إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

ال الصدر مشروع من الاستشهاد لله والوطن

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ال الصدر مشروع من الاستشهاد لله والوطن

    الشهيدة آمنة الصدر (بنت الهدى)



    الولادة والنشأة

    ولدت الشهيدة الخالدة آمنة بنت آية الله السيد حيدر الصدر (بنت الهدى) عام 1356هــ 1937م في مدينة الكاظمية، في بيت عريق في العلم والجهاد والتقوى. وكانت أصغر شقيقيها واختهما الوحيدة.

    ولم يختلف حالها عن حال باقي أسرتها في مكابدة الفقر والحرمان، وتحمل الصعاب والمشاق، بروح غمرها الإيمان والقناعة بأدنى ضروريات الحياة.

    لم تر بنت الهدى أباها و لا تتذكره وكأنها ولدت يتيمة، إلا أن الله عز وجل عوضها عن ذلك بأخويها المرحوم السيد إسماعيل الصدر وشهيدنا الغالي السيد الصدر ــ رضوان الله عليهم جميعاً ــ فقد أغدقا عليها حناناً ومحبة تفوق ما يتوقع اليتامى، وربّياها بما لم يربّ أب فلذة كبده.

    تعلمها القراءة والكتابة

    تعلمت الشهيدة بنت الهدى القراءة والكتابة في البيت على يد والدتها ــ رحمها الله ــ فكانت الأم هي المعلم الأول، وكانت والدتها تثني على ابنتها وقدرتها على التعلم و الاستيعاب والفهم، ثم استكملت مراحل تعليمها القراءة والكتابة على يد أخويها، وشمل ذلك علوم العربية في أكثر جوانبها، حتى تمكنت من كتابة الشعر في السنوات المبكرة من عمرها.

    وكانت الشهيدة بنت الهدى ــ رحمها الله ــ حريصة على تثقيف نفسها ثقافة إسلامية رفيعة، سواء في مراحل حياتها الأولى أو فترة ما قبل الاستشهاد.

    فتمكنت من توسيع أفق ثقافتها توسعاً شاملاً متعدد الأبعاد، وكتاباتها في مجلة الأضواء في تلك الفترة (1966) تعكس لنا جوانب من تلك الأبعاد، ذلك أن مجلة الأضواء التي كانت تصدرها جماعة العلماء في النجف الأشرف لم تكن منبراً إلا للنتاجات المتميزة فقط، وكانت بنت الهدى ــ رحمها الله ــ من أبرز من كتب فيها بل كانت الرائدة الأولى في الكتابة و التأليف.

    واذا لاحظنا الكتابات الإسلامية التي تستهدف المرأة المسلمة ثقافياً وتربوياً فسوف نجد فراغاً كبيراً ليس من اليسير ملؤه، إذ لا توجد كاتبات ولا كتابات إسلامية موجهة للمرأة تعالج مشاكلها الدينية والإجتماعية وتنهض بها ثقافياً وسياسياً، وتخلق فيها حالة من الوعي لما يجري حولها يحصنها من الانحراف والضلال، من ملاحظة تلك الأمور يمكن أن ندرك أهمية الوعي الذي امتازت به الشهيدة بنت الهدى والذي جعلها تقدم على خطوة جريئة ورائدة في مجال الكتابة الموجهة والهادفة لتثقيف المرأة المسلمة بما يضمن لها كرامتها ويحصنها من الانحراف والضياع.

    سلوكها داخل الأسرة

    من الأمور التي يجب أن تعرف عن بنت الهدى سلوكها داخل البيت والأسرة، لأنها كانت نمودجاً قل نظيره في ما سطرته من خلق رفيع خلال معايشة طويلة مع والدتها وأخيها وابنة عمها أم جعفر حفظها الله، وللحق كانت السيدة أم جعفر نمودجاً ضم الخصال الحميدة والخلق الرفيع في جانب، والتقوى والورع في جانب آخر، وكيف لا تكون كذلك وهى قرينة سيدنا الشهيد الصدر ــ رضوان الله عليه ــ وسليلة العلماء الأبرار.

    كان على الشهيدة بنت الهدى أن تقوم بعدة مهام في بيت أخيها، وهي:

    1 ــ المهام والوظائف التي تقوم بها تجاه السيد الشهيد الصدر، أو ما قد يكلفها به في مجالات متعددة، من تدريس أو إقامة ندوات، أو إشراف مباشر على مدارس دينية أو غير ذلك.

    2 ــ دورها في استقبال الضيوف من النساء، والاهتمام بتلبية حاجاتهن الفقهية والفكرية، والمساهمة في حل مشاكلهن العائلية والزوجية.

    3 ــ دورها في تربية بنات السيد الشهيد تربية لائقة وصحيحة.

    4 ــ دورها في خدمة والدتها المعظمة ــ رحمها الله ــ فقد كانت بحاجة إلى المزيد من العناية والاهتمام بسبب كبر العمر ولما تعاني من أمراض متعددة.

    5 ــ دورها في القيام ببعض شؤون البيت بالمساهمة مع أم جعفر حفظها الله.

    دور الشهيدة الثقافي والتبليغي

    كان للشهيدة ــ رحمها الله ــ عدة أدوار رئيسية على صعيد الجهاد الثقافي والتربوي والتبليغي، نستعرضها هنا باختصار..

    أولاً: مدارس الزهراء (عليها السلام)

    تعتبر السيدة الشهيدة بنت الهدى من المؤسسين أو المساهين في إنشاء مدارس الزهراء (ع) في بغداد والكاظمية والنجف ــ وكان ذلك في عام 1967م ــ ولم يكن الهدف منها سد حاجة المجتمع من المدارس الإبتدائية والثانوية فإن المدارس الحكومية كانت كافية لاستيعاب كل ما هو موجود من طالبات، وإنما كانت هناك ضرورات اقتضت إنشاء هذه المدارس، منها مواجهة الثقافات المادية التي تدعو إلى الفساد والانحراف والتردي الأخلاقي، ومنها السعي لنشر الثقافة الإسلامية الصحيحة والوعي الذي يجب أن ترقى إليه المرأة.

    إن مما لا شك فيه إن (المدارس) من أفضل الأساليب التي يمكن من خلالها تربية الأجيال وتثقيفهم، وهي الأسلوب الذي يناسب العصر ويلبي متطلباته.

    لقد استحصلت الموافقة على إنشاء هذه المدارس واعتمدت نفس المواد الدراسية في المدارس الحكومية، سواء في الابتدائية أو الثانوية، لكي لا يعيق ذلك الطالبات من مواصلة دراستهن بعد إنهاء الدراسة في مدارس الزهراء (ع)، وأضيف إلى ذلك عدة مواد منها دروس في العقيدة والتربية الإسلامية بشكل مكثف ورصين.

    ولقد امتدحت الأخت وجيهة الصيدلي وهي مديرة لمدارس الزهراء (ع) السيدة الشهيدة في مقال لها في (المنبر، العدد 24، ص 8) حيث لعبت دور المشرف والموجه لهذه المدارس حيث كانت تأتي ثلاثة أيام في الأسبوع فيما كانت الأيام الأخرى تقضيها في مراكز التعليم في النجف الأشرف... ولقد أثمرت جهود الشهيدة بنت الهدى فكان نتاجاً طيباً مباركاً رغم قلة الامكانات، ورغم المضايقات الأمنية والسياسية والإجتماعية حيث تقول السيدة وجيهة في نفس المقال: ومن المفرح أن أرى هنا في بريطانيا ــ وكذلك في الخليج ــ مجموعة من خريجات مدارس الزهراء، وأنا مسرورة لأنهن حققن أمل الشهيدة ــ كم كانت تتمنى أن ترى الزهور اليانعة في المدرسة أمهات رساليات وزوجات مجاهدات ــ جهاد المرأة حسن تبعلها، بل تأكد وتحقق ما عملت من أجله بل وضحت بنفسها الزكية. لقد أصبحت الزهور اليانعة موضع افتخار وشاهد عيان على تجربتها في مدارس الزهراء (عليها السلام) الأهلية...

    ثانياً: التدريس وإقامة الندوات

    كان للسيدة الشهيدة بنت الهدى ــ رحمها الله ــ منهج واسع في المجال التثقيفي، ويعتبر التدريس من أهم فقراته.

    والمشكلة التي كانت تعترض الطريق طبيعة الكتب الحوزوية التي لم تكتب للتدريس والمفتقرة إلى منهجية واضحة تعين الطالب على استيعابها وفهمها، إضافة إلى الطباعة السيئة والكتابة المتشابكة وهو ما يصطلح عليه بــ (الطباعة الحجرية).

    إلا أن الشهيدة بنت الهدى استطاعت أن تتغلب على تلك المشاكل بقربها من أخويها المرحوم السيد إسماعيل الصدر، وشهيدنا الخالد السيد الصدر ــ قدس الله سرهما ــ فاستطاعت أن تتجاوز كل تلك المشاكل بجدارة، وتمكنت من الإحاطة بالمواد العلمية الحوزوية ــ الفقهية والأصولية خاصة ــ مما مكنها من التدريس بكفائة عالية.

    وكان الهدف الحقيقي من إقامتها لحلقات التدريس في البيت ليس فقط تثقيف طالباتها وإنما إعدادهن لتحمل المسؤولية في المستقبل لممارسة نفس الدور، وخلق طاقات علمية نسائية قادرة على إيجاد حوزات علمية نسائية تتحمل دوراً كبيراً في نشر الثقافة الإسلامية من مصادرها النقية الصحيحة

    وإلى جانب التدريس نظمت الشهيدة ندوات ثقافية دينية عامة تطرح فيها الأفكار الإسلامية بأساليب تنسجم مع متطلبات العصر ومقتضياته، وقد نالت ندواتها نجاحاً منقطع النضير، وإقبالاً من مختلف الطبقات النسوية.

    كما كانت تأمل في إعادة النظر في الاحتفالات التي تقام في مناسبات الزواج بحيث تنسجم مع الأخلاق والآداب الإسلامية وتكون مناسبة جيدة لفهم حقيقة الزواج في الإسلام وأهدافه وما يجب أن يكون عليه الزوج وكذلك الزوجة من أخلاق عالية وانسجام كامل وعدم اهتمام بالأمور المادية بشكل يحافظ على طابع السرور والفرح الذي تتسم به تلك المناسبات،.

    ثالثا: الكتابة والتأليف

    تعتبر الشهيدة بنت الهدى الرائدة الأولى في الكتابة والتأليف واستعمال الأسلوب القصصي في إيصال الأفكار أو التوجيهات. وأقول إنها (رائدة) لأننا لم نعهد في النجف ــ بالرغم من أنها تضم الحوزة العلمية والمرجعية الدينية ــ كاتبة إسلامية سبقت الشهيدة بنت الهدى في هذا المجال.

    وهي مع ذلك كانت متواضعة بسيطة لم تستهدف الشهرة والظهور، وما يؤيد هذه الحقيقة إن الشهيدة السعيدة آمنة الصدر اختارت اسماً لها هو ما نعرفه بها (بنت الهدى) تجنباً للشهرة والرياء وحب الذات، ولم يكن هناك ضير في كتابة اسمها الحقيقي لا شرعاً ولا عرفاً. كما لم يكن ذلك بسبب الظروف الأمنية لأن (جهاز مراقبة المطبوعات) في العراق لا يتعرف إلا بالاسم الحقيقي لإصدار إجازة الطبع، والسبب فقط هو نكرانها لذاتها وعزوفها عن الشهرة. ولقد بدأت الشهيدة كما قلنا سابقاً الكتابة في مجلة الأضواء التي تصدرها جماعة العلماء، وكذلك في مجلة الإيمان التي أصدرها المرحوم الشيخ موسى اليعقوبي.

    وقد تميزت فيما كتبت، فنجد كتاباتها تحمل روحاً جديدة وفكراً واضحاً وسلاسة وعذوبة ومعالجات لمشاكل معاصرة، وابتعدت كل البعد عن مظاهر الاستعراضات الفارغة التي تستهدف إبراز الشخصية وحب الظهور.

    مؤلفات الشهيدة بنت الهدى:

    1 ــ الفيلة تنتصر.

    2 ــ الخالة الضائعة.

    3 ــ امراتان ورجل.

    4 ــ صراع.

    5 ــ لقاء في المستشفى.

    6 ــ مذكرات الحج.

    7 ــ ليتني كنت أعلم.

    8 ــ بطولات المرأة المسلمة.

    9 ــ كلمة ودعوة.

    10 ــ الباحثة عن الحقيقة.

    11 ــ المرأة مع النبي.

    ولها مؤلفات أخرى مخطوطة صادرتها السلطة الحاكمة في العراق عند مصادرتها لمحتويات بيت السيد الصدر ــ رضوان الله عليه ــ بعد استشهاده وقد يكون بعضها محفوظاً.

    رابعا: رحلاتها للحج

    وكان قلب الشهيدة بنت الهدى ــ رحمها الله ــ يهوي البيت الحرام والمشاهد المشرفة في تلك الديار المقدسة، كانت إذا حانت أيام الحج تأخذها حالة من الشوق عجيبة وفرحة غامرة تملأ جوانحها فتراها مشدودة بصدق إلى الله عز وجل وكأنها تريد أن تستذكر بسرعة أيام الإسلام الأولى في مهده الطاهر وتعيش مع المسلمات في عصر الرسالة أعباء حمل الرسالة، وتستمد العزم والتصميم منهن.

    فكانت الشهيدة تذهب إلى الحج كمرشدة دينية في إحدى "الحملات" التي تذهب إلى الحج من بغداد أو الكاظمية، تعلم النساء مسائل الحج وأحكامه فكانت من الناحية الفقهية محيطة بفتاوى العديد من المراجع، وكانت تجيب كل حاجّة على وفق من تقلد من المجتهدين، وقد يحدث أن تقع مسائل نادرة وغير موجودة في الرسائل العملية للفقهاء وفي هذا الفرض كانت تتصل هاتفياً بالسيد الشهيد الصدر ــ رحمه الله ــ لتتلقى منه الحكم الشرعي. وإلى جانب ذلك كانت تسعى إلى التعرف على أوضاع المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وتنشر الثقافة الإسلامية الصحيحة بما يناسب الأوضاع حينها.

    خامساً: دور الرابط بين المرجع والمراجعات

    كان للسيدة الشهيدة دور كبير في الربط بين سيدنا الشهيد وبين القطاعات النسائية، فكانت تنقل بأمانة ما يعرض للنساء من مسائل فقهية قد يترددن بسبب الحياء من توجيهها إلى السيد الصدر مباشرة، تعينها في ذلك بعض الأحيان السيدة الطاهرة أم جعفر ــ حفظها الله ــ بحسب المناسبة وطبيعة الموضوع.

    ولم يكن هذا فقط، فقد كانت مهتمة بكل القضايا التي تشغل الساحة ومنها القضايا السياسية والثقافية، وأخصها بالذات خطوات الحزب الحاكم وحكومة البعث للسيطرة على المجتمع النسوي من خلال أطروحات وقنوات أعدتها كاتحاد النساء والطلائع والفتوة والجمعيات النسائية وأمثالها، وكان أهم تلك القضايا هو مسألة الانتماء لحزب البعث كشرط فرضته السلطة للقبول في المؤسسات والجامعات أو التوظيف الحكومي.

    إن هذه المشكلة كانت من الهموم الثابتة في قاموس الشهيدة بنت الهدى فهي تعرف معنى انتماء المرأة لحزب البعث وما يتبعه من التزامات ومظاهر تسخط الله تعالى، وتعرف كذلك ما تعنيه استقالة الموظفة المسلمة المؤمنة التي ترفض الانتماء لحزب البعث، وما يسببه لها من مشاكل مادية ومحاسبة أمنية، إذ إن عدم الانتماء يعتبر جريمة كبيرة، فلا حياد، فإما معي وإما ضدي، وهذه هي لغة السلطة الحاكمة في العراق وأسلوبها.

    وكان للسيدة عدد من المؤمنات ممن كن قد انتمين إلى حزب البعث انتماء صورياً في زمن لم يكن يعرفن إن الانتماء حرام، فكن ينقلن للشهيدة تفاصيل ما يجري في الحزب من مخططات ومؤامرات يحوكها ضد المرأة العراقية والمتدينات منهن على الخصوص، وكانت الشهيدة تنقل ذلك للسيد الشهيد بدقة.

    وبهذا الصدد تقول السيدة وجيهة في نفس مقالها السابق عن أمثال هذا النشاط ما يلي:

    "يخطئ من يقول أو يظن أن الشهيدة اقتصر عملها على التوجه التربوي والاجتماعي بل كانت تعمل في المجال السياسي بشكل واع ودقيق لظروفها والمرحلة التي تعيشها، حيث كانت تتحرك ضمن رؤية واضحة المعالم؛ فكانت تقوم بشرح الموقف السياسي المطلوب آنذاك لجميع من يعمل معها وتعبئة النساء على مقاومة النظام ومخططاته وأساليبه التي تدعو وتضغط على النساء عموماً بالانخراط لحزب البعث، وبالتالي التخلي عن القيم والمفاهيم الإسلامية. وساهمت في تربية المرأة على الورع عن محارم الله تعالى، وفي تكوين الروح الجهادية ضد أعداء الإسلام..."

    وكانت السيدة الشهيدة تستمد رؤيتها السياسية النهائية من السيد الصدر نفسه، وكانت في أحيان كثيرة تناقش المواضيع والأحداث معه بصراحة ووضوح، وكان ــ رحمه الله ــ يستمع إليها بدقة ويحترم وجهات نظرها.

    شريكة المسيرة والمصير

    إذا كان لأحد أن يعتز بمشاركته لسيدنا الشهيد الصدر ــ رضوان الله عليه ــ في مسيرته الجهادية فلا يعدو ذلك الشهيدة بنت الهدى رحمها الله. لقد كتب لها ذلك، وكانت أهلاً له......

    شاركته اليتم والفقر والحرمان في مراحل الطفولة الأولى، وشاركته ما كابد من هموم ومشاكل ليس بمقدور كل أحد استيعابها، وشاركته الصراع المرير مع سلطة جبارة عاتية كفرت بكل القيم والموازين فوقفت معه في صف المواجهة الأول في انتفاضة رجب عام 1979م، وشاركته شرف الاستشهاد في غرف الأمن العامة في بغداد، وشاركته قبره الشريف في النجف الأشرف.

    إذ لها كل الحق ــ للأمانة التاريخية ــ أن تعتبر شريكة السيد الشهيد الصدر رضوان الله عليه.

    بدأت مسيرة المواجهة الجهادية للسيدة الشهيدة منذ الاعتقال الأول للسيد ــ رضوان الله عليه ــ عام 1971م (1392) هــ.

    ثم جاءت انتفاضة صفر عام 1977م (1397)هــ فتعرض السيد الشهيد للاعتقال، وكانت تلك الأيام من الأيام العصيبة في تاريخ النجف حيث عم الخوف والرعب كل مكان، وكانت حشود السلطة في كل مكان تعتقل كل من يقع في قبضتها. أما بنت الهدى فكانت البطلة التي وقفت دون خوف في رباطة جأش وشجاعة غريبة حتى عاد السيد الشهيد ــ رضوان الله عليه ــ من بغداد.

    عندما خرج السيد مع مدير أمن النجف خرجت معه وسبقتهما إلى حيث تقف السيارة وخطبت في الجموع منددة بجلاوزة النظام وما يفعلونه صارخة ومرحبة بالموت إذا كان في سبيل الله.

    وفي صباح يوم السابع عشر من رجب 1399هــ (1979)م، تم الاعتقال للشهيد فقامت الشهيدة بنت الهدى بالذهاب إلى حرم الإمام أمير المؤمنين بالنجف الأشرف ونادت بأعلى صوتها:

    "الظليمة الظليمة يا جداه يا أمير المؤمنين لقد اعتقلوا ولدك الصدر.. يا جداه يا أمير المؤمنين، إني أشكوا إلى الله وإليك ما يجري علينا من ظلم واضطهاد"

    ثم خاطبت الحاضرين فقالت:

    "أيها الشرفاء المؤمنون، هل تسكتون وقد اعتقل مرجعكم، هل تسكتون وإمامكم يسجن ويعذب؟ ماذا ستقولون إذاً لجدي أمير المؤمنين إن سألكم عن سكوتكم وتخاذلكم ؟ اخرجوا وتظاهروا واحتجوا.."

    يا له من خطاب يدل على شجاعتها وقوتها وعدم خوفها من النظام الحاكم وأتباعه.

    وبعد لحظات نظمت تظاهرة انطلقت من حرم الإمام علي (ع) ساهمت فيها المرأة مع الرجل، وأدت إلى إجبار السلطة على الافراج عن السيد الشهيد الصدر.

    وكان من أثر هذه التظاهرة أن أفرج عن السيد بعد ساعات قليلة من اعتقاله.

    شهادتها ودفنها

    الاجرام والوحشية.. القسوة والارهاب.. صفات وخصائص النظام العفلقي الحاكم في العراق، لم يتورع النظام من استعمال كل وسائل الارهاب في معالجة مشاكله مع الشعب العراقي أو مع الدول المجاورة للعراق.

    هل يمكن لحاكم يعيش في بلد الحضارات وفي القرن العشرين أن ينهج نهجاً قمعياً لفرض سيطرته على الشعب ؟

    نعم هذا ما فعله صدام مع جيرانه من البلدان حينما قصف المدن الإيرانية بالصواريخ وقتل المدنيين فيها، وكذلك عندما قصف حلبجة بالغازات السامة "وحلبجة مدينة عراقية لا اسرائيلية". ثم هجومه على الكويت آخر ضحية لهذا الطاغية، فما جرى لشعبها من قتل وتعذيب وانتهاكات للقيم والأخلاق وحتى لأبسط المبادئ الإنسانية لا يمكن أن يصدق لولا الوثائق الدامغة التي لا تقبل الشك.

    وبقيت مأساة العراق في جانبها الأعظم غير موثقة، وهي مأساة لا نظير لها في تاريخ البشرية.

    لقد قام المجرم التكريتي بقتل السيد الصدر وأخته بنت الهدى ــ رضوان الله عليهما ــ بنفسه؛ فهو الذي أطلق النار عللقد كانت حليمة عاقلة تقابل الإساءة يهما بعد أن شارك في تعذيبهما.

    يتحدث صاحب كتاب الشهيدة بنت الهدى كيف روت له ثلاثة مصادر كيفية حدوث المأساة كما يرويها أحد قوات الأمن ممن كان حاضراً في غرفة الاعدام، قال:

    "احضروا السيد الصدر إلى مديرية الأمن العامة فقاموا بتقييده بالحديد، ثم جاء المجرم صدام التكريتي، فقال باللهجة العامية: (ولك محمد باقر تريد تسوي حكومة)، ثم أخذ يهشم رأسه ووجهه بسوط بلاستيكي صلب.

    فقال له السيد الصدر: (أنا تارك الحكومات لكم). وحدث جدال بينهما عن هذا الموضوع وعن علاقته بالثورة الإسلامية في إيران، مما أثار المجرم صدام فأمر جلاوزته بتعذيب السيد الصدر تعذيباً قاسياً. ثم أمر بجلب الشهيدة بنت الهدى ــ ويبدو أنها كانت قد عذبت في غرفة أخرى ــ جاءوا بها فاقدة الوعي يجرونها جراً، فلما رأها السيد استشاط غضباً ورقّ لحالها ووضعها. فقال لصدام: إذا كنت رجلاً ففك قيودي. فأخذ المجرم سوطاً وأخذ يضرب العلوية الشهيدة وهي لا تشعر بشيء. ثم أمر بقطع ثدييها مما جعل السيد في حالة من الغضب، فقال للمجرم صدام (لو كنت رجلاً فجابهني وجهاً لوجه ودع أختي، ولكنك جبان وأنت بين حمايتك)، فغضب المجرم وأخرج مسدسه فأطلق النار عليه ثم على أخته الشهيدة وخرج كالمجنون يسب ويشتم".

    وفي مساء يوم التاسع من نيسان عام 1980 م وفي حدود الساعة التاسعة أو العاشرة مساءً، قطعت السلطة التيار الكهربائي عن مدينة النجف الأشرف. وفي ظلام الليل الدامس تسللت مجموعة من قوات الأمن إلى دار المرحوم الحجة السيد محمد صادق الصدر ــ رحمه الله ــ فطلبوا منه الحضور إلى بناية محافظة النجف، وهناك سلّموه جنازة السيد الشهيد وأخته الطاهرة بنت الهدى، وحذروه من الإخبار عن شهادة بنت الهدى، ثم أخذوه إلى مقبرة وادي السلام ووارهما الثرى.

    ذهبت شهيدتنا الغالية إلى ربّها راضية مرضية لتحيا عند أمها الزهراء، وتشكو لها عذاب تسعة أشهر ما أقساها، وسياط المجرمين وتعذيبهم وما أشدها، وتقطيع جسد طاهر نذرته لرسالة جدها (ع)، لتشكو لها خذلان الخاذلين، وسكوت الساكتين، وشماتة الشامتين، وتفرج المتفرجين.

    ذهبت بنت الهدى وبقي دمها في أعناق الجميع أمانة ما أثقلها في ميزان حساب الأمم عند الله تعالى وعند التاريخ.

    سلام على بنت الهدى يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حية.

    والحمد لله رب العالمين

  • #2
    من مؤلفات الشهيده رضوان الله عليها


    الباحثة عن الحقيقة


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 7 )


    بسم الله الرحمن الرحيم

    لقيتها فأحسست أنني لم أعرف معنى الحياة قبل أن ألقاها ، كان كل ما فيها يشدني اليها بعنف ، وقوة ، وعذوبة ، ورقة ، عيناها الكحلاوين كانتا كقبس من نور لم اعد اعرف كيف ابصر طريقي بدونهما ، خصلات شعرها الشقراء المنسابة كانت بالنسبة لي خيوطا من ذهب تعلقت باطرافها نفسي وتابعت تموجاتها خفقات القلب عندي ، واستمعت اليها تتحدث فوددت لو بقيت تتحدث وبقيت استمع اليها العمر كله ، وكنت اشاهد المعجبين من حولها يتزاحمون على القرب منها ويتنافسون على سماع كلمة من كلامها فهم يحومون حولها كما يحوم الفراش على ضوء المصباح ، أما أنا فقد شغلت بها عن كل شيء حتى عن الدنو منها والتحدث اليها ، كنت كالعابد السابح في ملكوت عبادته الغارق في مشاعر صوفيته قائماً في محرابه لا يريم ، وهكذا كنت انا في جلستي تلك مستغرقاً في الانجذاب اليها مشغولا بذلك عن كل شيء حتى عن الحركة نحوها لا اريد


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 8 )

    أن اغير من وضعي شيئا لكي لا اخسر لحظة من لحظات هذا الفناء في ذاتها ، وكانت هي ـ كما كنت انا ـ طالبة في الصف الثالث من الجامعة ولكنها جديدة بالنسبة لهذه الجامعة بالذات اذ وفدت اليها اخيرا مع غيرها من الطلاب الذين اندمجت جامعتهم مع جامعتنا في مطلع هذا العام ، ولهذا فقد كنت اراها للمرة الأولى ويبدو ان غيري من المعجبين كان قد رأها من قبل ، ولم اكن لأبرح مكاني ذلك لولا انها قد انصرفت مع شلة من الطلبة والطالبات وقد القت عليّ نظرة فضول قبل انصرافها وكأنها تنكر عليّ عزوفي عن الدنو منها ، وقد نبهني انصرافها الى ان الدوام قد انتهى وان عليّ ان انصرف ايضا فجمعت كتبي وسرت نحو البيت وأنا لا أكاد ابصر أو أحس شيئاً سواها .


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 9 )

    ومرت الأيام وانا اراها من بعيد فلا اجرأ على الدنو منها مع كثرة من يدنو ، وكنت اجدها توزع على من حولها ضحكات بريئة وتتقبل منهم المداعبات الصغيرة ثم تنفر منهم عند أي تجاوز للأدب أو تهاون بالكرامة وكان ذلك مما يحببها اليّ اكثر ، ويحببني عن الدنو منها بشكل اكبر ، وكنت الاحظها احياناً وهي تتطلع نحوي بشيء من الاهتمام وبنظرة تختلف عن نظراتها للاخرين ، وخمنت انها تعجب من هذا الإنسان الذي لم يضعف امام اغراءات جمالها ولم ينقاد نحو نداء انوثتها ، وعجبت ان تعتب عليّ لهذا الترفع الموهوم جاهلة ان هذا الإنسان الذي تعتب عليه قد ضعف فافتقد كل شيء حتى الجرأة على الدنو منها ، وان هذا الذي تتصوره اقوى من الأخرين ما هو إلا اضعفهم واكثرهم انقيادا ، وكانت نظراتها تلك تسلمني الى مزيد من العذاب ، فكنت أعود الى غرفتي كئيباً حزينا اراجع المعاني المستترة وراء نظراتها اكثر مما اراجع دروسي ، وافكر في موقفي منها اكثر مما افكر


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 10 )

    بمستقبلي ، لقد كانت تحسب انني غافل عنها وانا لم اكن اعيش الا بها ومن اجلها ، لكم كنت اتمنى ان ابدو على حقيقتي ولو الى دقائق فاطلق عن نفسي هذه القيود التي تشل حركتها واروح ارفل في سعادة التحليق مع اماني العذاب ، فتغدو كل دقة من قلبي حكاية حب وتستحيل كل خلجة من خلجاته الى صورة من صور الفناء ، أتراني أتمكن أن اصف بعض مشاعري نحوها ؟ أو اعبر عما كنت أحسه ؟ أبدا فقد كان الحب يعصف بقلبي ويطغي على وجودي كله فيا لطول ساعاتي تلك ويا لثقل مرور الزمن عليّ حين ذاك كنت اتمنى لو يقف مرور الزمن حينما اكون أمامها واستبطأ لحظات مروره حينما أكون بعيدا عنها ، طالما تمنيت أن أموت في جلسة من جلساتي امامها وهل كنت اجد للحياة معنى بدونها ؟ كنت احب الحياة من اجلها واتمنى الموت خشية عدم الحصول عليها ، ليتها كانت تسمع نبضات قلبي وتفهم حديثها أو ان تصغي الى حديث فؤادي وتتابع نشيده الذي لا ينفك عنه لحظة من زمان ( احبك ) صحيح انها خفقات قلب ولكنها كانت حكاية حب ، نعم حكاية حب هي بالنسبة لي حكاية عمر فقد بدأت اوقت عمري واحدده منذ أبصرت بها عيناي وفي صباح يوم من الأيام وكنت قد بكرت بالجلوس في ركني المنعزل من الحديقة انتظر قدومها كعادتي في كل يوم مكتفياً بالنظر اليها من بعيد وبالنجوى الصامتة التي يرددها لها قلبي ، وهل كان للقلب حديث سواها بعد ان اصبحت


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 11 )

    اراها في كل شيء ، في خضرة الرياض الزاهية ، وزرقة السماء الصافية ، واشراقة القمر المنيرة ، واحسها مع كل شيء مع نسمة الهواء العذبة ، ونهلة الماء الرائقة ، واريج الزهر الفواح ... وفي ذلك الصباح لم يطل انتظاري لها فقد رأيتها تدخل ثم تلتفت حولها وكأنها تبحث عن احد ، ثم رأيتها بعد ذلك تتوجه نحوي فلم اصدق ما ارى ولكنها الحقيقة بعينها ولم تمض لحظات حتى كانت تقف أمامي بقوامها الممشوق وابتسامتها الخلابة ، آه نعم لقد رأيتها امامي ، وسمعت صوتها بأذني وهي تقول .. مرحبا فؤاد .. اتسمح لي ان اجلس معك قليلاً فإن لدي سؤال ؟ فارتبكت واحترت كيف اتصرف ، انها تسألني هل اسمح ؟ عجبا ! أوليست هي معي منذ رأيتها حتى الآن ؟ أنها لم تبرحني ولم ابرحها لحظة فما معنى أن تسألني هذا السؤال ؟ اتراها تهزأ بي وهي تسألني هل اسمح ؟ وهل تراني اتمنى غير ذلك ؟ ثم اسعفني لساني بالكلام فقلت متلعثما :
    نعم نعم تفضلي واجلسي .. وجلست الى جواري ولم نفترق لا بعد أن عرفت عني كل شيء وعرفت أنها تبادلني نفس الشعور وشعرت انني ملكت الدنيا بأسرها حينما ملكت قلبي هذه المعبودة الصغيرة .


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 12 )


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 13 )

    وانصرفت سندس الي وحدي ، وبدأت ترفض الحائمين حولها بعنف ، أما أنا ، فقد انصرفت اليها بجميع وجودي مع انني عرفت انها من دين غير ديني ، ولكن لم يكن الدين ليؤثر على الحب الذي كنا نعيشه ، فما عرفنا من الدين غير رموز ونعوت امليت علينا املاء من قبل اهلنا ونحن لا نفهم منه سوى اسمه ، فإني لهذا الدين المغلف بالضباب في أذهاننا ان يؤثر على هذا الحب الواضح المعطاء ؟ ولهذا فقد شربنا من كؤوس السعادة احلاها وغدونا لا نفترق الا في الساعات القليلة من الليل ولم يكن يكدر صفاء هذا الحب سوى مضايقات زميل لها في الدراسة كان قد انتقل معها من تلك الجامعة وكان يبدو مغرماً بها الى حد بعيد زاعماً بان له الحق الأول في القرب منها لأنه يماثلها في الدين وينتمي الى نفس البلد الذي تنتمي اليه وكان دائباً على ملاحقتنا بالأذى وتهديدنا بالوعيد ، ولكن جببنا كان لا يسمح لنا بمزيد من الاهتمام حتى حدث ان اصطدمنا بواقع كنا في غفلة عنه ،


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 14 )

    ماذا لو انتهت فترة الدراسة وكان علينا ان يذهب كل الى بلده واهله ؟ ماذا سوف نصنع حين ذاك وقد أصبحنا بشكل يتعذر علينا الفراق .. لا شيء سوى المبادرة بالزواج ، ولكن الزواج كان حتى ذلك الوقت اخر ما نفكر فيه ، ومع هذا رضينا بهذا الحل ابقاء على حبنا وعلاقتنا . عند ذلك واجهتنا عقبة واحدة هي الاختلاف في الدين ، لان الزواج لا يتم لا اذا اتحدنا في الانتساب الى دين واحد ، وأبدت هي استعدادها لأن تنتسب لديني فشكرتها على مبادرتها هذه وصرت أسأل عن اقصر طريق لانجاز الموضوع فقيل لي ان عليّ ان اخذها الى عالم ديني يعلمها الشهادتين وبذلك تصبح مسلمة مثلي ، ثم حاولت أن أعرف كيف يمكنني الوصول الى مثل ذلك العالم الديني ؟
    وبعد ايام أرشدني أحدهم الى بيته ... فتوجهنا اليه في مساء يوم من الأيام ، وكنت اتصوره شيخاً قد انحنى ظهره وابيضت حاجباه وملأت التجاعيد وجهه الضامر القميء ، وكنا قد قدرنا معاً قبل ان نصل باننا سوف لن نتمكن ان نفهم كلامه حينما يحرك به شفتيه بعبارات لا شك انها عتيقة تتخللها كلمات من الذكر والتسبيح ، قالت سندس : ان عليك أنت أن تفهم ما يقول قلت :
    ولماذا عليّ أنا بالذات ؟ فتضاحكت وقالت :
    لأنه يماثلك في الدين فهو مسلم وانت مسلم ، ولهذا


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 15 )

    عليك أنت بالخصوص أن تفهم تمتمته العتيقة ، ولا أنسى أنني أجبتها ببرود قائلا : آه ، نعم اني مسلم ، وعندما وقفنا أما الباب التصقت بي سندس قائلة :
    فؤاد هل تعلم بأنني خائفة ؟ ولا انكر انني كنت خائفاً مثلها فهي أول مرة كان عليّ أن ادخل فيها الى بيت عالم ديني ، نعم عالم ديني يعتبرني ولا شك من المارقين العصاة ، كنت اخشى ان ينهرني ويقسو عليّ بكلماته ، كنت اخشى ان يمتنع عن استقبالي لأنني منحرف ( على حد زعمه ) فلطالما حذّرني اصدقائي من الاحتكاك بمثل هؤلاء ، فهم حاقدون على كل شيء ، الشباب ، والجمال ، والثقافة ، والمال ، لأنهم لا يقدرون على امتلاك شيء من هذه الأشياء ولعل عجزهم هذا هو الذي جرهم الى سلوك هذا الطريق فالفشل قد يدفع صاحبه أحياناَ الى الانتحار وهؤلاء أعقل من المنتحرين فهم يبنون لأنفسهم قواعد تدر عليهم المال والجاه دون أن يكلفهم ذلك أي عمل ... ولكن ، ومع أن أفكاري كانت غير مريحة بالمرة فقد تظاهرت بالجرأة وقلت لها :
    ولماذا تخافين يا حبيبتي ؟ أنه أمر روتيني سوف ينجز خلال دقائق تصبحين بعدها مسلمة مثلي ! قالت :
    وأنت كيف اصبحت مسلماً ؟ فتحيرت بماذا أجيب ثم قلت :


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 16 )

    آه . نعم . أنا كيف أصبحت مسلماً ؟ في الحقيقة لست أعلم ولكنها الوراثة ، قالت :
    وهل ان الدين ينتقل عن طريق الوراثة ؟ فضحكت قائلا :
    أقصد أنني ابن اسرة مسلمة ولهذا اصبحت مسلماً والظاهر انها لم تقتنع فقد ردت عليّ قائلة :
    لقد قلت لا أدري وهو الصحيح يا حبيبي ، فضغطت علي يدها قائلاً :
    نعم انه هو الصحيح يا حبيبتي ... ثم طرقنا الباب ففتحه لنا طفل صغير اسمر اللون نافذ النظرات تبدو عليه خمائل الذكاء مع شيء من الخجل ، ثم قادنا الى غرفة جانبية منعزلة وجدنا فيها العالم الديني ، وكانت مفاجأة لست أنساها ابداً وأنى لي ان انسى تلك اللحظات ؟ فقد وجدتني أمام شاب لا يتجاوز الأربعين من عمره مشرق الوجه ، جميل الطلعة ، حسن الزي نظيف المسكن والملبس ، وقد استقبلنا بكلمات ترحيب حديثة مهذبة وبصوت هادئ رصين ، وحينما أعطاني يده للمصافحة وجدتها يداً نظيفة مترفة تبعد كل البعد عن تلك اليد السوداء المعروقة ذات الأظافر السمراء التي كنت أتصورها للعالم الديني ، واحسست بالراحة والركون الى هذا الإنسان والتفت نحو سندس استطلع رأيها فيه فوجدت نظراتها تحكي عن الاعجاب والاستغراب .


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 17 )

    وعندما استقر بنا الجلوس همست لها قائلاً : ألا تزالين خائفة ؟ قالت : كلا بل انني احس بالراحة ، ثم بدأت في الحديث فوراً فحدثته عن الحب الذي جمع بين قلبينا منذ سنين وكيف اننا الآن في حاجة لان يشهد هو بإسلامها ، ولهذا فأنا ارجوه أن يكرر الشهادتين لتعيدها هي امامه ، فابتسم بلطف وقال بنغمة هادئة ولكن هذا لا يكفي يا ولدي ، فاستغربت ان يناديني بيا ولدي وهو لا يكبرني إلا سنوات ، ثم قلت بشيء من العجب : وكيف ! قال :
    ان الاسلام ليس مجرد ترديد كلمات وشعارات جوفاء انه يا ولدي عقيدة وفكرة ، قال هذا وسكت كأنه لا يريد ان يسترسل بحديث غير مطلوب منه ، والحقيقة ان هذا السكوت قد اعجبني منه لأنني كنت امقت اولئك الذين يغتنمون أصغر فرصة للتمشدق بما لديهم من كلمات ولا براز ما يعرفون من معلومات ولكنني كنت اريد ان اعرف اكثر فأنا صاحب حاجة اريد ان انجزها عليّ أي شكل ، ولهذا فقد استزدته من الكلام قائلاً :
    اذن ؟ فابتسم من جديد وقال بنفس الأسلوب الهادئ :
    بودي لو ساعدتك يا ولدي ولكنني في الحقيقة مسؤول عن هذا الدين الذي انتسب اليه ، فإنني وبصفتي عالم ديني لا أتمكن أن أعطي الإسلام على شكل قشور جوفاء ، وهنا لا أدري كيف سمحت لنفسي أن أصبح ملحاحا في ذلك اليوم لأنني عدت الح عليه قائلاً :


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 18 )

    أنه مجرد تسهيل أمر لنا ولا اعتقد انه يضرك بشيء ، بهدوء أيضاً قائلاً :
    والعجيب أنه لم يغضب ولم يعرض عني بل رد عليّ .
    لو كان الأمر خاصا بي لحاولت أن أسهل أمركما ما وسعني ذلك ولكنني مسؤول عنه يا ولدي .. ومن جديد عدت لكي ألح عليه بقولي :
    أنها جلسة خاصة وسوف لن نحدث بها أحدا ولن نعرضك لأي مسؤولية والمهم ان تنجز لنا الأمر بسرعة . وهنا تململ العالم الديني في جلسته وكأنه يريد أن يتغلب على ما بعثه الحاحي الرخيص في نفسه من امتعاض وفعلا فقد تغلب على ذلك وبقي متمسكاً باسلوبه اللين وقال :
    انا لا افكر بالمسؤولية أمام الناس يا ولدي فلا مسؤولية عليّ من هذا الباب وسكت على عادته ينتظر مني حثه على الكلام ، فقلت :
    إذن فأية مسؤولية هي يا ترى ؟ قال :
    انها مسؤوليتي أمام الله عزّ وجلّ وأمام هذا الدين الذي جعلت من نفسي هادياً اليه ، لعلك تتصور ان العالم الديني يتمكن أن يتصرف كما يحلو له في الدين والدنيا ولكن الحقيقة ان العالم الديني هو اكثر الناس مسؤولية وأحرجهم موقفاً دينياً ودنيوياً ، فليس من السهولة بمكان حمل هذه الامانة


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 19 )

    الضخمة ، أمانة العطاء الديني وتحويله الى الناس بالشكل الصحيح ، وكانت كلمات العالم الديني تنفذ الى فكري وتداعب عواطفي ، سيما وقد احسست بانني ألححت عليه اكثر مما يجب ولكنني ( واكررها من جديد ) كنت صاحب حاجة لا ارى إلا قضاء حاجتي ولهذا عدت لأقول :
    إذن ماذا تطلب منا ؟ قال بشيء من البرود : أنا لا أطلب شيئاً ولكنك أنت الذي تطلب مني أن أشهد لك بإسلام خطيبتك وتريد أن يكون اسلامها مجرد ترديد كلمات قصار لا أكثر ولا أقل وانا لا اشهد بإسلامها لا بعد أن تعرف عن الإسلام ما يجعلها تثق فيه ، وهنا فهمت ما يعنيه وتأثرت لموقفه وأكبرت حلمه عليّ ولكنني مع الأسف كنت ملحاحاً عليه في جلستي تلك فأردت أن أتكلم وان اعود لأطلب منه تسهيل الأمور فلم أكن أتصور ان في أمكان سندس ان تفهم الإسلام او تفهم شيئاً عن الإسلام ، أو فهمت أنا شخصياً عنه شيئاً يا ترى مع انني ابن اسرة مسلمة فكيف سوف تفهمه سندس ؟ ولكن سندس وقد عرفت انني لا أريد أن أنزل عن موقفي اللجوج فبادرتني قائلة :
    انه على حق يا فؤاد ، أرجوك أن لا تلحف عليه اكثر انني اكبر فيه واقعيته وحرصه على أداء الامانة بالشكل الصحيح ، والحقيقة بأنني أقررتها في نفسي على ما قالت ولكنني سألتها في قلق :


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 20 )

    إذن ماذا تصنع ؟ قالت :
    قل له ان يؤدي أمانته بالشكل الصحيح ويتصرف كما يرضي ضميره ، قلت :
    وانت هل سوف تفهمين شيئاَ عن الإسلام ؟ قالت :
    ولماذا لا أفهم ؟ ألم أفهم دروس الفلسفة في الجامعة ؟ وكان العالم الديني يستمع الى حديثنا وهو يلاعب مسبحة سوداء بين أصابعه ، وكانت مسحة من الرضا أو الراحة تبدو على قسماته بعد أن عرف أن سندس قد فهمت ما يعنيه ، فقلت له بشيء من الخجل :
    إذن فنحن نطلب منك اجراء ما ينبغي ونحن على استعداد لدفع ما يستحق .. عند هذا فقط ظهرت على العالم الديني علامات الاستياء وقال بشيء من الجفاء :
    نحن هنا لا نتاجر بالدين ولا نطلب على ما نؤديه جزاءا إلا من الله ، ان رجل الدين كله عطاء ولا يفكر يوماً بالأخذ ... واحسست بالندم ونظرت الى سندس فوجدتها تنظر إلي باستنكار وتأنيب ثم همست قائلة :
    لقد أسأت اليه ، لقد أخطأت التصرف ... فعدت لكي أقول بتوسل :
    الحقيقة انني أعتذر ان كنت قد أسأت اليك ولكنها أقاويل عديدة جعلتني أفكر على هذا الشكل ، فعاد يبتسم


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 21 )

    مشجعاً وهو يقول ولكن الإنسان لا ينبغي له ان يصدق كل ما يسمع حتى يتأكد بنفسه من صحة ما يقال ، قلت في لهجة صادقة :
    نعم فإنني كنت غلطان ، والآن أرجوك أن تتفضل بما تراه ، قال :
    الحقيقة يا ولدي أن حاجة الإنسان للدين حاجة ضرورية وحتمية لا غنى له عنها ولا يمكن لأي شيء عدى الدين أن يسد له تلك الحاجة ، قلت معترضاً أو متسائلاً :
    ولماذا ؟ قال :
    لأن الإنسان بطبيعته البشرية وبتكوينه الفطري تواق الى الراحة ، والراحة لا تتكامل بدون سعادة إذن فهو تواق للسعادة أيضاً والسعادة لا تتحقق إلا إذا شملت جميع جوانب الإحساس لديه ، الفكر ، والعاطفة ، والدين هو المنهج الوحيد الذي يتكفل بتجسيد مفهوم السعادة الفكرية والعاطفية ، وذلك لما فيه من مثل خلاقة وعطاءات بنائة ، وأنظمة وقوانين تربوية صالحة ... وهنا عدت لأقول :
    ولكنك ذكرت أن ليس هناك ما يعوض عن الدين ، أو ليس في العلم وتقدمه وأثاره ما يعوض عنه بعد كل ما قدم من وسائل تكفلت بتحقيق الراحة والنعيم للإنسان ؟ قال :
    كلا يا ولدي فهو حتى لو أراد أن يستعيض بالعلم عن


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 22 )

    الدين ويلتمس ضالته من السعادة في رحابه ، سوف لن يتمكن أن يجد فيه ما يريد لأن العلم عاجز عن تحقيق السعادة بمفهومها الصحيح ، فهو وان وفر له عن طريق التكنلوجيا جميع اسباب الراحة الجسمية فجعله يقطع العالم عن طريق الطيران بساعات ، ويستمع الى الصوت البعيد عن طريق الأثير ، ويشاهد سطح القمر وهو جالس في بيته بواسطة التلفاز ، لكنه لن يتمكن ان يحقق له السعادة الكاملة لأنه لن يتمكن أن يقضي على الظلم الذي لا تتقبله طبيعة الإنسان أو أن يمحو ما تكرهه الفطرة الإنسانية من نفاق ورياء ، وحقد واعتداء ، واستغلال القوي للضعيف ، والتزاحم على المال والمقام ، لأن جميع ما يقدمه العلم خاضع لعاملين يتحكمان به هما عامل الخير وعامل الشر ، والإنسان هو الذي يوجه منجزات العلم ومخترعاته بالوجهة التي يريد ، فالطائرة مثلاً قد تكون قاذفة قنابل مدمرة وقد تكون وسيلة نقل مريحة ، والتلفاز قد يصبح أداة اعلامية صالحة وقد يستحيل الى جهاز خلاعي مقيت ، والبارود نجده يستعمل مرة في شق الطرق ويستعمل مرة أخرى في ازهاق أرواح بريئة ، وهكذا والى آخر ما في العلم من منجزات ، إذن فسوف يبقي الإنسان يصطدم مع ما لا يريده ولا يرغب فيه وذلك يعني عدم تحقيق السعادة الكاملة والراحة الحقيقة ... قلت :
    ولماذا لا تكون المثالية الاخلاقية هي العوض عن الدين ؟


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 23 )

    أعني لو تحقق شمول هذه المثالية واستيعابها لمناطق الحس لدى الإنسان لعمت مشاعرالإنسانية وطبقت قواعد العدالة بين المجتمع ؟ قال :
    ولكن هذه المثالية الخلقية لن تستطيع هي أيضاً أن تحقق له السعادة أو تشيع في نفسه الرضا ، لأن المثالية الاخلاقية وليدة حالات طارئة وليست قاعدة ثابتة راسخة ، فالرحمة مثلا ، وهي احدى مظاهر هذه المثالية وهي ايضاً مما تتوق اليه طبيعة الإنسان هذه الرحمة لا تتواجد في قلب الإنسان الا بعد وجود مقدمة ، والمقدمة هي أن يبصر هذا الإنسان ما يستدعي الرحمة وما يثير لديه دوافعها ، ومثل ذلك لو تصورنا غنيا يعمر قلبه بالرحمة والرأفة وهو مجبول على مساعدة الفقراء والمساكين ، هذا الغني لا يتمكن أن يساعد اكثر من الفقراء الذين يراهم فقط وفقط لأن هذا الفقير هو الوحيد الذي يثير في نفسه عوامل الرحمة ، أما لو لم يبصر بفقير فهو لن يستفيد من رحمته شيئاً ولن يستفيد منها المجتمع ايضاً ، والرحمة هنا مثال عن الأخلاق والتعاطف الاجتماعي . ولهذا ، ولكون هذا التعاطف ليس نتيجة لقواعد ثابتة فهو لن يؤدي دوره الكامل في سبيل تحقيق الراحة والسعادة للإنسان البشري لمحدودية مجالاته وضيقها ... وكنت استمع اليه مقتنعاً ولكن خطر لي أن أسأل من جديد قائلا :
    ولكن ما رأيك بشعور المصلحة المتبادلة ؟ اليس فيه ما يغني عن الدين ويحقق الراحة للإنسان ؟ ... قال :


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 24 )

    كلا ، فإن هذه المصلحة المتبادلة لا يمكن لها أن تحقق السعادة والراحة أيضاً ، قلت لماذا ؟ قال :
    لأن فيها ثغرات لا تمكنها من تحقيق السعادة والراحة وهي تعارض المصالح وتباينها بين الأفراد ، فما أكثر ما تكون مصلحة زيد قائمة على أساس من نقيضها عند عمر ، وما أكثر من شيدت صروح على أنقاض صروح ، وعمرت بلدان نتيجة خراب بلدان ، وسعد أفراد لما شقوا به الآخرون ، اذن فإن الشقاء سوف لن ينمحي بتحقيق قانون التبادل المصلحي والسعادة سوف لن تتواجد نتيجة سيادة المصلحة في المجتمع ، وسوف يبقى الإنسان يواجه مالا يريد ، ويجد مالا يريح ، ولهذا فهو يبقى يفتش عن الراحة التي تتوق اليها طبيعته في كل حال من الأحوال ... قلت :
    ولكن الا تتمكن التربية الصحيحة والتنوير الفكري ، والتهذيب النفسي من تحقيق ذلك للإنسان ؟ قال :
    ولكن هذه التربية الصحيحة التي تتصورها تحتاج هي بدورها الى مربين ، والمربين في حاجة الى مربين أيضاً وهكذا الى مالا نهاية ، فالتربية لا تبدأ من الصفر ، والصفر لا يخلق أرقام ، ولهذا يبقى الإنسان حاملا معه الشعور الملح بالحاجة الى الدين ، الدين الذي يحقق له جميع صور السعادة والراحة منطلقة من قواعد ثابتة لا تتغير ولا تتلون ولا تخضع للتبديل والتحريف ، عند هذا سكت العالم الديني وبقينا نحن ساكتين


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 25 )

    منجذبين لما كنا نسمع ، وبعد لحظات من السكوت قلت :
    لماذا سكت يا أستاذ أترانا قد أتعبناك أو أخذنا من وقتك أكثر مما ينبغي ؟
    قال : كلا ولكنني أردت أن أعطيكما مجالا للراحة ولا بداء الرأي فيما سمعتما ، فالتفت نحو سندس فوجدتها تقول :
    أطلب منه أن يستمر فأنا منسجمة معه تمام الأنسجام وليس لدي أية مناقشة قلت : اذن تفضل وأكمل الحديث يا استاذ ، قال :
    والآن وبعد ان عرفنا حاجة الإنسان الضرورية للدين سوف نعرف بالضمن ضرورة وجود النبوات والرسالات ولكن بقي علينا ان نعرف ما هي اوصاف الدين او ماهي أوصاف الرسالة التي تحقق الراحة للإنسان ، قلت :
    نعم فما هي أوصاف هذا الدين ؟ قال :
    أولاً : أن يكون منسجما مع الفطرة وان لا يكون متنافراً مع ما جبلت عليه الطبيعة الإنسانية .
    ثانياً : أن يكون ملائماً للعقل ولا يحتوي على أشياء يعجز العقل عن استيعابها .
    ثالثاً : ان يكون متكفلا بتقديم القيم الصالحة التي تبني الإنسان الصالح .
    رابعاً : أن يكون متمكناً من تقديم قدوة ، أي من


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 26 )

    تقديم وسائل ايضاح تمكن من التعرف على جوهره وغاياته وتمكن من السير على منهاجه . والإسلام هو الدين الذي يتكفل بتقديم كل هذه الصور والاوصاف ، الى هنا وسكت العالم ، فحاولت ان أصبر نفسي عن السؤال الى دقائق ثم سألت في لهفة وفي شيء من التحدي قائلا :
    وكيف يمكن لنا أن نعرف أن الإسلام هو الدين الذي يتكفل بتقديم كل هذه الشروط والخصائص ؟ فتنحنح العالم وقال :
    وهذا هو ما أريد أن أشرحه لها يا استاذ ولكنه سوف يستوعب مقدارا طويلا من الوقت فهل لديكما المدة الكافية ؟ عند ذلك نظرت الى ساعتي وكنت قد غفلت عن متابعتها ( على خلاف عادتي ) طيلة مدة الحديث فوجدتها تقارب العاشرة مساءا واكان علينا أن نعود قبل ذلك بساعة لكي تصل سندس الى بيت الطالبات قبل أن تغلق الأبواب ولهذا فقد اضطررنا أن نؤجل الحديث الى جلسة قادمة ، فحصلنا منه على موعد في اليوم القادم ، ثم قمنا لننصرف وكانت اجواء الوداع تختلف كل الاختلاف عن أجواء اللقاء ، فقد خرجنا ونحن نتشوق الرجوع بينما كنا قد دخلنا ونحن نستعجل الخروج ، وفي منعطف الشارع احسسنا أن هناك من يتتبع خطواتنا ، ولم نتمكن أن نميزه من بعد وشعرت سندس ببعض الأرتباك خشية أن يكون هو باسم


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 27 )

    زميلها في الدراسة ومحبها المفتون ، ولكنني حاولت أن أطمأنها وابعد عن ذهنها الشكوك ، وكان السرى في تلك الساعة من الليل مع اطلالة القمر وهدوء الطريق كفيلا لأن ينسينا كل شيء حتى فضول هذا المتتبع الرخيص فتماسكت يدانا وثقلت خطواتنا وبدأ الصمت يحكي باستمراره أعذب حديث وينطق لطوله بأروع الكلمات ، حتى وصلنا أخيراً الى دار الطالبات ، وكانت الساعة قد تعدت الحادية عشر مساءاً ، وبالطبع فقد وجدنا الأبواب مغلقة والبيت غارق في السكون والظلام ، وما كان يسعنا أن نطرق الباب فهو أمر غير مسموح فيه ولهذا فقد وقفنا وراء الباب حائرين ، وكان موقفنا ذاك مما لا نحسد عليه أبداً ، وبعد فترة من الحيرة قلت :
    ان علينا ان نقرر أمرنا يا سندس ، فالليل يتقدم ومن غير المعقول ان نقف هنا حتى الصباح ، ليتنا كنا قد خرجنا من هناك قبل ساعة ، فردت علي بهدوء غير متوقع قائلة :
    ولكننا لم نكن نلهو هناك فؤاد أتراك نسيت بأننا كنا أصحاب حاجة وكان تحقيق حاجتنا يتطلب البقاء ؟ ثم انني أشعر بأن الفائدة التي حصلنا عليها تعوضنا عن صعوبة هذا الموقف ولولا خشيتي أن يكون باسم قد تتبع خطواتنا وانه سوف يسعى الى وضع العراقيل في طريقنا لما اهمني من امر هذا الموقف المحرج شيئاً يا فؤاد ، فأعجبني كلامها


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 28 )

    واحسست بأنني أشعر نفس شعورها لولا احساسي بالمسؤولية تجاهها ولهذا فقد وافقتها على ما قالت وحاولت ان ابعد عنها المخاوف ثم عرضت عليها أن تذهب معي الى بيتي الصغير ، وصعب عليها ذلك ولكن لم يكن يسعها الرفض فتوجهنا معاً الى هناك ، وعندما كنت افتح الباب لا حظت ان هناك من كان يتتبع خطواتنا ولكن سندس لم تلاحظ شيئاً من ذلك اذ لم يبدو عليها أثر للقلق ، ودخلنا البيت ، ولأول مرة ظهر الارتباك على سندس ثم قالت بشيء من الخجل :
    أين سوف أنام يا فؤاد ؟ قلت :
    كما تشائين يا حبيبتي ، قالت :
    سوف أنام في غرفة الأستقبال لتنام أنت هنا في مكانك ، فسكت لحظة ثم قلت لها :
    بل تنامين انت هنا وأنا الذي أنام في غرفة الإستقبال .

    تعليق


    • #3
      بسم الله الرحمن الرحيم


      نساء في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )


      كان عصر الظلام ، وإن كان لها عصر النور ، وكان عصر الجهل ، وإن كانت فيه أعرف ما تكون . كان عصر الوحشية البغضية ولكنها كانت مثالاً للإنسانية الكاملة . فهي عقيلة خيرة شباب عصره عبدالله بن عبد المطلب ، ومن الذي ينكر عبدالله أو ينكر من فضله شيئاً ، وهو حلم عذارى قريش ومرمى آمال الفتيات ، وقد تخيرها هي دون سواها لتكون له زوجاً ولنسله اُماً ، فمن أجدر من آمنة بنت وهب وهي المتحدرة من أعرق الأسر ، والمتقلبة في أعز أحضان ، أن تحتل هذه المكانة الفذة .
      نعم كانت صاحبتنا هذه هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب ، وقد جلست إلى ظل شجرة وارفة الظلال لتستعيد ذكرى أيام عذاب وسويعات هناء وصفاء ، وتنصت إلى صدى الزمن


      --------------------------------------------------------------------------------

      ( 244 )

      الفائت ، وهو يتردد في أعماقها كأروع ما يكون الصدى ، وتستمد من ذكرى حبيبها الغائب رصيداً من الشجاعة يساعدها على مر الفراق ، فأنى لها الآن بذلك الزوج البار الذي فارقته مرغمة وفارقها مرغماً أيضاً ، وما أحوجها إليه في أيامها هذه التي توشك أن تستقبل فيها قادماً جديداً ووليداً عزيزاً . . . ما أحوجها إلى ذلك الحبيب الغائب ليهدهدها بحنانه ويشاركها آمالها وأمانيها وينتظر معها ابنهما البكر ، فها هي تكاد تستمع إلى دقات قلب جنينها الغالي وهي سعيدة لذلك لولا سحابة من ألم ظللت سعادتها لبعد الأب الحبيب ولكنها تعود لتقول عسى أن يكون اللقاء قريباً ، وهي تأمل أن يصلها خبر قدوم الغائب المنتظر في غضون هذه الأيام .
      فعبدالله كما لا تشك آمنة لحظة سوف لا يألو جهداً في الإسراع بالرجوع ، وسوف يبذل كل محاولة ممكنة لإنجاز مهمته في أسرع وقت ، وقد خلف وراءه في مكة زوجة عروساً تحمل له في أحشائها جنيناً وتضم له في قلبها حباً وحنيناً ، ولهذا فلا تشك آمنة في رغبة زوجها بالأبوة السريعة وفي أنه لن يماطل في سفره ولن يتقاعد عن اللحوق بأهله سريعاً مهما طاب له المقام في الخارج ،


      --------------------------------------------------------------------------------

      ( 245 )

      فهي لا تنسى أبداً ساعة إذ أقبل إليها مودعاً ، وقد أوشكت القافلة على المسير .
      وهي لا تنسى أبداً أيضاً تلك الخطوط العريضة الواضحة من الحب والعطف ، وهي مرسومة على وجهه المشرق المضيء ، ولا تنسى أبداً كيف أنه مكث معها ، وكأنه لا يريد أن ينصرف ، أو كأنه لا يتمكن من الإنصراف حتى انتزعه إخوته من أمامها انتزاعاً ، وهم يهونون عليه مدة البعد ، ويمزحون معه ويتضاحكون وهي لا تنسى أيضاً كيف أنه كان يلتفت نحوها ، وهو سائر إلى حيث تنتظره العير .
      وفي كل لفتة من لفتاته كانت تقرأ معنى من معاني الحب حين يلتهب ، ويشد إنساناً إلى إنسان . كان زوجها المسافر يحس بأنه مخلف وراءه شيئاً لم يسبق لغيره من المسافرين أن خلف مثله . . .
      وكان يشعر أن آمنة وهي تحمل له جنينه الغالي ، قد بدت لعينيه في تلك اللمحات داخل إطار من نور مقدس ، ووسط هالة من الإشعاع السماوي ، ولكنه كان مضطراً إلى السفر فسافر وهو على أمل لقاء قريب .


      --------------------------------------------------------------------------------

      ( 246 )

      وهكذا تستمر آمنة بنت وهب سارحة مع أفكارها وأحلامها ، وتستمر أفكارها وأحلامها معها أيضاً ، عنيفة بها مرة ، ورفيقة بها اخرى حتى تنتزعها من انطلاقتها الحلمية .
      تلك أصوات غريبة وصلت إلى سمعها من صحن الدار ، وحركة غير طبيعية أخذت تدب في أرجاء البيت فتهتز لهذه الظاهرة الجديدة لحظة ، ويخامرها قليل من أمل وتساورها لمحة من رجاء .
      ماذا لو كان الحبيب الغائب قد عاد هو ومن صحبه من الإخوان ، وماذا لو كان ما تسمع رجع صدى قدومهم على غير ميعاد .
      ماذا لو كان عبدالله قد اختصر المدة ورجع إلى أهله وإليها ، وإلى جنينها الحبيب ، ثم تنهض متعجلة وهي بين اليأس والرجاء وتذهب متلهفة الخطى وقلبها يكاد يسبقها في المسير ، وتذهب لتسأل عن الخبر اليقين ، وتلقى سؤالها بصوت كأنه حشرجة روح . . .
      ماذا هل قدم عبدالله ! ؟ . .


      --------------------------------------------------------------------------------

      ( 247 )

      فهي تشعر أن هناك واردين جدداً ، وهي تحس أن الدار ليست على هدوئها الاعتيادي ، ولكنها لا ترى عبدالله . وكانت تتوقع أن تبصر به قبل السؤال ، ولكنها حينما لم تر عبدالله ، وحينما وثقت من قدوم المسافرين الذين صحبوا زوجها في السفر انبعثت آهاتها كلمات سألت فيها عن عبدالله ، وتسمع الجواب وهي لا تكاد تفهم منه إلا القليل فقد أذهلتها الصدمة ، وشلت حواسها المحنة التي شعرت بها قبل أن تسمعها وعرفتها بدون أن تخبر بواقعها وكان الجواب . . لا لم يجئ عبدالله ولكنهم الآخرون ، فتعود تسأل وهي لا تعلم أنها تسأل وتستفهم وهي في غنى عن الاستفهام . إذن فأين عبدالله وما الذي قعد به عن متابعتهم في السير . . . فيقال لها : أنه مريض وقد أفاء إلى قوم في منتصف الطريق يستضيفونه حتى يقوى على السفر وهي تسمع الجواب وتفهم منه غير الذي قيل فتنطلق روحها من فمها إلى كلمات مرة وتقول :
      آه من لي بعبدالله ومن لوليدي بأبيه . وهكذا تتلاشى أحلام آمنة وينهار صرح أمانيها فنراها وقد تسربلت بأبراد العزاء بعد أن انطفأت شعلة السعادة المتوهجة في صباها الريان فهي رابضة بعيداً عن اللذات والرفيقات . .


      --------------------------------------------------------------------------------

      ( 248 )

      منصرفة عن الدنيا وما فيها من مباهج . . عاكفة على آلامها الممضة ، منطوية تحت سماء الحزن القاتم وفي إطار من الآلم المرير . . فهي لا تحيى إلا للذكرى ولا تعيش إلا على حطام السعادة المفقودة بعد أن افترقت عن رفيق دربها السعيد ، وأصبحت وهي الزهرة الناظرة رهينة الثكل الممض والحزن القاتل . فآمنة كادت بعد فجيعتها بعدالله أن تزهد في الحياة فما عادت تشعر للحياة معنى وهي خلو من عبدالله ، وعبدالله كان لها الحياة الروحية بكل معاني الحياة ، ولكن بارقة من أمل وشعور لا إرادي أخذ يشدها للحياة التي أنكرتها ، وأخذ يشعرها بوجودها حية مع الأحياء ، ويذكرها أنها لم تمت يوم مات عبدالله ، فقد أخذت تشعر أن عليها تجاه عبدالله واجباً يجب عليها أن تؤديه ، وأن في أحشائها وديعة لفقيدها الغالي ، لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تنساها ، أو تتناساها . وأحست أن رسالتها بالنسبة لعبدالله لم تنته بعد ، فما دام طفله معها فهي مسؤولة أن تعيش ، ولهذا فقد أقامت على لوعة مريعة وألم ليس فوقه ألم ، وما أكثر ما كانت تسترجع ذكرى أيامها مع الزوج الغالي وأيامها قبل أن يدخل حياتها وتدخل حياته ، وكيف أنه اختارها هي دون سواها مع كثرة


      --------------------------------------------------------------------------------

      ( 249 )

      الإغراء الذي أحيط به من فتيات قريش ، ولهذا فما أكثر ما حسدت عليه وما أكثر ما اعتزت به وفرحت فلم يكن عبدالله بن عبد المطلب بالعريس الهين ، فهو غصن بني هاشم ، ومنار فتيان قريش فماذا لو لم يفرق الموت بينهما ، وماذا لو تركهما يتذوقان الهناء ، ولو إلى مدة قصيرة ، وماذا لو أمهله الموت حتى يرى وليده العزيز ، وماذا لو رحم الموت هذا الجنين الذي سوف يستقبل الدنيا أو تستقبله الدنيا ، وهو يتيم وحيد ، وهي لا تزال تذكر ساعة الوداع ولا تنسى وصايا عبدالله لها أن تحافظ على جنينها ما وسعها الحفاظ ، ولكن أين هو الآن وقد آن للعزيز المنتظر أن تبصر عينه نور الحياة ، وفعلا فقد استقبلت الدنيا محمد بن عبدالله وهوم يتيم يكفله جده وتحضنه اُمه الثاكلة آمنة بنت وهب ، وهي المرأة الأولى في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
      ثم تمضي الأيام تتبعها الأسابيع والشهور وآمنة عاكفة على وليدها الغالي تفديه بالنفس والنفيس حتى بلغ السن الذي يتحتم به عليها أن تدفع به إلى المراضع ؛ فقد كان المفهوم السائد في ذلك العصر أن الطفل الذي ينمو في البادية ويترعرع في جوها الطلق يكون أشد عوداً ، وأقوى


      --------------------------------------------------------------------------------

      ( 250 )

      عزيمة من الطفل الحضري ، وعلى هذه القاعدة المتبعة دفعت به اُمه إلى حليمة السعدية ، وهكذا أصبحت حليمة المرأة الثانية في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وقد رجعت حليمة وزوجها إلى أحياء بني سعد ، وهي تحمل معها طفلاً يتيماً لم تتمكن أن تحصل على غيره في الوقت الذي حصلت فيه باقي المرضعات على أطفال أغنياء استلمتهم من أيدي أبويهم محملين بالزاد والمال الوفير . . .
      ومنذ أن ضمت ساعداها هذا اليتيم أحست أنه أصبح لها كل شيء وأحست أنها تود جادة أن تصبح له كل شيء أيضاً ، وما أن سافرت به حتى بدأت تتعشقه وتفنى فيه ولم يستقر بها المقام إلا وهي تشعر بأنها تحمل معها كنزاً ثميناً دونه الكنوز ، وعرفت بدافع من أعماقها بأنها هي الرابحة الحقيقية دون سواها من المرضعات ؛ وقد بدأت تلوح لها بوادر تؤيد عندها هذا الشعور فقد عمت البركة جميع الحي وتزايد الخير بالزاد والمال ، وقد أفضت بما تراه لزوجها ونبهته إلى بوادر الخير التي أخذت تلوح لهم .
      فقال لها : عسى أن يكون لهذا الغلام شأن وأوصاها


      --------------------------------------------------------------------------------

      ( 251 )

      بالعناية به والحرص عليه ؛ ولكن حليمة لم تكن تحتاج إلى أي توصية فقد ازدحمت في قلبها جميع عواطف الأمومة تجاه هذا الطفل الصغير ، وتفجر في فؤادها ينبوع من الحنان لا يمكن له أن ينفد أبداً . وقد كانت تقدمه على أولادها ، وتحله في أعلى منزلة من قلبها ورعايتها وبرها وكرمها . وقد اختلقت كثيراً من المعاذير والحجج لتتمكن من استبقائه عندها أكبر مدة ممكنة فما كانت تتمكن أن تنفصل عنه أو أن يفارق أحضانها ويبعد عن ساعديها ، فقد كان بالنسبة لها ينبوعاً للخير والبركة السعادة والهناء .
      وكذلك كان محمد بن عبدالله أيضاً فهو يحبها ويركن إليها ويحترمها صغيراً وكبيراً ، ويحفظ لها جميلها بكل احترام ، وقد عاشرها سعيداً وفارقها غير قالٍ ، ولا عاتب ، وقد بقي يذكرها بالخير والاعزاز حتى بعد النبوة ، فقد كان صلوات الله عليه يناديها بيا اُمي ، وإذا أقبلت إليه أفسح لها مجلساً إلى جواره ، وقد يتفق أن يهوي على صدرها فيقبله وهو أكثر ما يكون براً بها وحدباً عليها . .
      ثم يرجع محمد بن عبدالله إلى كنف اُمه وجده لكي يحظى برعاية الاُم في أوائل صباه ولكي ينشأ في ظل جده


      --------------------------------------------------------------------------------

      ( 252 )

      وتوجيهاته . ولكن القدر سرعان ما يقف معه مرة اخرى لينتزع منه اُمه ، وهو لا يزال طفلاً طري العود . . يصحبها في سفرةٍ تقصد بها أخواله ومعهم وصيفتها الأمينة أم أيمن ؛ وفي وسط الطريق ، وبين أميال مترامية وصحراء لا متناهية يمد القدر يده لينتزع منه آخر ركيزة له في الحياة فتلحق العلة باُمه وينتزعها الموت من بين يديه .
      ويعود محمد الصغير يتيماً مرة اخرى أو بعبارة اخرى يتيماً مرتين ولا تمهله يد الزمن حتى تفقده جده البار الذي كان يعوضه بحنانه عن حناه الأبوة وبعطفه عن عطف الأمومة . وعند هذا يكفله عمه أبو طالب ويفتح له بيته وقلبه ويفسح له في مكانه وحنانه .
      وتكفله فاطمة بنت أسد زوجة عمه الكريمة كأحسن ما تكون الكفالة . تحله في المحل الرفيع من قلبها ورعايتها وتمد له يد العون والحدب بكل ما تستطيع .
      وفاطمة هي المرأة الثالثة في حياة الرسول العظيم فلم تكن تحس أن محمداً يختلف بقليل أو كثير عن أولادها الباقين ، بل إنها كانت تحس بأن لمحمد شأناً يخوله أن يحتل الصدارة في قلبها ، وعواطفها ، وكانت


      --------------------------------------------------------------------------------

      ( 253 )

      تتابعه بعينها وهو ينمو إلى الشباب الزاهر ، ثم يكتمل شبابه ويغدو رجلاً ملء السمع والبصر .
      كانت ترى فيه حصناً ورصيداً روحياً لها في مستقبل أيامها وكانت تستمد من وجوده العزيمة والمضاء . ولشد ما كانت تعتز بأن تراه وهو يحتضن وليدها الغالي علي فهي فخورة بهذا الاحتضان الروحي ومتفائلة به خيراً .
      فمحمد هو أول شخص ابتسم له ابنها علي بعد إذ خرجت به من الكعبة ، وهي تحمله بين ساعديها الحنونين ، فهي لا تنسى أبداً أن علياً ولد في الكعبة وفي أشرف بقعة فيها ، وها هو عليُّها العزيز ، وقد أخذ ينمو ويترعرع تحت رعاية وتوجيهات ابن عمه الصادق الأمين محمد بن عبدالله ومحمد رسول الله أيضاً بعد إذ غدا شاباً .
      وفي أوج شبابه لم يكن لينسى لفاطمة بنت أسد حبها ولم يكن ليتنكر لحنانها مطلقاً ، فهو لها كولدها في كل أدوار حياته وفي كل أحواله ، وقد استخلص لنفسه ولدها علي بعد إذ عمت المجاعة في مكة .
      وكان عمه أبو طالب كثير العيال مرهقاً بتكاليف


      --------------------------------------------------------------------------------

      ( 254 )

      العيش ، وكان رسول الله قد استقل في ذلك الحين ببيته ومع زوجه خديجة ومنذ أن فتح لابن عمه بيته وقلبه لم يفترق عنه يوماً واحداً في كل الظروف والملابسات .
      وكانت فاطمة بنت أسد ترى هذا الامتزاج العاطفي بين ابنها وابن عمه فتسر له ، وتفرح فيه فهي تكبر محمداً وتعجب فيه وتعتمد عليه ، وتركن إليه ، وكان الاثنان يحلانها محل الأم لا فرق بين ابنها وابن عمه .
      فقد جاء في الروايات أن الإمام علي بن أبي طالب لما أخبر رسول الله بوفاة اُمه قال : إن اُمي قد توفيت يا رسول الله ، فيرد عليه رسول الله بل اُمي أيضاً يا علي . . وناهيك عما تحمل هذه الكلمة من تسلية للابن الفاقد اُمه ، وما تعطي للاُمة من دروس في الوفاء والإخلاص ، وحفظ الجميل ، وقد أعطاها ثوبه المبارك لتلف به مع كفنها كي يكون لها ستراً ومعاذاً ، وجلس على قبرها بعد أن انفض الجمع ، وأخذ يدعو لها ويسأل الله أن يجزيها عنه خيراً ويستعيد في فكره أيامها معه ، إذ هو طفل صغير ، وحنانها عليه حينما كان يتيماً وحيداً ، ورعايتها له وهو شاب فتي . وأخيراً قام عن قبرها وهو حزين كئيب .


      --------------------------------------------------------------------------------

      ( 255 )

      فقد كانت هي المرأة الثالثة التي دخلت في حياته صلوات الله عليه والتي نشأ في ظلال عواطفها إلى حين استقر به المطاف عند قرينته خديجة بنت خويلد .
      خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وقد كانت سيدة نساء عصرها كمالاً وجمالاً ومكانة ، وكرامة ، فهي سليلة دوحة ثابتة الفروع ، وفرع شجرة عميقة الجذور ، وقد عرفت بين قومها بسمو الروح وعلو الهمة وقوة الشخصية ، وثبات الفكرة وصواب الرأي ، وقد كانت مع كل هذه الثروات المعنوية والأدبية ثرية في مالها أيضاً ، وقد كانت تفتش عمن تستودعه المال ليتاجر لها به على أن يكون أميناً صادقاً مخلصاً . فهي جادة في طلب ضالتها من بين شباب قريش وشيوخها ، وبما أنها امرأة لا تتاح لها المراقبة الدقيقة كانت تحتاج إلى صاحب ثقة تتمكن أن تودعه مطمئنة مرتاحة .
      ومحمد بن عبدالله كان يفتش بدوره أيضاً عمن يدفع له مالاً يتاجر له به . فهو وإن كان فتى قريش الأول ومحط أنظارهم جميعاً ، ولكنه لم يكن ليستغني عما

      تعليق


      • #4
        بسم الله الرحمن الرحيم


        قيمة المرأة في الإسلام


        المرأة هي المدرسة الأولى في الحياة ، وهي أحد العنصرين الأساسيين في تكوين المجموعة البشرية . فنحن حينما نذكر المرأة نرى أنها مدرسة نشء ومربية أجيال . وحينما نأتي لنتحدث عن دورها في المجتمع نلاحظ أنها في الواقع نقطة لانطلاق المجموعة البشرية ، ولولاها لما كان هناك بشر على وجه الأرض .
        ونظراً لكونها المعهد الفطري للوليد ولكون صدرها هو واهب الحياة للجيل اهتم الإسلام بأن يلقي الضوء في شريعته وأحكامه على المرأة ومكانتها في المجتمع والحياة ، وأن يرتفع بها إلى مصاف الرجل لها ما له وعليها ما عليه ، بعد أن كانت المرأة مهضومة الحق في جميع الأنظمة الدولية التي وجدت قبل الإسلام .


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 308 )

        حتى أن كثيراً من الأمم كان قد راج فيها وأد البنات خوفاً من عار وجودهن على وجه الأرض . وكان العلماء وزعماء الديانات يبحثون ويتناقشون على طول قرون عديدة في أن المرأة هل هي إنسان أو غير إنسان ، وهل تحمل روحاً أم لا . ، وكانت الديانة الهندوكية مثلاً قد سدت أبواب تعليم كتبهم المقدسة على المرأة لعدم جدارتها لذلك . والديانة البوذية لم يكن فيها سبيل للنجاة لمن اتصل بامرأة . وأما في الديانات النصرانية واليهودية فقد كانت المرأة هي مصدر الإثم ومرجعه فيهما . وكذلك اليونان فلم يكن للمرأة عندهم أي نصيب من العلم والحضارة ولا ثقافة ولا حقوق مدنية ، وعلى مثله كانت الحال في الروم وفارس والصين وما عداها من مراكز الحضارة الإنسانية . وكان نتيجة لهذا المقت العام الذي كانت تشعر به المرأة أنها نسيت أن لها مكانة اجتماعية وأن لها كياناً خاصاً .
        ولكن الإسلام هو الدين الوحيد الذي جاء لكي يعطي الصنفين الذكر والأنثى حقه في الحياة ، وهو الدين الوحيد الذي أصلح عقلية الصنفين وبعث في الأذهان فكرة إعطاء حقوق المرأة وحفظ كرامتها . ومن ناحية أخرى فتح


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 309 )

        أمامها أبواب العلم والمعرفة وأباح لها أن تتعلم ما تشاء من العلوم المقدسة كقراءة القرآن ودراسته وتفسيره إذا أمكنها ذلك . وقد جاء في الروايات عن رسول الله ( ص ) أنه قال : طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة . وقد أشاد القرآن بالمرأة وخصها في آيات كثيرة تبين مكانتها في المجتمع ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) (1) . ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (2) . ( من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ) (3) .
        وذلك لكي تشعر المرأة المسلمة بمسؤوليتها في المجتمع ولكي يشعر المجتمع بوجودها وباعتبارها عضواً أساسياً في حياته ، ولكي لا تستغل إمكانياتها العاطفية والتكوينية استغلالا ظالماً . وعلى هذا الأساس فإن المرأة
        ____________
        (1) سورة آل عمران آية 195 .
        (2) سورة النحل آية 97 .
        (3) سورة غافر آية 40 .
        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 310 )

        المسلمة قد حصلت في ظل الإسلام على حقوق وإمكانيات لم تحصل عليها أية امرأة سواها في شتى القوانين والتشريعات . وقد ارتفع الإسلام بالمرأة لحسابها الخاص ولمجرد كونها إنسانة وأعطاها حقها الطبيعي في كل أدوار حياتها الاجتماعية ، ونحن الآن في صدد إعطاء فكرة مختصرة عن المرأة في تشريعات الإسلام ومفاهيمه .


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 311 )


        المرأة


        جاء في الروايات الواردة عن الإمام أبي عبدالله جعفر الصادق عليه السلام رواية يحدد فيها مفهومه ومفهوم الإسلام عن المرأة فيقول : ( المرأة الصالحة خير من ألف رجل غير صالح ) وهو يقصد بها أن يقرر أن الإنسانية في نظر الإسلام لها قيمة واحدة وميزان واحد للكرامة بقطع النظر عن كل الصفات الطبيعية التي يتميز بها الأفراد . وهذا الميزان الوحيد في نظر الإسلام هو الصلاح والتقوى ، والأفضلية عند الإسلام هي أفضلية العمل الصالح .
        فمهما كان الصلاح هنا متوفراً كانت الإنسانية أفضل وأكمل . ومهما ابتعد الإنسان عنه خسر بذلك كرامته في مفهوم الإسلام كائناً من كان . فلا الرجل بما هو رجل يفضل المرأة ، ولا المرأة بما هي امرأة تفضل الرجل . ولا


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 312 )

        يتعارض هذا مع الوظائف التي وزعت على الرجل والمرأة في الأسرة الإسلامية ولا مع القيمومة التي أعطيت للرجل على المرأة فيها . فإن هذه القيمومة التي اضطلع الرجل بموجبها بإدارة معاش البيت والحفاظ على وحدته لا تعبر إلا عن توزيع طبيعي للوظائف في مجتمع صغير وهو الأسرة المتكونة من أب يعيل ويحافظ وأم تلد وتربي فهي ليست قيمومة أفضلية وإلا لكان كل رجل قيماً على المرأة التي يعايشها وإن كانت أمه أو أخته وليس الأمر كذلك . . هذا بعض ما عناه الإمام الصادق ( ع ) في قوله إن المرأة الصالحة خير من ألف رجل غير صالح . وقد أراد الإمام أيضاً أن يفتح أمام المرأة مجالاً يمكنها فيه من أن تسمو بصلاحها على ألف رجل غير صالح ، وأن تثبت للمجتمع أنها مؤهلة للتفوق على الرجال إذا تقدمت عليهم بالتقوى والصلاح ، وانعكس ذلك في مختلف حقول حياتها العائلية والاجتماعية . ولا يكفي أن تكون صالحة في بعض تلك الحقول دون بعض بل المرأة الصالحة هي التي انشرح صدرها للإسلام ولتعاليمه فطهرت روحياتها من عوامل الشر وعقمت فكرتها من شوائب الأهواء الشيطانية وحسنت سيرتها في محيطها الخاص ومحيطها العام ،


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 313 )

        وأغلقت أمام عواطفها جميع أبواب الحسد والرياء والمكر والخداع ، وفتحت مشاعرها لتلقى كل ما هو خير وسليم ، وسلم منها المجتمع وسلمت منه لا تظلم مسكيناً ولا تهضم حقاً ولا تعتدي على أحد ولا تظن بأحد السوء . وتحمل أختها المسلمة على سبعين محمل من الخير كما قد أوصاها به الله ورسوله . هذه هي المرأة الصالحة التي جعل منها الإمام خيراً من ألف رجل غير صالح .
        وهذا هو مفهوم الإسلام عن المرأة بما هي إنسانة لها عملها الصالح الذي يرتفع بها إلى حيثما تشاء تبعاً لمدى توفره فيها .
        والآن فهل لي أن أقول كلمة أخيرة وقبل أن أبدأ بالبحوث الباقية فأقول أن الصلاح بمعناه الحقيقي قلما يتفق لنا نحن بنات حواء ، وإذا صادف فاتفق لواحدة منا قام مجتمعها الظالم في إبعادها عنه أو أبعاده عنها بأي سبيل ، وحتى بدون أن تشعر هي أيضاً . والذنب في هذا ذنبنا نحن وذنب مجتمعنا الفاسد الذي تنعكس فيه المفاهيم وتنقلب القيم ويتنكر للمثل ، وإلا فإن أبواب الرقي الحقيقي مفتوحة أمامنا لا ترد وافدة ولا تمتنع من قبول قاصدة وإسلامنا يعزز ذلك ويشيد فيه ويدعو إليه .


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 314)


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 315 )


        المرأة والعمل



        يقوم تقسيم الوظائف في كل مجتمع ومحيط على أساس تقبل الأشخاص لتلك الوظائف وإمكانياتهم للقيام بها على أحسن وجه . وتقسيم العمل هو ضرورة من ضرورات المجتمع في جميع النواحي والمجالات . وتقسيم العمل يؤدي إلى سهولة القيام به مهما كان صعباً ويؤدي أيضاً إلى سرعة الإنتاج مهما كان بطيئاً . وتقسيم العمل والوظائف يساعد المتخصص في كل قسم منه على النبوغ في ذلك القسم والتعمق فيه خلافاً لما لو اختلف توزيع العمل وتعاقبت الأعمال المختلفة على العامل فإنه سوف يخسر مرونته وعبقريته التي قد يحرزها في عمل واحد .
        فإن لكل شخص من الأشخاص استعداده الخاص وطبيعته الخاصة به وتكوينه الفطري والنفسي فنحن لا


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 316 )

        ينبغي لنا مثلاً أن نجعل من فنان مهندساً أو نجعل من مهندس فناناً فإن لكل منهما هوايته واستعداده الخاص ولا ينبغي لأي منهما أن يخالف اتجاهه الطبيعي أو يعاكس أهواءه واستعداده .
        فنحن إذا أجبرنا العامل الميكانيكي مثلاً على أن يكون فناناً وإذا أجبرنا الفنان على أن يكون ميكانيكياً نحكم على مواهب كل من الطرفين بالعدم في الوقت الذي نحصل فيه على أبرع عامل ميكانيكي وعلى أروع فنان لو تركنا كلاً منهما يسير وراء هوايته وطبيعته الفطرية . فتقسيم العمل يعتبر من أهم الظواهر الطبيعية ، وقد شمل حتى تكوين الإنسان وتركيبه العضوي ، فإن لكل عضو من أعضاء الإنسان عمله الخاص وفائدته الخاصة وبهذا تكون جميع أعضاء الإنسان متساوية من ناحية الاستهلاك ومتوازية في إنجاز المهام مثلها في ذلك كمثل تقسيم العمل في المعمل الصناعي ، فتقسيم العمل في المعمل الصناعي من شأنه أن يستوجب استعمال كافة الآلات الموجودة في مصنع من المصانع في وقت واحد .
        ولا شك أن هذا الاستعمال مفيد من عدة نواحي ،


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 317 )

        فهو مفيد للآلات نفسها إذ أن الحركة أفضل لها من الوقوف ، كما هو مفيد بالنسبة للإنتاج إذ أن العامل الذي يتخصص في إدارة آلة معينة يستطيع أن يحصل على أكبر فائدة مرجوة منها ؛ وبذلك تصل قوة الإنتاج إلى أقصى درجتها . وحتى على الصعيد الدولي فإنا نجد أن تقسيم العمل قد انتشر بين الدول والأقاليم بل وحتى في الدولة الواحدة نفسها ، وذلك تعباً لصفات السكان فيها واستعدادهم الذاتي لأي أنواع العمل ، وبحسب تربتها ومناخها ونوع المعادن الموجودة فيها ونوعية المحصولات التي تنتجها والقوى المتحركة وتوزيعها .
        فقد تتخصص بعض الدول في صناعة المنسوجات وبعضها في صناعة المواد الكيمائية مثلاً وقد تتخصص غيرها في تربية الأغنام أو زراعة القطن أو إنتاج النفط بناءً على استعداد الدولة وإمكانياتها . ولا شك أن تقسيم العمل بين الأفراد في جميع المجالات له أثر كبير في حياتنا الاجتماعية فعلاوة على المزايا العديدة التي يتضمنها فإنه يحكم الروابط بين الأفراد ويشعر الإنسان بحاجته إلى أخيه الإنسان وبأنه لن يستطيع أن ينتج بنفسه كافة الأشياء


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 318 )

        اللازمة له فهو مضطر إلى أن يعتمد على غيره في الحصول عليها .
        وعلى هذا فإن كل واحد من المجموعة البشرية يشعر بأنه مشدود جذرياً إلى أخيه الإنسان وهذا الشعور يولد التقارب اللا اختياري في المجتمع . فإذا كان تقسيم العمل شاملاً لكل المجالات في جميع الأحوال ، وإذا كانت الحياة قائمة على أساس تقسيم العمل في جميع نواحيها ، فمن الطبيعي جداً أن يأخذ الإسلام بهذا المبدأ في تقسيم العمل بين المرأة والرجل فيسند لكل منهما الدور الذي هو أكثر كفاءة للقيام به .
        فإن لكل من المرأة والرجل مزاجاً خاصاً وتكويناً معيناً لا ينبغي لأي منهما أن ينحرف عنه أو ينفصل منه .
        فتوزيع المهام إذا بين الرجل والمرأة لا يقوم على أساس تسخير أحدهما للأخر بل على أساس تقسيم العمل وإعطاء كل منهما نوع المهمة التي تنسجم مع طبعه ومزاجه . ولولا توزيع هذه الوظائف والتهيئة التكوينية لهذا التوزيع لما أمكن للبشرية أن تعيش على وجه الأرض . فكما أن على المرأة أن تقوم بوظائفها الطبيعية في الحياة


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 319 )

        كذلك على الرجل أيضاً أن يقوم بمهامه بالنسبة للمجتمع والحياة ، ويكون إنجاز هذه الوظائف الطبيعية على سبيل التعاون والتكافوء لا على سبيل التسخير والاستخدام .
        هذا هو التقسيم السماوي للوظائف البشرية دون استغلال من أحد الطرفين . وهكذا شاءت العدالة الربانية أن تجعل البشر متساوين في الوظائف متكافئين في الأعمال دون ظلم أو إجحاف . وتقسيم الوظائف على هذا النحو يحفظ لكل من الطرفين مكانته الاجتماعية ويحافظ في الوقت نفسه على كيانه الخاص ، ويجعلهما معاً خادمين للمجتمع على صعيدين متساويين ، وكل حسبما تفرضه عليه طبيعته ويدله إليه تكوينه .
        ولذلك فقد أسند للمرأة خدمة المجتمع في داخل البيت وأسند للرجل خدمة المجتمع في خارج البيت . وذلك لأن المرأة بطبيعتها الأنثوية الرقيقة أجدر بإدارة البيت الذي يقوم على الحب والعطف والحنان .
        ولكن هذا التوزيع العادل للوظائف أخذ يستغل من قبل بعض دعاة الشر لإبرازه في صورة معاكسة تماماً للواقع تنتج عنه تصورات خاطئة عن أن المرأة في الإسلام لا تعد


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 320 )

        إلا كونها أداة عمل وآله إنتاج تحت سيطرة الرجل . وكان نتيجة لهذه الدعايات السامة أن أخذت المرأة المسلمة تستشعر بنقطة ضعف موهومة وصارت تحاول أن تمحو عنها هذا النقص .
        وبما أن الوسيلة الوحيدة التي تمكنها من ذلك هي عدالة السماء وتفهمها الواقعي للحكمة العادلة في هذا التوزيع ، وبما أنها قد انصرفت عن هذه الناحية بعد أن توهمت اليأس منها ، فإنها لن تتمكن من الاهتداء إلى ما تسعى ، مهما حاولت ذلك ومهما بذلت في سبيل ذلك الغالي والرخيص من عزتها وكرامتها وطهرها الغالي الثمين .


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 321 )


        المرأة والحجاب


        الحجاب ليس كما يتوهم البعض من أنه ختم ملكية المرأة للرجل ، فإن المرأة والرجل من الناحية الإنسانية سواء لم يخلق أحدهما ليملك الآخر بل خلق أحدهما ليتمم الآخر ويكمله ، ولكل منهما جانبان مزدوجان : فالرجل إنسان وذكر والمرأة إنسان وأنثى ، وكل منهما بوصفه إنسان يسمح له بالمشاركة في خدمة المجتمع على أن يظهر في مجال الخدمة كإنسان لا أكثر ولا أقل . إذن فعدم تظاهر المرأة بأنوثتها لا يؤخذ دليلاً على أن الإسلام أراد أن يحجبها من المجتمع فهي عندما تتصل بالمجتمع تتصل به لحساب كونها إنسان طبعاً فكما أن للرجل أن يثبت إنسانيته في الوجود ، للمرأة أيضاً أن تثبت وجودها الإنساني ، حالها في ذلك حال الرجل سواء بسواء . وفي النواحي التي يتحتم على المرأة التستر فيها يتحتم على


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 322 )

        الرجل ذلك أيضاً فكما أن المرأة لا يمكن لها أن تتظاهر بأنوثتها وبكونها الجنس الناعم عن طريق الخلاعة والتبرج لا يمكن للرجل أن يتظاهر برجولته وذكورته ولا يمكن له أن يعيش في المجتمع الواسع إلا كإنسان ، كالمرأة التي لا يمكن لها أن تعيش في المجتمع الواسع إلا كإنسانة ، وفي المواطن التي يظهر فيها الرجل كرجل علاوة على كونه إنساناً يمكن للمرأة بل ويجب عليها أن تظهر بمظهر الأنثى علاوة على كونها إنسانة .
        وبما أن جاذبية المرأة وسحرها أقوى وأشد تأثيراً من جاذبية الرجل وسحره كان حجاب المرأة أوسع وأشمل من حجاب الرجل . فالمرأة التي تظهر في المجتمع بمظهر إنسانة بدون إشارات وهوامش تشير إلى أنوثتها ، تكون مساوية للرجل . على العكس تماماً من المرأة الغربية ، التي إن قال لها الرجل أنها حرّة في تصرفاتها وفي كل شيء تكون في الواقع مقيدة بإرضاء الرجل أي رجل كان وإشباع رغباته ، إذ فرض عليها تظاهرها بأنوثتها باسم الحرية على ما يتطلب ذلك من تعب وجهد وعلى ما يستنفد ذلك من وقت المرأة .
        فهل من الإنسانية أن تكون المرأة سلعة تعرض


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 323 )

        سيطرتها المطلقة بوصفها مالكة للمال ، بينما يمنح هذه السيطرة للزوج لا على ماله فحسب بل على مال زوجته أيضاً ، وفقاً لأحد أشكال أربعة سمح القانون بصياغة العقد طبقاً لأي واحد منها تبعاً لما يقع عليه اختيار الزوجين . والأشكال الأربعة هي كما يلي :
        أولاً ـ شركة الزوجين وهو تقسيم أملاك الزوجين إلى ثلاثة : قسم عام للزوجين غير قابل للقسمة وقسم خاص بالزوج وقسم خاص بالزوجة ، وللزوج وحده حق إدارة الأقسام الثلاثة كرئيس للشركة .
        والثاني ـ بدون شركة أو استبعاد الشركة : وهو أنه لا يوجد في هذا القسم أملاك عامة فكل زوج زوج يحتفظ بأملاكه الخاصة لكن للزوج وحده حق إدارة أملاكه وأملاك زوجته واستثمارها .
        الثالث ـ فصل الأملاك . وفي هذا القسم منافع الزوجين منفصلة فكل واحد منهما يحتفظ بملكيته لأملاكه واستغلالها وإدارتها على شريطة أن تترك الزوجة إلى زوجها جزءاً من إيرادها اشتراكاً معه في نفقات المعيشة .
        الرابع ـ المهر وهو تقسيم أملاك الزوجة إلى مهر


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 324 )

        وغير مهر : فالمهر ما جعلته المرأة مهراً عند الزواج من أملاكها أو ما أعطي إليها في عقد ترتيب أملاكها من أقاربها مثلاً ، وللزوج حق إدارته واستثماره فقط .
        ولنقف الآن عند الشكل الأول من هذه النظم وهو شكل الشركة الزوجية ، ففيه أن للزوج إدارة ماله الخاص ومال الزوجة الخاص ومال الشركة . وحق إدارة أملاك شركة الزوجية خاص بالزوج كرئيس لها وهو حق خوله له القانون فلا يجوز انتقاصه ولا الغاؤه بشرط في عقد ترتيب أموال الزوجين . وسلطة الزوج في إدارة الأموال المشتركة تكون في الأعمال الإدارية ومباشرة رفع الدعاوى أمام القضاء . وفي الأعمال الإدارية المحضة تكون سلطة الزوج فيها غير محدودة فيؤجر ويستأجر العقار من غير تحديد ، وله قبض الإيراد وله أن يتصرف فيه كما يريد ويقبض رأس المال من غير مراقبة ولا إذن من أحد . وكذلك له السلطة غير المحدودة في التقاضي ، فسلطة الزوج في ذلك غير محدودة وليس للزوجة الرجوع عليه بأي تعويض ولو أخطأ خطأً فاحشاً أو أدار إدارة سيئة أو بذر تبذيراً يجعله مسؤولاً قانونياً فهو يعمل كمالك حقيقي ليس عليه أي مسؤولية قبل أي شخص كان ، وللزوج أيضاً


        --------------------------------------------------------------------------------

        ( 325 )

        لعيون الرجال المتعطشة ؟ وهل أن من مستلزمات إنسانية المرأة أن تصرف الساعات الطوال في محلات « الكوافير » وتحت أيدي المواشط مع ما يلزم ذلك من استهلاك وقت مادي ومعنوي ؟
        كل هذا لأجل أن ترضي الرجل فهل يمكن لهؤلاء النساء أن يظهرن ولو مرة واحدة فقط بدون علامات تدل على أنوثتهن معتمدات على شخصيتهن أو على معارفهن ؟ وهل خطر لإحداهن مرة في أنها لو دعيت إلى الحفل الفلاني سوف تكون المبرزة بين لداتها لما تملك من معرفة أو لما تتمتع به من شخصية ؟ بل إن أفكارهن تتجه أول ما تتجه في أمثال هذه المناسبات إلى أناقتهن وإلى تحصيل الأسباب التي تجعل إحداهن أكثر جاذبية وفتنة من الأخرى .
        وأنا لا أريد أن أقول أن من مستلزمات الأناقة التبرج أو أن التبرج من مستلزمات الأناقة ، ولا أريد أن أدعو إلى التقشف ولكني أريد أن أنبه اللاتي جعلن في التبرج والتأنق عماد شخصيتهن أن الواقع يؤكد أن هذا شيء ثانوي لا يعدو كونه إرضاءً للرجل ولو بسبعين واسطة .

        تعليق


        • #5
          الفضيله تنتصر
          الشهيده بنت الهدى
          الجزء الاول
          هذه ـ قارئي العزيز ـ ليست قصة ، فلست قصاصة ولا كاتبة للقصة ... بل أني لم أحاول قبل الآن أن أكتب قصة. إلا أن هذا الذي أقدمه اليوم إليك ، راجية أن ينال منك الرضا والقبول ، لا يعدو أن يكون صورة من صور المجتمع الذي نعيشه وانموذجاً من واقع الحياة التي نحياها. حيث تتصارع قوى الخير والشر وتلتحم العقيدة بجيشها الفكري والروحي في معركة مع حضارات الاستعمار وأخلاق المستعمرين.
          أنا لا أقول أن الخيال لعب دوره في تجسيد صورة محدودة لهذا الصراع لكي يبرزه بطريقة ترضيك وتدفعك إلى متابعته ولكن غايتي الواقعية ، هي إبراز جوهر الصراع لا رتوشاته وهوامشه.. فإذا كنت قد نجحت في الجوهر والصورة معاً فهذا غاية ما أتمناه وإلا فأني على ثقة من قدرة قصتك هذه على إبراز المحتوى العقائدي للصراع الدائر بين دعوتي الفضيلة والرذيلة وجوهر التناقض الذي تعاني منه حياة كل


          --------------------------------------------------------------------------------

          ( 12 )

          مسلم ومسلمة في هذا العصر. على أن ما قمت به لا يعدو عن كونه محاولة بنّاءة لفتح الطريق وتعبيده بغية السير في إحياء جهاز إعلامي صامت من أجهزة الاعلام التي تواكب سيرنا ونحن في بداية المنعطف.


          بنت الهدى



          --------------------------------------------------------------------------------

          ( 13 )


          بسم الله الرحمن الرحيم


          الفصل الأول


          في شرفة أحد المنازل جلست فتاتان تكبر أحداهما الأخرى ببضع سنين ، وإن كانت كبراهما تبدو أكبر من واقعها ، نظراً لتراكم الأصباغ على وجهها ، وتعقيد تسريحتها ومكياجها الصارخ ... لكن الثانية كانت على العكس منها ؛ فهي تبدو وكأنها في السادسة عشر ، مع أنها تناهز العشرين .. وكان شعرها الذهبي مرسلاً على كتفيها ببساطة محببة ، وقد دل وضعها على أنها هي صاحبة البيت ، وكانت تستمع إلى رفيقتها ... وقد لاحت على ملامحها علامات الاستياء ، فلم يكن كلام صاحبتها بالكلام المهذب ، ولم تكن قد اعتادت على الخوض في مثله أو الاستماع إلى هذا النمط من الحديث ، فمحدثتها هذه هي بنت خالتها وقد رجعت وشيكاً من أوروبا بعد مدة قضتها هناك بأمل أن يحصل زوجها على شهادة جامعية ، وبعد أن يأسا من ذلك عادا دون أن يتمكن زوجها من نيل الشهادة . تلك هي سعاد ... وقد سمعت أخيراً نبأ عقد قران بنت خالتها نقاء فبادرت إلى زيارتها بعد


          --------------------------------------------------------------------------------

          ( 14 )

          سماعها للخبر مباشرة وهي مدفوعة إلى ذلك بدوافع عديدة ... وفعلاً فقد كانت تمهد الطريق للدخول في الموضوع فهي مندفعة تحدث بنت خالتها عن أوروبا وعن معالم الحضارة التي سحرتها ، وتحبب إليها السفر إلى هناك ، وتحشو حديثها بكلمات ونكات مبتذلة كان لها تأثير عكسي على نقاء ! فقد كانت تتجهم بدلاً عن الضحك ، وتضيق بالحديث بدلاً من الخوض فيه. فهي فتاة مهذبة نشأت في أحضان أسرة مستقيمة محافظة حريصة على الآداب الدينية. وقد عقد قرانها على شاب عريق الأصل رفيع المنبت حاصل على شهادة ( الليسانس ) يدير محلاً تجارياً يستورد فيه البضائع من الخارج. وعلى هذا فقد استقل بعمله التجاري الذي يدر كان أرباحاً طائلة وهو شاب مسلم واقعي يؤمن بالاسلام كمبدأ وعقيدة ونظام . وقد عجل بالعقد الشرعي ليملك حريته في الاتصال بعروسه. وقد قامت بينهما بعد ذلك علاقة حب وإعجاب متبادل أخذت تتزايد على مر الأيام ، وكانت بعض ظروف الزوج الخاصة تستوجب تأخير الزفاف. وقد ضاعت اتصال نقاء بعريسها من ثبات روحياتها العالية ومن حرصها البالغ على مثل الاسلام وآدابه .. ولهذا فقد كان من حق نقاء أن تستنكر على بنت خالتها أغلب ما كانت تقول ... ولكنها لم تر من اللائق أن ترد عليها أو تعارضها بعنف ـ بما أن سعاد ضيفتها ـ واكتفت بالاستماع. وبعد أن أتمت سعاد كل ما في جعبتها من كلام سكتت برهة ثم أردفت قائلة :


          --------------------------------------------------------------------------------

          ( 15 )

          ـ إن أحسن منطقة تقضيان فيها شهر العسل هي إحدى دول أوروبا.
          وهنا رأت نقاء أن الواجب يدعوها لكي ترد ، فأجابت :
          ـ أوروبا ! لا ، نحن لن نذهب إلى أي بلد أوروبي ... ولكن قد نذهب إلى بعض البلدان الاسلامية...
          وضحكت سعاد وهي ترد عليها في شيء من التهكم.
          ـ لعلكما تنويان أن تقضيا شهر عسلكما في مكة وفي موسم الحج ..
          ـ لا ، قد نذهب إلى الحج ولكن ليس خلال أيام شهر العسل.
          ـ ولماذا لا تقترحين على زوجك السفر إلى لندن أو باريس هل تعتقدين أنه يتمكن على ذلك من الناحية المادية ؟
          ـ إن المادة ليست كل شيء يا سعاد ! ولكن إبراهيم لن يوافق على ذلك مطلقاً وكذلك أنا أيضاً.
          ـ لعله يخشى السفر بالطائرة ، يمكنكما إذن أن تسافرا في السيارة أو على ظهر الباخرة. وعلى فكرة هل يملك زوجك سيارة يا نقاء ؟
          ـ السيارة موجودة يا سعاد ، وهو لا يخاف من ركوب الطائرة أبداً ، ولكن ابراهيم شاب مسلم محافظ لا يحلو له أن يقضي شهر العسل في أوروبا.


          --------------------------------------------------------------------------------

          ( 16 )

          ـ آه ... هل هو متأخر إلى هذا الحد ؟ إن هذا شيء مخيف ، له ما بعده يا نقاء ...
          ـ لا يا سعاد أنه شاب مثقف متنور الأفكار.
          ـ إذن فما الذي يمنعه من السفر معك إلى أوروبا ؟
          ـ الدين ...
          ـ ماذا ! الدين ؟!
          ـ نعم ، الدين ... والدين فقط.
          ـ هل أتمكن أن أفهم من هذا أن زوجك رجل متدين ؟!
          ـ نعم ، والحمد لله.
          ـ أنتِ تقولين : والحمد لله ، لأنك تجهلين معنى أن تتزوج فتاة عصرية مثقفة من رجل متدين وتجهلين ما يستوجب ذلك من قيود وحدود وأحكام صارمة.
          ـ لا ، أبداً أنا لست كما تظنين غافلة أو جاهلة ، ولكني فتاة مسلمة أعرف أن للاسلام أحكامه وآدابه...
          ـ وهل قوانين الاسلام إلا قيود تشدك بأغلالها القاسية ! وهل آدابه سوى أغوار سحيقة تحجبك عن المجتمع تحت سجوفها ؟
          أنت تقفين الآن على أبواب الحياة فلا تمكني الأفكار الرجعية أن تشوه مستقبلك السعيد...
          أنتِ غلطانة يا سعاد ! إبراهيم قادر على أن يهبني السعادة الواقعية في الحياة ، وأنا لا أهوى غير السعادة التي


          --------------------------------------------------------------------------------

          ( 17 )

          يهيأها لي ، فقد أصبح بالنسبة لي كل شيء...
          ـ بالرغم من هذا ، فأنك لن تصبحي له كل شيء بل ولن تتمكني أن تكوني عنده شيئاً بل ستكونين على هامش حياته وعلى الهامش دائماً !
          ـ سعاد !! إسحبي كلامك بسرعة ، فأن لي لدى إبراهيم المنزلة اللائقة والمحل الرفيع ، الرفيع من الحب والحنان...
          ـ ما دمت في دور الخطوبة وما دامت لم يتمتع بك كما يريد ، ولكنه متى اطمأن إلى استيلائه عليك سوف ترين الرجل المسلم كيف يكون !!
          ـ وأنت ألست مسملة يا سعاد ؟!
          ـ طبعاً أنا مسلمة ولكن ليس على غرار إسلام إبراهيم ، فمن رأيي أن للمرأة الحرية الكاملة بالتمتع في الحياة وبما فيها من بهارج ولذائذ ، ولكن إبراهيم يأبى إلا أن يجعل من المرأة العوبة طيعة وأداة محكومة لا أكثر ولا أقل.
          ـ عجيب أمرك يا سعاد ! ما الذي يدفعك إلى هذه النقمة التي تنقمينها على الاسلام وأنت مسلمة !؟ هل خدعتك أوربا ؟!.
          ـ أبداً ... لم تخدعني أوروبا ، ولكن حبي لك هو الذي دفعني إلى التصريح بآرائي في هذا الصدد. لقد سررت كثيراً عندما سمعت نبأ خطوبتك يا نقاء ... ولكن الآن ؟!


          --------------------------------------------------------------------------------

          ( 18 )

          ـ ولكن الآن ماذا ؟!.
          ـ إذا أردت الواقع فأني قد أسفت بل حزنت ، فقد كنت أعدك لمستقبل أفضل...
          ـ ما يدريك يا سعاد ، فلعلني سعيدة جداً ، كما أنا في الواقع.
          ـ إذا كان زوجك من النفر الذين يتمشدقون بالاسلام ومفاهيمة فهو لن يتمكن من اسعادك مطلقاً.
          ـ أنا لا أرتاح إلى تعبيرك هذا يا سعاد ، فمن تعنين بالنفر ؟ ليس الاسلام وقفاً على نفر فحسب ، ألا ترين الملايين المؤمنة بالإسلام في كل مكان ؟
          ـ أنا أقصد بالنفر : هؤلاء الذين برزوا علينا بأقاويلهم الجوفاء التي لا يبغون من ورائها سوى سيطرتهم على جنس المرأة ، والتحكم فيها ، بفرض القيود والالتزامات.
          ـ ولكن الرجل المسلم ، له أيضاً أحكامه الخاصة والتزاماته المعينة ، وليست الالتزامات وقفاً على النساء فقط.
          ـ لكنهم أحرار يفعلون ما يشاؤون بدون رقيب أو حسيب. أو لم يذهب إبراهيم إلى أوروبا من قبل ، ألا يعتزم أن يذهب إليها بعد الآن ؟
          ـ أنه سوف يذهب إلى فرنسا بعد مدة وجيزة لأجل


          --------------------------------------------------------------------------------

          ( 19 )

          التعاقد مع إحدى الشركات ، ولتقديم أطروحته للحصول على شهادة الدكتوراه.
          ـ فهذا إذن حلال ، ولكن ذهابك حرام. أنه في حل من الاسلام مهما دار وسار ولكن قيود الاسلام لا تطوق سوى عنقك يا نقاء.
          ـ أنا لست مقيدة يا سعاد ؟ فأنا سعيدة بإبراهيم ، وبكل مثله ومفاهيمه.
          ـ أنا آمل أن تكوني سعيدة ولكنك الآن في غفلة وأخشى أن لا تصحي منها إلا بعد فوات الأوان.
          ـ ماذا تعنين يا سعاد ؟..
          ـ أعني أن الزواج لا يمكن أن يكون زواجاً ناجحاً إذا لم يكن قائماً على أساس من مفاهيم الحضارة الحديثة ، والفتاة لن تحصل على السعادة إلا بزواج ناجح ، ولهذا ترين أن الفتاة العصرية أخذت تتحرر من قيود أهلها وتستقل باختيار الزوج الذي تريده.
          ـ أنا وابراهيم على اتفاق تام ولن تزيدنا الأيام إلا ثقة وتفان ووئاماً.
          ـ قد تبقين أنت قائمة على إخلاصك يا نقاء ، ولكن الرجال ليسوا كالمرأة أنهم يخدعون زوجاتهم بأساليب وأساليب ، منها الدين ومنها العفة والفضيلة ، فهم يحتجزونها


          --------------------------------------------------------------------------------

          ( 20 )

          في الدار بحجة أنها مسلمة ، ويضنون عليها بكل غال ونفيس ببرهان أنها عفيفة فاضلة.
          ـ وهل تعتبرين جلوس المرأة في دارها وعشها السعيد احتجازاً ؟!.
          ـ نعم ، فالمرأة لا تتمكن من الاحتفاظ بزوجها إلا إذا سايرته ورافقته في رحلاته وسفراته وحفلاته ، ولكن المرأة التي تقبع في عقر دارها وتترك لزوجها الحبل على الغارب لا يمكن لها أن تركن إلى دوام سعادتها في الحياة الزوجية.
          ـ وهل تعرفين إبراهيم يا سعاد ؟ ليتك كنت عرفتيه ...
          هنا سكتت سعاد لحظة حاولت فيها أن يبدو صوتها طبيعياً وهي تقول :
          ـ لم يسبق لي أن رأيته يا عزيزتي.
          ـ لو عرفتيه لتبدلت نظرتك نحوه تبدلاً كلياً يا سعاد ! فهو رجل مثالي ، حلم العذارى المؤمنات ...
          وبدا الارتباك على سعاد ، وتملمت في جلستها ، ثم قامت وهي تقول :
          ـ عليّ الآن أن أذهب فقد طال بي الجلوس ، ثم أني مدعوة إلى حفلة هذه الليلة.
          وعجبت نقاء لفورية عزم سعاد على الخروج ، فقد كانت


          --------------------------------------------------------------------------------

          ( 21 )

          مندفعة في كلامها وكأنها لا تنوي الانصراف ، وعندما ودعتها ورجعت كان صوت أمها يتناهى إليها وهو يناديها من داخل الدار :
          ـ نقاء ... نقاء ... أين أنتِ يا عزيزتي ؟
          ـ ها أنا ذي يا اُماه.
          ـ منذ ساعة وأنتِ جالسة وحدك في الشرفة.
          ـ لا يا ماما ، لم أكن وحدي فقد كانت معي سعاد.
          ـ سعاد ! ألم تنصرف سعاد منذ ساعة أو أكثر.
          ـ نعم ولكنها اقترحت عليّ أن نجلس قليلاً في الشرفة.
          ـ لماذا ؟!.
          ـ لا أدري.
          ـ ولكن أمك أدرى يا نقاء .. لابد وأنا كانت تحدثك عن أوروبا وحضارتها المزعومة.
          ـ تماماً كما قلت يا ماما.
          ـ الويل لها من غريرة ، ألم يكفها أنها لوثتها حضارة الغرب لتجيء وتسكب على أذنيك كلماتها السامة ، أنها خشيت أن تخوض في هذا الموضوع أمامي ، فآثرت أن تجتمع بك على حدة . يا لها من شيطانة.
          ـ أماه ! إنها بنت أختك فلا يصح لك ان تنعتيها بهذه الأوصاف !
          ـ أنا بريئة منها ومن سلوكها المنحرف ، أنها كانت السبب


          --------------------------------------------------------------------------------

          ( 22 )

          في التعجيل بموت أختي ، فلم تكن أمها تطيق منها هذا السلوك ، والآن تعالي حدثيني عما كانت تحدثك عنه سعاد ، لأرى أي نوع من الحديث هو ؟
          ـ دعي عنك ذلك يا ماما ، فهي لم تقصد من وراء كلامها أي سوء.
          ـ ليتها كانت هكذا ، وليتك تعرفينها على حقيقتها لكي لا تغرك بكلماتها المعسولة.
          ـ هوني عليك يا ماما ، فأنا لا أتأثر بكلام سعاد وأفكارها ولكني لا أوافق على نعتها بهذه النعوت ، أنها بنت خالتي على كل حال.
          ثم ذهبت نقاء إلى غرفتها واستلقت على سريرها ، وهي تحاول أن تصرف أفكارها عن سعاد ، فهي لا تشك لحظة في اخلاص ابراهيم ، وأنه سوف لن يتوانى عن تهيئة جميع أسباب السعادة لها في الحاضر والمستقبل ، ثم أنها بطبعها أيضاً كانت تشعر بخطأ سعاد وانحرافها بأفكارها عن الصواب ... فكرت بالمكسب الذي جنته سعاد من حياتها هذه وهي لم تحصل أخيراً إلا على زوج عاطل ، لم يتمكن حتى من نيل شهادة جامعية أولية ، سواءاً في بلده أو في الخارج.
          وقد استعاض عن ذلك بأمواله التي ورثها عن أبيه ينفق منها ما يشاء في مغامراته ولهوه دون أن يتخذ نعمة الله


          --------------------------------------------------------------------------------

          ( 23 )

          مصاريف خير وطمأنينة وهناء ، لكن سعاد لم يكن يهمها غير المال ، ولا تعيش إلا لأجله. وصممت نقاء على أن تسأل إبراهيم عن واقع المرأة في الاسلام ، وعن حقيقة نظرته نحوها ، فهي واثقة من أنه كفيل بإيضاح الواقع وتفسير ناحية فرق المرأة عن الرجل في الاسلام.

          تعليق


          • #6
            من كلمات الامام محمد باقر الصدر
            بسم الله الرحمن الرحيم

            والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين الميامين.

            يا شعبي العراقي العزيز، يا جماهير العراق المسلمة التي غضبت لدينها، لكرامتها ولحريتها وعزتها ولكل ما آمنت به من قيم ومثل.

            أيّها الشعب العظيم، إنّك تتعرض اليوم لمحنة هائلة على يد السفاكين والجزارين الذين هالهم غضب الشعب وتململ الجماهير بعد ان قيدوها بسلاسل من الحديد ومن الرعب، وخيل للسفاكين انهم بذلك انتزعوا من الجماهير شعورها بالعزة، والكرمة، وجردوها من صلتها بعقيدتها وبدينها وبمحمدها العظيم لكي يحوّلوا هذه الملايين الشجاعة المؤمنة من أبناء العراق الأبي الى دمى وآلات يحركونها كيف يشاؤون ويزقونها ولاء عفلق وأمثاله من عملاء التبشير والاستعمار بدلاً عن ولاء محمد وعلي «صلوات الله عليهما».

            ولكن الجماهير دائماً هي أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة وقد تصبر ولكنها لا تستسلم.

            وهكذا فوجىء الطغاة بأن الشعب لا يزال ينبض بالحياة وما تزال لديه القدرة على ان يقول كلمته.

            وهذا هو الذي جعلهم يبادرون الى القيام بهذه الحملات الهائلة على عشرات الالاف من المؤمنين، والشرفاء من أبناء هذا البلد الكريم، حملات السجن، والاعتقال، والتعذيب، والإعدام وفي طليعتهم العلماء المجاهدون الذين يبلغني إنّهم يستشهدون الواحد بعد الآخر تحت سياط التعذيب وإنّي في الوقت الذي أدرك عمق هذه المحنة التي تمرّ بك ياشعبي وشعب آبائي وأجدادي أؤمن بأن استشهاد هؤلاء العلماء واستشهاد خيرة شبابك الطاهرين وأبنائك الغيارى تحت سياط العفالقة، لن يزيدك إلاّ صموداً وتصميماً على المضي في هذا الطريق حتى الشهادة أو النصر.

            وأنا أعلن لكم يا أبنائي بأني صممت على الشهادة ولعل هذا هو آخر ما تسمعونه منّي، وأن أبواب الجنّة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء حتى يكتب الله لكم النصر. وما ألذّ الشهادة التي قال عنها رسول الله «ص» أنهاحسنة لا تضر معها سيئة والشهيد بشهادته يغسل كل ذنوبه مهما بلغت.

            فعلى كل مسلم في العراق، وعلى كل عراقي في خارج العراق أن يعمل كل ما بوسعه ولو كلّفه ذلك حياته من أجل إدامة الجهاد والنضال لإزالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب، وتحريره من العصابة اللاإنسانية وتوفير حكم صالح فذّ شريف طيّب يقوم على أساس الإسلام.

            والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

            محمد باقر الصدر

            شعبان ـ 1399 هـ

            تعليق


            • #7
              نظرات اسلامية في لائحة حقوق الإنسان
              الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره)


              المقدمة
              !
              إن هذا الجهد المتواضع الذي تراه بين يديك، والذي تناول إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن بالنقد الإسلامي البناء، ليس هو إلا نتيجة من نتائج " كلية الفقه" التي كان لي شرف التلمذة بها مدة خمس سنوات متتابعة حتى إن وفقني الله عز وجل بمنه ولطفه إلى التخرج منها، وقد بذلت الكلية جهدا مشكورا في تغذية تلاميذها من ثمار الفكر الإنساني قديمه وحديثه، وإطلاعهم على مختلف وجهات النظر في مختلف حقول المعرفة سواء من الناحية الدينية أو الفلسفية، أو من ناحية العلوم الإنسانية في حقول علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ، أو ما سواها من حقول المعرفة الإنسانية، وذلك ليكون تلاميذها المتخرجون أفذاذا فضلاء يستطيعون مجابهة صعوبات الحياة، وحل المشاكل البشرية على ضوء الإسلام المنير.
              وكان إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن مما استفدته من " كلية الفقه" أيضاً، حيث تلقيته عن الدكتور فاضل حسين في مادة " التاريخ الحديث"، وقد تفضل بذكره لنا في معرض حديثه عن الثورة الفرنسية بملابساتها المهمة وحوادثها التاريخية، وقد شرحه لنا شرحاً ضافياً، وقد كان لي توفيق كتابته في أثناء الفترة المحاضرة، وقد أكد بالخصوص على إن هذا الإعلان إنما يمثل فلسفة ومصالح الطبقة البرجوازية الفرنسية، وإن كان ظاهر العبارة فيه يقتضي انه شامل لجميع بني الإنسان، بل انه أكد على إن الثورة الفرنسية نفسها ثورة برجوازية، وإنما نجحت بقوة البرجوازية الفرنسية، وضعف الإقطاع في فرنسا، ومن هنا جاء هذا الإعلان بعيد الثورة بأيام ممثلا لجوهر فلسفة الثورة ومصالح البرجوازية.
              وكان هذا نفسه ما حاولت التأكيد عليه في غضون مناقشة الإعلان، حيث تعرضت بالتفصيل إلى التفسير البرجوازي لكل مادة تقريباً في هذا الإعلان. كما حاولت أن اعرض على ضوء هذا التفسير وعلى ضوء الإسلام نقاط الضعف والقوة في هذا الإعلان، وكيف إن هذا التفسير البرجوازي ينزل بهذا الإعلان من البرج العاجي الذي حاول واضعوه أن يضعوه فيه، بالإضافة إلى ضيق الأفق وقصر النظر الذي تميز به هذا الإعلان عند مقارنته إلى عدالة الإسلام وشمول تعاليمه وخلوده. وقد تعرضت بشيء من التفصيل إلى شرح وجهة النظر الإسلامية في كل قاعدة مما ذكره الإعلان.
              ولكنني أود أن اعترف رغم كل ما توسعت به في ذكر التعاليم الإسلامية، إنني قد اختصرت كلامي اختصاراً كبيراً فقد كان بالإمكان - لو كان المقصود هو الاستيعاب والشمول- أن يمتد البحث إلى أضعاف هذه الكمية، ولكنني اقتصرت على ما له صلة مباشرة بالموضوع، مما يكفي في لفت الأنظار إلى وجهة النظر الإسلامية.
              ولما كان ينبغي أثناء عرض وجهة النظر الإسلامية لكي تكون الصورة واضحة وصادقة من تصور الدين الإسلامي مطبقاً بجميع أوامره ونواهيه وخصوصيات تشريعه، فإن الإسلام إنما جاء لكي يطبق في المجتمع كوحدة متماسكة يشد بعضها البعض، ليستطيع أن يثمر ثماره شهية ناضجة، كما هو المتوقع منه، وإلا فإنه لن يثمر إلا في الحدود الضيقة التي تسمح بها الظروف الموضوعية في كل جيل.
              لهذا، اقتضى تصور مجتمع مسلم يتصف جميع أفراده أو اغلبهم بالإسلام، وتقوم بينهم الروابط والعواطف على أساس إسلامي، وتحكمه حكومة إسلامية شرعية تقوم بتطبيق القوانين الإسلامية على المجتمع الإسلامي.
              فان لهذا التصور المدخلية الكبرى في معرفة وتشخيص الثمار الحكيمة والأهداف السامية التي قصدها الإسلام من سنَّ تشريعاته، وعليه فقد تمت مناقشة الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان على هذا الأساس.
              هذا وأرجو أن أجد منك تجشمك أثناء مطالعة البحث، أُذناً واعيةً وقلباً منصفاً وعقلاً من العدالة والإنصاف وبعيداً عن التعصب الأعمى، فان التعصب آفة البحث، وذلك لكي أن تفهمني كما أريد أن تفهمني، وأن تفهم الإسلام كما يريد الإسلام أن تفهمه. ولك مني سلفا خالص الشكر.


              محمد الصدر
              النجف الأشرف - العراق

              تعليق


              • #8
                الجهاد والارهاب..... خطان لا يجتمعان
                كتابات / الإنسان عبد الله

                أن ما يجري ألان في العراق من أحداث لم تكن وليدة الساعة أو جاءت من خلال محض الصدفة بل أن هذه
                الأعمال مخطط استعماري انجلوامريكي الغاية منة امركة العالم وفق نظام العولمة التي يريدون بسطها بالقوة
                على البلاد الإسلامية ، فنرى أن هنالك مفاهيم تعتبر من داخل صميم العقيدة الإسلامية يحاولون طمس هذه
                المعالم حتى يكون هنالك موت وفناء للإسلام ومن أهم هذه الأسس التي جعلت الإسلام يكون قوي بوجه
                الأطماع هو موضوع الجهاد .
                وإذا أردنا الخوض في هذا المفهوم لابد لنا أولا معرفة ما هو الجهاد ؟
                كلمة الجهاد هو مصطلح لفظي له عدة مصادق تنطبق علية وكلها مصاديق صحيحة واصل كلمة الجهاد هي
                (جاهد )في سبيل الله (مجاهدة) و(جهادا) و (الاجتهاد) و( التجاهد ) أي بذل الوسع و(المجهود ).

                والجهاد هو أن يبذل الإنسان من الجهد لأي آمر ما ، وقد وردت عندنا مواطن الجهاد التي آمر بها الله ورسوله
                (ص) عديدة منها .
                1- جهاد النفس / ويقصد به هنا أن يبذل الإنسان من الجهد لمحاربة النفس الأمارة بالسوء حتى يكون قادر
                على التغلب على الهوى الذي قد يدفعه لفعل المحرمات والعياذ بالله كما في قوله تعالى .( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ
                النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف:53)

                2- جهاد العمل / والمراد به هنا أن يقدم الإنسان جهدا للحصول على كسب قوته ليتمكن من العيش ،وورد في
                قولة تعالى ( كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة:60)

                3- الجهاد القتالي / والمراد به هنا حمل آلات الحرب والقتال ضد الأعداء ، كما ورد في قوله تعالى ( قَاتِلُوهُمْ
                يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (التوبة:14)

                ويشترط في وجوب الجهاد القتالي أمور منها –
                1- التكليف – فلا يجب على الصبي ولا على المجنون
                2- الذكورة – فيجب على الرجال دون النساء .
                3- الحرية – فلا يجب على العبد على المشهور وان كان الاحوط خلافه ، والاصوب هو ملاحظة الأهم من
                جهاده وخدمة مولاه
                4- القدرة الجسدية – فلا يجب على الأعمى والأعرج والمقعد والشيخ الهرم والمريض . وكل من لم يكن قادر
                على القتال .
                5- القدرة المالية – فلا يجب على الذي يعجز عن نفقة طريقه وقوت عياله في غيابه وثمن سلاحه . ويسقط
                هذا الشرط بكفالة الآخرين له .
                6- أذن الإمام عليه السلام أو نائبة الخاص على المشهور ، وهو الاحوط وان كان لالحاق أذن النائب العام
                وجه وجيه .
                والجهاد واجب كفائي مع اجتماع الشرائط . فيجب أن يقوم به عدد كاف من الناس .فان حصل ذلك سقط عن
                الآخرين . وان لم يحصل باعتبار قيام أحد أو قيام عدد اقل من الكفاية عوقب الجميع ممن لم يقم بهذه الوظيفة
                الشرعية .
                وينقسم الجهاد القتالي ضد الكفار إلى قسمين
                أ‌- الجهاد الهجومي/ ونتيجته دخول المجتمعات الكافرة تحت سيطرة الإسلام . وهذا غير واجب في عصرنا
                الحاضر جزما .لان شرطه الأساسي ،هو إحراز التقدم والانتصار وهو غير متوفر بل العكس هو المتحقق. فإذا
                لم يكن واجبا كان حراما لان فيه أراقا للدماء من دون نتيجة .والجهاد كما ذكرنا انه واجب كفائي ولكنه يصبح
                واجبا عينيا في آمرين .

                الأول – إذا أمره الأمام عليه السلام أو نائبه الخاص ، أو العام بذلك أمرا إلزاميا .

                الثاني – إذا اتضح للمكلف توقف حاجة الجهاد ونجاحه على وجوده .ومنه كأنه لم يخرج ما فيه الكفاية فيجب
                عليه الخروج .



                ب‌- الجهاد الدفاعي / وينقسم إلى قسمين أيضا (عام ) و(خاص) فالدفاع العام هو الدفاع عن المجتمع المسلم ،
                والدفاع الخاص عن النفس ضد الاعتداء الشخصي .

                وكلاهما جائز بل واجب فمن حيث الدفاع العام فأنة يجب على كل مسلم الدفاع عن الدين الإسلامي أو البلد
                الإسلامي . إذا كان الدين أو أهلة في معرض الخطر , ولا يعتبر فيه آذن الأمام ع ، بلا أشكال . ولا فرق في ذلك
                بقي أن يكون في زمن الحضور أو الغيبة وإذا قتل فيه أي فرد جرى علية حكم الشهيد في ساحة الجهاد سواء
                كان مقاتل أم لم يكن مع اجتماع سائر الشرائط .

                كما تجري على الأموال المأخوذة من الكفار في الدفاع أحكام الغنيمة ويختص ذلك بما إذا كان المهاجمون غير
                مسلمين ، مهما كان دينهم .

                وقد يجب النفير العام ولا يتوقف الخروج حتى على أذن الفقيه ، ما لم يفتقر الحال إلى قيادة وترتيب .( بل يجب
                مبادرة الفقيه إلى ذلك أيضا ، كغيره من الناس ) ويجوز أن يستعمل في الدفاع كل ما يرجى الفتح والنصر من
                قوة وسلاح كما في قوله تعالى. (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
                وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)
                (لأنفال:60)

                أما الدفاع الخاص لأشكال في جوازه بل وجوب دفع المقاتل مع الإمكان عن النفس والغير من العائلة أو غيرها
                من المؤمنين ولا اعتبار لآذن الفقيه في هذا المورد . والمقصود من المقاتل :- المهاجم بقصد القتل ، سواء
                كان واحد أو متعدد ، ولا اقل إحراز انه لا مانع له من القتل وان استهدف السرقة آو غيرها .وان قتل المهاجم
                خلال ذلك كان دمه هدرا . وان قتل المدافع فهو شهيد كما جاء في قول رسول الله ص ( من قتل دون ماله أو
                عرضة أو أرضه فهو شهيد )

                هذا ملخص بسيط عن الجهاد في الفكر الإسلامي كما أن للجهاد في سوح القتال هنالك أسس ومفاهيم وأخلاقيات
                يتحلى بها المقاتل ، فان بقيت الحياة سوف أتطرق لها بعونه تعالى لكن ما أريد الإشارة أليه من خلال هذا المقال
                آمر واحد لاغير وهو ( العراق يمر بمنعطف خطير للغاية وهو ألان محتل من قبل الثالوث المشؤوم دول الكفر
                امريكا وبرطانيا واسرائيل والعراق بلد مسلم فما هو التكليف الشرعي يا علماء المسلمين )
                أليس الواجب علينا ألان هو الجهاد الدفاعي لصد الكفار المهاجمين على البلد المسلم العراق ، أو ليس قيده
                المشهور بالخوف على بيضة الإسلام ، بحيث لولا الدفاع فانه يندرس الإسلام تماما أو ليس الكفار يرتعون
                ويعربدون في العراق ألم يقم الكافر بجريمة الزنا بنساء المسلمين واللواط بصبيانهم أما ترون الكفار يتجاهرون
                بفسوقهم كشرب الخمر والزنا واكل لحم الخنزير ، كل هذا يحصل في العراق من قبل الكفرة الفجرة , فأين هو
                دور علماء الدين ؟؟!!!!!!
                أم أن الكافر صار هو الذي بيده ولاية لامر ليقرر ما ينفع المسلمين .

                الإرهاب / أيضا انه مصطلح لفظي يمكن أن يكون مصداق حقيقيا لعدة معاني ، والإرهاب أي الرهبة بمعنى
                الرعب أو الخوف ( ارهب عدوك ، أي ، أخيفه لعدوك )

                والإرهاب يقع بمفهومين الأول الإرهاب العسكري الذي يستهدف الأبرياء من الناس ، والثاني والإرهاب
                الفكري الذي يستهدف العقائد والمفاهيم التي تربت عليها المجتمعات المراد تغيرها وفق مفاهيم خاصة .
                فبعد كل ما تقدم يبقى السؤال الذي يطرح نفسه ما جرى و يجري ألان في العراق هل هو جهاد أم إرهاب ؟
                الجواب هنا يكون أن كل عمل يقوم به مجموعة من الناس المؤمنين بعمليات ضد جيوش الكفر داخل البلاد
                الإسلامية لطردهم منها وللحفاظ على الإسلام وآهلة هذا يكون جهادا .
                هنا أشيد واثمن بالدور الجهادي الذي قام به جيش الأمام المهدي ع بقيادته المتمثلة بسماحة السيد المجاهد
                مقتدى الصدر أعلى الله مقامة الشريف ، وأفراد الجيش المخلصين الذين خرجوا لله ولنصرة الدين والمذهب
                فردا فردا بمواجهة جيوش الكفر والضلالة فهنا نرى أن جيش المهدي قد استهدف الوجود الأمريكي وعملائه
                الخونة المنافقين فكانت تحركاته وسياسته مبنية على أسس ثابتة وقيم مبدئية واضحة أراد من خلال نهضته طرد
                المحتل من الأرضي الإسلامية وهذا هو الجهاد بعينة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
                وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التحريم:9)
                فليس كل من يدعي الجهاد هو مجاهد كون أن اصل العمل هو النية فان كانت نيته صادقة بينه وبين الله خالصة
                يحسب مجاهدا وإذا قتل كان شهيدا وإذا كانت مقدمة العمل غير صحيحة فعملة باطل كون أن النتائج تتبع أخس
                المقدمات ، فنرى أن هنالك ألان جملة من الأفعال التي هي بعيدة كل البعد عن الجهاد وأهلة ولا يقرها الله أبدا ،
                ولا يقرها أي مسلم عاقل يخاف الله . فنرى أن هنالك أعمال إرهابية تستهدف الناس الأبرياء مثل السيارات
                المفخخة وعمليات الاختطاف وقتل رجال الشرطة والجيش العراقي الشرفاء ، والزنا وغيرها من الجرائم التي
                يندى لها جبين الإنسانية وإذا تمعنا بها جيدا سوف نصل بها إلى مفهوم مفاده من هم الذين وراء هذه الهجمات
                ؟
                تطبل وكالات الأعلام وبعض المأجورين من مرتزقة الاحتلال الكافر على أن من يقوم بمثل هذه الأعمال هم
                المسلمون ؟
                الجواب هنا أن أي عمل منافي للشريعة الإسلامية فهو كفر والحاد ومن أتى بعمل يتنافى مع مفهوم الشريعة
                الإسلامية فهو كافر ومرفوض في الإسلام ، فلا يقاس الإسلام بالادعاء بل أن المسلم من تطابق ادعائه عملة
                وفق للشريعة الإسلامية كما في قول رسول الرحمة والإنسانية محمد (ص) ( المسلم من سلم الناس من يده
                ولسانة )
                فان هذه الأعمال التخريبية من ذبح واغتصاب وتسليب وتفجيرات تستهدف الأبرياء التي يشهدها العراق ألان
                ماهي ألا أعمال بعيدة كل البعد عن الواقع الإسلامي ومن يقوم بمثل هذه الأعمال انه ليس بمسلم على الإطلاق ،
                وان ادعى الإسلام
                لكن هل تفكرنا جيدا من وراء هذه الجرائم التي تحدث كل يوم في العراق من هو المستفيد من هذه الجرائم ؟

                الجواب
                هنالك أطروحة وهي ليست بعيدة عن الواقع ، أتستطيع القول أن وراء هذه الجرائم هي امريكا راعية الإرهاب
                والجريمة .
                والدليل على هذا القول أن امريكا غازية لبلد مسلم والمسلمون عندهم فريضة الجهاد وشاهدت امريكا كيف
                ضربت و ألحقت بها الخسائر جراء المصادمات التي تلقتها من قبل المجاهدين الحقيقيين ، فعملت امريكا على
                تشويه صورة الجهاد عند المسلمين وذلك باستخدام بعض العملاء والخونة المأجورين الذين قد باعوا نفسهم
                للشيطان مقابل بعض الدولارات لضرب المدنيين الأبرياء باسم الجهاد لطمس حقيقة مفهوم الجهاد في العقيدة
                الإسلامية . وللأسف الشديد نرى أن الجهلاء قد انطوت عليهم هذه الأكذوبة فنرى أن امريكا ألان تمارس
                الإرهاب على قسميه الإرهاب العسكري والإرهاب الفكري لبسط نفوذها على العراق . وللأسف الشديد نرى أن
                بعض المرجعيات التي هي من الأولى القيام بجهاد العدو حذفت الجهاد من رسالتها العملية . في السابق كنا لا
                نبالي من هذا الموضوع أما ألان عرفنا لماذا هذه المرجعية التي تدعي العلو حذفت الجهاد من رسالتها , وبما
                أننا الآن نعيش ذكرى عاشوراء الحسين ثورة الدم على السيف نأخذ قول الأمام الحسين علية السلام في هذا
                المورد حيث قال ( ما كره قوم حر السيف ألا ذلوا )

                تعليق


                • #9
                  إلـى كل من يدعي العشق

                  بنت الصدر

                  كم هو جميل ان يكتب الإنسان عن الحب ( الحب الإلهي) وكم هو تافه ذلك الحب الذي يتركز على إنسان فيصبح كل ما لدينا وكل ما بين أيدينا ... الكل يتألم ويخسر لانه فقد حبيبته أو لأنها فقدت حبيبها في الوقت الذي فقدنا فيه نحن العراقيون كل مقومات الإنسانية ونسينا قضيتنا و أرضنا الحبيبة السليبة فأي حب غير حب الله والوطن، فما بك يا أخي تسبح في بحار الوهم وتدعي العشق وتضع نفسك في قائمة العشاق أنسيت أرضا دنست وكرامة سلبت وشرفا انتهك أم أغضيت النظر عن الوطن بعد ان غزى أفكارك وعقلك وكبلوا حريتك أم رضيت بهذا الوضع البائس المؤلم وتلك القيود والسجن المحكم؟ ان أرضك تناديك صباحا ومساءا والمساجد تصرخ في كل حدب وصوب وتنادي من له ضمير حي فهل مات ضميرك يا أخي؟؟؟

                  تعليق


                  • #10
                    بسم الله الرحمن الرحيم

                    وأخيراً ...
                    بدت خيوط الفجر المضيئة لتنذر بميلاد يوم جديد ، واليوم يختلف تأثيره في حياة الانسان مع اختلاف ما يضم بين ساعاته من عطاء وما يحمل لمن يمد بهم أو يمد عليهم من فائدة ورواء ، ولهذا .. فقد يطول اليوم ويطول اليوم ويطول تبعاً لامتداد آثاره التي يتركها في حياة الانسان وقد يكون قصيرا جدا ينتهي مع انتهاء ساعاته المعدودة .
                    ويومنا ذاك .. كان حريا ان يكون طويلا بآثاره خالدا بعطاءاته.
                    ثم .. انطلقت بشائر الصبح لتعلن النهاية لساعات الليل التي كانت طويلة بدقائقها اذا قيست بما ضمت من افكار وما حملت من آمال وآلام ، وقصيرة بالنسبة لساعات النوم التي تقلص عددها خلالها الى النزر القليل .. وكان الصباح نديا بقطرات المطر مظللا بقطع السحاب الشيء الذي جعله غير


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 316 )

                    مشرق في مظهره الخارجي وان كان في واقعه يحمل معاني اشراقة الرحمة وهو ينفتح عن فترة زمنية تنطلق بها ارواح المؤمنين في مسيرتها نحو الله ملبية في ترجيعها ذلك النداء الخالد الذي أمر الله عز وجل به نبي الله ابراهيم اذ قال عز من قائل :
                    ( وإذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ... ) .
                    وكان علينا ان نغادر البيت متوجهين نحو المطار ، فوقفت لالقي نظرة اخيرة على ما اعددته من متاع للسفرة الطويلة البعيدة الاغوار خشية ان يكون هناك ما أهمل أو أغفل ولم تكن مجموع الامتعة لتتعدى .. حقيبة واحدة فماذا عسى ان يصحب معه ذلك الانسان الراحل الى بيت الله ؟ أو ليس هو منطلق للحج نحو بيت كان خلال نشأته الاولى بواد غير ذي زرع ؟ نعم أو ليس وهو منطلق نحو تلك الرحاب يعيش مفهوم دعاء نبي الله ابراهيم حينما يقول :
                    ( رب اني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة ).
                    وهكذا كان ...
                    فقد بقي هذا البيت كعبة للمسلمين في مشارق الارض ومغاربها تندثر الحضارات وتتلاشى مع كل ما تحمل معها من جلال وشموخ ويبقى هو خالداً مع خلود الدهر شامخا مع


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 317 )

                    شموخ الحق ، اذن .. فماذا عسى ان يحمل معه هذا الذي طمح باماله الى المثول في تلك الرحاب ؟ بعض متطلبات الحياة الضرورية مع قرآن كريم . وكتاب دعاء ، ومنسك لاعمال الحج . ومصباح صغير لجمع الحصى من المشعر . ثم دفتر للخواطر وقلم للكتابة . وجواز سفر اخضر وجواز صحي اصفر !!!
                    ووقفت اتاكد من وجود هذه الاشياء وأضع الجواز في مكان قريب لأنه هو الذي يفتح امامي مغاليق الحدود ومن تلك الوقفة انطلقت بافكاري الى .. ما أعددته من متاع لسفري الطويل فسفرتي هذه كان من المفروض لها ان لا تتجاوز السبعة عشر يوماً ، أما تلك السفرة فهي طويلة وطويلة جدا عميقة وعميقة الى حد بعيد .. انها بدون عودة . وبدون خط رجعة أنها نقلة من هذه الحياة الفانية الى حياة أبدية باقية ، فما احوجها الى متاع وما احوجني خلالها الى زاد ؟.. لنفرض مثلا انني نسيت حاجة او اهملتها فإن من السهل اليسير عليّ ان أعوض عنها بما أجده هناك ولكن خلال سفرتي تلك حيث لاعودة بعدها ولا رجعة فماذا عساي ان اصنع ان وجدت نفسي قد اهملت حمل الزاد او تجاهلت اهمية المتاع ؟؟..
                    عندما اعلن لنا ( متعهد القافلة ) ان علينا ان نصحب معنا غطاء بادرنا الى حمل ذلك بدون ابطاء فلماذا ؟ لأنه خبير


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 318 )

                    بطبيعة الجو .. ولأنه هو الذي سوف يقوم باحضار حوائجنا فيعلم ما سوف يهيؤه لنا وما علينا ان نعده لانفسنا ولكن .. عندما نسمع الى الرسول الاعظم وهو يتلو علينا آي الكتاب قائلاً « وتزدوا فإن خير الزاد التقوى » نسمع بدون استماع .. ونقرأ بدون اقتناع .. ونطمع بالمغفرة بدون زاد .. عجيب !! فهل ترانا كنا نأمل بالدفء في سفرتنا تلك بدون غطاء ؟ هل كان من الممكن ان نقول ان المتعهد رجل كريم فلنذهب معه بدون غطاء وهو لا شك سوف يهيىء لنا ما يدفع عنا غوائل البرد ؟! أبدا ان هذا غير معقول لأنه غير مسؤول عن ذلك ما دام قد أنذرنا واعلمنا بما لنا وما علينا ..
                    أما ما أمرنا الله به من زاد وما أوصانا بحمله من متاع فنحن نتجاهله ونتناساه ثم نعيش على امل ان يغفر لنا الله برحمته ويشملنا برضاه !!!


                    ***

                    وارتفعت بنا الطائرة .. بعد ان عقدنا نية الاحرام ونحن لانزال على ارض مطار بغداد ورددنا كلمات التلبية قائلات « لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، ان الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك » ..
                    ورأينا الشمس تشرق علينا صافية نقية تهبنا الدفء وتغمرنا بالضياء فاستغربنا ذلك وقد كانت تظللنا قبل


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 319 )

                    دقائق وترشنا بقطرات متلاحقة من المطر ! فهل ان في الامكان ان يتغير الجو في مثل هذه السرعة ؟ وما أبعد البون بين هذه الشمس الدافئة التي تشرق تحت سماء نقية صافية .. وبين ذلك الضباب الذي كان يشمل جوانب انظارنا قبل قليل ؟ حقا انه لأمر عجيب ! هذا التحول الطارىء على صفحات السماء وهذا التبدل الحادث في أعالي الافق ! أولم نكن نتطلع الى السماء نبحث فيها وبين طبقات السحب التي تحجبها عن اثر الشمس ؟ أولم تختلط قطرات المطر مع دموع المودعين ويتجاوب انين الريح مع زفرات المفارقين ؟ فكيف حدث هذا يا ترى ؟ أهو استجابة لدعاء داع ابتهل الى الله قائلا : يا محول الاحوال حول حالنا الى أحسن حال .. أم ماذا ؟؟ واخيرا اكتشفنا الحقيقة فعرفنا ان الطائرة قد ارتفعت بنا فوق السحاب اذن فنحن الذين ارتفعنا عن السحاب وأمطاره وليس السحاب هو ذلك الذي انكشفت عنا بتحول سريع ، فما أحلى ذلك وما أروع ان نكون ملحقين باجسامنا في فضاء نقي وتحت شمس صافية الضياء تاركين وراءنا متاعب المطر ومصاعبه وقد كشف لنا ذلك الموقف حقيقة ما اكثر من يجهلها منا .. وهي .. ان الانسان يتمكن من الارتفاع بروحه وفكره عن سحب الريب وغيوم الجهل والانحراف ، نعم يرتفع بروحه عنها ليستنقذها نقية طاهرة دون ان تعلق بها شائبة او يلوثها درن من الادران .. فهو يستطيع ذلك لو اراد حتى ولو عاش في أجواء مظللة بالغيوم ثم توصلنا الى حقيقة


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 320 )

                    ثانية ايضا .. وهي .. ان على الانسان ان يسعى نحو مطلع النور بأي ثمن وان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ولا يحول الانسان من الظلمات الى النور الا اذا شاء هو ذلك وعمل من أجل ان يكون مؤهلا لذلك التحويل ، فما أحلى ان نحلق بانفسنا في سماء نقية كما حلقنا بأجسامنا خلال رحلتنا بأجسامنا خلال رحلتنا تلك ، وما أروع ان نلتفت فنجد ذاتنا وقد تنزهت عن الرذائل وحلقت في سماء الكمال تاركة وراءها ويلات الانحراف وآفات السقوط كما تركنا وراءنا ونحن في الطائرة الارض المغطاة بالوحول والآفاق الملبدة بالغيوم .
                    وبعد مضي مائة دقيقة أعلن لنا عن قرب هبوطنا الى مطار جدة ، وذلك يعني اننا سوف نكون بعد يوم أو يومين في مكة .. فما أعظم هذه الحقيقة وأضخم ما تعنيه وترددت في ذهني وعلى فمي هذه الابيات ..


                    قالوا غدا نأتي ديار الحمى * وينـزل الركب بمغنـاهـم
                    فكل من كان مطيعــاً لهم * اصبح مســروراً بلقياهـم
                    قلت فلي ذنب فما حيلتـي * بأي وجــه أتـلـقـاهـم
                    قالـوا أليس العفو من شأنهم * لا سيمــا عمن ترجـاهم


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 321 )


                    فجئتهم أسعى الى بابهـم * أرجوهم طوراً واخشاهــم

                    ***

                    واستقرت بنا الطائرة على ارض مطار جدة بعد ان دارت فوق مدارجه دورات طويلة ، فحمدنا الله على سلامة الوصول وحسن التوفيق .. ثم تطلعت انظارنا نحو الباب تترقب الاذن بالنزول . ومضت دقائق طوال لأنها كانت مشوبة بالانتظار .. ومن خصائص الانتظار مهما كانت انواعه وبواعثه واسبابه من خصائصه ان يضفي على الوقت مطاطية هائلة فيضاعف ادراكنا بأهمية الى اضعاف كثيرة ومضت فترة ثم طلب منا ان نبرز جوازاتنا الصحية ! فأمسك كل منا بجوازه ( الاصفر ) بين أنامله وكأني انسان خرج لتوه من احدى المصحات وبقينا نتطلع نحو الباب في مزيج من اللهفة والضجر وبنظرات تنطلق بالاحتجاج .. واخيراً انفتح باب الطائرة عن رجلين صعدا ليطمئنا على سلامة القادمين من الامراض ( الوبائية ) فتفحصا معظم الجوازات ومن العجيب اننا كنا ممن لم تصل اليهم عملية التفتيش ، وكأن سلامتنا بدت واضحة جلية دون معاينة ومزيد تدقيق .. فكيف حصل هذا ؟ ولماذا ألسنا مثل باقي المسافرين ؟ انه عدم الاخلاص في العمل والاهمال لا اكثر ولا اقل ! والجواز الصحي عن أي شيء كان يحكي يا ترى ؟ انه كان يحمل شهادة التطعيم ضد


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 322 )

                    الهيضة وضد الجدري ، ولم يكن هناك اي احتمال ان احد المسافرين مصاب فعلا بمرض الجدري او مرض الهيضة ، لا .. ولكن المطلوب التطعيم الوقائي وهو التأكد من أن هذا المسافر الوافد قد حصن نفسه عن التعرض لهذه الأمراض أخذ المسافرون بالهبوط .. وبقيت نزولي في مقتري الأخير والجواز فبدأت أفكر .. تذكرت جالسة انتظر خلو السلم من الزحام الصحي الذي أسأل عنه من منكر ونكير وأهمية كل تطعيم وقائي يشير اليه ذلك الجواز ، انهم يطالبونني بشهادة التلقيح ضد أمراض عديدة ، هذه الامراض التي يعاني المجتمع من ويلاتها الشيء الكثير نعم هذه الامراض التي لا تتولد لدى الانسان نتيجة ضعف جسم او قرب من المصابين وانما هي وليدة ضعف الايمان وتحلل الشخصية ، انها وليدة الذوبان في شخصيات الآخرين مهما كان هؤلاء الآخرين منحرفين او مبتذلين او متذبذبين .. انه مصل وقائي يهب للانسان حصانة تقية ويلات السقوط .. نعم . ان الانسان ليسأل في مقره الاخير عن روحه لماذا اطلقها وراء رغباتها بغير رقيب وعن فكره لماذا جعله يتجه حيث شاء دون تهذيب ؟ وعن قلبه كيف أهمله فجعل آماله وأمانيه تنمو أوراقها وتمتد فروعها كالشجرة التي تفتقر الى التشذيب ؟ انه ليطالب بجواز صحي ومن أين له ذلك الجواز ؟ الا اذا كان خلال حياته قد عمل على الوقاية وباشر عملية التطعيم ان الموظف السعودي قد يهمل او يغفل كما اهملنا او غفل عنا .. أما هناك .. حيث يتلقانا ملائكة


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 323 )

                    الله الموكلين بفحص ( جوازتنا الصحية ) فليس فيهم من يغفل عن صغيرة كانت او كبيرة لأنهم « ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون » ..


                    ***

                    وهبطنا الى مطار جدة ..
                    فكان هناك مجموعة من المسافرين قد اصطفوا على شكل نصف دئرة منفتحة استعدادا لالتقاط صور تلفزيونية فانتحينا عنهم جانباً .. فقال لنا قائل : هلا تفضلتم بالاشتراك ؟ انه فلم تلفزيوني يعرض على الشاشة كأثر مرئي لهذه الرحلات !! ووددت لو أرد عليه قائلة : نحن أيضا في حالة التقاط صور .. ولكن اتراه كان يفهم ما الذي اعنيه وبهذه العجالة ؟ فاكتفيت ان اقول له كلا ووقفت جانبا أشاهد الجماعة التي كانت تستعد للتصوير كان البعض منهم يصلح من مظهره والبعض الاخر يحاول ان يتقدم ليحتل مكانا احسن وهذا امر طبيعي بالنسبة لانسان يشعر انه في معرض تصوير فهو ولا شك يحاول ان يتجنب كل ما يشين من مظهره الخارجي او يؤثر عليه لكي يبدوعلى شاشة العرض بهيا متكاملا في وقفته تلك وارتسمت في فكري صورة للعرض الاكبر خلال يوم القيامة « يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية » فها هي اجهزة الالتقاط تتوجه نحونا كما كانت تتوجه منذ اصبحنا مشمولين بالتكليف الالهي في مسؤولية حمل الامانة التي عرضت على


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 324 )

                    السماوات والارض فأبين ان يحملنها وحملها الانسان ، نعم ولكنها أجهزة التقاط تختلف عن هذه الاجهزة المادية المصطنعة .. ان هذه لا تتمكن ان تسجل سوى الغشاء الخارجي لجسم الانسان ، وحتى هذا فهي لا يسعها ان تصوره اذا حال بينها وبينه شيء ولو كان غطاء رقيقاً ، أما تلك فهي تسجل حتى نظرات العيون وخواطر القلوب ..
                    يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور .. ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك احدا ) اذن .. فلو عاش الانسان هذه الحقيقة ولو احس بها خلال حركاته وسكناته ولمحاته ونظراته لحرص دائما وبدا ان يبرز بالشكل المرضي وان يحتل مكانا احسن يوم يعرض فلم حياته امام البشرية بدون غطاء . ثم .. عرض علينا ان نتحدث امام شريط للتسجيل لنبشر اهلنا بسلامة الوصول .. عجيب ! ولكن أترانا كنا قد وصلنا ؟ ان المسافر لا يسجل لنفسه الوصول الا اذا وصل الى النقطة التي انطلق نحوها منذ البداية ـ ونحن كنا في انطلاقتنا تلك متوجهين نحو هدف معين لم يحققه لنا الوصول الى مطار جده .. الم نكن سائرين في ركاب هذه الآية الكريمة « ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا » .. اذن فأين نحن من الحج وأين نحن من السلامة ؟ سلامة الجسد لاتعني شيئا في حساب الراحل الى الله ..


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 325 )

                    ولكن هي سلامة العمل وصحة الاداء ، فما اكثر سلامة الاجساد وما أقل سلامة الاعمال ..
                    وصعدنا الى مدينة الحاج
                    وهي عمارة كبيرة تتألف من طوابق عديدة تحيطها عمارات وغرف واسعة وتشرف من احدى جوانبها على ساحة المطار ومن خصائصها انها ومع جميع ما قد تسبب الاقامة فيها من مضايقات .. انها تبعث في نفس الانسان نوعا من الانشراح والانطلاق ، وكأنها مرحلة انتقال شيقة ثم انها المنزل الاخير الذي ننطلق منه نحو بيت الله الحرام ، وكانت الغرفة التي توجهنا نحوها جانبية تطل على بعض شوارع مدينة جدة ومدخل مدينة الحاج ، واجتمعنا لاول مرة نحن النساء المسافرات ضمن القافلة في غرفة واحدة ، وبدأنا نتصفح الوجوه في تطلع لهفان ووددنا لو وجدنا اثرا لطابع مميز يشمل الجميع طابع الشعور بالوحدة المنطلقة من وحدة الغاية واتحاد الهدف في الحج .. ولكن ..
                    وقمنا ببعض المحاولات للتعرف على رفيقات السفر فكان فيهن من تستجيب بتحفظ وفيهن من تلوي جيدها في شيء من اللامبالاة ( عدى من كانت معرفتنا بهن تسبق حدود هذه السفرة طبعا ) وقد كان الشعور الغالب على بعضهن هو التطلع الى ما في أسواق جدة من جديد !! وبما اننا كنا قد


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 326 )

                    أحرمنا من مطار بغداد فقد عرضنا ذلك لبعض الاسئلة عن الاسباب التي دعتنا الى تقديم الاحرام فأخذنا نشرح طبيعة الحكم الشرعي في ذلك وكيف ان الاحرام يجب ان يكون من احد المواقيت الخمسة : الجحفة . يلملم . قرن المنازل . مسجد الشجرة . وادي العقيق . ولا يصح الاحرام من غيرها الا بنذر شرعي ، والنذر الشرعي لا ينعقد الا اذا كان المكان الذي ينذر الاحرام منه أبعد عن مكة من الميقات او بمحاذاته ومن أجل نفس هذا الحكم كنا نشاهد في مدينة الحاج مجاميع من الحجاج وهم في طريقهم الى الجحفة من اجل عقد نية الاحرام ، والجحفة تبعد عن جدة بمقدار ( 180 ) كيلو متر تقريبا ، وبتنا ليلتنا في مدينة الحاج وكنا نحرص بعد أداء كل فريضة ان نراجع أحكام الحج في المنسك الذي صحبناه معنا فنعيد قراءة ما عرفناه ونتأكد من معرفة ما جهلناه ونتبادل نحن الستة شرح اعمال الحج ونؤكد على أعمال العمرة لأنها أول فريضة تنتظرنا في مكة ولم يكن هذا من أجل اهمال في التحضير من قبل او غفلة عن سير احكام الحج واعماله ، ولكنه كان على سبيل التأكيد والتجديد ثم انه من اجل فتح المجال امام الاخريات للسؤال اذا كن في ريب من عمل او شك في حكم من الاحكام وكانت اهم نقطتين واجهتنا في اصلاح احرام المحرمات من حولنا هي اولا : انهن كن يتجردن عن الجوارب فور عقدهن لنية الاحرام ويستعضن عنها بلبس السروال الطويل وذلك في اعتبارهن لسببين : احدهما وجوب


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 327 )

                    اظهار ظهر القدم حال الاحرام وثانيهما جواز ابداء القدم امام الرجال ظنا منهن ان جواز كشف ظهر القدم حال الاحرام ليس الا احتياط استغنى عنه التشريع لعدم تأكده . هذا مع تأكد حرمة كشف القدمين امام الرجال الاجانب وعدم وجود مجال لمقايستها مع الكفين ، فالاسلام حينما شرع الستر للمرأة كصيانة لكيانها ووقاية لوجودها الخاص ووجودها العام ضمن المجتمع وتجنيب لها وللمجتمع مغبة تكشفها امام الرجال حينما شرع ذلك لم يرد من وراء ذلك التشريع عزل المرأة عن الحياة او حبسها عن مجالات التعايش السليم الطاهر مع المجتمع . ولهذا فقد اجاز لها كشف الوجه والكفين لانهما كل ما يحتاجه الانسان ، وأي انسان رجل كان أو امرأة حينما يتفاعل مع الحياة في مختلف المجالات ان اي عمل او علم لا يحتاج الى ابراز الكتفين او ابراز جدائل الشعر مثلا ولكنه قد يكون في حاجة الى كشف الوجه والكفين وهذان هما ما أجاز التشريع للمرأة أظهارهما عند الحاجة ، اما القدمان فما هو الشيء الذي يتوقف على كشفهما يا ترى ؟ وما هو الاثر غير المرضي الذي يتركه سترهما في مجالات الحياة ؟ لا شيء ابدا ولهذا وجب علينا ستر القدمين وابيح لنا كشف الكفين هذه هي النقطة الاولى .. اما النقطة الثانية .. فهي عدم اتقان مقدار ما ينبغي كشفه من الوجه حال الاحرام !! فنحن اذ نعرف ان احرام المرأة بوجهها ينبغي ان تلتزم بكشف الوجه من قصاص الشعر وحتى الذقن لا أكثر ولا اقل ، ولعل هذا


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 328 )

                    يفتقر الى شيء من الدقة ولكن أهمية فريضة الحج عميقة وكبيرة جداً أفلا تستحق قليلا من الدقة والالتزام ؟؟!
                    وركبنا السيارة في طريقنا الى مكة .. وهي سيارة كبيرة حمراء غير مكشوفة كتب عليها بالخط الابيض العريض كلمة ( التوفيق ) وكان هناك سيارة حمراء اخرى تساير سيارتنا وقد ركبها رجال القافلة ولم تكن تلك لتختلف عن هذه الا بكونها مكشوفة السقف تمشيا مع الحكم الشرعي الذي لا يجيز للرجل المحرم الاستظلال بالظل المتنقل ، وما ان تحركت بنا السيارة حتى وجدت نفسي غارقة في دوامة من الانفعالات المختلفة التي هي مزيج بين الرضا والخوف والرهبة والرغبة والفرحة والحسرة .. وانطلقت أردد على لساني كلمات التلبية « لبيك اللهم لبيك » انها استجابة للنداء الخالد الذي امر الله نبيه ابراهيم (ع) ان يطلقه في آذان البشرية ولكن اتراها استجابة كاملة ؟ ان التلبية تكون مخلصة صادقة اذا نطق بها اللسان واوحاها الفكر وصدقها القلب وأكدها العمل . ان حركة اللسان وحدها لا تكفي باعطاء مفهوم التلبية الا اذا تظافرت معها جميع الجوارح لدى الانسان ، « لبيك لا شريك لك لبيك » انه اقرار بالوحدانية وتأكيد على العبودية المطلقة « ان الحمد والنعمة لك والملك » نعم ان الحمد لله وحده لانه وحده صاحب كل نعمة ومصدر كل رحمة فهو المحمود الاول في كل ما يحمد عليه ، وهنا تذكرت كلمة للامام : ان شكري اياك يحتاج الى شكر ، ان يكون الانسان مقرا بالحمد والشكر


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 329 )

                    لله لهي السعادة ما فوقها سعادة لما يتضمن ذلك الاقرار من مصادر رحمة وينابيع رضوان ، ـ ان الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك » ومرة ثانية يتكرر في كلمات التلبية الاقراربالوحدانية ، هذه الوحدانية التي تنطلق عنها وحدة الهدف ووحدة الغاية لكي يكون القصد في العبادة متوجها بمجموعه نحو الله نزيها عن الرياء بعيدا عن الخيلاء نقيا من شوائب الغرور وحب البروز أو الظهور خاليا مما يوجب الشرك المنافي لخلوص الاعمال لله ومن اجل طاعة الله .. واندمجنا مع كلمات التلبية حتى شارفنا ( الحديبية ) وهي أول حدود الحرم للقادم من جدة ، وهناك وجدنا السيارة الحمراء المكشوفة ( سيارة الرجال ) تنتظر ! واعلن لنا عن ضرورة تجديد نية الاحرام لمن احرم من جدة !!! واستغربت الامر ! لأن الحديبية ليست ميقاتا للقادمين من العراق ! وعلى كل حال فقد وقع الكثير من الهرج والمرج بين المحرمات المسكينات فتارة يطلب منهن النزول واخرى يطلب منهن العودة الى مقاعدهن ، ثم تتلى عليهن نية الاحرام من خارج السيارة وعن طريق مكبر للصوت فتأتي الكلمات ضعيفة غير واضحة فتتصاعد كلمات احتجاجهن « لم نسمع لم نعرف ماذا قال ، ومضت فترة صخب بين قيل وقال ثم انتهت بسلام والحمد لله . وكنا نحن المحرمات من بغداد نحمد الله ما وفقنا اليه من صحة الاحرام وعدم احتياجه الى تجديد او اتمام ثم سارت بنا السيارة من جديد وكنا نشعر ان


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 330 )

                    كل ميل تطويه عجلاتها ( الكليلة ) تقربنا نحو الهدف فتخفق لذلك قلوبنا وكأنها تحاول ان تبعث من طاقاتها الحرارية قليلا من الحرارة في السائق الذي كان يبدو وهو لا يريد ان يكلف نفسه عناء الضغط على البنزين كانت أرواحنا تهتز مع طي الطريق في نشوة روحية خالصة فتود لو سابقت هذه العجلات الثقيلة التي لا تكاد تستجيب للمحرك بسهولة وهي لا تعلم ولا تشعر بما تحمل من شحنات آمال تتمنى لو سابقت الريح في الوصول الى رحاب الله واخيرا وبعد مضي ما يقرب من ساعتين بدت لنا من بعيد معالم مكة .. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله ..


                    ***

                    ووصلنا الى مكة ..
                    وكانت الساعات الاولى من الليل قد انقضت ونحن في الطريق وتوجهنا نحو البيت الذي خصص لنزولنا وهو غير بعيد عن الحرم والحمد لله فألقينا أمتعتنا وجددنا الطهارة ثم تهيأنا للذهاب الى الكعبة ، من أجل الاتيان بطواف العمرة ، وهناك طلب منا ان ننتظر لكي نتناول العشاء وبعد ذلك نذهب مع مجموع الحاجات وبحراسة من بعض مساعدي المتعهد ، ولكن أترانا نتمكن من الانتظار ؟ وكل جارحة من جوارحنا قد استحالت الى لهفة وجميع مشاعرنا أخذت تنطق بالحنين فلقد كنا على موعد مع جبار السماء لنطوف حول


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 331 )

                    الكعبة طالبين الغفران ولنسعى بين الصفا والمروة مبتغين الرضوان ، عندما يعيش الانسان في إنتظار لقاء محبب اليه لا يعود يهنأ بشيء قبل أن يتحقق له ذلك اللقاء فهو يستحيل بجميع وجوده الى لهفة وانتظار وهل هناك ما هو أحب الى الانسان من ساعة رحمة واونة غفران ؟ ولهذا فقد عز علينا الانتظار ، ولماذا ننتظر يا ترى أمن أجل غذاء ؟!.
                    ولكن ما أهمية الغذاء المادي بالنسبة للغذاء الروحي الذي ينتظرنا هناك ، أم من أجل الحصول على حراسة الحارسين ؟ أو لم يقل امامنا جعفر الصادق (ع) في وصيته لمن يريد الحج الى بيت الله الحرام : ( ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك مخافة ان يصير ذلك عدوا ووبالا فإن من ادعى رضا الله واعتمد على شيء سواه صيره عليه عدوا ووبالا ليعلم انه ليس له قوة ولا حيلة ولا لاحد الا بعصمة الله تعالى وتوفيقه ) اذن فليس هناك ما يدعونا الى الانتظار ..
                    وانطلقنا نحن بمجموعتنا الصغيرة نحو بيت الله الحرام وكان الطريق الذي يفصل بيننا وبينه عبارة عن سوق يسمى بسوق الليل وهو ملىء بزخارف الحياة التي عرضت للابصار بشكل يساعد على الاغراء .. ولكن .. أترانا كنا نبصر من هذه الزخارف شيئا ؟ أم ترانا كنا نتحسس آثار وجودها ونحن مندفعات نحو بيت الله الحرام تسبقنا الآمال بالغفران وتحدو بنا الاماني لنيل الرضوان ؟...


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 332 )

                    انها رحلة .. تلك الخطوات .. رحلة الانسان الذي هرب الى الله عز وجل من ذنوبه تائبا وعلى اخطائه نادما رحلة الانسان الذي يستشفع الى الله قائلا ( الى من يذهب العبد الا الى مولاه والى من يلتجىء المخلوق الا الى خالقه ) وقاربنا البيت المبارك وكنا نهبط في طريقنا اليه لانه في واد بين الجبال والمرتفعات . ولكنه هبوط جسمي يبعث الى الارتفاع الروحي ويبلغ اسماعنا دوي السعادة وهم في مسيرتهم المباركة بين الصفا والمروة وكان لذلك الدوي المبهم الكلمات اعظم الاثر في الترهيب والترغيب فهل حقا اننا على بضع خطوات من بيت الله الحرام ؟ وهل حقا ان هذه النوافذ الحديدية المرتفعة تطل على اقدس بقعة خلقها الله وتشرف على أول بيت وضع للناس ؟ وهل حقا ان هذا الوجود الضعيف قد انطلق بآثامه واخطائه هاربا من الله الى الله وها هو قد اوشك ان يحظى بالمثول امام كعبة المسلمين في مشارق الارض ومغاربها ؟ انها نعمة لا يكاد يصدقها الانسان لنفسه ، وهذا الدوي الذي كلما دنونا نحوه اكثر تكشف عن كلمات تقول ( الله اكبر لا اله الا الله . الحمد لله . لا اله الا الله وحده وحده . انجز وعده ونصر عبده . وغلب الاحزاب وحده ) هذه الكلمات هي التعبير الواضح عن كل ما يشتمل عليه الحج من شعارات ومفاهيم ، الوحدانية لله والخضوع لعبوديته والتوكل عليه ، والثقة بنصره لعباده الصالحين .


                    ***


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 333 )


                    ووقفنا امام الكعبة وكانت وقفتنا من الجهة المقابلة للحجر الاسود حيث يجب ان يبدأ الطواف من هناك وكان المطاف محتشدا جدا لا تبدو منه سوى رؤوس رفعت وجوهها نحو السماء ترتجي الرحمة من العلي الاعلى وتهتف في قنوط المساكين قائلة ( اللهم اني اليك فقير ، واني خائف مستجير ، فلا تغير جسمي ولا تبدل اسمي ) .. ولاحظت صعوبة الطواف وهو في قمة ازدحامه وتلفت حولي اتطلع الى الوجوه التي تقف الى جانبي وادرس مدى تمكنهن من خوض هذا البحر البشري الزاخر ، فاسعدني واراحني ان أجد اللهفة لديهن قد طغت على كل شيء فأمدتهن بطاقات من الارادة والتحمل والثبات والاصرار على بلوغ الهدف باي ثمن فسمينا بسم الله الرحمن الرحيم وتراجعنا قليلا عن مواجهة الحجر الاسود لنطمئن من مرور جميع جسمنا امامه ثم .. اندمجنا مع مجموع الطائفين ..
                    وبدأنا نفقد الاحساس بصعوبة السير وسط الحشد الهائل ولم نعد نبالي بما نتعرض اليه من ضيق بعد أن اندمجت جميع مشاعرنا في ترديد هذه الكلمات ( اللهم ادخلني الجنة برحمتك ، واجرني برحمتك ، يا ذا المن والطول والجود والكرم ، ان عملي ضعيف فضاعفه لي ، وتقبله مني ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار ، اللهم البيت بيتك والعبد عبدك وهذا مكان العائذ بك من النار ) .. وكنا كلما اكملنا دورة واحدة عددناها مع بعضنا بصوت مسموع لكي نتجنب الشك والنسيان فليس بغريب ان يندمج الانسان


                    --------------------------------------------------------------------------------

                    ( 334 )

                    الطائف مع أهدافه وعطاءاته فينسى العدد والحساب ويبقى يدور ويدور وكأنه لا يريد الله يترك دورته حتى يستوثق من الغفران ، ولهذا كنا نهتم بحفظ العدد واتقانه فإن الطواف هو رمز لدوران الانسان حول غاية يؤمن بها أو هدف يسعى اليه ، فهو يلف حولها لكي يبدأ من حيث ينتهي ، وهو يشعر الانسان انه انطلق من الله وسوف يعود الى الله وانه دار ضمن حدود وابعاد رسمها الله عز وجل فليس له ان يتعداها فينقص منها او يزيد ، ان دورته حول هذا الرمز الإلهي ترسم له حدود تحركاته في الحياة فهو اذ يتحتم عليه هنا ان يدور بأقدام ثابته ينقلها من فوق الارض باختياره يتحتم عليه ايضا خلال دورته الكبرى في دوامة الحياة ان لا تزل به قدم أو يندفع وراء غاية دون رؤية أو استبصار وهو في دورته المقدسة هذه اذا اندفع الى الامام بدون خطوات ثابته عليه ان يعود من النقطة التي ارتفعت فيها قدماه عن الارض ، يعود ليبدأ سيره من جديد وكذلك الحال في مسيرة الحياة فإنه متى ما تعدى حدودها باندفاع او انحراف له ان يعود ليباشر سيره من جديد وفقا للحدود التي حددها له الله عز وجل ـ وذلك ما يسمى بالتوبة » انه رمز يطبع بطابعه

                    لشهيده بنت الهدى

                    تعليق


                    • #11
                      فرصة العمر واغلى مطلب * تهب الانسان احلى الارب
                      ***
                      ايها الراحل عـن اوطانه * لاهيا عنهـا وعن اخوانه
                      لا يبالـي بجوى تجنانـه * قاده الشوق الى ايمـانـه


                      --------------------------------------------------------------------------------

                      ( 371 )


                      سائـرا نحـو النعيم المرتجـى * في رحـاب الله او قبر النبـي
                      ***
                      فرصـة العمـر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
                      ***
                      ايها الراحـل سر نحـو النعيم * نحو وادي زمزم نحو الحطيـم

                      نحو بيت الله والركـن العظيـم * في رحاب الله ذي العفو الكريم
                      نحو سعي الحق أو نحو الصفا * واذكـر الله بـقـلـب وجـب
                      ***
                      فرصـة العمـر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
                      ***
                      ايهـا الراحل قف جنب المقـام * حيث ابراهيـم قد صلى وصام


                      --------------------------------------------------------------------------------

                      ( 372 )


                      ثـم صل في خشوع واحترام * واتجه فيها الـى رب الانـام
                      واطلـب العفو من الرب الذي * جعل التوبة عتــق المذنـب
                      ***
                      فرصـة العمر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
                      ***
                      ايهـا الراحل ان جئت الصفا * فاسع للمروة تبغـي شرفــا
                      وابتهـل فيهـا بقلب قد هفـا * نحو عفو الله اسمى من عفـا
                      ثم قصر بعـد سبـع وانثنـى * شـاكـرا لله نيـل الطـلـب
                      ***
                      فرصـة العمر واغلى مطلب * تهب الانسـان احـلى الارب
                      ***


                      --------------------------------------------------------------------------------

                      ( 373 )


                      ايها الراحل يهنيـك المسيـر * نحو وادي خيبـر نحو الغدير
                      نحـو بدر احد نحـو البشيـر * نحو غار في حـراء مستنير
                      بضياء المرسـل الهادي الذي * شع نورا في بـلاد العـرب
                      ***
                      فرصة العمـر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
                      ***
                      ايها الراحـل خذهـا فرصة * لك واغنم في ذراهـا عبـرة
                      ودع الـروح لتمضـي حرة * في سمـاء الحق تبغي جنـة
                      عرضها طولا كأرض وسما * وهـي تحيـا بشعور عـذب
                      ***
                      فرصـة العمر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
                      ***



                      --------------------------------------------------------------------------------

                      ( 374 )


                      ايها الراحـل هـذي عـرفـات * فاغتنمها فرصة قبل الفـوات
                      واشغلـن ساعتهـا بالدعـوات * واغسـل الذنب بسيل العبرات
                      جـبـل الرحمـة فيها فأتــه * رحمة الله بقـلـب وجــب
                      ***
                      فرصـة العمـر واغلى مطلب * تهـب الانسـان احلى الارب
                      ***
                      ثم عنـد الظهر قفـهـا وقفة * تائـبـا لله فيـهـا تـوبــة
                      واسكـب الـروح عليها عبرة * تغسل الذنب وتعـطـي جنـة
                      لا يلقاها سوى قـلـب نقـي * واستقم فيها لوقت المـغـرب
                      ***
                      فرصـة العمر واغلى مطلب * تهـب الانسـان احلى الارب
                      ***



                      --------------------------------------------------------------------------------

                      ( 375 )


                      ايها الراحـل ذي مزدلـفـة * نحوها فاطر الدجى في عرفه
                      يذكـر الله بها من عـرفـة * تائبا عن كـل ما اقتـرفـه
                      ليـس فيهـا ارض وسـمـا * وظـلام وخشـوع مرهـب
                      ***
                      فرصـة العمر وأغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الأرب
                      ***
                      انها ليـلـة سعـد وخشـوع * وابتهـال ودعـاء ودمـوع
                      ومنـاجـاة الى وقت الطلوع * ما احيلاهـا اراض وربـوع
                      يستميل القلـب فيهـا راحـة * تزدهي من كل زهر طيـب
                      ***
                      فرصـة العمر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
                      ***



                      --------------------------------------------------------------------------------

                      ( 376 )


                      ايها الراحل قد نـلـت المنى * اذ توجـهـت الى ارض منى
                      مسجـد للخيـف يعطيك الهنا * فيه تنسى كـل جهـد وعنـا
                      ايها الراحل وارم الجـمـرات * في حـصـا معـدودة للطلب
                      ***
                      فرصـة العمر واغلى مطلب * تهب الانسـان احـلى الارب
                      ***
                      وتوجـه بعـدهـا لـلـكعبة * طف وصل وابتهـل لـلتوبة
                      ثـم فأت للصفـا والمـروة * واشكر الله لهـذي النعـمـة
                      ثم طـف فيـها طوافا ثانيا * ليس من جهد بها أو نصـب
                      ***
                      فرصـة العمر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
                      ***


                      --------------------------------------------------------------------------------

                      ( 377 )


                      ايها الراحـل يهنـيـك الوصول * في رحاب القدس في قبر الرسول
                      فيه تسمو نحو باريها العـقـول * تنمـحـي الآلام والـهـم يزول
                      يهـب الارواح امـنـا ورضـا * وهـو يروي كل قلـب مجـدب
                      ***
                      فرصـة العـمـر وأغلى مطلب * تهب الانـسـان احلـى الارب
                      ***
                      ايهـا الراحـل زر تلك الرحاب * وبقيعا مـا به غيـر التــراب
                      فغدت جـدرانـه تحكي الخراب * وانمحت آثــاره فهي يـبـاب
                      وبـه أربـعـة يرجـى بـهـم * نيل عفـو الله يـوم الـتـعـب
                      ***
                      فرصة العـمـر واغلى مطلب * تهب الانسـان احـلـى الارب
                      ***


                      --------------------------------------------------------------------------------

                      ( 378 )


                      لن أنثني

                      قسما وان ملىء الطريـق * بما يـعـيـق السير قدما
                      قسمـا وان جهد الزمـان * لكي يثبـط فـي عزمـا
                      أو حاول الدهر الخـؤون * بأن يريـش اليّ سهـمـا
                      وتفاعلت شتى الظـروف * تـكـيـل آلامـا وهمـا
                      فتـراكمت سحب الهموم * بأفق فـكـري فإدلهـمـا
                      لـن انـثني عمـا أروم * وان غـدت قدمـاي تدمى
                      كـلا ولن أدع الجـهـاد * فغايتي أعلـى وأسـمـى
                      ***
                      انا كـنـت أعلم ان درب * الحـق بالاشواك حافـل


                      --------------------------------------------------------------------------------

                      ( 379 )


                      خـال مـن الريحـان ينشر * عطـره بيـن الـجــداول
                      لكنني اقدمت أقفو السـيـر * فـي خــطــو الاوائـل
                      فلطالـمـا كـان المجاهـد * مفـردا بـيـن الجـحـافل
                      ولـطـالمـا نصـر الالـه * جـنـوده وهـم القـلائـل
                      فـالحـق يخلد في الوجـود * وكـل مـا يعـدوه زائـل
                      سأظل أشدو باسم اسلامـي * وأنـكـر كـل بـاطــل
                      ***
                      اسلامـنـا أنت الحبـيـب * وكل صعب فيـك سـهـل
                      ولاجل دعوتـك العزيــزة * علـقـم الايــام يحلــو
                      لم يعل شـيء فوق اسمـك * في الدنــا ، فالحق يعلـو
                      وتطـبــق الدنيـا مبادئك * العـزيــزة وهـي عـدل



                      --------------------------------------------------------------------------------

                      ( 380 )


                      وسينصــر الرحمن جند * الـحـق ما سـاروا وحلوا
                      السيخلمــن يــن الاله * وكــل ما يعدوه يـبـلـو
                      وأظــل باسمـك دائمـا * أشدوا فلا ألهو وأسـلــو

                      تعليق


                      • #12
                        الأمام المغيّب ُ موسى الصدر


                        نسب الإمام السيد موسى الصدر

                        هو ابن السيد صدر الدين ابن السيد إسماعيل ابن السيد صدر الدين ابن السيد صالح شرف الدين من جبل .عامل

                        أ. السيد صالح شرف الدين (جدّه الأول):

                        وُلد السيد صالح شرف الدين سنة 1122 هـ في بلدة "شحور" في جنوب لبنان، وأقام فيها، وكان عالِماً دينياً جليلاً، وكان يملك مزرعة اسمها "شدغيت" بالقرب من بلدة "معركة" (في قضاء صور)، وفي تلك المزرعة وُلد ابنه السيد صدر الدين.

                        تعرّض السيد صالح شرف الدين لاضطهاد أحمد الجزّار في إطار حملة الأخير الشاملة لاضطهاد العلماء المسلمين الشيعة في جبل عامل، فأقدم جنود الجزّار على قتل السيد هبة الدين (الإبن الأكبر للسيد صالح) أمام منـزل والده في "بلدة شحور" وبحضوره، ثم اعتقلوا السيد صالح، فبقي تسعة أشهر في معتقل عكّا، الى أن تمكّن من الفرار الى العراق حيث أقام في النجف الأشرف، ثم تبعه أخوه السيد محمد الذي ألحق به زوجته وولدَيه السيد صدر الدين .والسيد محمد علي

                        ب. السيد صدر الدين الصدر (جدّه الثاني):

                        وُلد السيد صدر الدين سنة 1193 هـ في بلدة "معركة"، وكان من جهابذة علماء الدين في العراق.. تزوّج ابنة المجتهد الأكبر الشيخ كاشف الغطاء، ثم هاجر الى أصفهان التي كانت تُعتبر في ذلك الزمان مدينة العلم وعلماء الدين، واشتغل هناك بالتدريس والقضاء والفتوى بصفته مرجعاً من الدرجة الأولى، وقد استفاد من محضره العلمي عدد من مشاهير العلماء أمثال الشيخ مرتضى الأنصاري، وأخوه (صاحب "الروضات")، والسيد محمد شفيع (صاحب "الروضة البهية").

                        ومن الجدير ذكره أنّ هناك صلة قربى تربط بين عائلتَي شرف الدين والصدر، فهم أبناء عمّ، وقد برزت عائلة الصدر عندما انعقدت المرجعية العامة للشيعة للسيد صدر الدين بن صالح.

                        وأنجب السيد صدر الدين خمسة علماء دين، وأصغرهم سنّاً هو السيد إسماعيل.

                        ج. السيد إسماعيل الصدر (جدّه الأخير):

                        وُلد السيد إسماعيل سنة 1258 هـ في أصفهان، ثم قصد النجف الأشرف، فانعقدت له المرجعية العامة للشيعة، وكان من تلامذته الميرزا محمد حسين النائيني والسيد عبد الحسين شرف الدين.

                        أنجب السيد إسماعيل أربعة علماء دين الدين: أوّلهم السيد محمد مهدي، والذي كان من مراجع الدين الكبار في الكاظمية، وثانيهم السيد صدر الدين (والد الإمام السيد موسى الصدر).

                        د. السيد صدر الدين الصدر (والده):

                        وُلد السيد صدر الدين سنة 1299 هـ في الكاظمية، نال درجة الاجتهاد، وقاد إبّان شبابه حركة دينية تجديدية، وارتبط اسمه بالنهضة الأدبية في العراق، ثم هاجر الى مشهد المقدسة، وتزوج من السيدة "صفية" كريمة المرجع الكبير السيد حسين القمي، ثم توجّه الى قم المقدسة بناءً على دعوة من مرجعها الأعلى ومؤسس الحوزة العلمية فيها الشيخ عبد الكريم الحائري اليبزدي ليكون معاونه وخليفته.

                        يُعتبر السيد صدر الدين من مراجع الدين العظام في عصره، وقد تولّى زعامة الشيعة بعد وفاة آية الله العظمى الحائري الى جانب علمَين آخرين هما: آية الله العظمى الخونساري، وآية الله العظمى حجت، واستمر ذلك الى ما قبل زعامة آية الله البروجردي، وقد قدّم السيد صدر الدين خدمات علميّة واجتماعيّة وصحيّة بالإضافة الى تربية عدد كبير من العلماء.

                        أنجب السيد صدر الدين سبع بنات وثلاثة صبيان، هم: المرحوم آية الله السيد رضا، والسيد علي أصغر، والإمام السيد موسى الصدر.

                        إنتقل السيد صدر الدين الى الملأ الأعلى سنة 1954 م، ودُفن داخل حرم السيد فاطمة المعصومة في قم المقدّسة.

                        هـ. السيد الشهيد محمد باقر الصدر (إبن عمّه):

                        هو العالِم والمرجع الإسلامي الكبير الذي قاد الثورة الإسلامية في العراق واستشهد تحت التعذيب والإجرام الصدّامي ومعه أخته المجاهدة الكاتبة اللامعة بنت الهدى، وذلك بسبب مواقفهما الصلبة في مواجهة الحكومة البعثية في العراق ونصرته للثورة الإسلامية في إيران وقائدها الإمام الخميني (رض)..

                        و. السيد حسين الطباطبائي القمّي (جدّه لأمّه):

                        وُلد آية الله السيد حسين الطباطبائي سنة 1282 هـ في عائلة دينية من الدرجة الأولى، وتولّى المرجعية العامة للشيعة بعد وفاة السيد أبو الحسن الأصفهاني.

                        وكان اسم السيد حسين الطباطبائي يترادف مع مفاهيم التضحية ومواجهة الظالمين، وكان عالِماً مقداماً رفَع راية الجهاد في زمن حُبست فيه الأنفاس وبلغ ظلم رضا خان أوجه، فتصدّى السيد لمؤامرة نزع الحجاب وغيرها من مفاسد الحكّام، وجسّد العنفوان الحسيني بين صفوف الشعب في إيران، وقاد تحركاً تاريخياً نادراً ضد الغزو الثقافي الغربي الذي تعهّده رضا خان، وانطلق السيد في ذلك نتيجة إحساسه بتكليفه الشرعي، فتحرّك سريعاً، وقال للمترددين الذين اشتبه عليهم الأمر: "أعتقد بجواز التصدّي لمؤامرة نزع الحجاب ولو أدّت الى قتل عشرة آلاف إنسان وأنا واحد منهم".

                        ز. السيدة صفية (والدته):

                        تزوّج السيد صدر الدين الكريمة المؤمنة الطاهرة للسيد حسين الطباطبائي القمّي، وهي السيّدة "صفيّة"، وكانت بمثابة شمعة تحمّلت مع زوجها كافة معاناة المرحلة الدراسيّة، وكانت زوجة مضحّية وأمّاً رؤوفة ومربّية صالحة، واشتهرت بين معارفها بـ"صفيّة الصالحة"، وقد نالت احترام وتقدير كافة علماء الحوزة الكبار الذين .عرفوا فيها الوقار والعظمة

                        نشأة وعلوم وأساتذة السيد القائد:

                        أ. ولادة موسى:

                        عاشت المدن الإيرانية وشعبها المعذَّب تحت وطأة وظلم السلالة المتفرعنة التي سعت بكل قدراتها لإبعاد إيران عن تعاليم السماء ونداءات الفطرة الإنسانية، ومع ذلك فقد ثبت هذا الشعب وانتظر تلاميذ موسى الذين ما زالوا في بطون أمهاتهم.

                        خلال تلك الظروف، وُلد السيّد الكريم في أحد أحياء قم (في محلّة جهار مردان) في زقاق "عشّاق علي" عليه السلام (عشقعلي) في أحد البيوت الصالحة، فانتشر خبر ولادة سليل الأنبياء (ع) وسط أجواء من البهجة والسرور، وكانت عقارب الزمان تشير إلى الرابع من حزيران من العام 1928 م.

                        تعليق


                        • #13
                          الأمام المغيّب ُ موسى الصدر


                          إخفاء سماحةالإمام القائد السيد موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والأستاذ عباس بدر الدين أثناء زيارة رسمية في ليبيا في رمضان المبارك 1398هـ الموافق آب 1978 م على يد أكبر طاغية في عهده ، يزيد عصرنا هذا ، حاكم الصحراء قذافي ليبيا



                          بسم الله الرحمن الرحيم



                          "واذ يمكر بك الذين كفروا ... ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين "

                          [الانفال،30]



                          صدق الله العظيم



                          لكلمته الصولة



                          قديما قيل: للباطل جولة وللحق صولة، وما كان للباطل أن تقر جولاته، وليس أمام الحق إلا أن يصمد ليحقق صولاته، وهذا شأن قضايا الحرية مع أعدائها على مدى التاريخ، فلا هم أدركوا أن الحرية ليست أشخاصاً وأفراداً تنتهي بإبعادهم عن الساح، ولا هي تملك ألا تكون، لأنها ليست هي صانعة نفسها. وإن كانت الأجرام نتيجة تفجرات كونية انبثقت عنها كواكب أخذ كل كوكب دوره في حركة الكون، فقضايا الحرية تفجرات طموح الإنسان ليحقق ذاته في مدى التطلع.

                          أعداء الحرية يجولون، يغيِّبون، يغتالون، يحجزون، يخطفون، يرهبون، يعرقلون، يؤخرون، يعطلون، ثم ماذا؟ هل توقف قضية عادلة عن التحقق، وإن طال المدى؟ وقديماً قيل: لا بد من صنعا وإن طال السفر.

                          ربما كان الظن أن القضايا التي طرحها هي قضاياه الشخصية فغيّبوه، ولكن بعضاً من القضايا تحقق، وبعضاً ما زال بين الجولة والصولة، وليس هذا فحسب، فحيث تدجنت قيادات، تصدت الحجارة للقيادة، وإذ صار هو إحدى قضايا الحرية، فكلمته سيكون لها الصولة.

                          ولا بد من صنعا وإن طال السفر.



                          بسم الله الرحمن الرحيم



                          أسباب وظروف زيارة سماحة الإمام إلى ليبيا:

                          تجاه اشتداد المحنة اللبنانية، وتعاظم الأخطار التي تهدد جنوبي لبنان بفعل العدو الإسرائيلي وممارساته اثر الاجتياح في 14/3/1978 والتي حالت دون تمكين الدولة اللبنانية من إخضاع هذه المنطقة لسلطتها لرفض إسرائيل الانسحاب من المنطقة الحدودية وتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي 425 وذلك من أجل خلق وضع يخدم مخططاتها،

                          وجد سماحة الإمام السيد موسى الصدر، قياماً منه بمهام مسؤولياته، أن الواجب يدعوه لعرض تطورات الوضع العام في لبنان وحقيقة المخاطر التي تهدد جنوبه، على رؤساء الدول العربية ذات الاهتمام والتأثير المباشر في معالجة هذه الأوضاع.

                          وفي هذا الإطار، قام سماحة الإمام بجولة شملت كلاّ من الجمهورية العربية السورية والمملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العربية السعودية والجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، داعياً لعقد مؤتمر قمة عربي محدود سعياً لإنهاء محنة لبنان وإنقاذ جنوبه، وهو ما أعلنه الإمام الصدر بنفسه في حديثه لصحيفة "أخبار الخليج" البحرينية والذي نقلت خلاصته صحيفة "النهار" في 24/7/1978.

                          في الجزائر، أجرى سماحته محادثات مع سيادة الرئيس هواري بومدين ومع السيد محمد صلاح يحياوي ومع مسؤولين آخرين في جبهة التحرير الوطني الجزائرية. وفي إحدى جلسات هذه المحادثات، أُشير على سماحته بزيارة الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية لما لقادتها من تأثير على مجريات الوضع العسكري والسياسي على الساحة اللبنانية إكمالا ًلجولته وخدمة لأهدافها القومية والوطنية. وأبدى سماحته أن زيارته الوحيدة لليبيا تمت عام 1975 وذلك للمشاركة بمؤتمر إسلامي عام وأنه سيلبي دعوة توجه إليه من سلطاتها للقيام بهذه الزيارة والاجتماع برئيسها وقادتها.

                          بتاريخ 28/7/78 استقبل سماحته في مكتبه القائم بأعمال السفارة الليبية في لبنان الذي أبلغه دعوة من مؤتمر الشعب العام في الجماهيرية العربية الليبية، لزيارة الجماهيرية والاجتماع بسيادة الأمين العام للمؤتمر، العقيد معمر القذافي متمنياً بدء الزيارة في 19 أو 21 آب 1978.

                          قَبِل سماحة الإمام هذه الدعوة، وتريث في تحديد موعد بدء الزيارة.

                          بتاريخ 20/8/1978 أبلغ سماحته القائم بالأعمال الليبي رغبته في أن تبدأ الزيارة بتاريخ 25/8/1978 واضطراره إلى أن يغادر الجماهيرية قبل 1/9/1978 من أجل الاهتمام بزوجته المريضة التي تُعالج في فرنسا والعودة إلى لبنان لمتابعة شؤون ملحة. كما أبلغه أسماء أعضاء الوفد المرافق لسماحته.

                          قدمت سفارة الجماهيرية العربية الليبية في لبنان لسماحته، تذاكر سفره مع عضوي الوفد المرافقين الشيخ محمد يعقوب والسيد عباس بدرالدين. وقد تم حجز مقاعد لحساب السفارة بالدرجة الأولى في الطائرة بموجب كتابها إلى شركة طيران الشرق الأوسط رقم 4/3/430 تاريخ 24/8/1978.

                          يوم الجمعة بتاريخ 22 رمضان 1398 هـ الموافق 25 آب 1978، سافر سماحة الإمام السيد موسى الصدر يرافقه فضيلة الشيخ محمد يعقوب والصحفي الأستاذ عباس بدر الدين (صاحب وكالة أخبار لبنان) إلى الجماهيرية الليبية، وكان في عداد مودعيه في مطار بيروت القائم بالأعمال الليبي السيد محمود بن كورة. ولدى وصوله مطار طرابلس الغرب استقبله عن السلطات الليبية رئيس مكتب الاتصال الخارجي في مؤتمر الشعب العام السيد أحمد الشحاتي.

                          أقام سماحة الإمام الصدر ومرافقاه في فندق الشاطئ بطرابلس الغرب، ضيوفاً على سلطات الجماهيرية الليبية.

                          أغفلت وسائل إعلام الجماهيرية الليبية أية إشارة إلى قدوم زائرها الرسمي سماحة الإمام الصدر، كما أغفلت أي خبر عنه خلال إقامته بضيافتها، لدرجة أن القائم بالأعمال اللبناني في طرابلس الغرب الأستاذ نزار فرحات لم يعلم بوجوده في هذه المدينة إلا عندما اتصل به الأستاذ عباس بدر الدين بتاريخ 28 آب 1978 م، وذلك وفقاً لمضمون التقرير الرسمي المحفوظ في وزارة الخارجية اللبنانية.

                          انقطاع أخبار الإمام وبدء التحرك الرسمي:

                          ومنذ وصول سماحة الإمام الصدر إلى ليبيا، وطيلة الأيام اللاحقة، لم يرد منه أي اتصال هاتفي أو رسالة أو خبر لأي كان في لبنان(1)، وذلك خلاف عادته في أسفاره. وكذلك حال مرافقيه، علماً بأن أحدهما الأستاذ بدر الدين صَحب الإمام الصدر في هذه الزيارة من أجل تغطية أخبارها في وكالته، وهذا الأمر لم يتحقق.

                          بعد أن تأخرت عودة الإمام الصدر ومرافقيه من ليبيا، واستمر الاتصال بهم منقطعاً، طلب المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى من القائم بالأعمال الليبي في لبنان بتاريخ 4 شوال 1398هـ الموافق 6 أيلول 1978 معلومات في الموضوع، فماطل في إجابة الطلب أربعة أيام عرض بعدها المجلس الموضوع على رئيس الحكومة اللبنانية الدكتور سليم الحص الذي استدعى على الفور القائم بالأعمال الليبي بتاريخ10 أيلول 1978م وأكد له الطلب رسمياً وبصورة مستعجلة. فأجابه ظهر اليوم التالي "أن الإمام الصدر ومرافقيه غادروا ليبيا مساء يوم 28 رمضان 1398 هـ الموافق 31 آب 1978م إلى روما على متن طائرة الخطوط الجوية الإيطالية ( الرحلة رقم 881)."

                          نظراً لما أثاره هذا الجواب من قلق، حاول رئيس الجمهورية اللبنانية الأستاذ الياس سركيس بتاريخ 12 أيلول 1978م الاتصال هاتفياً بالقذافي، لاستيضاحه في الموضوع وإبلاغه أن ضيوفه لم يصلوا إلى وطنهم ولم يظهروا خارج ليبيا، إلا أن هذه المحاولة لم تنجح بالرغم من تكرارها مراراً في اليوم ذاته، فالمتكلم الليبي على خط الهاتف المطلوب في طرابلس الغرب كان يجيب أن القذافي غير موجود على هذا الخط وكان يعطي رقماً آخر وكان هذا الرقم يطلب دون جدوى...

                          أما رئيس الحكومة اللبنانية فقد تمكن من الاتصال هاتفياً في اليوم ذاته برئيس الحكومة الليبية الرائد عبد السلام جلود الذي استمهل في بادئ الأمر للإجابة، ثم أجاب في مخابرة لاحقة مكرراً الجواب الذي قدّمه القائم بالأعمال الليبي، ومضيفاً "إن الإمام لم يكن راضياً وغادر ليبيا دون إعلام الجهات الرسمية بموعد سفره ليجري وداعه رسمياً. وأن أحد الموظفين السيد أحمد الحطاب شاهد سماحة الإمام صدفة أثناء وجوده في مطار طرابلس الغرب فودّعه".



                          لدى استقصاء أخبار سماحة الإمام، بسؤال العائدين من ليبيا (منهم السادة بشارة مرهج، اسعد المقدم، طلال سلمان، منح الصلح، محمد قباني، بلال الحسن، محمد سلمان إضافة إلى نزار فرحات القائم بالأعمال اللبناني في ليبيا) بعد حضورهم احتفال"الفاتح من سبتمبر"، تبين:

                          * أنه كان في استقبال سماحته عند وصوله إلى مطار طرابلس الغرب السيد أحمد الشحاتي رئيس مكتب الاتصال الخارجي في الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام.

                          * أن سماحته مع مرافقيه حلّوا ضيوفاً على الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام ونزلوا في فندق الشاطئ بطرابلس الغرب.

                          * أن السيد أحمد الشحاتي أجرى مباحثات مع سماحته بتاريخ 26و27 آب 1978، وفي إحدى جلسات هذه المباحثات أجرى التلفزيون الليبي تصويراً وسجل حديثاً لسماحته، لكن هذا التسجيل لم يبث.

                          * أنه سُجل حديث طويل لسماحته عن الشؤون اللبنانية والعربية الراهنة، من أجل بثه في إذاعة الوطن العربي في الجماهيرية، إلا أن إذاعة هذا الحديث منعت.

                          * أنه منذ وصول سماحته إلى طرابلس الغرب بتاريخ 25/8/1978 كان ينتظر إبلاغه موعد اجتماعه بالقذافي، وكان قد أبلغ عن اضطراره للسفر إلى باريس قبل 1/9/1978.

                          * إن مرافقي سماحة الإمام كانا ينويان السفر إلى باريس. ولذا طلب أحدهما السيد عباس بدرالدين من القائم بالأعمال اللبناني في ليبيا بتاريخ 29/8/1978 تأمين تأشيرة له لدخول فرنسا. أما سماحته والشيخ محمد يعقوب فكانا حائزين تأشيرتين صالحتين من السفارة الفرنسية في بيروت.

                          * ان سماحته ومرافقيه شوهدوا معا يخرجون من فندق الشاطئ حوالي الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم 31/8/1978 ليستقلوا السيارات الموضوعة بتصرفهم، من أجل الانتقال للاجتماع بالقذافي الذي أكد فيما بعد أنه كان حدد موعداً لهذا الاجتماع في الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر اليوم نفسه، وأن الاجتماع لم يتم وأن سيادته أُبلغ أن سماحته سافر.



                          انتشر خبر اختفاء الإمام الصدر وأبرزته الصحف اللبنانية في صفحاتها الأولى بتاريخ 12 أيلول 1978م، وتناقلته الإذاعات ووسائل الإعلام العالمية، ولوحظ أنه في هذا التاريخ أوردت إحدى الصحف اللبنانية الوثيقة الصلة بالسلطات الليبية الخبر تحت عنوان "هل لأحداث إيران علاقة بهذا اللغز" وأدرجت هذه الصحيفة في متن الخبر أسباباً تعلل بها التوجه نحو إمكانية علاقة القضية بأحداث إيران. كما لوحظ أن وكالة الأنباء الكويتية أوردت في نشرتها بالتاريخ ذاته أن الإمام الصدر موجود منذ بضعة أيام في إيران، ونسبت هذا الخبر إلى مصادر رسمية ليبية، وتبين أن مصدر هذا الخبر هو مدير مكتب وكالة الجماهيرية الليبية للأنباء في بيروت.



                          ملاحظات حول البيان الليبي الرسمي:

                          تفاعلت القضية على الصعيد الشعبي في لبنان، وعلى الأصعدة الرسمية محلياً وفي الخارج، لبنانياً وعربياً وإسلامياً، طوال الأيام اللاحقة، وتعددت الاتصالات من مراجع عدة بالقذافي، وبقيت السلطات الليبية ساكته لا تولي القضية أي اهتمام، إلى أن اضطرت تحت ضغط المراجعات والرأي العام العالمي وبعد تحرك بعثة التحقيق اللبنانية(راجع ص : 29) وأجهزة التحقيق الإيطالية إلى إصدار بيان رسمي نشر بتاريخ 18 أيلول 1978م (راجع نص البيان ص :40)، تزعم فيه "أن الجماهيرية تولي الأمر اهتماماً كبيراً" و "أن الجماهيرية تلقي بكامل ثقلها مع القوى الإسلامية والتقدمية لمعرفة مصير الإمام موسى الصدر وإنقاذ حياته وحياة رفيقيه" (هذه الأقوال والتعهدات بقيت كلاماً دون أي تنفيذ).

                          وهذا البيان الليبي الرسمي، الذي أكد مجدداً أن الإمام الصدر ورفيقيه غادروا طرابلس الغرب في الساعة الثامنة والربع مساء 31 آب 1978 م متجهين إلى روما بطائرة "اليطاليا" (الرحلة 881)، تضمن مغالطات عدة، منها:

                          1- القول إن الإمام الصدر "زار الجماهيرية مرات عدة من قبل": هذا الكلام غير صحيح لأن الإمام الصدر لم يزر ليبيا من قبل سوى مرة وحيدة في أواخر شهر آب 1975 م للمشاركة في مؤتمر فكري إسلامي.

                          2- القول في مطلع البيان الرسمي إن الإمام الصدر "تربطه بالجماهيرية علاقات متينة مبعثها التقدير والاحترام"، وتكراره في ختام البيان بالقول "تؤكد أمانة الخارجية أن الإمام الصدر تربطه بالجماهيرية علاقات أخوية متينة وتكن له كل احترام وتقدير".

                          هذا القول عن العلاقات لا أساس له من الصحة، لأنه لم تقم بين الإمام وبين الجماهيرية الليبية أية علاقة، من أي نوع كان.

                          أما القول عن التقدير والاحترام، فتدحضه ممارسة عبد السلام جلود الذي أقام في لبنان أكثر من /45/ يوماً خلال شهري حزيران وتموز 1976، في ظروف القتال، عقد أثناءها اجتماعات ولقاءات مع مختلف القادة والزعماء ورؤساء الفعاليات والأحزاب والتنظيمات في لبنان، واستمع إلى وجهات نظر الجميع، من مختلف الفرقاء، دون أن يجتمع مع الإمام الصدر. وعندما التقيا صدفة في دمشق بتاريخ 12/7/76 وعد جلود الإمام بالاجتماع به في بيروت عند عودتهما إليها، وحصلت هذه العودة بتاريخ 14/7/76 واستمر جلود في بيروت مدة أسبوعين بعدها متابعاً اجتماعاته واتصالاته الواسعة دون أن ينفذ وعده.

                          3- أما الأقوال والوقائع الأخرى التي أوردها البيان الليبي الرسمي المنشور بتاريخ 18/9/78 م، فتدحضها التحقيقات القضائية التي ستعرض نتائجها لاحقاً.

                          تصريح القذافي لوفد العلماء:

                          بتاريخ 21/9/78م توجهت مسيرة شعبية كبرى، من بيروت إلى دمشق حيث كان يعقد "مؤتمر قمة الصمود والتصدي" لإثارة قضية الإمام الصدر في هذا المؤتمر.

                          وبطلب من القذافي، تمّ اجتماع خاص بينه وبين وفد من المسيرة تألف من العلماء أصحاب الفضيلة الشيخ عبد الأمير قبلان، الشيخ أحمد الزين، الشيخ عبد الحليم الزين والشيخ خليل شقير.



                          وفي هذا الاجتماع صرّح القذافي:

                          1- أنه كان حدّد موعداً للاجتماع بالإمام الصدر في الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر يوم 31/8/78 م، إلا أن الإمام لم يحضر وقيل للقذافي انه سافر. هذا القول يثير السؤالين الآتيين:

                          أ- لماذا لا يحضر الإمام الصدر هذا الاجتماع وهو الذي جاء إلى ليبيا من أجله، ومكث فيها أياماً ينتظر موعده الذي حدّد قبل ست ساعات وخمس وأربعين دقيقة من التوقيت المحدد في البيان الليبي لإقلاع الطائرة التي قيل أن الإمام سافر بواسطتها إلى روما، علماً بأن الطائرة أقلعت بعد ثلاثة أرباع الساعة من هذا التوقيت.

                          ب- أين كان الإمام الصدر في ليبيا خلال الفترة الواقعة بين موعد الاجتماع بالقذافي وبين الموعد الفعلي لإقلاع الطائرة، وهي فترة بلغت سبع ساعات ونصف.

                          ولماذا لم تجر السلطات الليبية تحقيقاً في هذا الأمر بعد انتشار نبأ الإخفاء؟

                          إلا أن المعلومات المتوافرة من مصادر عدة، تؤكد حصول الاجتماع ووقوع نقاش حاد خلاله وتباين شديد في وجهات النظر بمسألة محنة لبنان والدور الليبي.

                          وتأيد ذلك بشكل خاص في حديث الملك خالد والملك فهد بتاريخ 25/2/1979 للوفد الذي زار السعودية بموضوع الإمام وكان في عداده النائبان الأستاذان محمود عمار ومحمد يوسف بيضون.

                          وتوالت معلومات من مصادر دولية وخاصة ومنها أقوال صرح بها سراً وزير الخارجية الليبي السابق التريكي تفيد أن الإمام ورفيقيه احتجزوا بعد الاجتماع.

                          2- كما صرّح أن سفر الإمام الصدر ومرافقيه حصل دون إعلام السلطات الليبية. وأن أحد الموظفين الليبين السيد أحمد الحطاب تعرّف عليه في المطار فقام بتوديعه. هذا القول يثير أيضاً سؤالين:

                          أ - لماذا يغادر الإمام الصدر ليبيا وهو بضيافتها الرسمية، دون إعلام السلطة المضيفة؟

                          ب- كيف يتيسّر للإمام ومرافقيه مغادرة الفندق مع حقائبهم باتجاه المطار، قاصدين السفر، دون أن تتمكن السلطة الليبية من معرفة هذا الواقع في حينه وهي التي تعتمد نظاماً صارماً في المراقبة، لا سيما وأن الأمر يتعلق بضيف رسمي وبشخصية كبرى؟

                          3- وصرح أيضاً بأنه يعتبر قضية إخفاء الإمام الصدر إهانة عربية وإسلامية لليبيا نظراً لحرمة الضيف، ولذا فإنه يهتم بها ويضع كل إمكانياته لكشفها واتخذ إجراءات للتحقيق وأوفد بعثة إلى إيطاليا وأنه سيبلغ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بالنتائج.

                          برقية أمانة الخارجية الليبية:

                          هذا القول لم يقترن بأي عمل سوى كتاب وحيد أرسلته السفارة الليبية في بيروت بتاريخ 28/9/78م إلى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وفيه تورد نص برقية أمانة الخارجية الليبية المتضمنة أن المخابرات الإيطالية أكدت حضور الإمام الصدر والشيخ محمد يعقوب إلى فندق "هوليداي إن" في روما بتاريخ 1/9/78 م، وأن حقائبهما سُلمت إلى النيابة العامة الإيطالية، وأن "جميع وسائل الإعلام الإيطالية تُجمع على أن الدلائل تثبت وصوله ( أي الإمام الصدر) إلى روما، وأن اختفاءه قد يكون وراؤه أجهزة المخابرات المختلفة الإيرانية والإسرائيلية والأميركية وكذلك الكتائب الحمر والمنظمات الألمانية المتطرفة".



                          ملاحظات حول البرقية:

                          فضلاً عن الاستخفاف الظاهر في سرد هذه المعلومات ومضمونها، فإن هذه المعلومات الرسمية الليبية تتنافى مع المعلومات الصحيحة التي توصلت إليها آنذاك أجهزة التحقيق الإيطالي التي كانت استجوبت :

                          1) عناصر الشرطة والجمارك في مطار فيوميتشينو- روما بتاريخ 20/9/78 .

                          2) طاقم الطائرة الإيطالية للرحلة 881 التي غادرت طرابلس الغرب مساء 31/8/78م بتاريخ 24/9/78.

                          3) ركاب الدرجة الأولى في هذه الطائرة، بتاريخ 25/9/78.

                          4) مستخدمي وعمال فندق "هوليدي إن"بتاريخ 26/9/78.



                          والذين توافقت إفاداتهم جميعاً- بعد إطلاعهم على صورة وأوصاف كل من الإمام الصدر ورفيقيه- وكشفوا حقيقة أن الإمام الصدر ورفيقيه لم يكونوا في عداد ركاب الطائرة المذكورة ولا في عداد الواصلين إلى مطار فيوميشينو، وأن الشخصين اللذين حجزا غرفتين في الفندق المذكور باسم الإمام الصدر والشيخ محمد يعقوب وتركا فيه حقائبهما مع جوازي سفرهما، لم يكونا الإمام الصدر والشيخ محمد يعقوب المميزة أوصافهما. وهذه التحقيقات كانت أبلغت قبل 28/9/78 م إلى جميع المراجع القضائية والأمنية والحكومية المختصة في روما، بتقرير المفوض رئيس شرطة الحدود في مطار فيوميشينو تاريخ 25/9/78 م وتقرير رئيس شرطة روما تاريخ 27/9/78 م.



                          شركة الخطوط الإيطالية

                          حسمت شركة "اليطاليا" المسألة بالنسبة إليها، ببلاغ صدر عنها وبثه التلفزيون الإيطالي مساء يوم 25/9/78 متضمنا ًأن سماحة الإمام السيد موسى الصدر والشيخ محمد يعقوب والصحفي السيد عباس بدرالدين، لم يكونوا بذواتهم وأشخاصهم في طائرة الشركة المذكورة (الرحلة رقم 881) التي أقلعت مساء يوم 31/8/78 من مطار طرابلس الغرب إلى روما.

                          وبث التلفزيون الإيطالي، بعد هذا البلاغ مباشرة، مقابلة شخصية مع قائد الطائرة للرحلة المذكورة، أعلن فيها أنه بعد اطلاع طاقم الطائرة على صور سماحة الإمام والشيخ محمد يعقوب والسيد عباس بدرالدين، أكدوا جميعاً أن هؤلاء الأشخاص لم يكونوا على متن الطائرة في رحلتها هذه، لا بالملابس الدينية ولا بالملابس المدنية.



                          فندق "هوليداي ان"

                          أكد مدير هذا الفندق السيد سكرو كارو، في التحقيق المحلي وحسب المعلومات المتوافرة لدى البعثة الأمنية اللبنانية برئاسة الرائد نبيه فرحات، إن الشخصين اللذين دخلا الفندق في الساعة العاشرة من صباح يوم 1/9/78 وعرفا عن نفسيهما باسم موسى الصدر ومحمد شحاده، لم يكونا سماحة الإمام الصدر ومرافقه الشيخ محمد شحاده يعقوب، وذلك بعد اطلاعه واطلاع مستخدمي الاستقبال في الفندق على صورتيهما. وأعطى مدير الفندق أوصاف كل من الشخصين الذين دخلا الفندق، وهي لا تنطبق في شيء على أوصاف سماحة الإمام ومرافقه.

                          وأفاد المدير أنهما كانا حجزا غرفتين لمدة عشرة أيام، إلا أنهما لم يمكثا فيها أكثر من عشر دقائق خرجا بعدها بثياب مدنية ودون عودة، تاركين في غرفتيهما حقائب وجوازي سفر، عرف في التحقيق أنها تعود لسماحة الإمام والشيخ محمد يعقوب ووجدت حقيبة اليد خاصة سماحة الإمام مخلوعة، وهي تفتح بطريقة الأرقام.

                          وهذه الإفادة والمعلومات أوردت معظمها وكالة "رويتر" في روما بتاريخ 2و3/10/78 كما هو ثابت في نشرتها. كما أدلى بها مدير الفندق في مقابلة بثها التلفزيون الإيطالي بالتاريخ ذاته.

                          وثمة ملاحظة مهمة، وهي أن الشخص المنتحل اسم الشيخ محمد يعقوب، ملأ بخط يده البطاقة المخصصة لنزلاء الفندق، عنه وعن رفيقه المنتحل اسم سماحة الإمام، وهذا الخط ليس خط الشيخ محمد يعقوب، ثم أن هذا الشخص أورد في البطاقة اسم "شحاده" على أنه اسم العائلة، في حين أن هذا الاسم هو اسم (الأب) وليس اسم (العائلة)، وهذا الالتباس وقع لأن الاسم الكامل في جواز السفر الذي كان في حيازته ورد هكذا: محمد شحاده يعقوب.



                          التأشيرات على جوازي السفر

                          تبين أن جواز سفر كل من سماحة الإمام والشيخ محمد يعقوب، تضمن تأشيرتين أعطيتا بتاريخ 31/8/78 في طرابس الغرب من السفارة الإيطالية والسفارة الفرنسية. وفي هذا الشأن تبرز الملاحظات الآتية:

                          الملاحظة الأولى: إن جوازي السفر المذكورين يحملان تأشيرتين صادرتين عن سفارة فرنسا في بيروت، وصالحتين، فلم يكن من موجب للتأشيرتين الجديدتين. هذا ما أثار استغراب سفارة فرنسا في ليبيا عند طلب التأشيرتين، وهي استوضحت سفارة فرنسا في بيروت بهذا الشأن قبل إجابة الطلب، وأفادت في الاستيضاح أن الذي حضر طالباً التأشيرتين موظف في الخارجية الليبية حسب إفادته. ورداً على الاستيضاح أجابت السفارة في بيروت بتسهيل المعاملة كون صاحبها هو الإمام الصدر.

                          الملاحظة الثانية: إن سماحة الإمام والشيخ محمد يعقوب ليسا صاحبي الإرادة في الاستحصال على هاتين التأشيرتين اللتين لم يكن لهما لزوم بسبب حيازتهما تأشيرتين سابقتين صالحتين، وذلك يستنتج من كونهما لم يكلفا القائم بالأعمال اللبناني في ليبيا بهذه المهمة عندما كان بزيارتهما في الفندق قبل يومين فقط (أي بتاريخ 29/8/78) وتسلم بحضورهما من السيد عباس بدرالدين جواز سفره من أجل تأمين هذه التأشيرة له إلى فرنسا وهي لم تكن معطاة له في بيروت.

                          الملاحظة الثالثة: إن وجهة سفر سماحة الإمام بعد طرابلس الغرب، معروفة بتصريحات سماحته قبيل مغادرة بيروت وأثناء وجوده في ليبيا، وهذه الوجهة هي (فرنسا) حيث تُعالج زوجته ويقيم أولاده. ولذا لم يطلب تأشيرة سفر إلى إيطاليا قبيل مغادرته بيروت، كما لم يطلب بتاريخ 29/8/78 من القائم بالأعمال اللبناني تأمين هذه التأشيرة ولم يطلبها منه أيضاً السيد عباس بدرالدين عندما سلمه جواز سفره بالتاريخ المذكور لتأمين تأشيرة فرنسا. علما بأن السيد بدرالدين اعتبر مسافرا مع سماحة الإمام والشيخ محمد يعقوب بتاريخ 31/8/78 في ذات الطائرة إلى روما، وهو لو كان حقيقة ًيرغب في هذا السفر لكان طلب التأشيرة إلى ايطاليا وفي وقت طلبها إلى فرنسا.



                          السلطات الإيطالية

                          إن المسألة بالنسبة للسلطات الإيطالية، كما هو ثابت في معلومات البعثة الأمنية اللبنانية إلى روما ، هي أنه لا يوجد أي تأكيد بأن سماحة الإمام أو أياً من مرافقيه دخل الأراضي الإيطالية أو مر بالترانزيت في مطار روما. بل أن بعض نواحي المعلومات لدى وزارة الداخلية الإيطالية تؤكد أنه لم يصل أي واحد منهم إلى إيطاليا.

                          وفيما يخص السيد عباس بدرالدين، الذي وجد باسمه إجازة إقامة لمدة 84 ساعة ينزل خلالها في فندق "ساتلايت" بروما، ليتابع سفره إلى مالطا بتاريخ 1/9/78 على متن طائرة اليطاليا (الرحلة 490)، فإن تحقيقات الانتربول أثبتت أن هذا الراكب لم يعثر له على أثر في الفندق المذكور ولم يغادر إلى مالطا أو سواها (وجميع هذه المعلومات أوردتها أيضاً وكالات الصحافة العالمية، وبالأخص وكالة الصحافة الفرنسية في نشرتها بتاريخ 18/9/78 ووكالة "رويتر" في نشرتها بتاريخ 4/10/78).

                          أما الصحافة الإيطالية التي استأثرت هذه القضية باهتمامها، وتابعت أخبار التحقيق فيها، وأفردت لها تحقيقات صحفية ومقالات، فإنها أكدت هذه المعلومات، ونقتطف هنا مما نشرته صحيفة "المساجيرو" حديثاً تحت عنوان (هل اختطف حقاً الإمام موسى الصدر) وفيما يلي ترجمته حرفياً:

                          "المؤكد أن سماحة الإمام ومستشاره ليسا الشخصين اللذين ركبا الطائرة التي غادرت طرابلس. وبالتالي فإن الإمام لم إطلاقاً العاصمة الليبية، وان الشخصين اللذين ركبا الطائرة ونزلا في فندق (هوليداي ان) في روما ليسا إلا شخصين متنكرين أُرسلا للتضليل والإيحاء بعملية اختطاف لم تتم إطلاقا حتى في أي مكان آخر..."



                          تلازم كتاب السفارة الليبية مع رسالة منظمة إرهابية وهمية:

                          تلازم كتاب السفارة الليبية المذكور أعلاه والمؤرخ في 28/9/78م مع رسالة أودعت بذات التاريخ بريد المحطة المركزية للسكة الحديدية في روما موجهة إلى الصحيفة الايطالية "بايزي سييّرا" وموقعه بإسم "منظمة اللبنانيين العلمانيين من أجل لبنان موحد وعلماني" جاء فيها:

                          "إن المنظمة اختطفت الإمام الصدر في 31/8/78 فور وصوله إلى روما حيث كان سيلتقي ثلاثة ممثلين إيرانيين معارضين لنظام الشاه. وأن اختطافه تم بفضل عباس بدر الدين الذي ينتمي إلى المنظمة وهو الآن في أميركا الجنوبية". وأضافت الرسالة: "إن الشيخ محمد يعقوب قُتل، فيما هو يحاول الهرب من المكان الذي سجن فيه في روما، وسيعلن قريباً المكان الذي دُفن فيه. وأن الصدر موجود الآن في أمستردام، وأن اختطافه ليس إلا بداية تحطيم دعائم الرجعية التي دمرت لبنان وأن الإمام خائن وسيحاكم ويلاقي حكم الشعب". وأضافت: أن على المفاوضين من أجل إنقاذ الإمام أن يذهبوا إلى فندق ماريوت " في امستردام" وفندق "شيراتون" في بروكسل وفندق "هوليداي إن" في روما، في العاشر من شهر تشرين الأول في العاشرة قبل الظهر...".

                          هذا ولقد أثبت التحقيق الإيطالي وكذلك التحقيق اللبناني عدم حضور أي شخص إلى أي من الفنادق المذكورة في الموعد المحدد، كما أثبت التحقيق أن هذه المنظمة لا وجود لها، وأن الرسالة من نسيج خيال الجهة التي احتجزت الإمام الصدر، وذلك بغية التضليل وتشعب التحقيق. وأعلن رئيس شرطة الأجانب في "امستردام" أن زج اسم هذه المدينة في القضية ليس إلا مجرد عملية تضليل.

                          هذه النتيجة التي توصل إليها التحقيق بالنسبة إلى هذه الرسالة، تلتقي تماماً مع حقيقة كتاب السفارة الليبية المؤرخ في 28/9/78 م الذي قصد منه الإيهام بان وراء القضية منظمة إرهابية، ويظهر بجلاء أن الرسالة والكتاب المتوافقي التاريخ والمعنى هما من نسيج فكر واحد.



                          التصريحات اللاحقة الصادرة عن المسؤولين الليبين:

                          بتاريخ 25/4/79 م نشرت صحيفة "كيهان" الإيرانية ووزعت وكالة الصحافة الفرنسية ووكالة أنباء الجماهيرية الليبية تصريحاً للرائد عبد السلام جلود الموجود في إيران آنذاك، تضمن: "أن وثائق قدمت إلى الحكومة الليبية تظهر أن الإمام الصدر غادر الجماهيرية فعلاً إلى روما حيث نزل في أحد الفنادق"، وقال: "إن الحكومة الإيطالية أبلغتنا بأن الإمام الصدر قد وصل بالفعل إلى إيطاليا".

                          هذا التصريح دفع الحكومة الإيطالية إلى إصدار تكذيب علني له، بواسطة سفيرها في طهران وسفيرها في بيروت، أُبلغ خطياً ورسمياً إلى وزارتي خارجية إيران ولبنان وإلى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ونشرته الصحف الإيرانية واللبنانية بتاريخ 6/5/79 م.

                          وبعد هذا التكذيب سُئل في فاس (المغرب) أمين الخارجية الليبية الدكتور علي عبد السلام التريكي عن مكان وجود أو إخفاء الإمام الصدر، فأجاب: "اسألوا لبنان." لقد نشرت الصحف اللبنانية وقائع السؤال والجواب بتاريخ11/5/79 م.

                          هذا الجواب فيه تراجع واضح عن الموقف الليبي السابق باتهام إيطاليا، وكان محل تعليق وزير الخارجية اللبناني بقوله: "إنه تصريح غريب وعجيب". (الصحف اللبنانية،12/5/1979)

                          وأخيراً عندما سئل القذافي خلال مؤتمر صحفي عقده في الكويت عن مكان الإمام الصدر، أجاب" ... هو الآن بين إيطاليا وفرنسا (!!!) اختفت الحقيقة في هذه الساحة...".("السفير"، 3/7/1979)



                          التحقيق القضائي الإيطالي ونتائجه:

                          ما أن نشرت وكالات الأنباء العالمية خبر القضية حتى تحركت فوراً بتاريخ 13/9/78 النيابة العامة الإيطالية في روما وباشرت أجهزة الأمن والتحقيق المختلفة وظائفها لجلاء القضية. وجرت التحقيقات على أوسع نطاق، وبشكل دقيق ومفصل تناول أدق الجزئيات، وتتابعت باهتمام ملموس وبلا انقطاع ودون التوقف عند الحدود الإقليمية بحيث تيسّر لأجهزة الأمن الإيطالية كشف الحقيقة بشكل تام في مدى أسبوعين فقط. فتبين في ملف التحقيق:

                          1- أن طائرة اليطاليا (الرحلة 881) التي أقلعت من مطار طرابلس الغرب مساء 31/8/78 م، تأخرت عن موعد إقلاعها ساعتين.

                          2- أن بعض ركاب الطائرة أفادوا أن الركاب كانوا مجتمعين وانتظروا طويلاً في مطار طرابلس الغرب بانتظار دخول الطائرة، وأنهم لم يشاهدوا بينهم شخصاً بأوصاف الإمام الصدر كما لم يشاهدوا أي شخص بلباس ديني.

                          3- ضبطت إفادات كل المضيفات والمضيفين في الطائرة، وعددهم خمسة، كما ضبطت إفادات عدد من ركاب الدرجة الأولى في الطائرة، وجميعهم نفوا أن يكون دخل الطائرة شخص بصورة الإمام الصدر وأوصافه أو أي شخص بلباس ديني.

                          4- استجوب جميع عناصر شرطة الجوازات في مطار فيوميشينو ومراقب الجمارك المناوب أثناء وصول ركاب الطائرة إلى هذا المطار، وكلهم نفوا أن يكونوا شاهدوا بين هؤلاء الركاب شخصاً بلباس رجل دين أو أي شخص بصورة الإمام الصدر وأوصافه.

                          5- استجوب جميع مستخدمي الاستقبال ونقل الحقائب وخدم الغرف في فندق "هوليداي إن

                          تعليق

                          المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                          حفظ-تلقائي
                          x

                          رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                          صورة التسجيل تحديث الصورة

                          اقرأ في منتديات يا حسين

                          تقليص

                          لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                          يعمل...
                          X