لـلــكـــــــبــار فــقـــط
سألني طفل في السادسة عن الصناعة التي أحسن القيام بها. قلت الصحافة. وأتبعتُها بالأدب. قال ما الصحافة وما الأدب؟ قلت: أن تكتب للناس كلمات يصدّقونها وتجعلهم يؤمنون بأن الحياة جميلة. قال أريد ان أتعلم صناعة الكلمات لان الكلمات ليست صادقة ولأن الحياة ليست جميلة. شرحتُ له بالطبع أن الكلمات صادقة والحياة جميلة: الشتاء، الصيف، الحب، الموت، الأمل، البراكين، الغابات، الأنهر، اليأس، الأم، الأب، الأهل عموماً، الأولاد الصغار، مدن الألعاب، الرسوم المتحركة، الهدايا، النجوم، الطعام، البوظة، الحلويات...
اقتنع الطفل ولم يقتنع. فقد قدّم لي في المقابل شرحاً اعتراضياً يتضمن آراءه في كذب الكلمات وفي بشاعة الحياة، وضرب أمثلة على ذلك منها الأطفال الفقراء والمرض وأعمال القتل والتفجير في لبنان والعالم. ثم قال: التلفزيون.
سألته لماذا التلفزيون. قال بسبب الكلمات. وأوضح ان الناس الذين يطلون عبر الشاشات يقولون أشياء كاذبة أحياناً، وأحياناً شريرة وقبيحة ودنيئة وغير مهذبة، وهم يستحقون بسببها أن نسمّيهم أنذالاً. لم يستخدم كلمة أنذال لأنه لا يعرف معناها لكنه ذكر ما يعادلها بالفرنسية: vilains.
أنا متأكد أن هذا الطفل معه حق. الأطفال جميعهم معهم حق لأن المعيار القيمي والدلالي لديهم واضح المعاني وقاطع. والكلمات في هذا الغربال هي إما سوداء إما بيضاء. إما سيئة إما جيدة، ولا تتحمل الالتباس والغموض. على طريقة فليكن كلامكم نعم نعم ولا لا.
لم أستطع بالطبع أن أوافقه الرأي ولم أقبل معه بأن الكلمات كاذبة والحياة ليست جميلة.
سمّيتُ له أشخاصاً يحبهم ويحترمهم ويثق بهم ويستخدمون كلمات صادقة. أريته صوراً وأفلاماً سينمائية تتحدث عن الناس الطيبين، وفتحتُ له كتباً جميلة وقرأتُ عليه مقاطع منها تحكي عن التعاون والتضحية والحب والسعادة والحلم، وقلت له إن صناعة الأدب والفن هي هكذا: ان تصنع أشياء جميلة لكي تصير الحياة جميلة.
كان عليَّ أن أقتنع أولاً بالكلمات كي أتمكن من إقناعه. نجحتُ تقريباً في الجزء الثاني من المهمة، الجزء المتعلق بمعيار الكلمة لدى الطفل، ولم أنجح في الأول إذ كان يصعب عليَّ جداً أن أقتنع شخصياً بالمآل الذي انتهت إليه حقيقة الكلمات، أو ان أعترف بجمال هذه الحياة التي يحياها الأطفال والبالغون على السواء.
لا أريد هنا ان أتحدث عن الكذب السياسي والثقافي والاجتماعي الذي يشوّه الكلمات من أدناها الى أقصاها، ولا أن أتحدث عن بشاعة الحياة لدينا نحن الكبار، فهذه وتلك صنيع أيدينا أو أيدي بعضنا، ومن مسؤولياتنا أن نجعلها صادقة وجميلة، أو في الأقل أن نخفف من كذبها وبشاعتها. أتحدث فقط عن هذه الكلمات التي نضعها في متناول الأطفال، وعن التخريب المعياري الذي نمارسه فيها، بما يؤدي الى اختلال نصابها الدلالي لدى الجميع، الأطفال والكبار على السواء.
أعود الى السؤال الذي طرحه عليَّ هذا الطفل عن صناعة الكلمات، لأسأل نفسي والمثقفين والصحافيين والمشتغلين عموماً في حقل اللغة: متى نستعيد الكلمات من غربتها وتيهها؟ أقصد متى نحرّرها من اختلال المعايير وخراب المعاني؟
على المستوى الأوسع والأشمل: متى تستعيد الثقافة مكانتها لتفعل فعلها ليس في عالم الكلمات الأدبية فحسب وإنما في عالم الكلمات السياسية والثقافية والاجتماعية عموماً؟
لا أقصد بالطبع شعرية الكلمات و"كذبتها"، فهذه مسألة إبداعية أخرى ليس هنا مجال الغوص عليها، بل أقصد العودة الى أول المعنى الذي يجعلنا أمام الطباقات المعيارية الأولى، الأسود والأبيض، الكذب والصدق، البشاعة والجمال...، من اجل أطفالنا أولاً ومن اجل الحياة مطلقاً.
... قبل أسبوع، كان ثمة ليلة بعلبكية تحتفي بالشعر وتقوله وتغنّيه وتجعله محمولاً على غيوم الموسيقى والجمال و... الحقيقة. وكان ثمة صحف توسّع له الصفحات والأعمدة كأنها لتغسل، وإن في حلم ليلة صيف، فساد الكلمات، وتعيد النصاب الى اختلال معاييرها ومعانيها.
هممتُ بأن أقول لذاك الطفل إن الحياة جميلة، وإن الكلمات ليست كلها دنيئة ونذلة vilaines، مستعيناً بأوهام الشعر و"أكاذيبه"، لكنه كان قد دخل في كلماته. وهي كلها صادقة وجميلة بل ومبدعة وتستحق حلم الحياة.
اقتنع الطفل ولم يقتنع. فقد قدّم لي في المقابل شرحاً اعتراضياً يتضمن آراءه في كذب الكلمات وفي بشاعة الحياة، وضرب أمثلة على ذلك منها الأطفال الفقراء والمرض وأعمال القتل والتفجير في لبنان والعالم. ثم قال: التلفزيون.
سألته لماذا التلفزيون. قال بسبب الكلمات. وأوضح ان الناس الذين يطلون عبر الشاشات يقولون أشياء كاذبة أحياناً، وأحياناً شريرة وقبيحة ودنيئة وغير مهذبة، وهم يستحقون بسببها أن نسمّيهم أنذالاً. لم يستخدم كلمة أنذال لأنه لا يعرف معناها لكنه ذكر ما يعادلها بالفرنسية: vilains.
أنا متأكد أن هذا الطفل معه حق. الأطفال جميعهم معهم حق لأن المعيار القيمي والدلالي لديهم واضح المعاني وقاطع. والكلمات في هذا الغربال هي إما سوداء إما بيضاء. إما سيئة إما جيدة، ولا تتحمل الالتباس والغموض. على طريقة فليكن كلامكم نعم نعم ولا لا.
لم أستطع بالطبع أن أوافقه الرأي ولم أقبل معه بأن الكلمات كاذبة والحياة ليست جميلة.
سمّيتُ له أشخاصاً يحبهم ويحترمهم ويثق بهم ويستخدمون كلمات صادقة. أريته صوراً وأفلاماً سينمائية تتحدث عن الناس الطيبين، وفتحتُ له كتباً جميلة وقرأتُ عليه مقاطع منها تحكي عن التعاون والتضحية والحب والسعادة والحلم، وقلت له إن صناعة الأدب والفن هي هكذا: ان تصنع أشياء جميلة لكي تصير الحياة جميلة.
كان عليَّ أن أقتنع أولاً بالكلمات كي أتمكن من إقناعه. نجحتُ تقريباً في الجزء الثاني من المهمة، الجزء المتعلق بمعيار الكلمة لدى الطفل، ولم أنجح في الأول إذ كان يصعب عليَّ جداً أن أقتنع شخصياً بالمآل الذي انتهت إليه حقيقة الكلمات، أو ان أعترف بجمال هذه الحياة التي يحياها الأطفال والبالغون على السواء.
لا أريد هنا ان أتحدث عن الكذب السياسي والثقافي والاجتماعي الذي يشوّه الكلمات من أدناها الى أقصاها، ولا أن أتحدث عن بشاعة الحياة لدينا نحن الكبار، فهذه وتلك صنيع أيدينا أو أيدي بعضنا، ومن مسؤولياتنا أن نجعلها صادقة وجميلة، أو في الأقل أن نخفف من كذبها وبشاعتها. أتحدث فقط عن هذه الكلمات التي نضعها في متناول الأطفال، وعن التخريب المعياري الذي نمارسه فيها، بما يؤدي الى اختلال نصابها الدلالي لدى الجميع، الأطفال والكبار على السواء.
أعود الى السؤال الذي طرحه عليَّ هذا الطفل عن صناعة الكلمات، لأسأل نفسي والمثقفين والصحافيين والمشتغلين عموماً في حقل اللغة: متى نستعيد الكلمات من غربتها وتيهها؟ أقصد متى نحرّرها من اختلال المعايير وخراب المعاني؟
على المستوى الأوسع والأشمل: متى تستعيد الثقافة مكانتها لتفعل فعلها ليس في عالم الكلمات الأدبية فحسب وإنما في عالم الكلمات السياسية والثقافية والاجتماعية عموماً؟
لا أقصد بالطبع شعرية الكلمات و"كذبتها"، فهذه مسألة إبداعية أخرى ليس هنا مجال الغوص عليها، بل أقصد العودة الى أول المعنى الذي يجعلنا أمام الطباقات المعيارية الأولى، الأسود والأبيض، الكذب والصدق، البشاعة والجمال...، من اجل أطفالنا أولاً ومن اجل الحياة مطلقاً.
... قبل أسبوع، كان ثمة ليلة بعلبكية تحتفي بالشعر وتقوله وتغنّيه وتجعله محمولاً على غيوم الموسيقى والجمال و... الحقيقة. وكان ثمة صحف توسّع له الصفحات والأعمدة كأنها لتغسل، وإن في حلم ليلة صيف، فساد الكلمات، وتعيد النصاب الى اختلال معاييرها ومعانيها.
هممتُ بأن أقول لذاك الطفل إن الحياة جميلة، وإن الكلمات ليست كلها دنيئة ونذلة vilaines، مستعيناً بأوهام الشعر و"أكاذيبه"، لكنه كان قد دخل في كلماته. وهي كلها صادقة وجميلة بل ومبدعة وتستحق حلم الحياة.
عقل العَويط
تعليق