن الله أخذ الميثاق من بني ادم ــ قبل أن ينقلهم إلى هذا العالم ــ على أن الله ربهم، فأعطوا الميثاق من أنفسهم: (( و إذ أخذ ربك من بني ادم ــ من ظهورهم ــ ذريتهم، و أشهدهم على أنفسهم: ( ألست بربكم )؟! قالوا: ( بلى.. شهدنا )... )). و أخذ نفس الميثاق من الأنبياء ــ بصورة أكيدة ــ: (( و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم، و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم. و أخذنا منهم ميثاقا غليظا * )). ثم تمرد بنوا ادم على الميثاق الذي أعطوه من أنفسهم ــ لما انتقلوا إلى هذه الدنيا ــ فكفروا بالله، فبعث الله الأنبياء ليطلبوا من بني ادم العمل بذلك الميثاق.
2- إن الله أرسل إلى كل إنسان رسولا هو ضميره، و هذا الرسول يقول للإنسان كلشئ، يقول: هذا.. حق، و ذاك.. باطل، و لماذا فعلت الشر و تركت الخير؟؟!! ففي بعض الحديث: (( إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، و حجة باطنة. فأما الظاهرة: فالرسل و الأنبياء و الأئمة عليهم السلام ، و أما الباطنة: فالعقول . )). و محكمة الضمير تبقى مفتوحة ليل نهار، و تدأب في أعمالها و إصدار أحكامها حتى في حالات النوم، فتصور الأحكام بالأحلام. و لكن الضمير قد يضعف بكثرة تسفيهه و تقريعه، و قد يدفن تحت ركام من الشهوات و العادات، فأرسل الله الأنبياء لتحرير الضمائر المكبلة، و تفجير الضمائر المهلهلة:
(( و اصطفى ــ سبحانه ــ من ولده ( آدم عليه السلام ) أنبياء: أخذ على الوحي ميثاقهم، و على تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم... فبعث فيهم رسله، و واتر إليهم أنبيائه، ليستأدوهم ميثاق فطرته... و يثيروا لهم دفائن العقول... )).
فالأنبياء ما جائوا ليناقضوا الإنسان، و إنما جائوا ليشجعوه على الالتحاق بواقعه، و يفجروا طاقاته الدفينة تحت انقاص التخلف و الإجرام. أو لم يفسر القران فلسفة بعثة الرسول بقوله: ((...و يضع عنهم إصرهم، و الأغلال التي كانت عليهم... )).
* * *
من هنا.. من مصدر الوجود و مبعث الرسالات، يبدأ الإمام في فلسفة الوجود. و لا يحاول ــ مطلقا ــ أن يفبرك فلسفة مستقلة، و إنما يتابع الرحلة التي صدح بها القران منذ بدء القران رحلته إلى الأرض إلى أن بلغ ختامه، و يواكب سير الرسالة منذ أن دثر الله رسوله بالوحي إلى أن خلع الحياة. و إن كان ــ في بعض الأحيان ــ يبدو أنه ينسج من جديد، و لكن ــ لدى التحقيق و المقارنة ــ يظهر أنه يستقي من: الضمير القرآني المجيد، و العمق الرسالي الرشيد. و إن يكن ــ هناك ــ أي زهوق أو مروق، ففلسفة الوجود واحدة: عبر عنها القران بأسلوبه الدستوري، و عبر عنها الرسول بأسلوبه التأسيسي، و عبر عنها الإمام بأسلوبه التركيزي. أما سائر الفلسفات الآخر: فإنها تعاني من التخلف أو التجاوز، و في كلتا الحالتين لا تطابق بينها و بين الواقع.
و فلسفة الوجود الصحيحة ــ التي عبر عنها الإمام ـ هي التي انبثقت عن الله، و لكنها ما انفصلت عنه بالمزايلة ــ حسب تعبير الإمام ــ. فكل شيء ــ مهما كان صغيرا أو كبيراــ جزء من الكون، إندفع إلى الوجود وفق فلسفته العامة، فهو يعطي للحياة و يأخذ من الحياة. فلا ينظر إليه باعتبار حجمه، و إنما ينظر إليه باعتباره طرفا متعاملا مع الكل، فله احترام الكل. أو لم يقل القران: (( ...من قتل نفسا ـ بغير نفس، أو فساد في الأرض ـ فكأنما قتل الناس جميعا، و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . ))؟!
فقوة الوجود تمنح لكل صغير نصيبه من الرعاية بنفس الاهتمام الذي تعطي به نصيب الكبير: فللنبتة الزاحفة من الاهتمام بقدر ما للدوح العتي، و لصغار الحشرات و زغب الطيور ما لسباع الصحراء و نسور الفضاء... أو ليس الله (( أعطى كل شيء خلقه، ثم هدى * )) و (( أتقن كل شيء . ))؟!...
و أقل حق يوفر على المخلوق ــ و خاصة: إذا كان ذا حياة ــ أن يوفر له حق الحياة، فلا ينازع في ما يمسك عليه حياته، فـ: (( لكل ذي رمق قوت )) و (( لكل حبة آكل ))...
و عندما تكون الجناية على ضعيف لا يقاوم، و عندما تكون الجناية من أجل شيء بخس لا يغري، تنقلب الجناية الصغيرة خيانة عظمى، لأنها تشويه لعدالة الله في الوجود، و اعتداء على العدالة الكونية: (( و الله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها لب شعيرة، ما فعلت. )).
فلا يؤخذ الكون بعين الشاعر التي تظهره في وحدة وجودية، و لا يؤخذ بمعمل العالم الذي يجزء كل شيء و يفرده لتكبيله و تحليله، و إنما يؤخذ الكون ــ كما هو ــ أجزاء متباينة متعاونة. فعناصره المختلفة مترابطة مع بعضها، و لبعضها على البعض حقوق متكافئة: فإذا كانت الشمس تمنح الوجود دفأ، فهي تأخذ منه ما يعوض استهلاكها، فلا يصغر حجمها. و إذا كان البحر يرطب الجو غيوما، فهو يسترجع روافده عيونا و أنهارا، فلا ينضب. و إذا أخذت الوردة من الهواء و النور، فهي تدفع إليهما من عطرها و لونها بمقدار ما أخذت منهما...، فـ ( بالحق قامت السماوات و الأرض ) ــ قال الإمام ــ. و لكل شيء دور لا بد له من القيام به، و إلا كان ميتا استهلكته الأحياء بسرعة كبيرة، في عمليات التطهير الدائبة في الكون.
و بين البشر ــ الذين هم من عناصر هذا الكون ــ نفس الحقوق المتكافئة بين جميع عناصره، القائمة على وحدة هي ( الحق ):
(( ثم جعل ــ من حقوقه ــ حقوقا لبعض الناس على بعض. فجعلها تتكافأ في وجوهها، و يوجب بعضها بعضا، و لا يستوجب بعضها إلا ببعض. )).
فمن يعطي من نفسه الحق يأخذ الحق من نفوس الآخرين، و من يرفض الاعتراف بحقوق الآخرين لا يكون له في الحق من نصيب. و من أخذ أكثر مما أعطى فهو ظالم، و من دفع أكثر مما أخذ فهو مظلوم. فإذا تزاحمت النعم على فرد فهو لم يجمعها بقدرة قادر، و إنما هي حصيلة عناصر أخرى بشرية و غير بشرية. فعليه أن يرتفع ــ في تعامله مع سائر عناصر الكون ــ إلى ذلك المستوى، و إلا انسحبت عناصر الكون عن التعامل معه إلى مقدار تعامله معها:
من قبض يده عن الناس، قبض عنهم يدا واحدة و قبضت عنه أيد كثيرة. )). و إذا قبضت عنه أيد كثيرة، يبقى وحيدا لا يجيد إلا القليل.
(( من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه: فمن قام لله فيها بما يجب عرضها للدوام و البقاء، و من لم يقم فيها بما يجب عرضها للزوال و الفناء . )).
فعدالة الله جارية في نواميس الكون، و هي ( الحق ) الذي به قامت السماوات والأرض، و لا يحيد عنه شيء إلا لينهار هو و يستهلك في غيره.
* * *
الناس لا يوجهون طاقتهم القتالية إلى الأموات، و لا يضربونها حتى بالحجارة، لأنهم بحاجة إلى طاقتهم و جهدهم، فلا يوجهونها إلا إلى من يخافون منه، و هم لا يخافون من الأموات. فلا يهدرون شيئا من طاقتهم و جهدهم إلى هدمها، و إنما يتركون الأموات يهدمها الزمان و يأكلها التراب.
و لكنهم يحاربون العمالقه بعد موتهم، لأن العمالقة لا يموتون، و إنما يعيشـــون ــ بعد غيابهم في التراب ــ حقبا مختلفة، يثيرون الهلع و الفزع في قلوب الأقزام.
و الإمام من العمالقة الذين ما ماتوا، و إنما استمروا يحركون الحياة و هم راقدون مع الأموات.
لقد استشهد الإمام في المحراب، و دفن ليلا ــ لا يحمل جثمانه إلا اثنان من أبنائه ــ كما يدفن الغرباء، رغم أنه خليفة المسلمين. و بقي الناس يرهبونه، و ( الخوارج ) ينبشون القبور في ظهر ( الكوفة ) بحثا عن جثمانه، خشية أن تعود إليه الروح. و جندوا كل أجهزة العالم الإسلامي للتشكيك: في كفاءته كخليفة، و في سعته كإمام، و في إنسانيته و إسلامه... و اتهموه بكل التهم المتوفرة في مختلف عصورهم، فلم تنجح في اقتلاعه من قلوب البشر ــ مسلمين و غير مسلمين ــ الذين: عرفوه بشرا بين الخالق و المخلوق، و عرفوا كلامه فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق. ثم نهض من تحت كل هذا الركام من الأنقاض، يقود الناس.
عجيب أمر هذا العملاق الذي يرفض أن يموت!
لقد ظهر ان سيل النار الذي يتدفق نحوه ــ على امتداد أربعة عشر قرنا ــ لإحراقه، ينصب في دمائه، ليزيد في مقدرته على قيادة البشر، و تجاوز كل الحواجز التي تفصل بين الأمم.
* * *
عاطفة الإمام الحادة ما طافت فوقه كالطوفان، و إنما كان عقله الجبار ينظم عاطفته، فهي تجيش و لا تجرف و لا تغرق.
عينه على كل حركة، و سمعه على كل همسة: فلا يسمع أنينا إلا خف بالنجدة، و لا سئوالا إلا سارع بالجواب، و لا عثرة إلا بادر بالهدى يتتبع آلام الناس فيفندها، و جراحاتهم فيضمدها، و مشاكلهم فيضع لها حلا بليغا.
في قلبه إيمان يخصب الأفئدة، و في عينيه أسى عذب يتوهج كلما رأى العذاب في العيون، و على جبهته السموح نفار عزم رشيد.
و يسير ــ على الزمان ــ مكدودا، تمر ساعاته ــ كالدهور ــ بطيئة مثقلة بالمتاعب و المصاعب، فقد سلطت الدنيا عليه الأضغان و الأحقاد بكل وسائل التعذيب و الاضطهاد:
فهذا.. يعذب حتى تفيض روحه، و ذاك.. يعذب و أقصى أمانيه أن تفيض روحه و لا تفيض، و هو لا يملك أن يدرء، فحوله أنصار كالأعداء. فيغضب، و لا بد من الغضب.
* * *
الأديب يتصور، و لا يهمه أن يصور تصويرا جميلا. بينما الإمام يكرس الواقع في تصوير جميل، ثم يفرغ الواقع و الصورة في ما يهدي و يرشد. فالأدب ليس ترفا و الواقع ليس قرفا، إنما هما جزءان من الوجود لتكميل الجزء الثالث الذي هو الإنسان.
* * *
كان للإمام من روعة الأدب الجاهلي و سحر الواقع الإسلامي، ما حدا ببعضهم إلى أن يقول ــ في كلامه ــ: (( فوق كلام المخلوق، و دون كلام الخالق. )). فقد نشأ في المحيط الذي تصفو فيه الفطرة، و عايش أحكم الناس الرسول، و تلقى رسالته قبل أن يجري عليها نفس، بالإضافة إلى مواهبه العظيمة. فتلاقت: الفطرة، و التوجيه، و البيئة.
* * *
الإمام ذلك الإنسان الشامل، الذي وظف البحث و الوصف للتعبير عن فلسفة الوجود: فيتحدث عن أحوال الدنيا و شئون الناس، و يعرف البرق و الرعد، و يوجه إلى خفايا النمل و الخفاش، و يقنن الأخلاق، و يصوغ النظم... أو ليس كل شيء وجد لحكمة، و الله أتقن كل شيء، و له في كل شيء آية، لا فرق بين صغير و كبير؟! فالكل مضموم برباط، طرفاه الأزل و الأبد.
* * *
الفلاسفة يحولون الواقع الملموس بالمشاعر، إلى فلسفة لا تلمس إلا بالأفكار. و القادة يحولون الفلسفة التي لا تلمس إلا بالأفكار إلى واقع ملموس بالمشاعر، ثم يوظفونه في تحريك الجماهير في الطريق الذي يشقونه لها، نحو الهدف الذي يحددونه لها. فالجماهير لا تسير خلف الكلام، و لكن الفلاسفة و الجماهير معا يسيرون خلف الواقع. فالقــــــــائد ــ دائما ــ أمام الفيلسوف.
و الإمام استطاع أن يحتضن الأفكار المجهضة، و يربيها، و يجعلها خلقا حيا يسير بين الأحياء و يحرك الأحياء. فكان ذلك القائد الذي يحلق في الأعالي ـ كموكب ملائكي، كقاعدة النور... ــ يغير و يطور. و أجيال الفلاسفة يقبعون في كل زاوية و منعطف، في انتظار: أية لفتة أو كلمة، و أية نبضة فكر أو فتكة سيف... ليجتمعوا حولها: فيفسروها، و يكبروها، و يبنوا بها شخصياتهم الفلسفية.
* * *
يرى الإمام، فيشعر، فيعبر بمقدار الموقف. فيجمع لديه الصدق، بالموافقة لمقتضى الحال، اجتماعا عفويا. فيسجع بمقدار ما في الموقف من سجع، و يصنع بمقدار ما في الموقف من صنعة. فيكون ــ مع المنافقين، و المنتفخين على حساب المستضعفين و أصحاب الحقوق المهدورة ــ ثائرا هادرا، يصعق: فتنخلع القلوب، و تزيغ الأبصار. و يبدو كل شيء ــ أمامه ــ هينا تافها: (( ما هي إلا الكوفة، أقبضها و أبسطها. ))، حتى كأنك أمام: البركان إذ يتفجر، و الزلزال إذ يدمر، أو أي مظهر من مظاهر الطبيعة لا يطال، فما لك إلا أن تعترف و تخشع. و يميز أسلوبه ــ في مثل هذا الموقف ــ بالتكرار بغية الإقرار، و باستخدام المترادفات من الكلمات، و تهويل التعبير، لمزيد من التأثير. و ينتقل من: استعظام، إلى استفهام، إلى إخبار، إلى إنكار...
* * *
و إذا كان ( نهج البلاغة ) بعض التعبير الشفوي من قشرة حياة الإمام، فما هو عمق حياة الإمام؟ إنه ( الإمامة ) بمعناها الدقيق العميق.
و إذا كان ما وصل إلينا بعض ما كان بينه و بين الناس، فما كان بينه و بين الرسول أروع، و ما كان بينه و بين الله أوسع و أجمع.
* * *
و كما تبكر الغزلان إلى الماء، لتنال ريا يساعدها على رقصة الصحراء. و كما تقذف أعالي الصخور ما في ثقوبها من الطيور ــ مع ذرات النور ــ إلى السهول، لتلتقط زادها على مسح الفضاء. و كما ترمي البحار ما على ظهورها من السفن إلى الضفاف، لتأخذ قسطها من الاطمئنان و النشاط على مناورة الأمواج...، كتلك: يكون الإنسان عند ما يقترب من ( نهج البلاغة )، لـ: ينهل من نميره العذب، و يتزود من عطائه السخي، و يستلهم منه الاطمئنان و النشاط على الإبحار في محيط الحياة.
* * *
و لا أريد أن أسبق الكتاب إلى مواضع المتعة فيه: فالبحر هو البحر أجئته حينما تنزو موجاته على شرفة الشمس مع الصباح، أو حينما يسجو على صفحاته الليل. و نور الشمس هو نور الشمس، من أي جانب تأخذه... و لكن قد يرتفع الإنسان إلى قمته، فيفهم بعض شيء من كلام الإمام، فيتباهى بأنه فهم هذا الشيء. و كفاه عبقرية و شرفا.
خط الشهيد الشعري
في كل يوم جائنا ( مستورد )
لمبادئ فشلت بكل نظــــــــام
فكأننا شعب بدون قيـــــادة
كي نستعيد قيادة الأقـــــــزام
أو ما دروا: أن العراق بدينــه
و بشعبه و بجيشه المقــــــدام
خير من (الشرق) الكفور و كل ما
في (الغرب) من إفك و من إجرام؟!
إسلامنا شرع الحياة، و نهجها
(نهج البلاغة) منهل الأحكـــام
و عراقنا مهد الحضارة و التقـى
و العلم و الأمجاد و الإســـلام
إسلامنا أمل الشعوب و مجدهــا
و منارها في حالك الأيـــــام
إسلامنا فوق الميول فلم تجــد
فيه المبادئ موطئ الأقــدام
* * *
قم و انشر المجد التليد السامي
و على هدى (القران) سر بسلام
في موكب (التوحيد) تحت زعامة
(علوية) الأفكار و الأحكــــام
فالشعب لا يحميه غير قيادة الـ
إسلام، خير قيادة و إمــــام
و الحكم منهار إذا لم يتخذ
دستوره من خالق عـــــــــلام
و الكفر أفيون الشعوب، و ديننا
أمل الشعوب و فوق كل نظــــام
* * *
قم ثائرا للدين، و افتح أعينا
عاشت و ماتت في عمى و ظلام
حسبوا التقدم رفض كل شريعة
و الكفر و الإلحاد خير مــرام
قد لطخوا كرة التراب، و روعوا
حتى الجنين بأبشع الإجـــــــــرام
في كل شبر للرجال مجــــــازر
و بكل دار صرخة الأيتــــــــــام
لا يخدعنكم ( السلام ) فإنــــــــه
حرب على الأوطان و الحكـــــام
قالوا: السلام شعارنا، و شعارهم
جر الحبال و مثلة الأجســـــــام
و تهكموا بمحمد و كتابــــــــــــه
و استهتروا بالله و الإســــــلام
* * *
حاشاك أن تسمو إليك سماء
أنت الفضاء و ما سواك هبــاء
و متى يحلق نحوك العظماء؟!
و السر أنت و غيرك الأسمــاء
أو لست (ساقي الحوض) أنت، و ( قاسم الـ
جنات و النيران) كيف تشــــاء
و بأمره: الأرحام، و الأرواح، و الـ
أرزاق، و الغبراء، و الخضــراء
و بكفه تتصرف الأجــــــــواء
فكأنه فوق الفضاء فضــــاء؟!
أعداؤه عبدوه لا أبنــــــــــاؤه
(و الفضل ما شهدت به الأعداء)
* * *
يا من له الآيات و الأحكام
و له قلوب العالمين مقــــام!
أنت (الصراط المستقيم)، و انك (الـ
نبأ العظيم)، و انك العــــــــــــــــلام
قد أعلن المختار ـ يوم الدارـ: ان
وصيي الكرار، و هو غــــــلام
و بيوم ( خم ) قد علا و بكفه
أعلى عليا، و انبرى الإلهــام:
(من كنت مولاه فهذا حيدر
مولاه) و هو لمن سواه إمــام
(و أنا المدينة للعلوم و بابها
الكرار) و هو القائد المقــدام
* * *
أمل الشعوب و مجدها (الإسلام)
و سواه كفر زائف و ظـــــــلام
فدع ( المبادئ ) كلها في معزل
إن المبادئ كلها هـــــــــــــــدام
و اعمل لتطبيق (الكتاب) مجاهدا
إن العقيدة مصحف و حسام
و اسحق جباه الملحدين مرددا:
(لا السجن يرهبني، و لا الإعدام)
والصلاة و السلام على أشرف الخلق أجمعين، محمد و آله الطيبين الطاهرين المعصومين المظلومين.
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
بمناسبة مرور 26 عاما على استشهاد سماحة آية الله الإمام السيد حسن الشيرازي قدس سره على أيدي البعثيين الملاحدة و النواصب في بيروت، أحببت أن أضع بين أيديكم كتابا له تحت عنوان:
نهج البلاغة
ميناء الإنسانية المعذبة
ميناء الإنسانية المعذبة
بحث ينشر لأول مرة، بمناسبة الذكرى
السابعة عشرة للشهادة: 16 - 6 - 1400
السابعة عشرة للشهادة: 16 - 6 - 1400
* ولد في (النجف الأشرف) حيث مثوى أمير المؤمنين عليه السلام عام 1354.
* نشأ في (كربلاء المقدسة) حيث مرقد سيد الشهداء عليه السلام.
* تربى في كنف والده المرحوم آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي رضوان الله تعالى عليه و تحت رعاية أخيه آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي دام ظله.
* ينتمي إلى (بيت) عرف بـ: التقوى، و العلم، و الجهاد، و المرجعية، و الأخلاق الفاضلة، و هداية الناس... مطلع شموس و أقمار و نجوم ذات أضواء و أنوار: المجدد الشيرازي و (ثورة التنباك)، و الشيخ محمد تقي الشيرازي و (ثورة العشرين)...
* ورد (الحوزة العلمية) فور صدوره عن (الكتّاب)، و تخرج منها حائزا على درجة (الاجتهاد)، و مارس مهام الرجل الحوزوي: التدريس، التأليف، نشر المقالات و القصائد...
* شاعر المهرجانات، و خطيب الاحتفالات، و بصورة خاصة: المهرجانات الدولية المنعقدة بمناسبة ميلاد أمير المؤمنين عليه السلام في (كربلاء المقدسة).
* مفكر إسلامي كبير، و محقق علمي قدير، تأتي في طليعة نتاجه الفكري: سلسلة (الكلمة)، و خواطري عن القرآن، و حديث رمضان، و العمل الأدبي... دع عنك مخطوطاته التي لم تر النور بعد.
* قاوم الحكم الجائر، على تنوع الأنظمة المتعاقبة على العراق: نوري السعيد و حلف بغداد و بهجت عطية، عبد الكريم قاسم و الشيوعيين و قانون الأحوال الشخصية، عبد السلام عارف و القومية، البكر و صدام و البعثية... و كان أول رجل دين كبير يعتقل و يعذب و يسجن – عام 1389 – في موجة استنكار عالمية.
* هاجر إلى سوريا و لبنان عام 1390 كأول رجل دين كبير يهاجر في سبيل الله تعالى. و انطلق يخدم الإسلام بشتى صنوف النشاطات: إلقاء المحاضرات، توزيع الكتب المجانية، سفرات تبليغية و تفقدية، زرع المبلغين في القارة الإفريقية، إرسال رجال الدين إلى البلاد في المواسم الدينية، تأسيس (جماعة العلماء) عام 1397، تأسيس (مدرسة الإمام المهدي عجل الله فرجه الدينية)، نفض غبار الاتهام و البهتان عن (العلويين)، تأسيس (دار الصادق) للتأليف و النشر و التوزيع...
* بذل أقصى جهده في إنهاء الحرب اللبنانية – اللبنانية.
* دأب على أداء (العمرة و الحج) سنويا، على رأس (بعثة الإمام الشيرازي الدينية). و هناك: كان ينهك نفسه في العبادة و الإرشاد و الاتصال بمختلف الشخصيات الإسلامية...
* قام بمحاولات مستمرة جادة متنوعة في سبيل تعمير (مراقد الأئمة الأطهار عليهم السلام) بالمدينة المنورة. و لكنها لم تثمر بسبب من: تعجرف بعض العلماء الوهابيين، و معاكسة بعض السياسيين العراقيين، و تغاير بعض العلماء المسلمين الحاسدين.
* كان يكثر الاتصال برجال الحكومات (ملوك، رؤساء، رؤساء وزراء، وزراء...) لأخذ ما يمكن أخذه منهم في سبيل نشر الإسلام و تقوية المسلمين، من دون أن يأخذ منهم حتى فلسا واحدا. و كان لا يعطيهم من دينه شيئا أبدا، مما دفع ببعض الحكوميين إلى استشعار الضيق به أحيانا و ببعض وعاظ السلاطين إلى إحساس الحسد منه أحايين.
* عرف بمساندته للثورة الإيرانية منذ بداياتها و أيام غربتها بعزم لا فتور فيه، حين كان الآخرون يحاربونها بصورة لا هوادة فيها. و حينما نجحت ألقت النقاب عنها و تعرت فتوقف عن مساندتها و تحامى عنها، بينما إبتدء الآخرون يقلبون الصفحة و يقبلون عليها. و كفى بذلك فخرا لمن ساند أيام الغربة للحق، و تحامى أيام العزة للحق كذلك. و كفى بذلك نذلا لمن عادى أيام الغربة للمادة، و والى أيام العزة للمادة كذلك.
* عرفت جولاته الإرشادية و التفقدية كل من: الجزيرة العربية، و مصر، و سوريا، و لبنان، و الكويت، و البحرين، و إيران، و فرنسا، و سيراليون، و ساحل العاج...
* شجب – بكل ما أوتي من قوة – التيارات الاستعمارية في البلاد الإسلامية: إسرائيل في فلسطين، الشاهنشاهية في إيران، كامب ديفيد في مصر، الأحزاب المنحرفة...
* أسس (الحوزة العلمية) في (السيدة زينب) بسوريا عام 1393، إقتدائا بأسلافه العلماء العظماء الذين أسسوا (الحوزات العلمية) في (البلاد المقدسة): الشيخ الطوسي و (حوزة النجف الأشرف)، المجدد الشيرازي و (حوزة سامراء المقدسة)، الشيخ عبد الكريم الحائري و (حوزة قم المشرفة)... و تولى – بنفسه – تدريس (الخارج = أرقى الدروس الإسلامية) في الحوزة الفتية.
* لم يخف في الله لومة لائم، و أدى ضريبة ذلك بصورة غريبة: الحرمان، و الحصار، و المقاطعة، و المحاربة... و لكن كان الله في عونه حيا و ميتا، فهو الآن (غائب) بجسمه (حاضر) بفكره و كتبه و مشاريعه و تلامذته... كأشد ما يكون الحاضرون.
* لم يجر في ميدان واحد من ميادين الخير بل كان رجل الميادين بقدر ما يستطيع، و كان يحب هداية الناس إلى درجة العشق، و كان متواضعا بحيث ربما يتجرأ عليه حتى الحقير، و كان زاهدا لم يخلف – حين رحل – عقارا و لا مالا و لا نقودا... بل ديونا أثقلت كاهل من تولوا أموره بعده.
* و أخيرا.. توج – من قبل الله تبارك و تعالى – بـ (الشهادة)، إذ خر صريعا برصاصات (البعث الكافر) في بيروت – لبنان، يوم السادس عشر من جمادى الثانية عام ألف و أربعمائة لهجرة جده الأكرم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم = 16 / 6 / 1400. فسلام عليه: يوم ولد، و يوم جاهد، و يوم استشهد، و يوم يبعث حيا... الفاتحة
المنسق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على آلائه و نعمائه، و الصلاة على محمد و آله، و لعنة الله على أعدائهم أعدائه.
قبل أكثر من ألف عام، عندما قدم (الشريف الرضي رضوان الله تعالى عليه) هذه الكلمات إلى الرأي العام كتابا بين دفتين، اختلف حولها ناس كثيرون، و لا يزالون فيها يختلفون.
و مهما تناقضت الدوافع و النتائج، فالذي لا يتناقض فيه المختلفون هو: المدى التصاعدي الذي أحدثه هذا الكتاب في الفكر الإنساني، و لمّا يزل اخذا في التصاعد دون أن يبلغ مداه.
أو لا يكفي أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ــ بجميع أضوائه و آفاقه التي تتجاوز كل الأساطير مجتمعة ــ لا يذكر إلا و يذكر معه هذا الكتاب، أو شيء من هذا الكتاب؟!
* * *
لقد تموج المقطع الأخير من السنين من عمر التاريخ بأمجاد و فتوحات واسعة و حادة، كانت ــ بالنسبة إلى الأولين ــ أحلاما تذهل من فرط خيالها الأحلام، و لا زالـــــت ــ بالنسبة إلى المعاصرين ــ أشبه بأساطير الأولين. و في هذا الطوفان العارم من غليان التاريخ: لم يتصل بنا ــ من الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام ــ إلا نفر معدود بالأصابع نعدهم في الغابرين، و ثبت أنهم أجدر منا بقيادتنا في نهاية القرن العشرين كما كانوا أجدر بقيادة آبائنا من قبل، و لا زال بعد هم الواقعي أمامنا أكثر من بعد هم التاريخي ورائنا، واحد هؤلاء الإمام. و لم يتصل بمناهلنا ــ من منابع الماضين ــ إلا روافد معدودة بالأصابع كذلك لم تتسنه، أحدها: ( نهج البلاغة ).
* * *
إن كل شيء في عالم المادة ــ ابتداء من الذرة و ما هو أصغر من الذرة، و انتهاء بالسديم و ما هو أكبر من السديم ــ يتحرك تحركا دوريا، و في كل دورة يفرغ طاقة و يجمع طاقة. و كل شيء في عالم المعنى يتحرك تحركا دوريا كذلك. للانسجام الكامل بين المادة و المعنى، قد تختلف الدوائر و لكنها تبقى دوائر. و الإنسانية ــ كشيء ــ تتحرك التحرك ذاته: فمحطة المستقبل هي قاعدة الماضي، و نقطة المحطة ــ القاعدة هي نقطة اللا أمام و اللا وراء، و هي نقطة سقوط الماضي و المستقبل.
و هذا.. هو سر رحلة الإنسانية نحو ( نهج البلاغة ) باعتباره كتاب حياة، بعد رحلتها عن ( نهج البلاغة ) باعتباره كتاب تراث. لأن ( نهج البلاغة ) من نقاط التقاء الماضي بالمستقبل، فهو من المأثور المسطور الذي وفد إلينا من وراء أربعة عشر قرنا. و لكن لا يمكن أن يعيش عليه ضباب القدم، لأنه ــ كالفجر، كالربيع، كنجوم الأبد... ــ يزرع الضوء في الطرق الملغمة بالهوى و آلهوان. إنه كالكون: قديم بإطاره، و جديد بما تكتشف فيه من أفكار و تدجن منه من طاقات.
* * *
أنا.. لا أعلم كم ــ بالضبط ــ كان مدى صوت الإمـــــــام، و لكني أسمع صوته ــ بوضوح ــ يشجع ضمير الإنسان على الانتشار و تغطية كل تصرفاته.
و أنا.. لا أعلم كم ــ بالضبط ــ كان حجم قلب الإمام، و لكني ألمسه ـ بوضوح ــ يضخ الحياة في شرايين الخانعين.
و أنا.. لا أعلم كم ــ بالضبط ــ كان مدى سيف الإمـــــــــــــام، و لكني اشاهده ــ بوضوح ــ يلف رقاب الظالمين.
و أنا.. لا أعلم ما هو ــ بالضبط ــ سر ( نهج البلاغة )، و لكني لا تغزوني سكرة الهموم إلا و أجدني أرفأ إليه، فيغسل عني الويلات، تماما.. كما كان المعذبون يلجأون إلى الإمام، فيمسح عنهم الرهق، و يفرغ عليهم صحوة الأمان.
إذن: فـ ( نهج البلاغة ) جزء من الإمام، و جناح من أجنحته العريضة: يمنح الدفء للمتجمد من الجهل، و يفرش الظل للمحترقين بالظلم. صحيح: إنه يحتمل الصدمات بمقدار ما يحمي، و لكنه الفداء المستمر، الذي يعيش بخلوده لا بوجوده. فإذا استطاع ( أن لا يقار على كظة ظالم أو سغب مظلوم )، فلا يهمه ( أوقع على الموت أو وقع الموت عليه ). بل يفضل أن يقع ــ هو ــ على الموت، فيضع حدا لحياته بموت يحيي أموات الأحياء، فـ ( ألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على فراش ) قال هو عليه السلام.
و لـولا أن الإمام أبى إلا أن يكون الفداء المستمر: لكان ( أدهـــــــــــــــى العرب ) ــ كما قال ــ، و لعرف ( فيم علاجهم ) ــ كما قال ــ، و لاهتدى (( الطريق إلى مصفى هذا العسل، و لباب هذا القمع، و نسائج هذا القز . ))، و لاستطاع ــ أخيرا ــ أن يكون إمبراطور العرب بل العالم. و لكنه لم يستطع ــ عندئذ ــ أن يكون ( أمير المؤمنين ) و (سيد الوصيين)... و هل يرضى القلب الكبير و العقل العظيم أن يلخص اهتمام (العالم الأكبر )) في ( سجن المؤمن )، و يختصره (( بين نثيله و معتلفه ))؟! لقد رضي الإمام (( من دنياه بطمريه، و من طعمه بقرصيه ))، ليقيم الحق و يدفع الباطل، و ليكون مقاس الحق الذي يدور معه كيفما دار.
* * *
لكل ذلك: الحياة تطارد الإنسان نحو مصادره الأصيلة، ليقتبس منها وسيلة جديدة لفتح طريق لم يعركه صدام أو خصام. فالتدافع الاجتماعي يمتص الإنسان و يستهلك وقوده، فإذا أصبح هشا ينفيه عن الصميم إلى المخابئ و المجاهل مع النفايات: كما تكتسح الأمواج إلى الساحل ما لا يستطيع الغوص في اللجج، و كما يدفع البدن زوائده من شبكة الجلد... فلا بد من موانئ يرفأ إليها الإنسان كلما أضناه الرهق، ليستمد منها الطاقة على استعادة التجربة.
و موانئ الإنسانية عديدة، و لكن ــ لعل ــ ( نهج البلاغة ) ثاني أعظم ميناء للطاقة الإنسانية، يتساقط إليها المتعبون، فإذا نفخ فيهم نشطوا نحو الأجواء العالية لمزاحمة السحاب.
فالقرآن الكريم ــ و لا شك ــ أغنى رصيد للإنسانية، و قد نظر إلى الكون و الحياة و الإنسان باستيعاب مركز و عمق معجز. و لكنه ألقى عليها نظرة تطل من ارتفاع شاهق، فتستجلي كل شيء، متجاوزا عقبات الطبيعة و حواجز البشر. فأعطى درسا دستوريا مكثفا، بعيد الآفاق و الأعماق. فكان كخلاصة الفيتامينات: لا يمكن تناولها في جرعة، و لا يمكن الاكتفاء بها لإقامة جسم.
و الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم ــ و لا شك ــ أبلغ من جرب الضاد، و لكن دورة التأسيس لم تكن تسمح إلا بطرح القضايا المبدئية، و خلع نفسه على سطح المجتمع لإقامة قواعد الإيمان و شعائره، كلما تراخى الصراع الدائر حول مبدء التوحيد و أصل الرسالة. فلم يكن في وسع الرسول ــ و لم في يوم واحد ــ أن يحدث الناس بكنه عقله، و إنما كان يحدثهم بمقدار عقولهم .
فكان في مقدور الإمام أن يقف تحت مظلة القران والرسول، و يعمق المفاهيم الجديدة و يركز المقاييس الجديدة التي أتى بها القران و الرسول.
و وقف الإمام يعمق و يركز ــ في وفرة هائلة ــ الأحكام: ابتداء من أول الدين، و توحيد الله، و صفاته تعالى. و مرورا بفلسفة الرسالات، و تقييم الإسلام و مفاهيمه و أحكامه، و شرح مواقف الرسول، و أبعاد القيادة، و الحقوق المتكافئة بين الأطراف الكونية و البشرية. و انتهاء بوصف السماء، و الأرض، و الطاووس، و النملة، و أشياء كثيرة، و بحوث متنوعة...، لولاها لكان في الإسلام فراغ كبير و غموض شديد.
* * *
و هو عندما يعمل في موضوع ــ إي موضوع: وضيع أو رفيع ــ لا يسرد سردا و لا يجتر اجترارا ــ كما نفعل نحن، أو حتى كما يفعل الفلاسفة و المفكرون ــ و إنما يجسد شيئا حاق به، و يفرغ شحنة ضاق بها. فلا تأخذه كيف شئت و إنما يأخذك كيف شاء، حتى كأنك في مشهد أو محراب لا أمام خطيب أو كتاب.
ثم: التسلسل المنطقي المتين و تولد الأفكار من الأفكار، فكل فكرة نتيجة طبيعية لما قبلها و مقدمة طبيعية لما بعدها. فلا فكرة الا و تمسك بك للتأمل، و لا جملة إلا و تطلك على آفاق تطل على افاق. بدون أي تلكأ، أو تكلف، أو جهاد، أو لهاث...، بل كما ينفجر الفجر، و ينسرح العطر، و تهرب المياه في الأنهار، و تفرز القطوف من الأشجار...
و هذه المقدرة الذكية مظهر لواقع الإمام المعجز في كل ما قال أو كتب، حتى و هو يتناول أعتى الأشياء على القلم و اللسان.
* * *
فاستمع إليه و هو يتحدث عن الدين و عن التوحيد و عن الله:
(( أول الدين معرفته، و كمال معرفته التصديق به، و كمال التصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه: لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة. )).
(( فمن وصف الله ــ سبحانه ــ فقد قرنه، و من قرنه فقد ثناه، و من ثناه فقد جزأه، و من جزأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إليه، و من أشار إليه فقد حده، و من حده فقد عده. و من قال: ( فيم )؟ فقد ضمنه، و من قال: ( علام )؟ فقد أخلى منه. )).
(( كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم. مع كل شئ لا بمقارنة، و غير كل شئ لا بمزايلة. فاعل، لا بمعنى الحركات و الآلة. بصير، إذ لا منظور إليه من خلقه. متوحد، إذ لا سكن يستأنس به و لا يستوحش لفقده . )).
فالأصل الأول للدين هو (معرفة الله ). و لا يمكن معرفة الله إلا بـ ( التصديق )، فمجرد ( التصور ) ليس دينا، و إنما الدين هو الإذعان المطلق. و لا يكمل ( التصديق ) إلا بالإله الواحد، فالتصديق بالآلهة المتعددة بدائي يزول بالتأمل، لأن الإله لو كان متعددا لتناقضوا و علا بعضهم على بعض ففسدت السماوات و الأرض . هكذا.. تنبسط الأفكار الجليلة الماورائية لمدى الإمام، فتتولد و تتناسق بمثل هذه الجزالة و هذا العمق.
و يقول قبل ذلك:
(( ليس لصفته: حد محدود، و لا نعت موجود، و لا وقت معدود، و لا أجل ممدود . )).
فالله ( مطلق ) غير متناه، فلا تطوقه دائرة الأبدية التي طوق بها خلقه، و إنما هو فوق هذه الدائرة و معها و بعدها.
و الوقت هو وليد حركة الأجرام الكونية، فلا يرقى إلى الله. فبالنسبة إلى المقهورين بالزمان يوجد شيئ اسمه ( الأبد )، أما بالنسبة إلى قاهر الزمان فلا يلغي مولدات الزمان إلا و يكون ( الأبد ) قد رحل.
و سئل الإمام عن التوحيد و العدل، فكان الجواب:
(( التوحيد: أن لا تتوهمه، و العدل: أن لا تتهمه . )).
فالصور الذهنية مخلوقة لأصحاب الأذهان، و ليست خالقة لهم. و الإله المتهم، ليس عادلا. أما الله، فهو: خالق الأوهام، و بعيد من الاتهام.
و في كل ما قرأت عن الله، لم أجد جملتين بهذا الجلاء و المضاء: كل جملة تتضمن مدلولا واضحا يرفض أي احتمال، و دليلا مكينا لا يترك مجالا لجدال. و هل يمكن أن يوجد إنسان يتحدث عن صفات الله بمثل هذه السيطرة على التفكير و التعبير؟!
* * *
و يمضي ــ متابعا خطوه ــ في دائرة المعارف التي نهجها لتعميق المفاهيم و تركيز المقاييس الجديدة، و يقف على فلسفة الرسالات، فيلخصها في بندين: ــ
1- إن الله أخذ الميثاق من بني ادم ــ قبل أن ينقلهم إلى هذا العالم ــ على أن الله ربهم، فأعطوا الميثاق من أنفسهم: (( و إذ أخذ ربك من بني ادم ــ من ظهورهم ــ ذريتهم، و أشهدهم على أنفسهم: ( ألست بربكم )؟! قالوا: ( بلى.. شهدنا )... )). و أخذ نفس الميثاق من الأنبياء ــ بصورة أكيدة ــ: (( و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم، و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم. و أخذنا منهم ميثاقا غليظا * )). ثم تمرد بنوا ادم على الميثاق الذي أعطوه من أنفسهم ــ لما انتقلوا إلى هذه الدنيا ــ فكفروا بالله، فبعث الله الأنبياء ليطلبوا من بني ادم العمل بذلك الميثاق.
2- إن الله أرسل إلى كل إنسان رسولا هو ضميره، و هذا الرسول يقول للإنسان كلشئ، يقول: هذا.. حق، و ذاك.. باطل، و لماذا فعلت الشر و تركت الخير؟؟!! ففي بعض الحديث: (( إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، و حجة باطنة. فأما الظاهرة: فالرسل و الأنبياء و الأئمة عليهم السلام ، و أما الباطنة: فالعقول . )). و محكمة الضمير تبقى مفتوحة ليل نهار، و تدأب في أعمالها و إصدار أحكامها حتى في حالات النوم، فتصور الأحكام بالأحلام. و لكن الضمير قد يضعف بكثرة تسفيهه و تقريعه، و قد يدفن تحت ركام من الشهوات و العادات، فأرسل الله الأنبياء لتحرير الضمائر المكبلة، و تفجير الضمائر المهلهلة:
(( و اصطفى ــ سبحانه ــ من ولده ( آدم عليه السلام ) أنبياء: أخذ على الوحي ميثاقهم، و على تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم... فبعث فيهم رسله، و واتر إليهم أنبيائه، ليستأدوهم ميثاق فطرته... و يثيروا لهم دفائن العقول... )).
فالأنبياء ما جائوا ليناقضوا الإنسان، و إنما جائوا ليشجعوه على الالتحاق بواقعه، و يفجروا طاقاته الدفينة تحت انقاص التخلف و الإجرام. أو لم يفسر القران فلسفة بعثة الرسول بقوله: ((...و يضع عنهم إصرهم، و الأغلال التي كانت عليهم... )).
* * *
من هنا.. من مصدر الوجود و مبعث الرسالات، يبدأ الإمام في فلسفة الوجود. و لا يحاول ــ مطلقا ــ أن يفبرك فلسفة مستقلة، و إنما يتابع الرحلة التي صدح بها القران منذ بدء القران رحلته إلى الأرض إلى أن بلغ ختامه، و يواكب سير الرسالة منذ أن دثر الله رسوله بالوحي إلى أن خلع الحياة. و إن كان ــ في بعض الأحيان ــ يبدو أنه ينسج من جديد، و لكن ــ لدى التحقيق و المقارنة ــ يظهر أنه يستقي من: الضمير القرآني المجيد، و العمق الرسالي الرشيد. و إن يكن ــ هناك ــ أي زهوق أو مروق، ففلسفة الوجود واحدة: عبر عنها القران بأسلوبه الدستوري، و عبر عنها الرسول بأسلوبه التأسيسي، و عبر عنها الإمام بأسلوبه التركيزي. أما سائر الفلسفات الآخر: فإنها تعاني من التخلف أو التجاوز، و في كلتا الحالتين لا تطابق بينها و بين الواقع.
و فلسفة الوجود الصحيحة ــ التي عبر عنها الإمام ـ هي التي انبثقت عن الله، و لكنها ما انفصلت عنه بالمزايلة ــ حسب تعبير الإمام ــ. فكل شيء ــ مهما كان صغيرا أو كبيراــ جزء من الكون، إندفع إلى الوجود وفق فلسفته العامة، فهو يعطي للحياة و يأخذ من الحياة. فلا ينظر إليه باعتبار حجمه، و إنما ينظر إليه باعتباره طرفا متعاملا مع الكل، فله احترام الكل. أو لم يقل القران: (( ...من قتل نفسا ـ بغير نفس، أو فساد في الأرض ـ فكأنما قتل الناس جميعا، و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . ))؟!
فقوة الوجود تمنح لكل صغير نصيبه من الرعاية بنفس الاهتمام الذي تعطي به نصيب الكبير: فللنبتة الزاحفة من الاهتمام بقدر ما للدوح العتي، و لصغار الحشرات و زغب الطيور ما لسباع الصحراء و نسور الفضاء... أو ليس الله (( أعطى كل شيء خلقه، ثم هدى * )) و (( أتقن كل شيء . ))؟!...
و أقل حق يوفر على المخلوق ــ و خاصة: إذا كان ذا حياة ــ أن يوفر له حق الحياة، فلا ينازع في ما يمسك عليه حياته، فـ: (( لكل ذي رمق قوت )) و (( لكل حبة آكل ))...
و عندما تكون الجناية على ضعيف لا يقاوم، و عندما تكون الجناية من أجل شيء بخس لا يغري، تنقلب الجناية الصغيرة خيانة عظمى، لأنها تشويه لعدالة الله في الوجود، و اعتداء على العدالة الكونية: (( و الله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها لب شعيرة، ما فعلت. )).
فلا يؤخذ الكون بعين الشاعر التي تظهره في وحدة وجودية، و لا يؤخذ بمعمل العالم الذي يجزء كل شيء و يفرده لتكبيله و تحليله، و إنما يؤخذ الكون ــ كما هو ــ أجزاء متباينة متعاونة. فعناصره المختلفة مترابطة مع بعضها، و لبعضها على البعض حقوق متكافئة: فإذا كانت الشمس تمنح الوجود دفأ، فهي تأخذ منه ما يعوض استهلاكها، فلا يصغر حجمها. و إذا كان البحر يرطب الجو غيوما، فهو يسترجع روافده عيونا و أنهارا، فلا ينضب. و إذا أخذت الوردة من الهواء و النور، فهي تدفع إليهما من عطرها و لونها بمقدار ما أخذت منهما...، فـ ( بالحق قامت السماوات و الأرض ) ــ قال الإمام ــ. و لكل شيء دور لا بد له من القيام به، و إلا كان ميتا استهلكته الأحياء بسرعة كبيرة، في عمليات التطهير الدائبة في الكون.
و بين البشر ــ الذين هم من عناصر هذا الكون ــ نفس الحقوق المتكافئة بين جميع عناصره، القائمة على وحدة هي ( الحق ):
(( ثم جعل ــ من حقوقه ــ حقوقا لبعض الناس على بعض. فجعلها تتكافأ في وجوهها، و يوجب بعضها بعضا، و لا يستوجب بعضها إلا ببعض. )).
فمن يعطي من نفسه الحق يأخذ الحق من نفوس الآخرين، و من يرفض الاعتراف بحقوق الآخرين لا يكون له في الحق من نصيب. و من أخذ أكثر مما أعطى فهو ظالم، و من دفع أكثر مما أخذ فهو مظلوم. فإذا تزاحمت النعم على فرد فهو لم يجمعها بقدرة قادر، و إنما هي حصيلة عناصر أخرى بشرية و غير بشرية. فعليه أن يرتفع ــ في تعامله مع سائر عناصر الكون ــ إلى ذلك المستوى، و إلا انسحبت عناصر الكون عن التعامل معه إلى مقدار تعامله معها:
من قبض يده عن الناس، قبض عنهم يدا واحدة و قبضت عنه أيد كثيرة. )). و إذا قبضت عنه أيد كثيرة، يبقى وحيدا لا يجيد إلا القليل.
(( من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه: فمن قام لله فيها بما يجب عرضها للدوام و البقاء، و من لم يقم فيها بما يجب عرضها للزوال و الفناء . )).
فعدالة الله جارية في نواميس الكون، و هي ( الحق ) الذي به قامت السماوات والأرض، و لا يحيد عنه شيء إلا لينهار هو و يستهلك في غيره.
* * *
الناس لا يوجهون طاقتهم القتالية إلى الأموات، و لا يضربونها حتى بالحجارة، لأنهم بحاجة إلى طاقتهم و جهدهم، فلا يوجهونها إلا إلى من يخافون منه، و هم لا يخافون من الأموات. فلا يهدرون شيئا من طاقتهم و جهدهم إلى هدمها، و إنما يتركون الأموات يهدمها الزمان و يأكلها التراب.
و لكنهم يحاربون العمالقه بعد موتهم، لأن العمالقة لا يموتون، و إنما يعيشـــون ــ بعد غيابهم في التراب ــ حقبا مختلفة، يثيرون الهلع و الفزع في قلوب الأقزام.
و الإمام من العمالقة الذين ما ماتوا، و إنما استمروا يحركون الحياة و هم راقدون مع الأموات.
لقد استشهد الإمام في المحراب، و دفن ليلا ــ لا يحمل جثمانه إلا اثنان من أبنائه ــ كما يدفن الغرباء، رغم أنه خليفة المسلمين. و بقي الناس يرهبونه، و ( الخوارج ) ينبشون القبور في ظهر ( الكوفة ) بحثا عن جثمانه، خشية أن تعود إليه الروح. و جندوا كل أجهزة العالم الإسلامي للتشكيك: في كفاءته كخليفة، و في سعته كإمام، و في إنسانيته و إسلامه... و اتهموه بكل التهم المتوفرة في مختلف عصورهم، فلم تنجح في اقتلاعه من قلوب البشر ــ مسلمين و غير مسلمين ــ الذين: عرفوه بشرا بين الخالق و المخلوق، و عرفوا كلامه فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق. ثم نهض من تحت كل هذا الركام من الأنقاض، يقود الناس.
عجيب أمر هذا العملاق الذي يرفض أن يموت!
لقد ظهر ان سيل النار الذي يتدفق نحوه ــ على امتداد أربعة عشر قرنا ــ لإحراقه، ينصب في دمائه، ليزيد في مقدرته على قيادة البشر، و تجاوز كل الحواجز التي تفصل بين الأمم.
* * *
عاطفة الإمام الحادة ما طافت فوقه كالطوفان، و إنما كان عقله الجبار ينظم عاطفته، فهي تجيش و لا تجرف و لا تغرق.
عينه على كل حركة، و سمعه على كل همسة: فلا يسمع أنينا إلا خف بالنجدة، و لا سئوالا إلا سارع بالجواب، و لا عثرة إلا بادر بالهدى يتتبع آلام الناس فيفندها، و جراحاتهم فيضمدها، و مشاكلهم فيضع لها حلا بليغا.
في قلبه إيمان يخصب الأفئدة، و في عينيه أسى عذب يتوهج كلما رأى العذاب في العيون، و على جبهته السموح نفار عزم رشيد.
و يسير ــ على الزمان ــ مكدودا، تمر ساعاته ــ كالدهور ــ بطيئة مثقلة بالمتاعب و المصاعب، فقد سلطت الدنيا عليه الأضغان و الأحقاد بكل وسائل التعذيب و الاضطهاد:
فهذا.. يعذب حتى تفيض روحه، و ذاك.. يعذب و أقصى أمانيه أن تفيض روحه و لا تفيض، و هو لا يملك أن يدرء، فحوله أنصار كالأعداء. فيغضب، و لا بد من الغضب.
* * *
الأديب يتصور، و لا يهمه أن يصور تصويرا جميلا. بينما الإمام يكرس الواقع في تصوير جميل، ثم يفرغ الواقع و الصورة في ما يهدي و يرشد. فالأدب ليس ترفا و الواقع ليس قرفا، إنما هما جزءان من الوجود لتكميل الجزء الثالث الذي هو الإنسان.
* * *
كان للإمام من روعة الأدب الجاهلي و سحر الواقع الإسلامي، ما حدا ببعضهم إلى أن يقول ــ في كلامه ــ: (( فوق كلام المخلوق، و دون كلام الخالق. )). فقد نشأ في المحيط الذي تصفو فيه الفطرة، و عايش أحكم الناس الرسول، و تلقى رسالته قبل أن يجري عليها نفس، بالإضافة إلى مواهبه العظيمة. فتلاقت: الفطرة، و التوجيه، و البيئة.
* * *
الإمام ذلك الإنسان الشامل، الذي وظف البحث و الوصف للتعبير عن فلسفة الوجود: فيتحدث عن أحوال الدنيا و شئون الناس، و يعرف البرق و الرعد، و يوجه إلى خفايا النمل و الخفاش، و يقنن الأخلاق، و يصوغ النظم... أو ليس كل شيء وجد لحكمة، و الله أتقن كل شيء، و له في كل شيء آية، لا فرق بين صغير و كبير؟! فالكل مضموم برباط، طرفاه الأزل و الأبد.
* * *
الفلاسفة يحولون الواقع الملموس بالمشاعر، إلى فلسفة لا تلمس إلا بالأفكار. و القادة يحولون الفلسفة التي لا تلمس إلا بالأفكار إلى واقع ملموس بالمشاعر، ثم يوظفونه في تحريك الجماهير في الطريق الذي يشقونه لها، نحو الهدف الذي يحددونه لها. فالجماهير لا تسير خلف الكلام، و لكن الفلاسفة و الجماهير معا يسيرون خلف الواقع. فالقــــــــائد ــ دائما ــ أمام الفيلسوف.
و الإمام استطاع أن يحتضن الأفكار المجهضة، و يربيها، و يجعلها خلقا حيا يسير بين الأحياء و يحرك الأحياء. فكان ذلك القائد الذي يحلق في الأعالي ـ كموكب ملائكي، كقاعدة النور... ــ يغير و يطور. و أجيال الفلاسفة يقبعون في كل زاوية و منعطف، في انتظار: أية لفتة أو كلمة، و أية نبضة فكر أو فتكة سيف... ليجتمعوا حولها: فيفسروها، و يكبروها، و يبنوا بها شخصياتهم الفلسفية.
* * *
يرى الإمام، فيشعر، فيعبر بمقدار الموقف. فيجمع لديه الصدق، بالموافقة لمقتضى الحال، اجتماعا عفويا. فيسجع بمقدار ما في الموقف من سجع، و يصنع بمقدار ما في الموقف من صنعة. فيكون ــ مع المنافقين، و المنتفخين على حساب المستضعفين و أصحاب الحقوق المهدورة ــ ثائرا هادرا، يصعق: فتنخلع القلوب، و تزيغ الأبصار. و يبدو كل شيء ــ أمامه ــ هينا تافها: (( ما هي إلا الكوفة، أقبضها و أبسطها. ))، حتى كأنك أمام: البركان إذ يتفجر، و الزلزال إذ يدمر، أو أي مظهر من مظاهر الطبيعة لا يطال، فما لك إلا أن تعترف و تخشع. و يميز أسلوبه ــ في مثل هذا الموقف ــ بالتكرار بغية الإقرار، و باستخدام المترادفات من الكلمات، و تهويل التعبير، لمزيد من التأثير. و ينتقل من: استعظام، إلى استفهام، إلى إخبار، إلى إنكار...
* * *
و إذا كان ( نهج البلاغة ) بعض التعبير الشفوي من قشرة حياة الإمام، فما هو عمق حياة الإمام؟ إنه ( الإمامة ) بمعناها الدقيق العميق.
و إذا كان ما وصل إلينا بعض ما كان بينه و بين الناس، فما كان بينه و بين الرسول أروع، و ما كان بينه و بين الله أوسع و أجمع.
* * *
و كما تبكر الغزلان إلى الماء، لتنال ريا يساعدها على رقصة الصحراء. و كما تقذف أعالي الصخور ما في ثقوبها من الطيور ــ مع ذرات النور ــ إلى السهول، لتلتقط زادها على مسح الفضاء. و كما ترمي البحار ما على ظهورها من السفن إلى الضفاف، لتأخذ قسطها من الاطمئنان و النشاط على مناورة الأمواج...، كتلك: يكون الإنسان عند ما يقترب من ( نهج البلاغة )، لـ: ينهل من نميره العذب، و يتزود من عطائه السخي، و يستلهم منه الاطمئنان و النشاط على الإبحار في محيط الحياة.
* * *
و لا أريد أن أسبق الكتاب إلى مواضع المتعة فيه: فالبحر هو البحر أجئته حينما تنزو موجاته على شرفة الشمس مع الصباح، أو حينما يسجو على صفحاته الليل. و نور الشمس هو نور الشمس، من أي جانب تأخذه... و لكن قد يرتفع الإنسان إلى قمته، فيفهم بعض شيء من كلام الإمام، فيتباهى بأنه فهم هذا الشيء. و كفاه عبقرية و شرفا.
خط الشهيد الشعري
في كل يوم جائنا ( مستورد )
لمبادئ فشلت بكل نظــــــــام
فكأننا شعب بدون قيـــــادة
كي نستعيد قيادة الأقـــــــزام
أو ما دروا: أن العراق بدينــه
و بشعبه و بجيشه المقــــــدام
خير من (الشرق) الكفور و كل ما
في (الغرب) من إفك و من إجرام؟!
إسلامنا شرع الحياة، و نهجها
(نهج البلاغة) منهل الأحكـــام
و عراقنا مهد الحضارة و التقـى
و العلم و الأمجاد و الإســـلام
إسلامنا أمل الشعوب و مجدهــا
و منارها في حالك الأيـــــام
إسلامنا فوق الميول فلم تجــد
فيه المبادئ موطئ الأقــدام
* * *
قم و انشر المجد التليد السامي
و على هدى (القران) سر بسلام
في موكب (التوحيد) تحت زعامة
(علوية) الأفكار و الأحكــــام
فالشعب لا يحميه غير قيادة الـ
إسلام، خير قيادة و إمــــام
و الحكم منهار إذا لم يتخذ
دستوره من خالق عـــــــــلام
و الكفر أفيون الشعوب، و ديننا
أمل الشعوب و فوق كل نظــــام
* * *
قم ثائرا للدين، و افتح أعينا
عاشت و ماتت في عمى و ظلام
حسبوا التقدم رفض كل شريعة
و الكفر و الإلحاد خير مــرام
قد لطخوا كرة التراب، و روعوا
حتى الجنين بأبشع الإجـــــــــرام
في كل شبر للرجال مجــــــازر
و بكل دار صرخة الأيتــــــــــام
لا يخدعنكم ( السلام ) فإنــــــــه
حرب على الأوطان و الحكـــــام
قالوا: السلام شعارنا، و شعارهم
جر الحبال و مثلة الأجســـــــام
و تهكموا بمحمد و كتابــــــــــــه
و استهتروا بالله و الإســــــلام
* * *
حاشاك أن تسمو إليك سماء
أنت الفضاء و ما سواك هبــاء
و متى يحلق نحوك العظماء؟!
و السر أنت و غيرك الأسمــاء
أو لست (ساقي الحوض) أنت، و ( قاسم الـ
جنات و النيران) كيف تشــــاء
و بأمره: الأرحام، و الأرواح، و الـ
أرزاق، و الغبراء، و الخضــراء
و بكفه تتصرف الأجــــــــواء
فكأنه فوق الفضاء فضــــاء؟!
أعداؤه عبدوه لا أبنــــــــــاؤه
(و الفضل ما شهدت به الأعداء)
* * *
يا من له الآيات و الأحكام
و له قلوب العالمين مقــــام!
أنت (الصراط المستقيم)، و انك (الـ
نبأ العظيم)، و انك العــــــــــــــــلام
قد أعلن المختار ـ يوم الدارـ: ان
وصيي الكرار، و هو غــــــلام
و بيوم ( خم ) قد علا و بكفه
أعلى عليا، و انبرى الإلهــام:
(من كنت مولاه فهذا حيدر
مولاه) و هو لمن سواه إمــام
(و أنا المدينة للعلوم و بابها
الكرار) و هو القائد المقــدام
* * *
أمل الشعوب و مجدها (الإسلام)
و سواه كفر زائف و ظـــــــلام
فدع ( المبادئ ) كلها في معزل
إن المبادئ كلها هـــــــــــــــدام
و اعمل لتطبيق (الكتاب) مجاهدا
إن العقيدة مصحف و حسام
و اسحق جباه الملحدين مرددا:
(لا السجن يرهبني، و لا الإعدام)