"القلم الأجير" ظاهرة قديمة في الأدب أثيرت حولها الفضائح في كل الأزمنة
أحقّاً كَتَبَ كورناي لموليير ولجأ شكسبير إلى كتّاب مرتزقة؟
"كم أحتقر كَذَبة الأدب وزائفيه! قد لا تكون كأسي كبيرة، لكني لا أشرب إلا من كأسي"
ألفرد دو موسيه
هل تطفح الأفكار من رأسك لكنك لا تجيد صوغها في كلمات؟ هل عشت حياة مثيرة تصلح لأن تكون رواية ضاربة، لكنك تفتقر الى ملكة الكتابة؟ هل أنت موهوب "نظريا" وعاجز أو كثير المشاغل "تطبيقيا"؟ لا تحمل أي همّ، ثمة حل لمشكلتك: إنه "القلم الأجير"، الذي سيتلقف بنات أفكارك ويدللها ويعجنها ويسقيها ويسهر عليها، حتى تولد على الورق كأعجوبة، وتحمل اسمك في اعتزاز، وتجعلك كاتبا أبا بالتبنّي. هكذا ترى عشرات بل مئات "أشباه الكتب" النور كل سنة، فالكتابة بالانتداب ظاهرة تزداد رواجا يوماً بعد يوم في العالم الغربي، وتشبه الى حدّ بعيد وظيفة الأمّ الحاملة أو الناقلة la mère porteuse، الرائجة بدورها، بكل ما تتطلبه مرحلة الحمل، في الرحمَيْن البيولوجية والذهنية على السواء، من تلقيح فعناية بالجنين، وبكل ما تفرضه لحظة التخلي عن المولود عند الانجاب من ألم ومعاناة وانسلاخ عن الذات، وبكل ما يستتبع الصفقة من شروط، ليس أقلها صعوبةً شرط تسمية المولود باسم طالبه و"مشتريه"، لا باسم خالقه الحقيقي.
لا تسألوا
الحافز الراهني لخوض الموضوع كتابان صدرا حديثا بالانكليزية: الأول في لندن عنوانه "مهنة الشبح: حياة مزدوجة" لجيني أردال، والثاني في الولايات المتحدة الأميركية هو "النفخ في البوق" بقلم ريتشارد توفل. أما كتاب الاسكوتلندية اردال، فسيرة ذاتية تكشف فيها النقاب عن وجهها الثاني، الخفي، على مر عشرين عاما، الا وهو وجه الكاتبة "الشبح"، كما توصف المهنة في العالم الانغلوساكسوني، وهي تسمية أجمل بكثير من التسمية الفرنسية، أي "الكاتب الزنجي"، ذات الايحاءات العنصرية، والتي تحيل على مفهوم العبودية المرتبط بالعرق الأسود، وكانت بدأت تظهر في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر.
إنه الكتاب الأول الذي توقّعه جيني اردال، المتخصصة في الادب الروسي، باسمها، بعدما كتبت عددا كبيرا من الأعمال والروايات الناجحة لرئيسها، وهو كاتب وناشر بريطاني تلقبه بـ"النمر"، فضلا عن أنها كتبت له أيضا المقالات والحوارات والرسائل (حتى رسائل الحب الى زوجته)، وتتحدث في كتابها هذا عن حياة الكاتب الشبح الداخلية، وكيفية تعامله الممحوّ مع نصه وعلاقته الجدلية بالكتابة، وعن طرق تسلله الى رأس الآخر ومنطقه وآلية تفكيره، وعن أندرغراوند النشر والأوساط الأدبية. وأثار الكتاب فضيحة في بريطانيا عند صدوره، ولم يزل يصنع الحدث على رفوف مكتبات لندن، اذ تعرّف القراء في سهولة الى هوية النمر المشهور، وهو رجل الاعمال ذو الاصل الفلسطيني نعيم عطاالله، الذي نشر لتوه أيضا مذكرات حول طفولته في الناصرة في الأربعينات.
تصف الشبح "التائب" أردال نفسها بالعاهرة، وتشرح: "شعرتُ بالحاجة الى الرحيل قبل أن اختنق تماما تحت مياه حياتي السرّية". لكنّ لهجتها لا توحي بنية تصفية الحسابات، والبورتريه الذي ترسمه عن نعيم ودودٌ في معظمه. من الواضح أن الأصل هنا لا يريد ان يقتل القناع، بل أن يخونه فحسب، أي أن يتخلّص منه ليتحقّق. وهي تقول في أحد المقاطع: "الكتابة نيابة عن شخص آخر تشبه ترجمة نص عن لغة اجنبية: كلما كان المترجم خفيا، كانت النتيجة أكثر اتقانا". وليست أردال الاولى التي تستخدم هذا الوصف، فكثر يصفون المترجمين بـ"مرتزقة" الكاتب في لغات أخرى.
أما الكتاب - الفضيحة الآخر، عند الجهة المقابلة من الأطلسي، فإصدارٌ جديد لريتشارد توفل يعالج قضية قلم أجير من نوع ثان، عهدناه في الحياة السياسية العالمية والمحلية، ألا وهو قلم كاتب الخطب. ويتمحور كتاب توفل بكامله حول خطاب واحد تحديدا، ولكن ليس أي خطاب: إنه خطاب الرئيس كينيدي الافتتاحي المشهور عام 1961 ("لا تسألوا ماذا يمكن بلادكم ان تفعل من أجلكم، بل اسألوا ماذا يمكنم انتم ان تفعلوا من أجل بلادكم") الذي عُرف بالخطاب الاكثر شعرية والأجمل صوغاً ومضمونا في تاريخ رؤساء اميركا، ويقدّم توفل اثباتات على أن كاتبه الحقيقي ليس كينيدي بل مساعده و"أجيره" ثيودور سورنسون. التهمة نفسها والشبح نفسه كانا الصقا في ما مضى بكتاب كينيدي "سير شجعان"، الذي حاز له جائزة بوليتزر عام 1957، ويروي فيه بطولات 8 سيناتورات أميركيين بارزين (من أمثال جون كوينسي آدامز وسام هيوستون). ودافع كينيدي عن نفسه في شراسة يومذاك، ودحض التهمة. ويأتي كتاب توفل كرد على كتاب صدر العام الماضي لثورستون كلارك تحت عنوان "لا تسألوا: افتتاحية كينيدي والخطاب الذي غيّر أميركا"، ويؤكد فيه أنّ لا يمكن احدا ان يكون قد كتب الخطاب إلا كينيدي نفسه، وأن الافكار التي يتضمنها هي أفكار لم يفتأ كينيدي يعبر عنها منذ بدء انخراطه في الحياة السياسية. سورنسون من ناحيته استنكر هذه الادعاءات، مؤكدا في شكل قاطع أن الرئيس كينيدي هو صاحب الخطاب الحقيقي والوحيد.
ويصف المحامي توفل مراحل تكوّن خطاب كينيدي، المؤلف من 51 جملة، بأدق تفاصيله، كلمة بكلمة، بناء على وثائق واثباتات ومراجع. ومن المساهمين الآخرين في الكتابة الذين يذكرهم، ادلاي ستيفنسن وجون كينثي غالبرايث. تجدر الاشارة أخيرا الى أن عددا من المتخصصين في سيرة الرئيس الكاريزماتي الراحل كشفوا قبل بضعة اعوام أن الجملة الاكثر شهرة من الخطاب ("لا تسألوا") يعود مصدرها ربما الى أيام كينيدي كتلميذ على مقاعد مدرسة "شوت" في كونيكتيكت، حيث كان الاستاذ يذكر تلاميذه باستمرار بأن ليس المهمّ "ما تفعله لكم مدرستكم، بل ما يمكنكم انتم ان تفعلوا لها".
ليته قرأ كل ما كتب!
على العكس من الغرب، حيث مهنة القلم الذي يؤجّر موهبته منظّمة وممأسسة، لا وجود لهذه المهنة في عالمنا العربي رسميا، بل تدخل المسألة ومناقشتها في إطار التابو، اذ ارتبط المفهوم حصرا بإشاعات وفضائح راجت على مرّ السنين حول كتّاب كُتبت لهم كتبهم (ومعظم تلك الشكوك حامت حول كاتبات وشاعرات)، لكنها نادرا ما تجاوزت إطار التحامل والاشاعة الناتجين في معظم الحالات من آفة "الذكورية" الأدبية، لتصبح واقعة ثابتة ومبرهنة. "الأشباح" موجودة طبعا في بلداننا، لكنها إما أشباح طوعية ومتطوّعة، غير مدفوعة بحافز المكسب المادي بل بالرغبة في تقديم المساعدة لأسباب متنوّعة أو طمعا في مصالح من نوع آخر، أو هي تجني رزقها من كتابة الأطروحات الجامعية والمحاضرات والخطب، وأيضا وخصوصاً من كتابة المقالات الصحافية.
رغم بعض الاستثناءات التي أثمر فيها "الكاتب الظل"، كما يسمّونه في ايطاليا، أعمالا أدبية رفيعة المستوى، على غرار ما حصل مع "فريق أجراء" ألكسندر دوما مثلا، غالبا ما يكون إنتاج المرتزِق كتابة "صناعية" تنفيذية زائلة، تنتج "اشباه كتب" كما ذكرنا في البدء. وعلى رأس لائحة اشباه الكتب هذه سير المشاهير المزدهرة منذ عشرينات القرن الفائت. ممثلون ومغنون وراقصات وراقصون ومقدّمون إذاعيون وتلفزيونيون ورجال أعمال وعارضات ازياء، كلهم مروا تحت ريشة الأجير المنقذة: بريجيت باردو، جوني هاليداي، نعومي كامبل، منى ايوب، إديث بياف، كارن مولدر، الخ... هنا مغن مشهور يروي حياته الطافحة بالاثارة والمخدرات والكحول، وهناك ممثلة كبيرة تشاركنا مسلسل مذكراتها الغرامية، وبينهما ابن عم زوجة شقيق احد نجوم الروك الذي يكشف أسرارا قاتمة عن "قريبه" النجم المحبوب. كذلك، نادرة هي سير السياسيين المكتوبة بأقلامهم، فهم أكثر "انشغالا" بشؤون الناس والبلاد من أن يكتبوا، وتوقيعهم يكفي، ومنهم بيل كلينتون والديكتاتور فرانكو، وحتى جورج بوش. في هذا الإطار جملة قاطعة كالسيف قالها الكاتب والفيلسوف الاسباني اوخينيو دورس ذات يوم عن وزير العدل ادواردو آونوس الذي اصدر عشرات الكتب: "كم كان وزيرنا ليكون مثقفا لو قرأ كل الكتب التي كتبها!".
هناك ايضا الأقلام الأجيرة المتخصصة في كتابة قصص الناس العاديين: رجل أصيب بمرض السرطان ويريد أن يروي كيف استطاع ان يهزمه، فتاة تمكنت من أن تخسر 40 كيلوغراما في ستة أشهر وترغب في أن تعطي وصفتها، امرأة تعرضت للضرب أو للاغتصاب وتودّ أن تسرد تجربتها لتطرد شياطينها، وجدة تحلم أن تقصّ حياتها على أحفادها. يكون الكتاب في تلك الحالة شهادة، أو شكلاً من أشكال العلاج، وثمة دور نشر متخصصة في طباعة كميات محدودة من هذه الأعمال، التي كثيراً ما يكون الهدف الوحيد منها توزيعها على أفراد العائلة والأصدقاء.
الكبار أيضا فعلوها
بعيدا عن المنتجات التجارية، شهد تاريخ الأدب الحقيقي بدوره، ولا يزال يشهد، حالات لجوء الى اقلام أجيرة. وقد تكون أشهر قضية على هذا المستوى قضية ألكسندر دوما وشبكة أشباحه الواسعة والمتشعّبة. إذ يحكى ان احد مرتزقة دوما توفى فجأة، فوقع الكاتب في ورطة وأصيب بحال اكتئاب لأنه كان أوكل الى الشبح الراحل كتابة مخطوطة، وكان التزم تسليم المخطوطة سريعا لإحدى دور النشر. لكن بعد أيام، دق بابه رجل مجهول وقال له: "اليك المخطوطة يا سيد دوما". "من انت؟"، سأله دوما في تعجّب، فأجابه المجهول مبتسما: "أنا أجير أجيرك!".
سمعنا الكثير أيضا عن ان بيار كورناي كان يكتب لموليير، بعدما بيّنت ذلك دراسة دقيقة لمفردات كل من الكاتبين، أظهرت أن "تارتوف" و"دون جوان" و"مدرسة النساء" وغيرها من تحف موليير هي في الحقيقة بقلم صاحب "لو سيد". كذلك شكسبير اتهم باللجوء الى خدمات كتّاب مرتزقة، وقيل ان كوليت بدأت تجني عيشها، قبل أن تصبح كاتبة مشهورة، بتأجير قلمها. وليس استخدام الأجراء وقفاً على الكتّاب وحدهم، فكبار الرسامين أمثال ليوناردو دافنشي كانوا يلجأون الى خدمات رسّامين أجراء يمهّدون لأعمالهم ويضعون الأسس.
في عودة الى الأدب، وتحديدا الى المعاصر منه، اتهم الروائي الاسباني الكبير الحائز نوبل الآداب كاميلو خوسيه ثيلا قبل اعوام باستخدام قلم اجير، وأثيرت الفضيحة عندما نشر الكاتب والصحافي توماس غونزالس يبرا كتابه "تفكيك ثيلا" الذي يشير فيه الى ذلك ويقدّم اثباتات على كلامه. واتهم ثيلا ايضا بالنحل في روايته "صليب سان اندريس" التي نال لها جائزة "بلانيتا" الأدبية.
في اسبانيا فضائح أخرى، ابرزها ربما قضيتان لا تدخلان ضمن إطار القلم الأجير بقدر ما تنتميان الى نطاق الدعم الطوعي والمجاني، وهما تقعان على الطرف النقيض مما تعودناه من إشاعات "نسائية" في عالمنا العربي، اذ بيّنت الدراسات أن ماريا ليخاراغا هي التي كتبت لزوجها المسرحي المشهور غريغوريو مارتينيث سييرا كل كتبه ومقالاته الصحافية، حتى بعدما تركها من أجل ممثلة شابة، وان اميليا بارد باثان كتبت لصديقها المؤرخ بينيتو بيريث غالدوس معظم اعماله.
الفرنسيون ماريك هالتر وجيرار دو فيلييه وريجين ديفورج وجاك اتالي، والوزير السابق جاك لانغ، والأميركي طوم كلانسي، والإيطاليان ماتيو باسكينيللي وكورادو سبيناتي، هؤلاء جميعاً وآخرون نالت منهم إشاعة اللجوء الى كاتب ظل. وهناك من الكتّاب من لا يخفي واقع لجوئه الى اشباح، فيقول سوليتزر، كاتب البست سيللر المعروف: "من لديه الوقت للكتابة؟ إنه عمل ممل ومتعب وميكانيكي. تعج في رأسي أفكار كثيرة رائعة، فأوكل الى آخرين كتابتها. اعطي الفكرة والهيكلية والمسار، وتكون النتيجة افضل مما لو كتبت الكتاب بنفسي. فما العيب في ذلك؟". لا عيب، خاصة لو تأملنا في نوعية كتب سوليتزر التجارية وغير الطموحة أدبيا. لكننا مضطرون رغم ذلك الى معارضة تشيخوف في قوله ان "فرادة نص ما لا تكمن في اسلوبه بل في فكرته"، لأن الكتابة الابداعية لا تُختصر بالفكرة، بل أن الصوغ واللغة والاسلوب عناصر جوهرية منها. ومن البديهي ان يكون البعدان، المضموني والاسلوبي، غير قابلين للانفصال لدى تقويم نص أدبي حقيقي.
ابتهج ستصبح كاتبا
ثمة ايضا من الكتّاب من كان "ظل" نفسه، في حالات جميلة وفريدة من نوعها من خلق الانعكاسات أو من التكاثر الأدبي، على غرار بيسوا الذي كتب لبرناردو سواريس والفارو دي كامبوس وريكاردو ريّس وآخرين، ورومان غاري الذي كتب لإميل أجار. لكننا سنعود الى مسألة الاسماء المستعارة في مقال لاحق، رغم اني لا افهم قيام عدد كبير من الكتّاب والزملاء بالكتابة بأسماء مستعارة - إلا عندما يكون الأمر لضرورة "أمنية" في فراديس حرية التعبير العربية. قد يُحتمل الأمر في مقال، لكن أن يخلق مبدع كتابا كاملا، أن يسهر عليه ويضع روحه فيه ويعود الفضل فيه لمجهول أو لآخر، فأي قدرة على نكران الذات تتطلب فعلة كهذه؟ اليس اسم الكاتب جزءاً لا يتجزأ من هوية النص ومن متعة مشاركته مع الآخرين (أو على الأقل من "قرار" مشاركته، بما أن البعض يزعمون أنهم ينشرون "مكرهين" - ونتساءل ما الذي يكرههم في هذه الحال ومن ولماذا؟).
أما على الإنترنت فحدّث ولا حرج: صفحات وصفحات من الاعلانات من جانب شركات ومؤسسات تقدم خدماتها "الكتبجية": "اذا كنت تجد صعوبة في وضع كلماتك على الورق، لكنك تملك فكرة رائعة لكتاب، وتبحث عن مساعدة لاخراجها من داخلك، ابتهج! لدينا فريق كامل من الكتاب المحترفين المستعدين لمساعدتك". وتراوح الخدمات من التصليح البسيط الى الكتابة الكاملة مرورا بإعادة الكتابة، وتراوح نوعية النصوص من الرسالة والمقال والخطاب ونذور الزواج (نعم، صدّقوا!)، وصولا الى السيناريو والرواية، مرورا بالسيرة والذكريات والشهادات. الشعر وحده ناج حتى الآن من هذا القطاع "الخدماتي"، اذ لم اجد في أي من تلك الشركات عرضا لكتابة قصائد. طبعا لا يعود السبب الى احترام هؤلاء البائعين هالة الشعر وحرمته، بقدر ما يعود الى واقع كون الشعر نفسه مادة غير تجارية وغير دسمة مكسبياً. في إطار الإنترنت ايضا، وتحديدا ضمن ظاهرة الـ"بلوغ" blog (أي المنتديات التفاعلية ودفاتر اليوميات الالكترونية)، هناك "بلوغات" لكتّاب كبار من أمثال فوينتس واوستر وموتيس، تديرها أقلام أجيرة مهمّتها الحديث باسم الكاتب، فتجيب يوميا عن رسائل القرّاء وتساؤلاتهم، وتناقش معهم افكارا واقتراحات.
المثلث السحري
يؤكد نابوكوف أن "سرقة نص من كاتب هو أكبر إطراء له"، بينما يقول انطونيو مونيوث مولينا: "اذا كانت الكتابة تعني أن نروي شيئا هو التعبير الأكثر صدقا وأصالة عنا، فمن العبث أن نستعير من أجل ذلك كلمات آخرين". لكن بين السرقة والاستعارة ليس ثمة قانون يحكم آليات اللجوء الى قلم أجير يوازي قانون حماية الملكية الفكرية في البلدان المتطورة. ففي حين يحاسب هذا القانون على استعارة نص ما من دون اذن صاحبه، الا أن استعارة نص وتبنّيه "مع" اذن صاحبه وموافقته، أي استئجار قلم، لا يخضع لأي رقابة أو تنظيم قانونيين. لكن ثمة في بعض البلدان شبكات لحماية حقوق المرتزقين، على غرار "زنجي لمجهولين" التي أسسها الفرنسي غيوم موانجون عام 1998، وهو الذي كتب ما يزيد على 200 كتاب كأجير. وهدف المنظمة تحديد لائحة أسعار ثابتة وبلورة آداب ممارسة المهنة وتنظيم المنافسة وتوزيع المشاريع، وربما نشهد قريبا ولادة "اتحاد الكتّاب الزنوج". ويستاء الكتّاب المرتزقة ممن يتعامل معهم في خفة وينظر اليهم نظرة دونية، فهم كتاب جيدون، على ما يؤكدون، إنما سيئو الحظ. بعضهم يكتب صباحا لشخص آخر، ويكتب ليلا لنفسه، مما يتطلب موهبة فصام الشخصية الكتابية، بل موهبة تعدد الشخصيات على الأصح. انه نوع من الـ ménage à trois، مثلث سحري بين الكاتب والشبح والنصّ. ونادرون هم الأشباح الذين توضع أسماؤهم على الكتاب، لكن ذلك يحصل أحيانا في صيغة "بالتعاون مع فلان"، أو "رواها فلان"، الخ... أما اذا ورد إسم الأجير فبخط صغير ميكروسكوبي غالبا الى حد انه لا يقرأ. أما الأتعاب فتتراوح بين 3000 و6000 دولار في الولايات المتحدة، وبين 2000 و5000 يورو في اوروبا، بحسب نوعية العمل ومستوى المرتزِق الموكلة المهمة اليه وسيرته وانجازاته السابقة. وثمة من يفضل التعامل مع أجير واحد كل مرة حفاظا على "اسلوبه" الكتابي المستعار.
المهرّج الحاقد
يقول الكاتب برونو تيساريك، وهو كان أجير باتريك هنري، في كتابه "آلة الكتابة": "مهنة القلم الأجير تقوم على منح أفكار للأغبياء ومنح أسلوب للعاجزين". فصحيح أن قلة من الأشباح مستعدون لذكر اسماء مستخدميهم - "وهل يقتل المرء الدجاجة التي تبيض ذهبا؟" يقول باتريك رامبو الذي نال جائزة غونكور عام 1997 لروايته "المعركة" لكن معظمهم يحبذون انتشار الاشاعات والشكوك التي يرون فيها "انتقاما" لهم. القلم الأجير غالبا "مهرّج" حاقد وطافح بالمرارة، ويؤكد الشبح الاسباني جوان خوسيه مياس أن ثمة ضغينة تزداد مع الوقت في نفس الشبح بسبب حصول آخر على الشهرة والمديح والمال. دان فرانك الذي كتب في حياته ما يزيد على خمسين كتابا لآخرين، يتحدث من جهته عن ضرورة أن يخرج "الكاتب الظل" من جلده وأن يتعامل مع المسألة في برودة وبشيء من حس الفكاهة كي لا "يقتله القهر".
الأقلام الأجيرة عملاء سريون، تماما كعناصر الاستخبارات، وعندما تعرف هويتهم يصبح ضروريا "التخلص" منهم (بالمعنى المعنوي طبعا)، علما أن الفضيحة لا تدمر فقط سمعة الكاتب، بل أيضا سمعة أجيره، اذ لن يعود احد يلجأ الى خدماته بعد ذلك. لكن رغم الأخطار ينقلب فرانكشتاين على خالقه احيانا، وخصوصا عندما يلاقي الكتاب نجاحا كبيرا، فتتملك الظلّ الرغبة في الكشف عن أوراقه لأسباب معنوية ومادية على السواء، فيلجأ الى المحاكم لتحصيل حقوقه، وهو ما فعله اتيان دو مونبوزا وآن براغانس مثلا. لكن مهما كان الأجير موهوبا، يميل الناس الى تصديق الكاتب، فاسم الكاتب المشهور أهم من موهبة الاجير، وغالبا ما يكون هذا الاسم وحده، بمعزل عن نوعية النص ومستواه، كفيلا بجعل العمل "بست سيللر". وجميعنا يعرف قصّة الكاتب الكبير الذي قام، بناء على رهان مع صديقه، بإرسال مخطوطته الجديدة الى دار نشره باسم شخص مجهول، فرُفضت المخطوطة بحجة "ركاكة النص" رغم ان الكاتب نفسه كان نشر قبلا عشرات الروايات لدى دار النشر ذاتها. ويلجأ بعض الاشباح الى وسائل "زكزكة" خفية والى نصب فخاخ توقع الكاتب في ورطة، على غرار ذاك الشبح الذي أدخل في الرواية المزعومة للمقدمة التلفزيونية الاسبانية انا روزا كنتانا، مقاطع كاملة من كتاب للروائية الأميركية دانييل ستيل من دون أن يضعها بين مزدوجين ومن دون أن يذكر مصدرها، مغيّراً أسماء الابطال من أسماء أميركية الى اسماء اسبانية، مما تسبب للكاتبة بتهمة السرقة الادبية. وبيع من الرواية، "طعم مرّ"، ما يزيد على مئة ألف نسخة، وأدركت طبعتها السابعة. وعندما كشف الأمر نفت "الروائية" الحديثة النعمة كنتانا اللجوء الى كاتب أجير، وأكدّت أن جل ما حصل هو غلطة "كومبيوتر".
جريمة ضرورية
نصل أخيرا الى أقلام أجيرة من نوع خاص، هي تلك التي تعمل في دور النشر باسم مدقق او محرر، علما أن التحرير قد يصل الى حدود إعادة الكتابة الكاملة للعمل. ويؤكد العارفون في قطاع النشر في أوروبا أن ما يزيد على خمسين في المئة من الكتب المنشورة تخضع لعملية إعادة كتابة بمبضع "زنجي" دار النشر، وهي عملية قد تتضمن في ما تتضمن، باعتراف كتّاب أصدقاء، اضافة شخصية من هنا والاستغناء عن أخرى من هناك، وتغيير الجملة الأولى لجعلها اكثر "إغراء" وربما حتى تغيير النهاية لجعلها أكثر "إدهاشا". وتجدر الإشارة أيضا الى جذور مهنة "القلم الأجير"، وهي مهنة "الكاتب العمومي" التي كانت رائجة في الازمنة القديمة ولم تزل في بعض البلدان عندما كانت الابجدية في يد نخبة يلجأ اليهم الناس لتدبير شؤونهم.
كيف يمكن شخصاً لم يقرأ في حياته على الارجح سوى التعليقات على صوره في المجلات، أن يقنعنا بأنه باض فجأة كتابا من 400 صفحة؟ وعلى الضفة الأخرى، كيف يمكن كاتبا أن يتجاوز ما تفرضه العلاقة مع النص من أمومية وأنانية وتعلّق وتملّك؟ مهما كانت التسمية المستخدمة لوصف متقمّصي الكتّاب: القلم الأجير، أو الكاتب المرتزق، او الشبح، او الظل، او نائب الكاتب، او الكاتب المنتدب، او مومس الكتابة، او الكاتب الزنجي، الخ... لا بد، في حال الموهبة الحقيقية، من أن يكسر الظل المرآة ويخرج منها. لا بد من أن يرحل ااشبح، ويبقى الأصل.
لا تسألوا
الحافز الراهني لخوض الموضوع كتابان صدرا حديثا بالانكليزية: الأول في لندن عنوانه "مهنة الشبح: حياة مزدوجة" لجيني أردال، والثاني في الولايات المتحدة الأميركية هو "النفخ في البوق" بقلم ريتشارد توفل. أما كتاب الاسكوتلندية اردال، فسيرة ذاتية تكشف فيها النقاب عن وجهها الثاني، الخفي، على مر عشرين عاما، الا وهو وجه الكاتبة "الشبح"، كما توصف المهنة في العالم الانغلوساكسوني، وهي تسمية أجمل بكثير من التسمية الفرنسية، أي "الكاتب الزنجي"، ذات الايحاءات العنصرية، والتي تحيل على مفهوم العبودية المرتبط بالعرق الأسود، وكانت بدأت تظهر في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر.
إنه الكتاب الأول الذي توقّعه جيني اردال، المتخصصة في الادب الروسي، باسمها، بعدما كتبت عددا كبيرا من الأعمال والروايات الناجحة لرئيسها، وهو كاتب وناشر بريطاني تلقبه بـ"النمر"، فضلا عن أنها كتبت له أيضا المقالات والحوارات والرسائل (حتى رسائل الحب الى زوجته)، وتتحدث في كتابها هذا عن حياة الكاتب الشبح الداخلية، وكيفية تعامله الممحوّ مع نصه وعلاقته الجدلية بالكتابة، وعن طرق تسلله الى رأس الآخر ومنطقه وآلية تفكيره، وعن أندرغراوند النشر والأوساط الأدبية. وأثار الكتاب فضيحة في بريطانيا عند صدوره، ولم يزل يصنع الحدث على رفوف مكتبات لندن، اذ تعرّف القراء في سهولة الى هوية النمر المشهور، وهو رجل الاعمال ذو الاصل الفلسطيني نعيم عطاالله، الذي نشر لتوه أيضا مذكرات حول طفولته في الناصرة في الأربعينات.
تصف الشبح "التائب" أردال نفسها بالعاهرة، وتشرح: "شعرتُ بالحاجة الى الرحيل قبل أن اختنق تماما تحت مياه حياتي السرّية". لكنّ لهجتها لا توحي بنية تصفية الحسابات، والبورتريه الذي ترسمه عن نعيم ودودٌ في معظمه. من الواضح أن الأصل هنا لا يريد ان يقتل القناع، بل أن يخونه فحسب، أي أن يتخلّص منه ليتحقّق. وهي تقول في أحد المقاطع: "الكتابة نيابة عن شخص آخر تشبه ترجمة نص عن لغة اجنبية: كلما كان المترجم خفيا، كانت النتيجة أكثر اتقانا". وليست أردال الاولى التي تستخدم هذا الوصف، فكثر يصفون المترجمين بـ"مرتزقة" الكاتب في لغات أخرى.
أما الكتاب - الفضيحة الآخر، عند الجهة المقابلة من الأطلسي، فإصدارٌ جديد لريتشارد توفل يعالج قضية قلم أجير من نوع ثان، عهدناه في الحياة السياسية العالمية والمحلية، ألا وهو قلم كاتب الخطب. ويتمحور كتاب توفل بكامله حول خطاب واحد تحديدا، ولكن ليس أي خطاب: إنه خطاب الرئيس كينيدي الافتتاحي المشهور عام 1961 ("لا تسألوا ماذا يمكن بلادكم ان تفعل من أجلكم، بل اسألوا ماذا يمكنم انتم ان تفعلوا من أجل بلادكم") الذي عُرف بالخطاب الاكثر شعرية والأجمل صوغاً ومضمونا في تاريخ رؤساء اميركا، ويقدّم توفل اثباتات على أن كاتبه الحقيقي ليس كينيدي بل مساعده و"أجيره" ثيودور سورنسون. التهمة نفسها والشبح نفسه كانا الصقا في ما مضى بكتاب كينيدي "سير شجعان"، الذي حاز له جائزة بوليتزر عام 1957، ويروي فيه بطولات 8 سيناتورات أميركيين بارزين (من أمثال جون كوينسي آدامز وسام هيوستون). ودافع كينيدي عن نفسه في شراسة يومذاك، ودحض التهمة. ويأتي كتاب توفل كرد على كتاب صدر العام الماضي لثورستون كلارك تحت عنوان "لا تسألوا: افتتاحية كينيدي والخطاب الذي غيّر أميركا"، ويؤكد فيه أنّ لا يمكن احدا ان يكون قد كتب الخطاب إلا كينيدي نفسه، وأن الافكار التي يتضمنها هي أفكار لم يفتأ كينيدي يعبر عنها منذ بدء انخراطه في الحياة السياسية. سورنسون من ناحيته استنكر هذه الادعاءات، مؤكدا في شكل قاطع أن الرئيس كينيدي هو صاحب الخطاب الحقيقي والوحيد.
ويصف المحامي توفل مراحل تكوّن خطاب كينيدي، المؤلف من 51 جملة، بأدق تفاصيله، كلمة بكلمة، بناء على وثائق واثباتات ومراجع. ومن المساهمين الآخرين في الكتابة الذين يذكرهم، ادلاي ستيفنسن وجون كينثي غالبرايث. تجدر الاشارة أخيرا الى أن عددا من المتخصصين في سيرة الرئيس الكاريزماتي الراحل كشفوا قبل بضعة اعوام أن الجملة الاكثر شهرة من الخطاب ("لا تسألوا") يعود مصدرها ربما الى أيام كينيدي كتلميذ على مقاعد مدرسة "شوت" في كونيكتيكت، حيث كان الاستاذ يذكر تلاميذه باستمرار بأن ليس المهمّ "ما تفعله لكم مدرستكم، بل ما يمكنكم انتم ان تفعلوا لها".
ليته قرأ كل ما كتب!
على العكس من الغرب، حيث مهنة القلم الذي يؤجّر موهبته منظّمة وممأسسة، لا وجود لهذه المهنة في عالمنا العربي رسميا، بل تدخل المسألة ومناقشتها في إطار التابو، اذ ارتبط المفهوم حصرا بإشاعات وفضائح راجت على مرّ السنين حول كتّاب كُتبت لهم كتبهم (ومعظم تلك الشكوك حامت حول كاتبات وشاعرات)، لكنها نادرا ما تجاوزت إطار التحامل والاشاعة الناتجين في معظم الحالات من آفة "الذكورية" الأدبية، لتصبح واقعة ثابتة ومبرهنة. "الأشباح" موجودة طبعا في بلداننا، لكنها إما أشباح طوعية ومتطوّعة، غير مدفوعة بحافز المكسب المادي بل بالرغبة في تقديم المساعدة لأسباب متنوّعة أو طمعا في مصالح من نوع آخر، أو هي تجني رزقها من كتابة الأطروحات الجامعية والمحاضرات والخطب، وأيضا وخصوصاً من كتابة المقالات الصحافية.
رغم بعض الاستثناءات التي أثمر فيها "الكاتب الظل"، كما يسمّونه في ايطاليا، أعمالا أدبية رفيعة المستوى، على غرار ما حصل مع "فريق أجراء" ألكسندر دوما مثلا، غالبا ما يكون إنتاج المرتزِق كتابة "صناعية" تنفيذية زائلة، تنتج "اشباه كتب" كما ذكرنا في البدء. وعلى رأس لائحة اشباه الكتب هذه سير المشاهير المزدهرة منذ عشرينات القرن الفائت. ممثلون ومغنون وراقصات وراقصون ومقدّمون إذاعيون وتلفزيونيون ورجال أعمال وعارضات ازياء، كلهم مروا تحت ريشة الأجير المنقذة: بريجيت باردو، جوني هاليداي، نعومي كامبل، منى ايوب، إديث بياف، كارن مولدر، الخ... هنا مغن مشهور يروي حياته الطافحة بالاثارة والمخدرات والكحول، وهناك ممثلة كبيرة تشاركنا مسلسل مذكراتها الغرامية، وبينهما ابن عم زوجة شقيق احد نجوم الروك الذي يكشف أسرارا قاتمة عن "قريبه" النجم المحبوب. كذلك، نادرة هي سير السياسيين المكتوبة بأقلامهم، فهم أكثر "انشغالا" بشؤون الناس والبلاد من أن يكتبوا، وتوقيعهم يكفي، ومنهم بيل كلينتون والديكتاتور فرانكو، وحتى جورج بوش. في هذا الإطار جملة قاطعة كالسيف قالها الكاتب والفيلسوف الاسباني اوخينيو دورس ذات يوم عن وزير العدل ادواردو آونوس الذي اصدر عشرات الكتب: "كم كان وزيرنا ليكون مثقفا لو قرأ كل الكتب التي كتبها!".
هناك ايضا الأقلام الأجيرة المتخصصة في كتابة قصص الناس العاديين: رجل أصيب بمرض السرطان ويريد أن يروي كيف استطاع ان يهزمه، فتاة تمكنت من أن تخسر 40 كيلوغراما في ستة أشهر وترغب في أن تعطي وصفتها، امرأة تعرضت للضرب أو للاغتصاب وتودّ أن تسرد تجربتها لتطرد شياطينها، وجدة تحلم أن تقصّ حياتها على أحفادها. يكون الكتاب في تلك الحالة شهادة، أو شكلاً من أشكال العلاج، وثمة دور نشر متخصصة في طباعة كميات محدودة من هذه الأعمال، التي كثيراً ما يكون الهدف الوحيد منها توزيعها على أفراد العائلة والأصدقاء.
الكبار أيضا فعلوها
بعيدا عن المنتجات التجارية، شهد تاريخ الأدب الحقيقي بدوره، ولا يزال يشهد، حالات لجوء الى اقلام أجيرة. وقد تكون أشهر قضية على هذا المستوى قضية ألكسندر دوما وشبكة أشباحه الواسعة والمتشعّبة. إذ يحكى ان احد مرتزقة دوما توفى فجأة، فوقع الكاتب في ورطة وأصيب بحال اكتئاب لأنه كان أوكل الى الشبح الراحل كتابة مخطوطة، وكان التزم تسليم المخطوطة سريعا لإحدى دور النشر. لكن بعد أيام، دق بابه رجل مجهول وقال له: "اليك المخطوطة يا سيد دوما". "من انت؟"، سأله دوما في تعجّب، فأجابه المجهول مبتسما: "أنا أجير أجيرك!".
سمعنا الكثير أيضا عن ان بيار كورناي كان يكتب لموليير، بعدما بيّنت ذلك دراسة دقيقة لمفردات كل من الكاتبين، أظهرت أن "تارتوف" و"دون جوان" و"مدرسة النساء" وغيرها من تحف موليير هي في الحقيقة بقلم صاحب "لو سيد". كذلك شكسبير اتهم باللجوء الى خدمات كتّاب مرتزقة، وقيل ان كوليت بدأت تجني عيشها، قبل أن تصبح كاتبة مشهورة، بتأجير قلمها. وليس استخدام الأجراء وقفاً على الكتّاب وحدهم، فكبار الرسامين أمثال ليوناردو دافنشي كانوا يلجأون الى خدمات رسّامين أجراء يمهّدون لأعمالهم ويضعون الأسس.
في عودة الى الأدب، وتحديدا الى المعاصر منه، اتهم الروائي الاسباني الكبير الحائز نوبل الآداب كاميلو خوسيه ثيلا قبل اعوام باستخدام قلم اجير، وأثيرت الفضيحة عندما نشر الكاتب والصحافي توماس غونزالس يبرا كتابه "تفكيك ثيلا" الذي يشير فيه الى ذلك ويقدّم اثباتات على كلامه. واتهم ثيلا ايضا بالنحل في روايته "صليب سان اندريس" التي نال لها جائزة "بلانيتا" الأدبية.
في اسبانيا فضائح أخرى، ابرزها ربما قضيتان لا تدخلان ضمن إطار القلم الأجير بقدر ما تنتميان الى نطاق الدعم الطوعي والمجاني، وهما تقعان على الطرف النقيض مما تعودناه من إشاعات "نسائية" في عالمنا العربي، اذ بيّنت الدراسات أن ماريا ليخاراغا هي التي كتبت لزوجها المسرحي المشهور غريغوريو مارتينيث سييرا كل كتبه ومقالاته الصحافية، حتى بعدما تركها من أجل ممثلة شابة، وان اميليا بارد باثان كتبت لصديقها المؤرخ بينيتو بيريث غالدوس معظم اعماله.
الفرنسيون ماريك هالتر وجيرار دو فيلييه وريجين ديفورج وجاك اتالي، والوزير السابق جاك لانغ، والأميركي طوم كلانسي، والإيطاليان ماتيو باسكينيللي وكورادو سبيناتي، هؤلاء جميعاً وآخرون نالت منهم إشاعة اللجوء الى كاتب ظل. وهناك من الكتّاب من لا يخفي واقع لجوئه الى اشباح، فيقول سوليتزر، كاتب البست سيللر المعروف: "من لديه الوقت للكتابة؟ إنه عمل ممل ومتعب وميكانيكي. تعج في رأسي أفكار كثيرة رائعة، فأوكل الى آخرين كتابتها. اعطي الفكرة والهيكلية والمسار، وتكون النتيجة افضل مما لو كتبت الكتاب بنفسي. فما العيب في ذلك؟". لا عيب، خاصة لو تأملنا في نوعية كتب سوليتزر التجارية وغير الطموحة أدبيا. لكننا مضطرون رغم ذلك الى معارضة تشيخوف في قوله ان "فرادة نص ما لا تكمن في اسلوبه بل في فكرته"، لأن الكتابة الابداعية لا تُختصر بالفكرة، بل أن الصوغ واللغة والاسلوب عناصر جوهرية منها. ومن البديهي ان يكون البعدان، المضموني والاسلوبي، غير قابلين للانفصال لدى تقويم نص أدبي حقيقي.
ابتهج ستصبح كاتبا
ثمة ايضا من الكتّاب من كان "ظل" نفسه، في حالات جميلة وفريدة من نوعها من خلق الانعكاسات أو من التكاثر الأدبي، على غرار بيسوا الذي كتب لبرناردو سواريس والفارو دي كامبوس وريكاردو ريّس وآخرين، ورومان غاري الذي كتب لإميل أجار. لكننا سنعود الى مسألة الاسماء المستعارة في مقال لاحق، رغم اني لا افهم قيام عدد كبير من الكتّاب والزملاء بالكتابة بأسماء مستعارة - إلا عندما يكون الأمر لضرورة "أمنية" في فراديس حرية التعبير العربية. قد يُحتمل الأمر في مقال، لكن أن يخلق مبدع كتابا كاملا، أن يسهر عليه ويضع روحه فيه ويعود الفضل فيه لمجهول أو لآخر، فأي قدرة على نكران الذات تتطلب فعلة كهذه؟ اليس اسم الكاتب جزءاً لا يتجزأ من هوية النص ومن متعة مشاركته مع الآخرين (أو على الأقل من "قرار" مشاركته، بما أن البعض يزعمون أنهم ينشرون "مكرهين" - ونتساءل ما الذي يكرههم في هذه الحال ومن ولماذا؟).
أما على الإنترنت فحدّث ولا حرج: صفحات وصفحات من الاعلانات من جانب شركات ومؤسسات تقدم خدماتها "الكتبجية": "اذا كنت تجد صعوبة في وضع كلماتك على الورق، لكنك تملك فكرة رائعة لكتاب، وتبحث عن مساعدة لاخراجها من داخلك، ابتهج! لدينا فريق كامل من الكتاب المحترفين المستعدين لمساعدتك". وتراوح الخدمات من التصليح البسيط الى الكتابة الكاملة مرورا بإعادة الكتابة، وتراوح نوعية النصوص من الرسالة والمقال والخطاب ونذور الزواج (نعم، صدّقوا!)، وصولا الى السيناريو والرواية، مرورا بالسيرة والذكريات والشهادات. الشعر وحده ناج حتى الآن من هذا القطاع "الخدماتي"، اذ لم اجد في أي من تلك الشركات عرضا لكتابة قصائد. طبعا لا يعود السبب الى احترام هؤلاء البائعين هالة الشعر وحرمته، بقدر ما يعود الى واقع كون الشعر نفسه مادة غير تجارية وغير دسمة مكسبياً. في إطار الإنترنت ايضا، وتحديدا ضمن ظاهرة الـ"بلوغ" blog (أي المنتديات التفاعلية ودفاتر اليوميات الالكترونية)، هناك "بلوغات" لكتّاب كبار من أمثال فوينتس واوستر وموتيس، تديرها أقلام أجيرة مهمّتها الحديث باسم الكاتب، فتجيب يوميا عن رسائل القرّاء وتساؤلاتهم، وتناقش معهم افكارا واقتراحات.
المثلث السحري
يؤكد نابوكوف أن "سرقة نص من كاتب هو أكبر إطراء له"، بينما يقول انطونيو مونيوث مولينا: "اذا كانت الكتابة تعني أن نروي شيئا هو التعبير الأكثر صدقا وأصالة عنا، فمن العبث أن نستعير من أجل ذلك كلمات آخرين". لكن بين السرقة والاستعارة ليس ثمة قانون يحكم آليات اللجوء الى قلم أجير يوازي قانون حماية الملكية الفكرية في البلدان المتطورة. ففي حين يحاسب هذا القانون على استعارة نص ما من دون اذن صاحبه، الا أن استعارة نص وتبنّيه "مع" اذن صاحبه وموافقته، أي استئجار قلم، لا يخضع لأي رقابة أو تنظيم قانونيين. لكن ثمة في بعض البلدان شبكات لحماية حقوق المرتزقين، على غرار "زنجي لمجهولين" التي أسسها الفرنسي غيوم موانجون عام 1998، وهو الذي كتب ما يزيد على 200 كتاب كأجير. وهدف المنظمة تحديد لائحة أسعار ثابتة وبلورة آداب ممارسة المهنة وتنظيم المنافسة وتوزيع المشاريع، وربما نشهد قريبا ولادة "اتحاد الكتّاب الزنوج". ويستاء الكتّاب المرتزقة ممن يتعامل معهم في خفة وينظر اليهم نظرة دونية، فهم كتاب جيدون، على ما يؤكدون، إنما سيئو الحظ. بعضهم يكتب صباحا لشخص آخر، ويكتب ليلا لنفسه، مما يتطلب موهبة فصام الشخصية الكتابية، بل موهبة تعدد الشخصيات على الأصح. انه نوع من الـ ménage à trois، مثلث سحري بين الكاتب والشبح والنصّ. ونادرون هم الأشباح الذين توضع أسماؤهم على الكتاب، لكن ذلك يحصل أحيانا في صيغة "بالتعاون مع فلان"، أو "رواها فلان"، الخ... أما اذا ورد إسم الأجير فبخط صغير ميكروسكوبي غالبا الى حد انه لا يقرأ. أما الأتعاب فتتراوح بين 3000 و6000 دولار في الولايات المتحدة، وبين 2000 و5000 يورو في اوروبا، بحسب نوعية العمل ومستوى المرتزِق الموكلة المهمة اليه وسيرته وانجازاته السابقة. وثمة من يفضل التعامل مع أجير واحد كل مرة حفاظا على "اسلوبه" الكتابي المستعار.
المهرّج الحاقد
يقول الكاتب برونو تيساريك، وهو كان أجير باتريك هنري، في كتابه "آلة الكتابة": "مهنة القلم الأجير تقوم على منح أفكار للأغبياء ومنح أسلوب للعاجزين". فصحيح أن قلة من الأشباح مستعدون لذكر اسماء مستخدميهم - "وهل يقتل المرء الدجاجة التي تبيض ذهبا؟" يقول باتريك رامبو الذي نال جائزة غونكور عام 1997 لروايته "المعركة" لكن معظمهم يحبذون انتشار الاشاعات والشكوك التي يرون فيها "انتقاما" لهم. القلم الأجير غالبا "مهرّج" حاقد وطافح بالمرارة، ويؤكد الشبح الاسباني جوان خوسيه مياس أن ثمة ضغينة تزداد مع الوقت في نفس الشبح بسبب حصول آخر على الشهرة والمديح والمال. دان فرانك الذي كتب في حياته ما يزيد على خمسين كتابا لآخرين، يتحدث من جهته عن ضرورة أن يخرج "الكاتب الظل" من جلده وأن يتعامل مع المسألة في برودة وبشيء من حس الفكاهة كي لا "يقتله القهر".
الأقلام الأجيرة عملاء سريون، تماما كعناصر الاستخبارات، وعندما تعرف هويتهم يصبح ضروريا "التخلص" منهم (بالمعنى المعنوي طبعا)، علما أن الفضيحة لا تدمر فقط سمعة الكاتب، بل أيضا سمعة أجيره، اذ لن يعود احد يلجأ الى خدماته بعد ذلك. لكن رغم الأخطار ينقلب فرانكشتاين على خالقه احيانا، وخصوصا عندما يلاقي الكتاب نجاحا كبيرا، فتتملك الظلّ الرغبة في الكشف عن أوراقه لأسباب معنوية ومادية على السواء، فيلجأ الى المحاكم لتحصيل حقوقه، وهو ما فعله اتيان دو مونبوزا وآن براغانس مثلا. لكن مهما كان الأجير موهوبا، يميل الناس الى تصديق الكاتب، فاسم الكاتب المشهور أهم من موهبة الاجير، وغالبا ما يكون هذا الاسم وحده، بمعزل عن نوعية النص ومستواه، كفيلا بجعل العمل "بست سيللر". وجميعنا يعرف قصّة الكاتب الكبير الذي قام، بناء على رهان مع صديقه، بإرسال مخطوطته الجديدة الى دار نشره باسم شخص مجهول، فرُفضت المخطوطة بحجة "ركاكة النص" رغم ان الكاتب نفسه كان نشر قبلا عشرات الروايات لدى دار النشر ذاتها. ويلجأ بعض الاشباح الى وسائل "زكزكة" خفية والى نصب فخاخ توقع الكاتب في ورطة، على غرار ذاك الشبح الذي أدخل في الرواية المزعومة للمقدمة التلفزيونية الاسبانية انا روزا كنتانا، مقاطع كاملة من كتاب للروائية الأميركية دانييل ستيل من دون أن يضعها بين مزدوجين ومن دون أن يذكر مصدرها، مغيّراً أسماء الابطال من أسماء أميركية الى اسماء اسبانية، مما تسبب للكاتبة بتهمة السرقة الادبية. وبيع من الرواية، "طعم مرّ"، ما يزيد على مئة ألف نسخة، وأدركت طبعتها السابعة. وعندما كشف الأمر نفت "الروائية" الحديثة النعمة كنتانا اللجوء الى كاتب أجير، وأكدّت أن جل ما حصل هو غلطة "كومبيوتر".
جريمة ضرورية
نصل أخيرا الى أقلام أجيرة من نوع خاص، هي تلك التي تعمل في دور النشر باسم مدقق او محرر، علما أن التحرير قد يصل الى حدود إعادة الكتابة الكاملة للعمل. ويؤكد العارفون في قطاع النشر في أوروبا أن ما يزيد على خمسين في المئة من الكتب المنشورة تخضع لعملية إعادة كتابة بمبضع "زنجي" دار النشر، وهي عملية قد تتضمن في ما تتضمن، باعتراف كتّاب أصدقاء، اضافة شخصية من هنا والاستغناء عن أخرى من هناك، وتغيير الجملة الأولى لجعلها اكثر "إغراء" وربما حتى تغيير النهاية لجعلها أكثر "إدهاشا". وتجدر الإشارة أيضا الى جذور مهنة "القلم الأجير"، وهي مهنة "الكاتب العمومي" التي كانت رائجة في الازمنة القديمة ولم تزل في بعض البلدان عندما كانت الابجدية في يد نخبة يلجأ اليهم الناس لتدبير شؤونهم.
كيف يمكن شخصاً لم يقرأ في حياته على الارجح سوى التعليقات على صوره في المجلات، أن يقنعنا بأنه باض فجأة كتابا من 400 صفحة؟ وعلى الضفة الأخرى، كيف يمكن كاتبا أن يتجاوز ما تفرضه العلاقة مع النص من أمومية وأنانية وتعلّق وتملّك؟ مهما كانت التسمية المستخدمة لوصف متقمّصي الكتّاب: القلم الأجير، أو الكاتب المرتزق، او الشبح، او الظل، او نائب الكاتب، او الكاتب المنتدب، او مومس الكتابة، او الكاتب الزنجي، الخ... لا بد، في حال الموهبة الحقيقية، من أن يكسر الظل المرآة ويخرج منها. لا بد من أن يرحل ااشبح، ويبقى الأصل.
جمانة حداد
تعليق